عون المعبود
العظيم آبادي ج 5

[ 1 ]
عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظم آبادي مع شرح الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية محتوى الجزء الخامس : تتمة كتاب الزكاة - كتاب اللقطة - كتاب المناسك . دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
[ 2 ]
الطبعة الثانية ه‍ 1415 ه‍ . 1995 م جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الاولى 1410 ه‍ - 1990 م يطلب من : دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ص ب : 9424 / 11 تلكس : 41245 le naser هاتف : 366135 - 815573
[ 3 ]
زكاة الفطر أي صدقة فطر (وكان) أبو يزيد (شيخ صدق) بإضافة الشيخ إلى صدق (وكان ابن وهب يروي عنه) أي عن أبي يزيد إلى ههنا مقولة عبد الله بن عبد الرحمن وهذا توثيق منه لأبي يزيد (قال محمود) في روايته (الصدفي) بمهملتين مفتوحتين أي قال محمود في روايته سيار بن عبد الرحمن الصدفي ولم يقل الصدفى عبد الله بن عبد الرحمن (طهرة) أي تطهيرا لنفس من صام رمضان (من اللغو) وهو مالا ينعقد عليه القلب من القول (والرفث) قال ابن الأثير الرفث هنا هو الفحش من كلام (وطعمة) بضم الطاء وهو الطعام الذي يؤكل وفيه دليل على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة (من أداها قبل الصلاة) أي قبل صلاة العيد (فهي زكاة مقبولة) المراد بالزكاة صدقة الفطر (صدقة من الصدقات) يعني التي يتصدق بها في سائر الأوقات وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة الله تعالى والظاهر أن من أخرج الفطرة بعد صلاة كان كمن لم يخرجها باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر
[ 4 ]
يوم الفطر والحديث يرد عليهم وأما تأخيرها عن يوم العيد فقال ابن رسلان إنه حرام بالاتفاق لأنها زكاة فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج الصلاة عن وقتها قال المنذري وأخرجه ابن ماجه متى تؤدى (قبل خروج الناس إلى الصلاة) قال ابن التين أي قبل خروج الناس إلى صلاة العيد وبعد صلاة الفجر قال ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ولابن خزيمة من طريق كثيربن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآيفقال نزلت في زكاة الفطر وحمل الشافعي التقيد بقبل صلاة العيد على الاستحباب لصدق اليوم على جميع النهار وقد رواه أبو معشر عن نافع عن ابن عمر بلفظ كان يأمرنا أن نخرجها قبل أن نصلي فإذا انصرف قسمه بينهم وقال أغنوهم عن الطلب أخرجه سعيد بن منصور ولكن أبو معشر ضعيف وهم ابن العربي في عزو هذه الزيادة لمسلم وقد استدل بالحديث على كراهة تأخيرها عن الصلاة وحمله ابن حزم على التحريم (قبل ذلك) أي يوم الفطر (باليوم واليومين) فيه دليل على جواز تعجيل الفطرة قبل يوم الفطر وقد جوزه الشافعي من أول رمضان ومثله قال أبو حنيفة وقال أحمد لا تقدم على وقت وجوبها إلا كيوم أو يومين وقال مالك لا يجوز التعجيل مطلقا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وليس في حديثهم فعل ابن عمر 19 كم يؤدي في صدقة الفطر (وقرأه علي مالك أيضا) المعنى والله أعلم أن مالكا حدث عبد الله ابن مسلمة بهذا الحديث مرتين مرة قرأ عبد الله على مالك الإمام كما كان دأب مالك وتم حديثه على قوله إن
[ 5 ]
رسول الله فرض زكاة الفطر ومرة قرأ مالك على عبد الله بن مسلمة لكن زاد مالك في مرة أخرى على الرواية الأولى فلفظ مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين انتهى (فرض زكاة الفطر) فيه دليل على أن صدقة الفطر من الفرائض وقد نقل ابن المنذر وغيره اجماع على ذلك ولكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب قالوا إذ لا دليل قاطع تثبت به الفرضية قال الحافظ وفي نقل اجماع نظر لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الأصم قالا أن وجوبها نسخ واستدل لهما بما روى النسائي وغيره عن قيس بن سعد بن عبادة قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهانا ونحن نفعله قال وتعقب بأن في إسناده راويا مجهولا وعلى تقدير الصحة فلا دليل فيه على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول لأن نزول فرض الواجب سقوط فرض آخر وقد ثبت أن قوله تعا لى قد أفلح من تزكى نزلت في زكاة الفطر كما روى ذلك ابن خزيمة (زكاة الفطر) أضيفت الزكاة إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان كما في الفتح وقد استدل بقوله زكاة الفطر على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر لأنه وقت الفطر من رمضان وقيل وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد لأن الليل ليس محلا للصوم وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر والأول قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعي في القديم والرواية الثانية عن مالك (صاع من تمر أو صاع من شعير) الصاع خمسة أرطال وثلث رطل وهو قول أهل المدينة وأهل الحجاز كافة وهذا هو الصحيح من حيث الرواية وذهب العراقيون إلى أن الصاع ثمانية أرطال وهو غير صحيح وقد تقدم البحث مبسوطا في باب مقدار الماء الذي يجزئ به الغسل أو للتخيير (قال الطيبي) دل على أن النصاب ليس بشرط قال القاري أي للإطلاق وإلا فلا دلالة فيه نفيا وإثباتا فعند الشافعي تجب إذا فضل عن قوته وقوت عياله ليوم العيد وليلته قدر صدقة الفطر
[ 6 ]
أقول وهذا تقدير نصاب كما لا يخفى إلا أن الحنفية قيدوا هذا الإطلاق بأحاديث وردت تفيد التقييد بالغنى وصرفوه إلى المعنى الشرعي والعرفي وهو من يملك نصابا منها قوله عليه الصلاة والسلام لا صدقة إلا عن ظهر غنى رواه الإمام أحمد في مسنده انتهى (على كل حر أو عبد) ظاهره وجوبها على العبد وإن كان سيده يتحملها عنه قال الخطابي ظاهره إلزام العبد نفسه إلا أنه لا ملك له فيلزم السيد إخراجه عنه وقال داود لازم للعبد وعلى السيد أن يمكنه من الكسب حتى يكسب فيؤديه (من المسلمين) وفيه دليل على أنه يزكي عن عبيده المسلمين كانوا للتجارة أو الخدمة لأن عموم اللفظ شملهم كلهم وفيه وجوبها على الصغير منهم والكبير والحاضر والغائب وكذلك الآبق منهم والمرهون والمغصوب وفي كل من أضيف إلى ملكه وفيه دليل على أنه لا يزكى عن عبيده الكفار لقوله من المسلمين فقيده بشرط الإسلام فدل على أن عبده الذمي لا يلزمه وهو قول مالك والشافعي وأحمد وابن حنبل وروى ذلك عن الحسن البصري وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يؤدي عبده الذمي وهو قول عطاء والنخعي وفيه دليل على أن إخراج أقل من صاع لا يجزئ وذلك أنه ذكر في هذا الخبر التمر والشعير وهما قوت أهل ذلك الزمان في ذلك المكان فقياس ما يقتاتونه من البر وغيره من أقوات أنه لا يجزئ منه أقل من صاع وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق لا يجزيه من البر أقل من صاع وروي عن الحسن وجابر بن زيد وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري يجزيه من الزبيب نصف صاع كالقمح وروى عن جماعة من الصحابة إخراج نصف صاع البر كذا في معالم السنن للخطابي وقال المنذري أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (بمعنى) حديث (مالك) ولفظ البخاري من طريق عمر بن نافع عن أبيه نافع عن ابن عمر قال فرض رسول الله زكاة الفطر صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل الصلاة انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري
[ 7 ]
والنسائي (رواه عبد الله) المكبر (العمري) أبو عبد الرحمن وفيه ضعف وحديثه عند الدارقطني بلفظ فرض رسول الله صدقة الفطر على كل مسلم حر أو عبد ذكر أو أنثى صاعا من تمر أو صاعا من شعير (رواه سعيد) بن عبد الرحمن (الجمحي) بضم الجيم وفتح الميم المخففة منسوب إلى جمح بن عمر (عن عبيدالله) المصغر وحديثه عند الحاكم في المستدرك بلفظ أن رسول الله فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من بر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين وصححه ورواه الدارقطني في سننه من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيدالله عن نافع وفي بعض نسخ الدارقطني عن عبد الله عن نافع والصحيح هو الأول أي المصغر والله أعلم (والمشهور عن عبيدالله) المصغر (ليس فيه) في حديث زكاة الفطر لفظ (من المسلمين) أخرج مسلم من طريق عبد الله بن نمير وأبي أسامة كلاهما عن عبيدالله المصغر عن نافع عن ابن عمر قال فرض رسول الله زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل عبد أو حر صغير أو كبير والمعنى أن سعيدا الجمحي روى عن عبيدالله فذكر في حديثه لفظ المسلمين وأما غير سعيد مثل رواة عبيدالله مثل عبد الله بن نمير وأبي أسامة كما عند مسلم ويحيى ابن سعيد وبشر بن المفضل وأبان كما سيجئ عند المؤلف فلم يذكر واحد منهم عن عبيدالله لفظ المسلمين (صاعا من شعير أو تمر) انتصب صاعا على التميز أو أنه مفعول ثان (على الصغير والكبير) وجوب فطرة الصغير في ماله والمخاطب بإخراجها وليه إن كان للصغير مال ولا وجبت على من تلزمه نفقته وإلى هذا ذهب الجمهور وقال محمد بن الحسن هي على الأب مطلقا فإن لم يكن له أب فلا شئ عليه وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري لا تجب إلا على من صام ونقل ابن المنذر اجماع على أنها لا تجب على الجنين وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه كذا في الفتح
[ 8 ]
(زاد موسى) بن إسماعيل في روايته (والذكر والأنثى) ولم يذكر هذه اللفظة مسدد وقد ذكرها أيضا عمر بن نافع عن أبيه عن نافع عن ابن عمر كما تقدم من رواية يحيى بن محمد بن السكن قال الحافظ ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا وبه قال الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق تجب على زوجها تبعا للنفقة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم (قال فيه أيوب) السختياني (وعبد الله يعني العمري في حديثهما) أي كما زاد عمر بن نافع عن أبيه نافع جملة الذكر والأنثى كذا زادها أيوب وعبد الله العمري أيضا ورواية أيوب عند الشيخين ورواية عبد الله العمري عند الدارقطني في سننه واعلم أنه قال الترمذي وأبو قلابة الرقاشي ومحمد بن وضاح وتبعهم ابن الصلاح ومن تبعه إن مالكا تفرد بقوله من المسلمين دون أصحاب نافع وتعقب ذلك ابن عبد البر فقال كل الرواة عن مالك قالوا فيه من المسلمين إلا قتيبة بن سعيد وحده فلم يقلها قال وأخطأ من ظن أن مالكا تفرد بها فقد تابعه عليها جماعة عن نافع منهم عمر بن نافع عند البخاري وكثير بن فرقد عند الطحاوي والدارقطني والحاكم وعبيدالله بن عمر أي عند الدارقطني والحاكم ويونس بن يزيد عند الطحاوي في مشكل الآثار وأيوب السختياني عند الشيخين والدارقطني وابن خزيمة زاد الحافظ ابن حجر على اختلاف عنه وعلى عبيدالله في زيادتهما والضحاك بن عثمان عند مسلم والمعلى بن إسماعيل عند ابن حبان وابن أبي ليلى عند الدارقطني وابن الجارود قال الحافظ وذكر شيخنا ابن الملقن أن البيهقي أخرجه من طريق أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة ثلاثتهم عن نافع بالزيادة وقد تتبعت تصانيف البيهقي فلم أجد فيها هذه الزيادة من رواية أحد من هؤلاء الثلاثة انتهى قال الشيخ ابن دقيق العيد وقد اشتهرت هذه اللفظة أعني قوله من المسلمين من رواية مالك حتى قيل إنه تفرد بها قال أبو قلابة عبد الملك بن محمد ليس أحد يقول فيه من المسلمين غير مالك وقال الترمذي بعد تخريجه له زاد فيه مالك من المسلمين وقد رواه غير واحد عن نافع فلم يقولوا فيه من المسلمين انتهى قال فمنهم الليث بن سعد وحديثه عند مسلم وعبيدالله بن عمر وحديثه أيضا عند مسلم وأيوب السختياني وحديثه عند البخاري ومسلم كلهم يرووه عن نافع عن ابن عمر فلم يقولوا فيه من المسلمين قال وتبعها على هذه
[ 9 ]
المقالة جماعة وليس بصحيح فقد تابع مالكا على هذه اللفظة من الثقات سبعة عمر بن نافع والضحاك بن عثمان والمعلى بن إسماعيل وعبيدالله بن عمر وكثير بن فرقد وعبد الله بن عمر العمري ويونس بن يزيد انتهى هذا كله من غاية المقصود (أو سلت) بضم السين المهملة وسكون اللام نوع من الشعير يشبه البر قاله السندي وفي نيل الأوطار نوع من الشعير وهو كالحنطة في ملاسته وكالشعير في برودته وطبعه انتهى وفي الصراع جو برهنه يعني بي بوست (من تلك الأشياء) أي عوضا من تلك الأشياء قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده عبد العزيز بن داود وهو ضعيف انتهى والحديث أعله ابن الجوزي بعبد العزيز وقال قال ابن حبان كان يحدث عن التوهم فسقط الاحتجاج به وفي حديث أبي سعيد أنه إنما عدل القيمة في الصاع معاوية فأما عمر فإنه كان أشد اتباعا للأثر من أن يفعل ذلك انتهى قال صاحب التنقيح وعبد العزيز هذا وإن كان ابن حبان تكلم فيه فقد وثقه يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وغيرهم فالموثقون بعد له أعرف من المضعفين وقد أخرج له البخاري استشهادا انتهى (فعدل الناس) أي معاوية رضي الله عنه ومن معه (من بر) فجعل في كل شئ سوى الحنطة صاعا وفي الحنطة نصف صاع ومثله عن طاووس وابن المسيب وابن الزبير وسعيد بن جبير وأخرج الطحاوي عن جماعة كثيرة ثم قال فهذا كل ما روينا في هذا الباب عن رسول الله وعن أصحابه وعن تابعيهم كلها على أن صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع وما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله ولا من التابعين روى عنه خلاف ذلك فلا ينبغي لأحد أن يخالف ذلك إذ قد صار إجماعا في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي انتهى مختصرا قال ابن المنذر لا نعلم في القمح خبرا ثابتا عن النبي يعتمد عليه ولم يكن البر
[ 10 ]
بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشئ اليسير فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من الشعير وهم الأئمة فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد قال الحافظ صحيحة أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح انتهى قال الحافظ وهذا مصير من ابن المنذر إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك وكذلك ابن عمر فلا إجماع في المسألة خلافا للطحاوي والكلام في هذه المسألة في فتح الباري وغيره وذهب أبو سعيد وأبو العالية وأبو الشعثاء والحسن البصري وجابر بن زيد والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق إلى أن البر والزبيب كذلك يجب من كل واحد منهما صاع (فأعوز أهل المدينة) بالمهملة والزاي أي احتاج يقال أعوزني الشئ إذا احتجت إليه فلم أقدر عليه وفيه دلالة على أن التمر أفضل ما يخرج في صدقة الفطر وقد روى جعفر الفريابي من طريق أبي مجلز قال قلت لابن عمر قد أوسع الله والبر أفضل من التمر أفلا تعطي البر قال لا أعطي إلا كما كان يعطي أصحابي ويستنبط من ذلك أنهم كانوا يخرجون من أعلى الأصناف التي يقتات بها لأن التمر أعلى من غيره مما ذكر في حديث أبي سعيد وإن كان ابن عمر فهم منه خصوصية التمر بذلك كذا في فتح الباري قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (صاعا من طعام أو صاعا من أقط) قال الحافظ هذا يقتضي المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده وقد حكى الخطابي أن المراد بالطعام ههنا الحنطة وأنه اسم خاص له قال ويدل على ذلك ذكر الشعير وغيره من الأقوات والحنطة أعلاها فلولا أنه أرادهما بذلك لكان ذكرها عند التفصيل كغيرها من الأقوات ولا سيما حيث عطفت عليها بحرف أو الفاصلة وقال هو وغيره وقد كانت لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب إلى سوق الطعام فهو منه سوق القمح وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه لأنه لما
[ 11 ]
غلب استعمال اللفظ فيه كان خطوره عند اطلاق أقرب انتهى وقد رد ذلك ابن المنذر وقال ظن أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد صاعا من طعام حجة لمن قال صاعا من طعام حنطة وهذا غلط منه وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره ثم أورد طريق حفص بن ميسرة عند البخاري وغيره أن أبا سعيد قال كنا نخرج في عهد رسول الله يوم الفطر صاعا من طعام قال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر وهي ظاهرة فيما قال وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى وأخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحهما أن أبا سعيد قال ما ذكروا عنده صدقة رمضان لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صاع تمر أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط فقال له رجل من القوم أو مدين من قمح فقال لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها قال ابن خزيمة ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد هذا غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم (أن مدين) المد ربع الصاع (من سمراء الشام) بفتح السين المهملة وإسكان الميم وبالمد هي القمح الشامي قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه مطولا ومختصرا (رواه ابن علية) هو إسماعيل بن إبراهيم وعلية هي أم إسماعيل (وعبدة) بن سليمان الكلابي (وغيرهما) كأحمد بن خالد الوهبي وروايته عند الطحاوي (عن أبي سعيد بمعناه) ووصله المؤلف إلى ابن علية فيما يأتي بعد ذلك وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق أحمد بن حنبل عن ابن علية عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض بن عبد الله قال قال أبو سعيد وذكر عنده صدقة الفطر فقال لا أخرج إلا ما كنت أخرجه في عهد رسول الله صاعا من تمر أو صاعا من شعير فقال له رجل من القوم أو مدين من قمح فقال لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها وصححه (وذكر رجل واحد) وهو يعقوب الدورقي وروايته عند الدارقطني (فيه) في هذا الحديث (أو صاع من حنطة) ولفظ الدارقطني حدثنا الحسين بن إسماعيل وعبد الملك قالا أخبرنا يعقوب الدورقي حدثنا ابن علية عن محمد ابن إسحاق حدثني عبد الله بن
[ 12 ]
عبد الله عن عياض بن عبد الله قال قال أبو سعيد وذكروا عنده صدقة رمضان فقال لا أخرج إلا ما كنت أخرج على عهد رسول الله صاعا من تمر أو صاعا من حنطة أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط فقال له رجل من القوم أو مدين من قمح قال لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها (وليس بمحفوظ) قال الشيخ تقي الدين قال ابن خزيمة وذكر الحنطة في هذا ا لخبر غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم وقول الرجل أو مدين دال على أن ذكر الحنطة في أول الخبر خطأ ووهم إذ لو كان صحيحا لم يكن لقوله أو مدين من قمح معنى انتهى (أخبرنا إسماعيل) هو ابن علية المذكور (ليس فيه ذكر الحنطة) واعلم أن المؤلف أورد قبل ذلك رواية ابن علية معلقا ثم أورد ههنا متصلا بذكر مسدد عن إسماعيل ابن علية (قد ذكر معاوية بن هشام) الأزدي الكوفي هو شيخ شيخ أبي داود ولم يدركه أبو داود روى معاوية عن سفيان الثوري وغيره وروى عنه أحمد وإسحاق (أو ممن رواه عنه) عن معاوية والمحفوظ من رواية الثوري ما رواه الطحاوي حدثنا علي بن شبية حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال كنا نعطي زكاة الفطر من رمضان صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط (أخبرنا يحيى) أي ابن سعيد القطان وكلاهما أي سفيان بن عيينة ويحيى القطان يروي عن ابن عجلان (أو أقط) بفتح الهمزة وكسر القاف وهو لبن يابس غير منزوع الزبد وقال الأزهري يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يتصل وقد اختلف في إجزائه على قولين أحدهما أنه لا يجزئ لأنه غير مقتات به قال أبو حنيفة إلا أنه أجاز إخراجه بدلا عن القيمة على قاعدته والقول الثاني أنه يجزئ وبه قال مالك وأحمد وهو الراجح لهذا الحديث ولما أخرجه مسلم في الصحيح من غير معارض وروى عن أحمد أنه يجزئ مع عدم وجدان غيره وزعم الماوردي أنه يجزئ عن أهل البادية دون أهل الحاضرة فلا يجزئ عنهم بلا خلاف وتعقبه النووي فقال قطع الجمهور بأن
[ 13 ]
الخلاف في الجميع (هذا حديث يحيى) القطان (زاد سفيان) ابن عيينة في روايته (أو صاعا من دقيق) وأخرج الدارقطني من طريق العباس بن يزيد حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا ابن عجلان عن عياض بن عبد الله أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول ما أخرجنا على عهد رسول الله إلا صاعا من دقيق أو صاعا من تمر أو صاعا من سلت أو صاعا من زبيب أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط فقال له علي بن المديني وهو معنا يا أبا محمد أحد لا يذكر في هذا الدقيق قال بلى هو فيه انتهى وقد جاء ذكر الدقيق في حديث آخر أخرج ابن خزيمة من حديث ابن عباس قال أمر رسول الله أن تؤدى زكاة رمضان صاعا من طعام من الصغير والكبير والحر والمملوك من أدى سلتا قبل منه وأحسبه قال من أدى دقيقا قبل منه ومن أدى سويقا قبل منه ورواه الدارقطني ولكن قال ابن أبي حاتم سألت أبي عن هذا الحديث فقال منكر لأن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس وقد استدل بذلك على جواز إخراج الدقيق كما يجوز إخراج السويق وبه قال أحمد (قال حامد) بن يحيى (فأنكروا عليه) أي على ابن عيينة (الدقيق) أي زيادة لفظ الدقيق (فتركه سفيان) قال المنذري قال البيهقي رواه جماعة عن ابن عجلان منهم حاتم بن إسماعيل ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في الصحيح ويحيى القطان وأبو خالد الأحمر وحماد بن مسعدة وغيرهم فلم يذكر أحد الدقيق غير سفيان وقد أنكر عليه فتركه وروى عن ابن سيرين عن ابن عباس مرسلا موقوفا على طريق التوهم وليس بثابت انتهى كذا في غاية المقصود 20 من روى نصف صاع من قمح فتح القاف الحنطة (العتكي) بالعين المهملة المفتوحة ثم التاء الفوقانية المفتوحة منسوب إلى العتك بن أزد (ثعلبة ابن أبي صعير) أو ابن صعير بمهملتين مصغر العذري بضم المهملة وسكون المعجمة ويقال ثعلبة ابن عبد الله بن صعير ويقال عبد الله بن ثعلبة بن صعير مختلف
[ 14 ]
في صحبته كذا في التقريب وقال في حرف العين عبد الله بن ثعلبة بن صعير ويقال ابن أبي صعير له رواية ولم يثبت له سماع انتهى (عن أبيه) أورد الذهبي في الكاشف عبد الله بن ثعلبة بن صعير بلا لفظ أبي وكذا أورده المزي في تهذيب الكمال وقال عبد الله بن ثعلبة بن صعير ويقال ابن أبي صعير أبو محمد المدني الشاعر حليف بني زهرة ويقال ثعلبة بن عبد الله بن صعير وأمه من بني زهرة مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ورأسه زمن الفتح ودعا له روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبيه ثعلبة بن صعير وعمر بن الخطاب وعلي وجابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة (صاع من بر) أي الفطرة صاع موصوف بأنه من بر (أو قمح) أي الحنطة شك من الراوي (أما غنيكم) أي فرضها عليه (فيزكيه الله) التزكية بمعنى التطهير أو التنمية أي يطهر حاله وينمي ماله وأعماله بسببها (وأما فقيركم) أي بالإضافة إلى أكابر الأغنياء على مذهب أبي حنيفة وأما على مذهب الشافعي فمن ملك صدقة الفطر زيادة على قوت نفسه وعياله ليوم العيد وليلته (مما أعطاه) أي هو المساكين وفي هذا تسلية لمن يكون قليل المال بوعد العوض والخلف في المال (في حديثه غني أو فقير) أي حر أو عبد ذكر أو أنثى غني أو فقير قال المنذري في إسناده النعمان بن راشد ولا يحتج بحديثه انتهى قلت ضعفه جماعة قال معاوية عن ابن معين ضعيف وقال العباس عنه ليس بشئ وقال أحمد مضطرب الحديث وقال البخاري في حديثه وهم كثيرا وهو في الأصل صدوق والله أعلم والحديث أخرجه الدارقطني من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن حماد بن زيد عن النعمان بن راشد به موفوعا أدوا صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر الحديث ثم أخرجه عن يزيد بن هارون حدثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد به مرفوعا بلفظ أدوا عن كل انسان صاعا من بر عن الصغير والكبير الحديث ثم أخرجه عن سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أدوا صاعا من قمح أو قال من بر عن الصغير والكبير الحديث ثم أخرج عن خالد بن خداش حدثنا حماد بن زيد بهذا اسناد مثله ثم أخرجه عن مسدد حدثنا حماد بن زيد بهذا اسناد أدوا صدقة الفطر صاعا من بر أو قمح عن كل رأس صغير أو كبير
[ 15 ]
(الداربجردي) بكسر الموحدة والجيم وسكون الراء نسبة إلى دار أبجرد محلة متصلة بالصحراء في أعلى نيسابور (هو) أي بكر الكوفي (عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال المنذري وهذا مرسل (زاد علي) أي ابن الحسن (ثم اتفقا) أي علي بن الحسن ومحمد بن يحيى الذهلي وأخرج الدارقطني من طريق عمرو بن عاصم حدثنا همام عن بكر بن وائل عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فأمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد صاعا من تمر أو صاعا من شعير عن كل واحد أو عن كل رأس أو صاع قمح (أنبأنا ابن جريج قال) أي ابن جريج (وقال ابن شهاب) الزهري في حديثه (قال عبد الله بن ثعلبة) بالجزم من غير شك في اسمه وفي رواية النعمان بن راشد وبكر بن وائل عن الزهري المتقدمة بالشك (قال أحمد بن صالح) شيخ المؤلف (قال) عبد الرزاق في نسبة عبد الله بن ثعلبة إنه (العدوي) نسبة إلى عدي (وإنما هو) أي عبد الله بن ثعلبة (العذري) نسبة إلى عذرة بن سعد قال الإمام الحافظ الغساني في تقييد المهمل العذري بضم الذال المعجمة والراء هو عبد الله بن ثعلبة والعدوي تصحيف انتهى (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولفظ عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قبل يوم الفطر بيوم أو يومين فقال أدوا صاعا من بر أو قمح بين اثنين أو
[ 16 ]
صاعا من تمر أو شعير عن كل حر أو عبد صغير أو كبير ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني في سننه والطبراني في معجمه (بمعنى حديث المقرئ) المكي أبي عبد الرحمن أقرأ القرآن نيفا وسبعين سنة والمقرئ هذا هو عبد الله بن يزيد شيخ علي بن الحسن الداربجردي المتقدم ذكره قال الإمام الدارقطني في كتاب العلل هذا حديث اختلف في إسناده ومتنه أما سنده فرواه الزهري واختلف عليه فيه فرواه النعمان بن راشد عنه عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه ورواه بكر بن وائل عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير وقيل عن ابن عيينة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وقيل عن عقيل ويونس عن الزهري عن سعيد مرسلا ورواه معمر عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة وأما اختلاف متنه ففي حديث سفيان بن حسين عن الزهري صاع من قمح وكذلك في حديث النعمان بن راشد عن الزهري عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه صاع من قمح عن كل إنسان وفي حديث الباقين نصف صاع من قمح قال وأصحها عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلا انتهى قال ابن دقيق العيد وحاصل ما يعلل به هذا الحديث أمران أحدهما الاختلاف في اسم أبي صعير والعلة الثانية الاختلاف في اللفظ وذكر البيهقي عن محمد بن يحيى الذهلي أنه قال في كتاب العلل إنما هو عبد الله بن ثعلبة وإنما هو عن كل رأس أو كل إنسان هكذا رواية بكر بن وائل لم يقم الحديث غيره قد أصاب الإسناد والمتن قال ابن دقيق العيد ويمكن أن يحرف رأس إلى اثنين ولكن يبعد هذا بعض الروايات كالرواية التي فيها صاع بر أو قمح بين كل اثنين انتهى قال الخطابي في هذا حجة لمذهب من أجاز نصف صاع من البر وفيه دليل على أنها واجبة على الطفل كوجوبها على البالغ وفيه بيان أنها تلزم الفقير إذا وجد ما يؤديه ألا تراه يقول وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه فقد أوجب أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره انتهى (قال) أي سهل بن يوسف (حميد) هو الطويل (أخبرنا) بصيغة المعروف وفاعل أخبرنا حميد وحق العبارة قال سهل أخبرنا حميد عن الحسن ولفظ النسائي أخبرنا علي بن حجر حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن الحسن وأخرجه الدارقطني أيضا من طريق يزيد مثله وفي لفظ للدارقطني من طريق محمد بن المثنى حدثنا خالد بن الحارث حدثنا حميد عن الحسن وزعم بعضهم أن قوله أخبرنا بصيغة المجهول وهو غلط واضح لأن الحديث فيه علة واحدة وهي عدم سماع الحسن عن ابن عباس وعلى ضبط صيغة المجهول تزيد علة أخرى وهي جهالة للخبر عن الحسن ولم ينبه على هذه العلة الأخرى المنذري ولا صاحب التنقيح
[ 17 ]
كما سيجئ وأيضا رواية النسائي والدارقطني تدفع هذه العلة (قال خطب ابن عباس) وهكذا في رواية النسائي والدارقطني من طريق يزيد بن هارون قال المنذري قال النسائي الحسن لم يسمع من ابن عباس وهذا الذي قاله النسائي قاله الإمام أحمد وعلي ابن المديني وغيرهما من الأئمة وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول الحسن لم يسمع من ابن عباس وقوله خطبنا ابن عباس يعني خطب أهل البصرة وقال علي بن المديني في حديث الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة إنما هو كقول ثابت قدم علينا عمران بن حصين ومثل قول مجاهد خرج علينا علي وكقول الحسين إن سراقة بن مالك بن جعشم حدثهم وقال علي ابن المديني أيضا الحسن لم يسمع من ابن عباس وما رآه قط كان بالمدينة أيام كان ابن عباس على البصرة انتهى كلام المنذري وقال الحاكم أخبرنا الحسن بن محمد الاسفرائيني حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال سمعت علي بن المديني سئل عن هذا الحديث فقال الحسن لم يسمع من ابن عباس ولا رآه قط كان بالمدينة أيام كان ابن عباس على البصرة ثم ذكر الحاكم في توجيه قوله خطب كما ذكره ابن أبي حاتم سواء وقال صاحب التنقيح الحديث رواته ثقات مشهورون لكن فيه إرسال فإن الحسن لم يسمع من ابن عباس على ما قيل وقد جاء في مسند أبي يعلى الموصلي في حديث عن الحسن قال أخبرني ابن عباس وهذا إن ثبت دل على سماعه منه وقال البزار في مسنده بعد أن رواه لا يعلم روى الحسن عن ابن عباس غير هذا الحديث ولم يسمع الحسن من ابن عباس وقوله خطبنا أي خطب أهل البصرة ولم يكن الحسن شاهد الخطبة ولا دخل البصرة بعد لأن ابن عباس خطب يوم الجمل والحسن دخل أيام صفين انتهى كذا في غاية المقصود (فكان) الحرف المشبه بالفعل (الناس) اسم كان ولفظ النسائي فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض (قمح) أي حنطة (فلما قدم علي) بن أبي طالب أي بالبصرة (رأى رخص) بضم الراء وسكون الخاء على وزن فعل ضد الغلاء يقال رخص الشئ رخصا فهو رخيص من باب قرب (قال) علي (من كل شئ) لكان حسنا لو لفظ الذي النسائي قال الحسن فقال
[ 18 ]
علي أما إذا أوسع الله فأوسعوا أعطوا صاعا من بر أو غيره (على من صام) ومقتضاه أن الحسن لم ير صدقة الفطر على الصغير لأنه لا يصوم لكن قوله هذا ليس بحجة والله أعلم 21 في تعجيل الزكاة (عمر بن الخطاب) ساعيا (على الصدقة) وهو مشعر بأنها صدقة الفرض لأن صدقة التطوع لا يبعث عليها السعاة (منع ابن جميل) أي منعوا الزكاة ولم يؤدوها إلى عمر قال في الفتح ابن جميل هذا لم أقف على اسمه في كتب الحديث وقال القاضي حسين اسمه عبد الله (ما ينقم) بكسر القاف أي ما ينكر نعمة الله أو يكره (فأغناه الله) وفي رواية البخاري أغناه الله ورسوله وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه لأنه كان سببا لدخوله في الإسلام فأصبح غنيا بعد فقره بما أفاء الله وأباح لأمته من الغنائم وهذا السياق من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكر من أن الله أغناه فلا عذر له وفيه التعريض بكفران النعم وتفريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان (فإنكم تظلمون خالدا) والمعنى أنكم تظلمونه بطلبكم الزكاة منه إذ ليس عليه زكاة لأنه (فقد احتبس) أي وقف قبل الحول (أدراعه) جمع درع الحديد (وأعتدة) بضم المثناة الفوقية جمع عتد بفتحتين هو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح وقيل الخيل خاصة قال في النيل ومعنى ذلك أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظنا منهم أنها للتجارة وأن
[ 19 ]
الزكاة فيها واجبة فقال لهم لا زكاة علي فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن خالدا منع الزكاة فقال إنكم تظلمونه لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها فلا زكاة فيها ويحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعا فكيف يشح بواجب عليه واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة التجارة وبه قال جمهور السلف والخلف خلافا لداود وفيه دليل على صحة وقف المنقول وبه قالت الأمة بأسرها إلا أبا حنيفة وبعض الكوفيين (فهي علي ومثلها) معها ومما يقوي أن المراد بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه تعجل من العباس صدقة عامين ما أخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الأول قال الخطابي في صدقة العباس رضي الله عنه هي علي ومثلها فإنه يتأول على وجهين أحدهما أنه كان يسلف منه صدقة سنتين فصارت دينا عليه وفي ذلك دليل على جواز تعجيل الصدقة قبل محلها وقد اختلف العلماء في ذلك فأجاز كثير منهم تعجيلها قبل أوان محلها ذهب إليه الزهري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وكان مالك بن أنس لا يرى تعجيلها عن وقت محلها ويروى عن الحسن البصري أنه قال إن للصلاة وقتا وللزكاة وقتا فمن صلى قبل الوقت أعاد ومن زكى قبل الوقت أعاد والوجه الآخر هو أن يكون قد قبض صلى الله عليه وآله وسلم منه صدقة ذلك العام الذي شكاه فيها العامل وتعجل صدقة العام الثاني فقال هي ومثلها أي الصدقة التي قد حلت وأنت تطالبه بها مع مثلها من صدقة عام واحد (أن عم الرجل صنو الأب) أي مثله تفضيلا له وتشريفا ويحتمل أن يكون تحمل عنه
[ 20 ]
بها فيستفاد منه أن الزكاة تتعلق بالذمة كما هو أحد قولي الشافعي قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (قبل أن تحل) بكسر الحاء أي تجب الزكاة وقيل قبل أن تصير حالا بمضي الحول (فرخص له) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس (في ذلك) أي تعجيل الصدقة قال ابن الملك وهذا يدل على جواز تعجيل الصدقة بعد حصول النصاب قبل تمام الحول وكذا على جواز تعجيل الفطرة بعد دخول رمضان وفي سبل السلام لكنه مخصوص جوازه بالمالك ولا يصح من المتصرف بالوصاية والولاية واستدل من منع التعجيل مطلقا بحديث أنه لا زكاة حتى يحول الحول والجواب أنه لا وجوب حتى يحول عليه الحول وهذا لا ينفي جواز التعجيل وبأنه كالصلاة قبل الوقت وأجيب بأنه لا قياس مع النص قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وحجية بن عدي قال أبو حاتم الرازي شيخ لا يحتج بحديثه شبه المجهول وأخرجه أبو داود من حديث هشيم معضلا قال وحديث هشيم أصح وذكر البيهقي أن هذا الحديث مختلف فيه وأن المرسل فيه أصح انتهى كلام المنذري والحاصل أن الاختلاف على الحكم بن عتيبة فروى الحجاج بن ينار عن الحكم عن حجية بن عدي كما عند المؤلف والدارقطني ومرة قال الحجاج عن الحكم عن حجر العدوي كما عند الدارقطني وروى الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن موسى بن طلحة عن طلحة مرفوعا قال الدارقطني اختلفوا عن الحكم في إسناده والصحيح عن الحسن بن مسلم مرسل انتهى
[ 21 ]
في الزكاة تحمل من بلد إلى بلد (أي المال) أي مال الصدقات (أخذناها) أي الصدقات (ووضعناها) أي صرفناها إلى مستحقيها وقد استدل بهذا على مشروعية صرف زكاة كل بلد في فقراء أهله وكراهية صرفها في غيرهم وقد روي عن مالك والشافعي والثوري أنه لا يجوز صرفها في غير فقراء البلد وقال غيرهم إنه يجوز مع كراهة لما علم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستدعي الصدقات من الأعراب إلى المدينة ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار كما أخرج النسائي من حديث عبد الله بن هلال الثقفي قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم فقال كدت أقتل بعدك في عناق أو شاة من الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم لولا أنها تعطى فقراء المهاجرين ما أخذتها قال المنذري وأخرجه ابن ماجة . من يعطي من الصدقة وحد الغني (وله ما يغنيه) أي عن السؤال ويكفيه بقدر الحال (خموش) أي جروح (أو خدوش أو كدوح) بضم أوائلها ألفاظ متقاربة المعاني جمع خمش وخدش وكدح قال الخطابي الخموش هي الخدوش يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته بظفر أو حديدة أو نحوها والكدوح الآثار من الخدوش والعض ونحوه وإنما قيل للحمار مكدح لما به من آثار العضاض فأو هنا إما لشك الراوي إذ الكل يعرب عن أثر ما يظهر على الجلد واللحم من ملاقاة الجسد ما
[ 22 ]
يقشر أو يجرح ولعل المراد بها آثار مستنكرة في وجهه حقيقة أو أمارات ليعرف ويشهر بذلك بين أهل الموقف أو لتقسيم منازل السائل فإنه مقل أو مكثر أو مفرط في المسألة فذكر الأقسام على حسب ذلك والخمش أبلغ في معناه من الخدش وهو أبلغ من الكدح إذ الخمش في الوجه والخدش في الجلد والكدح فوق الجلد وقيل الخدش قشر الجلد بعود والخمش قشره بالأظفار والكدح العض وهي في أصلها مصادر لكنها لما جعلت أسماء للآثار جمعت (حفظي) أي الذي أحفظه قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه لللوقال الترمذي حديث حسن وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث وقال أبو داود قال يحيى بن آدم فقال عبد الله بن عثمان لسفيان الثوري حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير فقال سفيان فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد وقال الخطابي وضعفوا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم قالوا أما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد وحسب وحكى الإمام أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم أن الثوري قال يوما قال أبو بسطام يحدث يعني شعبة هذا الحديث عن حكيم بن جبير قيل له قال حدثني زبيد عن محمد بن عبد الرحمن ولم يزد عليه قال أحمد كأنه أرسله أو كره أن يحدث به أما يعرف الرجل كلاما نحو ذا وحكى الترمذي أن سفيان صرح بإسناده فقال سمعت زبيدا يحدث بهذا عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد وحكاه ابن عدي أيضا وحكى أيضا أن الثوري قال فأخبرنا به زبيد وهذا يدل على أن الثوري حدث به مرتين مرة لا يصرح فيه بالإسناد ومرة بسنده فتجتمع الروايات وقال أبو عبد الرحمن النسائي لا نعلم أحدا قال في هذا الحديث زبيد غير يحيى بن آدم ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم بن جبير وحكيم ضعيف وسئل شعبة عن حديث حكيم فقال أخاف النار وقد كان روى عنه قديما وسئل يحيى ابن معين يرويه أحد غير حكيم فقال يحيى نعم يرويه يحيى ذذبن وقد آدم عن زبيد ولا أعلم أحدا يرويه إلا يحيى بن آدم وهذا وهم لو كان كذا لحدث به الناس جميعا عن سفيان ولكنه حديث منكر هذا الكلام قاله يحيى أو نحوه وقال بظاهره أحمد وإسحاق وغيرهما ورأوه حدا في غنى من يحرم عليه الصدقة وأبى ذلك آخرون وضعفوا الحديث بما تقدم وقال مالك والشافعي لا حد للغنى معلوما وإنما يعتبر حال الانسان قال الشافعي قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع الكسب ولا يغنيه الألف
[ 23 ]
مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله انتهى كلام المنذري بحروفه (عن رجل من بني أسد) إبهام الصحابي لا يضر لأن الصحابة كلهم عدول (فتولى) بتشديد اللام أي أدبر (وهو مغضب) بفتح الضاد أي موقع في الغضب (إنك لتعطي من شئت) أي لا تعطي في المصارف وإنما تتبع فيه مشيئتك (أن لا أجد) أي لأجل أن لا أجد (وله أوقية) بضم الهمزة وتشديد الياء أي أربعون درهما (أو عدلها) بكسر العين ويفتح أي ما يساويها من ذهب ومال آخر قال الخطابي أو عدلها يريد قيمتها يقال هذا عدل الشئ أي ما يساويه في القيمة وهذا عدله بكسر العين أي نظيره ومثاله في الصورة والهيئة والأوقية عند أهل الحجاز أربعون درهما وذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في تحديد الغنى إلى هذا الحديث وزعم أن من وجد أربعين درهما حرمت عليه الصدقة وذهب قوم من أهل العلم إلى تحديد الغنى التي تحرم معه الصدقة بخمسين درهما ورأوه حدا في غنى من تحرم عليه الصدقة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبى القول به آخرون وضعفوا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم قالوا وليس في الحديث أن من ملك خمسين درهما لم تحل له الصدقة إنما فيه كره له المسألة فقط وذلك أن المسألة إنما تكون مع الضرورة ولا ضرورة لمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة وقال مالك والشافعي لا حد للغني معلوم توسعة وطاقة فإذا اكتفى بما عنده حرمت عليه الصدقة وإذا احتاج حلت له قال الشافعي قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسب ولا يغنيه الألف مع ضعف في نفسه وكثرة عياله وجعل أبو حنيفة وأصحابه الحد فيه مائتي درهم وهو النصاب الذي تجب فيه الزكاة انتهى كلام الخطابي (فقد سأل إلحافا) أي إلحاحا وإسرافا من غير اضطرار (للقحة) بفتح اللام على أنها لام ابتداء واللقحة بفتح اللام أو كسرها الناقة القريبة العهد بالنتاج أو التي هي ذات لبن (والأوقية أربعون درهما) هذا مدرج من قول مالك بن أنس كما صرح بذلك ابن الجارود في روايته في
[ 24 ]
المنتقى (أو كما قال) شك الراوي في قول الأسدي والحديث أخرجه النسائي قاله المنذري (هكذا رواه الثوري كما قال مالك) يشبه أن يكون المعنى أن هذا المتن أي قوله من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا هكذا رواه مالك وسفيان الثوري كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد وأما عبد الرحمن بن أبي الرجال فروى هذا المتن بسند آخر من حديث أبي سعيد الخدري كما يأتي بعد ذلك وأما المتن لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة كما يجئ في باب من يجوز له أخذ الصدقة فقد رواه مالك وسفيان ابن عيينة بهذا السند أي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي مرسلا وهكذا رواه سفيان الثوري مرسلا لكن قال عن زيد بن أسلم حدثني الثبت عن النبي وأما معمر فروى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي موصولا والله أعلم (فقد ألحف) قال الواحدي الإلحاف في اللغة هو الإلحاح في المسألة قال الزجاج معنى ألحف شمل بالمسألة والإلحاف في المسألة هو أن يشتمل على وجوه الطلب بالمسألة كاشتمال اللحاف في التغطية وقال غيره معنى الإلحاف في المسألة مأخوذ من قولهم ألحف الرجل إذا مشى في لحف الجبل وهو أصله كأنه استعمل الخشونة في الطلب (ناقتي الياقوتة) اسم ناقته (قال هشام) في حديثه قال المنذري وأخرجه النسائي (سهل ابن الحنظلية) هو سهل بن الربيع والحنظلية أمه وقيل أم جده وكان ممن بايع تحت الشجرة وسكن دمشق ومات
[ 25 ]
بها (كصحيفة المتلمس) لها قصة مشهورة عند العرب وهو المتلمس الشاعر وكان هجا عمرو بن هند الملك فكتب له كتابا إلى عامله يوهمه أنه أمر له فيه عطية وقد كان كتب إليه أن يقتله فارتاب المتلمس ففكه وقرأه فلما علم ما فيه رمى به ونجا فضربت العرب مثلا بصحيفته (من سأل وعنده ما يغنيه) أي من السؤال وهو قوته في الحال (فإنما يستكثر من النار) يعني جمع أموال الناس بالسؤال من غير ضرورة فكأنه جمع لنفسه نار جهنم (قال النفيلي) بضم النون وفتح الفاء وهو عبد الله بن محمد منسوب إلى نفيل أحد آبائه والحاصل أن عبد الله النفيلي حدث أبا داود بهذا الحديث مرتين فمرة قال من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار فقالوا يار سول الله وما يغنيه قال قدر ما يغديه ويعشيه ومرة قال النفيلي من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم فقالوا يارسول الله وما الغني الذي لا ينبغي معه المسألة قال قدر أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم (معه المسألة قال) أي النبي (قدر ما يغديه ويعشيه) أي قدر كفايتهما بمال أو كسب لم يمنعه عن علم أو حال والتغدية علي إطعام طعام الغدوة والتعشية إطعام طعام العشاء قال الطيبي يعني من كان له قوت هذين الوقتين لا يجوز أن يسأل في ذلك اليوم صدقة التطوع وأما في الزكاة المفروضة فيجوز للمستحق أن يسألها بقدر ما يتم به نفقة سنة له ولعياله وكسوتهما لأن تفريقها في السنة مرة واحدة (أن يكون له شبع يوم) بكسر الشين وسكون الموحدة وفتحها وهو الأكثر أي ما يشبعه من الطعام أول يومه وآخره قال ابن الملك بسكون الباء ما يشبع وبفتح الباء المصدر قال الخطابي فقد اختلف الناس في تأويله فقال بعضهم من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحل له المسألة على ظاهر الحديث قال بعضهم إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات فإذا كان ما يكفيه لقوته المدة الطويلة فقد حرمت عليه المسألة وقال آخرون هذا منسوخ بالأحاديث الأخرى التي تقدم ذكرها (كان حدثنا) النفيلي (به) أي بهذا الحديث (مختصرا على هذه الألفاظ التي ذكرت) بصيغة
[ 26 ]
المتكلم المعروف أو الغائب المجهول وأما الإمام أحمد فروى في مسنده من طريق عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر عن ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي عن سهل بهذا الحديث وفيه فأخبر معاوية رسول الله بقولهما وخرج رسول الله في حاجة فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار ثم مر به آخر النهار وهو على حاله فقال أين صاحب هذا البعير فابتغي فلم يوجد فقال رسول الله اتقوا الله في هذه البهائم ثم اركبوها صحاحا واركبوها سمانا إنه من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من نار جهنم قالوا يارسول الله وما يغنيه قال ما يغديه أو يعشيه أخرجه أحمد في مسند الشاميين (الصدائي) بضم الصاد ممدود (وذكر) أي زياد بن الحارث الصدائي (حديثا طويلا) وفي شرح معاني الآثار من هذا الوجه يقول أمرني رسول الله على قومي فقلت يارسول الله أعطني من صدقاتهم ففعل وكتب لي بذلك كتابا فأتاه رجل فذكر الحديث مثله فهذه الزيادة التي ذكرها الطحاوي أشار إليها أبو داود بقوله حديثا طويلا كذا في غاية المقصود (فأتاه) أي أتى النبي (حتى حكم فيها) أي إلى أن حكم في الصدقات (هو) أي الله تعالى وهو لمجرد التأكيد (فجزأها) بتشديد الزاي فهمزة أي فقسم أصحابها (ثمانية أجزاء) أي أصناف (فإن كنت من تلك الأجزاء) أي أجزاء مستحقيها أو من أصحاب تلك الأجزاء (أعطيتك حقك) قال الخطابي فيه دليل على أنه لا يجوز دفع الصدقة في صنف واحد وأن الواجب تفرقها على أهل السهمان بحصصهم ولو كان في الآية بيان المحل دون بيان الحصص لم يكن للتجزئة معنى ويدل على صحة ذلك قوله أعطيتك حقك فبين أن لأهل كل جزء على حدته حقا وإلى هذا ذهب عكرمة وهو قول الشافعي وقال النخعي إذا كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف وإن كان قليلا جاز أن يوضع في صنف واحد وقال أحمد بن حنبل تفريقه أولى ويجزيه أن يضعه في صنف واحد وقال أبو ثور إن قسمة الإمام قسمة على الأصناف وإن تولى قسمة رب المال فيضعه في صنف واحد رجوت أن يسعه قال مالك بن أنس يجتهد
[ 27 ]
ويتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والفاقة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم وإن رأى في أبناء السبيل في عام آخر أخرجوا لهم وقال أبو حنيفة وأصحابه هو مخير يضعه في أي الأصناف شاء وكذلك قال سفيان الثوري وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وهو قول الحسن البصري وعطاء ابن أبي رباح قال الخطابي وقوله إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو دليل على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين أحدهما ما تولى الله تعالى بيانه في الكتاب وأحكم فرضه فيه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان شهادات الأصول والوجه الآخر ما ورد ذكره في الكتاب مجملا ووكل بيانه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو تفسيره قولا وفعلا أو يتركه على إجماله ليبينه فقهاء الأمة ويدركوه حتى استنباطا واعتبارا بدليل الأصول وكل ذلك بيان مصدره عن الله سبحانه وتعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يختلفوا أن السهام الستة ثابتة مستقرة لأهلها في الأحوال كلها وإنما اختلفوا في سهم المؤلفة فقالت طائفة من أهل العلم منهم ثابت يجب أن يعطوه هكذا قال الحسن البصري وقال أحمد بن حنبل يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك وقالت طائفة انقطعت المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروي ذلك عن الشعبي وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك سهم المؤلفة يرجع إلى أهل السهام الباقية وقال الشافعي لا يعطى من الصدقة مشرك يتألف على الإسلام فأما العاملون وهم السعاة وجباة الصدقة فإنهم يعطون عماله قدر أجرة مثلهم فأما إذا كان الرجل هو الذي يتولى إخراج الصدقة وقسمها بين أهلها فليس فيها للعاملين فيه حق انتهى كلامه قال المنذري في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وقد تكلم فيه غير واحد انتهى (ليس المسكين) أي المذكور في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين والمعنى ليس المسكين شرعا المسكين عرفا هو (الذي ترده) عند طوافه على الناس (والأكلة والأكلتان) بضم الهمزة أي اللقمة واللقمتان والمعنى أي ليس المسكين من يتردد على الأبواب ويأخذ لقمة فإن من فعل هذا ليس بمسكين لأنه يقدر على تحصيل قوته والمراد ذم من هذا فعله إذا لم يكن مضطرا وقال الطيبي فينبغي أن لا يستحق الزكاة وقيل ليس المراد نفي استحقاقه بل إثبات المسكنة لغير هذا المتعارف بالمسكنة وإثبات استحقاقه أيضا كذا في المرقاة
[ 28 ]
قال النووي معناه المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها ليس هو هذا الطواف وليس معناه نفي أصل المسكنة عنه بل معناه نفي كمال المسكنة (ولكن المسكين الذي) هو أحق بالصدقة الذي (ولا يفطنون به) من باب نصر وكرم وفرح كذا في القاموس أي لا يعلم أنه محتاج (فيعطونه) والحديث فيه دليل على أن المسكين هو الجامع بين عدم الغنى وعدم تفطن الناس له لما يظن به لأجل تعففه وتظهره بصورة الغني من عدم الحاجة ومع هذا فهو مستعفف عن السؤال وقد استدل به من يقول إن الفقير أسوأ حالا من المسكين وإن المسكين الذي له شئ لكنه لا يكفيه والفقير الذي لا شئ له ويؤيده قوله تعالى أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور كما قال في الفتح وذهب أبو حنيفة إلى أن المسكين دون الفقير واستدل بقوله تعالى أو مسكينا ذا متربة قالوا لأن المراد أنه يلصق بالتراب للعري وقال ابن القاسم وأصحاب مالك إنهما سواء وروي عن أبي يوسف ورجحه الجلال قال لأن المسكنة لازمة للفقر إذ ليس معناها الذل والهوان فإنه ربما كان بغنى النفس أعز من الملوك الأكابر بل معناها العجز عن إدراك المطالب الدنيوية والعاجز ساكن عن الانتهاض إلى مطالبه انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي من عطاء بن يسار عن أبي هريرة (وأبو كامل) هو فضيل بن حسين الجحدري البصري شيخ أبي داود وأما أبو كامل مظفر بن مدرك فهو شيخ شيخ أبي داود (مثله) ولفظ النسائي حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الأعلى حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله قال ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان قالوا فما المسكين يارسول الله قال الذي لا يجد غنى ولا يعلم الناس حاجته فيتصدق عليه (فذاك المحروم) المذكور في قوله
[ 29 ]
تعالى وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (عن عبيد الله بن عدي بن الخيار) بكسر الخاء المعجمة فمثناة تحتية آخره راء قال الطيبي وهو قرشي نوفلي يقال إنه ولد في عهد رسول الله ويعد في التابعين وروي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما (في حجة الوداع) بفتح الواو (فسألاه منها) أي فطالباه تعالى أن يعطيهما شيئا من الصدقة (فرآنا جلدين) بسكون اللام أو كسرها أي قويين (لقوي مكتسب) بصيغة الفاعل أي يكتسب قدر كفايته والحديث قواه أبو داود والنسائي وقال أحمد ابن حنبل ما أجوده من حديث قال الطيبي أي لا أعطيكما لأن في أخذ الصدقة ذلة فإن رضيتما بها أعطيتكما أو أنها حرام على الجلد فإن شئتما تناول الحرام أعطيتكما قاله توبيخا وتغليظا انتهى والحديث من أدلة تحريم الصدقة على الغني وهو تصريح بمفهوم الآية واختلف في تحقيق الغنى كما سلف وعلى القوي المكتسب لأن حرفته صيرته في حكم الغني ومن أجاز له تأول الحديث بما لا يقبل كذا في السبل وقال ابن الهمام الحديث دل على أن المراد حرمة سؤالهما لقوله وإن شئتما أعطيتكما فلو كان الأخذ محرما غير مسقط عن صاحب المال لم يفعله قال المنذري وأخرجه النسائي (لا تحل الصدقة لغني) في المحيط من الكتب الحنفية الغنى على ثلاثة أنواع غنى يوجب الزكاة وهو ملك نصاب حولي تام وغنى يحرم الصدقة ويوجب صدقة الفطر والأضحية وهو ملك ما يبلغ قيمة نصاب من الأموال الفاضلة عن حاجته الأصلية وغنى يحرم السؤال دون
[ 30 ]
الصدقة وهو أن يكون له قوت يومه وما يستر عورته (ولا لذي مرة) بكسر الميم وتشديد الراء القوة أي ولا لقوي على الكسب (سوي) أي صحيح البدن تام الخلقة قال علي القاري فيه نفي كمال الحل لا نفس الحل أو لا تحل له بالسؤال قال ابن الملك أي لا تحل الزكاة لمن أعضاؤه صحيحة وهو قوي يقدر على الاكتساب بقدر ما يكفيه وعياله وبه قال الشافعي وقال الخطابي قد اختلف الناس في جواز الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب فقال الشافعي لا تحل له الصدقة وكذلك قال إسحاق بن راهويه وقال أبو حنيفة وأصحابه يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعدا (رواه سفيان) هو الثوري وحديثه أخرجه الترمذي والدارمي وابن الجارود مثل حديث إبراهيم بن سعد سندا ومتنا (ورواه شعبة) وحديثه أخرجه الطحاوي من طرق الحجاج بن المنهال حدثنا شعبة أخبرني سعد بن إبراهيم سمعت ريحان بن يزيد وكان أعرابيا صدوقا قالقال عبد الله بن عمرو لا يحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قوي قال الترمذي وقد روى شعبة عن سعد بن إبراهيم هذا الحديث ولم يرفعه (والأحاديث الأخر) بضم الهمزة جمع آخر أي من حديث عبد الله بن عمرو وغير ذلك من الصحابة كعدي فإن بن الخيار عند المؤلف والنسائي وأبي هريرة عند ابن الجارود وجابر عند الدارقطني وغيره (عن النبي) والحاصل أن اللفظتين أي لذي مرة قوي ولذي مرة سوي كلتيهما رويتا عن النبي في حديث عبد الله بن عمرو وغيره مفرقا ويظهر من كلام المؤلف أنه رأى اللفظتين محفوظتين وأما عطاء بن زهير فروى عن عبد الله بن عمر موقوفا عليه وجمع بين اللفظين قاله في غاية المقصود قال المنذري وأخرجه الترمذي باللفظ الأول أي لذي مرة سوي وقال حديث حسن وذكر أن شعبة لم يرفعه هذا آخر كلامه في إسناده ريحان بن يزيد قال يحيى بن معين ثقة وقال أبو حاتم الرازي شيخ مجهول وقال بعضهم لم يصح إسناده وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمرو انتهى كلامه من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني (عن عطاء بن يسار) تابعي جليل مرسل وقد وصله المؤلف وابن ماجه والحاكم من
[ 31 ]
طريق معمر عن زيد بن أسلم كما سيأتي (لغني) لقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين (إلا لخمسة) فتحل لهم وهم أغنياء لأنهم أخذوها بوصف آخر (لغاز في سبيل الله) لقوله تعالى وفي سبيل الله أي لمجاهد وإن كان غنيا أو الحج واختاره محمد بن الحسن من الحنفية (أو لعامل عليها) أي على الصدقة من نحو عاشر وحاسب وكاتب لقوله تعالى والعاملين عليها وبينت السنة أن شرطه أن لا يكون هاشميا قيل ولا مطلبيا (أو لغارم) أي مدين مثل من إستدان ليصلح بين طائفتين في دية أو دين تسكينا للفتنة وإن كان غنيا قال الله تعالى والغارمين بشروط في الفروع (أو لرجل) غني (اشتراها) أي الصدقة (بماله) من الفقير الذي أخذها (أو لرجل) غني (جار مسكين) المراد به ما يشمل الفقير (فأهداها) الصدقة (للغني) فتحل له لأن الصدقة قد بلغت محلها فيه وقوله وله جار خرج على جهة التمثيل فلا مفهوم له فالمدار على إهداء الصدقة التي ملكها المسكين لجار أو لغيره وفي حديث إهداء بريرة كما تصدق به عليها إلى عائشة قوله صلى الله عليه وسلم هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية كما عند الشيخين وغيرهما وكذلك الإهداء ليس بقيد ففي رواية لأحمد وأبي داود كما سيأتي أو جار فقير يتصدق عليها فيهدي لك أو يدعوك قال ابن عبد البر هذا الحديث مفسر لمجمل قوله صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي وأنه ليس على عمومه وأجمعوا على أن الصدقة المفروضة لا تحل لغير الخمسة المذكورين قال الباجي فإن دفعها لغني لغير هؤلاء عالما بغناه لم تجزه بلا خلاف فإن اعتقد فقره فقال ابن القاسم يضمن إن دفعها الغني أو كافر وأما صدقة التطوع فهي بمنزلة الهدية تحل للغني والفقير ذكره الزرقاني في شرح الموطأ قال الخطابي فيه بيان أن الغازي وإن كان غنيا له أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه وهو من سهم السبيل وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز أن يعطى الغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعا به وسهم السبيل غير سهم ابن السبيل وقد فرق الله بينهما في التسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المسبوق أحدهما على الآخر فقال (وفي سبيل الله وابن السبيل) والمنقطع به هو ابن السبيل وكما سهم السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه وفي قوله أو رجل اشتراها
[ 32 ]
بماله دليل على أن المتصدق إذا تصدق بالشئ ثم اشتراه من المدفوع إليه فإن البيع جائز وكرهه أكثر العلماء مع تجويزهم البيع في ذلك فقال مالك بن أنس إن اشتراه فالبيع مفسوخ وأما الغارم الغني فهو الرجل يتحمل الحمالة ويدان في المعروف وإصلاح ذات البين وله مال أن يقع فيها افتقر فيعطيى عمر من الصدقة ما يقضي به دينه فأما الغارم الذي يدان لنفسه وهو معسر فلا يدخل في هذا الغنى لأنه من جملة الفقراء وأما العامل فإنه يعطي منها عمالة على قدر عمله وأجرة مثله فسوا كان غنيا أو فقيرا فإنه يستحق العمالة إذا لم يفعله تطوعا فأما المهدي له الصدقة فهو إذا ملكها فقد خرجت أن تكون صدقة وهي ملك لمالك تام الملك جائز التصرف في ملكه انتهى كلامه قال المنذري وأخرجه ابن ماجه مسندا وقال أبو عمر النمري قد وصل هذا الحديث جماعة من رواية زيد بن أسلم (بمعناه) ولفظ ابن ماجه من هذا الوجه لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لغاز في سبيل الله أو لغني اشتراها بماله أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني أو غارم وأخرجه أيضا الدارقطني (رواه ابن عيينة) سفيان الإمام (كما قال مالك) مرسلا (ورواه الثوري) سفيان الإمام (حدثني الثبت) أي الثقة (عن النبي صلى الله عليه وسلم) مرسلا ومع ذلك لم يسم الثبت (إلا في سبيل الله أو ابن السبيل) قال البيهقي في سننه حديث عطاء ابن يسار عن أبي سعيد أصح طريقا ليس فيه ذكر ابن السبيل فإن صح هذا فإنما أراد والله أعلم أن ابن السبيل غني في بلده محتاج في سفره انتهى (أو جار فقير) إضافة جار إلى فقير (يتصدق) بصيغة المجهول (عليه) أي الفقير (فيهدي) من الإهداء أي الفقير (لك) التفات من الغيبة إلى الخطاب (أو يدعوك) إلى أكل ذلك الطعام
[ 33 ]
من الصدقة (فراس وابن أبي ليلى عن عطية) رواية ابن أبي ليلى أخرجها الطحاوي في شرح معاني الآثار قال المنذري وعطية هو ابن سعد أبو الحسن العوفي الكوفي ولا يحتج بحديثه انتهى 25 كم يعطي الرجل الواحد من الزكاة (عن بشير بن يسار) مصغرا (وداه) من الدية (بمائة من إبل الصدقة) قال الخطابي يشبه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أعطاه ذلك من سهم الغارمين على معنى الحمالة في إصلاح ذات البين لأنه شجر بين الأنصار وبين أهل خيبر في دم القتيل الذي وجد بها منهم فإنه لا مصرف لمال الصدقات في الديات وقد اختلف الناس في قدر ما يعطى الفقير من الصدقة فكره أبو حنيفة وأصحابه أن يبلغ مائتي درهم إذا لم يكن عليه دين أو له عيال وكان سفيان الثوري يقول لا يدفع إلى رجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما وكذلك قال أحمد بن حنبل وعلى مذهب الشافعي يجوز أن يعطى على قدر حاجته من غير تحديد فيه فإذا زال اسم الفقر عنه لم يعط وقد يحتج بها من يرى جمع الصدقة من صنف واحد من أهل السهمان الثمانية انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرا ومطولا في القصة المشهورة انتهى 26 ما تجوز فيه المسألة (حفص بن عمر النمري) بفتحتين نسبة إلى نمر (قال المسائل) جمع المسألة وجمعت
[ 34 ]
لاختلاف أنواعها والمراد هنا سؤال أموال الناس (كدوح) مثل صبور للمبالغة من الكدح بمعنى الجرح أو هي آثار الخموش قال في المرقاة فالإخبار به عن المسائل باعتبار من قامت به أي سائل الناس أموالهم جارح لهم بمعنى مؤذيهم أو جارح وجهه وبضم الكاف جمع كدح وهو أثر مستنكر من خدش أو عض والجمع هنا أنسب ليناسب المسائل (يكدح بها الرجل) أي يجرح ويشين بالسائل (وجهه) ويسعى في ذهاب عرضه بالسؤال يريق ماء وجهه فهي كالجراحة والكدح قد يطلق على غير الجرح ومنه قوله تعالى إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (فمن شاء) أي الإبقاء (أبقى على وجهه) أي ماء وجهه من الحياء بترك السؤال والتعفف (من شاء) أي عدم الإبقاء (ترك) أي ذلك الإبقاء (إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان) أي حكم وملك بيده بيت المال وفيه دليل على جواز سؤال السلطان من الزكاة أو الخمس أو بيت المال أو نحو ذلك فيخص به عموم أدلة تحريم السؤال (أو في أمر لا يجد منه بدا) أي علاجا آخر غير السؤال أو لا يوجد من السؤال فراقا وخلاصا وفيه دليل على جواز المسألة عند الضرورة والحاجة التي لا بد عندها من السؤال كما في الحمالة والجائحة والفاقة بل يجب حال الاضطرار في العري والجوع وفي سبل السلام وأما سؤاله من السلطان فإنه لا مذمة فيه لأنه إنما يسأل مما هو حق له في بيت المال ولا منة للسلطان على السائل لأنه وكيل فهو كسؤال الإنسان وكيله أن يعطيه من حقه الذي لديه وظاهره أنه وإن سأل السلطان تكثرا فإنه لا بأس فيه ولا إثم لأنه جعله قيما للأمر الذي لا بد منه وقد فسر الأمر الذي لا بد منه حديث قبيصة وفيه لا يحل السؤال إلا لثلاثة ذي فقر مدقع أو دم موجع أو غرم مفظع الحديث وقوله أو في أمر لا يجد منه بدا أي لا يتم له حصوله مع ضرورة إلا بالسؤال ويأتي حديث قبيصة قريبا وهو مبين ومفسر للأمر الذي لا بد منه قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن صحيح (عن قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة (بن مخارق) بضم الميم فخاء معجمة فراء مكسورة بعد الألف فقاف (الهلالي) وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عداده في أهل
[ 35 ]
البصرة روى عنه ابنه قطن وغيره (قال تحملت حمالة) بفتح الحاء وتخفيف الميم ما يتحمله عن غيره من دية أو غرامة لدفع وقوع حرب بسفك الدماء بين الفريقين ذكره ابن الملك قال الطيبي أي ما يتحمله الانسان من المال أي يستدينه ويدفعه لإصلاح ذات البين فتحل له الصدقة إذا لم تكن الحمالة في المعصية وفي النيل وشرط بعضهم أن الحمالة لابد أن تكون لتسكين فتنة وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة ولا شك أن هذا من مكارم الأخلاق وكانوا إذا علموا أن أحدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته وأعطوه ما تبرأ به ذمته وإذا سأل لذلك لم يعد نقصا في قدره بل فخرا (فقال أقم) أمر من الإقامة بمعنى أثبت واصبروكن النبي في المدينة مقيما (حتى تأتينا الصدقة) أي يحضرنا مالها (فنأمر لك بها) أي بالصدقة أو بالحمالة (ثم قال يا قبيصة إن المسألة) أي السؤال والشحذة وإن (لا تحل إلا لأحد ثلاثة) في شرح ابن الملك قالوا هذا بحث سؤال الزكاة وأما سؤال صدقة التطوع فمن لا يقدر على كسب لكونه زمنا أو ذا علة أخرى جاز له السؤال بقدر قوت يومه ولا يدخر وكان قادرا عليه فتركه لاشتغال العلم جاز له الزكاة وصدقة التطوع فإن تركه لاشتغال صلاة التطوع وصيامه لا تجوز له الزكاة ويكره له صدقة التطوع قاله في المرقاة (رجل) بالجر بدل من أحد وقال ابن الملك من ثلاثة وبالرفع خبر مبتدأ محذوف (تحمل حمالة فحلت له المسألة) أي حازت بشرط أن يترك الإلحاح والتغليط في الخطاب (حتى يصيبها) أي إلى أن يجد الحمالة أو يأخذ الصدقة (ثم يمسك) أي عن السؤال يعني إذا أخذ من الصدقات ما يؤدي ذلك الدين لا يجوز أخذ شئ آخر منها ذكره ابن الملك (أصابته جائرة) أي آفة وحادثة مستأصلة من جاحه يجوحه كما إذا استأصله وهو الآفة المهلكة للثمار والأموال (فاجتاحت) أي استأصلت وأهلكت (ماله) من ثمار بستانه أو غيره من الأموال (فحلت له المسألة) أي سؤال المال من الناس (حتى يصيب قواما) بكسر القاف أي إلى أن يدرك ما تقوم به حاجته الضرورية (من عيش) أي معيشة من قوت ولباس (أو قال) شك من
[ 36 ]
الراوي (سدادا) بالكسر ما يسد به الفقر ويدفع ويكفي الحاجة (ورجل) أي غني (أصابته فاقة) أي حاجة شديدة اشتهر بها بين قومه (حتى يقول) أي على رؤوس الأشهاد (ثلاثة من ذوي الحجى) بكسر الحاء وفتح الجيم مقصورا أي العقل الكامل (أصابت فلانا الفاقة) أي يقول ثلاثة من قومه هذا القول لأنهم أخبر بحاله والمراد المبالغة في ثبوت الفاقة (فحلت له المسألة) أي فبسبب هذه القرائن الدالة على صدقه في المسألة صارت حلالا له (وما سواهن) أي هذه الأقسام الثلاثة (سحت) بضمتين وبسكن هو الثاني وهو الأكثر هو الحرام لا يحل كسبه لأنه بسحت البركة أي يذهبها (يأكلها) أي يأكل ما يحصل له بالمسألة قاله الطيبي والحاصل يأكل حاصلها قال في السبل يأكل أي الصدقة أنث لأنه جعل السحت عبارة عنها وإلا فالضمير له انتهى (صاحبها سحتا) نصب على التمييز أو بدل من الضمير في يأكلها أو حالا قال ابن الملك وتأنيث الضمير بمعنى الصدقة والمسألة والحديث فيه دليل على أنها تحرم المسألة إلا لثلاثة الأول لمن تحمل حمالة وذلك أن يتحمل الإنسان عن غيره دينا أو دية أو يصالح بمال بين طائفتين فإنها تحل له المسألة وظاهره وإن كان غنيا فإنه لا يلزمه تسليمه من ماله وهذا هو أحد الخمسة الذي يحل لهم أخذ الصدقة وإن كانوا أغنياء كما سلف في حديث أبي سعيد والثاني من أصاب ماله آفة سماوية أو أرضية كالبرد والغرق ونحوه بحيث لم يبق له ما يقوم بعيشه حلت له المسألة حتى يحصل له ما يقوم بحاله ويسد خلته والثالث من أصابته فاقة ولكن لا تحل له المسألة إلا بشرط أن يشهد له من أهل بلده لأنهم أخبر بحاله ثلاثة من ذوي العقول لا من غلب عليه الغباوة والتغفيل وإلى كونهم ثلاثة ذهبت الشافعية للنص فقالوا لا يقبل في الإعسار أقل من ثلاثة وذهب غيرهم إلى كفاية الاثنين قياسا على سائر الشهادات وحملوا على الحديث على الندب ثم هذا محمول على من كان معروفا بالغنى ثم افتقر أما إذا لم يكن كذلك فإنه يحل له السؤال وإن لم يشهدوا له بالفاقة يقبل قوله وقد ذهب إلى تحريم السؤال ابن أبي ليلى وإنها تسقط به العدالة والظاهر من الأحاديث تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين أو أن لم يكن المسؤول السلطان كما سلف كذا في السبل قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي (يسأله) حال أو استئناف بيان (فقال أما في بيتك شئ) بهمزة استفهام تقريري وما نافية
[ 37 ]
(قال بلى حلس) أي في بيتي حلس بكسر مهملة وسكون لام كساء غليظ يلي ظهر البعير تحت القتب (نلبس) بفتح الباء (بعضه) أي بالتغطية لدفع البرد (ونبسط بعضه) أي بالفرش (وقعب) بفتح فسكون أي قدح (نشرب فيه من الماء) من تبعيضية أو زائدة على مذهب الأخفش (قال ائتني بهما) أي بالحلس والقعب (قال) أي أنس (من يشتري هذين) أي المتاعين فيه غاية التواضع وإظهار المرحمة للعلم بأنه إذا خرج عليهما رغب فيهما بأكثر من ثمنهما ما فيه من التأكيد في هذا الأمر الشديد (آخذهما) بضم الخاء ويحتمل كسرها (قال من يزيد على درهم مرتين) ظرف فقال (أو ثلاثا) شك من الراوي (أنا آخذهما بدرهمين) فيه دليل على جواز بيع المعاطاة (وقال اشتر) بكسر الراء وفي لغة بسكونها (بأحدهما) أي أحد الدرهمين طعاما (فانبذه) بكسر الباء أي اطرحه (إلى أهلك) أي ممن يلزمك مؤنته (واشتر بالآخر قدوما) بفتح القاف وضم الدال أي فأسا قيل بتخفيف الدال والتشديد (فأتاه به) أي بعد ما اشتراه (فشد) من باب ضرب يقال شد يشد شدة أي قوي فهو شديد (عودا) أي ممسكا (بيده) الكريمة والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أحكم في القدوم مقبضا من العود والخشب ليمسك به القدوم لأن القدوم بغير المقبض لا يستطيع الرجل به قطع الحطب وغيره بلا كلفة فلذلك فعله صلى الله عليه وسلم تفضلا وامتنانا عليه وفي الفارسية بمحكم كرددران وسلم وأن قدوم رسة رابدست عنه خود (فاحتطب) أي اطلب الحطب واجمع (ولا أرينك خمسة عشر يوما) أي لا تكن هنا هذه المدة حتى لا أراك وهذا مما أقيم فيه المسبب مقام السبب والمراد نهي الرجل عن ترك الاكتساب في هذه المدة لا نهي نفسه عن الرؤية كذا في المرقاة وقال السيوطي قال سيبويه من كلامهم لا أرينك ههنا وا نسان لا ينهى نفسه وإنما المعنى لا تكون ههنا فإن من كان ههنا رأيته ونظيره ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فإن ظاهره النهي عن الموت والمعنى على خلافه لأنهم لا يملكون الموت فينتهون عنه وإنما
[ 38 ]
المعنى ولا تكونن على حال سوى الإسلام حتى يأتيكم الموت انتهى (أن تجئ المسألة نكتة) بضم النون وسكون الكاف أثر كالنقطة أي حال كونها علامة قبيحة أو أثرا من العيب لأن السؤال ذل في التحقيق (إن المسألة لا تصلح) أي لا تحل ولا تجوز (فقر مدقع) بدال وعين مهملتين بينهما قاف أي شديد يفضي بصاحبه إلى الدقعاء وهو التراب وقيل هو سوء احتمال الفقر كذا في النهاية (أو لذي غرم) أي غرامة أو دين (مقطع) أي فظيع وثقيل وفضيح (أو لذي دم موجع) بكسر الجيم وفتحها أي مؤلم والمراد دم يوجع القاتل أو أولياءه بأن تلزمه الدية وليس لهم ما يؤدي به الدية ويطلب أولياء المقتول منهم وتنبعث الفتنة والمخاصمة بينهم وقيل هو أن يتحمل الدية فيسعى فيها ويسأل حتى يؤديها إلى أولياء المقتول لتنقطع الخصومة وليس له ولأوليائه مال ولا يؤدي أيضا من بيت المال فإن لم يؤدها قتلوا المتحمل عنه وهو أخوه أو حميمه فيوجعه قتله كذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه قال ا لترمذي هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر ابن عجلان هذا اخر كلامه والأخضر بن عجلان قال يحيى بن معين صالح وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه 27 كراهية المسألة (عن أبي إدريس الخولاني عن أبي مسلم الخولاني) قال النووي اسم أبي إدريس عائذ بن عبد الله واسم أبي مسلم عبد الله بن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو وبعدها موحدة ويقال ابن ثواب بفتح المثلثة وتخفيف الواو ويقال غير ذلك وهو مشهور بالزهذ إن والكرامات الظاهرات والمحاسن الباهرات أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وألقاه الأسود العنسي في النار فلم يحترق فتركه فجاء مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق فجاء إلى المدينة فلقي أبا بكر الصديق وعمر وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم هذا هو الصواب المعروف ولا خلاف فيه بين العلماء وأما قول السمعاني في الأنساب أنه أسلم في زمن
[ 39 ]
معاوية فغلط باتفاق أهل العلم من المحدثين وأصحاب التواريخ والمغازي والسير وغيرهم (عوف بن مالك) عطف بيان أو بدل من الحبيب الأمين (فقال ألا تبايعون رسول الله) فيها التفات من التكلم إلى الغيبة (فلقد كان بعض أولئك النفر إلخ) قال النووي فيه التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن السؤال فحملوه على عمومه وفيه الحث على التنزه عن جميع ما يسمى سؤالا وإن كان حقيرا انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه (حديث هشام) بن عمار (لم يروه إلا سعيد) بن عبد العزيز أي هذا المتن من حديث عوف ابن مالك لم يرو عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس عن عوف إلا سعيد بن عبد العزيز فسعيد تفرد بهذا المتن عن ربيعة وروى عن سعيد جماعة الوليد بن مسلم عند المؤلف وعند ابن ماجه في الجهاد ومروان بن محمد الدمشقي عند مسلم في الزكاة وأبو مسهر عند النسائي في الصلاة (من تكفل) من استفهامية أي ضمن والنزم إلا (لي) ويتقبل مني (أن لا يسأل الناس شيئا) أي من السؤال أو من الأشياء (فأتكفل) بالنصب والرفع أي أتضمن (له بالجنة) أي أولا من غير سابقة عقوبة وفيه إشارة إلى بشارة حسن الخاتمة (فقال ثوبان أنا) أي تضمنت أو أتضمن (فكان) ثوبان بعد ذلك (لا يسأل أحدا شيئا) أي ولو كان به خصاصة واستثنى منه إذا خاف على نفسه الموت فإن الضرورات تبيح المحظورات بل قيل إنه لو لم يسأل حتى يموت يموت عاصيا
[ 40 ]
في الاستعفاف أي في شئ من غير المصالح الدينية (أن ناسا من الأنصار) لم يتعين لي أسماءهم إلا أن النسائي روى من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ما يدل على أن أبا سعيد راوي هذا الحديث خوطب بشئ من ذلك ولفظ ففي حديثه سرحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته وقعدت فقال من استغنى أغناه الله الحديث وزاد فيه وسأل وله أوقية فقد ألحف فقلت ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله ذكره في فتح الباري (حتى إذا نفذ) بكسر الفاء أي فرغ وفى (من خير) أي مال ومن بيان لما وما خبرية متضمنة للشرط أي لك شئ من المال موجود عندي أعطيكم (فلن أدخره عنكم) أي أحبسه وأخبؤه وأمنعكم إياه منفردا به عنكم وفيه ما كان عليه من السخاء وإنفاذ أمر الله وفيه إعطاء السائل مرتين والاعتذار إلى السائل والحض على التعفف وفيه جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه بغير مسألة (ومن يستعفف) أي من يطلب من نفسه العفة عن السؤال قال الطيبي أو يطلب العفة من الله تعالى فليس السين لمجرد التأكيد (يعفه الله) يجعله عفيفا من اعفاف وهو إعطاء العفة وهي الحفظ عن المناهي يعني من قنع بأدنى قوت وترك السؤال تسهل عليه القناعة وهي كنر لا يفنى (ومن يستغن) أي يظهر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس والتعفف عن السؤال حتى يحسبه الجاهل غنيا من التعفف (يغنه الله) أي يجعله غنيا أي بالقلب لأن الغني ليس عن كثرة العرض إنما غني النفس (ومن يتصبر) أي يطلب توفيق الصبر من الله لأنه قال تعالى واصبر وما صبرك إلا بالله أي يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه وهو تعميم بعد تخصيص لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبلية أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه (يصبره الله) بالتشديد أي يسهل عليه الصبر فتكون الجمل مؤكدات ويؤيد إرادة معنى العموم قوله (وما أعطي أحد من عطاء) أي معطى أو شيئا (أوسع) أي أشرح
[ 41 ]
للصدر (من الصبر) وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات كذا في المرقاة وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي قاله المنذري (وهذا حديثه) أي حديث عبد الله بن المبارك والمعنى أن عبد الله ابن داود وعبد الله بن المبارك كلاهما يرويان عن بشير بن سلمان وهذا لفظ ابن المبارك دون عبد الله بن داود (من أصابته فاقة) أي حاجة شديدة وأكثر استعمالها في الفقر وضيق المعيشة (فأنزلها بالناس) أي عرضها علهيم وأظهرها بطريق الشكاية لهم وطلب إزالة فاقته منهم قال الطيبي يقال نزل بالمكان ونزل من علو ومن المجاز نزل به مكروه وأنزلت حاجتي على كريم وخلاصته أن من اعتمد في سدها على سؤالهم (لم تسد فاقته) أي لم تقض حاجته ولم تزل فاقته وكلما تسد حاجة أصابته أخرى أشد منها (ومن أنزلها بالله) بأن اعتمد على مولاه (أوشك الله) أي أسرع وعجل (بالغنى) بالكسر مقصورا أي اليسار وفي نسخة المصابيح له بالغناء أي بفتح الغين والمد أي الكفاية قال شراح المصابيح ورواية بالغنى أي بالكسر مقصورا على معنى اليسار تحريف للمعنى لأنه قال يأتيه الكفاية عما هو فيه انتهى (إما بموت عاجل) قيل بموت قريب له غني فيرثه ولعل الحديث مقتبس من قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه (أو غنى) بكسر وقصر أي يسار (عاجل) أي بأن يعطيه مالا ويجعله غنيا قال الطيبي هو هكذا أي عاجل بالعين في أكثر نسخ المصابيح وجامع الأصول وفي سنن أبي داود والترمذي أو غنى آجل بهمزة ممدودة وهو أصح دراية لقوله تعالى إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله انتهى قلت نسخ أبي داود التي عندي في كلها عاجل بالعين وكذا في نسخ المنذري والله أعلم قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال حسن صحيح غريب (عن ابن الفراسي) بكسر الفاء قال الحافظ في التقريب ابن الفراسي عن النبي صلى الله عليه وسلم
[ 42 ]
وقيل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف اسمه (أن الفراسي) هو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة وله صحبة ذكره الطيبي (قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسأل) بحذف حرف الاستفهام (يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا) أي لا تسأل الناس شيئا من المال وتوكل على الله في كل حال (وإن كنت سائلا لابد) أي لك منه ولا غنى لك عنه (فسل الصالحين) أي القادرين على قضاء الحاجة أو أخيار الناس لأنهم لا يحرمون السائلين ويعطون ما يعطون عن طيب نفس لأن الصالح لا يعطي إلا من الحلال ولا يكون إلا كريما ورحيما ولا يهتك العرض ولأنه يدعو لك فيستجاب قال المنذري وأخرجه النسائي ويقال فيه عن الفراسي ومنهم من يقول عن ابن الفراسي عن أبيه كما ذكره أبو داود وهو من بني فراس بن مالك بن كنانة وله حديث آخر في البحر هو الطهور ماؤه والحل ميتته كلاهما يرويه الليث بن سعد انتهى (عن ابن الساعدي) قال القاضي عياض الصواب ابن السعدي واسمه قدامة وقيل عمرو وإنما قيل له السعدي لأنه استرضع في بني سعد بن بكر وأما الساعدي فلا يعرف له وجه وابنه عبد الله من الصحابة وهو قرشي عامري مكي من بني مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي وسيجئ بيانه من كلام المنذري بعمالة) قال الجوهري العمالة بالضم رزق العامل على
[ 43 ]
عمله (فعملني) بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عمل وجعل لي عمالة (من غير أن تسأله) فيه دليل على أنه لا يحل أكل ما حصل من المال عن مسألة وفي الحديث دلالة على أن عمل الساعي سبب لاستحقاقه الأجرة كما أن وصف الفقر والمسكنة هو السبب في ذلك وإذا كان العمل هو السبب اقتضى قياس قواعد الشرع أن المأخوذ في مقابلته أجرة ولهذا قال أصحاب الشافعي تبعا له إنه يستحق أجرة المثل وفيه أيضا دليل على أن من نوى التبرع يجوز له أخذ الأجرة بعد ذلك (فكل وتصدق) هنيئا مريئا وإن لم تحتج إلى أكله فتصدق قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي بنحوه ورواه الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبدالعزي عن عبد الله بن السعدي عن عمر فاجتمع في إسناده أربعة من الصحابة وهو أحد الأحاديث التي جاءت كذلك ووقع في حديث الليث بن سعد الساعدي كما قدمناه وهو عبد الله بن السعدي ولم يكن سعديا فإنما قيل لأبيه السعدي لأنه كان مسترضعا في بني سعد بن بكر وهو قرشي عامري مالكي من مالك بن حنبل واسم السعدي عمرو بن وقدان وقيل قدامة بن وقدان وأما الساعدي فنسبة إلى بني ساعدة من الأنصار من الخزرج ولا وجه له ههنا إلا أن يكون له نزول أو حلف أو غير ذلك وقوله فعملني بفتح العين المهملة وتشديد الميم وفتحها أي جعل له العمالة وهي أجرة العمل وفيه جواز أخذ الأجرة على أعمال المسلمين وولاياتهم الدينية والدنيوية قيل وليس معنى الحديث في الصدقات وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم واستشهد بقوله في بعض طرقه فتموله وقال الفقير لا ينبغي أن يأخذ من الصدقة ما يتخذه مالا كان عن مسألة أو غير مسألة واختلف العلماء فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم عمر من ذلك بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد فقيل هو ندب من النبي صلى الله عليه وسلم لكل من أعطى عطية كانت من سلطان أو عامل صالحا كان أو فاسقا بعد أن يكون ممن يجوز عطيته حكى ذلك غير واحد وقيل ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى قبول عطية غير السلطان فأما السلطان فبعضهم منعها وبعضهم كرهه وقال اخرون
[ 44 ]
ذلك ندب لقبول هدية السلطان دون غيره ورجح بعضهم الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخصص وجها من الوجوه انتهى كلام المنذري (منها) أي من أخذ الصدقة (والمسألة) عطف على الصدقة أي يذكر السؤال وفي رواية البخاري وذكر الصدقة والتعفف والمسألة بالواو قبل المسألة كما عند المؤلف وفي رواية مسلم عن قتيبة عن مالك والتعفف عن المسألة والمعنى أنه كان يحض الغني على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضه على التعفف ويدم المسألة (اليد العليا) أي المنفقة أو المتعففة أو العطية الجزيلة على اختلاف الأقوال والأولى ما فسر الحديث بالحديث (خير من اليد السفلى) أي السائل أو العطية القليلة وفي فتح الباري وأما يد الآدمي فهي أربعة يد المعطي وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا ثانيها يد السائل وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبا وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما ثالثها يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا وهذه توصف بكونها عليا علوا معنويا رابعها اخذ بغير سؤال وهذه قد اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا في بعض الصور انتهى مختصرا قال الخطابي رواية من قال المتعففة أشبه وأصح في المعنى وذلك أن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو يذكر الصدقة والتعفف منها فعطف الكلام على سننه الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى وقد يتوهم كثير من الناس أن معنى العليا هو أن يد المعطي مستعلية فوق يد الآخذ يجعلونه من علوت الشئ إلى فوق وليس ذلك عندي بالوجه وإنما هو من على المجد والكرم يريد به الترفع عن المسألة والتعفف عنها انتهى (واليد العليا المنفقة) من الإنفاق (اختلف على أيوب) السختياني (قال عبد الوارث) عن أيوب (اليد العليا المتعففة) بالعين والفاءين صلى من العفة
[ 45 ]
والحاصل أن بعض الرواة عن أيوب مثل حماد بن زيد وغيره روى عن أيوب بلفظ اليد العليا المنفقة كما رواه مالك وأما عبد الوراث فروى عن أيوب بلفظ اليد العليا وهذا الاختلاف على أيوب السختياني ثم اختلف على حماد بن زيد الراوي عن أيوب فقال أكثر الرواة عن حماد بن زيد عن أيوب اليد العليا المنفقة (وقال واحد) هو مسدد بن مسرهد كما رواه مسدد في مسنده ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في التمهيد كذا في الفتح وقال الحافظ زين العراقي قلت بل قاله عن حماد اثنان أبو الربيع سليمان الزهراني كما رويناه في كتاب الزكاة ليوسف بن يعقوب القاضي والآخر مسدد كما رواه ابن عبد البر في التمهيد ورواه أيضا عن نافع موسى بن عقبة فاختلف عليه فقال إبراهيم بن طهمان عنه المتعففة وقال حفص بن ميسرة عنه المنفقة رويناهما في سنن البيهقي ورجح الخطابي في المعالم رواية المتعففة فقال أنها أشبه وأصح ورجح ابن عبد البر في التمهيد رواية المنفقة فقال إنها أولى وأشبه بالصواب من قول من قال المتعففة وكذا رواه البخاري في صحيحه عن غارم عن حماد بن زيد وقال النووي في شرح مسلم إنه الصحيح قال ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلى من السائلة والمتعففة أولى من السائلة انتهى قال الحافظ في الفتح وأما رواية عبد الوارث فلم أقف عليها موصولة وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ واليد العليا المعطى وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ المتعففة فقد صحف كذا في الغاية قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي بهذا اللفظ اليد العليا المنفقة والسفلى السائلة وروي عن الحسن البصري أن السفلى الممسكة المانعة انتهى
[ 46 ]
(مالك بن نضلة) ويقال ابن عوف بن نضلة والد أبي الأحوص صحابي قليل الحديث كذا في التقريب (الأيدي ثلاثة) وأخرج الطبراني بإسناد قال الحافظ صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا يد الله فوق يد المعطي ويد المعطي فوق يد المعطى ويد المعطى أسفل الأيدي وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعا مثله ولابن خزيمة من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك عن أبيه مثل رواية المؤلف ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي اليد المعطية هي العليا والسائلة هي السفلى وروى علي بن عاصم عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود مرفوعا الأيدي ثلاثة يد الله العليا ويد المعطي التي تليها ويد السائل إلى يوم القيامة قال البيهقي تابع عليا إبراهيم بن طهمان عن الهجري على رفعه ورواه جعفر بن عون عن الهجري فوقفه وقال الحاكم حديث محفوظ مشهور وخرجه قال الحافظ العراقي الصواب أن العليا هي المعطية كما تشهد بذلك الأحاديث الصحيحة (فأعط الفضل) هو المال للمستحقين (ولا تعجز) بلا النهي من باب ضرب (عن نفسك) أي عن رد نفسك إذا منعتك عن الإعطاء وقال المناوي في شرح الجامع فأعط الفضل أي الفاضل عن نفسك وعن من تلزمك مؤنته وقوله ولا تعجز عن نفسك بفتح التاء وكسر الجيم أي لا تعجز بعد عطيتك عن مؤنة نفسك ومن عليك مؤنته بأن تعطي مالك كله ثم تعول على السؤال انتهى كذا في الغاية قال المنذري في هذا الحديث أن الأيدي ثلاثة وذهب المتصوفة إلى أن اليد العليا هي الآخذة لأنها نائبة عن يد الله تعالى وما جاء في الحديث الصحيح من التفسير مع مهم القصد من الحث على الصدقة أولى وفيه ندب إلى التعفف عن المسألة وحض على معالي الأمور وترك دنيها وقال وفيها أيضا حث على الصدقة انتهى 29 الصدقة على بني هاشم وبنو هاشم هم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد
[ 47 ]
المطلب وهاشم هو عبد ابن مناف بن قصي بن كلاب بن مرة (عن ابن أبي رافع) هو عبيدالله كاتب علي قاله العيني وثقه أبو حاتم (عن أبي رافع) مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بعث رجلا على الصدقة) أي أرسله ساعيا ليجمع الزكاة ويأتي بها إليه فلما أتى أبا رافع في طريقه (فقال لأبي رافع اصحبني) أي ائت معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم (فإنك تصيب منها) أي من الصدقة بسبب ذهابك معي أو بأن أقول له ليعطي نصيبك من الزكاة والظاهر أنه طلب منه المرافقة والمصاحبة والمعاونة عند السفر لا بعد الرجوع كما يدل عليه جوابه (قال) أبو رافع (فأسأله) أي لا أصحبك حتى أجئ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنه أو أسأله هل يجوز لي أم لا (فسأله) عن ذلك (فقال مولى القوم) أي عتقاؤهم (من أنفسهم) أي فحكمهم كحكمهم (وإنا لا تحل لنا الصدقة) فكيف تحل لمواليهم وهذا دليل لمن قال بحرمة الصدقة على موالي من تحرم الصدقة عليه قال الخطابي أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا خلاف بين المسلمين أن الصدقة لا تحل دله وكذلك بنو هاشم في قول أكثر العلماء وقال الشافعي لا تحل الصدقة لبني عبد المطلب لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاهم من سهم ذوي القربى وأشركهم فيه مع بني هاشم ولم يعط أحدا من قبائل قريش غيرهم وتلك العطية عوض عوضوه بدلا عما حرموه من الصدقة فأما موالي بني هاشم فإنه لاحظ لهم في سهم ذوي القربى فلا يجوز أن يحرموا الصدقة ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيها له وقال مولى القوم على سبيل التشبه للاستنان بهم والاقتداء بسيرتهم في اجتناب ما الصدقة التي هي أوساخ الناس ويشبه أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قد كان تكفيه المؤنة إذ كان أبو رافع مولى له وكان يتصرف له في الحاجة والخدمة فقال له على هذا المعنى إذا كنت تستغني بما أعطيت فلا تطلب أوساخ الناس فإنك مولانا ومنا انتهى وقال النووي تحريم الزكاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب وعلى آله هذا مذهب الشافعي وموافقيه أن آله صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم وبنو المطلب وبه قال بعض المالكية وقال أبو حنيفة ومالك هم بنو هاشم خاصة وقال بعض العلماء هم قريش كلها وقال أصبغ المالكي هم بنو قصي دليل الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بني هاشم وبني المطلب شئ واحد وقسم بينهم سهم ذوي القربى انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح هذا آخر كلامه وهذا الرجل الذي بعث
[ 48 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأرقم بن الأرقم ابن القرشي المخزومي بين ذلك الخطيب والنسائي وكان من المهاجرين الأولين وكنيته أبو عبد الله وهذا الذي استخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بمكة في أسفل الصفا حتى كملوا الأربعين رجلا آخرهم عمر بن الخطاب وهي التي تعرف بالخيزران وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه إبراهيم وقيل أسلم وقيل ثابت وقيل هرمز انتهى كلامه (بالتمرة العائرة) بالمهملة أي الساقطة لا يعرف مالكها من عار يعير يقال عار الفرس يعير إذا أطلق من مربطه مارا على وجهه قال الخطابي العائرة هي الساقطة على وجه الأرض ولا يعرف من صاحبها ومن هذا قيل قد عار الفرس إذا انفلت عن صاحبه وذهب على وجهه ولم يرتع (أن تكون) أي التمرة (صدقة) من تمر الصدقة وهذا أصل في الورع وفيه دليل على أن التمر ونحوها من الطعام إذا وجدها ا لإنسان ملقاة في طريق ونحوها أن له أخذها وأكلها إن شاء وأنها ليست من جملة اللقطة التي حكمها التعريف لها انتهى (وجد تمرة) في الطريق ملقاة (لأكلتها) تعظيما لنعمة الله تعالى والحديث يدل على جواز أكل ما وجد في الطريق من الطعام القليل الذي لا يطالبه مالكه كما تقدم آنفا من كلام الخطابي وعلى أن الأولى بالمتقي أن يجتنب عما فيه تردد قال المنذري أخرجه مسلم (رواه هشام) الدستوائي (عن قتادة هكذا) أي كما رواه خالد ابن قيس عن قتادة والفرق بين رواية هشام وخالد ورواية حماد بن سلمة أن حمادا لم يجعل الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جعله من فهم أنس وأما خالد وهشام فجعلاه مرفوعا من قول النبي صلى الله عليه وسلم ورواية هشام أخرجها مسلم من طريق معاذ عن أبيه
[ 49 ]
(في إبل أعطاها إياه) أي عباس بن عبد المطلب (من الصدقة) قال أبو سليمان الخطابي لا أدري ما وجهه والذي لا أشك فيه أن الصدقة محرمة على العباس والمشهور أنه أعطاه من سهم ذي القربى من الفئ ويشبه أن يكون ما أعطاه من إبل الصدقة إن ثبت الحديث قضاء عن سلف كان استلفه أنه منه لأهل الصدقة فقد روي أنه شكا إليه العباس رضي الله عنه في منع الصدقة فقال هي علي ومثلها كأنه كان قد تسلف منه صدقة عامين فردها أو رد صدقة أحد العامين عليه لما جاءته إبل الصدقة فروى من رواه على الاختصار من غير ذكر السبب انتهى كلامه وقال البيهقي هذا الحديث لا يحتمل إلا معنيين أحدهما أن يكون قبل تحريم الصدقة على بني هاشم فصار منسوخا وآخر أن يكون استسلف من العباس للمساكين إبلا ثم ردها عليه من إبل الصدقة انتهى وقال النووي وأما صدقة التطوع فللشافعي فيها ثلاثة أقوال أصحها أنها تحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحل لآله والثاني تحرم عليه وعليهم والثالث تحل له ولهم وأما موالي بني هاشم وبني المطلب فهل تحرم عليهم الزكاة فيه وجهان لأصحابنا أصحها تحرم الثاني تحل وبالتحريم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين وبعض المالكية وبالإباحة قال مالك وادعى ابن بطال المالكي أن الخلاف إنما هو موالي بني هاشم وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالإجماع وليس كما قال بل الأصح تحريمها على موالي بني هاشم وبني المطلب ولا فرق بينهما والله أعلم قال المنذري وأخرجه النسائي (زاد) أي أبو عبيدة عن الأعمش في روايته هذه الجملة (أبي) بالباء الموحدة بين الألف والياء التحتانية أي عباس بن عبد المطلب (يبدلها) بصيغة المضارع والضمير المنصوب يرجع إلى الإبل هكذا في بعض النسخ أبي يبدلها وفي بعضها أي يبدلها بحرف التفسير وفي بعضها أن يبدلها بأن المصدرية وفي بعضها أتى بصيغة المتكلم من الاتيان ويبدلها بحرف الباء الجارة والبدل مصدر فهذه الأربعة النسخ التي وقفت عليها في هذه الجملة ولم يترجح لي
[ 50 ]
واحد منها من الأخرى والمعنى أن عبد الله بن العباس يقول إن أبي العباس أرسلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يبدل الإبل التي أعطاها العباس من إبل الصدقة فقوله من الصدقة متعلق بأن يبدل لا بقوله أعطاها بل أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك من غير الصدقة فلما جاءت إبل الصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أراد عباس أن يبدل تلك الإبل من إبل الصدقة فعلى رواية أبي عبيدة لا حاجة إلى التأويل المذكور من كلام الإمامين الخطابي والبيهقي والله أعلم كذا في غاية المقصود الفقير يهدي للغني من الصدقة (أتي) بضم الهمزة مبنيا للمفعول (بلحم) أي بلحم الشاة (تصدق به) بضم أوله وثانيه (على بريرة) مولاة عائشة (فقال هو) أي اللحم المتصدق به على بريرة (لها صدقة ولنا هدية) قال ابن مالك يجوز في صدقة الرفع على أنه خبر هو ولها صفة قدمت فصارت حالا ويجوز النصب فيها على الحال والخبر لها انتهى والصدقة منحة لثواب الآخرة والهدية تمليك الغير شيئا تقربا إليه وإكراما له ففي الصدقة نوع ذل للآخذ فلذلك حرمت الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم دون الهدية وقيل لأن الهدية يثاب عليها في الدنيا فتزول المنة والصدقة يراد بها ثواب الآخرة فتبقى المنة ولا ينبغي لنبي أن يمن عليه غير الله وقال البيضاوي إذا تصدق على المحتاج بشئ ملكه وصار له كسائر ما يملكه فله أن يهدي به غيره كما له أن يهدي سائر أمواله بلا فرق ذكره القسطلاني قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي 31 من تصدق بصدقة ثم ورثها (بوليدة) أي الجارية الحديثة السن (وإنها) أي أمي (تلك الوليدة) فهل آخذها وتعود في
[ 51 ]
ملكي أم لا (وجب أجرك) أي ثبت (ورجعت إليك في الميراث) أي ردها الله عليك بالميراث وصارت الجارية ملكا لك بالإرث وعادت إليك بالوجه الحلال والمعنى أن ليس هذا من باب العود في الصدقة لأنه ليس أمرا اختياريا قال ابن الملك أكثر العلماء على أن الشخص إذا تصدق بصدقة على قريبة ثم ورثها حلت له وقيل يجب صرفها إلى فقير لأنها صارت حقا لله تعالى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه في حقوق المال (قال كنا نعد الماعون) أي في قوله تعالى ويمنعون الماعون وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال هي الزكاة وهو قول ابن عمر وقتادة والحسن والضحاك وقال عبد الله بن معسود الماعون الفأس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال مجاهد الماعون العارية وقال عكرمة أعلاها الزكاة المعروفة وأدناها عارية المتاع قال محمد بن كعب والكلبي الماعون المعروف الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم وقيل أصل الماعون من القلة فسمى الزكاة والصدقة والمعروف ماعونا لأنه قليل من كثير وقيل الماعون ما لا يحل المنع منه مثل الماء والملح والنار كذا في المعالم (قال ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه) قال القاضي عياض اختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن وفي الحديث فقال أكثرهم هو كل مال وجبت فيه صدقة الزكاة فلم تؤد فأما مال خرجت زكاته فليس بكنز واتفق أئمة الفتوى على هذا القول لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا تؤدى زكاته وفي صحيح مسلم من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع وفي آخره فيقول أنا كنزك وفي لفظ لمسلم بدل قوله ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤيد منهما حقهما (يحمى عليها) بصيغة المجهول والجار والمجرور نائب
[ 52 ]
الفاعل أي يوقد عليها ذات حمى وحر شديد من قوله تعالى نار حامية ففيه مبالغة ليست في أحميت في نار والضمير في عليها راجع إلى الكنز لكونه عبارة عن الدراهم والدنانير (في نار جهنم) يشتد حرها (فتكوى بها) أي بتلك الدراهم (جبهته وجنبه وظهره) قيل لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة لاشتمالها على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد (حتى يقضي الله) أي يحكم (في يوم) هو يوم القيامة (كان مقداره الخ) أي على الكافرين ويطول على بقية العاصين بقدر ذنوبهم وأما المؤمنون الكاملون فلا يطول عليهم قال الله تعالى يوم عسير على الكافرين غير يسير (ثم يرى) على صيغة المجهول من الرؤية أو اراءة (سبيله) مرفوع على الأول ومنصوب بالمفعول الثاني على الثاني قال النووي رحمه الله ضبطناه بضم الياء وفتحها وبرفع لام سبيله ونصبها وفيه إشارة إلى أنه مسلوب الاختيار يومئذ مقهور لا يقدر أن يروح إلى النار فضلا عن الجنة حتى يعين له أحد السبيلين (إما إلى الجنة) إن لم يكن له ذنب سواه وكان العذاب تكفيرا له (وإما إلى النار) إن كان على خلاف ذلك وفيه رد على من يقول إن الآية مختصة بأهل الكتاب لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب مع أنه لا دلالة في الحديث على خلوده في النار وقيل في توجيهه إما إلى الجنة إن كان مؤمنا بأن لم يستحل ترك الزكاة وإما إلى النار إن كان كافرا بأن استحل تركها (أوفر ما كانت) أي أكثر عددا وأعظم سمنا وأقوى قوة يريد به كمال حال الغنم التي وطئت صاحبها في القوة والسمن ليكون أثقل لوطئها (فيبطح) أي يلقى ذلك الصاحب على وجهه (لها) أي لتلك الغنم (بقاع قرقر) في النهاية القاع المكان المستوي الواسع والقرقر المكان المستوي فيكون صفة مؤكدة وقيل الأملس المستوي من الأرض (فتنطحه) بفتح الطاء وتكسر في القاموس نطحه كمنعه وضربه أصابه بقرنه (بقرونها) إما تأكيد وإما تجريد (بأظلافها) جمع ظلف وهو للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس (عقصاء) بفتح العين وسكون القاف أي الملتوية القرون (ولا جنحاء وهو) بجيم مفتوحة ثم لام ساكنة ثم حاء مهملة التي لا قرن لها قال الخطابي وإنما اشترط نفي العقص والالتواء في
[ 53 ]
قرونها ليكون أنكى لها وأدنى أن تحوز في النطوح (بأخفافها) أي بأرجلها والحديث يدل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والإبل والغنم وقد زاد مسلم في هذا الحديث ولا صاحب بقر الخ قال النووي وهو أصح حديث ورد في زكاة البقر وقد استدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل لما وقع في رواية لمسلم عند ذكر الخيل ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها وتأول الجمهور هذا الحديث على أن المراد يجاهد بها وقيل المراد بالحق في رقابها الإحسان إليها والقيام بعلفها وسائر مؤنها والمراد بظهورها إطراق فحلها إذا طلبت عاريته وقيل المراد حق الله مما يكسبه من مال العدو على ظهورها وهو خمس الغنيمة (نحوه) أي نحو حديث سهيل بن أبي صالح (قال) أي زيد بن أسلم عن أبي صالح (في قصة الإبل) والحديث أخرجه مسلم بهذا اسناد ولفظه قيل يارسول الله فالإبل قال ولا صاحب الإبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها الحديث (حلبها) قال النووي بفتح اللام هي اللغة المشهورة وحكى سكونها وهو غريب ضعيف وإن كان هو القياس (يوم وردها) بكسر الواو الماء الذي ترد عليه قال النووي قيل الورد الإتيان إلى الماء ونوبة الإتيان إلى الماء فإن الإبل تأتي الماء في كل ثلاثة أو أربعة وربما تأتي في ثمانية قال الطيبي ومعنى حلبها يوم وردها أن يسقى ألبانها المارة وهذا مثل نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجذاذ بالليل أراد أن يصرم بالنهار ليحضرها الفقراء وقال ابن الملك وحصر يوم الورد لاجتماعهم غالبا على المياه وهذا على سبيل الاستحباب وقيل معناه ومن حقها أن يحلبها في يوم شربها الماء دون غيره لئلا يلحقها مشقة العطش ومشقة الحلب واعلم أن ذكره وقع استطرادا وبيانا لما ينبغي أن يعتني به من له مروءة لا لكون التعذيب يترتب عليه أيضا لما هو مقرر من أن العذاب لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم اللهم إلا أن يحمل على وقت القحط أو حالة الاضطرار وقيل يحتمل أن التعذيب عليهما معا تغليظ قاله علي القاري في المرقاة
[ 54 ]
(عن أبي عمر الغداني) قال في التقريب أبو عمر ويقال أبو عمر والغداني بضم المعجمة وتخفيف الدال البصري مقبول ووهم من قال اسمه يحيى بن عبيد انتهى والغداني نسبة إلى غدانة بن يربوع كذا في المغني قال المنذري وأخرجه مسلم وأخرجه البخاري مختصرا بنحوه من حديث الأعرج عن أبي هريرة (قال تعطى الكريمة) أي النفيسة (وتمنح الغزيرة) بتقديم المجمة على المهملة أي الكثيرة اللبن والمنيحة الشاة اللبون أو الناقة ذات الدر تعار لدرها فإذا حلبت ردت إلى أهلها (تفقر الظهر) بضم أوله أي تعيره للركوب يقال أفقرت الرجل بعيره يفقره إفقارا إذ أعرته إياه ليركبه ويبلغ عليه حاجته قال الخطابي إفقار الظهر إعارته للركوب يقال (أفقرت) الرجل بعيري إذا أعرته ظهره ليركبه ويبلغ حاجته (وتطرق الفحل) أي تعيره للضراب قال الخطابي وإطراق الفحل عاريته للضراب لا يمنعه إذ طلبه ولا يأخذ عليه أجرا ويقال طرق الفحل الناقة فهي مطروقة وهي طروقة الفحل إذا حان لها أن تطرق انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي (وإعارة دلوها) أي ضرعها والحديث أخرجه مسلم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ثم قال وقال أبو الزبير سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول ثم سألنا جابر بن عبد الله عن ذلك فقال مثل قول عبيد بن عمير انتهى من صحيح مسلم قال المنذري وهذا مرسل عبيد بن عمير ولد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع من عمر بن الخطاب وغيره معدود في كبار التابعين ولأبيه صحبة
[ 55 ]
(من كل جاد) بالجيم والدال المهملة هكذا في عامة النسخ وهو الصحيح وقال السيوطي والسندي بالجيم والدال المجمة من جذ بتشديد الذال إذا قطع ومن زائدة وقيل المراد قدر من النخل يجذ منه عشرة أوسق فهو فاعل بمعنى مفعول انتهى كلامهما بتغير قلت جاد مضاف إلى عشرة أوسق وبقنو صلى الله عليه وسلم متعلق بأمر والجاد بمعنى المجدود أي نخل يجد يعني يقطع من ثمرته عشرة أوسق قال الأصمعي يقال لفلان أرض جاد مائة وسق أي تخرج مائة وسق إذا زرعت وهو كلام عربي كذا في اللسان وقال ابن الأثير الجداد بالفتح والكسر صرام النخل وهو قطع ثمرتها يقال جد الثمرة يجدها جدا ومنه الحديث أنه أوصى بجادمائة وسق للأشعريين وبجاد مائة وسق عنها للشيبيين إذا الجاد بمعنى المجدود أي نخل يجد منه ما يبلغ مائة وسق ومنه من ربط فرسا فله جاد مائة وخمسين وسقا ومنه حديث أبي بكر قال لعائشة إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا انتهى وفي جامع الأصول تعني عائشة رضي الله عنها أنه كان وهبها في صحته نخلا يقطع منه في كل صرام عشرون وسقا (بقنو يعلق) متعلق بأمر قال الخطابي أراد بالقنو العذق بما عليه من الرطب والبسر يعلق للمساكين يأكلونه وهذا من صدقة المعروف دون الصدقة التي هي فرض وواجب انتهى وقنو بالفارسية خوشه خرما وحاصل المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل نخل يقطع من ثمرته عشرة أوسق من التمر بالعذق بما عليه من الرطب والبسر يعلق للمساكين يأكلونه والله أعلم كذا في غاية المقصود (فجعل يصرفها) قال السندي أي متعرضا لشئ يدفع به حاجته والأقرب أن الناقة أعجزها فقال السير فأراد أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيعطيه غيرها (فليعد به) من العود أي فليقبل له
[ 56 ]
وليحسن على من لا ظهر له هكذا في فتح الودود قال المنذري وأخرجه مسلم والذين يكنزون الذهب والفضة أي يجمعونها أو يدفنونها (كبر) بضم الباء أي شق وأشكل (ذلك) أي ظاهر الآية من العموم (على المسلمين) لأنهم حسبوا أنه يمنع جمع المال مطلقا وإن كل من تأثل مالا جل أو قل فالوعيد لاحق به (أنا أفرج) بتشديد الراء أي أزيل الغم والحزن (عنكم) إذ ليس في الدين من حرج (فانطلق) أي فذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض النسخ فانطلقوا (إنه) أي الشأن (كبر) أي عظم (هذه الآية) أي حكمها والعمل بها لما فيها من عموم منع الجمع (إلا ليطيب) من التفعيل أي ليحل الله بأداء الزكاة لكم (ما بقي من أموالكم) قال الله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ومعنى التطييب أن أداء الزكاة إما أن يحل ما بقي من ماله المخلوط بحق الفقراء وإما أن يزكيه من تبعة ما لحق به من إثم منع حق الله تعالى وحاصل الجواب أن المراد بالكنز منع الزكاة لا الجمع مطلقا (وإنما فرض المواريث) عطف على قوله إن الله لم يفرض الزكاة كأنه قيل إن الله لم يفرض الزكاة إلا لكذا أو لم يفرض المواريث إلا ليكون طيبا لمن يكون بعدكم والمعنى لو كان الجمع محظورا مطلقا لما افترض الله الزكاة ولا الميراث (لتكون) أي وإنما فرض المواريث لتكون المواريث لمن بعدكم (فقال) أي ابن عباس (فكبر عمر) أي قال الله أكبر فرحا بكشف الحال ورفع الإشكال ثم (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (له) أي لعمر (ألا أخبرك) يحتمل أن يكون ألا للتنبيه وأن تكون الهمزة استفهامية ولا نافية (بخير ما يكنز المرء) أي بأفضل ما يقتنيه ويتخذه لعاقبته (المرأة الصالحة) أي الجميلة ظاهرا وباطنا قال الطيبي المرأة مبتدأ والجملة الشرطية خبره ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة الشرطية بيان قيل فيه إشارة إلى أن هذه المرأة أنفع من الكنز المعروف فإنها خير ما يدخرها الرجل لأن النفع فيها أكثر لأنه (إذا نظر) أي الرجل (إليها سرته) أي جعلته مسرورا لجمال صورتها وحسن سيرتها وحصول حفظ الدين بها (وإذا أمرها) بأمر شرعي أو عرفي (أطاعته) وخدمته (وإذا غاب عنها حفظته) قال القاضي لما بين لهم صلى الله عليه وسلم
[ 57 ]
أنه لا حرج عليهم في جمع المال وكنزه ما داموا يؤدون الزكاة ورأى استبشارهم به رغبهم عنه إلى ما هو خير وأبقى وهي المرأة الصالحة الجميلة فإن الذهب لا ينفعك إلا بعد ذهاب عنك وهي ما دامت معك تكون رفيقتك تنظر إليها فتسرك وتقضي عند الحاجة إليها وطرك وتشاورها فيما يعن لك فتحفظ عليك سرك وتستمد منها في حوائجك فتطيع أمرك وإذا غبت عنها تحامي مالك وتراعي عيالك ذكره في المرقاة 33 حق السائل (للسائل حق وإن جاء على فرس) فيه الأمر بحسن الظن بالمسلم الذي امتهن نفسه بذل السؤال فلا يقابله بسوء الظن به واحتقاره بل يكرمه بإظهار السرور له ويقدر أن الفرس التي تحته عارية أو أنه ممن يجوز له أخذ الزكاة مع الغنى كمن تحمل حمالة أو غرم غرما صلاح ذات البين أو يكون من أصحاب سهم السبيل فيباح له أخذها مع الغنى عنها قال السيوطي في مرقاة الصعود وقد انتقد الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح أحاديث وزعم أنها موضوعة ورد عليه الحافظ العلائي في كراسة ثم أبو الفضل بن حجر منها هذا الحديث قال العلائي أما الطريق الأولى فإنها حسنة مصعب وثقه ابن معين وغيره قال فيه أبو حاتم صالح ولا يحتج به وتوثيق الأولين أولى بالاعتماد ويعلى بن أبي يحيى قال فيه أبو حاتم مجهول ووثقه ابن حبان فعنده زيادة علم على من لم يعلم حاله وقد أثبت أبو عبد الله محمد بن يحيى بن الحذاء سماع الحسين عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو علي ابن السكن وأبو القاسم البغوي وغيرهما كل رواياته مراسيل فعلى هذا هي مرسل صحابي وجمهور العلماء على الاحتجاج بها فأما على الرواية الثانية فقد بين فيها أنه سمع ذلك من أبيه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وزهير بن معاوية متفق على الاحتجاج به ولكن شيخه لم يسمه والظاهر أنه يعلى بن أبي يحيى المتقدم وبالجملة الحديث حسن ولا يجوز نسبته إلى الوضع انتهى قلت وروينا هذا
[ 58 ]
الحديث بالسند المسلسل في أربعين أهل البيت للشيخ ولي الله الدهلوي رحمه الله وقال المنذري في إسناده يعلى بن أبي يحيى سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال مجهول وقال أبو علي سعيد بن السكن قد روي من وجوه صحاح حضور الحسين بن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعبه بين يديه وتقبيله إياه فأما الرواية التي تأتي عن الحسين بن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلها مراسيل وقال أبو القاسم البغوي في معجمه نحوا من ذلك وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى ابن الحذاء سمع النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولم يكن بينه وبين أخيه الحسن الأطهر واحد انتهى (أم بجيد) بضم الموحدة وفتح الجيم اسمها حواء بنت يزيد بن السكن (ليقوم على بابي) أي يسأل شيئا مني ويكرر سؤاله عني حتى استحيى (إلا) ظلفا بالكسر أي ولو كان ما يدفع به ظلفا وهو للبقر والشاة والظبي وشبهه بمنزلة القدم منا كالحافر للفرس والبغل والخف للبعير يعني شيئا يسيرا (محرقا) من الإحراق أراد المبالغة في رد السائل بأدنى ما تيسر ولم يرد صدور هذا الفعل من المسؤول منه فإن الظلف المحرق غير منتفع به إلا إذا كان الوقت زمن القحط قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن صحيح 34 الصدقة على أهل الذمة (قدمت علي أمي راغبة) بالباء طامعة طالبة صلتي (في عهد قريش) وهو صلح الحديبية وفي لفظ لمسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قلت يارسول الله قدمت علي أمي وهي مشركة
[ 59 ]
في عهد قريش إذ عاهدهم فاستفتيت الحديث (وهي راغمة) بالميم معناه كارهة للإسلام ساخطة علي وفيه جواز صلة القريب المشرك وأم أسماء قتلة وقيل قتيلة بالقاف وتاء مثناة من فوق واختلف العلماء في أنها أسلمت أم ماتت على كفرها والأكثرون على موتها مشركة قاله النووي قال الخطابي وهي راغمة معناه كارهة للإسلام ساخطة علي تريد أنها لم تقدم مهاجرة راغبة في الدين كما كان يقدم المسلمون من مكة للهجرة والإقامة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أمر بصلتها لأجل الرحم فأما دفع الصدقة الواجبة إليها فلا يجوز وإنما هي حق للمسلمين لا يجوز صرفها إلى غيرهم ولو كانت أمها مسلمة ولم يكن أيضا يجوز لها إعطاؤها الصدقة فإن حلتها مسدودة بوجوب النفقة لها على ولدها إلا أن تكون غارمة فتعطي من سهم الفقراء والمساكين فلا وكذلك إذا كان الوالد غازيا جاز للولد أن يدفع إليه من سهم السبيل قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم 35 ما لا يجوز منعه (بهيسة) بضم الموحدة وفتح الهاء قال في التقريب هي الفزارية لا تعرف ويقال إن لها صحبة (لا يحل منعه قال الماء) أي عند عدم احتياج صاحب الماء إليه وإنما أطلق بناء على وسعه عادة (قال الملح) لكثرة احتياج الناس إليه وبذله عرفا (قال أن تفعل الخير) مصدرية أي فعل الخير جميعه (خير لك) لقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره والخير لا يحل لك منعه فهذا تعميم بعد تخصيص وإيماء إلا أن قوله لا يحل بمعنى لا ينبغي قال المنذري و أخرجه النسائي
[ 60 ]
المسألة في المساجد (فإذا أنا بسائل يسأل) قال السيوطي الحديث فيه استحباب الصدقة على من سأل في المسجد ذكره النووي في شرح المهذب وغلط من أفتى بخلافه ورددت عليه في مؤلف انتهى كلامه قال المنذري قال أبو بكر البزار وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن أبي بكر إلا بهذا الإسناد وذكر أنه روي مرسلا وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي حازم سلمان الأشجعي عن أبي هريرة بنحوه أتم منه 37 باب كراهية المسألة بوجه الله عزوجل (أبو العباس القلوري) بكسر القاف وتشديد اللام المفتوحة وسكون الواو بعدها راء اسمه أحمد وقيل غير ذلك كذا في التقريب (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) إذا كل شئ أحقر دون عظمته تعالى والتوسل بالعظيم في الحقير تحقير له نعم الجنة أعظم مطلب للإنسان فصار التوسل به تعالى فيها مناسبا وقوله إلا الجنة بالرفع أي لا يسأل بوجه الله شئ إلا الجنة مثل أن يقال اللهم إنا نسألك بوجهك الكريم أن تدخلنا جنة النعيم قال القاري ولا يسأل روى غائبا نفيا ونهيا مجهولا ورفع الجنة ونهيا مخاطبا معلوما مفردا ونصب الجنة وقال الطيبي أي لا تسألوا من الناس شيئا بوجه الله مثل أن تقولوا أعطني
[ 61 ]
شيئا بوجه الله أو بالله فإن اسم الله أعظم من أن يسأل به متاع الدنيا بل اسألوا به الجنة أو لا تسألوا الله متاع الدنيا بل رضاه والجنة والوجه يعبر به عن الذات قال المنذري في إسناده سليمان بن معاذ قال الدارقطني سليمان بن معاذ هو سليمان بن قرم وذكر أبو أحمد بن عدي هذا الحديث في ترجمة سليمان بن قرم وقال هذا الحديث لا أعرفه عن محمد بن المنكدر إلا من رواية سليمان بن قرم وعن سليمان بن يعقوب بن إسحاق الحضرمي وعن يعقوب أحمد بن عمرو العصفري هذا آخر كلامه وهذا الإسناد هو الذي أخرجه أبو داود في سننه وأحمد بن عمرو العصفري هو العباس القلوري الذي روى عنه أبو داود هذا الحديث وسليمان بن قرم تكلم فيه غير واحد انتهى 38 عطية من سأل بالله عز وجل (من استعاذ) أي من سأل منكم الإعاذة مستغيثا (بالله فأعيذوه) قال الطيبي أي من استعاذ بكم وطلب منكم دفع شركم أو شر غيركم قائلا بالله عليك أن تدفع عني شرك فأجيبوه وادفعوا عنه الشر تعظيما لاسم الله تعالى فالتقدير من استعاذ منكم متوسلا بالله مستعطفا به ويحتمل أن يكون الباء صلة استعاذ أي من أستعاذ بالله فلا تتعرضوا له بل أعيذوه وادفعوا عنه الشر فوضع أعيذوا ثنا موضع ادفعوا ولا تتعرضوا مبالغة (فأعطوه) أي تعظيما لاسم الله وشفقة على حق الله (ومن دعاكم) أي إلى دعوة (فأجيبوه) أي إن لم يكن مانع شرعي (ومن صنع إليكم معروفا) أي أحسن إليكم إحسانا قوليا أو فعليا (فكافئوه) من المكافأة أي أحسنوا إليه مثل ما أحسن إليكم لقوله تعالى هل جزاء احسان إلا احسان وأحسن كما أحسن الله إليك (فإن لم تجدوا ما تكافئوا به) أي بالمال والأصل تكافئون فسقط النون بلا ناصب وجازم إما تخفيفا أو سهوا من الناسخين كذا ذكره الطيبي والمعتمد الأول لأن
[ 62 ]
الحديث على الحفظ معول ونظيره كما تكونوا يول عليكم على ما رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة (فادعوا له) أي للمحسن يعني فكافئوه بالدعاء له (حتى تروا) بضم التاء أي تظنوا وبفتحها أي تعلموا أو تحسبوا (أنكم قد كافأتموه) أي كرروا الدعاء حتى تظنوا أن قد أديتم حقه وقد جاء من حديث أسامة مرفوعا من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء رواه النسائي والترمذي وابن حبان فدل هذا الحديث على أن من قال لأحد جزاك الله خيرا مرة واحدة فقد أدى العوض وإن كان حقه كثيرا قال المنذري وأخرجه النسائي باب الرجل يخرج من نصر ينصر (من ماله) فلا يبقى في يده شئ أي من تصدق بماله كله أجمع كيف حكمه (فحذفه) بحاء مهملة وذال معجمة أي رماه (أو لعقرته) أي جرحته (يستكف الناس) قال الخطابي معناه يتعرض للصدقة وهو أن يأخذها ببطن كفه يقال تكفف الرجل واستكف إذا فعل ذلك ومن هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لسعد إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس انتهى قال السيوطي بكسر الكاف وتشديد الفاء أي تعرض للصدقة ومد كفه إليها أو سأل كفا من الطعام أو ما يكف الجوع انتهى (ما كان عن ظهر غنى) قال الخطابي أي
[ 63 ]
عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب التي تنوبه كقوله في حديث آخر خير الصدقة ما أبقت غني وفي الحديث من العلم أن الاختيار للمرء أن يستبقي لنفسه قوتا وألا ينخلع من ملكه أجمع مرة واحدة لما يخاف عليه من فتنة الفقر وشدة نزاع النفس إلى ما خرج من يده فيندم ف يذهب ماله ويبطل أجره ويصير كلا على الناس قال الخطابي ولم ينكر على أبي بكر الصديق خروجه من ماله أجمع لما علمه من صحة نيته وقوة يقينه ولم يخف عليه الفتنة كما خافها على الذي رد عليه الذهب انتهى كلامه وقال السندي عن ظهر غنى أي ما يبقى خلفها غنى لصاحبه قلبي كما كان للصديق أو قالبي فيصير الغنى للصدقة كالظهر للإنسان وراء الإنسان فإضافة الظهر إلى الغنى بيانية لبيان أن الصدقة إذا كانت بحيث يبقى لصاحبها الغنى بعدها إما لقوة قلبه أو لوجود شئ بعدها يستغني به عما تصدق فهو أحسن وإن كانت بحيث يحتاج صاحبها بعدها إلى ما أعطى ويضطر إليه فلا ينبغي لصاحبها التصدق به انتهى وقال في النهاية أي ما كان عفوا قد فضل عن غنى وقيل أراد ما فضل عن العيال والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام وتمكينا كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوي من المال انتهى (فصاح به) أي زجره ولفظ النسائي أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال صلي ركعتين ثم جاء الجمعة الثانية والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال صلي ركعتين ثم جاء الجمعة الثالثة فقال صلي ركعتين ثم قال تصدقوا فتصدقوا فأعطاه ثوبين ثم قال تصدقوا فطرح أحد ثوبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تروا إلى هذا إنه دخل المسجد بهيئة بذة فرجوت أن تفطنوا له فتتصدقوا عليه فلم تفعلوا فقلت تصدقوا فتصدقتم فأعطيته ثوبين ثم قلت تصدقوا فطرح أحد ثوبيه خذ ثوبك وانتهزه قال المنذري وأخرجه النسائي أتم منه وفي إسناده محمد بن عجلان وثقه بعضهم وتكلم فيه بعضهم وقد أخرجه الترمذي بهذا الإسناد بقصة دخول المسجد والإمام يخطب ولم يذكر قصة الثوبين وقال حسن صحيح
[ 64 ]
(إن خير الصدقة ما ترك غنى) قال الخطابي يتأول على وجهين أحدهما أن يترك غنى للمتصدق عليه بأن يجزل له العطية والآخر أن يترك غنى للمتصدق وهو الأظهر لقوله (وابدأ بمن تعول) أي لا تضيع عيالك وتتفضل به على غيرهم قال النووي في شرح صحيح مسلم وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله لأن من تصدق بالجميع يندم غالبا أو قد يندم إذا احتاج ويود أنه لم يتصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا فإنه لا يندم عليها بل يسر بها وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله فمذهبنا أنه يستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر فإن لم يجتمع هذه الشروط فهو مكروه قال القاضي جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله وقيل يرد جمعها وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل ينفذ في الثلث وهو مذهب أهل الشام وقيل إن زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكي عن مكحول قال أبو جعفر الطبري ومع جوازه فالمستحب أن يفعله وأن يقتصر على الثلث وقوله صلى الله عليه وسلم وابدأ بمن تعول فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم وفيه الابتداء بالأهم فالأهم في الأمور الشرعية للقال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي بنحوه وأخرجه مسلم والنسائي من حديث حكيم بن حزام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 40 الرخصة في ذلك أي في جواز التصدق بجميع المال (جهد المقل) قال في النهاية الجهد بالضم الوسع والطاقة وبالفتح المشقة وقيل المبالغة والغاية وقيل هما لغتان في السوع هذا والطاقة فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير ومن المضموم حديث الصدقة أي الصدقة أفضل قال جهد
[ 65 ]
المقل أي قدر ما يحتمله حال القليل المال انتهى والمقل أي الفقير وقليل المال (وابدأ) أيها المتصدق أو المقل (بمن تعول) أي بمن تلزمك نفقته والجمع بين هذا الباب وبين ما تقدم أن الفضيلة تتفاوت بحسب الأشخاص وقوة التوكل وضعف اليقين (فوافق ذلك مالا عندي) أي صادف أمره بالتصدق حصول مال عندي فعندي حال من مال والجملة حال مما قبله يعني والحال أنه كان لي مال كثير في ذلك الزمان (أسبق أبا بكر) أي بالمبارزة أو بالمغالبة (إن سبقته يوما) من الأيام وإن شرطية دل على جوابها ما قبلها أو التقدير إن سبقته يوما فهذا يومه وقيل إن نافية أي ما سبقته يوما قبل ذلك فهو استئناف تعليل (فقلت مثله) أبقيت مثله يعني نصف ماله (بكل ما عنده) من المال (الله ورسوله) مفعول أبقيت أي رضاهما (إلى شئ) من الفضائل (أبدا) لأنه إذا لم يقدر على مغالبته حين كثرة ماله وقلة مال أبي بكر ففي غير هذا الحال أولى أن لا يسبقه ذكره علي القاري قال المنذري وأخرجه الترمذي 41 في فضل سقي الماء (قال الماء) إما لعزته في المدينة في تلك الأيام أو لأنه أحوج الأشياء عادة (إن أم سعد) أراد به نفسه (فأي الصدقة أفضل) أي لروحها ثم (قال الماء) إنما كان الماء أفضل لأنه أعم نفعا في الأمور الدينية والدنيوية خصوصا في تلك البلاد الحارة ولذلك من الله تعالى بقوله وأنزلنا من
[ 66 ]
السماء ماءا طهورا كذا ذكره الطيبي وفي الأزهار الأفضلية من الأمور النسبية وكان هناك أفضل لشدة الحر والحاجة وقلة الماء (فحفر) أي سعد (وقال) أي سعد (هذه لأم سعد) أي هذه البئر صدقة لها قال المنذري وأخرجه النسائي بنحوه من حديث سعيد ومن حديث الحسن البصري وأخرجه ابن ماجه بنحوه من حديث سعيد بن المسيب وهو منقطع فإن سعيد بن المسيب والحسن البصري لم يدركا سعد بن عبادة فإن مولد سعيد بن المسيب سنة خمس عشرة ومولد الحسن البصري سنة إحدى وعشرين وتوفي سعد ابن عبادة بالشام سنة خمس عشرة وقيل سنة أربع عشرة وقيل سنة إحدى وعشرة فكيف انتهى (أيما مسلم) ما زائدة وأي مرفوع على الابتداء (كذا) أي أليس (عري) بضم السكون أي على حاله عري أو لأجل عري أو لدفع عري وهو يشمل عري العورة وسائر الأعضاء (من خضر الجنة) أي من ثيابها الخضر جمع أخضر من باب إقامة الصفة مقام الموصوف وفيه إيماء إلى قوله تعالى يلبسون ثيابا خضرا وفي رواية الترمذي (من حلل الجنة) ولا منافاة (من ثمار الجنة فيه إشارة إلى أن ثمارها أفضل أطعمتها (على ظمأ) بفتحتين مقصورا وقد يمد أي عطش (من رحيق الختوم) أي من خمر الجنة أو شرابها والرحيق صفوة الخمر والشراب الخالص الذي لا غش فيه والمختوم هو المصون الذي لم يبتذل لأجل ختامة ولم يصل إليه غير أصحابه وهو عبارة عن نفاسته وقيل الذي يختتم بالمسك مكان الطين والشمع ونحوه وقال الطيبي هو الذي يختتم أوانيه لنفاسته وكرامته وقيل المراد منه آخر ما يجدون منه في الطعم رائحة المسك من قولهم ختمت الكتاب أي انتهيت إلى آخره قال المنذري في إسناده أبو خالد محمد بن عبد الرحمن المعروف بالدالاني وقد أثنى عليه غير واحد وتكلم فيه غير واحد وتقدم الكلام عليه
[ 67 ]
في المنيحة رسول قال النووي وقع في بعض النسخ منيحة وبعضها منحة بحذف الياء قال أهل العلم اللغة المنحة بكسر الميم والمنيحة بفتحها مع زيادة الياء هي العطية وتكون في الحيوان والثمار وغيرهما وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم منح أم أيمن عذاقا أي نخيلا ثم قد يكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها وهي الهبة وقد تكون عطية اللبن أو التمرة مدة وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها ويردها إليه إذا انقضى اللبن أو التمر المأذون فيه انتهى (وهو أتم) أي حديث مسدد أتم من حديث إبراهيم (عن الأوزاعي) أي إسرائيل وعيسى كلاهما يرويان عن الأوزاعي (أربعون خصلة) بفتح الخاء مبتدأ (أعلاهن) مبتدأ ثان (منيحة العنز) خبر الثاني والجملة خبر الأول والعنز بفتح العين وسكون النون الأنثى من المعز أي عطية شاة ينتفع بلبنها وصوفها ويعيدها (رجاء ثوابها) أي على رجاء ثوابها (وتصديق موعودها) بالإضافة منصوب بنزع الخافض أي على تصديق ما وعد الله ورسوله عليها للعاملين بها (إلا أدخله الله بها) أي بسبب قبوله لها تفضيلا (الجنة) فالدخول بالفضل لا بالعمل ونبه بالأولى على الأعلى كمنحة ولا البقرة والبدنة كذلك بل أفضل قال حسان هو ابن عطية راوي الحديث وهو موصول بالإسناد المذكور قاله العلقمي قال ابن بطال ليس في قول حسان ما يمنع من وجدان ذلك وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبواب من أبواب الخير والبر لا تحصى كثرة ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالأربعين المذكورة وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها وذلك خشية من اقتصار العاملين عليها وزهدهم في غيرها من أبواب الخير قال الحافظ إن بعضهم تطلبها فوجدها تزيد على الأربعين فما زاده إعانة الصانع والصنعة للأخرق وإعطاء شسع النعل والستر على المسلم والذب عنى
[ 68 ]
عرضه وإدخال السرور عليه والتفسح له في المجلس والدلالة على الخير والكلام الطيب والغرس والزرع والشفاعة وعياذة المريض والمصافحة والمحبة في الله والبغض لأجله والمجالسة لله والتزاور والنصح والرحمة وكلها في الأحاديث الصحيحة وفيها ما قد ينازع في كونه دون منيحة العنز وحذفت مما ذكره أشياء قد تعقب ابن المنير بعضها وقال إن الأولى أن لا يعتنى بعدها لما تقدم وقال الكرماني جميع ما ذكره رجم بالغيب ثم من أين عرف أنها أدنى من المنيحة قال الحافظ وإنما أردت بما ذكرته منها تقريب الخمس عشر التي عدها حسان بن عطية وهي إن شاء الله تعالى لا تخرج عما ذكرته ومع ذلك فأنا موافق لابن بطال في إمكان تتبع أربعين خصلة من خصال الخير أدناها منيحة العنز وموافق لابن المنير في رد كثير مما ذكره ابن بطال بما هو ظاهر أنه فوق المنيحة انتهى كلام الحافظ وفي فتح القدير للمناوي وتطلبها بعضهم في الأحاديث فزادت عن الأربعين منها السعي على ذي رحم قاطع وإطعام جائع وسقي ظمآن ونصر مظلوم ونوزع بأن بعض هذه أعلى من المنحة وبأنه رجم بالغيب فالأحسن أن لا يعد لأن حكمة الإبهام أن لا يحتقر شئ من وجوه البر وإن قل كما أبهم ليلة القدر وساعة الإجابة يوم الجمعة انتهى والحديث أخرجه البخاري والعجب من الحافظ المنذري أنه لم ينسبه إلى للبخاري وقال المناوي ووهم الحاكم فاستدركه انتهى والله أعلم (خمسة عشر خصلة) هكذا في جميع النسخ وفي النسختين من المنذري خمس عشرة خصلة وهو الصواب 43 أجر الخازن الخادم الذي يكون بيده حفظ شئ (إن الخازن) وعند الشيخين الخازن المسلم الأمين (ما أمر به) أي من الصدقة ونحوها (كاملا) حال من المفعول أو صفة لمصدر محذوف (موفرا)
[ 69 ]
بفتح الفاء المشددة أي تاما فهو كيد وبكسرها حال من الفاعل أي مكملا عطاؤه (طيبة) أي راضية غير شحيحة (به) أي بالعطاء (حتى يدفعه) عطف على يعطي فالخازن حدثنا مبتدأ وما بعده صفات له وخبره أحد المتصدقين وهذه الأوصاف لابد من اعتبارها في تحصيل أجر الصدقة للخازن فإنه إذا لم يكن مسلما لم تصح منه نية التقرب وإن لم يكن أمينا كان عليه وزر الخيانة فكيف يحصل له أجر الصدقة وإن لم يكن نفسه بذلك طيبة لم يكن له نية فلا يؤجر (أحد المتصدقين) قال القرطبي لم نروه إلا بالتثنية ومعناه أن الخازن بما فعل متصدق وصاحب المال متصدق آخر فهما متصدقان قال ويصح أن يقال على الجمع فتكسر القاف ويكون معناه أنه متصدق من جملة المتصدقين والحديث يدل على أن المشاركة في الطاعة توجب المشاركة في الأجر ومعنى المشاركة أن له أجرا كما أن لصاحبه أجرا وليس معناه أنه يزاحمه في أجره بل المراد المشاركة في الطاعة في أصل الثواب فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب وإن كان أحدهما أكثر ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه فإذا أعطى المالك خازنه مائة درهم أو نحوها ليوصلها إلى مستحق للصدقة على باب داره فأجر المالك أكثر وإن أعطاه رمانة أو رغيفا أو نحوهما حيث ليس له كثير قيمة ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة بحيث يقابل ذهاب الماشي إليه أكثر من الرمانة ونحوها فأجر الخازن أكثر وقد يكون الذهاب مقدار الرمانة فيكون الأجر سواء قال ابن رسلان ويدخل في الخازن من يتخذه الرجل على عياله من وكيل أو عبد وامرأة وغلام ومن يقوم على طعام الضيفان قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي المرأة الخ (إذا أنفقت المرأة) أي تصدقت كما في رواية للبخاري (غير مفسدة) نصب على الحال أي غير مسرفة في التصدق وهذا محمول على إذن الزوج لها بذلك صريحا أو دلالة وقيل هذا جار على عادة أهل الحجاز فإن عاداتهم أن يأذنوا لزوجاتهم وخدمهم بأن يضيفوا الأضياف ويطعموا السائل والمسكين والجيران فحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على هذه العادة الحسنة
[ 70 ]
والخصلة المستحسنة (لا ينقص بعضهم أجر بعض) أي شيئا من النقص أو من الأجر أي من طعام أعد للأكل وجعلت متصرفة وجعلت له خازنا فإذا أنفقت المرأة منه عليه وعلى من يعوله من غير تبذير كان لها أجرها وأما جواز التصدق منه فليس في هذا الحديث دلالة عليه صريحا نعم الحديث الآتي دل على جواز التصدق بغير أمره وقال محي السنة عامة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه وكذا الخادم والحديث الدال على الجواز أخرج على عادة أهل الحجاز يطلقون الأمر للأهل والخادم في التصدق والإنفاق عند حضور السائل ونزول الضيف كما في الصحيح للبخاري لا توعى فيوعى الله عليك قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (جليلة) أي عظيمة القدر أن طويلة القامة (من نساء مضر) وهي قبيلة (إنا كل) بفتح الكاف أي ثقل وعياك ابن (وأرى) أي أظن (فيه) أي في الحديث (فما يحل لنا) أي من غير أمرهم (قال الرطب) بفتح الراء وسكون الطاء ما يسرع إليه الفساد من المرق واللبن والفاكهة والبقول ومثل ذلك وقع فيها للمسامحة بترك الاستئذان جريا على العادة المستحسنة بخلاف اليابس ذكره الطيبي (وتهدينه) أي ترسلينه قوله هدية (الرطب) بفتح الراء وسكون الطاء ضد اليابس (والرطب) بضم الراء وفتح الطاء بالفارسية خرماتر له وهو رطب التمر وكذلك العنب وسائر الفواكه الرطبة دون اليابسة (وكذا رواه) الحديث (الثوري) سفيان كما رواه عبد السلام بن حرب (عن يونس) بن عبيد فتابع سفيان عبد السلام بن حرب وهذه إشارة من المؤلف على أن يونس قد اختلف عليه فالثوري وعبد السلام قد اتفقا في روايتهما والله أعلم
[ 71 ]
(إذا أنفقت المرأة) أي تصدقت (من كسب زوجها) أي من ماله (من غير أمره) أي مع علمها برضى الزوج أو محمول على النوع الذي سومحت فيه من غير إذن (فلها نصف أجره) قيل هذا مفسر بما إذا أخذت من مال زوجها أكثر من نفقتها وتصدقت به فعليها غرم ما أخذت أكثر منها فإذا علم الزوج ورضي بذلك فلها نصف أجره بما تصدقت من نفقتها ونصف أجره له بما تصدقت به أكثر من نفقتها لأن الأكثر حق الزوج قاله القاري قال النووي واعلم أنه لابد في العامل وهو الخازن وفي الزوجة والمملوك من إذن المالك في ذلك فإن لم يكن أذن أصلا فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة بل عليهم وزر بتصرفهم في مال غيرهم بغير إذنه وا ذن ضربان أحدهما اذن الصريح في النفقة والصدقة والثاني اذن المفهوم من اطراد العرف كإعطاء السائل كسرة ونحوهما مما جرت العادة واطراد العرف فيه وعلم بالعرف رضاء الزوج والمالك به فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم وهذا إذا علم رضاه لاطراد العرف وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضاء به فإن اضطرب العرف وشك في رضاه أو كان شحيحا يشح بذلك وعلم من حاله ذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق في ماله إلا بصريح إذنه وأما قوله صلى الله عليه وسلم وما أنفقت من كسبه من غير أمره فلها نصف أجره فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره وذلك الإذن الذي قد بيناه سابقا إما بالصريح وإما بالعرف لابد من هذا التأويل لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر فتعين تأويله واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضاء المالك به في العادة فإن زاد على التعارف لم يجز وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة فأشار صلى الله عليه وسلم أنه قدر يعلم رضى الزوج به في العادة وبينه بالطعام أيضا على ذلك لأنه يسمح به في العادة بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس وفي كثير من الأحوال واعلم أن المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال وغلمانه ومصالحه وقاصديه من ضيف وابن سبيل ونحوهما وكذلك صدقتهم المأذون فيها بالصريح أو العرف والله أعلم انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم انتهى
[ 72 ]
قلت حديث عبد الرزاق بن همام عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة أخرجه البخاري في البيوع عن يحيى بن جعفر وفي النفقات عن يحيى ومسلم في الزكاة عن محمد بن رافع والمؤلف عن الحسن بن علي الخلال كلهم عن عبد الرزاق بالسند المذكور ولفظ مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له والحديث صحيح قوي متصل الإسناد ليس فيه علة اتفق الشيخان على إخراجه والله أعلم (قال لا) أي لا يحل لها التصديق (إلا من قوتها) أي من قوت نفسها وهو ما أعطاها الزوج لتأكل وهذا الذي قاله أبو هريرة هو موقوف عليه لكن أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها قيل يارسول الله ولا الطعام قال ذاك أفضل أموالنا وقال حديث حسن فإن قلت أحاديث هذا الباب جاءت مختلفة فمنها ما يدل على منع المرأة أن تنفق من بيت زوجها إلا بإذنه وهو حديث أبي أمامة المذكور ومنها ما يدل على الإباحة بحصول الأجر لها في ذلك وهو حديث عائشة المذكور ومنها ما قيد فيه الترغيب في الإنفاق بكونه بطيب نفس منه وبكونها غير مفسدة وهو حديث عائشة أيضا ومنها ما هو مقيد بكونها غير مفسدة وإن كان من غير أمره وهو حديث أبي هريرة ومنها ما قيد الحكم فيه بكونه رطبا وهو حديث سعد بن أبي وقاص قلت كيفية الجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف عادات البلاد وباختلاف حال الزوج من مسامحته ورضاه بذلك أو كراهته لذلك وباختلاف الحال في الشئ المنفق بين أن يكون شيئا يسيرا يتسامح به وبين أن يكون له خطر في نفس الزوج يبخل بمثله وبين أن يكون ذلك رطبا يخشى فساده إن تأخر وبين أن يكون يدخر ولا يخشى عليه الفساد قاله العيني (والأجر بينهما) أي بين الزوجين (قال أبو داود هذا) أي حديث أبي هريرة الموقوف (يضعف حديث همام) بن منبه واعلم أن هذه العبارة وجدت في بعض النسخ والأكثر عنها
[ 73 ]
خالية قلت حديث أبي هريرة من طريق همام بن منبه حديث صحيح قوي متصل الإسناد اتفق الشيخان على إخراجه ليس فيه علة فكيف يضعفه حديث أبي هريرة من طريق عطاء الذي هو موقوف والجمع بينهما ممكن بما ذكره النووي في شرح مسلم وتقدم بيانه وهو أنها إذا أنفقت المرأة من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا يحل لها ولا أجر لها بل عليها وزر هذا معنى روايته الموقوفة ويحصل لها نصف الأجر إن كان التصدق من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ولا يكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره وهذا معنى روايته المرفوعة والله أعلم كذا في غاية المقصود 45 في صلة الرحم بفتح الراء وكسر الحاء وذو الرحم هم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء وصلة الرحم كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار والتعطف عليهم والرفق بهم والرعاية لأحوالهم وكذلك إن بعدوا أو أساؤوا وقطع الرحم ضد ذلك كله يقال وصل رحمه يصلها وصلا وصلة والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر كذا في النهاية (لما نزلت) أي هذه الآية (لن تنالوا البر) أي الجنة قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقيل التقوى وقيل الطاعة وقيل الخير وقال الحسن لن تكونوا أبرارا حتى تنفقوا مما تحبون أي من أحب أموالكم إليكم (قال أبو طلحة) الأنصاري زوج أم أنس بن مالك (أرى) أي أظن (بأريحاء) قال في النهاية هذه اللفظة كثيرا ما تختلف ألفاظ المحدثين فيها فيقولون بيرحا بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيهما وبفتحهما والقصر وهي اسم مال وموضع بالمدينة وقال الزمخشري في الفائق إنها فيعلى من البراح وهي الأرض الظاهرة انتهى كلام ابن الأثير وقال العيني قال التيمي وبيرحا بستان وكانت بساتين المدينة تدعى
[ 74 ]
بالإبار التي فيها أي البستان التي فيه بئر حا أضيف البئر إلى حا ويروي بيرحا بفتح الباء وسكون التحتية وفتح الراء هو اسم مقصور فهو كلمة واحدة لا مضاف ولا مضاف إليه وفي معجم أبي عبيد حا على لفظ حرف الهجاء موضع بالشام وحا آخر موضع بالمدينة وهو الذي ينسب إليه بئر حا ورواه حماد بن سلمة عن ثابت أريحا خرجه أبو داود ولا أعلم أريحا إلا بالشام انتهى كلامه مختصرا (له) أي لربنا قال الخطابي إن الحبس إذا وقع أصله منها ولم يذكر المحبس حصر فيها بعد موته فإن مرجعها يكون إلى أقرب الناس من قبيلته وقياس ذلك فيمن وقفها على رجل فمات الموقف عليه وبقي الشئ محبس الأصل غير مبين السبيل أن يوضع في أقاربه وأن يتوخى في ذلك الأقرب فالأقرب ويكون في التقدير كأن الواقف قد شرطه له وهذا يشبه معنى قول الشافعي وقال المزني يرجع إلى أقرب الناس به إذا كان فقيرا وقصة أبي بن كعب تدل على أن الفقير والغني في ذلك سواء وقال الشافعي كان أبي يعد من مياسير الأنصار وفيه دلالة على جواز قسم الأرض الموقوفة بين الشركاء وأن للقسم مدخلا فيما ليس بمملوك الرقبة وقد يحتمل أن يكون أريد بهذا القسم قسمة ريعها دون رقبتها وقد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قسمة أحباس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين علي والعباس رضي الله عنهما لما جاءاه يلتسمان ذلك ذلك انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وليس في حديثهما كلام الأنصاري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أتم منه وفيه حب الرجل الصالح للمال وإباحة دخول بساتين الإخوان والأكل من ثمارها والشرب من مائها بغير إذن وفيه مدح صاحب الصدقة الجزلة وفيه أن الحبس المطلق جائز وحقه أن يصرف في جميع وجوه البر وفيه أن الصدقة على الأقارب وأولى الأرحام أفضل انتهى (فقسمها) أي قسم أبو طلحة أرضه (عن الأنصاري) هو (محمد بن عبد الله) المثنى البصري القاضي من التاسعة (قال) محمد بن عبد الله الأنصاري في بيان قرابة أبي طلحة بين أبي وحسان فذكر أولا نسب أبي طلحة (أبو طلحة زيد بن سهل) هو اسم أبي طلحة (ابن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار) هكذا في نسخ الكتاب وهكذا في أسد الغابة والذي في الإصابة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عمرو بن مالك بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي (وحسان بن ثابت
[ 75 ]
بن المنذر بن حرام) بن عمرو بن زيد مناة (يجتمعان) أي أبو طلحة وحسان (إلى حرام وهو) أي حرام (الأب الثالث) لأبي طلحة وحسان بن ثابت (وأبي بن كعب بن قيس بن عتيك الخ) هكذا في نسخ الكتاب والذي في أسد الغابة والإصابة أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار انتهى (فعمرو) بن مالك (يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا) أي كلهم من أولاد عمرو بن مالك (بين أبي وأبي طلحة ستة آباء) فعمرو بن مالك أب سادس لأبي بن كعب وأب سابع لأبي طلحة وكلام الأنصاري يشير بأن عمرا أب سادس لأبي طلحة أيضا وهذه منه مسامحة نعم على ما في الإصابة يصير عمرو بن مالك أبا سادسا لأبي طلحة أيضا فيستقيم كلام الأنصاري والله أعلم وفيه دليل واضح على أن في صلة الأرحام كما تعتبر وتلاحظ القرابة القريبة كذا تعتبر القرابة البعيدة أيضا كذا في غاية المقصود (كانت لي جارية) أي مولودة مملوكة في ملكي (آجرك الله) بالمد والقصر أي أعطاك الله جزاء عملك (أخوالك) جمع الخال لأنهم كانوا محتاجين إلى خادم من ضيق الحال (كان أعظم لأجرك) لأن في إعطائها صلة الرحم والصدقة وفي الإعتاق الصدقة فقط قال المنذري وأخرجه النسائي وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي من حديث كريب عن ميمونة رضي الله عنها (عندي دينار) أريد أن أتصدق به (أو قال زوجك) يذكر ويؤنث لعدم الالتباس فيه والشك
[ 76 ]
من الراوي (قال أنت أبصر) أي أعلم قال الطيبي إنما قدم الولد على الزوجة لشدة افتقاره إلى النفقة بخلافها فإنه لو طلقها لأمكنها محمد أن تتزوج بآخر وقال الخطابي هذا الترتيب إذا تأملته علمت أنه صلى الله عليه وآله وسلم قدم الأولى فالأولى والأقرب فالأقرب وهو أنه أمره أن يبدأ بنفسه ثم بولده لأن ولده كبعضه فإذا ضيعه هلك ولم يجد من ينوب عنه في الإنفاق عليه ثم ثلث بالزوجة وأخوها عن الولد لأنه إذا لم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم تجب نفقتها عليه ثم ذكر الخادم لأنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته فتكون النفقة على من يبتاعه ويملكه ثم قال فيما بعد أنت أبصر أي إن شئت تصدقت وإن شئت أمسكت وقياس هذا في قول من رأى أن صدقة الفطر تلزم الزوج عن الزوجة ولمن يفضل من قوته أكثر من صاع أن يخرجه عن ولده دون الزوجة لأن الولد مقدم الحق على الزوجة ونفقة الأولاد إنما تجب لحق العصبية النسبية ونفقة الزوجة إنما تجب لحق المتعة العوضية وقد يجوز أن ينقطع ما بين الزوجين بالطلاق والنسب لا ينقطع أبدا ومعنى الصدقة في هذا الحديث النفقة انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده محمد بن عجلان وقد تقدم الكلام عليه (الخيواني) بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتانية الهمداني الكوفي مقبول من الرابعة كذا في التقريب (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) قال السندي من يقوت من قاته أي أعطاه قوته ويمكن أن يجعل من التفعيل وهو موافق لرواية من يقيت من أقات أي من تلزمه نفقته من أهله وعياله وعبيده انتهى قال الخطابي يريد من يلزمه قوته والمعنى كأنه قال للمتصدق لا يتصدق بما لا فضل فيه عن قوت أهله يطلب به الأجر فينقلب ذلك الأجر إثما إذا أنت ضيعتهم انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وأخرج مسلم في الصحيح من حديث خيثمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته
[ 77 ]
(أن يبسط) بصيغة المجهول أي يوسع (في رزقه) أي في دنياه (وينسأ) بضم فسكون ففتح فنصب فهمزة أي يؤخر له (في أثره) بفتحتين أي أجله (فليصل رحمه) وتقدم معنى صلة الرحم في أول الباب قال ابن الأثير النساء التأخير يقال نسأت الشئ أنسأ وأنسأتة إلى إنساء إذا أخرته والنساء الاسم ويكون في العمر والدين والأثر والأجل انتهى وقال الخطابي يؤخر في أجله يقال لرجل نسأ الله في عمرك وأنسأ عمرك والأثر ههنا آخر العمر قال كعب بن زهير والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهي العمر حتى ينتهى الأثر انتهى وتأخير الأجل بالصلة إما بمعنى حصول البركة والتوفيق في العمر وعدم ضياع العمر فكأنه زاد أو بمعنى أنه سبب لبقاء ذكره الجميل بعده ولا مانع أنها سبب لزيادة العمر كسائر أسباب العالم ممن أراد الله زيادة عمره وفقه بصلة الأرحام والزيادة إنما هو بحسب الظاهر بالنسبة إلى الخلق وأما في علم الله تعالى فلا زيادة ولا نقصان وهو وجه الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم جف القلم بما هو كائن وقد أطال الكلام في شرح هذا الحديث النووي في شرح مسلم والحافظ في فتح الباري والعيني في عمدة القاري والله أعلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (أنا الرحمن) أي المتصف بهذه الصفة (وهي) أي التي يؤمر بوصلها (الرحم) بفتح الراء وكسر الحاء (شققت) أي أخرجت وأخذت (لها) أي للرحم (اسما من اسمي) أي الرحمن وفيه إيماء إلى أن المناسبة الاسمية واجبة الرعاية في الجملة وإن كان المعنى على أنها أثر من آثار رحمة الرحمان ويتعين على المؤمن التخلق بأخلاق الله والتعلق بأسمائه وصفاته (من وصلها وصلته) أي إلى رحمتي ومحل كرامتي قال الخطابي في هذا بيان صحة القول بالاشتقاق في الأسماء اللغوية ورد على الذين أنكروا ذلك وزعموا أن الأسماء كلها موضوعة وهذا يبين لك فساد قولهم وفيه دليل على أن اسم الرحمان عربي مأخوذ من الرحمة وقد زعم بعض المفسرين برأيه عبراني وهذا يرده (ومن قطعها بتته) بتشديد الفوقية الثانية أي قطعته من رحمتي
[ 78 ]
الخاصة والبت القطع والمراد به القطع الكلي ومنه طلاق البت وكذا قولهم البتة كذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال حديث صحيح وفي تصحيحه نظر فإن يحيى بن معين قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئا وذكر غير أن أبا سلمة وأخاه حميدا لم يصح لهما سماع من أبيهما انتهى والحديث أخرجه أيضا أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم عن عبد الرحمان بن عوف والحاكم أيضا عن أبي هريرة والله أعلم (أن الرداد) بالدالين المهملتين وثقه ابن حبان قال المنذري وأشار إليه الترمذي وحكى عن البخاري أنه قال وحديث معمر خطأ وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي من حديث سعيد بن يسار أبي الحباب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم الحديث (قال لا يدخل الجنة قاطع) أي قاطع الرحم وقد تعارف إطلاق القطع في قطعها كالصلة في وصلها وهذا تشديد وتهديد أو أول الوهلة أو المراد من يستحل القطع قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي قال سفيان بن عيينة يعني قاطع رحم (ولم يرفعه سليمان) هو الأعمش والحاصل أن سفيان يروي عن ثلاثة من الشيوخ الأعمش والحسن وفطر وهؤلاء الثلاثة عن مجاهد لكن فطرا والحسن رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسليمان الأعمش جعله موقوفا على عبد الله بن عمرو (ليس الواصل) أي واصل الرحم (بالمكافئ) بكسر الفاء ثم الهمزة الذي يكافئ ويجزئ إحسانا فعل به (ولكن الواصل الذي إذا قطعت) بصيغة المجهول بالتشديد والتخفيف (رحمه) بالرفع على ذنيابة كان الفاعل (وصلها) أي
[ 79 ]
قرابته التي تقطع عنه وهذا من باب الحث على مكارم الأخلاق كما ورد صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي 46 في الشح أبو (فقال إياكم والشح) قال الخطابي الشح أبلغ في المنع من البخل وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع وأكثر ما يقال البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء والشح عام هو كالوصف اللازم للانسان من قبل الطبع والجبلة وقال بعضهم البخل أن يضن بماله وبمعروفه والشح أن يبخل بماله انتهى وقال ابن الأثير الشح أشد البخل وهو أبلغ في المنع من البخل وقيل هو البخل مع الحرص وقيل البخل في أفراد الأمور وآحادها والشح عام وقيل البخل بالمال والشح بالمال والمعروف والاسم الشح انتهى (قبلكم) من الأمم (بالشح) كيف وهو من سوء الظن بالله (أمرهم) فاعل أمر هو الشح (فبخلوا) بكسر الخاء (وأمرهم) أي الشح (بالقطيعة) للرحم (فقطعوا) أي الرحم ومن قطعها قطع الله عنه مزيد رحمته (بالفجور) وهو الميل عن القصد والسداد وقيل هو الانبعاث في المعاصي أو الزنا (ففجروا) قال ابن رسلان ويشبه أن يراد أمرهم بالزنا فزنوا وأمرهم بالقطيعة أي قطيعة الرحم فقطعوها انتهى فالشح من جميع وجوهه يخالف الإيمان ومن يوق شح نفسه فأولئك هو المفلحون قال الخطابي والفجور ههنا الكذب وأصل الفجور الميل والانحراف عن الصدق ويقال للكاذب فاجر وقد فجر أي انحرف عن الصدق انتهى والحديث صححه الحاكم وأقروه والله أعلم قال المنذري وأخرجه النسائي (ما لي) ما نافية (إلا ما أدخل علي الزبير) اسم زوجها (ولا توكي فيوكي عليك) قال
[ 80 ]
الخطابي معناه وأعطي من نصيبك منه ولا توكي أي لا تدخري والإيكاء شد رأس الوعاء بالوكاء وهو الرباط الذي يربط به يقول لا تمنعني أو ما في يدك فتنقطع مادة الرزق عليك وفيه وجه آخر أن صاحب البيت إذا أدخل الشئ بيته كان ذلك في العرف مفوضا إلى ربة المنزل فهي تنفق منه قدر الحاجة في الوقت وربما تدخر منه الشئ لغابر الزمان فكأنه قال إذا كان الشئ مفوضا إليك موكولا إلى تدبيرك فاقتصري) على قدر الحاجة للنفقة وتصدقي بالباقي منه ولا تدخريه والله أعلم قال المنذري أخرجه الترمذي والنسائي وأخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن أبي مليكة عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أسماء مختصرا ومطولا بنحوه (أنها) أي عائشة (ذكرت) للنبي صلى الله عليه وسلم (عدة) بكسر العين وتشديد الدال أي عددا (من مساكين) أي جاؤوا عدة من المساكين على بابي فأعطيتهم وتصدقت عليهم أو المعنى أي أنهم يأتون على بابي فما نفعل بهم (وقال غيره) يشبه أن يكون المراد أي قال غير مسدد (عدة من صدقة) أي ذكرت عائشة عدة من الصدقة التي تصدقت بها ذلك اليوم أو المعنى أي كم مقدار من الصدقة أعطيها للمساكين إن جاؤوا على بابي (لا تحصي) من الإحصاء وهو العد والحفظ (فيحصى عليك) بصيغة المجهول أي يمحق البركة حتى يصير كالشئ المعدود أو يحاسبك الله تعالى ويناقشك عبد في الآخرة قاله الطيبي
[ 81 ]
اللقطة أي شئ يلتقط وهو بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين وقال عياض لا يجوز غيره كذا في فتح الباري وقال النووي هي بفتح القاف على اللغة المشهورة التي قالها الجمهور واللغة الثانية لقطة بإسكانها والثالثة لقاط بضم اللام والرابعة لقط بفتح اللام والقاف (إن وجدت صاحبه) أي فأعطيه (وإلا استمتعت به) أي انتفعت به (قال) سويد (فقال) أي النبي (عرفها) بالتشديد أمر من التعريف وهو أن ينادي في الموضع الذي لقاها فيه وفي الأسواق والشوارع والمساجد ويقول من ضاع له شئ فليطلبه عندي (فعرفتها حولا) أيضا بالتشديد من التعريف وحولا نصب على الظرف (من يعرفها) بالتخفيف من عرف يعرف معرفة وعرفانا وفي رواية للبخاري ثم أتيته الرابعة فقال اعرف عدتها وفي رواية البخاري ثم أتيته ثلاثا أي ثلاث مرات والمعنى أنه أتى ثلاث مرات وليس معناه أنه أتى بعد المرتين الأولين ثلاث مرات وثالثة باعتبار التعريف ورابعة باعتبار مجيئه إلى النبي قاله العيني (ووعاءها) الوعاء بالمد وبكسر الواو وقد تضم وقرأ بها الحسن في قوله قبل وعاء أخيه وقرأ سعيد بن جبير إعاء بقلب الواو المكسورة همزة والوعاء ما يجعل فيه الشئ سواء كان من جلد أو خزف أو خشب أو غير ذلك (والوكاء) بكسر الواو والمد الخيط الذي يشد به الصرة وغيرها وزاد في حديث زيد بن خالد العفاص كما سيأتي (وإلا فاستمتع بها) قال
[ 82 ]
الخطابي فيه دليل على أن له أن يستملكها عليه بعد السنة ويأكلها إن شاء غنيا كان الملتقط لها أو فقيرا وكان أبي بن كعب من مياسير الأنصار ولو كان لا يجوز للغني أن يتملكها بعد تعريف السنة لأشبه أن لا يبيح له الاستمتاع بها إلا بالقدر الذي لا يخرجه عن حد الفقر إلى حد الغني فلما أباح له الاستمتاع بها كلها دل على أن حكم الغني والفقير لا يختلف في ذلك وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها إباحة التمليك والاستمتاع بها بعد السنة وقالت طائفة إذا عرفها سنة ولم يأت صاحبها تصدق بها وروي ذلك عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وإليه ذهب مالك (قال ولا أدرى أثلاثا قال عرفها أو مرة واحدة) وفي رواية للبخاري وإلا فاستمتعت بها فاستمتعت بها فلقيت بعده بمكة فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا انتهى والقائل شعبة والذي قال لا أدري هو شيخه سلمة ابن كهيل وقد بينه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل قال شعبة فسمعته بعد عشر سنين يقول عرفها عاما واحدا وقد بينه أبو داود الطيالسي في مسنده أيضا فقال في آخر الحديث قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدرى ثلاثة أحوال أو حولا واحدا فالمعنى أي قال سلمة بن كهيل لا أدري أقال سويد بن غفلة عرفها ثلاثا أي ثلاثة أحوال أو عرفها مرة واحدة أو حولا واحدا قال الحافظ وأغرب ابن بطال فقال الذي شك فيه هو أبي بن كعب والقائل هو سويد بن غفلة انتهى ولم يصب في ذلك وإن تبعه جماعة منهم المنذري بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لما استثبته فيه شعبة وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة وفيه هذه الزيادة أي ثلاثة أحوال أخرجها مسلم وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد الآتي فإنه لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة فقال يحمل حديث أبي بن كعب على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها وحديث زيد على ما لابد منه أو لاحتياج الأعرابي واستغناء أبي قال المنذري لم يقل أحد من أئمة الفتوى إن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام إلا شئ جاء عن عمر انتهى وقد حكاه الماوردي عن شواذ من الفقهاء وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال يعرفها ثلاثة أحوال عاما واحدا ثلاثة أشهر ثلاثة أيام ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن هذه الزيادة غلط قال والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها ثم تثبت واستذكر واستمر على عام واحد ولا يؤاخذ إلا بما لم يشك فيها راويه وقال ابن
[ 83 ]
الجوزي يحتمل أن يكون عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي فأمر أبيا بإعادة التعريف كما قال للمسئ صلاته ارجع فصل فإنك لم تصل انتهى ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم وقد حكى صاحب الهداية من الحنفية رواية عندهم أن الأمر في التعريف مفوض لأمر الملتقط فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك كذا في الفتح قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي مختصرا ومطولا بنحوه وليس في حديث البخاري ومسلم فعرف عددها ووعاءها ووكاءها وفي حديث الترمذي فإذا جاء طالبها فأخبرك بعددها ووعائها ووكائها فادفعها إليه وفي حديث النسائي فإن جاء أحد يخبر بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه انتهى كلام المنذري (بمعناه) أي بمعنى حديث محمد بن كثير (قال) النبي لأبي بن كعب (عرفها حولا) أي سنة واحدة (قال ثلاث مرار) أي قال النبي ذلك الكلام لأبي ثلاث مرار (قال) سلمة بن كهيل لما اشتبه فيه بعد إلقائه بمكة (فلا أدري قال) النبي (له) أي لأبي (ذلك الكلام وهو عرفها حولا (في سنة) واحدة ثلاث مرار (أو) قال النبي لأبي ذلك الكلام مفرقا (في ثلاث سنين) أي أمره أن يعرفها في ثلاث سنين (بإسناده) أي بإسناد شعبة (قال عامين أو ثلاثة) وأخرج مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة بن كهيل نحو حديث شعبة وفي حديثهم جميعا ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة قال النووي في روايات حديث زيد بن خالد عرفها سنة وفي حديث أبي بن كعب أنه أمره بتعريفها ثلاث سنين وفي رواية سنة واحدة وفي رواية أن الراوي شك قال لا أدري قال حول أو ثلاثة أحوال وفي رواية عامين أو ثلاثة قال القاضي عياض قيل في الجمع بين الروايات قولان أحدهما أن يطرح الشك والزيادة ويكون المراد سنة في رواية الشك وترد الزيادة بمخالفتها باقي الأحاديث والثاني أنهما قضيتان فرواية زيد في التعريف سنة محمولة على أقل ما يجزى ورواية أبي بن كعب في
[ 84 ]
التعريف ثلاث سنين محمول على الورع وزيادة الفضيلة قال وقد أجمع العلماء على الاكتفاء بتعريف سنة ولم يشترط أحد تعريف ثلاثة أعوام إلا ما روي عن عمر ولعله لم يثبت عنه انتهى كلامه وتقدم الكلام في ذلك والله أعلم (فإن جاء صاحبها فعرف عددها إلخ) قال الخطابي فيه دلالة على أنه إذا وصف اللقطة وعرف عددها دفعت إليه من غير تكليف بينة سواها وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل وقال الشافعي إن وقع في نفسه أنه صادق وقد عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن دفعها إليه إن شاء ولا يجبر على ذلك إلا ببينة لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه قلت ظاهر الحديث هذا يوجب دفعها إليه إذا أصاب الصفة وهو فائدة قوله اعرف عفاصها ووكاءها فإن صحت هذه اللفظة في رواية حماد وهي قوله فعرف عددها فادفعها كان ذلك أمرا لا يجوز خلافه وإن لم يصح فالاحتياط مع من لم يرى الرد إلا ببينة لقوله البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه ويتأول على هذا المذهب قوله اعرف عفاصها ووكاءها على وجهين أحدهما أنه أمره بذلك لئلا يختلط بماله فلا يتميز منه والوجه الآخر لتكون الدعوى فيها معلومة وأن الدعوى المبهمة لا تقبل قلت وأمره بإمساك اللقطة وتعريفها أصل في أبواب من الفقه إذا عرضت الشبهة فلم يتبين الحكم فيها وإلى هذا ذهب الشافعي في كثير من المسائل مثل أن يطلق أحد نسائه من غير تعيين ومات فإن اليمين توقف حتى تبين المطلقة منهن أو يصطلحن على شئ في نظائر لها من الأحكام انتهى (عن يزيد مولى المنبعث) بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة وكسر المهملة بعدها مثلثة (ثم اعرف وكاءها) الوكاء الخيط الذي تشد به الصرة (وعفاصها) الذي تكون فيه النفقة وأصل العفاص الجلد الذي يلبس رأس القارورة قاله الخطابي قال العيني العفاص بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء وبالصاد وهو الوعاء الذي يكون فيه النفقة سواء كان من جلد أو خرقة أو حرير أو غيرها فإن قلت في رواية مالك كما عند الشيخين اعرف عفاصها وكاءها
[ 85 ]
ثم عرفها سنة وفي رواية المؤلف أبي داود وكذا عند مسلم عرفها سنة ثم اعرف وكاءها فهذه الرواية تقتضي أن معرفة الوكاء والعفاص تتأخر على تعريفها سنة ورواية مالك صريحة في تقديم المعرفة على التعريف قلت قال النووي الجمع بينهما بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة أخرى معرفة وافية محققة ليعلم قدرها وصفتها لاحتمال أن يجئ صاحبها فيقع الاختلاف في ذلك فإذا عرفها الملقط وقت التملك يكون القول قوله لأنه أمين واللقطة وديعة عنده (ثم استنفق بها) أي وإن لم يأت أحد بعد التعريف حولا فاستنفقها من الاستنفاق وهو استفعال وباب الاستفعال للطلب لكن الطلب على قسمين صريح وتقديري وههنا لا يتأتى الصريح فيكون للطلب التقديري قاله العيني (وقال النووي) ومعنى استنفق بها تملكها ثم أنفقها على نفسك انتهى (فقال) أي السائل (فضالة الغنم) أي ما حكمها والأكثرون على أن الضالة مختصة بالحيوان وأما غيره فيقال فيه لقطة وسوى الطحاوي بين الضالة واللقطة (فإنما هي لك) إن أخذتها وعرفتها سنة ولم تجد صاحبها (أو لأخيك) أي في الدين ملتقط آخر (أو للذئب إن تركتها ولم يأخذها غيرك لأنها لا تحمي نفسها) وهذا على سبيل التنويع والتقسيم وأشار إلى إبطال قسمين فتعين الثالث فكأنه قال ينحصر الأمر في ثلاثة أقسام أن تأخذها لنفسك أو تتركها فيأخذها مثلك أو يأكلها الذئب ولا سبيل إلى تركها للذئب فإنها إضاعة مال ولا معنى لتركها لملتقط آخر مثل الأول بحيث يكون الثاني أحق لأنهما استويا وسبق الأول فلا معنى للترك واستحقاق المسبوق وإذا بطل هذان القسمان تعين الثالث وهو أن تكون لهذا الملتقط والتعبير بالذئب ليس بقيد فالمراد جنس ما يأكل الشاة ويفترسها من السباع قاله القسطلاني وقال الخطابي وقوله في ضالة الغنم هي لك أو لأخيك أو للذئب فيه دليل على أنه إنما جعل هذا حكمها إذا وجدت بأرض فلاة يخاف عليها الذئاب فيها فإذا وجدت في قرية وبين ظهراني عمارة فسبيلها سبيل اللقطة في التعريف إذ كان معلوما أن الذئاب لا تأوي إلى الأمصار والقرى فأما ضالة الإبل فإنه لم يجعل لواجدها أن يتعرض لها لأنها قد ترد الماء وترعى الشجر وتعيش بلا راع وتمتنع من أكثر السباع فيجب أن يخلي سبيلها حتى يأتي ربها انتهى (فضالة الإبل) ما حكمها (وجنتاه) الوجنة ما ارتفع من الخدين (أو احمر
[ 86 ]
وجهه) شك الراوي (قال) عليه الصلاة والسلام (مالك ولها) أي مالك وأخذها استفهام إنكاري أي ليس لك هذا وتدل عليه رواية للبخاري فذرها حتى يلقاها ربها (معها حذاؤها) بكسر الحاء المهملة وبالذال المعجمة ممدود أخفافها فتقوى بها على السير وقطع البلاد الشاسعة وورود المياه النائية (وسقاؤها) بكسر السين المهملة والمد جوفها أي حيث وردت الماء شربت ما يكفيها حتى ترد ماء آخر لأن الإبل إذا شربت يوما تصبر أياما على العطش أو السقاء العنق لأنها تتناول المأكول بغير تعب لطول عنقها وبالجملة فالمراد بهذا النهي عن التعرض لها لأن الأخذ إنما هو الحفظ على صاحبها إما بحفظ العين أو بحفظ القيمة وهذه لا تحتاج إلى حفظ لأنها محفوظة بما خلق الله فيها من القوة والمنعة وما يسر لها من الأكل والشرب كذا في إرشاد الساري (حتى يأتيها ربها) أي مالكها وآخذها قال الخطابي وفي الحديث دليل على أن كثير اللقطة وقليله سواء في وجوب التعريف إذا كان مما يبقى إلى الحول لأنه عم اللقطة ولم يخص وقال قوم ينتفع بالقليل من غير تعريف كالنعل والسوط والجراب ونحوهم مما يرتفق به ولا يتمول وعن بعضهم أنه قال ما دون عشرة دراهم قليل وقال بعضهم إنما يعرف من اللقطة ما كان فوق الدينار واستدل بحديث على الآتي قال فهذا لم يعرفه سنة لكن استنفقه حين وجده فدل ذلك على فرق ما بين القليل من اللقطة والكثير منها انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه (بإسناده ومعناه) أي بإسناد حديث إسماعيل بن جعفر وحديث مالك هذا أخرجه مسلم بتمامه (ترد الماء وتأكل الشجر) قال القسطلاني ويلحق بالإبل ما يمتنع بقوته من صغار السباع كالبقرة والفرس قال العيني اختلف العلماء في ضالة الإبل هل تؤخذ على قولين أحدهما لا يأخذها ولا يعرفها قاله مالك والأوزاعي والشافعي لنهيه عن ضالة الإبل والثاني أخذها وتعريفها أفضل قاله الكوفيون لأن تركها سبب لضياعها وقال ابن المنذر وممن رأى ضالة البقر كضالة الإبل طاووس والأوزاعي والشافعي وبعض أصحاب مالك وقال ابن الجوزي الخيل والإبل والبقر والبغال والحمير والشاة والظباء لا يجوز عندنا التقاطها إلا أن يأخذها الإمام للحفظ انتهى (ولم يقل) أي مالك في حديثه لفظ (خذها في ضالة الشاء) كما قال إسماعيل بن جعفر
[ 87 ]
وسيجئ بيانه (وإلا فشأنك) بالنصب أي الزم شأنك وبالرفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره فشأنك مباح أو جائز أو نحوه والشأن الأمر والحال (بها) أي بالإبل (رواه الثوري) وحديثه عند الشيخين (وسليمان بن بلال) وحديثه عند البخاري في كتاب العلم من طريق أبي عامر العقدي عن سليمان بن بلال عن ربيعة وليس فيه هذه اللفظة وأما عند الشيخين من طريق سليمان بن بلال عن يحيى ابن سعيد الأنصاري عن يزيد ففيه هذه الجملة موجودة (وحماد بن سلمة عن ربيعة) وحديثه عند مسلم والمؤلف (لم يقولوا خذها) والحاصل أن مالكا والثوري وسليمان ابن بلال وحماد بن سلمة كلهم رووه ولم يذكر أحد منهم عن ربيعة جملة خذها في ضالة الشاء وأما إسماعيل بن جعفر فذكر عن ربيعة هذه الجملة والزيادة من الثقة مقبولة ولم ينفرد بها ربيعة في رواية إسماعيل بن جعفر بل تابع ربيعة يحيى بن سعيد الأنصاري فقوله خذها صريح في الأمر بالأخذ وفيه رد على قول من قال يترك التقاط الشاة وتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها وفيه نظر قال الخطابي قوله هي لك فيه دليل على أنه لا ينقض البيع فيها إذا كا قد باعها ولكن يغرم له القيمة لأنه إذا أذن له في أن يستنفقها فقد أذن له فيما يتوصل به إلى الاستنفاق بها من بيع ونحوه (باغيها) أي طالبها (ثم اكلها) قال الخطابي وهذا يصرح بإباحتها له بشرط أن يؤدي
[ 88 ]
ثمنها إذا جاء صاحبها فدل أنه لا وجه لكراهة الاستمتاع بها وقال مالك إذا أكل الشاة الذي وجدها بأرض الفلاة ثم جاء ربها لم يغرمها وقال لأن النبي جعلها له ملكا بقوله هي لك أو لأخيك وكذلك قال داود والحديث حجة عليهما وهو قوله بعد إباحة الأكل فإن جاء باغيها فأدها إليه وقال الشافعي يغرمها كما يغرم اللقطة يلتقطها في المصر سواء انتهى كلامه (ثم أفضها) بالفاء والضاد المعجمة هكذا في النسخ الصحيحة وفي بعضها اقبضها من القبض قال الخطابي معناه ألقها في مالك واخلطها به من قولك أفاض الأمر والحديث إذا شاع وانتشر ويقال ملك فلان فائض إذا كان شائعا مع أملاك شركائه غير مقسوم ولا متميز منها وهذا يبين لك أن المراد بقوله اعرف عفاصها ووكاءها إنما هو ليمكنه تميزها بعد خلطها بما له إذا جاء صاحبها لأنه جعلها شرطا لوجوب دفعها إليه بغير بينة يقيمها لكن من ذكر عددها وإصابة الصفة فيها (وقال حماد أيضا عن عبيدالله) أي مثل حديث يحيى بن سعيد بزيادة
[ 89 ]
الجملة فعرف عفاصها وعددها (ليست بمحفوظة) قال الحافظ في الفتح وأما قول أبي داود إن هذه الزيادة زادها حماد بن سلمة وهي غير محفوظة فتمسك بها من حاول تضعيفها فلم يصب بل هي صحيحة وليست شاذة ولم ينفرد بها حماد بن سلمة بل وافقه سفيان الثوري وزيد بن أبي أنيسة ففي مسلم من رواية حماد بن سلمة وسفيان الثوري وزيد بن أبي أنيسة وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق الثوري وأحمد وأبو داود من طريق حماد كلهم عن سلمة بن كهيل في هذا الحديث فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه واللفظ لمسلم وقد أخذ بظاهرها مالك وأحمد وقال أبو حنيفة والشافعي إن وقع في نفسه صدقة جاز أن يدفع إليه ولا يجبر على ذلك إلا ببينة لأنه قد يصيب الصفة وقال الخطابي إن صحت هذه اللفظة لم يجز مخالفتها قلت قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها انتهى كلام الحافظ (وحديث عقبة بن سويد) قال في الفتح أخرج الحميدي والبغوي وابن السكن والباوردي والطبراني كلهم من طريق محمد بن معن الغفاري عن ربيعة عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال سألت رسول الله عن اللقطة فقال عرفها سنة ثم أوثق وعاءها فذكر الحديث ومقصود المؤلف من إيراد حديث سويد الجهني وكذا من رواية عمر بن الخطاب الآتية أن هذه الجملة التي رواها حماد بن سلمة في حديث زيد بن خالد الجهني ليست في رواية عمر بن الخطاب سويد الجهني أيضا بل إنما زادها حماد في رواية زيد بن خالد الجهني ولم يثبت هذه الزيادة ويذهب المؤلف إلى تقوية قول أبي حنيفة والشافعي في ذلك وقد عرفت آنفا جواب هذا الكلام والله أعلم (وحديث عمر بن الخطاب) أخرجه الطحاوي من طريق عمرو وعاصم ابني سفيان بن عبد الله بن عبيدالله بن ربيعة أن أباهما سفيان بن عبد الله قد كان وجد عتبة فأتى بها عمر بن الخطاب فقال له عرفها سنة فإن عرفت فذاك وإلا فهي لك قال فعرفها سنة فلم تعرف فأتى بها عمر العام المقبل أو القابل في الموسم فأخبره بذلك فقال له عمر هي لك وقال إن رسول الله كان أمرنا
[ 90 ]
بذلك الحديث قال المنذري وحديث عقبة بن سويد عن أبيه عن النبي أيضا قال عرفها سنة وحديث عمر بن الخطاب أيضا عن النبي قال عرفها سنة هذا آخر كلامه وحديث هذه الزيادة قد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل بهذه الزيادة كما قدمنا عنهما وذكر مسلم في صحيحه أن سفيان الثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة ذكروا هذه الزيادة فقد تبين أن حماد بن سلمة لم ينفرد بهذه الزيادة وقد تابعه عليها من ذكرناه والله عزوجل أعلم انتهى (عياض بن حمار) بكسر الحاء المهملة وميم مفتوحة وبعد الألف راء مهملة قاله المنذري (فليشهد ذا عدل) قال الخطابي أمر تأديب وإرشاد وذلك لمعنيين أحدهما لما يتخوفه في العاجل من تسويل الشيطان وانبعاث الرغبة فيها فيدعوه إلى الخيانة بعد الأمانة والآخر ما يؤمن حدوث المنية به فيدعيها ورثته ويحوزوها في تركته انتهى كلامه وفي السبل وأفاد هذا الحديث زيادة وجوب الإشهاد بعدلين على التقاطها وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي فقالوا يجب الإشهاد على اللقطة وعلى أوصافها وذهب مالك وأحد قولي الشافعي إلى أنه لا يجب الإشهاد قالوا لعدم ذكر الإشهاد في الأحاديث الصحيحة فيحمل هذا على الندب وقال الأولون هذه الزيادة بعد صحتها يجب العمل بها فيجب الإشهاد ولا ينافي ذلك عدم ذكره من الأحاديث والحق وجوب الإشهاد انتهى (ولا يكتم) بأن لا يعرف أي لا يخفيه (ولا يغيب) بفتح الغين المعجمة وتشديد التحتية أي لا يجعله غائبا بأن يرسله إلى مكان آخر أو الكتمان متعلق باللقطة والتغيب بالضالة كذا في المرقاة (فهو مال الله) فيه دليل للظاهرية في أنها تصير ملكا للملتقط ولا يضمنها وقد يجاب أن هذا مقيد بما سلف من إيجاب الضمان (يؤتيه من يشاء) المراد به أنه يحل انتفاعه بها بعد مرور سنة التعريف قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه
[ 91 ]
(الثمر المعلق) المراد بالثمر المعلق ما كان معلقا في النخل قبل أن يجذ ويجرن والثمر اسم جامع للرطب واليابس من التمر والعنب وغيرهما (من أصاب بفيه) فيه دليل على أنه إذا أخذ المحتاج بفيه لسد فاقته فإنه مباح له (غير متخذ خبنة) بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة فنون وهو معطف الإزار وطرف الثوب أي لا يأخذ منه في ثوبه يقال أخبن الرجل إذا خبأ شيئا في خبنة ثوبه أو سراويله انتهى ما في النهاية وقال الخطابي الخبنة ما يأخذه الرجل في ثوبه فيرفعه إلى فوق ويقال للرجل إذا رفع ذيله في المشي قد رفع خبنته أبي انتهى (ومن خرج بشئ منه) من الثمر وفيه أنه يحرم عليه الخروج بشئ منه فإن خرج بشئ منه فلا يخلو أن يكون قبل أن يجذ ويأويه الجرين أو بعده فإن كان قبل الجذ فعليه الغرامة والعقوبة وإن كان بعد القطع وإيواء الجرين له فعليه القطع مع بلوغ المأخوذ للنصاب لقوله فبلغ ثمن المجن وهذا مبني على أن الجرين حرز كما هو الغالب إذ لا قطع إلا من حرز كذا في السبل (فعليه غرامة مثليه) بالتثنية (والعقوبة) بالرفع أي التغرير وفي رواية البيهقي بأن العقوبة جلدات نكال وقد استدل بهذا على جواز العقوبة بالمال فإن غرامة مثليه من العقوبة بالمال وقد أجازه الشافعي في القديم ثم رجع عنه وقال لا يضاعف الغرامة على أحد في شئ إنما العقوبة في الأبدان لا في الأموال وقال هذا منسوخ والناسخ له قضى رسول الله على أهل الماشية بالليل ما أتلفت فهو ضامن أي مضمون على أهلها قال وإنما يضمنونه بالقيمة وقال الخطابي يشبه أن يكون هذا على سبيل التوعد فينتهي فاعل ذلك عنه والأصل أن لا واجب على متلف الشئ أكثر من مثله وقد قيل إنه كان في صدر الإسلام يقع بعض العقوبات على الأفعال ثم نسخ وإنما أسقط القطع عمن سرق الثمر المعلق لأن حوائط المدينة ليس عليها حيطان ولبس سقوطها عنه من أجل أن لا قطع في غير الثمرة فإنه مال كسائر الأموال انتهى (الجرين) بفتح الجيم وكسر الراء هو موضع تجفيف التمر وهو له كالبيدر للحنطة ويجمع على جرن بضمتين كذا في النهاية (ثمن المجن) بكسر الميم وفتح الجيم مفعل من الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وكسرت ميمه لأنه آلة في الاستتار قال في النهاية هو الترس لأنه يواري حامله أي يستره والميم زائدة انتهى وكان ثمن المجن ثلاثة دراهم وهو ربع دينار وهو نصاب
[ 92 ]
السرقة عند الشافعي ويجئ بيانه في الحدود إن شاء الله تعالى (وذكر) ابن عجلان عن عمرو بن شعيب (كما ذكر غيره) أي غير ابن عجلان كعبيد الله بن عمر عن عمرو ابن شعيب أو يكون المعنى أي ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص كما ذكر غيره من الصحابة عن النبي والله أعلم قال أي ابن عجلان بإسناده أو قال عبد الله بن عمرو (وسئل) أي النبي (في طريق الميتاء) بكسر الميم مفعال من الإتيان والميم زائدة وبابه الهمزة أي طريقة مسلوكة يأتيها الناس قال الخطابي وابن الأثير (أو القرية الجامعة) للناس من المرور والذهاب أي قرية عامرة يسكنها الناس (وما كان في الخراب) قال الخطابي يريد الخراب العادي الذي لا يعرف له مالك وسبيله سبيل الركاز وفيه الخمس وسائر المال لواجده فأما الخراب الذي كان عامرا ملكا لمالك ثم خرب فإن المال الموجود فيه ملك لصحاب الخراب ليس لواجده منه شئ وإن لم يعرف صاحبه فهو لقطة انتهى (ففيها) أي في اللقطة التي توجد في الخراب (وفي الركاز الخمس) قال الإمام الحافظ الهروي في الغريب اختلف أهل العراق وأهل الحجاز في تفسير الركاز قال أهل العراق هو المعادن وقال أهل الحجاز هو كنوز أهل الجاهلية وكل محتمل في اللغة انتهى وقال في النهاية الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض وعند أهل العراق المعادن والقولان تحتملهما اللغة والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجاهلي وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه انتهى وأخرج الحاكم في المستدرك في آخر البيوع من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال في كنز وجده رجل فقال إن كنت وجدته في قرية مسكونة أو سبيل ميتاء فعرفه وإن كنت وجدته في خربة جاهلية أو في قرية غير مسكونة أو غير سبيل ميتاء ففيه وفي الركاز الخمس انتهى وسكت عنه إلا أنه قال ولم أزل أطلب الحجة في سماع شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو فلم أصل إليها إلى هذا الوقت وأخرجه أيضا الحافظ بن عبد البر في التمهيد قال بعض الشراح المتقدمين وعطف الركاز على الكنز دليل على أن الركاز غير الكنز وأنه المعدن كما يقوله أهل العراق فهو حجة لمخالف الشافعي انتهى قلت ليس الأمر كما قال ذلك البعض وإن كان من الأئمة المتقدمين لأن حديث عمرو بن شعيب فيه حكم للشيئين الأول ما وجد مدفونا في الأرض وهو الركاز والثاني ما وجد على
[ 93 ]
وجه الأرض في خربة جاهلية أو قرية غير مسكونة أو غير سبيل ميتاء ففيهما الخمس فههنا عطف الركاز وهو المال المدفون على المال الذي وجد على وجه الأرض وأما عن حكم المعدن فالحديث ساكت عنه فلا يكون حجة لأهل العراق بل الحديث حجة لأهل الحجاز الذي نزل القرآن بلغتهم كذا في غاية المقصود قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرا ومطولا ومنهم من قال عن عبد الله بن عمرو ومنهم من قال عن جده ولم يسمه وقال الترمذي حديث حسن انتهى (بإسناد) إلى النبي (بهذا) الحديث المذكور لكن (قال) الوليد ابن كثير في روايته (في ضالة الشاء) أي في حكم ضالة الشاء (قال فاجمعها) أي قال الوليد مكان قوله خذها فاجمعها وهو أمر من جمع يجمع أي اجمع الشاة الضالة مع شاتك فمعنى قوله خذها واجمعها واحد والله أعلم (خذها قط) يشبه أن يكون بسكون الطاء بمعنى حسب وهو الاكتفاء بالشئ تقول قطي أي حسبي ومن ههنا يقال رأيته مرة فقط والمعنى أن عبيدالله بن الأخنس الراوي عن عمرو بن شعيب ما زاد على قوله خذها كما زاد ابن إسحاق في الرواية الآتية حتى يأتيها باغيها والله أعلم (وكذا قال فيه أيوب) السختياني (ويعقوب بن عطاء) كلاهما (فخذها) وما زادا على ذلك فاتفق الثلاثة أي عبيدالله وأيوب ويعقوب على عدم الزيادة وأخرج الشافعي في مسنده من طريق سفيان عن داود بن سابور ويعقوب بن عطاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا لكن ما ذكر فيه قصة الشاة ولا قصة الإبل وإنما اقتصر على ذكر الكنز
[ 94 ]
(هو رزق الله) الظاهر أنه كان بعد التعريف فيؤخذ منه أن تعريف كل شئ على حسبه قاله السندي أو هو لصاحب الحاجة من غير التعريف لكن بشرط أن يرد إذا جاء مالكه قاله الشيخ المحدث مولانا محمد إسحاق رحمه الله وفي اللمعات شرح المشكاة للشيخ عبد الحق الدهلوي الظاهر أنه لم يعرف وهو مذهب البعض أنه لا يجب التعريف في القليل لأن الدينار قليل واختلفوا في حد القليل فقيل هو ما دون عشر دراهم وقيل الدينار وما دونه قليل انتهى وتقدم الكلام في ذلك مفصلا من كلام الخطابي وسيأتي قول المنذري فيه على وجه البسط (تنشد الدينار) أي تطلب الدينار وتتفقده قال المنذري في إسناده رجل مجهول انتهى (فعرفه) الضمير المنصوب إلى علي رضي الله عنه (صاحب الدقيق) وكان يهوديا (فرد) اليهودي (عليه) على علي بن أبي طالب (الدينار) لأجل معرفته به ومنزلة علي عنده (فقطع) علي رضي الله عنه (منه) أي الدينار (قيراطين) القيراط نصف دانق والدرهم عندهم اثنتا عشرة قيراطا والدرهم نصف دينار وخمسة (فاشترى) علي رضي الله عنه (به) أي بالمقطوع منه وهو القيراطان وفي الرواية الآتية اشترى بدرهم قال المنذري بلال بن يحيى العبسي روى عن النبي مرسل وعن عمر بن الخطاب وهو مشهور بالرواية عن حذيفة وقيل فيه بلغني عن حذيفة وفي سماعه من علي رضي الله عنه نظر انتهى كلامه (التنيس) بكسرتين وتشديد النون وياء ساكنة والسين مهملة جزيرة في بحر مصر قريبة من البر بين الفرما ودمياط والفرما في شرقيها كذا في الغاية (الزمعي) بفتح الراء والميم منسوب
[ 95 ]
إلى زمعة (ختن) بفتحتين زوج ابنته (الجزار) القصاب (فرهن) أي دفع علي رضي الله عنه الدينار إلى الجزار وحبسه عنده بعوض درهم لأجل اشتراء اللحم فاشترى علي اللحم من ذلك القصاب الذي رهن الدينار إليه ووضعه عنده (فجاء به) باللحم (فعجنت) فاطمة رضي الله عنها الدقيق (ونصبت) القدر لطبخ اللحم (وأرسلت إلى أبيها) محمد رسول الله تطلبه لأجل أن يأكل معها (من شأنه) من شأن الطعام كذا وكذا وقصت القصة (ينشد الله) بضم الشين يقال نشدتك الله وبالله أي سألتك به مقسما عليك والمعنى أن الغلام ينشد بالله وبالإسلام ويطلب الدينار (فأمر رسول الله) بإحضار ذلك الغلام قال المنذري في إسناده موسى بن يعقوب الزمعي كنيته أبو محمد قال يحيى بن معين ثقة وقال ابن عدي وهو عندي لا بأس به ولا برواياته وقال عبد الرحمن النسائي ليس بالقوي وفي رواية الإمام الشافعي أنه أمره أن يعرفه فلم يعرف فأمره أن يأكله وذكر البيهقي حديث علي رضي الله عنه من رواية أبي سعيد وسهل بن سعد فيهما أن عليا أنفقه في الحال ولم تمض مدة وقال والأحاديث في اشتراط المدة في التعريف أكثر وأصح إسنادا من هاتين الروايتين ولعله إنما أنفقه قبل مضي مدة التعريف للضرورة وفي حديثهما ما دل عليه والله أعلم هذا آخر كلامه وقال غيره في حديث علي أن النبي لم يأمره بتعريفه قال وفيه إشكال إذ ما صار أحد إلى
[ 96 ]
إسقاط أصل التعريف ولعل تأويله أن التعريف ليس له صيغة تعتد به فمراجعته لرسول الله ع لى ملأ من الخلق إعلان به فهذا يؤيد الاكتفاء بالتعريف مرة واحدة انتهى وقد ذكرنا أن في رواية الإمام الشافعي أنه أمره أن يعرفه وذكر بعضهم أن القليل في اللقطة مقدر بدينار فما دونه واحتج بحديث علي وذكر بعضهم أيضا أنه لا يجب تعريف القليل لحديث علي رضي الله عنه انتهى كلام المنذري (في العصا) بالقصر (وأشباهه) مما يعد قليلا (يلتقطه الرجل) صفة أو حال (ينتفع به) أي الحكم فيها أن ينتفع الملتقط به من غير تعريف سنة قال في شرح السنة فيه دليل على أن القليل لا يعرف والله أعلم (عن المغيرة أبي سلمة) هو مغيرة بن مسلم كنيته أبو سلمة (بإسناده) إلى أبي الزبير المكي عن جابر وحاصل المعنى والله أعلم أنه روى عن أبي الزبير المكي اثنان المغيرة بن زياد ومغيرة ابن مسلم أبو سلمة فمحمد بن شعيب روى عن المغيرة بن زياد عن أبي الزبير عن جابر بلفظ رخص رسول الله وروى النعمان بن عبد السلام وشبابة كلاهما عن مغيرة ابن مسلم عن أبي الزبير عن جابر من غير ذكر النبي بلفظ كانوا أي كانوا لا يرون بأسا في العصا والحبل والسوط الحديث قال المنذري إن بعضهم رواه ولم يذكر النبي وفي إسناده المغيرة بن زياد وتكلم فيه غير واحد انتهى (ضالة الإبل) أي حكمها (المكتومة) التي كتمها الواجد ولم يعرفها ولم يشهد عليها (غرامتها) فيه إيجاب الغرامة بمثل قيمتها قال الخطابي سبيل هذا سبيل ما تقدم من ذكره من
[ 97 ]
الوعيد الذي لا يراد به وقوع الفعل وإنما هو زجر وردع وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكم به وإليه ذهب أحمد بن حنبل وأما عامة الفقهاء فعلى خلافه انتهى قال المنذري لم يجزم عكرمة بسماعه من أبي هريرة فهو مرسل انتهى (نهى عن لقطة الحاج) قال في السبل أي من التقاط الرجل ما ضاع للحاج والمراد ما ضاع في مكة لحديث أبي هريرة مرفوعا عند الشيخين ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ولحديث ابن عباس مرفوعا عندهما أيضا بلفظ ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها وحمله الجمهور على أنه نهى عن التقاطها للتملك لا للتعريف بها فإنه يحل قالوا وإنما اختصت لقطة الحاج بذلك مكان إيصالها إلى أربابها إن كانت لمكي فظاهر وإن كانت لآفاقي فلا يخلو في الغالب من وارد منه إليها فإذ عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها قال ابن بطال وقال جماعة هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة بالتعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف بها والظاهر القول الأول وأن حديث النهي هذا مقيد بحديث أبي هريرة بأنه لا يحل التقاطها إلا لمنشد فالذي اختصت به لفظة مكة أنها لا تلتقط إلا للتعريف بها أبدا فلا يجوز للتملك ويحتمل أن هذا الحديث في لقطة الحاج مطلقا في مكة وغيرها لأنه هنا مطلق ولا دليل على تقييده بكونها في مكة انتهى كلام السبل وقال ابن الملك أراد لقطة حرم مكة أي لا محل لأحد تملكها بعد التعريف بل يجب على الملتقط أن يحفظها أبدا لمالكها وبه قال الشافعي وعند الحنفية لا فرق بين لقطة الحرم وغيره انتهى (قال أحمد) بن صالح (قال ابن وهب) في تفسير هذا الحديث (يعني في لقطة الحاج يتركها) الواجد ولا يأخذها (حتى يجدها) أي اللقطة (صاحبها) صاحب اللقطة وقد تعقب على هذا التفسير ابن الهمام من الأئمة الحنفية فقال في فتح القدير شرح الهداية ولا عمل على هذا في هذا الزمان لفشو السرقة بمكة من حوالي الكعبة فضلا عن المتروك انتهى قال في الغاية وما قاله ابن الهمام حسن جدا (قال ابن موهب عن عمور) بصيغة العنعنة وأما أحمد بن صالح فقال أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بصيغة اخبار قال المنذري
[ 98 ]
وأخرجه مسلم والنسائي وليس فيه كلام ابن وهب وقد قال ولا تحل لقطتها إلا لمنشد والصحيح أنه إذا وجد لقطة في الحرم لم يجز له أن يأخذها إلا للحفظ على صاحبها وليعرفها بخلاف لقطة سائر البلاد فإنه يجوز التقاطها للتمليك ومنهم من قال إن حكم لقطة مكة حكم لقطة سائر البلاد انتهى (البوازيج) بالباء الموحدة ثم الزاي بعدها ياء ساكنة وجيم بلد قريب إلى دجلة (لا يأوي الضالة) أي لا يضمها إلى ماله ولا يخلطها معه (إلا ضال) أي غير راشد طريق الحق وزاد في رواية مسلم ما لم يعرفها والمعنى أن من أخذها ليذهب بها فهو ضال وأما من أخذها ليرددها (أو ليعرفها فلا بأس به قال الخطابي ليس هذا بمخالف للأخبار التي جاءت في أخذ اللقطة وذلك أن اسم الضالة لا يقع على الدراهم والدنانير والمتاع ونحوها وإنما الضال اسم الحيوان التي تضل عن أهلها كالإبل والبقر والطير وما في معناها فإذا وجدها المرء لم يحل له أن يعرض لها ما دامت بحال تمنع بنفسها وتستقل بقوتها حتى يأخذها صاحبها قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث زيد بن خالد الجهني عن رسول الله قال من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها وأخرجه النسائي ولفظه من أخذ لقطة فهو ضال ما لم يعرفها آخر كتاب اللقطة
[ 99 ]
المناسك فرض الحج النسك بضمتين العبادة وكل حق لله عزوجل والمناسك جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ويقع على المصدر والزمان والمكان ثم سميت به أمور الحج والمنسك المذبح والنسيكة الذبيحة وأصل الحج في اللغة القصد وقال الخليل كثرة القصد إلى معظم وفي الشرع القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة وهو بفتح المهملة وبكسرها لغتان ووجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة وأجمعوا على أنه لا يتكرر إلا بعارض كالنذر واختلف هل هو على الفور أو التراخي وفي وقت ابتداء فرضه فالجمهور على أنها سنة ست لأنها نزل فيها قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وهذا يبتني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ وأقيموا أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم وقيل المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع وهذا يقتضي تقدم فرصه قبل ذلك وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدي سنة خمس وهذا يدل إن ثبت على تقدمه على سنة خمس لوقوعه فيها وأما فضله فمشهور ولا سيما في الوعيد على تركه (الحج في كل سنة) قياسا على الصوم والزكاة فإن الأول عبادة بدنية والثاني طاعة مالية والحج مركب منهما (قال بل مرة واحدة)
[ 100 ]
قال الخطابي لا خلاف بين العلماء في أن الحج لا يتكرر وجوبه إلا أن هذا الإجماع إنما حصل منهم بدليل فأما نفس اللفظ فقد كان موهما للتكرار ومن أجله عرض هذا السؤال وذلك أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار ومن ذلك قول الشاعر يحجون بيت الزبرقان المزعفرا يزيد أنهم يقصدونه في أمورهم ويختلفون إليه في حاجاتهم مرة بعد أخرى وكان سيدا لهم ورئيسا فيهم وقد استدلوا بهذا المعنى في إيجاب العمرة وقالوا إذا كان الحج قصدا فيه تكرر فإن معناه لا يتحقق إلا بوجوب العمرة لأن القصد في الحج إنما هو مرة واحدة لا يتكرر وفي هذا الحديث دليل على أن المسلم إذا حج مرة ثم ارتد ثم أسلم أنه لا إعادة عليه في الحج وقد اختلف العلماء في الأمر الوارد من قبل الشارع هل يوجب التكرار أم لا على وجهين فقال بعضهم نفس الأمر يوجب التكرار وذهبوا إلى معنى اقتضاء العموم منه وقال الآخرون لا يوجبه ويقع الخلاص منه والخروج من عهدته باستعماله مرة واحدة لأنه إذا قيل له أفعلت ما أمرت به فقال نعم كان صادقا وإلى هذا ذهب أكثر العلماء قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه وفي إسناده سفيان بن حسين صاحب الزهري وقد تكلم فيه يحيى بن معين وغيره غير أنه قد تابعه عليه سليمان بن كثير وغيره فرووه عن الزهري كما رواه وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل لكل عام يارسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم الحديث وأخرجه النسائي أيضا انتهى (عقيل عن سنان) أي بغير لفظ أبي والحاصل أن سفيان بن حسين وعبد الجليل بن حميد وسليمان بن كثير كلهم قالوا عن الزهري عن أبي سنان وأما عقيل وحده فقال عن الزهري عن سنان قلت والصحيح أن أبا سنان كنيته واسمه يزيد بن أمية مشهور بكنيته ومنهم من عده في الصحابة والله أعلم
[ 101 ]
(هذه) أي هذه الحجة مفروضة عليكن (ثم) بعد ذلك (ظهور) جمع ظهر (ال بضمتين وتسكن الصاد تخفيفا جمع الحصر الذي يبسط في البيوت أي عليكن لزوم البيت ولا يجب عليكن مرة أخرى بعد ذلك الحج فهذا الحديث يدل على أن الحج فرض مرة ولذا أورده المؤلف في باب فرض الحج والحديث استدل به أيضا على عدم جواز الحج لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع قال الإمام ابن الأثير في النهاية وفي الحديث أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور ثم لزوم الحصر وفي رواية أنه قال لأزواجه هذه ثم لزوم الحصر أي إنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن وتلزمن الحصر انتهى وأجيب عن هذا من وجهين الأول أن حديث أبي واقد محتمل لمعنيين وليس بصريح ولا واضح على المنع فلا يترك به المتيقن وهو الجواز وذلك لما أخرجه البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت قلت يارسول الله ألا نغزوا ونجاهد معكم فقال لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج حج مبرور فقالت عائشة فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن ماجه قلت يارسول الله على النساء جهاد قال نعم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ولفظ الإسماعيلي لو جاهدنا معك قال لا جهاد ولكن حج مبرور فالمراد بقوله لا في جواب قولهن ألا نخرج فنجاهد معك أي ليس ذلك واجبا عليكن كما وجب على الرجال ولم يرد بذلك تحريمه عليهن فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهن كما أبيح للرجال تكرير الجهاد وخص به عموم قوله هذه ثم ظهور الحصر وقوله تعالى وقرن في بيوتكن وكأن عمر رضي الله عنه كان متوقفا في ذلك ثم ظهر له قوة دليلها فأذن لهن في آخر خلافته ثم كان عثمان بعده يحج بهن في خلافته أيضا كما سيجئ وقال البيهقي في حديث عائشة هذا دليل على أن المراد بحديث أبي واقد وجوب الحج مرة واحدة كالرجال لا المنع من الزيادة وفيه دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب كذا في فتح الباري والثاني المراد بحديث أبي واقد جواز الترك لا النهي من الحج لهن بعد حجة الوداع فقد ثبت حجهن ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرج البخاري من طريق إبراهيم عن أبيه عن جده إذن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها فبعث معهن عثمان ابن عفان وعبد الرحمن وروى ابن سعد في الطبقات بإسناد صححه الحافظ في الفتح من طريق أبي إسحاق السبيعي قال رأيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم حججن في هوادج عليها الطيالسة زمن المغيرة أي
[ 102 ]
ابن شعبة والظاهر أنه أراد بذلك زمن ولاية المغيرة على الكوفة لمعاوية وكان ذلك سنة خمسين أو قبلها ولابن سعد أيضا من حديث أم معبد الخزاعية قالت رأيت عثمان و عبد الرحمن في خلافة عمر حجا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزلن بقديد فدخلت عليهن وهن ثمان وله من حديث عائشة أنهن استأذن عثمان في الحج فقال أنا أحج بكن فحج بنا جميعا إلا زينب كانت ماتت وإلا سودة فإنها لم تخرج من بيتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج ابن سعد من حديث أبي هريرة فكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحججن إلا سودة وزينب فقالا لا تحركنا دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمر متوقفا في ذلك ثم ظهر له الجواز فأذن لهن وتبعه على ذلك من ذكر من الصحابة ومن في عصره من غير نكير وروى ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر قال منع عمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة ومن طريق أم درة عن عائشة قالت منعنا عمر الحج والعمرة حتى إذا كان آخر عام فأذن لنا وروى عمر بن شبة عن عائشة أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فحججن في آخر حجة حجها عمر الحديث قاله الحافظ كذا في غاية المقصود قال المنذري وابن أبي واقد هذا اسمه واقد وقد جاء مبينا وواقد هذا شبه المجهول انتهى وقال في الفتح وإسناد حديث أبي واقد صحيح والله أعلم 2 في المرأة تحج بغير محرم بفتح الميم وسكون الحاء وذو المحرم من لا يحل له نكاحها من الأقارب كالأب والابن والأخ والعم ومن يجري مجراهم (ذو حرمة) بضم الحاء وسكون الراء بمعنى ذي المحرم فذو حرمة وذو المحرم كلاهما بمعنى واحد قلت ورد حديث نهي السفر للمرأة بغير ذي محرم بألفاظ مختلفة ففي رواية لا تسافر المرأة ثلاثا إلا معها ذو محرم وفي رواية فوق ثلاث وفي رواية ثلاثة وفي رواية لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم وفي رواية لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها وفي رواية نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين وفي رواية لا يحل لامرأة مسلمة تسافر
[ 103 ]
مسيرة ليلة إلا ومعها ذو حرمة منها وفي رواية لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم وفي رواية مسيرة يوم وليلة وفي رواية لا تسافر إمرأة إلا مع ذي محرم هذه روايات مسلم وغيره وفي رواية لأبي داود لا تسافر بريدا والبريد مسيرة نصف يوم قال العلماء اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد قال البيهقي كأنه صلى الله عليه وسلم يسأل عن المرأة تسافر ثلاثا بغير محرم فقال لا وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال لا وسئل عن سفرها يوما فقال لا وكذلك البريد فأدى كل منهم ما سمعه وما جاء منها مختلفا عن راو واحد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفرا فالحاصل أن كل ما يسمى سفر انتهي عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريدا أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة وهي آخر روايات مسلم السابقة لا تسافر إمرأة إلا مع ذي محرم وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرا وأجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة الإسلام إذا استطاعت لعموم قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وقوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس الحديث واستطاعتها كاستطاعة الرجل لكن اختلفوا في اشتراط المحرم لها فأبو حنيفة يشترط لوجوب الحج عليها إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل ووافقه جماعة من أصحاب الحديث وأصحاب الرأي حكى ذلك أيضا عن الحسن البصري والنخعي وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها قال أصحاب الشافعي يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات ولا يلزمها الحج عند الشافعي إلا بأحد هذه الأشياء فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها هذا هو الصحيح قاله النووي في شرح مسلم قال القرطبي وسبب هذا الخلاف مخالفة ظواهر الأحاديث لظاهر قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا لأن ظاهره الاستطاعة بالبدن فيجب على كل قادر عليه ببدنه ومن لم تجد محرما قادرة ببدنها فيجب عليها فلما تعارضت هذه الظواهر اختلف العلماء في تأويل ذلك فجمع أبو حنيفة ومن وافقه بأن جعل الحديث مبينا الاستطاعة في حق المرأة ورأى مالك ومن وافقه أن للاستطاعة الأمنية بنفسها في حق الرجال والنساء وأن الأحاديث المذكورة لم تتعرض للأسفار الواجبة وقد أجيب أيضا بحمل الأخبار على ما إذا لم
[ 104 ]
تكن الطريق آمنا ذكره الزرقاني والله أعلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وفي حديث البخاري يوم وليلة انتهى كلامه وقوله في الحديث تسافر هكذا الرواية بدون أن نظير قولهم تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فتسمع موضعه رفع على ابتداء وتسافر موضعه رفع على الفاعلية فيجوز رفعه ونصبه بإضمار أن قاله الحافظ ولي العراقي وقوله مسيرة مصدر ميمي بمعنى السير كمعيشة بمعنى العيش وليست التاء فيه للمرة (قال الحسن) ابن علي وحده في حديثه دون عبد الله بن مسلمة القعنبي والنفيلي (عن أبيه) أي سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أبي سعيد بن أبي هريرة وأما القعنبي والنفيلي فقال عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة بحذف لفظ عن أبيه بين سعيد وأبي هريرة (ثم اتفقوا) أي القعنبي والنفيلي والحسن كلهم (عن أبي هريرة) أي جعل كلهم من مسندات أبي هريرة وإنما الاختلاف في زيادة لفظ عن أبيه (فذكر معناه) أي ذكر مالك معنى حديث الليث ولفظ مسلم من طريق مالك لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها قال المنذري وأخرجه مسلم وابن ماجه وأخرجه البخاري متابعة انتهى (قال النفيلي حدثنا مالك) وأما القعنبي فقال عن مالك (والقعنبي) هو عبد الله بن مسلمة (عن أبيه) أي لفظ عن أبيه بين سعيد بن أبي سعيد وأبي هريرة (واه ابن وهب) هو عبد الله ابن وهب بن مسلم (وعثمان بن عمر) بن فارس كلاهما (عن مالك) بحذف عن أبيه (كما قال القعنبي) أي كما روى القعنبي من جهة مالك بحذف لفظ عن أبيه قال النووي في شرح مسلم تحت حديث مالك هكذا أي بإثبات عن أبيه وقع هذا الحديث في نسخ بلادنا عن سعيد عن أبيه قال القاضي وكذا وقع في النسخ عن الجلودي وأبي العلاء والكسائي وكذا رواه مسلم عن قتيبة عن الليث عن سعيد عن أبيه وكذا رواه الشيخان من رواية ابن أبي ذئب عن سعيد عن أبيه واستدرك الدارقطني عليهما وقال الصواب عن سعيد عن أبي هريرة من غير ذكر أبيه واحتج بأن مالكا ويحيى بن أبي كثير وسهيلا قالوا عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يذكروا عن أبيه وكذا رواه معظم رواة الموطأ عن مالك
[ 105 ]
ورواه الزهراني والفروي عن مالك فقالا عن سعيد عن أبيه وكذا رواه الترمذي في النكاح عن الحسن بن علي بن بشر بن عمر بن مالك عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة ورواه أبو داود من جهة مالك وسهيل كلاهما عن سعيد عن أبي هريرة فحصل اختلاف ظاهر بين الحفاظ في ذكر أبيه فلعله سمعه من أبيه عن أبي هريرة ثم سمعه من أبي هريرة نفسه فرواه تارة كذا وتارة كذا وسماعه من أبي هريرة صحيح معروف انتهى كلام النووي ملخصا وقال الزرقاني في شرح الموطأ وأجيب بأن هذا اختلاف لا يقدح فإن سماع سعيد من أبي هريرة صحيح معروف فلعله سمعه من أبي هريرة نفسه فحدث به على الوجهين وبهذا ابن حبان فقال سمع هذا الخبر سعيد المقبري عن أبي هريرة وسمعه من أبيه عن أبي هريرة فالطريقان جميعا محفوظان انتهى ويؤيده أن سعيدا ليس بمدلس فالحديث صحيح على كل حال انتهى (وذكر) أي سهيل (نحوه) أي نحو حديث مالك (إلا أنه قال بريدا) أي لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر بريدا إلا مع ذي محرم قال النووي والبريد مسيرة نصف يوم وقال ابن الأثير هو أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف ذارع انتهى (لا يحل) نفي معناه نهي (فصاعدا) هو منصوب على الحال قال ابن مالك في شرح التسهيل هو بحذف عامله وجوبا أي فارتقى ذلك صاعدا أو فذهب صاعدا (ذو محرم) بفتح الميم أي حرام (منها) بنسب أو صهر أو رضاع إلا أن مالكا كره تنزيها سفرها مع ابن زوجها لفساد الزمان وحداثة الحرمة ولأن الداعي إلى النفرة عن امرأة الأب ليس كالداعي إلى النفرة عن سائر المحارم والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة عن محارم النسب وقوله أو زوجها وفي معناه السيد ولو لم يرد ذكر الزوج لقيس على المحرم قياسا جليا ولفظ امرأة عام في جميع النساء ونقل عياض عن بعضهم أنه في الشابة أما الكبيرة التي لا تشتهى فتسافر في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم قال ابن دقيق العيد وهو تخصيص للعموم بالنظر إلى
[ 106 ]
المعنى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه وأخرجه البخاري ومسلم من حديث قزعة بن يحيى عن أبي سعيد بنحوه انتهى (ثلاثا) أي ثلاثة أيام قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم (كان يردف) الرديف الذي تحمله خلفك على ظهر الدابة (مولاة له) أي أمة لابن عمر والسيد في حكم الزوج كما تقدم والحديث سكت عنه المنذري لاصرورة لا بفتح الصاد المهملة المفتوحة وضم الراء وإسكان الواو وفتح الراء وهو الذي لم يحج قط وهو نفي معناه النهي أو الذي انقطع عن النكاح على طريق الرهبان وفي الموطأ قال مالك في الصرورة من النساء التي تحج قط إن لم يكن لها ذو محرم يخرج معها أو كان لها فلم يستطع أن يخرج معها أنها لا تترك فريضة الله عليها في الحج ولتخرج في جماعة النساء انتهى وفي النهاية لا صرورة في الإسلام قال أبو عبيد هو في الحديث التبتل وترك النكاح والصرورة أيضا الذي لم يحج قط وأصله من الصر الحبس والمنع وقيل أراد من قتل في الحرم قتل ولا يقبل منه أن يقول إني صرورة ما حججت ولا عرفت حرمة الحرم كان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثا فلجأ إلى الكعبة لم يهج فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم قيل له هو صرورة فلا تهجه انتهى كلام الخطابي الصرورة تفسر تفسيرين أحدهما أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى والآخرة أن الصرورة هو الرجل الذي لم
[ 107 ]
يحج فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من المسلمين يستطيع الحج فلا يحج حتى يكون صرورة في الإسلام انتهى قال المنذري في إسناده عمر بن عطاء وهو ابن أبي الخوار وقد ضعفه غير واحد من الأئمة التزود في الحج (يحجون) أي يقصدون الحج (ولا يتزودون) أي لا يأخذون الزاد معهم مطلقا أو يأخذون مقدار ما يحتاجون إليه في البرية (نحن المتوكلون) والحال أنهم المتأكلون أن أو المعتمدون على الناس يقولون نحج بيت الله ولا يطعمنا وسألوا في مكة كما سألوا في الطريق (وتزودوا) أي خذوا زادكم من الطعام واتقوا الاستطعام والتثقيل على الأنام (فإن خير الزاد التقوى) أي الذي يتقي صاحبه عن السؤال فمن التقوى الكف عن السؤال والإبرام ومفعول تزودوا محذوف هو التقوى ولما حذف مفعوله أتى بخبر إن ظاهرا ليدل على المحذوف ولولا المحذوف لأتى مضمرا كذا في جامع البيان قال في المرقاة ففي الآية والحديث إشارة إلى أن ارتكاب الأسباب لا ينافي التوكل بل هو الأفضل وأما من أراد التوكل المجرد فلا حرج عليه إذا كان مستقيما في حاله غير مضطرب حيث لا يخطر الخلق بباله قال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي 5 التجارة في الحج (ليس عليكم جناح) إثم (أن تبتغوا) أي في أن تبتغوا (فضلا من ربكم) عطاء ورزقا منه
[ 108 ]
بالتجارة وكان المسلمون كرهوا التجارة في الحج فنزلت (فأمروا) بصيغة المجهول وهذا أمر إرشاد لا أمر إيجاب (أفاضوا) أي رجعوا قال المنذري في إسناده يزيد بن أبي زياد وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة وأخرجه له مسلم في المتابعة انتهى 6 باب (من أراد الحج فليتعجل) زاد البيهقي فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة وفي لفظ فإنه قد يمرض وتضل الضالة وتعرض الحاجة وفيه دليل على أن الحج واجب على الفور وإلى القول بالفور ذهب مالك وأبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد إنه على التراخي واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم حج سنة عشر وفرض الحج كان سنة ست أو خمس وأجيب بأنه قد اختلف في الوقت الذي فرض فيه الحج ومن جملة الأقوال أنه فرض في سنة عشر فلا تأخير ولو سلم أنه فرض قبل العاشرة فتراخيه صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لكراهة اختلاط في الحج بأهل الشرك لأنهم كانوا يحجون ويطوفون بالبيت عراة فلما طهر الله البيت الحرام منهم حج صلى الله عليه وآله وسلم فتراخيه لعذر ومحل النزاع التراخي مع عدمه ذكره في نيل الأوطار قال المنذري فيه مهران أبو صفوان قال أبو زرعة الرازي لا أعرفه إلا في هذا الحديث 7 الكري (أكري في هذا الوجه) أي سفر الحج (ليس لك حج) أي لا يصح حجك مع الكراء (قال
[ 109 ]
لك حج) أي يصح حجك مع الكراء قال المنذري أبو أمامة هذا لا يعرف اسمه روى عنه العلاء بن المسيب بن عمر والفقيمي وقال أبو زرعة كوفي لا بأس به (وسوق ذي المجاز) بفتح الميم والجيم المخففة وبعد الألف زاء وكانت بناحية عرفة إلى جانبها وعند ابن الكلبي مما ذكره الأزرقي أنه كان لهذيل على فرسخ من عرفة وقول البرماوي كالكرماني موضع بمنى كان له سوق في الجاهلية مخالف بما رواه الطبري عن مجاهد أنهم لا كانوا يبيعون ولا يبتاعون بعرفة ولا منى لكن يرد قول مجاهد هذا بما رواه المؤلف والحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج الحديث (ومواسم الحج) جمع موسم بفتح الجيم وسكون الواو وكسر السين المهملة قال في القاموس موسم الحج مجتمعه (أنه كان يقرأها في المصحف) وروى الطبري بإسناد صحيح عن أيوب عن عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك ورواه ابن أبي عمر في مسنده كان ابن عباس يقرؤها فهي على هذا من القراءة الشاذة حكمها عند الأئمة حكم التفسير قاله الحافظ وقال المنذري الحديث الأول رواه ابن أبي ذئب عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن
[ 110 ]
عمير عن ابن عباس والثاني رواه ابن أبي ذئب عن عبيد بن عمير قال أحمد ابن صالح كلاما معناه أنه مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي المحفوظ رواية عطاء عن عبيد الليثي المكي فأما عبيد بن عمير مولى ابن عباس فغير مشهور ولم يذكر ابن أبي ذؤيب عبيد بن عمير فلعلهما اثنان رويا الحديث إن صح قول ابن صالح انتهى 8 في الصبي يحج (بالروحاء) بفتح الراء موضع من أعمال الفرع على نحو من أربعين ميلا من المدينة وفي كتاب مسلم ستة وثلاثين ميلا منها (فلقي ركبا) بفتح الراء وسكون الكاف جمع راكب أو اسم جمع كصاحب وهو العشرة فما فوقها من أصحاب الإبل في السفر دون بقية الدواب ثم اتسع لكل جماعة (فقال من القوم) بالاستفهام (فأخرجته من محفتها) بكسر الميم وتشديد الفاء مركب من مراكب النساء كالهودج إلا أنها لا تقبب كما تقبب الهودج كذا في الصحاح (قال نعم ولك أجر) قال الخطابي إنما كان له الحج من ناحية الفضيلة دون أن يكون محسوبا عن فرضه لو بقي حتى بلغ ويدرك مدرك الرجال وهذا كالصلاة يؤمر بها إذا أطاقها وهي غير واجبة عليه وجوب فرض ولكن يكتب له أجرها تفضلا من الله سبحانه وتعالى ويكتب لمن يأمره بها ويرشده إليها أجر فإذا كان له حج فقد علم أن من سننه أن يوقف به المواقف ويطاف به حول البيت محمولا إن لم يطق المشي وكذلك السعي بين الصفا والمروة ونحوها من أعمال الحج وفي معناه المجنون إذا كان ميؤوسا من إفاقته وفي ذلك دليل على أن حجه إذا فسد ودخله نقص فإن جبرانه واجب عليه كالكبير وإن اصطاد صيدا لزمه الفداء كما يلزم الكبير وفي
[ 111 ]
وجوب هذه الغرامات عليه في ماله كما يلزمه لو تلف مالا لإنسان فيكون غرمه في ماله أو وجوبها على وليه إذا كان هو الحامل له على الحج والنائب عنه في ذلك نظر وفيه اختلاف بين الفقهاء وقال بعض أهل العراق لا يحج الصبي الصغير والسنة أولى ما اتبع انتهى قال المنذري أخرجه مسلم والنسائي . في المواقيت (عن ابن عمر قال وقت) أي اجعل ميقاتا للإحرام والمراد بالتوقيت هنا التحديد ويحتمل أن يريد به تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر وقال القاضي عياض وقت أي حدد قال الحافظ وأصل التوقيت أن يجعل للشئ وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضا قال ابن الأثير التأقيت أن يجعل للشئ وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة يقال وقت الشئ بالتشديد يؤقته ووقته بالتخفيف يقته إذا بين مدته ثم اتسع فيه فقيل للموضع ميقات وقال ابن دقيق العيد إن التأقيت في اللغة تعليق الحكم بالوقت ثم استعمل للتحديد والتعيين وعلى هذا فالتحديد من لوازم الوقت وقد يكون وقت بمعنى أوجب ومنه قوله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (لأهل المدينة ذا الحليفة) بالحاء المهملة والفاء مصغرا قال في الفتح مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين قاله ابن حزم وقال غيره بينهما عشر مراحل قال النووي بينها وبين المدينة ستة أميال ووهم من قال بينهما ميل واحد وهو ابن الصباغ وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب وفيها بئر يقال لها بئر علي انتهى (الجحفة) بضم الجيم وسكون المهملة قال في الفتح وهي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست وفي قول النووي في شرح المهذب ثلاث مراحل نظر وقال في القاموس هي على اثنين وثمانين ميلا من مكة وبها غدير خم كما قال صاحب النهاية (ولأهل نجد قرن) بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون وضبطه صاحب الصحاح بفتح الراء وغلطه القاموس وحكى النووي الاتفاق
[ 112 ]
على تخطئته وقيل إنه بالسكون الجبل وبالفتح الطريق حكاه عياض عن القابسي قال في الفتح والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان (يلملم) بفتح التحتانية واللام وسكون الميم بعدها لام مفتوحة ثم ميم قال في القاموس ميقات أهل اليمن على مرحلتين من مكة وقال في الفتح كذلك وزاد بينهما ثلاثون ميلا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (عن ابن طاووس) هو عبد الله بن طاووس (عن أبيه) طاووس عن ابن عباس مرفوعا كما عند البخاري (قالا) أي عمرو بن دينار وعبد الله بن طاووس بإسنادهما (بمعناه) أي بمعنى حديث نافع (وقال أحدهما) أي عمرو ابن دينار أو ابن طاووس (الملم) بالهمزة وهو الأصل (فهن) أي المواقيت المذكورة وهي ضمير جماعة المؤنث وأصله لما يعقل وقد يستعمل فيما لا يعقل لكن فيما دون العشرة كذا في الفتح (لهم) أي لأهل البلاد المذكورة (ولمن أتى عليهن) أي على المواقيت من غير أهل البلاد المذكورة فإذا أراد الشامي الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور وادعى النووي اجماع على ذلك وتعقب بأن المالكية يقولون يجوز له ذلك وإن كان الأفضل خلافه وبه قالت الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية وهكذا ما كان من البلدان خارجا عن البلدان المذكورة فإن ميقات أهلها الميقات الذي يأتون عليه (ومن كان دون ذلك) مبتدأ أي داخل هذه المواقيت أي بين الميقات ومكة (من حيث أنشأ) خبر المبتد أي يهل من حيث أنشأ سفره قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (وقت لأهل العراق ذات عرق ) بكسر العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف بينه وبين
[ 113 ]
مكة مرحلتان وسمي بذلك لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير وهي والعقيق متقاربان لكن العقيق قبيل ذات عرق وفي صحة الحديث مقال والأصح عند الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لأهل المشرق ميقاتا وإنما حد لهم عمر رضي الله عنه حين فتح العراق وقال الشافعي ينبغي أن يحرم من العقيق احتياطا وجمعا بين الحديثين قاله الطيبي قال الكرماني اختلفوا في أن ذات عرق صارت بتوقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم باجتهاد عمر رضي الله عنه والأصح هو الثاني كما هو لفظ الصحيح وعليه نص الشافعي انتهى وصححه العلامة العيني الأول وبسط الكلام في شرح البخاري قال المنذري وأخرجه النسائي وأخرج مسلم من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال أحسبه رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه ومهل أهل العراق من ذات عرق وأخرجه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي عن أبي الزبير عن جابر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره جازما به غير أن إبراهيم هذا لا يحتج بحديثه وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حد لهم ذات عرق وكان الإمام أحمد بن حنبل ينكر هذا الحديث مع غيره على أفلح ابن حميد أعني حديث عائشة في ذات عرق (لأهل المشرق العقيق) قال الخطابي الحديث في العقيق أثبت منه في ذات عرق والصحيح أن عمر بن الخطاب وقتها لأهل العراق بعد أن فتحت العراق وكان ذلك على التقدير على موازاة قرن لأهل نجد وكان الشافعي يستحب أن يحرم أهل العراق من العقيق فإذا أحرموا من ذات عرق أجزأهم وقد تابع الناس في ذلك عمر رضي الله عنه إلى زماننا هذا انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال هذا حديث زحسن هذا آخر كلامه وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف وذكر البيهقي أنه تفرد به
[ 114 ]
(ابن يحنس) بضم أوله وفتح المهملة وتشديد النون المفتوحة ثم مهملة (من أهل) أي أحرم (بحجة أو عمرة) أو للتنويع (غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر) أي من الصغائر ويرجى الكبائر (أو وجبت) أي ثبتت (له الجنة) أي ابتداء وأو للشك وفيه إشارة إلى أن موضع الإحرام متى كان أبعد كان الثواب أكثر قال الخطابي فيه جواز تقديم الإحرام على الميقات من المكان البعيد مع الترغيب فيه وقد فعله غير واحد من الصحابة ذكر ذلك جماعة وأنكر عمر بن الخطاب على عمران بن حصين إحرامه من البصرة وكرهه الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومالك بن أنس وقال أحمد بن حنبل وجه العمل المواقيت وكذلك قال إسحاق قلت ويشبه
[ 115 ]
أن يكون عمر رضي الله عنه إنما أنكر ذلك شفقا أن يعرض للمحرم إذا بعدت المسافة آفة تفسد إحرامه ورأى أن ذلك في أقصر المسافة أسلم والله أعلم قال المنذري وأخرجه ابن ماجه ولفظه من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له وفي رواية من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من ذنوب وقد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيرا (ووقت) حكى الأثرم عن أحمد أنه سئل في أي سنة وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت فقال عام حج قال المنذري وأخرجه النسائي وقال البيهقي في إسناده من هو غير معروف الحائض تهل بالحج (عن عائشة قالت نفست) بصيغة المجهول أي ولدت محمد بن أبي بكر (أسماء بنت عميس) إحدى زوجات أبي بكر الصديق قال النووي قولها نفست أي ولدت وبكسر الفاء لا غير وفي النون لغتان المشهورة ضمها والثانية فتحها سمي نفاسا لخروج النفس وهي المولود والدم أيضا وفيه صحة إحرام النفساء والحائض واستحباب اغتسالهم للإحرام وهو مجمع على الأمر به لكن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور أنه مستحب وقال الحسن وأهل الظاهر هو واجب والحائض والنفساء يصح منهما أفعال الحج إلا الطواف وركعتيه لقوله صلى الله عليه وسلم اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي وفيه أن ركعتي الإحرام سنة ليستا بشرط لصحة الحج لأن أسماء لم تصلهما (بالشجرة) وفي رواية عند مسلم بذي الحليفة وفي رواية بالبيداء هذه المواضع الثلاثة متقاربة فالشجرة بذي الحليفة وأما البيداء فهي طرف ذي الحليفة قال القاضي يحتمل أنها نزلت بطرف البيداء لتبعد عن الناس وكان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة حقيقة وهناك بات وأحرم فسمي منزل الناس كلهم منزل باسم إمامهم (تهل) أي تحرم قال
[ 116 ]
المنذري وأخرجه مسلم وابن ماجه (على الوقت) أي الميقات (قال أبو معمر) هو إسماعيل بن إبراهيم قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال غريب من هذا الوجه هذا آخر كلامه وفي إسناده خصيف وهو ابن عبد الرحمن الحراني كنيته أبو عون وقد ضعفه غير واحد 11 الطيب عند الإحرام (كنت أطيب) أي أعطر (حرامه) أي لأجل دخوله في الإحرام أو لأجل إحرام حجه (وحلاله) أي لخروجه من الإحرام وهو احلال الذي يحل به كل محظور وهو طواف الزيارة ويقال له طواف الإفاضة وقد كان حل بعض احلال وهو بالرمي الذي يحل به الطيب وغيره ولا يمنع بعده إلا من النساء وظاهر هذا أنه قد فعل الحلق والرمي وبقى الطواف كذا في السبل (قبل أن يطوف بالبيت) أي طواف الإفاضة وهو متعلق بحله وفيه دليل على أن الطيب يحل بالتحلل الأول خلافا لمن ألحقه بالجماع قاله في المرقاة وقال في سبل السلام فيه دليل على استحباب التطيب عند إرادة فعل الإحرام وجواز استدامته بعد الإحرام وأنه لا يضر بقاء لونه وريحه وإنما يحرم ابتداؤه في حال الإحرام وإلى هذا ذهب جماهير الأمة من الصحابة والتابعين وذهب جماعة منهم إلى خلافه وتكلفوا لهذه الرواية ونحوها بما لا يتم به مدعاهم فإنهم قالوا إنه صلى الله عليه وسلم تطيب ثم اغتسل بعده فذهب الطيب قال النووي في شرح مسلم بعد ذكره الصواب ما قاله من أنه يستحب للإحرام لقولها حرامه ومنهم من زعم أن ذلك خاص به صلى الله عليه وآله وسلم ولا يتم ثبوت الخصوصية إلا بدليل عليها بل الدليل قائم على خلافها وهو ما ثبت من حديث عائشة كنا ننضح وجوهنا بالطيب المسك قبل أن نحرم فنعرق فنغسل الله وجوهنا ونحن
[ 117 ]
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينهانا رواه أبو داود وأحمد بلفظ كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فنضمخ جباهنا بالمسك الطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينهانا ولا يقال هذا خاص بالنساء لأن الرجال والنساء في الطيب سواء با جماع والطيب يحرم بعد الإحرام لا قبله وإن دام حاله فإنه كالنكاح لأنه من دواعيه والنكاح إنما يمنع المحرم من ابتدائه لا من استدامته فكذلك الطيب لأن الطيب من النظافة من حيث أنه يقصد به دفع الرائحة الكريهة كما يقصد بالنظافة إزالة ما يجمعه الشعر والظفر من الوسخ ولذا استحب أن يأخذ قبل الإحرام من شعره وأظفاره لكونه ممنوعا منه بعد الإحرام وإن بقي أثره بعده أما حديث مسلم في الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف يصنع في عمرته وكان الرجل قد أحرم وهو متضمخ بالطيب فقال صلى الله عليه وآله وسلم أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات الحديث فقد أجيب عنه بأن هذا السؤال والجواب كانا بالجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان وقد حج صلى الله عليه وآله وسلم سنة عشر واستدام الطيب وإنما يؤخذ بالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يكون ناسخا للأول انتهى وأخرجه المنذر وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (كأني أنظر) قال الحافظ أرادت بذلك قوة تحققها لذلك بحيث أنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه (وبيص) بالموحدة المكسورة وآخره صاد مهملة هو البريق وقال اسماعيلي إن الوبيص زيادة على البريق وإن المراد به التلألؤ وإنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط (في مفرق) هو المكان الذي يفرق فيه الشعر في وسط الرأس قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي 12 التلبيد قال (يهل ملبدا) أي يحرم بالتلبيد والتلبيد أن يجعل المحرم في رأسه صمغا أو غيره
[ 118 ]
ليتلبد شعره أي يلتصق بعضه ببعض فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا القمل وإنما يفعله من يطول مكثه في الإحرام قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (لبد رأسه بالعسل) قال ابن عبد السلام يحتمل أنه بفتح المهملتين ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة وهو ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره قال في فتح الباري ضبطناه في روايتنا في سنن أبي داود بالمهملتين قاله السيوطي 13 في الهدي (أهدى عام الحديبية) بالتخفيف على الأفصح وهي السنة السادسة من الهجرة توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة فأحصره المشركون بالحديبية وهو موضع من أطراف الحل وقضيته مشهورة (في هدايا) أي في جملة هدايا (جملا) نصب بأهدى وفي هدايا صلة له وكان حقه أن يقول في هداياه فوضع المظهر موضع المضمر والمعنى جملا كائنا في هداياه كان لأبي جهل أي عمرو بن هشام المخزومي اغتنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر (في رأسه) أي أنفه (برة فضة) بضم الموحدة وفتح الراي المخففة أي حلقة والمعنى أي في أنفه حلقة فضة فإن البرة حلقة صفر ونحوه تجعل في لحم أنف البعير وقال الأصمعي في أحد جانبي المنخرين لكن لما كان الأنف من الرأس قال في رأسه على الاتساع (قال ابن منهال برة من ذهب) ويمكن التعدد باعتبار المنخرين (يغيظ بذلك المشركين) بفتح حرف المضارعة أي يوصل الغيظ إلى قلوبهم في نحر ذلك الجمل قلت خاتمة جمله أجمل منه فإنها نحرت في سبيل الله وأكل منها رسوله وأولياؤه ثم نظير الحديث قوله تعالى ليغيظ بهم الكفار كذا في المرقاة
[ 119 ]
14 في هدي البقر (عن عائشة) وعند مسلم من حديث جابر قال ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر وفي لفظ له قال نحر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة في حجته (بقرة واحدة) قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه (بقرة بينهن) قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه 15 في الإشعار عن (قال أبو الوليد) في روايته (قال) قتادة (صلى الظهر بذي الحليفة) أي ركعتين لكونه مسافر (فأشعرها) الإشعار هو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة
[ 120 ]
على كونها هديا ويكون ذلك في صفحة سنامها الأيمن وقد ذهب إلى مشروعيته الجمهور من السلف والخلف وروى الطحاوي عن أبي حنيفة كراهته والأحاديث ترد عليه وقد خالف الناس في ذلك حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد واحتج على الكراهة بأنه من المثلة وأجاب الخطابي بمنع كونه منها بل هو باب آخر كالكي وشق أذن الحيوان فيصير علامة وغير ذلك من الوسم وكالختان والحجامة كما سيجئ على أنه لو كان من المثلة لكان ما فيه من الأحاديث مخصصا له من عموم النهي عنها (الدم عنها) أي عن صفحة سنامها (وقلدها بنعلين) فيه دليل على مشروعية تقليد الهدي وبه قال الجمهور قال ابن المنذر أنكر مالك وأصحاب الرأي التقليد للغنم زاد غيره وكأنه لم يبلغهم الحديث وسيجئ (على البيداء) محل بذي الحليفة أي علت فوق البيداء وصعدت (أهل) أي لبى (بالحج) وكذا بالعمرة لما في الصحيحين عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة يقول لبيك عمرة وحجا قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه
[ 121 ]
(قال ثم سلت الدم بيده) أي مسح وأماط قال الخطابي سلت بيده أي أماطه بإصبعيه وأصل السلت القطع ويقال سلت الله أنف فلان أي جدعه (هذا من سنن أهل البصرة) أي حديث التقليد بالنعلين من الأحاديث المروية لأهل البصرة لأن رواة هذا الحديث كلهم بصريون أبو حسان الأعرج مسلم بن عبد الله الذي يدور الإسناد إليه بصري وقتادة الراوي عن أبي حسان ثم شعبة الراوي عن قتادة كلاهما بصريان وروى أيضا هشام الدستوائي عن قتادة وهو أيضا بصري وحديثه عند مسلم وهمام بن يحيى أيضا روى عن قتادة وهو بصري وإليه أشار المؤلف بقوله قال أبو داود رواه همام كذا في غاية المقصود (قلد الهدي وأشعره) قال الخطابي الإشعار أن يطعن في سنامها حتى يسيل دمها فيكون ذلك علما أنها بدنة ومنها الشعار في الحروب هو العلامة التي يعرف بها الرجل صاحبه ويميز بينه وبين عدوه وفيه بيان أن الإشعار ليس من جملة ما نهي عنه من المثلة وإنما المثلة أن يقطع عضوا من البهيمة يراد بذلك التعذيب وفيه أيضا من السنة التقليد وهو في الإبل كالإجماع من أهل العلم وفيه أن اشعار من الشق الأيمن وهو السنة قال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي (أهدى غنما مقلدة) قال الخطابي فيه من الفقه أن الغنم قد يقع عليها اسم الهدي وزعم بعضهم أن الغنم لا يطلق عليها اسم الهدي وفيه أن الغنم تقلد وبه قال عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا ساق الهدي ثم قلده فلا تقلد الغنم وكذلك قال مالك قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه بنحوه
[ 122 ]
16 تعديل الهدي (قال أهدى عمر بن الخطاب بختيا) بضم الباء وسكون الخاء المعجمة ثم التاء المثناة الفوقانية قال في القاموس هي الإبل الخراسانية انتهى وفي النهاية البختية الأنثى من الجمال البخت والذكر بختي وهي جمال طوال الأعناق انتهى وفي بعض النسخ نجيبا بفتح النون وكسر الجيم ثم الياء والنجيب والنجيبة الناقة والجمع النجائب قال في النهاية النجيب الفاضل من كل حيوان ثم قال وقد تكرر في الحديث ذكر النجيب من الإبل مفردا ومجموعا وهو القوي منها الخفيف السريع انتهى (بدنا) جمع بدنة (قال لا) أي لا تبعها بل انحرها (إياها) للتأكيد (قال أبو داود هذا) أي منعه صلى الله عليه وسلم عن بيعها والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع الهدي بدال مثله أو أفضل ومن قوله قال أبو داود أبو عبد الرحيم إلى قوله حجاج ابن محمد في بعض النسخ وهذه ترجمة لأبي عبد الرحيم ذكرها أبو داود فأبو عبد الرحيم هذا هو خالد بن أبي يزيد خال محمد بن سلمة روى عن زيد بن أبي أنيسة ومكحول وجهم بن الجارود وعنه حجاج بن محمد الأعور ومحمد بن سلمة وموسى ابن أعين وثقه ابن معين قال المنذري قال البخاري لا يعرف لجهم سماع من سالم انتهى
[ 123 ]
قلت وهذا الحديث أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما 17 من بعث بهديه وأقام ببلده غير محرم (قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم) القلائد جمع قلادة وهي ما تعلق بالعنق والبدن جمع البدنة وهي ناقة أو بقرة تنحر بمكة (بيدي) بتشديد الياء (ثم بعث بها) مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة (فما حرم) بفتح الحاء وضم الراء (عليه) أي على النبي صلى الله عليه وسلم (شئ كان له حلا) أراد محظورات الإحرام معناه أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي ولا يحرم فلهذا لا يجتنب عن محظورات الإحرام قال النووي فيه دليل على استحباب بعث الهدي إلى الحرم وأن من لم يذهب إليه يستحب له بعثه مع غيره وفيه أن من يبعث هديه لا يصير محرما ولا يحرم عليه شئ ما يحرم على المحرم وهو مذهب كافة العلماء إلا رواية حكيت عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وسعيد بن جبير أنه إذا فعل ذلك اجتنب ما يجتنبه المحرم ولا يصير محرما من غير نية الإحرام والصحيح ما قاله الجمهور لهذه الأحاديث الصحيحة وسبب هذا القول من عائشة أنه بلغها فتيا بعض الصحابة فيمن بعث هديا إلى مكة أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج من لبس
[ 124 ]
المخيط وغيره حتى ينحر هديه بمكة فقالت ردا عليه قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (زعم) أي ابن عون (سمعه) أي هذا الحديث (منهما) أي القاسم وإبراهيم (ولم يحفظ) أي لم يميز حديث هذا من الآخر (أم المؤمنين) وهي عائشة (من عهن) هو الصوف المصبوغ ألوانا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي 18 في ركوب البدن (يسوق بدنة) أي ناقة (قال إنها بدنة) أي هدي ظنا أنه لا يجوز ركوب الهدي مطلقا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (اركبها بالمعروف) أي بوجه لا يلحقها ضرر (إذا ألجئت) أي إذا اضطررت (إليها) إلى ركوبها (حتى تجد ظهرا) أي مركوبا آخر قال النووي هذا دليل على ركوب البدنة المهداة وفيه مذاهب مذهب الشافعي أنه يركبها إذا احتاج ولا يركبها من غير حاجة وإنما يركبها بالمعروف من غير إضرار وبهذا قال جماعة وهو رواية عن مالك في الرواية الأخرى وأحمد وإسحاق له ركوبها من غير حاجة بحيث لا
[ 125 ]
يضرها وبه قال أهل الظاهر وقال أبو حنيفة لا يركبها إلا أن لا يجد منه بدا انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي 19 الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ (فقال إن عطب) بكسر الطاء أي عيي وعجز من السير ووقف في الطريق وقيل أي قرب من العطب وهو الهلاك ففي القاموس عطب كنصر لان وكفرح هلك والمعنى على الثاني (منها) أي من الهدي المهداة إلى الكعبة بيان (ثم اصبغ) أي اغمس (نعله) أي المقلدة به (في دمه) أي ثم اجعلها على صفحته قال الخطابي إنما أمره أن يصبغ نعله في دمه ليعلم المار به أنه هدي فيجتنبه إذا لم يكن محتاجا ولم يكن مضطرا إلى أكله (ثم خل بينه وبين الناس) في دلالة على أنه لا يحرم على أحد أن يأكل منه إذا احتاج إليه قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث ناجية حديث حسن صحيح (عن أبي التياح) أي حماد وعبد الوارث كلاهما عن أبي التياح (إن أزحف) أي أعيي وعجز عن المشي وهو بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله هكذا ضبطه الخطابي وفي صحيح مسلم فأزحفت عليه بفتح الهمزة وإسكان الزاء قال النووي كلاهما صحيحان قال الخطابي معناه أعيي وكل يقال زحف البعير إذا خر على استه على الأرض من الإعياء وأزحفه السير إذا جهد وبلغ به هذا الحال (ثم تصبغ نعلها) أي التي قلدتها في عنقها (في دمها) لئلا يأكل منها الأغنياء (ثم اضربها) أي النعل (على صفحتها) أي كل واحدة من النعلين على
[ 126 ]
صفحة من صفحتي سنامها (ولا تأكل منها أنت) للتأكيد (ولا أحد) أي لا يأكل أحد (من أهل رفقتك) بضم الراء وسكون الفاء وفي القاموس الرفقة مثلته أي رفقائك فأهل زائد والإضافة بيانية قال الطيبي رحمه الله سواء كان فقيرا أو غنيا وإنما منعوا ذلك قطعا لأطماعهم لئلا ينحرها أحد ويتعلل بالعطب هذا إذا أوجبه على نفسه وأما إذا كان تطوعا فله أن ينحره ويأكل منه فإن مجرد التقليد لا يخرجه عن ملكه قاله في المرقاة قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي (الذي تفرد به انتهى) هذه العبارة ليست في عامة النسخ ولا يستقيم المعنى بها فإن التفرد بهذه الجملة ليس في طبقة الصحابة لأن ابن عباس رواها عن ذؤيب أبي قبيصة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم وأرسله ابن عباس مرة كما عند المؤلف وهكذا روى عمرو بن خارجة الثمالي عن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أحمد في مسنده ولفظه ولا تأكل أنت ولا أهل رفقتك وخل بينه وبين الناس بل هذه الجملة في حديث ناجية الأسلمي أيضا عند الواقدي في المغازي لكن الواقدي ضعيف جدا وأما في طبقة التابعين فروى موسى بن سلمة الهذلي وسنان بن سلمة كلاهما عن ابن عباس كما عند مسلم وشهر بن حوب عن عمور بن خارجة عند أحمد ويشبه أن يكون المراد تفردا لأبي التياح فإن مدار الإسناد إليه وهو يروي عن موسى بن سلمة وأجيب بأن أبا التياح قد توبع تابعه قتادة عن سنان بن سلمة عن ابن عباس كما عند مسلم (سمعت أبا سلمة) هو موسى بن إسماعيل المنقري (إذا أقمت الإسناد) في الحديث (والمعنى كفاك) ولا يضرك روايتك الحديث إن غيرت بعض الألفاظ فإن رواية الحديث بالمعنى جائز كذا في الشرح واعلم أن باب الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ تم إلى حديث ابن عباس وبه تم الجزء العاشر وفرق في بعض نسخ الكتاب بين الباب المذكور وبين قوله حدثنا هارون بن عبد الله أي حديث علي إلى حديث عرفة بن الحارث الكندي بالبسملة فقال بسم الله الرحمن الرحيم
[ 127 ]
حدثنا هارون بن عبد الله إلى آخره وقال المنذري في مختصره في آخر حديث ابن عباس آخر الجزء العاشر ويتلوه الحادي عشر من أصله انتهى والأشبه أن من قوله حدثنا هارون بن عبد الله باب آخر فسقط الباب وأما إدخال هذه الأحاديث الثلاثة أي حديث علي وعبد الله بن قرط وعرفة الكندي في الباب المذكور فلا يخلو من تعسف وتكلف كما لا يخفى والله أعلم (فنحرت سائرها) أي باقيها والحديث فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن وبه أعله المنذري (عن عبد الله بن قرط) بضم القاف وسكون الراء ثم طاء مهملة (ثم يوم القر) هو اليوم الذي يلي يوم النحر لأن الناس يقرون فيه بمنى بعد أن فرغوا من طواف الإفاضة والنحر واستراحوا والقر بفتح القاف وتشديد الراء (وقرب) بتشديد الراء مجهولا (بدنات خمس أو ست) شك من الراوي أو ترديد من عبد الله تقريب الأمر أي بدنات من بدن النبي صلى الله عليه وسلم (فطفقن) بكسر الفاء الثانية أي شرعن من (يزدلفن) أي يتقربن في ويسعين يعني يقصد كل من البدنة أن يبدأ في النحر بها ولا يخفى ما فيه من المعجزة الباهرة قال الطيبي أي منتظرات يأتيهن يبدأ للتبرك بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحرهن بن قال الخطابي يزدلفن معناه يقربن من قولك زلف الشئ إذا قرب ومنه قوله تعالى وأزلفنا ثم الآخرين معناه والله أعلم الدنو والقرب من الهلاك وإنما سميت المزدلفة لاقتراب الناس إلى منى بعد الإفاضة عن عرفات (فلما وجبت جنوبها) أي سقطت على الأرض قال الخطابي معناه ذهبت أنفسها فسقطت على جنوبها وأصل الوجوب السقوط (من
[ 128 ]
شاء اقتطع) أي أخذ قطعة منها قال الخطابي فيه دليل على جواز هبة المشاع قال المنذري وأخرجه النسائي (قال شهدت) أي حضرت (أبا حسن) أراد به علي بن أبي طالب (بأسفل الحربة) هي كالرمح وإنما أخذ أسفلها ليمسكها فلا تسقط على الأرض 20 كيف تنحر البدن (وأخبرني عبد الرحمن بن سابط) والمخبر عن عبد الرحمن بن سابط هو ابن جريج فالحديث من مسند جابر كما ذكره أصحاب الأطراف وكتب الأحكام وغيرهم لكن رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن جريج عن عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلا
[ 129 ]
قال ابن القطان في كتابه بعد أن ذكره من جهة أبي داود القائل وأخبرني هو ابن جريج فيكون ابن جريج رواه عن تابعيين أحدهما أسنده وهو أبو الزبير والآخر أرسله وهو عبد الرحمن بن سابط كذا في الشرح (معقولة اليسرى) أي مربوطة قائمتها هذه اليسرى والحديث سكت عنه المنذري (باركة) أي جالسة (فقال ابعثها) أي أقمها (قياما) حال مؤكدة أي قائمة (مقيدة) حال ثانية أو صفة لقائمة معناه معقولة برجل وهي قائمة على الثلاث (سنة محمد صلى الله عليه وسلم) نصب بعامل محذوف تقديره اتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم وبدل عليه رواية انحر قائمة فإنها سنة محمد صلى الله عليه وسلم وبه قال الشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة والثوري ينحر باركة وقائمة واستحب عطاء أي ينحرها باركة معقولة وأما البقرة والغنم فيستحب أن تذبح مضطجعه على جنبها الأيسر قاله الكرماني قال المنذري أخرجه البخاري ومسلم والنسائي (وأمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئا) قال الخطابي أي لا يعطي على معنى الأجرة شيئا فأما أن يتصدق به عليه فلا بأس به والدليل على هذا قوله نعطيه من عندنا أي أجر عمله وبهذا قال أكثر أهل العلم وروي عن الحسن قال لا بأس أن يعطى الجزار الجلد وأما الأكل من لحوم الهدي فما كان منه واجبا لم يحل أكل شئ منه وهو مثل الدم يجب في جزاء الصيد وإفساد الحج ودم المتعة والقران وكذلك ما كان نذرا أوجبه المرء على نفسه وما كان تطوعا كالضحايا والهدايا فله أن يأكل منه ويهدي ويتصدق وهذا كله على مذهب الشافعي وقال مالك يؤكل من الهدي الذي ساقه لفساد حجه ولفوات الحج ومن هدي التمتع ومن
[ 130 ]
الهدي كله إلا فدية الأذى وجزاء الصيد وما نذر للمساكين وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا يؤكل من البدن ومن جزاء الصيد ويؤكل ما سوى ذلك وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعند أبي حنيفة وأصحابه يأكل من هدي المتعة وهدي القران وهدى التطوع ولا يأكل مما سواهما قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه 21 وقت الإحرام (في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي إحرامه (فسمع ذلك) أي إهلاله وتلبيته (فلما استقلت به) أي برسول الله صلى الله عليه وسلم (ناقته) فاعل استقلت والمعنى ارتفعت وتعالت ناقته به صلى الله عليه وسلم (يأتون أرسالا) أي أفواجا وفرقا (فقالوا) أي زعموا (وأدرك ذلك) أي إهلاله هنا البيداء المفازة التي لا شئ فيها وهي ههنا اسم موضع مخصوص بقرب ذي الحليفة وهذا الحديث يزول به الإشكال ويجمع بين الروايات المختلفة بما فيه فيكون شروعه صلى الله عليه وسلم في الإهلال بعد الفراغ من صلاته بمسجد ذي الحليفة في مجلسه قبل أن يركب فنقل عنه من سمعه يهل هنالك أنه أهل بذلك
[ 131 ]
المكان ثم أهل لما استقلت به راحلته فظن من سمع إهلاله عند ذلك أنه شرع فيه في ذلك الوقت لأنه لم يسمع إهلاله بالمسجد فقال إنما أهل حين استقلت به راحلته ثم روى كذلك من سمعه يهل على شرف البيداء وهذا يدل على أن الأفضل لمن كان ميقاته ذا الحليفة أن يهل في مسجدها بعد فراغه من الصلاة ويكرر الإهلال عند أن يركب على راحلته وعند أن يمر بشرف البيداء قال في الفتح وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك وإنما الخلاف في الأفضل قال المنذري في إسناده حصيف بن عبد الرحمن الحراني وهو ضعيف (قال بيداؤكم هذه الخ) يعني بقولكم أنه أهل فيها وإنما أهل من عند مسجد ذي الحليفة ومن عند الشجرة التي كانت عند المسجد وسماهم ابن عمر كاذبين لأنهم أخبروا بالشئ على خلاف ما هو والكذب عند أهل السنة هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو سواء تعمده أم غلط فيه وسها قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (كان يوم التروية) وهو اليوم الثامن من ذي الحجة (فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين) قال النووي أما اليمانيان فهو بتخفيف الياء هذه اللغة الفصيحة المشهورة والمراد بالركنين اليمانيين الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود ويقال له العراقي لكونه جهة العراق وقيل للذي قبله اليماني لأنه جهة اليمن ويقال لهما اليمانيان تغليبا لأحد الاسمين قال العلماء ويقال للركنين الآخرين يليان الحجر بكسر الحاء الشاميان لجهة الشام قالوا فاليمانيان باقيان على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم بخلاف الشاميان فلهذا لم يستلما واستلم اليمانيان لبقائهما على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم إن العراقي من اليمانيين اختص بفضيلة
[ 132 ]
أخرى وهي الحجر الأسود فاختص لذلك مع الاستلام بتقبيله ووضع الجبهة عليه بخلاف اليماني قال القاضي وقد اتفق أئمة الأمصار والفقهاء اليوم على أن الركنين الشاميين لا يستلمان وإنما كان الخلاف في ذلك العصر الأول من بعض الصحابة وبعض التابعين ثم ذهب (وأما النعال السبتية) قال النووي فبكسر السين وإسكان الباء الموحدة وقد أشار ابن عمر إلى تفسيرها بقوله التي ليس فيها شعر وهكذا قال جماهير أهل اللغة وأهل العرب وأهل الحديث إنها التي لا شعر فيها وهي مشتقة من السبت بفتح السين وهو الحلق والإزالة ومنه قولهم سبت رأسه أي حلقه (فأنا أحب أن أصبغ) بضم الباء وفتحها لغتان مشهورتان حكاهما الجوهري وغيره قال الإمام المازري قيل المراد في هذا الحديث صبغ الشعر وقيل صبغ الثوب قال والأشبه أن يكون صبغ الثياب لأنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم صبغ ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صبغ شعره قال النووي جاءت آثار عن ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته (وأما الإهلال) قال المازري إجابة ابن عمر بضرب من القياس من حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسألة بينها فاستدل في معناه ووجه قياسه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عند الشروع في أفعال الحج والذهاب إليه فأخر ابن عمر الإحرام إلى حال شروعه في الحج وتوجهه إليه وهو يوم التروية حينئذ يخرجون من مكة إلى منى ووافق ابن عمر على هذا الشافعي وأصحابه وبعض أصحاب مالك وغيرهم وقال آخرون الأفضل أن يحرم من ذي الحجة ونقله القاضي عن أكثر الصحابة والعلماء والخلاف في الاستحباب وكل منها جائز بالإجماع والله أعلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه مطولا ومختصرا
[ 133 ]
(بذي الحليفة ركعتين) فيه مشروعية قصر الصلاة لمن خرج من بيوت البلد وبات خارجا عنها ولو لم يستمر سفره واحتج به أهل الظاهر في قصر الصلاة في السفر القصيرة ولا حجة فيه لأنه كان ابتداء لا المنتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي مختصرا ليس فيه ذكر المبيت (جبل البيداء) قال المنذري أخرجه النسائي (إذا أخذ طريق الفرع) بضم الفاء اسم موضع بين مكة والمدينة قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار الاشتراط في الحج (أن ضباعة) بضم المعجمة بعدها موحدة قال الشافعي كنيتها أم حكيم وهي بنت عم
[ 134 ]
النبي صلى الله عليه وسلم أبوها الزبير بن عبد المطلب بن هاشم (اشترط) بحذف همزة الاستفهام (ومحلي) بفتح الميم وكسر المهملة أي مكان إحلالي والحديث يدل على أن من اشترط هذا الاشتراط ثم عرض له ما يحبسه عن الحج جاز له التحلل وأنه لا يجوز التحلل مع عدم الاشتراط وبه قال جماعة من الصحابة منهم علي وابن مسعود وعمر وجماعة من التابعين وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور وهو المصحح للشافعي كما قال النووي وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين إنه لا يصح الاشتراط وهو مروي عن ابن عمر قال البيهقي لو بلغ ابن عمر حديث ضباعة لقال به ولم ينكر الاشتراط كما لم ينكر أبوه انتهى قال الخطابي وفيه دليل على أن المحصر يحل حيث يحبس وينحر هدية هناك حرما كان أو حلا وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية حين أحصر نحر هديه وحل وقال أبو حنيفة وأصحابه دم الإحصار لا يراق إلا في الحرم يقيم المحصر على إحرامه ويبعث بالهدي ويواعدهم يوم يقدر فيه بلوغ الهدي المنسك فإذا كان ذلك الوقت حل قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي من حديث عائشة في إفراد الحج (أفرد الحج) قال النووي والإفراد أن يحرم بالحج في أشهره ويفرغ منه ثم يعتمر والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحج من عامه والقران أن يحرم بهما جميعا قال الخطابي لم تختلف الأمة في أن الإفراد والقران والتمتع بالعمرة إلى الحج كلها جائزة غير أن طوائف العلماء اختلفوا في الأفضل منها فقال مالك والشافعي الإفراد أفضل وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري القران أفضل وقال أحمد بن حنبل التمتع بالعمرة إلى الحج هو الأفضل وكل من هذه الطوائف ذهب إلى حديث وذكر أبو داود وتلك الأحاديث على اختلافها مجملا ومفسرا وعلى حسب ما وقع له في الرواية وسيأتي البيان على شرحها وكشف مواضع الإشكال منها في مواضعها إن شاء الله تعالى غير أن نفرا من
[ 135 ]
الملحدين طعنوا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أهل الرواية والنقل من أئمة الحديث وقالوا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيام الإسلام إلا حجة واحدة فكيف يجوز أن يكون تلك الحجة مفردا وقارئا ومتمتعا وأفعال نسكها مختلفة وأحكامها غير متفقة وأسانيدها كلها عند أهل الرواية ونقلة الأخبار جياد صحاح ثم قد وجد فيها هذا التناقض والاختلاف يريدون بذلك توهين الحديث وتصغير شأنه وضعف أمر حملته ورواته قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (عن هشام) أي حماد بن زيد وحماد بن سلمة ووهيب كلهم عن هشام (موافين هلال ذي الحجة) أي مقارنين لاستهلاله وكان خروجهم قبله بخمس في ذي القعدة كما صرحت به في رواية العمرة التي ذكرها مسلم (لولا أني أهديت لأهللت بعمرة) أي خالصة لكن الهدي يمنع الإحلال قبل الحج كالقران والإفراد هذا مما يحتج به من يقول بتفضيل التمتع ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ووجه الدلالة منهما أنه صلى الله عليه وسلم لا يتمنى إلا الأفضل وفي هذه الرواية تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعا (ارفضي عمرتك) قال الخطابي اختلف الناس في معناه فقال بعضهم اتركيها وأخريها سنة على القضاء وقال الشافعي إنما أمرها أن تترك العمل للعمرة من الطواف والسعي لأنها تترك العمرة أصلا وإنما أمرها أن تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة قلت وعلى هذا المذهب تكون عمرتها من التنعيم تطوعا لا عن واجب ولكن أراد أن يطيب نفسها فأعمرها وكانت قد سألته ذلك وقد روي ما يشبه هذا المعنى في حديث جابر
[ 136 ]
انتهى كلامه (ليلة الصدر) أي ليلة طواف الصدر وهو بفتح الصاد والدال المهملتين بمعنى رجوع المسافر من مقصده ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر يعني بمكة بعد أن يقضي نسكه قال في اللسان والصدر اليوم الرابع من أيام النحر لأن الناس يصدرون فيه عن مكة إلى أماكنهم وفي المثل تركته على مثل ليلة الصدر يعني حين صدر الناس من حجهم (ليلة البطحاء) قال في اللسان البطحاء مسيل فيه دقاق الحصى قال الجوهري الأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى وبطحاء مكة وأبطحها معروفة ومنى من الأبطح انتهى والمعنى أن عائشة طهرت في ليلة من أيام نزول البطحاء وهي منى فكانت طهارتها في ليلة من ليالي أيام منى والله أعلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه
[ 137 ]
(فلم يحلوا حتى كان يوم النحر) المحققون قالوا في نسكه صلى الله عليه وسلم إنه القران فقد صح ذلك من رواية اثني عشر من الصحابة رضي الله عنهم بحيث لا يحتمل التأويل وقد جمع أحاديثهم ابن حزم الظاهري في حجة الوداع وذكرها حديثا حديثا قالوا وبه يحصل الجمع بين أحاديث الباب أما أحاديث الإفراد فمبنية على أن الراوي سمعه يلبي بالحج فزعم أنه مفرد بالحج فأخبر على حسب ذلك ويحتمل أن المراد بإفراد الحج أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الافتراض إلا حجة واحدة وأما أحاديث التمتع فمبنية على أنه سمعه يلبي بالعمرة فزعم أنه متمتع وهذا لا مانع منه من إفراد نسك بالذكر للقارن على أنه قد يختفي الصوت بالثاني ويحتمل أن المراد بالتمتع القران لأنه من إطلاقات القديمة وهم كانوا يسمون القران تمتعا والله تعالى أعلم كذا في فتح الودود قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه مختصرا ومطولا
[ 138 ]
(فأهللنا بعمرة) اختلفت الروايات في إحرام عائشة اختلافا كثيرا وبسطه الحافظ في الفتح (انقضي رأسك) بضم القاف والضاد المعجمة أي حلي ضفر شعرك وفي رواية البخاري في كتاب الحيض بلفظ وافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت (وامتشطي) أي سرحي بالمشط قال الحافظ قال الخطابي استشكل بعض أهل العلم أمره لها بنقض رأسها ثم بالامتشاط وكان الشافعي يتأوله على أنه أمرها أن تدع العمرة وتدخل عليه الحج فتصير قارنة قال وهذا لا يشاكل القصة وقيل أن مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة قال وهذا لا يعلم وجودها لا يعلم وجهه وقيل كانت مضطرة إلى ذلك قال ويحتمل أن يكون نقض رأسها كان لأجل الغسل لتهل بالحج لا سيما أن كانت ملبدة فتحتاج إلى نقض الضفر وأما الامتشاط فلعل المراد به تسريحها شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شئ ثم تضفره كما كان انتهى (بالبيت) متعلق طاف أي طواف العمرة (ثم طافوا طوافا آخر) هو طواف الإفاضة (طوافا واحدا) لأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لأن أفعال
[ 139 ]
العمرة تندرج في أفعال الحج وهو مذهب عطاء والحسن وطاووس وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وجماهير العلماء خلافا للحنفية قالوا لا بد للقارن من طوافين وسعيين لأن القران هو الجمع بين العبادتين فلا يتحقق إلا بالإتيان بأفعال كل منهما وهو محكي عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود والحسن بن علي ولا يصح عن واحد منهم واستدل العيني بحديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ أنه جمع بين حجة وعمرة معا وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع وبحديث علي عند الدارقطني أيضا وبحديث ابن مسعود وحديث عمران بن حصين عنده أيضا وكلها مطعون فيها لما في رواتها من الضعف المانع للاحتجاج بها والله أعلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (حتى إذا كنا بسرف) هو بفتح السين المهملة وكسر الراء هو ما بين مكة والمدينة على
[ 140 ]
أميال منها قيل ستة وقيل تسعة وقيل عشرة وقيل اثنا عشر ميلا (إنما ذلك شئ كتبه الله) هذا تسلية لها وتخفيف لها ومعناه أنك لست مختصة به بل كل بنات آدم يكون منهن هذا كما يكون منهن ومن الرجال البول والغائط وغيرهما واستدل البخاري في صحيحه في كتاب الحيض بعموم هذا على أن الحيض كان في جميع بنات آدم وأنكر به على من قال إن الحيض أول ما أرسل وقع في بني إسرائيل (غير أن لا تطوفي بالبيت) في هذا دليل على الحائض والنفساء والمحدث والجنب يصح منهم جميع أفعال الحج وأحواله وهيئاته إلا الطواف وركعتيه فيصح الوقوف بعرفات وغيره وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض وهذا مجمع عليه (وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر) واستدل به مالك في أن التضحية بالبقر أفضل من بدنة ولا دلالة له فيه لأنه ليس فيه ذكر تفضيل البقر ولا عموم لفظ إنما قضية عين محتملة الأمور فلا حجة فيها لما قاله وذهب الشافعي والأكثرون إلى أن التضحية بالبدنة أفضل من البقرة لقوله صلى الله عليه وسلم من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة إلى آخره قاله النووي (ليلة البطحاء) قال العيني وكان ابتداء حيضها يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة بسرف وطهرت يوم السبت وهو يوم النحر والله أعلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم (لا نرى إلا أنه الحج) وفي لفظ لمسلم ولا نذكر إلا الحج وظاهر هذا أن عائشة مع
[ 141 ]
غيرها من الصحابة كانوا محرمين بالحج وقد تقدم قولها فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة ومنا من أهل بالحج فيحمل أنها ذكرت ما كانوا يعتادونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج فخرجوا لا يعرفون إلا الحج ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) أي لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخرا وأمرتكم به في أول أمري لما سقت الهدي معي وقلدته وأشعرته فإنه إذا فعل ذلك لا يحل حتى ينحره ولا ينحر إلا يوم النحر فلا يصح له فسخ الحج بعمرة ومن لم يكن معه هدي فلا يلتزم هذا ويجوز له فسخ الحج وإنما أراد بهذا القول تطييب قلوب أصحابه لأنه كان يشق عليهم أن يحلوا وهو محرم فقال لهم ذلك لئلا يجدوا في أنفسهم وليعلموا أن الأفضل لهم قبول ما دعاهم إليه وأنه لولا الهدي لفعله كذا في النهاية قلت فتكون دلالة الحديث حينئذ على معنى جواز التمتع لا على معنى الاختيار (قال محمد) بن يحيى الذهلي (أحسبه) أي عثمان بن عمر (قال) في روايته هذه الجملة لحللت الخ (قال) أي محمد الذهلي في تفسير هذا الكلام (بالحج مفردا) استدل به من قال إن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان مفردا وليس فيه ما يدل على ذلك لأن غاية ما فيه أنهم أفردوا الحج
[ 142 ]
مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفرد الحج ولو سلم أنه يدل على ذلك فهو مؤول (عركت) بفتح العين المهملة والراء أي حاضت يقال عركت تعرك عروكا كقعد تقعد قعودا (حل ماذا) بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام وحذف التنوين للإضافة وما استفهامية أي الحل من أي شئ ذا وهذا السؤال من جهة من جوز أنه حل من بعض الأشياء دون بعض (الحل كله) أي الحل الذي لا يبقى معه شئ من ممنوعات الإحرام بعد التحلل المأمور به (ثم أهللنا يوم التروية) هو اليوم الثامن من ذي الحجة (فاغتسلي) هذا الغسل قيل هو الغسل للإحرام ويحتمل أن يكون الغسل من الحيض (حتى إذا طهرت) قال النووي يستنبط منه ثلاث مسائل حسنة إحداها أن عائشة رضي الله عنها كانت قارنة ولم تبطل عمرتها وأن الرفض المذكور متأول والثانية أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد والثالثة أن السعي بين الصفا والمروة يشترط وقوعه بعد طواف صحيح وموضع الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت ولم تسع كما لم تطف فلو لم يكن السعي متوقفا على تقدم الطواف عليه لما أخرته انتهى واعلم أن طهر عائشة هذا المذكور كان يوم السبت وهو يوم النحر في حجة الوداع وكان ابتداء حيضها هذا يوم السبت أيضا لثلاث خلون من ذي الحجة سنة عشر ذكره أبو محمد بن حزم في كتاب حجة الوداع وتقدم بيانه أيضا (من التنعيم) هو موضع على نحو ثلاثة أميال من مكة (وذلك) أي إحرام العمرة (ليلة الحصبة) أي الليلة التي بعد ليالي
[ 143 ]
التشريق التي ينزل الحجاج فيها في المحصب والمشهور في الحصبة بسكون الصاد وجاء فتحها وكسرها وهي أرض ذات حصى قال المنذري أخرجه مسلم والنسائي (لا يخالطه شئ) يعني من العمرة ولا القران ولا غيرهما (خلون) أي مضين (من ذي الحجة) بكسر الحاء على الأفصح (أرأيت متعتنا هذه) أي أخبرني عن فسخنا الحج إلى عمرتنا هذه التي تمتعنا فيها بالجماع والطيب واللبس (لعامنا هذا) أي مخصوصة به لا تجوز في غيره (أم للأبد) أي جميع الأعصار وقد استدل به من قال إنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة لكل أحد
[ 144 ]
وبه قال أحمد وطائفة من أهل الظاهر وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وغيرهم إن فسخ الحج إلى العمرة هو مختص بالصحابة في تلك السنة لا يجوز بعدها قالوا وإنما أمروا به في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج واستدلوا بحديث أبي ذر وحديث الحرث بن بلال عن أبيه وسيأتيان عند المؤلف قالوا ومعنى قوله للأبد جواز الاعتمار في أشهر الحج أو القران فهما جائزان إلى يوم القيامة وأما فسخ الحج إلى العمرة فمختص بتلك السنة وقد عارض المجوزون للفسخ ما احتج به المانعون بأحاديث كثيرة عن أربعة عشر من الصحابة قد ذكر ابن تيمية في المنتقى منها أحاديث عشرة منهم وهم جابر وسراقة بن مالك وأبو سعيد وأسماء وعائشة وابن عباس وأنس وابن عمر والربيع بن سبرة والبراء والأربعة الباقية هم حفصة وعلي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو موسى قال المنذري
[ 145 ]
[ . . . . . ]
[ 146 ]
[ . . . . . ]
[ 147 ]
[ . . . . . ]
[ 148 ]
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (اجعلوها عمرة) خطاب لمن كان أهل بالحج مفردا لأنهم كانوا ثلاث فرق قاله العيني أي افسخوه عمرو إلى العمرة لبيان مخالفة كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه مختصرا ومطولا
[ 149 ]
(ثم يقصروا) لم يأمرهم بالحلق ليتوفر الشعر يوم الحلق لأنهم يحلون بعد قليل بالحج لأن بين دخولهم مكة وبين يوم التروية أربعة أيام فقط (أننطلق إلى منى) بالهمزة للاستفهام التعجبي (وذكورنا تقطر) هو باب المبالغة أي نفضي إلى مجامعة النساء ثم نحرم بالحج عقب ذلك فنخرج وذكر أحدنا لقربه بالجماع يقطر منيا وحالة الحج تنافي الترفه وتناسب الشعث فكيف يكون ذلك (فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قولهم هذا وأنهم تمتعوا به وقلوبهم لا تطيب به لأنه صلى الله عليه وسلم غير متمتع وكانوا يحبون موافقته صلى الله عليه وسلم قال المنذري وأخرجه البخاري وفيه دليل على أن عقد الإحرام مبهما من غير تعيين جائز وصاحبه بالخيار إن شاء صرفه إلى الحج والعمرة وإن شاء إلى أحدهما (هذه عمرة استمتعنا بها) قال الخطابي يحتج من ذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان متمتعا وتأوله من ذهب إلى خلافه على أنه أراد به من تمتع به من أصحابه فقد كان فيهم المتمتع والقارن والمفرد وهذا كما يقول الرجل الرئيس من قومه فعلنا كذا وصنعنا كذا ولو لم تباشر نفسه فعل شئ من ذلك وإنما هو حكاية عن فعل أصحابه يضيفها إلى نفسه على معنى أفعالهم صادرة عن رأيه منصرفة إلى إذنه (وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) قال الخطابي
[ 150 ]
مختلف في تأويله يتنازعه الفريقان موجبوها ونافوها قبل فرضا فمن قال إنها واجبة كوجوب الحج عمر وابن عباس وبه قال عطاء وطاووس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وإلى إيجابها ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وقال الثوري في العمرة سمعنا إنها واجبة قلت فوجه الاستدلال من قوله دخلت العمرة في الحج لمن لا يراها واجبة أن فرضها ساقط بالحج وهو معنى دخولها فيه ومن أوجبها يتأول على وجهين أحدهما أن عمل العمرة قد دخل في عمل الحج فلا يرى على القارن أكثر من طواف واحد وسعي واحد كما لا يرى عليه أكثر من إحرام واحد والوجه الآخر أنها قد دخلت في وقت الحج وشهوره وكان أهل الجاهلية لا يعتمرون في أشهر الحج فأبطل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لهذا القول قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي (هذا منكر) أي رفع هذا الحديث منكر قال المنذري وفيما قاله أبو داود نظر وذلك أنه قد رواه الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وعثمان بن أبي شيبة عن محمد بن جعفر عن شعبة مرفوعا ورواه أيضا يزيد بن هارون ومعاذ العنبري وأبو داود الطيالسي وعمر بن مرزوق عن شعبة مرفوعا وتقصير من يقصر به من الرواة لا يؤثر فيما أثبته الحفاظ انتهى (عن النهاس) بفتح النون وتشديد الهاء قال المنذري في إسناد الحديث النهاس بن قهم أبو الخطاب البصري لا يحتج بحديثه انتهى
[ 151 ]
(ولم يحل من أجل الهدي) فيه أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمل العمرة حتى يهل بالحج ويفرغ منه وفيه أنه لا يحل حتى ينحر هديه وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وأحمد رحمه الله وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا قال المنذري في إسناده يزيد بن أبي زياد أبو عبد الله الكوفي تكلم فيه غير واحد وأخرج له مسلم في الشواهد (ينهي عن العمرة قبل الحج) قال الخطابي في إسناد هذا الحديث مقال وقد اعتمر
[ 152 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل حجه والأمر الثابت المعلوم لا يترك بالأمر المظنون وجواز ذلك إجماع من أهل العلم لم يذكر فيه خلاف وقد يحتمل أن يكون النهي عنه اختيارا واستحبابا وأنه إنما أمر بتقديم الحج لأنه أعظم الأمرين وأهمهما ووقته محصور والعمرة ليس لها وقت مؤقت وأيام السنة كلها تتسع لذلك وقدم الله اسم الحج عليها فقال وأتموا الحج والعمرة لله انتهى قال المنذري سعيد بن المسيب لم يصح سماعه من عمر بن الخطاب (خيوان) بالخاء المعجمة ويقال بالحاء المهملة والهنائي يحيى بضم الهاء وتخفيف النون كذا في التقريب (ممن قرأ) القرآن وغير ذلك على أبي موسى الأشعري الصحابي فأبو شيخ يروي عن أبي موسى ومعاوية بن أبي سفيان (من أهل البصرة) هذه صفة لأبي شيخ أي هو بصري (جلود النمور) جمع نمر بكسر النون وسكون الميم وهو سبع أخبث وأجرأ من الأسد (أما هذا) أي النهي عن القران (فقال) معاوية (أما) حرف التنبيه (إنها) أي العمرة مع الحج وهو القران (معهن) أي مع هذه الأمور المذكورة في النهي قال الخطابي جواز الفرق بين الحج والعمرة إجماع من الأمة
[ 153 ]
ولا يجوز أن يتفقوا على جواز شئ منهى عنه ولم يوافق الصحابة معاوية على هذه الرواية ولم يساعدوه عليها ويشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى تأويل قوله حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال فشق عليهم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وكان قارنا فيما دلت عليه هذه القصة فحمل معاوية هذا الكلام منه على الهدي انتهى قال السندي لم يوافق الصحابة معاوية على هذه الرواية وإن ثبت يحمل على الأفضل لأن الإفراد أفضل من القران أي على بعض المذاهب انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي مختصرا وقد اختلف في هذا الحديث اختلافا كثيرا فروي كما ذكرنا وروى عنه عن أبي شيخ عن أخيه حمان ويقال أبو حمان عن معاوية وروى عن بيهس بن فهدان عن أبي شيخ عن عبد الله بن عمرو بن بيهس عن أبي
[ 154 ]
شيخ عن معاوية واختلفوا على يحيى بن أبي كثير فيه فروى عنه عن أبي شيخ عن أخيه وروى عنه عن أبي إسحاق عن حمان وروى عنه حدثني حمران من غير واسطة وسماه حمران انتهى كلامه في الإقران (يقول لبيك عمرة وحجا) هو من أدلة القائلين بأن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قرانا وقد رواه عن أنس عن جماعة من التابعين منهم الحسن البصري وأبو قلابة وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري وثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني وعبد العزيز بن صهيب وسليمان ويحيى بن أبي إسحاق وزيد بن أسلم ومصعب بن سليم وأبو قدامة عاصم بن حسين وسويد بن حجر الباهلي قاله الشوكاني والحديث يحتج به من يقول بالقران وقد قدمنا أن الصحيح المختار في حجة النبي أنه كان في أول إحرامه مفردا ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا وجمعنا بين الأحاديث أحسن جمع فحديث ابن عمر عند مسلم وغيره محمول على أول إحرامه وحديث أنس محمول على أواخره وأثنائه وكأنه لم يسمعه أولا ولابد من هذا التأويل أو نحوه ليكون روايته موافقة لرواية الأكثرين قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه مطولا ومختصرا (بات بها) فيه استحباب المبيت بميقات الإحرام (حتى أصبح) ظاهره أن إهلاله كان بعد صلاة الصبح لكن عند مسلم من طريق أبي حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج وللنسائي من طريق الحسن عن أنس أنه صلى الظهر بالبيداء ثم ركب ومجمع
[ 155 ]
بينهما بأنه صلاها في آخر ذي الحليفة وأول البيداء قاله الحافظ والله أعلم (ثم ركب حتى إذا استوت) أي بعد الاستواء على الدابة لا حال وضع الرجل مثلا في الركاب (ثم أهل بحج وعمرة) فيه رد على من زعم أنه يكتفي بالتسبيح وغيره عن التلبية ووجه ذلك أنه أتى بالتسبيح وغيره ثم لم يكتف به حتى لبى (وأهل الناس بهما) فيه استحباب أن تكون تلبية الناس بعد تلبية كبير القوم (إذا كان يوم التروية) بضم يوم لأن كان تامة وهو اليوم الثامن من ذي الحجة كذا في الفتح (قياما) فيه استحباب نحر الإبل قائمة (تفرد به يعني أنسا) وتفرد الصحابة لا يضر فإنهم كلهم عدول وزيادات الثقات الأثبات معتبرة وبوب البخاري في صحيحه باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة قال المنذري وأخرجه البخاري بنحوه (ثيابا صبيغا) فعيل ههنا بمعنى مفعول أي مصبوغات (وقد نضحت) بفتح النون والضاد المعجمة والحاء المهملة (بنضوح) بفتح النون وضم الضاد المعجمة بعد الواو حاء مهملة وهي ضرب من الطيب تفوح رائحة (فقالت) ههنا كلام محذوف تقديره فأنكر عليها صبغ ثيابها ونضح بيتها بالطيب فقالت (قد أمر أصحابه فأحلوا) في رواية مسلم فوجد فاطمة ممن حلت
[ 156 ]
ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها قالت أمرني أبي بهذا (فقال لي انحر من البدن) هكذا وقع في رواية أبي داود ولا يخلو من الوهم ويشبه أن يكون المراد أي انحر أنت عنى وعن نفسي من البدن ستا وستين وانحر بقية من هذا العدد لنفسك فعلى هذا يكون النحر لكل من البدنة بيد علي رضي الله عنه لكن قد ثبت أنه نحر غالب العدد لنفسه بيده كما سيجئ أو المراد هيئ لنحري وأحضرني في المنحر لكي أنحر هذا العدد المذكور بيدي وانحر أنت هذا العدد بيدك والله أعلم (أو ستا وستين) وكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمين والذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائة كما في صحيح مسلم وفي لفظ لمسلم فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر قال النووي والقرطبي ونقله القاضي عن جميع الرواة إن هذا هو الصواب لا ما وقع في رواية أبي داود (بضعة) بفتح الباء الموحدة وهي القطعة من اللحم وفي صحيح مسلم ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها واستدل بهذا الحديث من قال إن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قرانا وهو واضح لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بما كان نواه وقصده من ذلك وفيه دليل على صحة الإحرام معلقا وعلى جواز الاشتراك في الهدي وفيه دليل على جواز أكل القارن والمتمتع من لحم هديه قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده يونس بن أبي إسحاق السبيعي وقد احتج به مسلم وأخرجه جماعة وقال الإمام أحمد حديثه فيه زيادة على حديث الناس وقال البيهقي كذا في هذه الرواية وقرنت وليس ذلك في حديث جابر وصف قدوم علي وإهلاله وحديث جابر أصح سندا وأحسن سياقا ومع حديث جابر حديث أنس يريد أن حديث أنس ذكر فيه قدوم على ذكر إهلاله وليس فيه قرنت وهو في الصحيحين وهذه القصة مذكورة في حديث جابر الطويل
[ 157 ]
[ . . . . ]
[ 158 ]
[ . . . . ]
[ 159 ]
(قال الصبي بن معبد) هو بضم صاد مهملة وفتح باء موحدة وتشديد ياء قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه قال البيهقي وهذا الحديث يدل على جواز القران فإنه ليس بضلال كما توهمه زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة إلا أنه أفضل من غيره (حدثنا محمد بن قدامة) هذا الحديث في رواية ابن داسة دون اللؤلؤي (هديم) بالهاء المضمومة وفتح الدال المهملة قاله ابن الأثير وقال ابن ماكولا بضم الهاء وبالذال المعجمة وهو هذيم بن عبد الله بن علقمة وقد جعله أبو عمر هريم بالراء (بن ثرملة) بالثاء المثلثة ثم
[ 160 ]
الراء المهملة ثم الميم هكذا في بعض النسخ وهو غلط فإنه هديم بن عبد الله كما في رواية النسائي وكذا قاله ابن ماكولا وابن الأثير والحافظ بن حجر وغيرهم (ياهناه) أي يا هذا وأصله هن ألحقت الهاء لبيان الحركة فصار ياهنه وأشبعت الحركة فصارت ألفا فقيل ياهناه بسكون الهاء ولك ضم الهاء قال الجوهري هذه اللفظة مختص بالنداء كذا في زهر الربى (مكتوبين على) لعله أخذه من قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله أنهما مفروضان على الإنسان (العذيب) تصغير عذب اسم ماء لبني تميم على مرحلة من كوفة (ما هذا بأفقه من بعيره) أي أن عمر منع عن الجمع واشتهر ذلك المنع وهو لا يدري به فهو والبعير سواء في عدم الفهم وفي رواية للنسائي لأنت أضل من جملك من هذا (هديت) على بناء المفعول وتاء الخطاب أي هداك الله بواسطة من أفتاك أو هداك من أفتاك فإن قلت كان عمر يمنع عن الجمع فكيف قرره على ذلك بأحسن تقرير قلت كأنه يرى جواز ذلك لبعض المصالح ويرى أنه جوز النبي لذلك فكأنه كان يرى أن من عرض له مصلحة اقتضت الجمع في حقه فالجمع في حقه سنة قاله السندي والحديث أخرجه النسائي (أتاني الليلة آت) هو جبريل كما في الفتح (فقال صل في هذا الوادي المبارك) هو وادي
[ 161 ]
العقيق وبقرب العقيق بينه وبين المدينة أربعة أميال وروى الزبير بن بكار في أخبار المدينة أن تبعا لما انحدر في مكان عند رجوعه من المدينة قال هذا عقيق الأرض فسمي العقيق (وقال عمرة في حجة) برفع عمرة في أكثر الروايات وبنصبها بإضمار فعل أي جعلتها عمرة وهو دليل على أن حجه كان قرانا قال الشوكاني وأبعد من قال إن معناه أنه يعتمر في تلك السنة بعد فراغ حجه وظاهر حديث عمر هذا أن حجه صلى الله عليه وآله وسلم القران كان بأمر من الله فكيف يقول صلى الله عليه وآله وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة فينظر في هذا فإن أجيب أنه إنما قال ذلك تطيبا لخواطر أصحابه فهو تغرير لا يليق نسبة مثلة إلى الشارع انتهى كلام الشوكاني (رواه الوليد بن مسلم) واعلم أن هذه الجملة وردت بثلاثة ألفاظ فقال مسكين عن الأوزاعي قال عمرة في حجة بلفظ قال وحرف في بين عمرة وحجة وقال الوليد بن مسلم وعمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قل عمرة في حجة بلفظ قل صيغة أمر وكذا رواه علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير بلفظ قل وحرف في فهذه متابعة للأوزاعي وفي رواية للبخاري وقل عمرة وحجة بحرف الواو العاطفة بين عمرة وحجة قال المنذري وقال عمرة في حجة وفي رواية وقل عمرة في حجة وأخرجه البخاري وابن ماجه وفي لفظ البخاري وقل عمرة وحجة قال بعضهم أي قل ذلك لأصحابك أي أعلمهم أن القران جائز واحتج به من يقول إن القران أفضل وقال لأنه هو الذي أمر به النبي وأحب فالرواية الصحيحة وهي قوله عمرة وحجة فصل بينهما بالواو ويحتمل أن يريد أن يحرم بعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله وهو كأنه قال إذا حججت فقل لبيك بعمرة وتكون في حجتك التي حججت فيها وقال بعضهم هو محمول على معنى تحصيلهما جميعا لأن عمرة التمتع واقعة في أشهر الحج وفيه إعلام بفضيلة المكان والتبرك به والصلاة فيه انتهى وقال الحافظ المزي في الأطراف حديث عمر هذا أخرجه البخاري في الحج عن الحميدي عن الوليد بن مسلم وبشر بن بكر وفي المزارعة عن إسحاق بن إبراهيم عن شعيب بن إسحاق ثلاثتهم عن الأوزاعي وفي الاعتصام عن سعيد بن الربيع عن علي بن المبارك كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر وأبو داود في الحج عن النفيلي عن مسكين عن الأوزاعي به وابن ماجه فيه عن دحيم عن
[ 162 ]
الوليد بن مسلم به وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن مصعب عن الأوزاعي به انتهى (اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم) أي بين لنا بيانا وافيا في غاية الوضوح كالبيان لمن لا يعلم شيئا قبل اليوم (قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة) معناه أوجب عليكم عمرة بشروعكم وكان في الحج قال السندي وقال الإمام ابن الأثير قوله دخلت العمرة في الحج معناه أنها سقط فرضها بوجوب الحج ودخلت فيه وهذا تأويل من لم يرها واجبة فأما من أوجبها فقال معناه أن عمل العمرة قد دخل عمل الحج فلا يرى على القارن أكثر من إحرام واحد وطواف وسعي وقيل معناه أنها قد دخلت في وقت الحج وشهوره لأنهم كانوا لا يعتمرون في أشهر الحج فأبطل الاسلام ذلك وأجازه انتهى (فقد حل) أي فكان ينبغي له أن يحل أو الواجب عليه ذلك (بمشقص) هو بكسر الميم وإسكان الشين المعجمة وفتح القاف قال أبو عبيد وغيره هو نصل السهم إذا كان طويلا ليس بعريض وقال الخليل هو سهم فيه نصل عريض يرمى به الوحش قال النووي وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي في عمرة الجعرانة لأن النبي في حجة الوداع كان قارنا كما سبق إيضاحه وثبت أنه حلق بمنى وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع من الهجرة لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان هذا هو الصحيح المشهور ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع
[ 163 ]
وزعم أنه كان متمتعا لأن هذا غلط فاحش فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره أن النبي قيل له ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي وفي رواية حتى أحل من الحج (أو رأيته) شك من الراوي (يقصر) بصيغة المجهول من التقصير (قال ابن خلاد) في حديثه أن معاوية قال ولم يذكر ابن خلاد لفظ أخبره بل قال عن ابن عباس أن معاوية قال قصرت الحديث قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (بحجته) قال السندي لعل معاوية عني بالحجة عمرة الجعرانة لأنه قد أسلم حينئذ ولا يسوغ هذا التأويل في رواية من روى أنه كان في ذي الحجة أو لعله قصر عنه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاق بعده فقصره معاوية على المروة يوم النحر انتهى
[ 164 ]
(قال الإمام الخطابي) هذا صنيع من كان متمتعا وذلك أن المفرد والقارن لا يحلق رأسه ولا يقصر شعره إلا يوم النحر والمعتمر يقصر عند الفراغ من السعي وفي الروايات الصحيحة أنه لم يحلق ولم يقصر إلا يوم النحر بعد رمي الجمار وهي أولى ويشبه أن يكون ما حكاه معاوية إنما هو في عمرة اعتمرها رسول الله دون الحجة المشهورة انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وليس فيه لحجته وقوله يعني لعمرته وقد أخرجه النسائي أيضا وفيه في عمرة على المروة وسمى العمرة حجا لأن معناهما القصد وقد قالت حفصة ما بال الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك قيل إنها تعني من حجتك انتهى (عن مسلم القري) هو بقاف مضمومة ثم راء مشددة قال السمعاني هو منسوب إلى بني قرة حي من عبد القيس قال وقال ابن ماكولا هذا ثم قال وقيل بل لأنه كان ينزل قنطرة قرة قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي (تمتع) قال القاضي هو محمول على التمتع اللغوي وهو القرآن آخرا ومعناه أنه أحرم أولا بالحج مفردا ثم أحرم بالعمرة فصار قارنا في آخر أمره والقارن هو متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى لأنه ترفه باتحاد الميقات والإحرام والفعل ويتعين هذا التأويل هنا للجمع بين الأحاديث في ذلك (وبدأ رسول الله الخ) فهو محمول على التلبية في أثناء الإحرام وليس المراد أنه أحرم في أول أمره بعمرة ثم أحرم بحج لأنه يفضي إلى مخالفة الأحاديث فوجب تأويل هذا على موافقتها ويؤيد هذا التأويل (وتمتع الناس الخ) ومعلوم أن كثيرا منهم أو أكثرهم أحرموا بالحج أولا مفردا وإنما فسخوه إلى العمرة آخرا فصاروا متمتعين
[ 165 ]
فقوله وتمتع الناس يعني في آخر الأمر (ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت الخ) معناه يفعل الطواف والسعي والتقصير وقد صار حلالا وهذا دليل على أن التقصير أو الحلق نسك من مناسك الحج وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي وبه قال جماهير العلماء وقيل إنه استباحة محظور وليس بنسك وهذا ضعيف وإنما أمره رسول الله بالتقصير ولم يأمره بالحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج فإن الحلق في تحلل الحج أفضل منه في تحلل العمرة (وليحلل) معناه قد صار حلالا فله فعل ما كان محظورا عليه في الإحرام من الطيب واللباس والنساء والصيد وغير ذلك (ثم ليهل بالحج) أي ويحرم به في وقت الخروج إلى عرفات لا أنه يهل به عقب تحلل العمرة ولهذا قال ثم ليهل فأتي بثم التي هي للتراخي والمهلة (وليهد) والمراد به هدي التمتع فهو واجب بشروط الأول أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج الثاني أن يحج من عامه الثالث أن يكون أفقيا لا من حاضري المسجد وحاضروه أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة الرابع أن لا يعود إلى الميقات لإحرام الحج قاله النووي (فمن لم يجد هديا) فالمراد لم يجده هناك إما لعدم الهدي أو لعدم ثمنه وإما لكونه يباع بأكثر من المثل وإما لكونه موجودا لكنه لا يبيعه صاحبه ففي كل هذه الصور يكون عادما للهدي فينتقل إلى الصوم سواء كان واجدا لثمنه في بلده أم لا (فليصم ثلاثة أيام في الحج) هو موافق
[ 166 ]
لنص كتاب الله تعالى ويجب صوم هذه الثلاثة قبل يوم النحر ويجوز صوم يوم عرفة منها لكن الأولى أن يصوم الثلاثة قبله والأفضل أن لا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة فإن صامها بعد فراغه من العمرة وقبل الإحرام بالحج أجزأه وإن صامها بعد الإحرام بالعمرة وقبل فراغها لم يجزئه على الصحيح فإن لم يصمها قبل يوم النحر وأراد صومها في أيام التشريق ففي صحته قولان مشهوران للشافعي أصحهما من حيث الدليل جوازه هذا تفضيل مذهب الشافعي ووافقه أصحاب مالك في أنه لا يجوز صوم الثلاثة قبل الفراغ من العمرة وجوزه الثوري وأبو حنيفة ولو ترك صيامها حتى مضي العيد والتشريق لزمه قضاؤها عند الشافعي وقال أبو حنيفة يفوت صيامها ويلزمه الهدي إذا استطاعه وأما صوم السبعة فيجب إذا رجع وفي المراد بالرجوع خلاف والصحيح أنه إذا رجع إلى أهله وهذا هو الصواب لهذا الحديث الصحيح الصريح والثاني إذا فرغ من الحج ورجع إلى مكة من منى وهذان القولان للشافعي ومالك وبالثاني قال أبو حنيفة ولو لم يصم الثلاثة ولا السبعة حتى عاد إلى وطنه لزمه صوم عشرة أيام قاله النووي (وطاف رسول الله حين قدم مكة الخ) فيه إثبات طواف القدوم واستحباب الرمل فيه هو الخبب وأنه يصلي ركعتي الطواف وأنهما يستحبان خلف المقام قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي
[ 167 ]
[ . . . ]
[ 168 ]
(أنها قالت يارسول الله ما شأن الناس) هذا دليل للمذهب الصحيح المختار أن النبي كان قارنا في حجة الوداع (من عمرتك) أي العمرة المضمومة إلى الحج وفيه أن القارن لا يتحلل بالطواف والسعي ولا بد له في تحلله من الوقوف بعرفات والرمي والحلق والطواف كما في الحج المفرد (لبدت رأسي وقلدت هديي) فيه استحباب التلبيد وتقليد الهدي
[ 169 ]
وهما سنتان بالاتفاق وقال الخطابي هذا يبين لك أن قد كانت هناك عمرة ولكنه قد أدخل عليها حجة فصار بذلك قارنا انتهى ولم يختلف الناس في إدخال الحج على العمرة جائز ما لم يفسخ الطواف بالبيت للعمرة واختلفوا في إدخال العمرة على الحج قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه الرجل يهل الخ (إلا للركب) بفتح الراء وسكون الكاف قال ابن الأثير ركب اسم من أسماء الجمع
[ 170 ]
كنفر ورهط والراكب في الأصل هو راكب الإبل خاصة ثم اتسع فيه فأطلق على كل من ركب دابة انتهى ويجئ تحقيق الحديث في آخر الباب قال المنذري وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث يزيد بن شريك التيمي وأخرجه النسائي وابن ماجه (قلت يارسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا قال بل لكم خاصة) قال الخطابي قد قيل إن الفسخ إنما وقع إلى العمرة لأنهم كانوا يحرمون العمرة في أشهر الحج ولا يستبيحونها فيها ففسخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحج عليهم وأمرهم بالعمرة في زمان الحج ليزولوا عن شبه الجاهلية وليتمسكوا بما تبين لهم في الإسلام وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم أنه ليس لمن بعدهم ممن أحرم بالحج أن يفسخه وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا فسد حجه مضى فيه مع الفساد واختلفوا فيمن أهل بحجتين فقال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه لا يلزمه إلا حجة واحدة ومن حجتهم في ذلك أن المضي فيها لا يلزم وأن فعله لم يصح بالإجماع وقال أبو حنيفة وأصحابه يرفض أحدهما إلى قابل لأنه يكون في معنى الفسخ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن فسخ الحج كان لهم خاصا دون من بعدهم وقال سفيان الثوري يلزمه حجة وعمرة من عامة ويهريق دما ويحج من قابل وحكى عن مالك أنه قال يصير قارنا وعليه دم ولا يلزمه على مذهب الشافعي شئ من عمرة ولادم ولا قضاء من قابل انتهى
[ 171 ]
قلت قال المنذري حديث بلال أخرجه النسائي وابن ماجه قال الدارقطني تفرد به ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث عن أبيه وتفرد به عبد العزيز الدراوردي عنه هذا آخر كلامه والحارث بن بلال شبه المجهول وقد قال الإمام أحمد في حديث بلال هذا إنه لا يثبت هذا آخر كلامه وحديث أبي ذر في ذلك صحيح انتهى وفي المنتقى قال أحمد بن حنبل حديث بلال بن الحارث عندي ليس بثبت ولا أقول به ولا يعرف هذا الرجل يعني الحارث بن بلال وقال أرأيت لو عرف الحارث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يروون ما يروون من الفسخ فأين يقع الحارث بن بلال منهم وقال في رواية أبي داود ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر وشطرا من خلافة عمر ويشهد لما قاله قوله في حديث جابر بل هي للأبد وحديث أبي ذر موقوف وقد خالفه أبو موسى وابن عباس وغيرهما انتهى وقال ابن القيم في زاد المعاد نحن نشهد بالله أن حديث بلال بن الحارث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلط عليه قال ثم كيف يكون هذا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عباس يفتي بخلافه ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ولا يقول له رجل واحد منهم هذا كان مختصا بنا ليس لغيرنا انتهى وقد روي عن عثمان مثل قول أبي ذر اختصاص ذلك بالصحابة ولكنهما جميعا مخالفان للمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك للأبد بمحض الرأي قاله الشوكاني وأما حديث أبي ذر من أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة فيرده إجماع المسلمين على جوازها إلى يوم القيامة ومن جملة ما احتج به المانعون من الفسخ أن مثل ما قاله عثمان وأبو ذر لا يقال بالرأي ويجاب بأن هذا من مواطن الاجتهاد ومما للرأي فيه مدخل على أنه قد ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أنه قال تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القران فقال رجل برأيه ما شاء فهذا تصريح من عمران أن المنع من التمتع بالعمرة إلى الحج من بعض الصحابة إنما هو من محض الرأي فكما أن المنع من التمتع على العموم من قبيل الرأي كذلك دعوى اختصاص التمتع الخاص أعني به الفسخ بجماعة مخصوصة وقد أطال الكلام ابن القيم في ذلك والله أعلم
[ 172 ]
26 الرجل يحج عن غيره (امرأة من خثعم) بالخاء المعجمة مفتوحة فمثلثة ساكنة فعين مهملة غير منصرف للعلمية ووزن الفعل أو التأنيث لكونه اسم قبيلة معروفة (فجعل الفضل ينظر إليها) وأعجبه حسنها (وتنظر إليه) وكان الفضل رجلا جميلا (أدركت أبي) حال كونه (شيخا) منصوب على الحال وقوله (كبيرا) يصح صفة ولا ينافي اشتراط كون الحال نكرة إذا لا يخرجه ذلك عنها (لا يستطيع أن) صفة ثانية ويحتمل الحال ووقع في بعض ألفاظه وإن شددته خشيت عليه (أفأحج) نيابة (عنه قال نعم) أي حجي عنه (وذلك) أي جميع ما ذكر (في حجة الوداع) قال في سبل السلام في الحديث روايات أخر ففي بعضها أن السائل رجل وأنه سأل هل يحج عن أمه فيجوز تعدد القضية وفي الحديث دليل على أنه يجزي الحج عن المكلف إذا كان ميؤوسا منه القدرة على الحج بنفسه مثل الشيخوخة فإنه ميؤوس زوالها وأما إذا كان عدم القدرة لأجل مرض أو جنون يرجي برؤهما فلا يصح وظاهر الحديث مع الزيادة أنه لا بد في صحة التحجيج عنه من ا لأمرين عدم ثباته على الراحلة والخشية عن الضرر عليه من شده فمن لا يضره الشد كالذي يقدر على المحفة لا يجزئه حج الغير عنه ويؤخذ من الحديث أنه إذا تبرع أحد بالحج عن غيره لزمه الحج عن ذلك الغير وإن كان لا يجب عليه الحج ووجهه أن المرأة لم تبين أن أباها مستطيع بالزاد والراحلة ولم يستفصل صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ورد هذا بأنه ليس في الحديث إلا الإجزاء لا الوجوب فلم يتعرض له وبأنه يجوز أنها قد عرفت وجوب الحج على أبيها كما يدل له قولها إن فريضة الله على عباده في الحج فإنها عبادة دالة على علمها بشرط دليل الوجوب وهو الاستطاعة واتفق القائلون فإجزاء الحج عن فريضة الغير بأنه لا يجزئ إلا عن موت أو عدم قدرة عن عجز ونحوه بخلاف النفل فإنه ذهب أحمد وأبو حنيفة إلى جواز النيابة عن الغير فيه
[ 173 ]
مطلقا للتوسيع في النفل وذهب بعضهم إلى أن الحج عن فرض الغير لا يجزئ أحدا وأن هذا الحكم يختص بصاحبة هذه القصة وإن كان الاختصاص خلاف الأصل إلا أنه استدل بزيادة رواية في الحديث بلفظ حجي عنه وليس لأحد بعدك ورد بأن هذه الزيادة رويت بإسناد ضعيف وعن بعضهم أنه يختص بالولد وأجيب عنه بأن القياس عليه دليل شرعي وقد نبه صلى الله عليه وآله وسلم على العلة بقوله في الحديث فدين الله أحق بالقضاء فجعله دينا والدين يصح أن يقضيه غير الولد بالاتفاق قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وقد أخرجه أيضا البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (عن ابن رزين) هو لقيط العقيلي (ولا الظعن) بكسر الظاء وبفتح العين وسكونها مصدر ظعن يظعن بالضم إذا سار قاله السيوطي وقال السندي الظعن بفتحتين أو سكون الثاني وفي المجمع الظعن الراحلة أي لا يقوى على السير ولا على الركوب من كبر السن (قال احجج عن أبيك واعتمر) الحديث يدل على جواز حج الولد عن أبيه العاجز عن المشي واستدل به على وجوب الحج والعمرة وقد جزم بوجوب العمرة جماعة من أهل الحديث وهو المشهور عن الشافعي وأحمد وبه قال إسحاق والثوري والمزني والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة وهو قول الحنفية ولا خلاف في المشروعية قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح وقال الإمام أحمد لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح منه
[ 174 ]
(يقول لبيك عن شبرمة) بضم الشين المعجمة فموحدة ساكنة (أو قريب لي) شك من الراوي والحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصحهه والبيهقي قال إسناده صحيح وليس في هذا الباب أصح منه وقد روى موقوفا والرفع زيادة يتعين قبولها إذا جاءت من طريق ثقة وهي ههنا كذلك لأن الذي رفعه عبدة بن سليمان قال الحافظ وهو ثقة محتج به في الصحيحين وتابعه على رفعه محمد بن بشر ومحمد بن عبيدالله الأنصاري وكذا رجح عبد الحق وابن القطان رفعه وقد رجح الطحاوي أنه موقوف وقال أحمد رفعه خطأ وقال ابن المنذر لا يثبت رفعه وقد أطال الكلام الحافظ في التلخيص ومال إلى صحته وظاهر الحديث أنه لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره وسواء كان مستطيعا أو غير مستطيع لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستفصل هذا الرجل الذي سمعه يلبي عن شبرمة وهو ينزل منزلة العموم وإلى ذلك ذهب الشافعي وقال الثوري إنه يجزئ حج من لم يحج عن نفسه ما لم يتضيق عليه قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وقال البيهقي هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه
[ 175 ]
27 كيف التلبية هي مصدر لبى كزكى تزكية أي كيف قال لبيك وهو عند ابن سيبويه والأكثرين مثنى لقلب ألفه ياء مع المظهر وليست ثنيته حقيقة بل من المثناة لفظا ومعناها التكثير والمبالغة وهو منصوب على المصدر بعامل مضمر أي أجبت إجابة بعد إجابة إلى مالا نهاية له قال ابن عبد البر قال جماعة من أهل العلم معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج (اللهم لبيك) أي يا الله أجبناك فيما دعوتنا وأخرج أحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج قال رب وما يبلغ صوتي قال أذن وعلي البلاغ قال فنادى إبراهيم يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه من بين السماء والأرض أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وفيه فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ (إن الحمد) روي بكسر الهمزة على الاستئناف كأنه لما قال لبيك استأنف كلاما آخر فقال إن الحمد وبالفتح على التعليل كأنه قال أجبتك لأن الحمد والنعمة لك والكسر أجود عند الجمهور وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة وابن قدامة عن أحمد بن حنبل وابن عبد البر عن اختيار أهل العربية لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة فإن الحمد والنعمة لله على كل حال والفتح بدل على التعليل لكن قال في اللامع والعدة إنه إذا كسر صار للتعليل أيضا من حيث أنه استئناف جوابا عن سؤال عن العلة (والنعمة لك) بكسر النون للإحسان والمنة مطلقا وهي بالنصب على الأشهر عطفا على الحمد ويجوز الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة خبر إن تقديره إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك وجوز ابن الأنباري أن يكون الموجود خبر المبتدأ وخبر إن هو
[ 176 ]
المحذوف (والملك) بضم الميم والنصب عطفا على اسم إن وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره والملك كذلك (وسعديك) هو من باب لبيك فيأتي فيه ما سبق ومعناه أسعدني إسعادا بعد إسعاد فالمصدر فيه مضاف للفاعل وإن كان الأصل في معناه أسعدك بالإجابة إسعادا بعد إسعاد على أن المصدر فيه مضاف للمفعول وقيل المعنى مساعدة على طاعتك بعد مساعدة فيكون من المضاف المنصوب (والرغباء إليك) بفتح الراء والمد وبضمها مع القصر كالعلاء والعلا وبالفتح مع القصر ومعناه الطلب والمسألة يعني أنه تعالى هو المطلوب المسؤول منه فبيده جميع الأمور (والعمل) له سبحانه لأنه المستحق للعبادة وحده وفي حذف يحتمل أن تقديره والعمل إليك أي إليك القصد به والانتهاء به إليك لتجازي عليه ووقع عند مسلم من رواية موسى بن عقبة عن نافع وغيره عن ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوت به راحلته عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال لبيك الحديث وللبخاري في اللباس من طريق
[ 177 ]
الزهري عن سالم عن أبيه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا يقول لبيك اللهم لبيك الحديث وقال في آخره لا يزيد على هذه الكلمات زاد مسلم من هذا الوجه قال ابن عمر كان عمر يهل بهذا ويزيد لبيك وسعديك والخير في يديك والرغباء إليك والعمل وهذا القدر في رواية مالك أيضا عنده عن نافع عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها فذكر نحوه فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه واستدل به على استحباب الزيادة على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قال الطحاوي بعد أن أخرجه من حديث ابن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعمرو بن معد يكرب أجمع المسلمون جميعا على هذه التلبية غير أن قوما قالوا لا بأس أن يزيد من الذكر لله ما أحب وهو قول محمد والثوري والأوزاعي واحتجوا بحديث أبي هريرة يعني الذي أخرجه النسائي وابن
[ 178 ]
ماجه وصححه ابن حبان والحاكم قال من تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك إله الحق لبيك وبزيادة ابن عمر المذكورة وخالفهم آخرون فقالوا لا ينبغي أن يزاد على ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كما في حديث عمرو بن معد يكرب ثم فعله هو ولم يقل لبوا بما شئتم مما من جنس هذا بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة فكذا لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئا مما علمه ثم أخرج حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمع رجلا يقول لبيك ذا المعارج
[ 179 ]
فقال إنه لذو المعارج وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى وسيأتي بعض الكلام فيه ثم اعلم أن في حكم التلبية أربعة مذاهب الأول أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شئ وهو قول الشافعي وأحمد والثاني واجبة ويجب بتركها دم حكاه الماوردي عن بعض الشافعية وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية والخطابي عن مالك وأبي حنيفة والثالث واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج قال ابن المنذر قال أصحاب الرأي إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام فهو محرم الرابع أنها ركن في الإحرام لا ينعقد
[ 180 ]
بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري وأبي حنيفة وابن حبيب من المالكية وأهل الظاهر قالوا هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة وهو قول عطاء أخرجه سعيد ابن منصور بإسناد صحيح عنه
[ 181 ]
قال التلبية فرض الحج وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاووس وعكرمة وحكى النووي عن داود أنه لابد من رفع الصوت بها وهذا زائد على أصل كونها ركنا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه (ذا المعارج) من أسماء الله تعالى والمعارج المصاعد والدرج واحدها معرج يريد معارج الملائكة إلى السماء وقيل المعارج الفواضل العالية كذا في النهاية وفي رواية البيهقي ذا المعارج وذا الفواضل (فلا يقول) النبي صلى الله عليه وسلم (لهم شيئا) فسكوت النبي صلى الله عليه وسلم على قولهم يدل
[ 182 ]
على جواز ما وقع عند النسائي عن ابن مسعود قال كان من تلبية النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ففيه دلالة على أنه قد كان يلبي بغير ذلك وما تقدم عن عمر وابن عمر وروى سعيد بن منصور من طريق الأسود بن يزيد أنه كان يقول لبيك غفار الذنوب وفي حديث جابر الطويل في صفة الحج حتى استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك قال وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم شيئا منه ولزم تلبيته والحاصل أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردها عليهم وأقرهم عليها وهو قول الجمهور كذا في الفتح وحكى الترمذي عن الشافعي قال فإن زاد في التلبية شيئا من تعظيم الله فلا بأس وأحب إلي أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه ثم زاد من قبله زيادة والله أعلم قال المنذري وأخرجه ابن ماجه انتهى (أن آمر أصحابي) والحديث استدل به على استحباب رفع الصوت للرجل بالتلبية بحيث لا يضر نفسه وبه قال ابن رسلان وخرج بقوله أصحابي النساء فإن المرأة لا تجهر بها بل تقتصر على إسماع نفسها وذهب داود إلى أن رفع الصوت واجب قال الشوكاني وهو ظاهر قوله فأمرني أن آمر أصحابي لا سيما وأفعال الحج وأقواله بيان لمجمل واجب هو قول الله تعالى ولله على الناس حج البيت وقوله صلى الله عليه واله وسلم خذوا عني مناسككم قال الخطابي يحتج به من يرى التلبية واجبة وهو قول أبي حنيفة وقال من لم يلب لزمه دم ولا شئ عند الشافعي على من لم يلب قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح
[ 183 ]
28 متى يقطع الحاج التلبية (لبى حتى رمى جمرة العقبة) قال الخطاب ذهب عامة أهل الحديث في هذا إلى حديث الفضل بن عباس دون حديث ابن عمر وقالوا لا يزال يلبي حتى يرمي جمرة العقبة إلا أنهم اختلفوا فقال بعضهم يقطعها مع أول حصاة وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وكذلك قال الشافعي وقال أحمد وإسحاق يلبي حتى يرمي الجمرة ثم يقطعها وقال يلبي حتى تزول الشمس يوم عرفة فإذا راح إلى المسجد قطعها وقال الحسن يلبي حتى يصلي الغداة من يوم عرفة فإذا صلى الغداة أمسك عنها وكره مالك التلبية لغير المحرم ولم يكرهها غيره انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وفي لفظ البخاري ومسلم لم يزل يلبي حين بلغ الجمرة فذهب الشافعي وغيره من العلماء إلى أنه يقطع التلبية مع أول حصاة على ظاهر هذا اللفظ وذهب بعضهم إلى أنه لا يقطع التلبية حتى يرمي الجمرة بأسرها سبع حصيات وقول جابر ابن عبد الله في الحديث الطويل فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة وفي حديث ابن مسعود نحوه وذلك يؤيد ما ذهب إليه الشافعي وغيره (قال غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي وفي الرواية الأخرى لمسلم يهل المهل فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه فيه دليل على استحبابها في الذهاب من منى إلى عرفات يوم عرفة والتلبية أفضل وفيه رد على من يقطع التلبية بعد صبح يوم عرفة قال المنذري وأخرجه مسلم بنحوه
[ 184 ]
29 متى يقطع المعتمر التلبية (حتى يستلم الحجر) قال ابن الأثير هو افتعل من السلام التحية وأهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا أي أن الناس يحيونه بالسلام وقيل هو افتعل من السلام وهي الحجارة واحدتها سلمة بكسر اللام يقال استلم الحجر إذا لمسه وتناوله انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال صحيح هذا اخر كلامه وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم قالوا لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر وقال بعضهم إذا انتهى إلى بيوت مكة قطع التلبية والعمل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق انتهى قلت ولفظ الترمذي حدثنا هناد أخبرنا هشيم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس قال يرفع الحديث إنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر انتهى المحرم يؤدب غلامه وبوب ابن ماجه في التوقي في الإحرام (إذا كنا بالعرج) بفتح العين وسكون الراء والجيم
[ 185 ]
قرية جامعة من أعمال الفرع على أيام من المدينة (وكانت زمالة أبي بكر الخ) بكسر الزاي أي مركوبهما وما كان معهما من أداوت ولم السفر واحدا قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وفي إسناده محمد بن إسحاق الرجل يحرم في ثيابه (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم) في فتح الباري لم أقف على اسمه لكن ذكر ابن فتحون أن اسمه عطاء بن منية قال ابن فتحون إن ثبت ذلك فهو أخو يعلى ابن منية راوي الخبر ويجوز أن يكون خطأ من اسم الراوي فإنه من رواية عطاء عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه ومنهم من لم يذكر بين عطاء ويعلى أحدا ويجوز أن يكون عمرو بن سواد إذ في كتاب الشفاء للقاضي عياض عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متخلق الحديث لكن عمرو هذا لا يدرك ذا فإنه صاحب ابن وهب (وهو بالجعرانة) بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء على الصحيح ومنهم من يقول بكسر الجيم والعين المهملة وتشديد الراء وهذا هو المشهور على الألسنة وهي بين الطائف وهي إلى مكة أدنى في حدود الحرم أحرم منه صلى الله عليه وسلم للعمرة وهو أفضل من التنعيم عند الشافعية خلافا لأبي حنيفة رحمه الله بناء على أن الدليل القولي أقوى عنده لأن القول لا يصدر إلا عن قصده والفعل يحتمل أن يكون اتفاقيا لا قصديا وقد أمر صلى الله عليه وسلم عائشة أن تعتمر من التنعيم وهو أقرب المواضع من الحرم قاله علي القاري (وعليه أثر خلوق) بفتح الخاء
[ 186 ]
المعجمة نوع من الطيب يتخذ من الزعفران وغيره حتى كاد يتقاطر الطيب من بدنه (وعليه جبة) ثوب معروف ومنه قولهم جبة البرد جنة البرد (فلما سري عنه) بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة أي كشف عنه شيئا بعد شئ (اغسل عنك أثر الخلوق) هو أعم من أن يكون بثوبه أو ببدنه (واصنع في عمرتك الخ) فيه دليل على أنهم كانوا يعرفون أعمال الحج قال ابن العربي كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة فأخبره النبي صلى الله عليه واله وسلم أن مجراهما واحد وقال ابن المنير قوله واصنع معناه اترك لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل وأما قول ابن بطال أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه نظر لأن التروك مشتركة بخلاف الأعمال فإن في الحج أشياء زائدة على العمرة كالوقوف وما بعده قاله الحافظ قال الخطابي فيه من الفقه أن أحرم وعليه ثياب مخيط من قميص وجبة ونحوهما لم يكن عليه تمزيقه وأنه إذا نزعه من رأسه لم يلزمه دم وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال يشقه وعن الشعبي قال يمزق ثيابه قلت وهذا خلاف السنة لأن النبي صلى الله عليه واله وسلم أمره بخلع الجبة وخلعها الرجل من رأسه فلم يوجب عليه غرامة وقد نهى صلى الله عليه واله وسلم عن إضاعة المال وتمزيق الثياب تضييع له فهو غير جائز وقال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي (عن يعلى بن منية) يقال فيه يعلى بن أمية ويعلى بن منية وأمية أبوه ومنية أمه (ويغتسل)
[ 187 ]
أي محل الطيب من البدن أو الثوب (مرتين أو ثلاثا) وفي رواية البخاري اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات قال ابن جريج أحد رواته فقلت لعطاء أراد الانقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات فقال نعم قال الحافظ إن عطاء فهم من السياق أن قوله ثلاث مرات من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لكن يحتمل أن يكون من كلام الصحابي وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظه اغسله مرة ثم مرة على عادته أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه نبه عليه عياض انتهى وقوله في الحديث اغسل عنك أثر الخلوق وهو أعم من أن يكون بثوبه أو ببدنه وفي رواية البخاري عليه قميص فيه أثر صفرة والخلوق في العادة إنما يكون في الثوب ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن قتادة عن عطاء بلفظ رأى رجلا عليه جبة عليها أثر خلوق ولمسلم من طريق رباح عن عطاء مثله وقال سعيد بن منصور حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك ومنصور وغيرهما عن عطاء عن يعلى أن رجلا قال يارسول الله إني أحرمت وعلي جبتي هذه وعلى جبته ردغ من خلوق الحديث وفيه فقال اخلع هذه الجبة واغسل هذا الزعفران وفي هذه الروايات كلها رد على الحافظ اسماعيلي حيث قال ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثوب وإنما فيه أن الرجل كان متضمخا وكان مصفرا لحيته ورأسه وفي لفظ البخاري أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وهو يوضح أن الطيب لم يكن على ثوبه وإنما كان على بدنه ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإحرام انتهى كلامه واستدل بحديث الباب على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن وهو قول مالك ومحمد بن الحسن وأجاب الجمهور عنه بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة وهي في سنة ثمان بلا خلاف وقد ثبت عن عائشة أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها عند إحرامهما وكان ذلك في حجة الوداع وهي سنة عشر بلا خلاف وإنما يؤخذ بالأمر الآخر فالآخر وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقا محرما وغير محرم
[ 188 ]
واستدل أيضا على أن من أصاب طيبا في إحرامه ناسيا أو جاهلا ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه وعلى أن اللبس جهلا لا يوجب الفدية وقال مالك إن طال ذلك عليه لزمه دم وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية يجب مطلقا 32 ما يلبس المحرم قال الحافظ المراد بالمحرم من أحرم بحج أو عمرة أو قرن وحكى ابن دقيق العيد أن ابن عبد السلام كان يستشكل معرفة حقيقة الإحرام يعني على مذهب الشافعي ويرد على من يقول إنه النية لأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه وشرط الشئ غيره ويعترض على من يقول إنه التلبية بأنها ليست ركنا وكأنه يحوم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء انتهى والذي يظهر أنه مجموع الصفة الحاصلة من تجرد وتلبية ونحو ذلك (ولا البرنس) بضم الباء والنون هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو غيره قال الجوهري هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام من البرس بكسر الموحدة القطن كذا في مجمع البحار وقال الخطابي فيه دليل على أن كل شئ غطى رأسه من معتاد اللباس كالعمائم والقلانس ونحوها وكالبرنس بين أو الحمل يحمله على رأسه والمكتل يضعه فوقه وكل ما دخل في معناه فإن فيه الفدية (ولا ثوبا مسه ورس) الورس بفتح الواو وسكون الراء بعدها مهملة نبت أصفر طيب الرائحة يصبغ به قال ابن العربي ليس الورس من الطيب ولكنه نبه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملاءمة الشم فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم وهو مجمع عيله فيما يقصد به التطيب وظاهر قوله مسه تحريم ما صبغ كله أو بعضه ولكنه لابد عند الجمهور من أن يكون للمصبوغ رائحة فإن ذهبت جاز لبسه خلافا لمالك (إلا لمن لا يجد النعلين) في لفظ البخاري وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس
[ 189 ]
الخفين وفيه دليل على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين وهو قول الجمهور وعن بعض الشافعية جوازه والمراد بالوجدان القدرة على التحصيل (أسفل من الكعبين) هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد النعلين وعن الحنفية تجب وتعقب بأنها لو كانت واجبة لبينها النبي صلى الله عليه واهله وسلم لأنه وقت الحاجة وتأخير البيان عنه لا يجوز واستدل به على أن القطع شرط لجواز لبس الخفين خلافا للمشهور عن أحمد فإنه أجاز لبسهما من غير قطع الاطلاق حديث ابن عباس الآتي وأجاب عنه الجمهور بأن حمل المطلق على المقيد واجب وهو من القائلين به قال الخطابي وأنا أتعجب من أحمد بن حنبل في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه وقلت سنة لم تبلغه وقال الخطابي أيضا وفيه أن المحرم منهى عن الطيب في بدنه وفي لباسه وفي معناه الطيب في طعامه لأن بغية الناس في تطييب الطعام كبغيتهم أهل في تطيب وفيه أنه إذا لم يجد النعلين ووجد الخفين قطعهما ولم يكن ذلك من جملة ما نهي عنه من تضييع المال لكنه مستثنى منه وكل إتلاف من باب المصلحة فليس بتضييع وليس في أمر الشريعة إلا الاتباع وقد اختلف الناس في هذا فقال عطاء لا يقطعهما لأن في قطعهما فساد وكذلك أحمد بن حنبل وممن قال يقطع كما جاء في الحديث مالك وسفيان الثوري والشافعي وإسحاق بن راهويه قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي بنحوه (لا تنتقب المرأة الحرام) أي المحرمة والانتقاب لبس غطاء للوجه فيه نقبان على العينين تنظر المرأة منهما قال في الفتح النقاب الخمار الذي يشد على الأنف أو تحت المحاجر انتهى قاله الشوكاني وقال ابن المنذر أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط والخفاف ولها أن تغطي رأسها لا وجهها فتسدل الثوب سدلا خفيفا تستر به عن نظر الرجال انتهى (ولا تلبس القفازين) تثنية القفاز بوزن رمان قال في القاموس شئ يعمل لليدين يحشى بقطن تلبسهما المرأة للبرد أو ضرب من الحلي لليدين والرجلين قال في الفتح والقفاز بضم القاف وتشديد الفاء بعد الألف زاي ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها عند معاناة الشئ كغزل ونحوه وهو لليد كالخف للرجل والنقاب الخمار الذي يشد
[ 190 ]
على الأنف أو تحت المحاجر وظاهره اختصاص ذلك بالمرأة ولكن الرجل في القفاز مثلها لكونه في معنى الخف فإن كلامنهما محيط بجزء من البدن وأما النقاب فلا يحرم على الرجل من جهة الإحرام لأنه لا يحرم عليه تغطية وجهه على الراجح ومعنى لا تنتقب أي لا تستر وجهها واختلف العلماء في ذلك فمنعه الجمهور وأجازاه الحنفية وهو رواية عند الشافعية والمالكية ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين انتهى كلامه قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي قال علي القاري قوله لا تنتقب نفي أو نهي أي لا تستر وجهها بالبرقع والنقاب ولو سدلت على وجهها شيئا مجافيا جاز وتغطيه وجه الرجل حرام كالمرأة عندنا وبه قال مالك وأحمد رحمهم الله في رواية خلافا للشافعي رحمه الله (وقد روى هذا الحديث حاتم بن إسماعيل) أي مرفوعا بذكر هذه الجملة ولا تنتقب المرأة الحرام كما رواها الليث لكن اختلف على موسى بن عقبة فروى حاتم بن إسماعيل ويحيى بن أيوب عنه عن نافع مرفوعا كما قال الليث وروى موسى بن طارق عنه عن نافع موقوفا على عبد الله بن عمر وهكذا روى عبيدالله بن عمر ومالك وأيوب كلهم عن نافع عن ابن عمر موقوفا وأما إبراهيم ابن سعيد المديني فرواه عن نافع مرفوعا لكن إبراهيم بن سعيد هذا قليل الحديث هذا معنى قول المؤلف والحديث أخرجه البخاري من طريق عبد الله بن يزيد عن الليث عن نافع مرفوعا بذكر هذا الزيادة ثم قال البخاري تابعه موسى بن عقد وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وجويرية وابن إسحاق في النقاب والقفازين أي هؤلاء والليث بذكر هذه الجملة مرفوعا وقال عبيدالله ومالك وليث بن أبي سليم عن نافع موقوفا هذا معنى قول البخاري
[ 191 ]
قالت أخرج مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر لا تنتقب المحرمة وهو اقتصره علي الموقوف فقط وقد اختلف في قوله لا تنتقب المرأة في رفعه ووقفه فنقل الحاكم عن شيخه على النيسابوري أنه من قول ابن عمر أدرج في الحديث وقال الخطابي في المعالم وعللوه بأن ذكر القفازين إنما هو من قول ابن عمر ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلق الشافعي القول في ذلك وقال البيهقي في المعرفة إنه رواه الليث مدرجا وقد استشكل الشيخ تقي الدين في الإمام الحكم بالإدراج في هذا الحديث من وجهين الأول لورود النهي عن النقاب والقفازين مفردا مرفوعا كما رواه أبو داود من رواية إبراهيم بن سعد المدني والوجه الثاني أنه جاء النهي عن القفازين مبتدأ به في صدره الحديث مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سابقا على النهي عن غيره قال وهذا يمنع من الإدراج ويخالف الطريق المشهورة فروى أبو داود أيضا من طريق ابن إسحاق كما سيأتي وقال الحافظ العراقي في شرح الترمذي في الوجه الأول قرينه تدل على عدم الإدراج لكن الحديث ضعيف لأن إبراهيم بن سعيد المدني مجهول وقد ذكره ابن عدي مقتصرا على ذكر النقاب وقال لا يتابع إبراهيم بن سعيد هذا على رفعه قال ورواه جماعة عن نافع من قول ابن عمر وقال الذهبي في الميزان إن إبراهيم بن سعيد هذا منكر الحديث غير معروف ثم قال له حديث واحد في الإحرام أخرجه أبو داود وسكت عنه فهو مقارب الحال وفي الوجه الثاني ابن إسحاق وهو لا شك دون عبيدالله بن عمر في الحفظ والإتقان وقد فصل الموقوف من المرفوع وقول الشيخ إن هذا يمنع من الإدراج مخالف لقوله في الاقتراح إنه يضعف لا يمنعه فلعل بعض من ظنه مرفوعا قدمه والتقديم والتأخير في الحديث سائغ بناء على جواز الرواية بالمعنى قاله العيني رحمه الله (أخبرنا يعقوب أخبرنا أبي) هو إبراهيم بن سعد (عن ابن إسحاق قال فإن نافعا) ولفظ
[ 192 ]
أحمد حدثني نافع (لم يذكرا) أي عبدة ومحمد بن سلمة (ما بعده) أي من قوله ولتلبس إلى آخره إنما تفرد به إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق (وجد القر) بضم القاف وتشديد الراء البرد قال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي المسند منه بنحوه أتم منه (السراويل لمن لا يجد ازار) قال في فتح الباري هذا الحكم للمحرم لا الحلال فلا يتوقف جواز لبسه السروايل على فقد الإزار قال القرطبي أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد فأجاز لبس الخف والسراويل للمحرم الذي لا يجد النعلين والإزار على حالهما واشترط الجمهور قطع الخف وفتق السروايل فلو لبس شيئا منهما على حاله لزمته الفدية والدليل لهم قوله في حديث ابن عمر وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فيحمل المطلق على المقيد ويلحق النظير بالنظير لاستوائهما في الحكم وقال ابن قدامة الأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف انتهى والأصح عند الشافعية والأكثر جواز لبس السراويل بغير فتق كقول أحمد واشترط الفتق محمد بن الحسن وإمام الحرمين وطائفة وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقا ومثله عن مالك وكأن حديث ابن عباس لم يبلغه ففي الموطأ أنه سئل عنه فقال لم أسمع بهذا الحديث وقال الرازي من الحنفية يجوز لبسه وعليه الفدية كما قاله أصحابهم في الخفين ومن أجاز لبس السراويل على حاله قيده بأن لا يكون في حالة لو فتقه لكان إزارا لأنه في تلك الحالة يكون واجدا الإزار قال المنذري وأخرجه
[ 193 ]
البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه أتم منه (هذا حديث أهل مكة) لأن سليمان بن حرب مكي وروي عنه المصنف وإسناد الحديث يدور على جابر بن يزيد وهو بصري وأن جابرا لم يذكر القطع وتفرد بذكر السراويل (فنضمد) بفتح الضاد المعجمة وتشديد الميم المكسورة أي نلطخ (جباهنا) بكسر الجيم والجبهة من الإنسان تجمع على جباه مثل كلبة وكلاب قال الأصمعي هي موضع السجود (بالسك) بضم السين المهملة وتشديد الكاف وهو نوع من الطيب معروف (فإذا عرقت) بكسر الراء (فلا ينهاها) وسكوته صلى الله عليه وآله وسلم يدل على الجواز لأنه لا يسكت على باطل في رواية أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم في القاموس زيت مقتت طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان طيبة وفيه دليل على جواز الادهان بالزيت الذي لم يخلط بشئ من الطيب وقد قال ابن المنذر أنه أجمع العلماء على أنه يجوز للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والشيرج وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته قال أجمعوا على أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه وفرقوا بين الطيب والزيت في هذا
[ 194 ]
واستدل المؤلف بحديث عائشة على أن الطيب الباقي على الثوب قبل الإحرام لا يضر لبسه بعد الإحرام (يقطع الخفين للمرأة المحرمة) لعموم حديث ابن عمر المتقدم فإن ظاهره شمول الرجل والمرأة لولا هذا الحديث (فترك ذلك) يعني رجع عن فتواه وفيه دليل على أنه يجوز للمرأة أن تلبس الخفين بغير قطع قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق انتهى قلت روايته ليست معنعنة بل شافه الزهري وروى عنه
[ 195 ]
[ . . . . ]
[ 196 ]
[ . . . . . ]
[ 197 ]
[ . . . . ]
[ 198 ]
[ . . . . ]
[ 199 ]
[ . . . . . ]
[ 200 ]
33 المحرم يحمل السلاح (على أن لا يدخلوها) النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (إلا بجلبان السلاح) بضم الجيم وسكون اللام شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمورا ويطرح فيه الراكب سوطه وأدائه ويعلقه في آخرة الكور أو وسطه ورواه القتيبي بضم الجيم واللام وتشديد الباء وقال هو أوعية السلاح بما فيها وفي بعض الروايات ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه يريد ما يحتاج في إظهاره والقتال به إلى معاناة لا كالرماح لأنها مظهرة يمكن تعجيل الأذى بها وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم إذا كان دخولهم صلحا كذا في النهاية وقال ابن بطال أجاز مالك والشافعي حمل السلاح للمحرم في الحج والعمرة وكرهه الحسن (قال القراث حديث بما فيه) قال الكرماني القراب جراب قلت ليس بجراب ولكنه يشبه الجراب يطرح فيه الراكب سيفه بغمده وسوطه ويطرح فيه زاد من تمر وغيره قاله العيني قال الخطابي هكذا جاء تفسير الجلبان في هذا الحديث ولم أسمع فيه من ثقة شيئا وزعم بعضهم أنه إنما سمي جلبانا لجفائه وارتفاع شخصه من قولهم رجل جلبان وامرأة جلبانة إذا كانت جسيمة جافية الخلق قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث ويشبه أن يكون المعنى في مصالحتهم على أن لا يدخلوها بالسيوف في القرب أنهم لم يأمنوا أهل مكة أن يخفروا الذمة فاشترط حمل السلاح في القرب معهم ولم يشترط شهر السلاح ليكون سمة وأمارة له انتهى قال المنذري أخرجه البخاري ومسلم أتم منه
[ 201 ]
في المحرمة تغطي وجهها لأنه (كان الركبان) بضم الراء جمع الراكب (يمرون) أي مارين (بنا) أي علينا معشر النساء (محرمات) بالرفع على الخبرية أي مكشوفات الوجوه (فإذا حاذوا بنا) وهو بفتح الذال من المحاذاة بمعنى المقابلة أي قابلوا (سدلت) أي أرسلت (جلبابها) بكسر الجيم أي برقعها أو طرف ثوبها (من رأسها على وجهها) بحيث لم يمس الجلباب بشرة كذا في المرقاة وقال محدث العصر مولانا محمد إسحاق الدهلوي أي سدلت منفصلا عن الوجه لئلا يتعارض حديث لا تنتقب المحرمة (فإذا جاوزونا) أي تعدوا عنا وتقدموا علينا (كشفناه) أزلنا الجلباب ورفعناه النقاب وتركنا الحجاب ولو جعل الضمير إلى الوجه بقرينة المقام فله وجه كذا في المرقاة وفي نيل الأوطار واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقا كالعورة لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم وظاهر الحديث خلافه لأن المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة فلو كان التجافي شرطا لبينه صلى الله عليه وسلم انتهى قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وذكر سعد بن يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين أن مجاهدا لم يسمع من عائشة وقال أبو حاتم الرازي مجاهد عن عائشة مرسل وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث مجاهد عن عائشة أحاديث منها ما هو ظاهر في سماعه وفي إسناده أيضا يزيد ابن أبي زياد وتكلم فيه غير واحد وأخرج له مسلم في جماعة غير محتج به انتهى
[ 202 ]
35 في المحرم يظلل (وأحدهما) أي والحال أن أحدهما (أخذ) بصيغة الفاعل (بخطام) بكسر الخاء بمعنى الزمام والمهار ككتاب (رافع) بالتنوين (ثوبه) ثوبا في يده (يستره) أي يظلله بثوب مرتفع على رأسه بحيث لم يصل الثوب إلى رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظ أحمد ومسلم حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم يظلله من الشمس (من الحر) وفيه جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره من محمل وغيره وإلى ذلك ذهب الجمهور وقال مالك وأحمد لا يجوز والحديث يرد عليهما وأجاب عنه بعض أصحاب مالك بأن هذا المقدار لا يكاد يدوم فهو كما أجاز مالك للمحرم أن يستظل بيده فإن فعل لزمته الفدية عند مالك وأحمد وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز وقد احتج لمالك وأحمد على منع التظلل بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه أبصر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال اضح لمن أحرمت له وبما أخرجه البيهقي أيضا بإسناد ضعيف عن جابر مرفوعا ما من محرم يضحي للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه وقوله اضح بالضاد المعجمة وكذا يضحي الشمس والمراد ابرز للضحى قال الله تعالى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ويجاب عن قول ابن عمر بأنه موقوف وبأن حديث جابر مع كونه ضعيفا لا يدل على المطلوب وهو المنع من التظلل ووجوب الكشف لأن غاية ما فيه أنه أفضل على أنه يبعد منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل المفضول ويدع الأفضل في مقام التبليغ قاله الشوكاني قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي
[ 203 ]
المحرم يحتجم (احتجم وهو محرم) قال الخطابي لم يكن أكثر من كره من الفقهاء الحجامة للمحرم إلا من أجل قطع الشعر وإن احتجم في موضع لا شعر عليه فلا بأس به وإن قطع شعرا افتدى وممن رخص في الحجامة للمحرم سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقال مالك لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة لا بد منها وكان الحسن يرى في الحجامة دما يهريقه قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي انتهى (من داء كان به) أي من مرض ولفظ البخاري ومسلم في وسط رأسه من رواية ابن بحينة قال النووي في هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك وقطع الشعر حينئذ لكن عليه الفدية لقطع الشعر فإن لم يقطع فلا فدية عليه ودليل المسألة قوله تعالى فمن كان مريضا أو به أذى من رأسه ففدية الآية وهذا الحديث محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس لأنه لا ينفك عن قطع شعر أما إذا أراد المحرم الحجامة بغير حاجة فإن تضمنت قلع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر فإن لم تضمن ذلك بأن كانت في موضع لا شعر فيه فيهي جائز عندنا وعند الجمهور ولا فدية فيها وعن ابن عمر ومالك كراهتها وعن الحسن البصري فيها الفدية دليلنا أن إخراج الدم ليس حراما في الإحرام وفي هذا الحديث بيان قاعدة من مسائل الإحرام وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات يباح للحاجة وعليه الفدية كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد أو قتل صيد للمجاعة وغير ذلك انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري وأخرجه النسائي مختصرا
[ 204 ]
(على ظهر القدم) أي أعلى القدم (من وجع كان به) ولفظ النسائي احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وثأكان به وفي رواية له من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم من وثاكان يا به ومعناه من وجع يصيب اللحم لا يبلغ العظم أو وجع يصيب العظم من غير كسر قاله السندي وهذا الحديث يرد إطلاق من ذهب إلى كراهتها وكذا إطلاق الحسن البصري أن فيها الفدية قال المنذري وأخرجه الترمذي ولفظ النسائي من وثأكان به (ابن أبي عروبة) هو سعيد أي روي عن قتادة مرسلا من غير ذكر أنس يكتحل المحرم (أمير الموسم) قال في المصباح السمة هي العلامة ومنه الموسم لأنه معلم يجتمع إليه انتهى والمعنى أنه كان أمير الحجاج في موسم الحج (قال أضمدهما بالصبر) بفتح ثم كسر دواء معروف مر قال الخطابي الصبر ليس بطيب ولذلك رخص له أن يتعالج به فأما الكحل الذي لا طيب فيه فلا بأس به وقال الشافعي وأنا له في النساء أشد كراهة مني له في الرجال ولا أعلم على واحد منهما الفدية ورخص في الكحل للمحرم سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وكره اثمد للمحرم سفيان وإسحاق قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي
[ 205 ]
باب المحرم يغتسل أي الاغتسال للمحرم ترفها وتنظفا وتطهرا من الجنابة قال ابن المنذر أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة واختلفوا فيما عدا ذلك وروي عن مالك أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء وروي في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام (بالأبواء) بفتح الهمزة وسكون الموحدة موضع قريب من مكة وهما نازلان بها (بين القرنين) هو بفتح القاف تثنية قرن وهما الخشبتان القائمتان على رأس البئر وشبههما من البناء وتمد بينهما خشبة يجر عليها الحبل المستقى به ويعلق عليها البكرة قاله النووي (على الثوب) الساتر (فطأطأه) أي أزاله عن رأسه وفي رواية البخاري جمع ثيابه إلى صدره حتى نظرت إليه وحتى رأيت رأسه ووجهه في رواية له وفي هذا الحديث فوائد منها اغتسال المحرم وغسله رأسه وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعرا ومنها قبول خبر الواحد وأن قبوله كان مشهورا عند الصحابة ومنها الرجوع إلى النص عند الاختلاف وترك الاجتهاد والقياس عند وجود النص ومنها السلام على المتطهر في وضوء وغسل بخلاف الجالس على الحدث ومنها جواز الاستعانة في الطهارة ولكن الأولى تركها إلا لحاجة واتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده عن الجنابة بل هو واجب عليه وأما غسله لتبرد فمذهبنا ومذهب الجمهور جوازه بلا كراهة ويجوز عندنا غسل رأسه بالسدر والخطمى بحيث لا ينتف شعرا وقال أبو
[ 206 ]
حنيفة ومالك هو حرام موجب للفدية قاله النووي قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه المحرم يتزوج لو (عن نبيه) بضم النون مصغرا (أن عمر بن عبيدالله مصغرا (أرسل) نبيها الراوي المذكور في رواية لمسلم (إلى أبان) بفتح الهمزة والموحدة (أمير الحاج) من جهة عبد الملك (أردت أن أنكح) بضم فسكون أزوج ابني (فأردت أن تحضر) فيه ندب الاستئذان لحضور العقد (فأنكر ذلك عليه أبان) فقال لا أراه إلا أعرابيا أي جاهلا بالسنة كما عند مسلم (قال إني سمعت أبي عثمان) عطف بيان أو بدل من أبي وفي تصريحه بسمعت رد على من قال إنه لم يسمع أباه فالمثبت مقدم (لا ينكح) بفتح أوله أي لا يعقد لنفسه (المحرم) بحج أو عمرة أو بهما (ولا ينكح) بضم أوله أي لا يعقد لغيره بولاية ولا وكالة وهو بالجزم فيهما على النهي كما ذكر الخطابي أنه الرواية الصحيحة قاله الزرقاني قال الخطابي قد ذهب إلى ظاهر الحديث مالك والشافعي ورأيا النكاح إذا عقد في الإحرام مفسوخا عقده المرء لنفسه أو كان وليا يعقده لغيره وقال أبو حنيفة وأصحابه نكاح المحرم لنفسه وإنكاحه لغيره جائز واجتمعوا في ذلك بخبر ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو محرم وتأول بعضهم خبر عثمان على معنى أنه إخبار عن حال المحرم وأنه باشتغاله بنسكه لا يتسع بعقد النكاح ولا يفرغ له وقال بعضهم معنى ينكح أي أنه لا يطأ ليس أنه لا يعقد قال الخطابي قلت الرواية الصحيحة لا ينكح المحرم بكسر الحاء على معنى النهي لا على حكاية الحال وقصة أبان في منعه عمر بن عبيدالله من العقد وإنكاره ذلك وهو راوي الخبر دليل على أن المعنى في ذلك العقد فأما أن المحرم مشغول بنسكه ممنوع من الوطء فهذا من العلم العام المفروغ من بيانه اتفاق الجماعة والعامة من أهل العلم انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه
[ 207 ]
(زاد ولا يخطب) بضم الطاء من الخطبة بكسر الخاء أي لا يطالب امرأة لنكاح قال علي القاري روى الكلمات الثلاث بالنفي والنهي وذكر الخطابي أنها على صيغة النهي أصح على أن النفي بمعنى النهي أيضا بل أبلغ والأولان للتحريم والثالث للتنزيه عند الشافعي فلا يصح نكاح المحرم ولا إنكاحه عنده والكل للتنزيه عند أبي حنيفة وقال الطيبي أخرج هذا الحديث مسلم وأبو داود وأبو عيسى وأبو عبد الرحمن في كتبهم والذي وجدناه الأكثر فيما يعتمد عليه من الروايات الإثبات وهو الرفع في تلك الكلمات (ونحن حلالان بسرف) ومن غريب التاريخ أنها دفنت بسرف أيضا وهو بين الحرمين قريب مكة دون الوادي المشهورة بوادي فاطمة قال الطبري وهو على عشرة أميال من مكة والصحيح أنه على ستة أميال قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه بنحوه (تزوج ميمونة وهو محرم) قال العيني واحتج بهذا الحديث إبراهيم النخعي والثوري وعطاء بن أبي رباح وحماد بن أبي سليمان وعكرمة ومسروق وأبو حنيفة وصاحباه وقالوا لا
[ 208 ]
بأس للمحرم أن ينكح ولكنه لا يدخل بها حتى يحل وهو قول ابن عباس وابن مسعود وقال سعيد بن المسيب وسالم والقاسم وسليمان بن يسار والليث والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا ينكح غيره فإن فعل ذلك فالنكاح باطل وهو قول عمر وعلي انتهى قلت لا حجة لهم برواية ابن عباس هذه لأنها مخالف لرواية أكثر الصحابة ولم يروه كذلك إلا ابن عباس وحده وانفرد به قاله القاضي عياض ولأن سعيد بن المسيب وغيره وهموه في ذلك وخالفته ميمونة وأبو رافع فرويا أنه نحكها وهو حلال وهو أولى بالقبول لأن ميمونة هي الزوجة وأبو رافع هو السفير بينهما فهما أعرف بالواقعة من ابن عباس لأنه ليس له من التعلق بالقصة مالهما ولصغره حينئذ عنهما إذ لم يكن في سنهما ولا يقرب منه فإن لم يكن وهما فهو قابل للتأويل بأنه تزوجها في أرض الحرم وهو حلال فأطلق ابن عباس على من في الحرم أنه محرم لكن هو بعيد وأجيب عن التفرد بأنه قد صح من رواية عائشة وأبي هريرة نحوه كما قاله الحافظ في الفتح وقول سعيد بن المسيب أخرجه أبو داود وسكت عنه هو ثم المنذري وفي إسناده رجل مجهول فالقول المحقق في جوابه بأن رواية صاحب القصة والسفير فيها أولى لأنه أخبر وأعرف بها والله أعلم وقال الحافظ في الفتح وأجابوا عن حديث ميمونة بأنه اختلف في الواقعة كيف كانت ولا تقوم بها الحجة ولأنها تحتمل الخصوصية فكان الحديث في النهي عن ذلك أولى بأن يؤخذ به وقال عطاء وعكرمة وأهل الكوفة يجوز للمحرم أن يتزوج كما يجوز له أن يشتري الجارية للوطء وتعقب بأنه قياس في معارضة السنة فلا يعتبر به وأما تأويلهم حديث عثمان بأن المراد به الوطء فمتعقب بالتصريح فيه بقوله ولا ينكح بضم أوله وبقوله فيه ولا يخطب انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي بنحوه (وهم ابن عباس الخ) هذا هو أحد الأجوبة التي أجاب بها الجمهور عن حديث ابن عباس
[ 209 ]
ما يقتل المحرم من الدواب بتشديد الباء الموحدة جمع دابة وهي ما دب من الحيوان من غير فرق بين الطير وغيره ومن أخرج الطير من الدواب فحديث الباب من جملة ما يرد به عليه (خمس) أي من الدواب كما عند مسلم (لا جناح) أي لا إثم ولا جزاء والمعنى لا حرج (في الحل والحرم) أي في أرضه وورد في لفظ عند مسلم من روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقتل الكلب العقور الحديث وعند أبي عوانة ليقتل المحرم وظاهر الأمر الوجوب ويحتمل الندب والإباحة وقد روى البزار من حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل العقرب والفأرة والحية والحدأة وهذا الأمر ورد بعد نهي المحرم عن القتل وفي الأمر الوارد بعد النهي خلاف معروف في الأصول هل يفيد الوجوب أو لا قاله الشوكاني (العقرب) قال في الفتح هذا اللفظ للذكر والأنثى قال ابن المنذر لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب (والغراب) هذا اطلاق مقيد بما عند مسلم من حديث عائشة بلفظ الأبقع وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض وقد اعتذر ابن بطال وابن عبد البر عن قبول هذه الزيادة بأنها لم تصح لأنها من رواية قتادة وهو مدلس وتعقب بأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما هو مسموع لهم وهذه الزيادة من رواية شعبة بل صرح النسائي بسماع قتادة قال في الفتح وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ويقال له غراب الزرع وأفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملحقا بالأبقع انتهى قال ابن المنذر أباح كل من يحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإحرام إلا عطاء قال الخطابي لم يتابع أحد عطاء على هذا (والفأرة) بهمزة ساكنة ويجوز فيها التسهيل قال في الفتح ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي فإنه قال فيها جزاء إذا قتلها المحرم أخرجه عنه ابن المنذر وقال هذا خلاف السنة وخلاف قول جميع أهل العلم (والحدأة) بكسر الحاء المهملة وفتح الدال بعدها همزة بغير مد على وزن عنبة
[ 210 ]
وحكى صاحب المحكم فيه المد (والكلب العقور) اختلف في المراد بالكلب العقور فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن كما قال الحافظ إنه الأسد وعن زيد بن أسلم أنه قال وأي كلب أعقر من الحية وقال زفر المراد به هنا الذئب خاصة وقال في الموطأ كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فهو عقور وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان وهو قول الجمهور وقال أبو حنيفة المراد به هنا الكلب خاصة ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذئب قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة (عن أبي هريرة) إلى آخر الحديث قال المنذري في إسناده محمد ابن عجلان (والفويسقة) تصغير فاسقة لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها وأصل الفسق هو الخروج ومن هذا سمي الخارج عن الطاعة فاسقا ويقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت عنه قاله الخطابي (ويرمي الغراب ولا يقتله) قال الخطابي يشبه أن يكون المراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب وهو الذي استثناه مالك من جملة الغربان وأيضا قال اختلف أهل العلم فيما يقتله المحرم من الدواب فقال الشافعي إذا قتل المحرم شيئا من هذه الأعيان المذكورة في هذه الأخبار فلا شئ عليه وقاس عليها كل سبع ضار وكل شئ من الحيوان لا يؤكل لحمه لأن بعض هذه الأعيان سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة الهوام وإنما هو حيوان مستخبث اللحم غير مستطاب الأكل وتحريم الأكل يجمعهن كلهن فاعتبره وجعله دليل الحكم وقال مالك نحوا من قول الشافعي إلا أنه قال لا يقتل المحرم الغراب الصغير وقال أبو حنيفة وأصحابه يقتل الكلب وسائر ما جاء في الخبر وقاسوا عليه الذئب ولم يجعلوا على قاتله فدية وقالوا في السبع والنمر والفهد والخنزير عليه الجزاء إن قتلها إلا أن يكون قد ابتدأه المحرم
[ 211 ]
فعليه قيمته إلا أن يكون قيمته أكثر من دم فعليه دم ولا يجاوزه انتهى كلام الخطابي مختصرا (والسبع العادي) أي الظالم الذي يفترس الناس ويعقر فكل ما كان هذا الفعل نعتا له من أسد ونمر وفهد ونحوها فحكمه هذا الحكم وليس على قاتلها فدية والله أعلم قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن هذا آخر كلامه وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وقد تقدم الكلام عليه لحم الصيد للمحرم (فصنع) أي الحارث (من الحجل) بتقديم المهملة على الجيم جمع حجلة طائر معروف بالفارسية كبك (واليعاقيب) جمع يعقوب طائر معروف قال في منتهى الإرب بالفارسية كبك نر قال العلامة الدميري الحجل طائر على قدر الحمام أحمر المنقار والرجلين ويسمى دجاج البر وهو صنفان نجدي وتهامي يكون فالنجدي مع أخضر اللون أحمر الرجلين والتهامي سعيد فيه بياض وخضرة واليعقوب هو ذكر الحجل انتهى كلامه (فبعث) أي الحارث أو عثمان رضي الله عنه (وهو) أي علي رضي الله عنه (يخبط) من الخبط وهو ضرب الشجرة بالعصا ليتناثر ورقها لعلف الإبل والخبط بفتحتين الورق بمعنى مخبوط بكر (لأباعر) جمع بعير (ينفض الخبط) أي علي رضي الله عنه يزيله ويدفعه (حرم) بضمتين جمع حرام بمعنى محرم (من أشجع) هي قبيلة قال الخطابي يشبه أن يكون علي رضي الله عنه قد علم أن الحارث إنما اتخذ هذا الطعام من أجل عثمان رضي الله عنه ولم يحضر معه أحد من أصحابه فلم ير أن يأكله هو ولا أحد ممن بحضرته فأما إذا لم يصد الطير والوحش من أجل المحرم فقد رخص كثير من
[ 212 ]
العلماء في تناوله ويدل على ذلك حديث جابر وقد ذكره أبو داود على أثره في هذا الباب انتهى كلام الخطابي (فلم يقبله وقال أنا حرم) وقد استدل بهذا من قال بتحريم الأكل من لحم الصيد على المحرم مطلقا لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرما فدل على أنه سبب الامتناع خاصة وهو قول علي وابن عباس وابن عمر والليث والثوري وإسحاق واستدلوا أيضا بعموم قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ولكنه يعارض ذلك حديث أبي قتادة وسيأتي وقال الكوفيون وطائفة من السلف إنه يجوز للمحرم أكل لحم الصيد مطلقا وكلا المذهبين يستلزم إطراح بعض الأحاديث الصحيحة بلا موجب فالحق مع من ذهب إلى الجمع بين الأحاديث المختلفة فقال أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم ويؤيد هذا الجمع حديث جابر الآتي قال المنذري وأخرجه النسائي الا (يقول صيد البر لكم حلال) هذا الحديث صريح في التفرقة بين أن يصيده المحرم أو يصيده غيره له وبين أن لا يصيده المحرم ولا يصاد له بل يصيده الحلال لنفسه ويطعمه المحرم ومقيد لبقية الأحاديث المطلقة كحديث الصعب وطلحة وأبي قتادة ومخصص لعموم الآية المتقدمة قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي والمطلب لا نعرف له سماعا من جابر وقال في موضع آخر والمطلب بن عبد الله بن حنطب يقال إنه لم يسمع من جابر وذكر أبو حاتم الرازي أنه لم يسمع من جابر وقال ابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم يشبه أن يكون أدركه قال الخطابي تحت حديث جابر وممن هذا مذهبه عطاء بن أبي رباح ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وقال مجاهد وسعيد بن جبير يأكل المحرم ما لم يصد إذا كان قد ذبحه حلال وإلى نحو من هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه قالوا لأنه الآن ليس بصيد وكان ابن
[ 213 ]
عباس رضي الله عنهما يحرم لحم الصيد على المحرمين في عامة الأحوال ويتلو قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ويقول الآية مبهمة وإلى نحو من ذلك ذهب طاووس وعكرمة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه (أو يصاد لكم) هكذا في النسخ والجاري على قوانين العربية أو يصد لأنه معطوف على المجزوم قاله السندي (تخلف) أي تأخر أبو قتادة (مع أصحاب له) أي لأبي قتادة (وهو) أي أبو قتادة (أن يناولوه) أي يعطوه (فأبوا) أن يعاونوه (ثم شد) أي حمل عليه (فلما أدركوا) أي لحقوا (سألوه عن ذلك) هل يجوز أكله أم لا والحديث فيه فوائد منها أنه يحل للمحرم لحم ما يصيده الحلال إذا لم يكن صاده لأجله ولم يقع منه إعانة له ومنها أن مجرد محبة المحرم أن يقع من الحلال الصيد فيأكل منه غير قادحة في إحرامه ولا في حل الأكل منه ومنها أن عقر الصيد ذكاته ومنها جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرب منه قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ووقع في البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم أكل منه وأخرجه الدارقطني في سننه من حديث معمر بن راشد وفيه وإني إنما اصطدته لك فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا ولم يأكل حين أخبرته أني اصطدته له قال الدارقطني قال أبو بكر يعني النيسابوري قوله اصطدته لك
[ 214 ]
[ . . . . ]
[ 215 ]
وقوله لم يأكل منه لا أعلم أحدا ذكره في هذا الحديث غير معمر وقال غيره هي لفظة غريبة لم نكتبها إلا من هذا الوجه هذا آخر كلامه وقد تقدم في الصحيحين أنه أكل صلى الله عليه وسلم منه 42 الجراد للمحرم (حماد) هو ابن زيد قاله المزي (عن ميمون بن جابان) بجيم موحدة ونون قال المنذري ميمون بن جابان لا يحتج به (عن أبي رافع) اسمه نفيع (قال الجراد من صيد البحر)
[ 216 ]
قال علي القاري قال العلماء إنما عده من صيد البحر لأنه يشبه صيد البحر من حيث أنه يحل ميتته ولا يجوز للمحرم قتل الجراد ولزمه بقتله قيمته وفي الهداية أن الجراد من صيد البر قال ابن الهمام عليه كثير من العلماء ويشكل عليه ما فيه أبي داود والترمذي عن أبي هريرة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة أو غزوة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضربه بسياطنا وقسينا فقال صلى الله عليه وسلم كلوه فإنه من صيد البحر وعلى هذا لا يكون فيه شئ أصلا لكن تظاهر عن عمر إلزام الجزاء فيها في الموطأ أنبأنا يحيى بن سعيد أن رجلا سأل عمر عن جرادة قتلها وهو محرم فقال عمر لكعب تعال حتى تحكم فقال كعب درهم فقال عمر إنك لتجد الدراهم لتمرة خير من جرادة ورواه ابن أبي شيبة عنه بقصته وتبع عمر أصحاب المذاهب انتهى كلام ابن الهمام قال ملا على القاري لو صح حديث أبي داود والترمذي المذكور سابقا كان ينبغي أن يجمع بين الأحاديث بأن الجراد على نوعين بحري وبري فيعمل في كل منهما بحكمه (صرما من جراد) بكسر الصاد وسكون الراء قطعة من الجماعة الكبيرة (فقيل له) للرجل (لا يصلح) لأنه صيد قال المنذري أبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان بصري متروك وهو بضم الميم وفتح الهاء وكسر الزاي وتشديدها بعدها ميم وقال أبو بكر المعافري ليس في هذا الباب حديث صحيح (عن أبي رافع عن كعب) قال المزي في الأطراف حديث موسى ابن إسماعيل في رواية أبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم
[ 217 ]
في الفدية (عن كعب بن عجرة) بضم العين وإسكان الجيم (هو أم رأسك) قال في المصباح والهامة ماله سم يقتل كالحية قاله الأزهري والجمع الهوام مثل دابة ودواب وقد تطلق ا لهوام على مالا يقتل كالحشرات ومنه حديث كعب بن عجرة أيؤذيك هو أم رأسك والمراد القمل على الاستعارة بجامع الأذى انتهى (اذبح شاة نسكا) بضم النون والسين قال في النهاية والنسيكة الذبيحة وجمعها نسك والنسك أيضا الطاعة والعبادة وكل ما تقرب به إلى الله تعالى انتهى وهذا دم تخيير استفيد بأو في قوله أو صم ثلاثة أيام (أو أطعم) أو للتخيير (آصع) جمع صاع وفي الصاع لغتان التذكير والتأنيث وهو مكيال يسع خسمة أرطال وثلث بالبغدادي هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة يسع ثمانية أرطال وأجمعوا على أن الصاع أربعة أمداد وهذا الذي قدمنا من أن الآصع جمع صاع صحيح وقد ثبت استعمال الآصع في هذا الحديث الصحيح من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك هو مشهور في كتب اللغة قال النووي المعنى أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرر من قمل أو مرض أو نحوهما فله حلقه في الإحرام وعليه الفدية قال الله تعالى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصيام ثلاثة أيام والصدقة ثلاثة آصع لستة مساكين لكل مسكين نصف صاع والنسك شاة وهي شاة تجزى في الأضحية ثم إن الآية الكريمة والأحاديث متفقة على أنه مخير بين هذه الأنواع الثلاثة وهكذا الحكم عند العلماء أنه مخير بين الثلاثة واتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث إلا ما حكي عن أبي حنيفة والثوري أن نصف الصاع لكل مسكين إنما هو في الحنطة فأما التمر و الشعير وغيرهما فيجب صاع لكل مسكين وهذا خلاف نصه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاثة آصع من تمر وعن أحمد بن حنبل رواية أنه لكل مسكين مد من حنطة أو نصف صاع من غيره وعن
[ 218 ]
الحسن البصري وبعض السلف أنه يجب إطعام عشرة مساكين أو صوم عشرة أيام وهذا ضعيف منابذا للسنة مردود وقوله صلى الله عليه وسلم أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين معناه مقسومة على ستة مساكين تم كلامه مختصرا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (إن شئت فانسك نسيكة) أي اذبح ذبيحة وفي الموطأ أي ذلك فعلت أجزأ وفيه دليل على أنه مخير في الثلاثة جميعا ولذا قال البخاري في أول باب الكفارات خير النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعبا في الفدية انتهى والحديث سكت عنه المنذري عن عامر) هو الشعبي (قال أمعك دم) أي شاة أو نحوه (قال لا) أي ليس معي دم (قال فصم) قال النووي ليس المراد أن الصوم لا يجزي إلا لعادم الهدي بل هو محمول على أنه سأله عن النسك فإن وجده أخبره أنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام وإن عدمه فهو مخير بين الصيام والإطعام والحديث سكت عنه المنذري (أن رجلا من الأنصار) قال في التقريب هو عبد الرحمن بن أبي ليلى في الصر (فحلق) أي شعر
[ 219 ]
رأسه قال المنذري فيه رجل مجهول (هوام) جمع هامة بتشديد الميم (حتى تخوفت) من كثرة القمل والأذى بأنه يضعف الدماغ ويزيل قوته (على بصري) متعلق بتخوفت قد أي على ذهاب بصري (في) أي في شأني (كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه الآية ففدية من صيام أو صدقة أو نسك (فرقا من زبيب) قال الخطابي والفرق ستة عشر رطلا وهو ثلاثة أصواع أمره أن يقسمه بين ستة مساكين فهذا في الزبيب نص كما نص في التمر وقال سفيان الثوري إذا تصدق بالبر أطعم ثلاثة أصواع بين ستة مساكين لكل واحد منهم نصف صاع فإن أطعم تمرا أو زبيبا أطعم صاعا صاعا قال الخطابي هذا خلاف السنة وقد جاء في الحديث ذكر التمر مقدار نصف صاع فلا معنى لخلافه وقال أبو حنيفة وأصحابه نحوا من قول سفيان والحجة عليه وعليهم نص الحديث قال الخطابي فإن حلقه ناسيا فإن الشافعي يوجب عليه الفدية كالعمد سواء وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري ولم يفرقوا بين عمده وخطئه لأنه إتلاف شئ له حرمة كالصيد وقال الشافعي إن تطيب ناسيا فلا شئ عليه وسوى أبو حنيفة وأصحابه في الطيب ولم يفرقوا بين عمده وخطئه ورأوا فيه الفدية كالحلق والصيد وقال إسحق ابن راهويه لا شئ على من حلق رأسه ناسيا (أو انسك) أي اذبح قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق قلت صرح بالتحديث (فعلت أجزأ عنك) هذا الحديث وجد في النسختين وذكره الحافظ المزي في الأطراف وعزاه إلى أبي داود ثم قال حديث القعنبي في رواية أبي الحسن ابن العبد وأبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم انتهى كذا في الغاية
[ 220 ]
الإحصار قال العيني اختلف العلماء في الحصر بأي شئ يكون وبأي معنى فقال قوم يكون الحصر حال من مرض أو عدو وكسر وذهاب نفقة ونحوها مما يمنعه عن المضي إلى البيت وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وقال آخرون وهم الليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق لا يكون الإحصار إلا بالعدو فقط ولا يكون بالمرض انتهى (من كسر) بضم الكاف وكسر السين (أو عرج) بفتح المهملة والراء أي أصابه شئ في رجله وليس بخلقة فإذا كان خلقة قيل عرج بكسر الراء (من قابل) أي في السنة المستقبلة قال الخطابي وهذا الحديث حجة لمن رأى الإحصار بالمرض والعذر يعرض للمحرم من غير حبس العدو وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وروي ذلك عن عطاء وعروة والنخعي وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق لا حصر إلا حصر العدو وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وروي معناه أيضا عن ابن عمر (وعليه الحج من قابل) وإنما فيمن كان حجه عن فرض فأما المتطوع بالحج إذا حصر فلا شئ غير هذا الإحصار
[ 221 ]
وهذا على مذهب مالك والشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه عليه حجة وعمرة وهو قول النخعي وعن مجاهد والشعبي وعكرمة عليه حجة من قابل قاله الخطابي قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه قال المنذري حديث حسن (أبي ميمون بن مهران) بدل من لفظ أبي (أهل الشام) يعني الحجاج (وبعث) أي أرسل (مكاني) الذي كنت فيه قال الخطابي أما من لا يرى عليه القضاء في غير الفرض فإنه لا يلزمه بدل الهدي ومن أوجبه فإنما يلزمه البدل لقوله تعالى هديا بالغ الكعبة ومن نحر الهدي في الموضع الذي أحصر فيه وكان خارجا من الحرم فإن هديه لم يبلغ الكعبة فلزمه إبداله وإبلاغه الكعبة وفي الحديث حجة لهذا القول انتهى وقال البيهقي وفعله إن صح الحديث استحب الإبدال وإن لم يكن واجبا كما استحب الإتيان بالعمرة ولم يكن قضاء ما أحصر عنه واجبا بالتحلل انتهى (عام الحديبية) قال ابن القيم عمرة الحديبية كانت سنة ست فصده المشركون عن البيت فنحر البدن حيث صد بالحديبية وحلق هو وأصحابه رؤوسهم وحلوا من إحرامهم ورجع من عامه إلى المدينة وعمرة القضاء ويقال لها عمرة القضية في العام المقبل دخلها فأقام بها ثلاثا ثم خرج بعد إكمال عمرته
[ 222 ]
واختلف هل كانت قضاء العمرة التي صد عنها في العام الماضي عمرة مستأنفة على قولين للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد أحدهما أنها قضاء وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله والثاني ليست بقضاء وهو قول مالك رحمه الله والذين قالوا كانت قضاء احتجوا بأنها سميت عمرة القضاء وهذا الاسم تابع للحكم وقال آخرون القضاء هنا من المقاضاة لأنه قاضى أهل مكة عليها لا أنه من قضى يقضي قضاء قالوا ولهذا سميت عمرة القضية قالوا والذين صدوا عن البيت كانوا ألفا وأبعمائمة وفي وهؤلاء كلهم لم يكونوا معه في عمرة القضية ولو كان قضاء لم يتخلق منهم أحد وهذا القول أصح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر من كان معه بالقضاء انتهى قال المنذري والحديث في إسناده محمد بن إسحاق
[ 223 ]
[ . . . . ]
[ 224 ]
دخول مكة (بات) أي نزل في الليل ليلة قدومه (بذي طوى) بفتح الطاء وضمها وكسرها والفتح أفصح وأشهر موضع بمكة داخل الحرم وقيل اسم بئر عند مكة في طريق أهل المدينة قال النووي والحديث فيه فوائد منها الاغتسال للدخول مكة وأنه يكون بذي طوى لمن كان في طريقه وبقدر بعدها لمن لم يكن في طريقه وهذا الغسل سنة ومنها المبيت بذي طوى وهو مستحب لمن هي على طريقه وهو موضع معروف بقرب مكة ومنها استحباب دخول مكة نهارا وهذا هو الصحيح وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها محرما بعمرة الجعرانة ليلا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ليلا في عمرة الجعرانة (من الثنية العليا) التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة يقال لها كداء بالفتح والمد والثنية بفتح الثاء المثلثة وكسر النون وتشديد الياء كل عقبة في جبل أو طريق عال فيه تسمى ثنية (من ثنية البطحاء) الأبطح كل مكان متسع والأبطح بمكة هو المحصب (ويخرج من الثنية السفلى)
[ 225 ]
وهي التي أسفل مكة عند باب شبيكة يقال لها كدى بضم الكاف مقصور بقرب شعب الشاميين وشعب ابن الزبير عند قعيقعان وقال ابن المواز كدى التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العقبة الصغرى التي بأعلى مكة التي يهبط منها على الأبطح والمقبرة منها على يسارك وكدى التي خرج منها هي العقبة الوسطى التي بأسفل مكة وفي لفظ للبخاري من طريق مسدد عن يحيى عن عبيدالله عن نافع بلفظ دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء ويخرج من الثنية السفلى (زاد البرمكي يعني ثنيتي مكة) وكذا أخرجه اسماعيلي في مستخرجه من طريق أخرى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (من طريق الشجرة) هي شجرة كانت بذي الحليفة قاله السندي وفي عمدة القاري قال المنذري هي على ستة أميال من المدينة وعند البكري هي من البقيع وقال عياض هو موضع معروف على طريق من أراد الذهاب إلى مكة من المدينة كان صلى الله عليه وسلم يخرج منها إلى ذي الحليفة فيبيت بها وإذا رجع بات بها أيضا (من طريق المعرس) بلفظ اسم المفعول من التعريس مكان معروف على ستة أميال من المدينة قال الحافظ وكل من الشجرة والمعرس على ستة أميال من المدينة لكن المعرس أقرب انتهى والمعنى كان يخرج من المدينة من طريق الشجرة التي عند مسجد ذي الحليفة ويدخل المدينة من طريق المعرس وهو أسفل من مسجد ذي الحليفة قال ابن بطال كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما يفعل في العيد يذهب من طريق ويرجع من أخرى قال المنذري وأخرجه مسلم والبخاري (عام الفتح من كداء) أي من أعلى مكة بفتح الكاف والمد منونا الثنية العليا مما يلي المقابر (ويدخل في العمرة من كدى) بالضم القصر والصرف الثنية السفلى مما يلي باب العمرة قاله السندي وفي رواية البخاري دخل عام الفتح من كداء من أعلى مكة وفي رواية وخرج من
[ 226 ]
كدى قال عياض والقرطبي وغيرهما اختلفا في ضبط كداء وكدا فالأكثر على أن العليا بالفتح والمد والسفلى بالضم والقصر (يدخل منهما) أي من كداء وكدى مرة من ذاك وأخرى من هذا وفي رواية البخاري قال هشام وكان عروة يدخل الحديث (وكان) كدى (أقربهما إلى منزله) أي عروة فيه اعتذار هشام لأبيه لكونه روى الحديث وخالفه لأنه رأى أن ذلك ليس بحتم لازم وكان ربما فعله وكثيرا ما يفعل غيره بقصد التيسير قاله الحافظ قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم (دخل من أعلاها) هو ثنية كداء بفتح الكاف (وخرج من أسفلها) هو ثنية كدى بالضم والقصر والحديث فيه استحباب الدخول إلى مكة من الثنية العليا والخروج من السفلى سواء فيه الحج والمعتمر ومن دخلها بغير إحرام وفيه استحباب الخروج من أسفل مكة للخارج منها سواء خرج للوقوف بعرفة أو غير ذلك قاله العيني قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي انتهى قال ابن تيمية يشبه أن يكون ذلك والله أعلم أن الثنية العليا التي تشرف على الأبطح والمقابر إذا دخل منها الإنسان فإنه يأتي من وجهه البلد والكعبة ويستقبلها استقبالا من غير انحراف بخلاف الذي يدخل من الناحية السفلى لأنه يستدبر البلد والكعبة مستحب أن يكون ما يليه منها مؤخرا لئلا يستدير انتهى . في رفع اليد إذا رأى البيت (عن الرجل) الذي يرى البيت (يرفع يديه) أي هو مشروع أم لا (يفعل هذا) أي يرفع اليد عند رؤيته في الدعاء (إلا اليهود) أي عند رؤية الكعبة أو بيت المقدس قلت والجواب عن هذه الرواية بأن المثبتين بالرفع أولى لأن معهم زيادة علم ومن ثم قال البيهقي رواية غير جابر في
[ 227 ]
إثبات للرفع أشهر عند أهل العلم والقول في مثل هذا قول من أثبت ويمكن الجمع بينهما بأن يحمل الإثبات على أول رؤية والنفي على كل مرة قال الخطابي قد اختلف الناس في هذا فكان ممن يرفع يديه إذا رأى البيت سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فضعف هؤلاء حديث جابر لأن المهاجر راويه عندهم مجهول وذهبوا إلى حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترفع الأيدي في سبعة مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة والموقفين والجمرتين وروي عن ابن عمر أنه كان يرفع اليدين عند رؤية البيت وعن ابن عباس مثل ذلك انتهى وقال ابن الهمام أسند البيهقي إلى سعيد بن المسيب قال سمعت من عمر كلمة ما بقي أحد من الناس سمعها غيري سمعته يقول إذا رأى البيت قال اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا بالسلام وأسند الشافعي عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة الحديث انتهى قال المنذري وحديث جابر أخرجه الترمذي والنسائي بنحوه وقال الترمذي إنما نعرفه من حديث شعبة وذكر الخطابي أن سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ضعفوا حديث جابر والله أعلم (خلف المقام) أي مقام إبراهيم وهذا الحديث طرف من الحديث الذي بعده (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي توجه من المدينة (إلى الحجر) أي الأسود (فاستلمه) أي باللمس والتقبيل (ثم طاف بالبيت) سبعة أشواط (ثم أتى الصفا) بعد ركعتي الطواف (فعلاه) أي صعده (حيث ينظر إلى البيت) وعند مسلم من حديث جابر فرقي عليه حتى رأى البيت وأنه فعل في المروة مثل ذلك وهذا في الصفا باعتبار ذلك الزمن وأما الآن فالبيت يرى من باب الصفا قبل رقيه لما حدث من ارتفاع الأرض ثمة حتى اندفن كثير من درج الصفا وقيل بوجوب الرقي مطلقا كذا في المرقاة (فرفع يديه) هذا موضع الترجمة لكن يقال إن هذا الرفع للدعاء على الصفا لا لرؤية
[ 228 ]
البيت وأجيب بأن هذا مشترك بينهما وأما ما يفعله العوام من رفع اليدين مع التكبير على هيئة رفعهما في الصلاة فلا أصل له (أن يذكره) أي من التكبير والتهليل والتحميد والتوحيد (ويدعوه) أي بما شاء وفيه إشارة إلى المختار عند محمد أن لا تعيين في دعوات الناسك لأنه يورث خشوع المناسك وقال ابن الهمام لأن توقيتها يذهب بالرقة لأنه يصير كمن يكرر محفوظه وإن تبرك بالمأثور فحسن (والأنصار تحته) كذا في نسخه صحيحة الأنصار بالراء وكذا قاله المنذري وفي بعض النسخ والأنصاب بالباء الموحدة بمعنى الأحجار المنصوبة للصعود إلى الصفا والله أعلم قال المنذري وأخرجه مسلم بنحوه في الحديث الطويل في الفتح وليس فيه ذكر الأنصار قال الأزهري استلام الحجر افتعال من السلام وهو التحية وكذا أهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا معناه أن الناس يحيونه وقال القشيري هو افتعال من السلام وهي الحجارة واحدتها سلمة بكسر اللام يقال استلمت الحجر إذا لمسته كما يقال اكتحلت من الكحل وقال غيره الاستلام أن يحيي نفسه عن الحجر بالسلام لأن الحجر لا يحييه كما يقال اختدم إذا لم يكن له خادم فخدم نفسه وقال ابن الأعرابي هو مهموز الأصل ترك همزه مأخوذ من السلام وهي الحجر كما يقال استنوق الجمل وبعضهم يهمزه انتهى في تقبيل الحجر (جاء إلى الحجر فقبله) قال الخطابي فيه من الفقه أن متابعة السنن واجبة ولم يوقف (يقف) لها على علل معلومة وأسباب معقولة وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها إلا أن معلوما في الجملة أن تقبيله الحجر إنما هو إكرام له وإعظام لحقه وتبرك به وقد فضل بعض الأحجار على بعض كما فضل بعض البقاع والبلدان وكما فضل بعض الليالي
[ 229 ]
والأيام والشهور وباب هذا كله التسليم وهو أمر شائع في العقول جائز فيها غير ممتنع ولا مستنكر وقد روي في بعض الأحاديث أن الحجر يمين الله في الأرض والمعنى أن من صافحه في الأرض كان له عند الله تعالى عهد فكان كالعهد يعقده المملوك بالمصافحة لمن يريد من الأمة والاختصاص به وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة وكذلك تقبيل اليد من الخدم للسادة والكبراء فهذا كالتمثيل كل بذلك والتشبيه انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سرجس عن عمر وعابس بفتح العين المهملة وبعد الألف باء موحدة مكسورة وسين مهملة استلام الاركان (يمسح من البيت) أي من أركانه أو من أجزائه (إلا الركنين اليمانيين) بتخفيف الياء الأولى وقد يشدد والمراد بهما الركن الأسود والركن اليماني تغليبا والركنان الآخران أحدهما شامي وثانيهما عراقي ويقال لهما الشاميان تغليبا وركن البيت جانبه وللركنين اليمانيين فضيلة باعتبار بقائهما على بناء الخليل عليه الصلاة والسلام فلذلك خصهما بالاستلام والركن الأسود أفضل لكون الحجر الأسود فيه ولهذا يقبل ويكتفي باللمس في الركن اليماني ولم يثبت منه صلى الله عليه وسلم تقبيل الركن اليماني وعليه الجمور قاله الشيخ عبد الحق الدهلوي قال الحافظ العسقلاني رحمه الله في البيت أربعة أركان الأول له فضيلتان لكون الحجر الأسود فيه وكونه على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام والثاني لكونه على قواعد إبراهيم فقط وليس للآخرين شئ منها ولذلك يقبل الأول ويستلم الثاني ولا يقبلان ولا يستلمان هذا على رأي الجمهور واستحب بعضهم تقبيل الركن اليماني انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (أنه أخبر) بصيغة المجهول ولفظ مالك في الموطأ وكذا لفظ البخاري عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة قال الحافظ بنصب عبد على المفعولية وظاهره أن سالما كان حاضرا لذلك فتكون من روايته عن
[ 230 ]
عبد الله بن محمد وقوله عن عائشة متعلق بأخبر (إن الحجر بعضه من البيت) الحجر بكسر الحاء اسم الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي قاله ابن الأثير قال العيني وهو معروف على صفة نصف الدائرة وقدرها تسع وثلاثون ذراعا وقالوا ستة أذرع منه محسوب من البيت بلا خلاف وفي الزائد خلاف (بعضه من البيت) فيه دليل لما ذهب إليه الرافعي فقال الصحيح أن الحجر ليس كله من البيت بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع متصل بالبيت وبه قال جماعة منهم البغوي وتؤيده رواية مسلم من حديث عائشة بلفظ وزدت فيها ستة أذرع من الحجر وأما رواية البخاري من طريق الأسود عن عائشة قالت سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو قال نعم فتدل على أن الحجر كله من البيت وبذلك كان يفتي عبد الله بن عباس وتؤيدها رواية الترمذي عن عائشة بلفظ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال صلي في الحجر إن أردت دخول البيت الحديث قال الحافظ العراقي في هذا الحديث أن الحجر كله من البيت وهو ظاهر نص الشافعي ورجحه ابن الصلاح والنووي وجماعة (إن كانت سمت هذا) ليس هذا الكلام منه على سبيل التضعيف لروايتها والتشكيك في صدقها لأنها كانت صديقة حافظة ولكن كثيرا يقع في كلام العرب صورة التشكيك والمراد به اليقين والتقرير كقوله تعالى وإن أدرى لعله فتنة لكم وكقوله قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي قاله النووي (إني لأظن) جزاء شرط يريد إن كانت عائشة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلامها فكان ابن عمر علم ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستلام ولم يعلم علته فلما أخبره عبد الله بن محمد بخبر عائشة هذا عرف علة ذلك وهو كونهما ليسا على القواعد بل أخرج منه بعض الحجر ولم يبلغ به ركن البيت الذي من تلك الجهة والركنان اللذان اليوم من جهة الحجر لا يستلمان كما لا يستلم سائر الجدر لأنه حكم مختص بالأركان وعن عروة ومعاوية استلام الكل وأنه ليس من البيت شيئا مهجورا وذكر عن ابن الزبير أيضا وكذا عن جابر وابن عباس والحسن والحسين رضي الله عنهما وقال أبو حنيفة لا يستلم إلا الركن الأسود خاصة ولا يستلم اليماني لأنه ليس بسنة فإن استلمه فلا بأس قاله العيني وقال القسطلاني وهذا الذي قاله ابن عمر من فقهه ومن تعليل العدم بالعدم علل عدم الاستلام بعدم أنها من البيت انتهى (وراء الحجر) أي الحطيم (إلا لذلك) أي جل أنه قطعة من
[ 231 ]
البيت قال المنذري وأخرجه النسائي وأخرج البخاري ومسلم قول ابن عمر هذا بمعناه عن عائشة في أثناء عمارة البيت انتهى (لا يدع أن يستلم) والحديث فيه دليل على استلام الركن اليماني والحجر الأسود فيرد الحديث على من قال إنه ليس بسنة كما تقدم آنفا والله أعلم قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده عبد العزيز بن أبي رواد وفيه مقال انتهى
[ 232 ]
الطواف الواجب هكذا في جميع النسخ الحاضرة وكذا في نسخ المنذري وفي المعالم للخطابي باب طواف البيت والمراد بهذا الطواف طواف القدوم وظاهر تبويب المؤلف يدل على أنه يذهب إلى وجوبه كما هو رأي مالك وبعض الحنفية قال علي القاري الحنفي في شرح مناسك الحج الأول طواف القدوم ويسمى طواف التحية وهو سنة على ما في عامة الكتب المعتمدة وفي خزانة المفتيين أنه واجب على الأصح والثاني طواف الزيارة ويسمى طواف الركن والإفاضة وطواف الحج وطواف الفرض وطواف يوم النحر وهو ركن لا يتم الحج إلا به الثالث طواف الصدر ويسمى طواف الوداع وهو واجب على الإفاقي % دون المكي انتهى ملخصا وفي رحمة الأمة في اختلاف الأئمة وطواف القدوم سنة عند الثلاثة أي أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقال مالك إن تركه مطيقا لزمه دم وطواف الإفاضة ركن بالاتفاق وطواف
[ 233 ]
الوداع من واجبات الحج على المشهور عند الفقهاء إلا لمن أقام فلا وداع عليه وقال أبو حنيفة لا يسقط إلا بالإقامة انتهى ويشبه أن يكون استدلال المؤلف على وجوبه بأنه ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طواف القدوم مع كونه يشتكي بل طاف على بعيره وكذا أمر أم سملة رضي الله عنها بأنها تطوف راكبة وهذا شأن ما يكون واجبا وفي شرح المنتقى قد اختلف في وجوب طواف القدوم فذهب مالك وأبو ثور وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه فرض لقوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ولفعله صلى الله عليه وسلم وقوله خذوا عني مناسككم وقال أبو حنيفة إنه سنة وقال الشافعي هو كتحية المسجد قالا لأنه ليس فيه إلا فعله صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يدل على الوجوب وأما الاستدلال على الوجوب بالآية فقال بعضهم أنها تدل على طواف القدوم لأنها في طواف الزيارة إجماعا والله أعلم كذا في غاية المقصود (يستلم الركن بمحجن) قال الخطابي معنى طوافه على البعير أن يكون بحيث يراه الناس وأن يشاهده فيسألوه عن أمر دينهم ويأخذوا عنه مناسكهم فاحتاج إلى أن يشرف عليهم وقد روي هذا المعنى عن جابر بن عبد الله وفيه من الفقه جواز الطواف عن المحمول وإن كان مطيقا للمشي وقد يستدل بهذا الحديث من يرى بول ما يؤكل لحمه طاهرا لأن البعير إذا بقي في المسجد المدة التي يقضى فيها الطواف لم يكد يخلو من أن يبول فلو كان بوله ينجس المكان لنزه المسجد عن إدخاله فيه والله أعلم والمحجن العود المعقف فلا الرأس يكون مع الراكب يحرك به راحلته قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (قالت لما اطمأن) أي صار مطمئنا قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وصفية هذه أخرج لها البخاري في صحيحه حديثا وقيل إنها ليست بصحابية وإن الحديث مرسل حكى ذلك عن أبي عبد الرحمن النسائي وأبي بكر البرقاني وذكرها ابن السكن في كتابه في الصحابة وكذلك أبو عمربن عبد البر وقال بعضهم ولها رواية وهذا الذي ذكرناه تقول فيه وأنا
[ 234 ]
أنظر إليه وقد أخرج ابن ماجه عنها وذكر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح غير أن هذين الحديثين من رواية محمد ابن إسحاق بن يسار وقد تقدم الكلام عليه انتهى (ابن خربوذ) بفتح الخاء المعجمة والراء المشددة وضم الموحدة وسكون الواو وذال معجمة (يستلم الركن بمحجنه) أي يشير إليه (ثم يقبله) أي بدل الحجر للماشي قال في سبل السلام والحديث دال على أنه يجزي عن استلامه باليد بآلة ويقبل آلة كالمحجن والعصا وكذلك إذا استلمه بيده قبل يده فقد روى الشافعي أنه قال قال ابن جريج لعطاء هل رأيت أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استلموا قبلوا أيديهم قال نعم رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استلموا قبلوا أيديهم فإن لم يمكن استلامه لأجل الزحمة قام حياله ورفع يده وكبر لما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعفاء إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر رواه أحمد والأزرقي وإذا أشار بيده فلا يقبلها لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر انتهى قال المنذري وأبو الطفيل هو عامر بن واثلة وأخرجه مسلم وابن ماجه (ليراه الناس) فيه بيان العلة التي لأجلها طاف صلى الله عليه واله وسلم راكبا (وليشرف) أي ليطلعوا عليه (غشوه) بتخفيف الشين أي ازدحموا عليه وكثروا وسيجئ أنه قدم مكة وهو يشتكي فيحتمل أنه فعل ذلك لأمرين وهذا هو الصواب قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي
[ 235 ]
(وهو يشتكي فطاف على راحلته) قال النووي وجاء في سنن أبي داود أنه كان صلى الله عليه وسلم في طوافه هذا مريضا وإلى هذا المعنى أشار البخاري وترجم عليه باب المريض يطوف راكبا فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم طاف راكبا لهذا كله وفيه دليل على استحباب استلام الحجر الأسود وأنه إذا عجز عن استلامه بيده بأن كان راكبا أو غيره استلمه بعصى ونحوه ثم قبل ما استلم به (أناخ) أي راحلته قال المنذري في إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج به وقال البيهقي وفي حديث يزيد بن أبي زياد لفظة لم يوافق عليها وهو قوله وهو يشتكي (أني أشتكي) أي شكوت إليه أني مريضة والشكاية المرض (فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) فيه دلالة على أن الطواف راكبا ليس من خصوصياته صلى الله عليه وسلم قال النووي إنما أمرها صلى الله عليه وسلم بالطواف من وراء الناس لشيئين أحدهما أن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف والثاني أن قربها يخاف منه تأذي الناس بدابتها وكذا إذا طاف الرجل راكبا وإنما طافت في حال صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أستر لها وكانت هذه الصلاة صلاة الصبح انتهى (إلى جنب البيت) أي متصلا إلى جدار الكعبة وفيه تنبيه على أن أصحابه كانوا متحلقين حولها (وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور) أي بهذه السورة في ركعة واحدة كما هو عادته صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن قرأها في ركعتين وكان الأولى للراوي أن يقول يقرأ الطور أو يكتفي بالطور ولم يقل وكتاب مسطور كذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه
[ 236 ]
الاضطباع في الطواف (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعا) من الضبع بسكون الباء وهو وسط العضد وقيل هو ما تحت ابط والاضطباع أن يأخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره وسمي بذلك بداء الضبعين قيل إنما فعل ذلك إظهارا للتشجع كالرمل في الطواف قاله الطيبي وقال النووي في شرح مسلم قوله مضطبعا هو افتعال من الضبع بإسكان الباء الموحدة وهو العضد وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على منكبه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفا وكذا في شرح البخاري للحافظ وهذه الهيئة هي المذكورة في حديث ابن عباس الآتي والحكمة في فعله أنه يعين على إسراع المشي وقد ذهب إلى استحبابه الجمهور سوى مالك قاله ابن المنذر وقال أصحاب الشافعي وإنما يستحب الاضطجاع في طواف يسن فيه المرمل (ببرد أخضر) ولفظ أحمد في مسنده وهو مضطبع ببرد له حضرمي قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال حسن صحيح وليس في حديث الترمذي وابن ماجه أخضر (فرملوا بالبيت) الرمل بفتح الراء والميم هو إسراع المشي مع تقارب الخطى دون العدو فيما قاله الشافعي وعند الحنفية أن يهز في مشيه كتفيه كالمبارز المتبختر بين الصفين كذا في الهداية وغيرها والرمل في الأطواف الثلاثة الاول سنة عند الأئمة الأربعة والجمهور كذا في المحلى شرح الموطأ (أرديتهم) جمع رداء (تحت اباطهم) قال ابن رسلان المراد أن يجعله تحت عاتقهم منه الأيمن (ثم قذفوها) أي ألقوها وطرحوا طرفيها (على عواتقهم) العاتق المنكب والحديث سكت عنه المنذري وأخرج نحو ابن عباس رضي الله عنهما الطبراني قال الشوكاني حديث ابن عباس رجاله رجال الصحيح وقد صحح حديث الاضطباع النووي
[ 237 ]
في الرمل بفتح الراء والميم ومر آنفا تفسيره (قد رمل بالبيت) قال النووي الرمل مستحب في الطوافات الثلاثة الأول من السبع ولا يسن ذلك إلا في طواف العمرة وفي طواف واحد في الحج واختلفوا في ذلك وهما قولان للشافعي أصحهما أنه إنما يشرع في طواف يعقبه سعي ويتصور ذلك في طواف القدوم وفي طواف الإفاضة ولا يتصور في طواف الوداع لأن شرط طواف الوداع أن يكون قد طاف الإفاضة فعلى هذا القول إذا طاف للقدوم وفي نيته أنه يسعى بعده استحب الرمل فيه وإن لم يكن هذا في نيته لم يرمل فيه بل يرمل في طواف الإفاضة والقول الثاني أنه يرمل في طواف القدوم سواء أراد السعي بعده أم لا انتهى (موت النغف) بفتح النون والغين المعجمة وفاء دود يسقط من أنوف الدواب واحدتها نغفة يقال للرجل إذا استحقر واستضعف ما هو إلا نغفة (والمشركون من قبل قعيقعان) اسم جبل بمكة والجملة حالية (وليس بسنة) قال الخطابي معناه أنه أمر لم يسن فعله لكافة الأمة على معنى القرية كالسنن التي هي عبادات ولكن شئ فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبب خاص وهو أنه أراد أن يري المشركين قوة أصحابه وكانوا يزعمون أن أصحاب محمد قد أوهنتهم حمى يثرب انتهى (على بعيره) هذا يدل على جواز الطواف بين الصفا والمروة للراكب لعذر قال ابن رسلان في شرح السنن بعد أن ذكر حديث ابن عباس هذا ما لفظه وهذا الذي قاله ابن عباس مجمع عليه انتهى يعني نفي
[ 238 ]
كون الطواف بصفة الركوب سنابل الطواف من الماشي أفضل ذكره الشوكاني (لا يدفعون) بصيغة المجهول وكذا قوله الآتي لا يصرفون (وليروا مكانه) صلى الله عليه وسلم قال المنذري أبو الطفيل هو عامر بن واثلة وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم وأبو عاصم الغنوي لا يعرف اسمه وقد أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه من حديث سعيد بن إياس الجريري وعبد الملك بن سعيد الحر وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ثلاثتهم عن أبي الطفيل بنحوه وفيه زيادة ونقصان (وهنتهم) بتخفيف الهاء أي أضعفتهم يقال وهنته وأوهنته لغتان (يثرب) هو اسم المدينة في الجاهلية وسميت في الإسلام المدينة وطيبة وطابة (يقدم) بفتح الدال وأما بضم الدال فمعناه يتقدم (ولقوا منها) أي من يثرب (شرا) ولفظ مسلم شدة فجلسوا مما يلي الحجر (فأمرهم) النبي صلى الله عليه وسلم (الأشواط) بفتح الهمزة وسكون المعجمة جمع شوط وهو الجري مرة إلى الغاية والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة وهذا دليل على جواز تسمية الطواف شوطا وقال مجاهد والشعبي أنه يكره تسميته شوطا والحديث يرد عليهما (وأن يمشوا بين الركنين) قال النووي هذا منسوخ بحديث نافع عن ابن عمر الآتي بعد ذلك ويجئ بسط الكلام هناك (إلا ابقاء عليهم) بكسر الهمزة وبالموحدة والقاف الرفق والشفقة وهو بالرفع على أنه فاعل لم يأمرهم ويجوز النصب وفي الحديث جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم ولا يعد ذلك من الرياء المذموم وفيه جواز المعاريض بالفعل كما تجوز بالقول وربما كانت بالفعل أولى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي
[ 239 ]
(فيما الرملان) بإثبات ألف ما الاستفهامية وهي لغة والأكثر يحذفونها والرملان بفتحتين مصدر رمل (والكشف عن المناكب) هو الاضطباع (وقد آطأ : الله) بتشديد الطاء أي أثبته وأحكمه أصله وطئ فأبدلت الواو همزة كما في وقتت وأقتت قال الخطابي إنما هو وطأ أي ثبته وأرساه غير بالواو وقد تبدل ألفا (لا ندع شيئا) زاد اسماعيلي في آخره ثم رمل وحاصله أن عمر كان قد هم بترك الرمل في الطواف لأنه عرف سببه وقد انقضى فهم أن يتركه لفقد سببه ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن يكون له حكمة ما اطلع عليها فرأى أن الاتباع أولى ويؤيد مشروعية الرمل على اطلاق ما ثبت في حديث ابن عباس أنهم رملوا في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نفى الله في ذلك الوقت الكفر وأهله عن مكة والرمل في حجة الوداع ثابت أيضا في حديث جابر الطويل عند مسلم وغيره قال الخطابي وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسن الشئ لمعنى فيزول وتبقى السنة على حالها وممن كان يرى الرمل سنة مؤكدة ويرى على من تركه دما سفيان الثوري وقال عامة أهل العلم ليس على تاركه شئ انتهى قال المنذري وأخرجه ابن ماجه (إنما جعل الطواف بالبيت) أي الكعبة (وبين الصفا والمروة) أي وإنما جعل السعي بينهما (ورمي الجمار قامة ذكر الله) يعني إنما شرع ذلك الإقامة شعار النسك قاله المناوي قال علي القاري أي لأن يذكر الله في هذه المواضع المتبركة فالحذر الحذر من الغفلة والطواف حول البيت والوقوف للدعاء فإن أثر العبادة لائحة فيهما وإنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة سنة قامة ذكر الله تعالى يعني التكبير سنة مع كل جمرة والدعوات في السعي سنة وأطال الطيبي الكلام في ذلك قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال حسن صحيح
[ 240 ]
(فاستلم) أي الحجر (ثم رمل ثلاثة أطواف) والمراد بالرمل الخبب وهو أن يقارب خطاه بسرعة من غير عدو ولا وثب وغلط من قال إنه دون الخبب ومن قال إنه العدو (وكانوا) أي الصحابة (وتغيبوا من قريش) وكانت القريش جالسة مما يلي الحجر كما عند مسلم (مشوا) أي الصحابة وقد صح أنهم رملوا في تمام الدورة كما سيجئ والإثبات مقدم على النفي فلذلك أخذ العلماء بذلك (ثم يطلعون عليهم) أي على قريش (كأنهم الغزلان) كغلمان جمع غزال هو ولد الظبية (فكانت سنة) وقد مر قول ابن عباس إنه ليس بسنة وهذا رجوعه منه إلى قول الجماعة إنه سنة بعد ما تقدم منه من النفي كذا في فتح الورود والحديث سكت عنه المنذري (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال المنذري وأخرجه ابن ماجه بنحوه (رمل من الحجر) أي الأسود (إلى الحجر) فيه دليل على أنه يرمل في ثلاثة أشواط كاملة قال في الفتح ولا يشرع تدارك الرمل فلو تركه في الثلاثة لم يقضه في الأربعة لأن هيئتها السكينة ولا تتغير ويختص بالرجال فلا رمل على النساء ويختص بطواف يتعقبه سعي على المشهور ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب ولا دم بتركه عند الجمهور واختلف في ذلك المالكية وقد روي عن مالك أن عليه دما قال النووي فيه بيان أن الرمل يشرع في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر وأما حديث ابن عباس المتقدم قال أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين فمنسوخ بحديث ابن عمر هذا لأن حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح مكة وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم وإنما
[ 241 ]
رملوا إظهارا للقوة واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الركنين اليمانيين لأن المشركين كانوا جلوسا في الحجر وكانوا لا يرونهم بين هذين الركنين ويرونهم فيما سوى ذلك فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر رمل من الحجر إلى الحجر فوجب الأخذ بهذا التأخر انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه من حديث جابر عن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال إن يمشوا بين الركنين ولا معارضة بين الحديثين فإنهما قضيتان فالرمل في جميع الأشواط الثلاثة كان في حجة الوداع والمشي بين الركنين كان في عمرة الحديبية لأنهم إذا كانوا بين الركنين لا تقع عليهم أعين المشركين وفعل ذلك رفقا بهم لما كان بهم من المرض وأمرهم بالتجلد في الجهات التي تقع عليهم فيها أعين المشركين حين جلسوا لهم الدعاء في الطواف (ربنا) منصوب بحذف النداء (آتنا) أي أعطنا (في الدنيا حسنة) أي العلم والعمل أو العفو والعافية والرزق الحسن أو حياة طيبة أو القناعة أو ذرية صالحة (وفي الآخرة حسنة) أي المغفرة والجنة والدرجة العالية أو مرافقة الأنبياء أو الرضاء أو الرؤية أو اللقاء (وقنا) أي احفظنا (عذاب النار) أي شدائد جهنم من حرها وزمهريرها وسمومها وجوعها وعطشها ونتنها وضيقها وعقاربها وحياتها قال المنذري وأخرجه النسائي (أول ما يقدم) قال النووي هذا تصريح بأن الرمل أول ما يشرع في طواف العمرة أو في طواف القدوم في الحج (يسعى ثلاثة أطواف) فمراده يرمل وسماه سعيا مجازا لكونه يشارك السعي في أصل الإسراع وإن اختلف صفتها وأن الرمل لا يكون إلا في الثلاثة الأول من السبع وهذا مجمع عليه (ثم يصلى سجدتين) والمراد بهما ركعتا الطواف وهما سنة على المهشور
[ 242 ]
وفي قول واجبتان وسماهما سجدتين مجازا وزاد مسلم ثم يطوف بين الصفا والمروة ففيه دليل على وجوب الترتيب بين الطواف والسعي كذا ذكره النووي وقوله ثم يصلي سجدتين هو موضع ترجمة الباب لأن الركعتين بعد الطواف من متمات الطواف ولا بد في الصلاة من الأدعية وفي المعالم للخطابي حديث جبير بن مطعم الآتي تحت هذا الباب أي باب الدعاء في الطواف وليس في الخطابي باب الطواف بعد العصر ثم قال الخطابي تحت حديث جبير وقد تأول بعضهم الصلاة في هذا الحديث بمعنى الدعاء ويشبه أن يكون هذا معنى الحديث عند أبي داود ويدل على ذلك ترجمة الباب بالدعاء في الطواف انتهى كلامه قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي الطواف بعد العصر (قال لا تمنعوا أحدا) واعلم أن حديث ابن السرح ثابت في رواية اللؤلؤي وحديث الفضل بن يعقوب في رواية ابن العبد ولم يذكره أبو القاسم قاله المزي في الأطراف ولذا أكثر النسخ خال عن حديث الفضل كذا في الشرح قال الخطابي واستدل به الشافعي على أن
[ 243 ]
الصلاة في سائر البلدان واحتج له أيضا بحديث أبي ذر وقوله إلا بمكة فاستثناه من بين البقاع وذهب بعضهم إلى تخصيص ركعتي الطواف من بين الصلاة وقالوا إذا كان الطواف بالبيت غير محظور في شئ من الأوقات وكان من سنة الطواف أن يصلي الركعتان بعده فقد عقل أن هذا النوع من الصلاة غير منهى عنه قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه قال الترمذي حديث جبير بن مطعم حديث حسن صحيح طواف القارن (إلا طوافا واحدا طوافه الأول) قال النووي فيه دليل على أن السعي في الحج والعمرة لا يكرر بل يقتصر منه على مرة واحدة ويكره تكراره لأنه بدعة وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد وفيه خلاف لأبي حنيفة وغيره قال المنذري أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه
[ 244 ]
[ . . . ]
[ 245 ]
(الذين كانوا معه) أي الذين وافقوا معه في القران كما هو ظاهر من ترجمة الباب للمؤلف وقيل بل مطلقا والصحابة كانوا ما بين قارن ومتمتع وكل منهما يكفيه سعي واحد وعليه بنى النسائي ترجمته فقال كم طواف القارن والمتمتع لبين الصفا والمروة (لم يطوفوا) بين الصفا والمروة (حتى رموا الجمرة) يوم النحر قال المنذري وأخرجه النسائي (قال لها طوافك إلخ) فيه دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة كما مر وإليه ذهب جماعة من الصحابة ابن عمر وجابر وعائشة وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وداود وغيرهم وذهبت الحنفية وجماعة إلى أنه لا بد من طوافين وسعيين والأحاديث متواردة على معنى حديث عائشة عن ابن عمر وجابر وغيرهما واستدل من قال بالطوافين لقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ولا دليل في ذلك فإن التمام حاصل وإن لم يطف إلا طوافا واحدا وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بطواف وسعي واحد وكان قارنا كما هو الحق واعلم أن عائشة قد أهلت بعمرة ولكنها حاضت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارفضي عمرتك قال النووي معنى رفضها إياها رفض العمل فيها وإتمام أعمالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس فأمرها صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن أفعال العمرة وأن تحرم بالحج فتصير قارنة وتقف بعرفات وتفعل المناسك كلها إلا الطواف فتؤخره حتى تطهر ومن أدلة أنها صارت قارنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم لها طوافك بالبيت الحديث فإنه صريح أنها كانت متلبسة بحج وعمرة ويتعين
[ 246 ]
تأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم ارفضي عمرتك بما ذكره النووي فليس معنى ارفضي العمرة الخروج منها وإبطالها بالكلية فإن الحج والعمرة لا يصح الخروج منهما بعد الإحرام بهما بنية الخروج وإنما يصح بالتحلل منهما بعد فراغهما قاله في سبل السلام وأخرج عبد الرزاق عن طاوس بإسناد صحيح أنه حلف ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته إلا طوافا واحدا وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا بعد أن قال أنه سنفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج عنه من وجه آخر أنه رأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول يعني الذي طاف يوم النحر للإفاضة وقال كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخرجه عبد الرزاق والدارقطني عن علي رضي الله عنه أنه جمع بين الحج والعمرة وطاف لهما طوافين وسعي لهما سعيين ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحافظ وطرقه ضعيفة وكذا روى نحوه من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف ومن حديث ابن عمر بإسناد فيه الحسن بن عمارة وهو متروك قال ابن حزم لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة في ذلك شئ أصلا وتعقبه في الفتح بأنه قد روى الطحاوي وغيره مرفوعا عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها انتهى فينبغي أن يصار إلى الجمع كما قال البيهقي إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين فيحمل على طواف القدوم وطواف الإفاضة وأما السعي مرتين فلم يثبت انتهى والله أعلم قال المنذري وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث طاووس بن كيسان عن عائشة ومن حديث مجاهد بن جبر عن عائشة بمعناه الملتزم بعد وسيجئ تفسيره (قد خرج من الكعبة) ولفظ أحمد في مسنده قد خرج من الكعبة
[ 247 ]
وأصحابه قد استلموا البيت (من الباب إلى الحطيم) متعلق بقوله استلموا وهذا تفسير للمكان الذي استلموه من البيت والحطيم هو ما بين الركن والباب كما ذكره محب الدين الطبري وغيره وقال مالك في المدونة الحطيم ما بين الباب إلى المقام وقال ابن حبيب هو ما بين الحجر الأسود إلى الباب إلى المقام وقيل هو الشاذروان وقيل هو الحجر الأسود كما يشعر به سياق هذا الحديث وسمي حطيما لأن الناس كانوا يحطمون هناك بالأيمان ويستجاب فيه الدعاء للمظلوم على الظالم وقل من حلف هنالك كاذبا إلا عجلت له العقوبة وفي كتب الحنفية أن الحطيم هو الموضع الذي فيه الميزاب (قد وضعوا خدودهم على البيت) فيه استحباب وضع الخد والصدر على البيت وهو ما بين الركن والباب ويقال له الملتزم كما روي الطبراني عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال الملتزم ما بين الركن والباب وأخرجه البيهقي في الشعب من طريق أبي الزبير عن ابن عباس مرفوعا ورواه عبد الرزاق بإسناد يصح عنه موقوفا كذا في النيل وسمي بذلك لأن الناس يلتزمونه (وسطهم) قال الجوهري تقول جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف وجلست وسط الدار بالفتح لأنه اسم قال وكل وسط يصلح فيه بين فهو وسط بالإسكان وإن لم يصلح بين فهو وسط بالفتح قال الأزهري كل ما بين بعضه من بعض كوسط الصف والقلادة والسبحة وحلقة الناس فهو بالإسكان وما كان منضما لا يبين بعضه من بعض كالساحة والدار والراحبة فهو وسط بالفتح وقد أجازوا في المفتوح الإسكان ولم يجيزوا في الساكن الفتح انتهى وقال السندي تحت قوله استلموا البيت لا يخفي أن الملتزم ما بين الباب والركن فكان الاستدلال بهذا الحديث بالمقايسة فإنه لما ثبت استلام هذا الموضع يقاس عليه استيلاء الملتزم انتهى وقال الشيخ العلامة محمد إسحاق الدهلوي أو بان موضع الملتزم ازدحموا عليه من قبل ما كان فارغا فاستلموا في هذا الباب الجانب من الباب وليس قوله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم نصا على أنه صلى الله عليه وسلم كان شريكا في هذا الفعل أيضا انتهى قال
[ 248 ]
المنذري في إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج به وذكر الدارقطني أن يزيد بن أبي زياد تفرد به عن مجاهد (قال طفت مع عبد الله) ولفظ ابن ماجه حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال طفت مع عبد الله بن عمرو فلما فرغنا من السبع ركعنا في دبر الكعبة فقلت ألا تتعوذ بالله من النار قال أعوذ بالله من النار قال ثم مضى فاستلم الركن ثم قام بين الحجر والباب فألصق صدره ويديه وخده إليه ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل انتهى (جئنا دبر الكعبة) تقدم من رواية ابن ماجه أن هذا المجئ كان لركعتي الطواف قال السندي وهو يدل على أن الصلاة خلف المقام غير لازم انتهى (حتى استلم الحجر) يقال استلم الحجر إذا لمسه وتناوله (بين الركن والباب) أي عند الملتزم وإسناد الحديث ليس بقوي قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وقد تقدم الكلام على عمرو بن شعيب وروى عنه هذا الحديث المثنى بن الصباح ولا يحتج به وقوله عن أبيه وهو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو وقد سمع شعيب من عبد الله على الصحيح ووقع في كتاب ابن ماجه عن أبيه عن جده فيكون شعيب ومحمد طافا جميعا مع عبد الله (كان يقود ابن عباس) بعد ذهاب بصره (عند الشقة) بضم الشين المعجمة وتشديد القاف بمعنى الناحية أي ناحية الملتزم (الذي يلي الحجر) بفتحتين أي الحجر الأسود والموصول صفة الركن (مما يلي الباب) أي باب البيت أي الشقة التي بين الحجر والباب
[ 249 ]
(نبئت) وفي رواية النسائي أما أنبئت على صيغة الخطاب وبناء المفعول أي أخبرت قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده محمد بن عبد الله بن السائب يروي عن أبيه وهو شبه مجهول أمر الصفا والمروة (قالت عائشة رضي الله عنها كلا لو كان كما تقول) قال النووي هذا من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه فأخبرته عائشة رضي الله عنها أن الآية ليست فيها دلالة للوجوب ولا لعدمه وبينت السبب في نزولها والحكمة في نظمها وأنها نزلت في الأنصار حين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام وأنها لو كانت كما يقول عروة لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما وقد يكون الفعل واجبا ويعتقد إنسان أنه يمنع إيقاعه على صفة مخصوصة وذلك كمن عليه صلاة الظهر وظن أنه لا يجوز فعلها عند غروب الشمس فسأل عن ذلك فيقال في جوابه لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فيكون جوابا صحيحا ويقتضي نفي وجوب صلاة الظهر (يهلون) أي يحجون (لمناة) بفتح الميم والنون الخفيفة صنم كان في الجاهلية وقال ابن الكلبي كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل وكانوا يعبدونها والطاغية صفة لها إسلامية (وكانت مناة حذو قديد) أي مقابلة وقديد بقاف مصغر قرية جامعة بين مكة والمدينة كثير المياه قاله أبو عبيد البكري (وكانوا يتحرجون أن يتطوفوا لأن بين الصفا والمروة) ظاهره أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين
[ 250 ]
الصفا والمروة ويقتصرون على الطواف بمناة فسألوا عن حكم الإسلام في ذلك ويصرح بذلك رواية سفيان المذكورة في صحيح البخاري بلفظ إنما كان من أهل بمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة وفي رواية معمر عن الزهري إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة أخرجه البخاري تعليقا ووصله أحمد وغيره انتهى ملخصا من فتح الباري قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم وأخرجه أيضا البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن عروة (اعتمر) أي في سنة سبع عام القضية (أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة) الهمزة للاستفهام أي في تلك العمرة (قال لا) قال النووي سبب ترك دخوله ما كان في البيت من الأصنام والصور ولم يكن المشركون يتركونه ليغيرها فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصورة ثم دخلها يعني كما في حديث ابن عباس الذي عند مسلم وغيره انتهى ويحتمل أن يكون دخول البيت لم يقع في الشرط فلو أراد دخوله لمنعوه كما منع من الإقامة بمكة زيادة على الثلاث فلم يقصد دخوله لئلا يمنعوه قاله الحافظ قال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه وأخرجه مسلم مختصرا قلت لعبدالله بن أبي أوفى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت في عمرته قال لا فقد بين ابن أبي أوفى أن ذلك كان في عمرته وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت في حجته (عن كثير بن جمهان أن رجلا) ولفظ النسائي قال رأيت ابن عمر يمشي بين الصفا والمروة فقال إن أمشي فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وإن أسعى فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى وأنا شيخ كبير ولفظ الترمذي رأيت ابن عمر يمشي في
[ 251 ]
المسعى فقلت له أتمشي في المسعى للبين الصفا والمروة فقال لئن سعيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى ولئن مشيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي قال الترمذي الذي يستحبه أهل العلم أن يسعى بين الصفا والمروة فإن لم يسع مشى بين الصفا و (المروة) رأوه جائزا انتهى قلت وجاء في مسند أحمد من رواية حبيبة بنت أبي تجراة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى وهو يقول اسعوا فان الله كتب عليكم السعي وأخرج أحمد أيضا من رواية صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول كتب عليكم السعي فاسعوا واستدل به من قال بأن السعي فرض وهم الجمهور وعند الحنفية أنه واجب يجبر بالدم وبه قال الثوري في الناسي خلاف العامد وبه قال عطاء وعنه أنه سنة لا يجب بتركه شئ وبه قال أنس فيما نقله عنه ابن المنذر واختلف عن احمد وقال الطحاوي أجمع العلماء على أنه لو حج ولم يطف بالصفا والمروة أن حجه قد تم وعليه دم لكن الذي حكاه الحافظ ابن حجر وغيره عن الجمهور أنه ركن لا يجبر بالدم ولا يتم الحج بدونه قال ابن المنذر إن ثبت حديث حبيبة فهو حجة في الوجوب قلت العمدة في الوجوب حديث مسلم ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة وقوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم والله أعلم قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح هذا آخر كلامه وفي إسناده عطاء بن السائب وقد أخرج له البخاري حديثا مقرونا وقال أيوب هو ثقة وتكلم فيه غير واحد صفة حجة النبي (دخلنا على جابر بن عبد الله) قال النووي هو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد وهو من إفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه ورواه أبو داود
[ 252 ]
كرواية مسلم وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءا كثيرا وخرج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا ولو تقصي لزيد على هذا العدد قريب منه وفيه أنه يستحب لمن ورد عليه زائرون أو ضيفان ونحوههم وقد أن يسأل عنهم لينزلهم منازلهم كما جاء في حديث عائشة أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم وفيه إكرام أهل بيت رسول الله كما فعل جابر بمحمد بن علي ومنها استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما مرحبا ومنها ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه وهذا سبب حل جابر زري محمد بن علي ووضع يده بين ثدييه وقوله وأنا يومئذ غلام شاب تنبيه على أن سبب فعل جابر ذلك التأنيس لكونه صغيرا أما الرجل الكبير فلا يحس إدخال اليد في جيبه والمسح بين ثدييه ومنها جواز إمامة الأعمى ولا خلاف في جواز ذلك ومنها أن صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره ومنها جواز الصلاة في ثوب واحد مع التمكن من الزيادة عليه (فقام في نساجة) وهي بكسر النون وتخفيف السين المهملة وبالجيم قال النووي هذا هو المشهور في نسخ بلادنا ورواياتنا لصحيح مسلم وسنن أبي داود ووقع في بعض النسخ في ساجة بحذف النون ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور قال هو الصواب قال والساجة والساج جميعا ثوب كالطيلسان وشبهه قال رواية النون وقعت في رواية الفارسي قال ومعناه ثوب ملفق قال قال بعضهم النون خطأ وتصحيف قلت ليس كذلك بل كلاهما صحيح ويكون ثوبا ملفقا على هيئة الطيلسان قال القاضي في المشارق الساج والساجة الطيلسان وجمعه سيجان انتهى وقال السيوطي نساجة كسحابة ضرب من ملاحف منسوجة كأنها سميت بالمصدر انتهى (يعني) تفسير للنساجة (ثوبا ملفقا) أي ضم بعضها إلى بعض قال في المصباح لفقت الثوب لفقا من باب ضرب ضممت إحدى الشقتين إلى الأخرى واسم الشقة لفق على وزن حمل والملاءة لفقان (على المشجب) بميم مكسورة ثم شين معجمة ساكنة ثم جيم ثم باء موحدة وهو اسم لأعواد علي يوضع عليها الثياب ومتاع البيت قاله النووي وقال السيوطي مشجب كمنبر عيدان تضم رؤوسها وتفرج قوائمها
[ 253 ]
فيوضع عليها الثياب (عن حجة رسول الله) هي بكسر الحاء وفتحها والمراد حجة الوداع (فقال) أي أشار (فعقد) أي بأنامله عدد تسعة (مكث تسع سنين لم يحج) بضم الكاف وفتحها أي لبث بالمدينة بعد الهجرة لكنه اعتمر وقد فرض الحج سنة ست من الهجرة وقيل سنة ثمان وقيل سنة تسع ومر بيانه (ثم أذن في الناس) بلفظ المعروف أي أمر بأن ينادي بينهم وفي رواية بلفظ المجهول أي نادى مناد بإذنه (في العاشرة) معناه أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد وفيه أنه يستحب للامام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا بها (كلهم يلتمس) أي يطلب ويقصد (أن يأتم) بتشديد الميم أي يقتدي (ويعمل بمثل عمله) عطف تفسير قال القاضي هذا مما يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج وهم لا يخالفونه ولهذا قال جابر وما عمل من شئ عملنا به ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إليهم وتعليق علي وأبي موسى إحرامهما على إحرام النبي انتهى قال في المرقاة وقد بلغ جملة من معه من أصحابه في تلك الحجة تسعين ألفا وقيل مائة وثلاثين ألفا انتهى (وخرجنا معه) أي لخمس بقين من ذي القعدة كما رواه النسائي بين الظهر والعصر (حتى أتينا ذا الحليفة) فنزل بها فصلى العصر ركعتين ثم بات وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر وكان نساؤه كلهن معه فطاف عليهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه غير غسل الجماع الأول كما في المرقاة (اغتسلي) فيه استحباب غسل الإحرام للنفساء وقد سبق بيانه (واستذفري) والاستذفار حتى بالذال المعجمة وهو أن تشد فرجها بخرقة لتمنع سيلان الدم أي شدي فرجك وفيه صحة إحرام النفساء وهو مجمع عليه (في المسجد) الذي بذي الحليفة وفيه استحباب ركعتي الإحرام (ثم ركب القصواء) هي بفتح القاف وبالمد قال القاضي
[ 254 ]
ووقع في نسخة العذري القصوى بضم القاف والقصر بترجيح تعالى قال وهو خطأ قال ابن قتيبة كانت للنبي نوق القصواء والجدعاء والعضباء وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي وغيره إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كان لرسول الله (نظرت إلى مد بصري) هكذا وقع في جميع النسخ مد بصري وهو صحيح ومعناه منتهى بصري وأنكر بعض أهل اللغة مد بصري وقال الصواب مدى بصري وليس هو بمنكر بل هما لغتان والمد أشهر (من بين يديه من راكب وماش) فيه جواز الحج راكبا وماشيا وهو مجمع عليه وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الله تعالى وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر واختلف العلماء في الأفضل منهما فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء الركوب أفضل اقتداء بالنبي ولأنه أعون له على وظائف مناسكه ولأنه أكثر نفقة وقال داود ماشيا أفضل لمشقته (ينزل القرآن وهو يعلم تأويله) معناه الحث على التمسك بما أخبركم عن فعله في حجته تلك (فأهل رسول الله) أي رفع صوته (بالتوحيد) أي إفراد التلبية لله بقوله (لبيك اللهم لبيك) وكانت جاهلية تزيد في التلبية إلا شريكا هو لك تملكه ففيه إشارة إلى مخالفتها (فلم يرد عليهم) هكذا في نسخ أبي داود وبعض نسخ مسلم لفظ يرد بالراء بعد الياء من رد يرد وفي بعض نسخ مسلم بالزاي بعد الياء من الزيادة أي فلم يزد رسول الله شيئا منه وأخذ هذه النسخة النووي فقال قال القاضي عياض فيه إشارة إلى ما روي من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر كما روي في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهوبا منك ومرغوبا إليك وعن ابن عمر رضي الله عنه لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل وعن أنس رضي الله عنه لبيك حقا تعبدا ورقا قال القاضي قال أكثر العلماء المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله وبه قال مالك والشافعي (ولزم رسول الله تلبيته) أي يرددها في مواضع (قال جابر لسنا ننوي إلا الحج) استدل به من
[ 255 ]
قال بترجيح الإفراد ولا دليل فيه (لسنا نعرف العمرة) أي مع الحج أي لا نرى العمرة في أشهر الحج استصحابا لما كان عليه أول الجاهلية من كون العمرة محظورة في أشهر الحج من أفجر الفجور وقيل ما قصدناها ولم تكن في ذكرنا والمعنى لسنا نعرف العمرة مقرونة بالحجة أو العمرة المفردة في أشهر الحج وقد روى البخاري عن عائشة أن الصحابة خرجوا معه لا يعرفون إلا الحج فبين لهم وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج فقال من أحب يهل بعمرة فليهل ومن أحب أن يهل بحج فليهل (فرمل ثلاثا ومشى أربعا) فيه أن الطواف سبع طوافات وفيه أن السنة أن يرمل الثلاث الأول ويمشي على عادته في الأربع الأخيرة والرمل هو أسرع المشي مع تقارب الخطى وهو الخبب ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل ولا يسرع أيضا في كل طواف حج وإنما يسرع في واحد منها وفي قولان مشهوران للشافعي أصحهما طواف يعقبه سعي ويتصور ذلك في طواف القدوم ويتصور في طواف الإفاضة ولا يتصور في طواف الوداع ويسن الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل على ما سبق تفصيله (استلم الركن) أي مسحه بيده وهو سنة في كل طواف وأراد به الحجر الأسود وأطلق الركن عليه لأنه قد غلب على اليماني (فجعل المقام بينه وبين البيت) هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان والسنة أن يصليهما خلف المقام فإن لم يفعل ففي الحجر وإلا ففي المسجد وإلا ففي مكة وسائر الحرم ولو صلاها في وطنه وغيره من أقاصي الأرض جاز وفاته الفضيلة ولا يفوت هذه الصلاة ما دام حيا ولو أراد أن يطوف أطوفه استحب أن يصلي عقيب كل طواف ركعتيه فلو أراد أن يطوف أطوفة بلا صلاة ثم يصلي بعد الأطوفة لكل ركعتيه قال أصحاب الشافعي يجوز ذلك وهو خلاف الأولى ولا يقال مكروه وممن قال بهذا المسور بن مخرمة وعائشة وطاووس وعطاء وسعيد بن جبير ذو أحمد فإن وإسحاق وأبو يوسف وكرهه ابن عمر والحسن البصري والزهري ومالك والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر ونقله القاضي عن جمهور الفقهاء (قال) أي جعفر ابن محمد (فكان أبي) محمد بن علي يقول في روايته (قال ابن نفيل وعثمان) أي في حديثيهما (ولا أعلمه) أي لا أعلم جابرا (ذكره) هذا الأمر وهو القراءة بالسورتين المذكورتين في ركعتي الطواف (إلا عن النبي) و من قوله ولا أعلمه مقولة يقول أي كان أبي يقول ولا أعلم جابرا ذكر هذه القراءة إلا عن
[ 256 ]
النبي (قال سليمان) بن عبد الرحمن في حديثه (ولا أعلمه) أي جابرا (إلا قال) جابر في قراءة السورتين (قال رسول الله كذا) ولفظ مسلم فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون (قال النووي) معنى هذا الكلام أن جعفر بن محمد روى هذا الحديث عن أبيه عن جابر قال كان أبي يعني محمدا يقول إنه قرأ هاتين السورتين قال جعفر ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر في صلاة جابر بل عن جابر عن قراءة النبي في صلاته قرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون وفي الثانية بعد الفاتحة قل هو الله أحد وأما قوله لا أعلم ذكره إلا عن النبي فليس هو شكا في ذلك لأن لفظة العلم تنافي الشك بل جزم برفعه إلى النبي وقد ذكر البيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد (ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن) فيه أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا ليسعى واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب وإنما هو سنة لو تركه لم يلزم دم (ثم خرج من الباب) أي الصفا (إلى الصفا) أي جبل الصفا قال النووي فيه أن السعي يشترط فيه أن يبدأ من الصفا وبه قال الشافعي ومالك والجمهور وقد ثبت في رواية النسائي في هذا الحديث بإسناد صحيح أن النبي قال ابدأوا بما بدأ الله به هكذا بصيغة الجمع ومنها أنه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة وفي هذا الرقي خلاف قال الجمهور من الشافعية هو سنة ليس بشرط ولا واجب فلو تركه صح سعيه لكن فاتته الفضيلة وفيه أنه يستحب أن يرقى على الصفا والمروة حتى رأى البيت إن أمكنه فيه أنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور ويدعو ويكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات (أنجز وعده) أي وفى وعده بإظهاره تعالى للدين (ونصر عبده) يريد به
[ 257 ]
نفسه (وهزم الأحزاب) في يوم الخندق (وحده) أي من غير قتال الآدميين ولا سبب لانهزامهم كما أشار إليه قوله تعالى وأرسلنا علهيم ريحا وجنودا لم تروها أو المراد كل من تحزب لحرب رسول الله فإنه هزمهم وكان الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة وقيل سنة خمس (ثم دعا بين ذلك) أي بين مرات هذا الذكر بما شاء وقال الذكر ثلاث مرات قاله السندي وقال القاري إنه دعا بعد فراغ المرة الأولى من الذكر وقبل الشروع في المرة الثالثة (حتى إذا انصبت) أي انحدرت في السعي مجاز من قولهم صب الماء فانصب (رمل) وفي الموطأ سعى وهو بمعنى رمل (في بطن الوادي) أي المسعى وهو في الأصل مفرج بين جبال أو تلال أو آكام يعني انحدرت قدماه بالسهولة في صيب من الأرض وهو المنحدر المنخفض منها أي حتى بلغتا على وجه السرعة إلى أرض منخفضة كذا في المرقاة وفيه استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه وهذا السعي مستحب في كل مرة من المراتب السبع في هذه المواضع والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاته الفضيلة هذا مذهب الشافعي وموافقيه وعن مالك فيمن تركه السعي الشديد في موضعه روايتان أحدهما كما ذكرنا والثانية تجب عليه إعادته (فصنع على المروة مثل ما صنع على الصفا) من استقبال القبلة والذكر والدعاء والرقي كما صنع على الصفا وهذا متفق عليه (حتى إذا كان آخر الطواف على المروة) فيه دلالة لمذهب الجمهور أن الذهاب من الصفا إلى المروة بحسب مرة والرجوع من المروة إلى الصفا ثانية والرجوع إلى المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا وآخرها بالمروة (قال) النبي وهو جواب إذا (أني لو استقبلت) أي لو علمت في قبل (من أمري ما استدبرت) أي ما علمته في دبر منه والمعنى لو ظهر لي هذا الرأي الذي رأيته الآن لأمرتكم به في أول أمري وابتداء خروجي (لم أسق الهدي) بضم السين يعني لما جعلت علي هديا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي فإنه إذا ساق الهدي لا يحل حتى ينحر ولا ينحر إلا يوم النحر فلا يصح له فسخ الحج بعمرة بخلاف من لم يسق إذ يجوز له فسخ الحج إنما قاله تطييبا لقلوبهم وليعلموا أن
[ 258 ]
الأفضل لهم ما دعاهم إليه إذ كان يشق عليهم ترك الافتداء بفعله وقد يستدل بهذا الحديث من يجعل التمتع أفضل وهذا صريح في أنه لم يكن متمتعا (ولجعلتها) أي الحجة (عمرة) أي جعلت إحرامي بالحج مصروفا إلى العمرة كما أمرتكم به موافقة (ليس معه هدي) الهدي بإسكان الدال وكسرها وتشديد الياء مع الكسرة (فليحلل) بسكون الحاء أي ليصر حلالا وليخرج من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة (وليجعلها) أي الحجة (عمرة) إذ قد أبيح له ما حرم عليه بسبب الإحرام حتى يستأنف الإحرام للحج قاله القاري (فقام سراقة من جعشم) هو سراقة بن مالك بن جعشم بضم الجيم وبضم الشين المعجمة وفتحها ذكرهما الجوهري (ألعامنا هذا) أي جواز فسخ الحج إلى العمرة وهذا هو الظاهر من سياق الحديث أو الإتيان بالعمرة في أشهر الحج أو مع الحج يختص بهذه السنة (أم للأبد) أي من الحال والاستقبال (هكذا) أي كالتشبيك عمر (مرتين) أي قالها مرتين (لا) أي ليس لعامنا هذا فقط (بل لأبد أبد) بإضافة الأول إلى الثاني أي آخر الدهر أو بغير الإضافة وكرره للتأكيد وفي رواية البخاري في حديث آخر عن جابر ثم قام سراقة بن مالك فقال يارسول الله أرأيت متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد أي مخصوصة به لا تجوز في غيره أم لجميع الأعصار فقال هي للأبد أي لا يختص به بل لجميعها إلى أبد الآباد وهذا أصرح دليل على فسخ الحج إلى العمرة فمعنى قول سراقة ألعامنا هذا عند أحمد بن حنبل وجماعة من المحدثين والظاهرية أهل الفسخ لعامنا هذا وعند الحنفية والشافعية وغيرهما أهل التمتع لعامنا هذا فعلى الأولى معنى قوله دخلت العمرة في الحج أي دخلت نية العمرة في نية الحج بحيث أن من نوى الحج صح الفراغ منه بالعمرة وعلى الثاني حلت العمرة في أشهر الحج وصحت قالوا والمقصود إبطال ما زعمه أهل الجاهلية من أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج وقيل معناه جواز القران وتقدير الكلام دخلت أفعال العمرة في الحج إلى يوم القيامة قالوا ويدل عليه تشبيك الأصابع قال النووي واختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص للصحابة أم لتلك السنة أم
[ 259 ]
باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر ليس خاصا بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف هو مختص بهم في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج انتهى قال ابن القيم في زاد المعاد بعد ذكره حديث البراء وغضبه لما لم يفعلوا ما أمرهم به من الفسخ ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله واتباعا لأمره فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختص بهم أم لا فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله على من خالفه انتهى وتقدم بعض البيان في باب إفراد الحج (ببدن) بضم الباء وسكون الدال جمع بدنة (صبيغا) أي مصبوغا (فأنكر علي رضي الله ذلك عليها) فيه إنكار الرجل على زوجته ما رآه منها من نقص في دينها لأنه ظن أن ذلك لا يجوز فأنكر (قال) أي جابر (يقول بالعراق) أي حين كان فيه (محرشا على فاطمة) التحريش الإغراء والمراد ههنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها (قلت اللهم إني أهل) فيه أنه يجوز تعليق الإحرام بإحرام كإحرام فلان (فحل الناس كلهم) وفيه إطلاق اللفظ العام وإرادة الخصوص لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي والمراد بقوله حل الناس كلهم أي معظمهم
[ 260 ]
(وقصروا) ولم يحلقوا مع أن الحلق أفضل لأنهم أرادوا أن يبقى شعر يحلق في الحج فلو حلقوا لم يبق شعر فكان التقصير ههنا أحسن ليحصل في النسكين إزالة شعر (فلما كان يوم التروية) هو الثامن من ذي الحجة سمي به لأن الحجاج يرتوون ويشربون فيه من الماء ويسقون الدواب لما بعده وفيه بيان أن السنة أن لا يتقدم أحدا إلى منى قبل يوم التروية وقد كره مالك ذلك وقال بعض السلف لا بأس به والصحيح أنه خلاف السنة (فركب رسول الله الخ) فيه بيان سنن إحداها أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشي وقال بعض الشافعية الأفضل في جملة الحج الركوب إلا في مواطن المناسك وهي مكة ومنى ومزدلفة وعرفات والتردد بينها والسنة الثانية أن يصلي بمنى هذه الصلوات الخمس والثالثة أن يبيت بمنى هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع (حتى طلعت الشمس) فيه أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس وهذا متفق عليه (وأمر بقبة له من شعر فضربت بنمرة) بفتح النون وكسر الميم اسم موضع قريب من عرفات وهي منتهى أرض الحرم وكان بين الحل والحرم فيه استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جميعا فالسنة أن ينزلوا بنمرة فمن كان له قبة ضربها ويغتسلون للوقوف قبل الزوال فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم عليه السلام وخطب بهم خطبتين خفيفتين وخففت الثانية جدا فإذا فرغ منهما صلى بهم الظهر والعصر جامعا بينهما فإذا فرغ من الصلاة سارا إلى الموقف وفي هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها ولا خلاف في جوازه للنازل واختلفوا في جوازه للراكب فمذهب الشافعي جوازه وبه قال كثيرون وكرهه مالك وأحمد وفيه جواز اتخاذ القباب وجوازها من شعر (ولا تشك قريش الخ) أي أنهم لم يشكوا في المخالفة بل تحققوا أنه يقف عند المشعر الحرام لأنه من مواقف الحمس أهل حرم الله
[ 261 ]
(فأجاز) أي تجاوز عن المزدلفة إلى عرفات قال النووي معنى هذا أن قريشا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام وهو جبل في المزدلفة يقال له قزح وقيل إن المشعر الحرام كل المزدلفة وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات فظنت قريش أن النبي يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوز فتجاوزه النبي إلى عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي سائر العرب غير قريش وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم وكانوا يقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه (حتى أتى عرفة) مجاز والمراد قارب عرفات لأنه فسره بقوله وجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها وقد سبق أن نمرة ليست من عرفات وأن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جميعا خلاف السنة والقبة هي خيمة صغيرة (حتى إذا زاغت الشمس) أي مالت وزالت عن كبد السماء من جانب الشرق إلى جانب الغرب (أمر بالقصواء) لقب ناقة رسول الله ولم تكن قصواء أي مقطوعة الأذن أي بإحضارها (فرحلت) هو بتخفيف الحاء أي جعل عليها الرحل (بطن الوادي) هو وادي عرنة بضم العين وفتح الراي وبعدها نون وليست عرنة من أرض عرفات عند الشافعي والعلماء كافة إلا مالكا فقال هي من عرفات (فخطب الناس) فيه استحباب الخطبة للإمام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع وهو سنة باتفاق جماهير العلماء وخالف فيها المالكية ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة إحداها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر والثانية هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات والثالثة يوم النحر والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق قال العلماء وكل هذه الخطب أفراد وبعد صلاة الظهر إلا التي يوم عرفات فإنها خطبتان وقبل الصلاة ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى (فقال إن دماءكم وأموالكم) أي تعرضها (عليكم حرام) أي ليس لبعضكم أن يتعرض لبعض فيريق دمه أو يسلب ماله (كحرمة يومكم هذا) يعني تعرض بعضكم دماء بعض وأمواله في غير هذه الأيام كحرمة التعرض لهما في يوم عرفة (في شهركم هذا) أي ذي الحجة (في بلدكم هذا) أي مكة أو الحرم المحترم وفيه تأكيد حيث جمع بين حرمة الزمان واحترام المكان في تشبيه حرمة الأموال والأبدان
[ 262 ]
قال النووي معناه متأكدة التحريم شديدته وفي هذا دليل لضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير قياسا (ألا) للتنبيه (إن كل شئ) أي فعله أحدكم (من أمر الجاهلية) أي قبل الإسلام (تحت قدمي) بالتثنية (موضوع) أي كالشئ الموضوع تحت القدم وهو مجاز عن إبطاله والمعنى عفوت عن كل شئ فعله رجل قبل الإسلام حتى صار كالشئ الموضوع تحت القدم قال النووي في هذه الجملة إبطال أفعال الجاهلية وبيوعها التي لم يتصل بها قبض وأنه لا قصاص في قتلها وأن الإمام وغيره ممن يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام (ودماء الجاهلية موضوعة) أي متروكة لا قصاص ولا دية ولا كفارة أعادها للاهتمام أو ليبني عليه ما بعده من الكلام (وأول دم أضعه) أي أضعه وأتركه (دماؤنا) أي المستحقة لنا أهل الإسلام أو دماء أقاربنا ولذا قال الطيبي ابتدأ في وضع القتل والدماء بأهل بيته وأقاربه ليكون أمكن في قلوب السامعين وأسد لباب الطمع بترخص فيه (دم ابن ربيعة) اسمه إياس هو ابن عم النبي قال النووي قال المحققون والجمهور اسم هذا الابن إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وقال القاضي ورواه بعض رواة مسلم دم ربيعة بن الحارث قال وكذا رواه أبو داود قيل هو وهم والصواب ابن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي إلى زمن عمر بن الخطاب وتأوله أبو عبيد فقال دم ربيعة لأنه ولي الدم فنسبه إليه انتهى (كان مسترضعا) على بناء المجهول أي كان لابنه ظئر ترضعه (فقتلته) أي ابن ربيعة (هذيل) وكان طفلا صغيرا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب بني سعد مع قبيلة هذيل فقتله (وربا الجاهلية موضوع) يريد أموالهم المغصوبة والمنهوبة النبي وإنما خص الربا تأكيدا لأنه في الجملة معقول في صورة مشروع وليرتب عليه قوله (وأول ربا) أي زائد على رأس المال (أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب) قيل إنه بدل من ربانا والأظهر أنه خبر وقوله (فإنه) أي الربا أو ربا عباس (موضوع كله) تأكيد بعد تأكيد والمراد الزائد على رأس المال قال تعالى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لأن الربا هو الزيادة
[ 263 ]
قال النووي معناه الزائد على رأس المال كما قال تعالى وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم وأن الربا هو الزيادة فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة والمراد بالوضع الرد والإبطال (فاتقوا الله في النساء) أي في حقهن والفاء فصيحة وهو معطوف على ما سبق من حيث المعنى أي اتقوا الله في استباحه الدماء ونهب الأموال وفي النساء (فإنكم أخذتموهن بأمانة الله) أي بعهده من الرفق وحسن العشرة (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) أي بشرعه أو بأمره وحكمه وهو قوله فانكحوا وقيل بالإيجاب والقبول أي بالكلمة التي أمر الله بها (وإن لكم عليهن) أي من الحقوق (أن لا يوطئن) بهمزة أو بإبدالها بالتخفيف صيغة جمع الإناث من الإيطاء أي الأفعال قاله السندي (فرشكم أحدا تكرهونه) أي لا يأذن لأحد أن يدخل منازل الأزواج والنهي يتناول الرجال والنساء (فإن فعلن) أي الإيطاء المذكور (فاضربوهن) قال ابن جرير في تفسيره المعنى لا يأذن لأحد من الرجال الأجانب أن يدخل عليهن فيتحدث إليهن وكان من عادة العرب لا يرون به بأسا فلما نزلت آية الحجاب نهى عن محادثتهن والقعود إليهن وليس هذا كناية عن الزنا وإلا كان عقوبتهن الرجم دون الضرب (ضربا غير مبرح) بتشديد الراء المكسورة وبالحاء المهملة أي مجرح أو شديد شاق (ولهن عليكم رزقهن) من المأكول والمشروب وفي معناه سكناهن وكسوتهن بالمعروف باعتبار حالكم فقرا وغنى أو بالوجه المعروف من التوسط الممدوح (وإني قد تركت فيكم) أي فيما بينكم (ما) موصولة أو موصوفة (لن تضلوا بعده) أي بعد تركي إياه فيكم أو بعد التمسك والعمل بما فيه (إن اعتصمتم به) أي في الاعتقاد والعمل (كتاب الله) بالنصب بدل أو بيان محذوف أي هو كتاب الله وإنما اقتصر على الكتاب لأنه مشتمل على العمل بالسنة لقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وقوله وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فيلزم من العمل بالكتاب العمل بالسنة (وأنتم مسؤولون عني) أي عن تبليغي وعدمه (فما أنتم قائلون) أي في حقي (قد بلغت) أي الرسالة (وأديت) أي الأمانة (ونصحت) أي الأمة (ثم قال) أي أشار (يرفعها) حال من فاعل قال أي رافعا إياها أو من السبابة أي مرفوعة (وينكتها) بضم الكاف والمثناة الفوقانية أي
[ 264 ]
يشير بها إلى الناس كالذي يضرب بها الأرض والنكت ضرب الأنامل إلى الأرض وفي بعض النسخ بالموحدة وفي النهاية بالباء الموحدة أي يميلها إليهم يريد بذلك أن يشهد الله عليهم قال النووي هكذا ضبطناه بالتاء المثناة من فوق قال القاضي هكذا الرواية وهو بعيد المعنى قال قيل صوابه ينكبها بباء موحدة قال ورويناه في سنن أبي داود وبالتاء المثناة من طريق ابن الأعرابي وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم ومنه نكب كنانته إذا قلبها انتهى (اللهم اشهد) على عبادك بأنهم قد أقروا بأني قد بلغت أو المعنى اللهم اشهد أنت إذ كفى بك شهيدا (ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر) أي جمع بينهما في وقت الظهر وهذا الجمع كجمع المزدلفة جمع نسك عند الحنفية وجمع سفر عند الشافعي فمن كان حاضرا أو مسافرا دون مرحلتين كأهل مكة لم يجز له الجمع كما لا يجوز له القصر عنده (ولم يصل بينهما شيئا) أي من السنن والنوافل (حتى أتى الموقف) أي أرض عرفات أو اللام للعهد والمراد موقفه الخاص ويؤيد قوله (فجعل بطن ناقته القصواء) بالحجر (إلى الصخرات) بفتحتين الأحجار الكبار قال النووي هن حجرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات فهذا هو الموقف المستحب فإن عجز عنه فليتقرب منه بحسب الإمكان وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط والصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر وقال أحمد يدخل وقت الوقوف من فجر يوم عرفة (وجعل حبل المشاة بين يديه) قال النووي روي بالحاء المهملة وسكون الباء وروي بالجيم وفتح الباء قال القاضي الأول أشبه بالحديث وحبل المشاة مجتمعهم وحبل الرمل ما طال منه وضخم وأما بالجيم فمعناه طريقهم وحيث تسلك الرجالة وقال الطيبي بالحاء أي طريقهم الذي يسلكونه في الرمل وقيل الحبل الرمل المستطيل وإنما أضافها إلى المشاة لأنها لا يقدر أن يصعد إليها إلا الماشي ودون حبل المشاة ودون الصخرات اللاصقة بسفح الجبل موقف الإمام وبه كان رسول الله يتحرى الوقوف (فلم يزل واقفا) أي قائما بركن الوقوف راكبا على الناقة (حتى غربت الشمس) أي
[ 265 ]
أكثرها أو كادت أن تغرب (وذهبت الصفرة قليلا) أي ذهابا قليلا (حين غاب القرص) أي جميعه (فدفع) أي ارتحل ومضى وقال الطيبي رحمه الله أي ابتدأ السير ودفع نفسه ونحاها انتهى قال السندي أي انصرف من عرفة إلى المزدلفة (وقد شنق للقصواء الزمام) بتخفيف النون من باب ضرب أي ضم وضيق للقصواء الزمام (مورك رحله) المورك بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء وفتحها مقدم الرحل قال النووي هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب وضبطه القاضي بفتح الراء قال وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة والرحل بالحاء المهملة معروف (السكينة) بالنصب أي الزموها (كلما أتى حبلا من الحبال) بالحاء المهملة وسكون الباء أي التل اللطيف من الرمل الحبال في الرمال كالجبال في الحجر (أرخى لها) أي للناقة (قليلا) أي إرخاء قليلا أو زمانا قليلا (حتى تصعد) بفتح التاء المثناة من فوق وضمها يقال صعد في الجبل وأصعد ومنه قوله تعالى إذ تصعدون ذكره النووي (ثم أتى المزدلفة) موضع معروف قيل سميت به لمجئ الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات قريبة من أوله ومنه قوله تعالى وإذا الجنة أزلفت أي قربت (فجمع بين المغرب والعشاء) أي وقت العشاء (بأذان واحد وإقامتين) قال النووي إن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء ويكون هذا التأخير بنية الجمع ثم الجمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء وهذا مجمع عليه لكن مذهب أبي حنيفة وطائفة أنه يجمع بسبب النسك ويجوز لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم وعند الشافعي أنه جمع بسبب السفر كما تقدم (ولم يسبح) أي يصل (بينهما) أي بين المغرب والعشاء (شيئا) أي من النوافل والسنن (ثم اضطجع) أي للنوم (حتى طلع الفجر) والمبيت عند أبي حنيفة سنة وهو قول بعض الشافعية
[ 266 ]
وقيل واجب وهو مذهب الشافعي وقيل ركن لا يصح إلا به كالوقوف وعليه جماعة من الأجلة وقال مالك النزول واجب والمبيت سنة وكذا الوقوف بعده قال القاري ثم المبيت بمعظم الليل والصحيح أنه بحضور لحظة بالمزدلفة (حين تبين له الصبح) أي طلع الفجر فصلى بغلس (بنداء) أي أذان (حتى أتى المشعر الحرام) قال النووي المشعر بفتح الميم والمراد به ههنا قزح وهو جبل معروف في المزدلفة وهذا الحديث حجة أن المشعر الحرام قزح وقال أكثر العلماء المشعر الحرام جميع المزدلفة انتهى كلامه قال القاري ومما يدل على المغايرة بين المزدلفة والمشعر الحرام ما في البخاري كان ابن عمر رضي الله عنه يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر بالمزدلفة فيذكرون الله (فحمد الله وكبره) أي قال الحمد لله والله أكبر (وهلله) أي قال لا إله إلا الله (وحده) أي قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ (حتى أسفر جدا) أي أضاء الفجر إضاءة تامة (ثم دفع) أي انصرف من المزدلفة إلى منى (وأردف الفضل بن عباس) أي بدل أسامة (وكان رجلا) بفتح الراء وكسر الجيم أي لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما (وسيما) أي حسنا (مر الظعن) بضم الظاء المعجمة والعين المهملة جميع ظعينة كالسفن جمع سفينة وهي المرأة في الهودج (حتى أتى محسرا) محسر بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيى وكل ومنه قوله تعالى ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (فحرك قليلا) أي أسرع ناقته زمانا قليلا أو مكانا قليلا فهي سنة من سنن السير في ذلك الموضع
[ 267 ]
قال العلماء يسرع الماشي ويحرك الراكب دابته في وادي محسر ويكون ذلك قدر رمية حجر (ثم سلك الطريق الوسطى) ففيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات ليخالف الطريق تفاؤلا بتغير الحال كما فعل رسول الله في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى (الذي يخرجك) من الإخراج (إلى الجمرة الكبرى) هي الجمرة الأولى التي قريب مسجد الخيف (حتى أتى) عطف على سلك أي حتى وصل (الجمرة التي عند الشجرة) ولعل الشجرة إذ ذاك كانت موجودة هناك وأما الجمرة الكبرى فهي جمرة العقبة وهي الجمرة التي عند الشجرة وفيه أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة ولا يفعل شيئا قبل رميها ويكون ذلك قبل نزوله (فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف) بالخاء والذال المعجمتين الرمي برؤوس الأصابع قال الطيبي بدل من الحصيات وهو بقدر حبة الباقلا كذا في المرقاة قال النووي فيه أن الرمي بسبع حصيات وأن قدرهن بقدر حصى الخذف وهو نحو حبة الباقلا وينبغي أن لا يكون أكبر ولا أصغر فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه بشرط كونه حجرا ويسن التكبير مع كل حصاة ويجب التفريق بين الحصيات فيرميهن واحدة واحدة (فرمى من بطن الوادي) بيان لمحل الرمي وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث يكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه ومكة عن يساره وهذا هو الصحيح (وأمر عليا رضي الله عنه) أي بقية البدن (فنحر) أي علي (ما غبر) أي ما بقي من المائة (وأشركه) أي النبي عليا في هديه قال النووي رحمه الله وظاهره أنه شاركه في نفس الهدي قال القاضي عياض وعندي لم يكن تشريكا حقيقة بل أعطاه قدرا يذبحه قال والظاهر أن النبي نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما جاء في رواية الترمذي وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة انتهى قال القاري ولا يبعد أنه عليه الصلاة والسلام أشرك عليا في ثواب هديه لأن الهدي يعطى حكم الأضحية ثم قال النووي وفيه استحباب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم النحر ولا يؤخر بعضها إلى أيام التشريق
[ 268 ]
(ببضعة) بفتح الباء الثانية وهي قطعة من اللحم (فجعلت) أي القطع (في قدر) القدر بالكسر معلوم يؤنث (فأكلا هذه) أي النبي وعلي رضي الله عنه (من لحمها) الضمير يعود إلى القدر ويحتمل أن يعود إلى الهدايا (وشربا من مرقها) أي من مرق القدر أو مرق لحوم الهدايا وهذا يدل على استحباب الأكل من هدي التطوع وقيل واجب لقوله تعالى فكلوا منها (ثم أفاض) أي أسرع (إلى البيت) أي بيت الله لطواف الفرض ويسمى طواف الإفاضة والركن وأكثر العلماء ومنهم أبو حنيفة لا يجوز الإفاضة بنية غيره خلافا للشافعي حيث قال لو نوى غيره كنذر أو وداع وقع عن الإفاضة (فصلى بمكة الظهر) قال النووي فيه محذوف تقديره فأفاض فطاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه وأما قوله فصلى الظهر بمكة فقد ذكر مسلم من حديث ابن عمر أن النبي أفاض يوم النحر فصلى الظهر بمنى ووجه الجمع بينهما أنه طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى انتهى قال القاري أو يقال الروايتان حيث تعارضتا فتترجح صلاته بمكة لكونها أفضل ويؤيده ضيق الوقت لأنه عليه الصلاة والسلام رجع قبيل طلوع الشمس من المشعر ورمى بمنى ونحر مائة من الإبل وطبخ لحمها وأكل منها ثم ذهب إلى مكة وطاف وسعى فلا شك أنه أدركه الوقت بمكة وما كان يؤخرها عن وقت المختار لغير ضرورة ولا ضرورة هنا والله أعلم (بني عبد المطلب) وهم أولاد العباس وجماعته لأن سقاية الحاج كانت وظيفته (يسقون) أي مر عليهم وهم ينزعون الماء من زمزم ويسقون الناس (على زمزم) قال النووي معناه يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها فيسبلونه وإن (فقال انزعوا) أي الماء والدلاء (بني عبد المطلب) يعني العباس ومتعلقيه بحذف حرف النداء دعا لهم بالقوة على النزع والاستقاء أي أن هذا العمل عمل صالح مرغوب فيه لكثرة ثوابه والظاهر أنه أمر استحباب لهم (فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم) أي لولا مخافة كثرة الازدحام عليكم بحيث تؤدي إلى إخراجكم عنه رغبة في النزع قاله القاري
[ 269 ]
وقال النووي معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج فيزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء (فناولوه) أي أعطوه (دلوا) رعاية للأفضل (فشرب منه) أي من الدلو أو من الماء قال المنذري وأخرجه مسلم وابن ماجه بنحوه مطولا وأخرجه النسائي مختصرا وفي رواية أدرج في الحديث عند قوله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال فقرأ فيها بالتوحيد وقل يا أيها الكافرون وفي رواية فصلى المغرب والعتمة بأذان وإقامة (عن أبيه) محمد بن علي (أن النبي) مرسلا (فصلى الظهر والعصر) أي بجمع التقديم كما يلوح من الرواية السابقة (بأذان واحد الخ) وفيه دليل على أن يصلي الصلاتين بجمع التقديم بأذان للأولى وإقامتين لكل واحدة إقامة وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم (وصلى المغرب والعشاء بجمع) أي بالمزدلفة (بأذان واحد وإقامتين) وفيه أن يصلي الصلاتين بجمع التأخير في وقت الثانية بأذان للأولى وإقامتين كما تقدم (ولم يسبح بينهما) أي لم يصل شيئا من النوافل بين الصلاتين (هذا الحديث أسنده) بذكر جابر بن عبد الله في الحديث الطويل أي المذكور آنفا (ووافق حاتم) مفعول وافق (على إسناده) أي على إسناد هذا الحديث بذكر جابر (محمد بن علي الجعفي) والمقصود أن عبد الوهاب الثقفي وإن روى هذا الحديث عن جعفر بن محمد مرسلا لكن رواه حاتم بن إسماعيل وكذا محمد بن علي الجعفي عن جعفر بن محمد بذكر جابر ابن عبد الله فصار الحديث متصلا (إلا) استثناء من قوله وافق أي وافق حاتما محمد بن علي في الإسناد والمتن إلا أنه قال هذه الجملة التالية (قال فصلى المغرب والعتمة) أي العشاء (بأذان وإقامة) بخلاف حاتم ابن إسماعيل فإنه قال بأذان
[ 270 ]
وإقامتين ورواية محمد بن علي الجعفي تؤيد قول أبي حنيفة وأبي يوسف فإنهما قالا بأذان واحد وإقامة واحدة وقد وجدت هذه العبارة في بعض النسخ وعامتها خالية عنها وهي هذه قال أبو داود قال لي أحمد أخطأ حاتم في هذا الحديث الطويل انتهى قلت في صحة نسبة هذا الكلام إلى أبي داود ثم إلى أحمد بن حنبل نظر فقد صححه جماعة من الأئمة من المتقدمين والمتأخرين من غير بيان وهم حاتم بن إسماعيل والله أعلم (قد نحرت ههنا ومنى كلها منحر) يعني كل بقعة منها يصح النحر فيها وهو متفق عليه لكن الأفضل النحر في المكان الذي نحر فيه صلى الله عليه وآله وسلم كذا قال الشافعي ومنحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد منى كذا قال ابن التين وحد منى من وادي محس إلى العقبة (قد وقفت ههنا) يعني عند الصخرات وعرفة كلها موقف يصح الوقوف فيها وقد أجمع العلماء على أن من وقف في أي جزء كان من عرفات صح وقوفه ولها أربع حدود حد إلى جادة طريق المشرق والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرضها والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة والرابع وادي عرنة بضم العين وبالنون وليست هي ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم (ومزدلفة كلها موقف) فيه دليل على أنها كلها موقف كما أن عرفات كلها موقف قاله في نيل الأوطار موقف قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي بنحوه (فانحروا في رحالكم) المراد بالرحال المنازل قال أهل اللغة رحل الرجل منزله سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر
[ 271 ]
(واتخذوا) بكسر الخاء على الأمر وهي إحدى القراءتين والأخرى بالفتح على الخبر والأمر دال على الوجوب قال في الفتح لكن انعقد الإجماع على جواز الصلاة إلى جميع جهات الكعبة فدل على عدم التخصيص وهذا بناء على أن المراد بمقام إبراهيم الذي فيه أثر قدميه وهو موجود الآن وقال مجاهد المراد بمقام إبراهيم الحرم كله والأول أصح (فقرأ) النبي (فيهما بالتوحيد) أي قل هو الله أحد فيه استحباب القراءة بهاتين السورتين مع فاتحة الكتاب وقد اختلف في وجوب هاتين الركعتين فذهب أبو حنيفة وهو مروي عن الشافعي في أحد قوليه إلى أنهما واجبتان واستدلوا بالآية المذكورة وأجيب عن ذلك بأن الأمر فيها إنما هو باتخاذ المصلى لا بالصلاة وقد قال الحسن البصري وغيره إن قوله (مصلى) أي قبلة انتهى وقد تقدم الكلام في إسناد هذا الحديث ومعناه تحت حديث حاتم بن إسماعيل بما ذكره النووي لكن يظهر من هذه الرواية أن قوله فقرأ فيهما بالتوحيد هو قول مدرج من محمد بن علي على ما ذكره جابر وكذا قوله قال علي بالكوفة فذهبت محرشا إلى آخر قصة فاطمة رضي الله عنها هو ذكره محمد بن علي منقطعا من غير ذكر جابر والله أعلم الوقوف بعرفة (ومن دان دينها) أي تبعهم واتخذ دينهم دينا (يقفون بالمزدلفة) أي حين يقف الناس بعرفة (وكانوا) أي قريش (يسمون الحمس) جمع أحمس من الحماسة بمعنى الشجاعة والشدة وبه لقب قريش وكنانة ومن قبلهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم أو لالتجائهم إلى الحمساء وهي الكعبة لأن أحجارها أبيض إلى السواد وهو يكون شديدا والحاصل أن قريشا كانت قبل الإسلام تقف بالمزدلفة وهي من الحرم ولا يقفون بعرفات وكان سائر العرب يقفون بعرفات وكانت قريش تقول نحن أهل الحرم فلا نخرج منه (سائر العرب) يعني بقيتهم (يقفون بعرفة)
[ 272 ]
على العادة القديمة (ثم يفيض منها) الإفاضة الدفع في السير وأصلها الصب فاستعير للدفع في السير وأصله أفاض نفسه أو راحلته ثم ترك المفعول رأسا حتى صار كاللازم (ثم أفيضوا) أي ادفعوا (من حيث أفاض الناس) أي عامتهم وهو عرفة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي الخروج إلى منى (يوم التروية) هو الثامن من ذي الحجة (يوم عرفة) هو التاسع من ذي الحجة قال المنذري وأخرجه الترمذي بنحوه وذكر أن شعبة قال لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أشياء وعدها وليس هذا الحديث فيما عد شعبة فعلى هذا يكون هذا منقطعا انتهى (عقلته) بفتح القاف أي علمته وحفظته (يوم النفر) أي الرجوع من منى وهو اليوم الثالث من أيام التشريق (قال بالأبطح) وهو المحصب وفيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام أول صلاة صلاها في الأبطح هو العصر (ثم قال) أي أنس (افعل كما يفعل أمراؤك) أي لا تخالفهم فإن نزلوا به فانزل به وإن تركوه فاتركه وفيه إشارة إلى متابعة أولي الأمر والاحتراز عن مخالفة الجماعة وأن ذلك ليس بنسك واجب نعم المسنون ما فعله الشارع وبه قال الأئمة الأربعة وغيرهم والحاصل أن قول أنس يفيد أن تركه لعذر لا بأس به ولا عبرة بقول ابن حجر المكي
[ 273 ]
فإنه قال وإنما الخلاف في كونه سنة أم لا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي الخروج إلى عرفة (غدا) بالغين المعجمة أي سار غدوة (حين صلى الصبح) ظاهره أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها ولكنه مقيد بأنه كان بعد طلوع الشمس لما تقدم في حديث جابر الطويل ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس (وهي منزل الإمام) قال ابن الحاج المالكي وهذا الموضع يقال له الأراك قال الماوردي يستحب أن ينزل بنمرة حيث نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الصخرة الساقطة بأصل الجبل على يمين الذاهب إلى عرفات (راح) أي بعد زوال الشمس (مهجرا) بتشديد الجيم المكسورة قال الجوهري التهجير والتهجر السير في الهاجرة والهاجرة نصف النهار عند اشتداد الحر والتوجه وقت الهاجرة في ذلك اليوم سنة لما يلزم من تعجيل الصلاة ذلك اليوم وقد أشار البخاري إلى هذا الحديث في صحيحه فقال باب التهجير بالرواح يوم عرفة أي من نمرة (فجمع بين الظهر والعصر إلخ) قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة وكذلك من صلى مع الإمام وذكر أصحاب الشافعي أنه لا يجوز الجمع إلا لمن بينه وبين وطنه ستة عشرة فرسخا إلحاقا له بالقصر قال وليس بصحيح فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع فجمع معه من حضره من المكيين وغيرهم ولم يأمرهم بترك الجمع كما أمرهم بترك القصر فقال أتموا فإنا سفر ولو حرم الجمع لبينه لهم إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة قال ولم يبلغنا عن أحد من المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة والمزدلفة بل وافق عليه من لا يرى الجمع في غيره وقوله ثم خطب الناس فيه
[ 274 ]
دليل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم خطب بعد الصلاة وحديث جابر الطويل يدل على خلافه وعليه عمل العلماء قال ابن حزم رواية ابن عمر لا تخلو عن وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خطب كما روى جابر ثم جمع بين الصلاتين ثم كلم صلى الله عليه وسلم الناس ببعض ما يأمرهم ويعظهم فيه فسمى ذلك الكلام خطبة فيتفق الحديثان بذلك وهذا أحسن فإن لم يكن كذلك فحديث ابن عمر وهم قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار وقد تقدم الكلام عليه انتهى قلت وقد صرح ههنا بالتحديث الرواح إلى عرفة والفرق بين البابين أي باب الخروج إلى عرفة وباب الرواح إلى عرفة أن الأول في بيان أن الخروج من منى إلى عرفة يكون بعد صلاة الصبح والثاني في بيان أن الذهاب من وادي نمرة إلى عرفات ووقوفه في عرفات يكون بعد زوال الشمس (عن ابن عمر) وعند ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بعرفة في وادي نمرة قال فلما قتل الحجاج الحديث (يروح في هذا اليوم) أي من وادي نمرة إلى الموقف في العرفات (قال) أي ابن عمر (إذا كان ذلك) أي زوال الشمس كما يفهم من السياق (فلما أراد ابن عمر) وعند ابن ماجه فلما أراد ابن عمر أن يرتحل قال أزاغت الشمس قالوا لم تزغ بعد فجلس ثم قال أزاغت الشمس قالوا لم تزغ بعد فجلس ثم قال أزاغت الشمس قالوا لم تزغ بعد فجلس ثم قال أزاغت الشمس قالوا نعم فلما قالوا زاغت ارتحل قال المنذري وأخرجه ابن ماجه والله أعلم
[ 275 ]
الخطبة بعرفة (عن أبيه أو عمه) أي رجل من بني ضمرة يروي عن أبيه أو عمه وكثيرا ما يروي زيد ابن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه كحديث مالك عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة الحديث (وهو على المنبر بعرفة) قيل لم يكن بعرفات منبر في وقته صلى الله عليه وسلم بلا شك وخطبته كانت على ناقته كما في حديث جابر رضي الله عنه فقوله على المنبر إما أن يكون كناية عن كونه على الناقة أو سهو قاله في فتح الودود وقال مولانا محمد إسحاق المحدث الدهلوي لعل المراد به شئ مرتفع قال المنذري فيه رجل مجهول (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة الخ) وفي النسائي يخطب على جمل أحمر بعرفة قبل الصلاة قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه عن سلمة بن نبيط ولم يقولا عن رجل من الحي وذكره البخاري في التاريخ الكبير كذلك وأبوه هو نبيط بن شريط له صحبة ولأبيه شريط صحبة رضي الله عنهم ونبيط بضم النون وفتح الباء وسكون الياء آخر الحروف وبعدها طاء مهملة وشريط بفتح الشين المعجمة وكسر الراء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها طاء مهملة (عن عبد المجيد أبي عمرو) كنية عبد المجيد (خالد بن العداء) بفتح العين المهملة وتشديد الدال المهملة (بن هوذة) بفتح الهاء وسكون الواو بعدها ذال معجمة (يخطب الناس)
[ 276 ]
أي يعظهم ويعلمهم المناسك (يوم عرفة) بعد الزوال كما في حديث جابر (على بعير قائم في الركابين) وفي بعض النسخ قائما حالان مترادفان أو متداخلان وقوله قائما أو واقفا لا أنه قائم على الدابة بل معناه أن حال كون الرجلين داخلين في الركابين والحديث سكت عنه المنذري موضع الوقوف بعرفة (عن عمرو ابن عبد الله بن صفوان) أ الجمحي القرشي من التابعين (عن يزيد بن شيبان) أي الأزدي له صحبة ورواية ويذكر في الوحدان وهو خال عمرو بن عبد الله (قال) أي يزيد (أتانا ابن مربع) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة وقيل اسمه زيد وقيل يزيد وقيل عبد الله والأول أكثر (ونحن بعرفة) هي اسم للمكان المخصوص وقيل يجئ بمعنى الزمان وأما عرفات بلفظ الجمع فيجئ بمعنى المكان فقط ولعل جمعه باعتبار نواحيه وأطرافه كذا في اللمعات (في مكان يباعده عمرو) ابن عبد الله أي يصفه بالبعد وهذا مدرج في الحديث أدرجه عمرو بن دينار من أن عمرو بن عبد الله بن صفوان يصف مكانا بأن هذا المكان الذي كان يزيد بن شيبان وغيره فيه كان بعيدا عن الإمام يعني قال عمرو بن دينار قال عمرو بن عبد الله وكان بين ذلك الموقف وبين موقف إمام الحاج مسافة وعند ابن ماجه عن عمرو بن عبد الله عن يزيد بن شيبان قال كنا وقوفا في مكان تباعده من الموقف فأتانا ابن مربع الحديث قال السندي أي من موقف الإمام وهو من باعد بمعنى بعد مشددا وعمرو هو المخاطب
[ 277 ]
بهذا الكلام أي مكانا تبعده أنت أي تعده بعيدا ويحتمل أن هذا من كلام الراوي عن عمرو بمنزلة قال عمرو كان ذلك المكان بعيدا عن موقف الإمام انتهى (قفوا على مشاعركم) أي مواضع نسككم ومواقفكم كما القديمة فإنها جاءتكم من إرث إبراهيم ولا تحقروا شأن موقفكم بسبب بعده عن موقف الإمام والمشاعر جمع المشعر وهو العلم أن موضع النسك والعبادة قال الطيبي والمقصود دفع أن يتوهم أن الموقف ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وتطييب خاطرهم بأنهم على إرث أبيهم وسننه انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث ابن مربع الأنصاري حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار وابن مربع اسمه يزيد بن مربع الأنصاري وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد هذا آخر كلامه وقال غيره اسمه عبد الله وقيل زيد ومربع بكسر الميم وسكون الراء المهملة وفتح الباء الموحدة وتخفيفها الدفعة من عرفة (قال أفاض) قال الخطابي معناه صدر راجعا إلى منى وأصل الفيض السيلان يقال فاض الماء إذا سال وأفضته إذا أسلته (وعليه السكينة) أي في السير والمراد السير بالرفق وعدم المزاحمة (ورديفه) وهو الراكب خلفه (أسامة) ابن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالسكينة) أي لازموا الطمأنينة والرفق وعدم المزاحمة في السير وعلل ذلك بقوله (فإن البر) أي الخير (ليس بإيجاف الخيل والإبل) والإيجاف الإسراع في السير يقال وجف الفرس وجيفا وأوجف الفرس إيجافا قال الله تعالى فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب (فما
[ 278 ]
رأيتها) أي الخيل والإبل (عادية) أي مسرعة في المشئ (حتى أتى جمعا) أي المزدلفة والحديث سكت عنه المنذري (أخبرنا إبراهيم بن عقبة) أي زهير وسفيان كلاهما يرويان عن إبراهيم (عشية) وعند مسلم كيف صنعتم حين ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكسر الدال أي ركبت وراءه وفيه الركوب حال الدفع من عرفة والارتداف على الدابة ومحله إذا كانت مطيقة (جئنا الشعب) وفي رواية لمسلم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الدفعة من عرفات إلى بعض تلك الشعاب لحاجته انتهى والشعب بالكسر الطريق وقيل الطريق في الجبل (للمعرس) بصيغة المجهول هو موضع التعريس وبه سمي معرس ذي الحليفة عرس به النبي صلى الله عليه وسلم وصلى فيه الصبح والتعريس نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة وعند مسلم من طريق زهير جئنا الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب انتهى أي لصلاة المغرب (وما قال) وعند مسلم ولم يقل أسامة (أهراق الماء) هو بفتح الهاء وفيه أداء الرواية بحروفها (ثم دعا بالوضوء) أي بماء الوضوء (فتوضأ وضوءا ليس بالبالغ جدا) أي توضأ وضوءا خفيفا بأن توضأ مرة مرة وخفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته وهو معنى قوله في رواية مالك الآتية بلفظ فلم يسبغ الوضوء قال الخطابي إنما ترك إسباغه حين نزل الشعب ليكون مستصحبا للطهارة في طريقه وتجوز فيه لأنه لم يرد أن يصلي به فلما نزل وأرادها أسبغه (قلت يارسول الله الصلاة) بالنصب على إضمار الفعل أي تذكر الصلاة أوصل ويجوز الرفع على تقدير حضرت الصلاة (الصلاة) بالرفع (أمامك) بفتح الهمزة وبالنصب على الظرفية أي الصلاة ستصلى بين يديك أو أطلق الصلاة على مكانها أي المصلى بين يديك أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها وفيه تذكير
[ 279 ]
التابع بما تركه متبوعه ليفعله أو يعتذر عنه أو يبين له صوابه (حتى قدمنا المزدلفة فأقام المغرب) أي لم يبدأ بشئ قبل الصلاة وفي رواية عند مسلم ثم سار حتى بلغ جمعا فصلى المغرب والعشاء وسيأتي من رواية مالك فلما جاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما وعند مسلم من وجه آخر أنهم لم يزيدوا بين الصلاتين عل الإناخة ولفظه فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلوا ثم حلوا وكأنهم صنعوا ذلك رفقا بالدواب أو للأمن من تشويشهم بها وفيه إشعار بأنه خفف القراءة في الصلاتين وفيه أنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع (ولم يحلوا) أي المحامل عن ظهور الدواب (ثم حل الناس) أي المحامل (قال ردفه الفضل) أي ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب (وانطلقت أنا في سباق) بضم السين والباء المشددة على وزن الحفاظ جمع سابق كالحافظ والقاري والقراء يقال سبقه إليه سبقا أي تقدمه وجازه وخلفه فهو سابق وأما السباق بفتح السين فهو فعال للمبالغة في السبق (على رجلي) يعني ماشيا إلى منى واستدل بالحديث على جمع التأخير وهو إجماع بمزدلفة لكنه عند الشافعية وطائفة بسبب السفر وعند الحنفية والمالكية بسبب النسك وقال الخطابي فيه دليل على أنه لا يجوز أن يصلي الحاج المغرب إذا أفاض من عرفة حتى يبلغ المزدلفة ولو أجزأته في غيرها لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقتها المؤقت لها في سائر الأيام قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (ثم أردف) النبي صلى الله عليه وسلم (فجعل يعنق) من باب الإفعال أي يسير النبي صلى الله عليه وسلم سيرا وسطا
[ 280 ]
(ويقول السكينة) أي الزموا السكينة (ودفع) أي رجع من عرفات قال المنذري وأخرجه الترمذي بنحوه أتم منه وقال حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث علي من هذا الوجه (سئل أسامة بن زيد) خص بالسؤال لأنه كان رديفه عليه الصلاة والسلام من عرفة إلى المزدلفة (حين دفع) أي انصرف من عرفة إلى المزدلفة قيل إنما يستعمل الدفع في الإفاضة لأن الناس في مسيرهم ذلك يدفع بعضهم بعضا وقيل حقيقة دفع أي دفع نفسه عن عرفة ونحاها (قال) أي أسامة (كان يسير العنق) بفتحتين أي السير السريع وقيل ما بين الإبطاء والإسراع فوق المشي وانتصابه على المصدرية كقولهم رجع القهقرى أو الوصفية أي يسير السير العنق (فإذا وجد فجوة) بفتح أي سعة ومكانا خاليا عن المارة والفجوة الفرجة بين الشيئين (نص) بتشديد الصاد المهملة أي سار سيرا أسرع وحرك الناقة يستخرج أقصى سيرها قيل أصل النص الاستقصاء والبلوغ إلى الغاية أي ساق دابته سوقا شديدا حتى استخرج أقصى ما عندها قال الطيبي العنق المشي والنص فوق العنق ولعل النكتة المبادرة والمسارعة إلى العبادة المستقبلة والطاعة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (ردف النبي صلى الله عليه وسلم) الردف بكسر الراء وسكون الدال والرديف الراكب خلف الراكب (فلما وقعت الشمس) أي غربت (دفع) أي انصرف والحديث سكت عنه المنذري (حتى إذا كان بالشعب) بكسر الشين الطريق بين الجبلين (ولم يسبغ الوضوء) قال
[ 281 ]
القرطبي اختلف الشراح في قوله ولم يسبغ هل المراد به أنه اقتصر على بعض الأعضاء فيكون وضوءا لغويا أو اقتصر على بعض العدد فيكون وضوءا شرعيا قال كلاهما محتمل لكن يعضد من قال بالثاني ما في الرواية الأخرى وضوءا خفيفا لأنه لا يقال في الناقص خفيف فإن قلت هذا يدل على أنه توضأ وضوء الصلاة ولكنه خفف ثم لما نزل توضأ وضوءا آخر وأسبغه والوضوء لا يشرع مرتين لصلاة واحدة قاله ابن عبد البر ال العيني قلت لا نسلم عدم مشروعية تكرار الوضوء لصلاة واحدة ولئن سلمنا فيحتمل أنه توضأ ثانيا لحدث طارئ (ثم أناخ كل إنسان بعيره) قال العيني كأنهم فعلوا ذلك خشية ما يحصل فيها من التشويش بقيامها قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (أفضت) أي رجعت من عرفات إلى المزدلفة (فما مست قدماه) وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل لحاجة بين عرفات والمزدلفة وحديث أسامة المتقدم يعارض ذلك لكن يرجح حديث أسامة على حديث الشريد لأنه المثبت وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعلم بحاله ولم ير الشريد نزوله صلى الله عليه وسلم فلذا نفاه على علمه وقال الحافظ المزي في الأطراف هذا الحديث في رواية أبي الحسن ابن العبد وأبي بكر بن داسة عن أبي داود ولم يذكره أبو القاسم انتهى الصلاة بجمع بفتح الجيم وسكون الميم هو المزدلفة (صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا) قال
[ 282 ]
الخطابي هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجمع بين هاتين الصلاتين بالمزدلفة في وقت الآخرة منهما كما سن الجمع بين الظهر والعصر بعرفة في الأولى منهما ومعناه الرخصة دون العزيمة إلا أن المستحب متابعة السنة والتمسك بها واختلفوا فيمن فرق بين هاتين الصلاتين فصلى كل واحدة منهما في وقتهما صلاهما قبل أن ينزل المزدلفة فقال أكثر الفقهاء إن ذلك يجزيه مع الكراهة لفعله وقال أبو حنيفة وأصحابه إن صلاهما قبل أن يأتي جمعا كان عليه الإعادة وحكى نحوا من هذا عن سفيان الثوري غير أنهم قالوا إن من فرق بين الظهر والعصر أجزأه على الكراهة ولم يروا عليه الإعادة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي في رواية بإقامة جمع بينهما وفي رواية صلى كل صلاة بإقامة وفي رواية الشافعي ومن وافقه أنه يقيم لكل واحد منهما لا يؤذن لواحدة منهما انتهى (شبابة) هو ابن سوار فهو وعثمان بن عمر كلاهما يرويان عن ابن أبي ذئب (ولم يناد في الأول) أي لم يؤذن في الأولى وتخصيص الأولى لأنه إذا لم يكن أذان في الأولى ففي الثانية
[ 283 ]
بالأولى (ولم يسبح) أي لم يصل النافلة (في هذا المكان بإقامة واحدة) قال الخطابي اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعي لا يؤذن ويصليهما بإقامتين وذلك أن الأذان إنما سن لصلاة الوقت وصلاة المغرب لم تصل في وقتها فلا يؤذن لها كما لا يؤذن للعصر بعرفة وكذلك قال إسحاق بن راهويه قال أبو حنيفة وأصحابه يؤذن للأولى ويقام لها ثم يقام للأخرى بلا أذان وقد روى هذا في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في قصة الحج أنه فعلها بأذان وإقامتين وقال مالك يؤذن لكل صلاة فيقام لها فيصلي بأذانين وإقامتين وقال سفيان الثوري يجمعان بإقامة واحدة على حديث ابن عمر من رواية أبي إسحاق وقال أحمد أيهما فعلت أجزأك انتهى وقال النووي وقد سبق في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان احد وإقامتين وهذه الرواية متقدمة لأن مع جابر رضي الله عنه زيادة علم وزيادة الثقة مقبولة ولأن جابر اعتنى الحديث ونقل حجة النبي صلى الله عليه وسلم مستقصاة فهو أولى بالاعتماد وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي أنه يستحب الأذان للأولى منهما ويقيم لكل واحدة إقامة فيصليهما بأذان وإقامتين ويتأول حديث إقامة واحدة أن كل صلاة لها إقامة ولا بد من هذا ليجمع بين الروايات قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال حسن صحيح (قالا صلينا مع ابن عمر بالمزدلفة) قال العيني في هذه المسألة للعلماء ستة أقوال أحدها أنه يقيم لكل منهما ولا يؤذن لواحدة منهما
[ 284 ]
والثاني أنه يقيم مرة واحدة للأولى فقط ولا أذان أصلا والثالث أنه يؤذن للأولى ويقيم لكل منهما وهو الصحيح من مذهب الشافعي والحنابلة والرابع الأذان والإقامة للأولى فقط وهو قول أبي حنيفة والخامس أنه يؤذن لكل منهما ويقيم وهو قول مالك والسادس أنه لا يؤذن لواحدة منهما ولا يقيم أصلا وأصل هذه الأقوال إما الأخبار أو الآثار وأشد الاضطراب في ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه فإنه روى عنه من عمله الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة وروى عنه أيضا بإقامة واحدة وروى عنه موقوفا بأذان واحد وإقامة وروى عنه مسندا بأذان واحد وإقامة واحدة وروى عنه مسند الجمع بإقامتين انتهى والحديث سكت عنه المنذري (ثلاثا واثنتين) أي المغرب ثلاث ركعات والعشاء ركعتين قال النووي فيه دليل على أن المغرب لا يقصر بل يصلى ثلاثا أبدا وكذلك أجمع عليه المسلمون وفيه أن القصر في العشاء وغيرها من الرباعيات أفضل والله أعلم قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي
[ 285 ]
(حدثني سلمة بن كهيل) والحديث سكت عنه المنذري (فلم يكن يفتر) أي يمل ويضعف (أقام أو أمر) شك من الراوي (فقال الصلاة) أي صلوا الصلاة أو قامت الصلاة (دعا بعشائه) بفتح العين طعام العشية (قال) أي الأشعث (حديث أبي)
[ 286 ]
أي سليم قال المنذري هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة عن ابن عمر في هذا وعلاج بن عمرو ذكر البخاري أنه رأى ابن عمر وهذا يدل على أنه لم يسمع منه غير أن سليم بن الأسود وهو أبو الشعثاء قد سمع من ابن عمر وذهب أبو حنيفة وغيره إلى أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة كما جاء فيه وقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود أنه صلى الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما وروي عن مالك أنه قال يؤذن ويقيم لكل صلاة على ظاهر حديث ابن مسعود وفي حديث جابر الطويل أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين وذهب إليه أحمد وأبو ثور وغيرهما وقد أشار بعضهم إلى الجمع بين الأحاديث فقال قوله بإقامة واحدة يعني لكل صلاة دون أذان ويحتمل أن يكون بأذان كما ثبت في حديث جابر وهو حج واحد لكن لم يتعرض هنا لذكر أذان ولا نفيه فيجمع بين الروايتين على هذا ويبقي الإشكال في إثبات جابر إقامتهن ونص ابن عمر على إقامة واحدة فلعله يعني بواحدة في العشاء الآخرة يعني دون أذان فيها وبقيت الأولى بأذان وإقامة انتهى كلام المنذري
[ 287 ]
(وصلى صلاة الصبح من الغد) أي من يوم النحر (قبل وقتها) قال النووي معناه أنه صلى المغرب في وقت العشاء بجمع التي هي المزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها المعتادة ولكن بعد تحقق طلوع الفجر فقوله قبل وقتها المراد قبل وقتها المعتادة لا قبل طلوع الفجر لأن ذلك ليس بجائز بإجماع المسلمين فيتعين تأويله على ما ذكرته وقد ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث في بعض رواياته أن ابن مسعود صلى الفجر حين طلع الفجر بالمزدلفة ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الفجر هذه الساعة وفي رواية فلما طلع الفجر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم وفي هذه الرواية حجة لأبي حنيفة في استحباب الصلاة في آخر الوقت في غير هذا اليوم ومذهب الجمهور استحباب الصلاة في أول الوقت في كل الأيام ولكن في هذا اليوم أشد استحبابا وقد يحتج أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث على منع الجمع بين الصلاتين في السفر لأن ابن مسعود من ملازمي النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبره أنه ما رآه يجمع إلا في هذه الليلة ومذهب الجمور جواز الجمع في جميع الأسفار المباحة التي يجوز فيها القصر والجواب عن هذا الحديث أنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول بالمفهوم ولكن إذا عارضه منطوق قدمناه على المفهوم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع ثم هو متروك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات انتهى كلامه قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (فلما أصبح يعني النبي صلى الله عليه وسلم) أي بمزدلفة (فقال هذا قزح) بضم القاف وفتح الزاء كعمر غير منصرف للعدل والعلمية اسم لموقف الإمام بمزدلفة وتقدم تحقيقه قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرا ومطولا وقال الترمذي حسن صحيح لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه
[ 288 ]
(وقفت ههنا) أي قرب الصخرات (وعرفة كلها موقف) أي يصح الوقوف فيها إلا بطن عرنة (ووقفت ههنا) أي عند المشعر الحرام بمزدلفة وهو البناء الموجود بها ان (وجمع) أي المزدلفة (كلها موقف) أي إلا وادي محسر قيل جمع علم لمزدلفة لاجتماع الناس فيه وقيل غير ذلك (ونحرت ههنا ومنى كلها منحر) يعني كل بقعة منها يصح النحر فيها وهو متفق عليه لكن الأفضل النحر في المكان الذي نحر فيه صلى الله عليه وآله وسلم كذا قال الشافعي ومنحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد منى كذا قال ابن التين وحد منى من وادي محسر إلى العقبة (في رحالكم) المراد بالرحال المنازل قال أهل اللغة رحل الرجل منزله سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر والحديث سكت عنه المنذري (قال كل عرفة) أي أجزائها ومواضعها ووجوه جبالها (موقف) أي موضع وقوف للحج (وكل منى منحر) أي موضع نحر وذبح للهدايا المتعلقة بالحج (وكل المزدلفة موقف) أي لوقوف صبح العيد (وكل فجاج مكة) بكسر الفاء جمع فج وهو الطريق الواسع (طريق ومنحر) أي يجوز دخول مكة من جميع طرقها وإن كان الدخول من ثنية كداء أفضل ويجوز النحر في جميع نواحيها لأنها من الحرم والمقصود نفي الحرج ذكره الطيبي ويجوز ذبح جميع الهدايا في أرض الحرم بالاتفاق إلا أن منى أفضل لدماء الحج ومكة لا سيما المروة لدماء العمرة ولعل هذا وجه تخصيصهما بالذكر كذا في المرقاة والحديث سكت عنه المنذري (لا يفيضون) بضم أوله أي لا يدفعون من المزدلفة (على ثبير) بفتح المثلثة وكسر
[ 289 ]
الموحدة وسكون التحتية بعدها راء مهملة وهو جبل معروف بمكة وهو أعظم جبالها والحديث فيه مشروعية الدفع من الموقف بالمزدلفة قبل طلوع الشمس عند الإسفار وقد نقل الطبري الإجماع على أن من لم يقف فيها حتى طلعت الشمس فاته الوقوف قال ابن المنذر وكان الشافعي وجمهور أهل العلم يقولون بظاهر هذا الحديث وما ورد في معناه وكان مالك يرى أن يدفع قبل الإسفار وهو مردود بالنصوص كذا في نيل الأوطار قال المنذري وأخرجه والترمذي وابن ماجه التعجيل هو من جمع (أنا ممن قدم) أي قدمه (ليلة المزدلفة) أي إلى منى (في ضعفة أهله) بفتحتين جمع ضعيف أي من النساء والصبيان قال الطيبي يستحب تقديم الضعفة ليلا لئلا يتأذوا بالزحام انتهى والحديث أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه قاله المنذري (أغيلمة) بدل من الضمير في قدمنا قال في النيل منصوب على الاختصاص أو على الندب قال في النهاية تصغير أغلمة بسكون الغين وكسر اللام جمع غلام وهو جائز في القياس ولم يرد في جمع الغلام أغلمة وإنما ورد غلمة بكسر الغين والمراد بالأغيلمة الصبيان ولذلك صغرهم (على حمرات) بضم الحاء المهملة والميم جمع الحمر وحمر جمع لحمار (فجعل) النبي صلى الله عليه وسلم (يلطح) بفتح الياء التحتية والطاء المهملة وبعدها حاء مهملة قال الجوهري اللطح الضرب اللين على الظهر ببطن الكف انتهى أي يضرب بيده ضربا خفيفا وإنما فعل ذلك ملاطفة لهم (أفخاذنا) جمع فخذ (ويقول أبيني) بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وسكون ياء التصغير وبعدها نون مكسورة ثم ياء النسب المشددة كذا قال ابن رسلان
[ 290 ]
في شرح السنن وقال في النهاية الأبيني بوزن الأعيمي تصغيرا لأبناء بوزن أعمى هو جمع ابن (حتى تطلع الشمس) استدل بهذا من قال إن وقت رمي جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه والحسن العرني بجلي كوفي ثقة واحتج به مسلم واستشهد به البخاري غير أن حديثه عن ابن عباس منقطع وقال الإمام أحمد بن حنبل الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس شيئا انتهى والعرني عنه بضم العين المهملة وفتح الراء المهملة (يقدم ضعفاء أهله) قال محمد في الموطأ لا بأس أن يقدم الضعفة ويأمرهم ويؤكد عليهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا انتهى وقال القاري وجوزه الشافعي بعد نصف الليل وقال العيني وقد اختلف السلف في المبيت بالمزدلفة فذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور ومحمد بن إدريس في أحد قوليه إلى وجوب المبيت بها وأنه ليس بركن فمن تركه فعليه الدم وعن الشافعي أنه سنة وهو قول مالك وقال ابن خزيمة هو ركن قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه وأخرجه الترمذي من حديث مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس وقال حسن صحيح ويمكن حمل هذه الأحاديث على الاستحباب جمعا بين السنتين (عن عائشة) حديث عائشة أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي ورجاله رجال الصحيح (قبل الفجر) هذا مختص بالنساء فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت لورود الأدلة القاضية بخلاف ذلك ولكنه يجوز لمن بعث معن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن كما سيأتي في حديث أسماء وأخرج أحمد من حديث ابن عباس أن
[ 291 ]
النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر (فأفاضت) أي ذهبت لطواف الإفاضة ثم رجعت إلى منى (اليوم الذي) خبر كان أي يوم نوبتها كأنه إشارة إلى سبب استعجالها في الرمي والإفاضة (يعني) هو من تفسير أبي داود أو أحد رواته قال المنذري قال البيهقي وهذا إسناد صحيح لا غبار عليه وذكر ذلك عقيب حديث أبي داود قال الشافعي فدل على أن خروجها بعد نصف الليل وقبل الفجر لأن رميها كان قبل الفجر لأنها لا تصلى الصبح بمكة إلا وقد رمت قبل الفجر بساعة ووافق الشافعي عطاء وطاووس فقالا ترمى قبل طلوع الفجر وقال مالك وغيره ترمي بعد طلوع الفجر ولا يجوز قبل ذلك انتهى كلام المنذري (مخبر) اسم الفاعل من الإخبار (أنها رمت الجمرة) هذه جملة مجملة فسرها ذلك المخبر عن أسماء بقوله (قلت) القائل ذلك المخبر (قالت) أسماء (إنا كنا نصنع هذا) وأخرج البخاري
[ 292 ]
ومسلم من طريق عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي فصلت ساعة ثم قالت يا بني هل غاب القمر قلت لا فصلت ساعة ثم قالت يا بني هل غاب القمر قلت لا فصلت ساعة ثم قالت يا بني هل غاب القمر قلت نعم قال فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها يا هنتاه ما أرانا إلا قد غسلنا قالت يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن انتهى وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز للنساء الرمي لجمرة العقبة في النصف الأخير من الليل واستدل به بعضهم على إسقاط المرور بالمشعر عن الظعينة ولا دلالة فيه على ذلك لأن غاية ما فيه السكوت عن المرور بالمشعر وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل ثم يقدمون منى لصلاة الفجر ويرمون قاله الشوكاني قال المنذري وأخرجه النسائي وقال فيه عن عطاء أن مولى لأسماء أخبره وأخرج البخاري ومسلم معناه أتم منه من رواية عبد الله مولى أسماء عنها (بمثل حصى الخذف) أي بقدره في الصغر وتقدم تفسيره (فأوضع) أي أسرع السير بإبله يقال وضع البعير وأوضعه راكبه أي أسرع به السير (وادي محسر) اسم فاعل من
[ 293 ]
التحسير قال الأزرقي وهو خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا وإنما شرع الإسراع فيه لأن العرب كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم فاستحب الشارع مخالفتهم لو الحديث فيه دليل على مشروعية الإسراع بالمشي في وادي محسر قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه يوم الحج الأكبر إن اختلفوا فيه على خمسة أقوال قيل هو يوم النحر وقيل هو يوم عرفة وقيل هو أيام الحج كلها كقولهم يوم الجمل ويوم صفين ونحوه وقيل الأكبر القران والأصغر الإفراد وقيل هو حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه ذكره القسطلاني (قال هذا يوم الحج الأكبر) قال تعالى وأذان من الله ورسوله إلى الناس أي إعلام يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله قال البيضاوي أي يوم العيد لأن فيه تمام الحج معظم أفعاله ولأن الإعلام كان فيه ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال كذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه ابن ماجه والبخاري تعليقا
[ 294 ]
(بعثني أبو بكر) سنة تسع من الهجرة ليحج بالناس (في) جملة رهط (من يؤذن) من التأذين أو الإيذان بمعنى الإعلام (يوم النحر) ظرف لقوله بعثني (لا يحج بعد العام) أي بعد هذا العام (مشرك) قال النووي موافق لقول الله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرام كله فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال حتى لو جاء في رسالة أو أمر مهم لا يمكن من الدخول ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم (ولا يطوف بالبيت عريان) هذا إبطال لما كانت الجاهلية عليه من الطواف بالبيت عراة واستدل به أصحاب الشافعي وغيرهم على أن الطواف يشترط له ستر العورة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم وفي حديث البخاري ويوم الحج الأكبر يوم النحر وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر وذكر البخاري ومسلم أن حميد بن عبد الرحمن كان يقول يوم النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة انتهى الأشهر الحرم (إن الزمان قد استدار كهيئته) أي دار على الترتيب الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السماوات والأرض وهو أن يكون كل عام اثني عشر شهرا وكل شهر ما بين تسعة وعشرين إلى ثلاثين يوما وكانت العرب في جاهليتهم غيروا ذلك فجعلوا عاما اثني عشر شهرا وعاما ثلاثة عشر فإنهم كانوا ينسئون الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر بعده ويجعلون الشهر الذي أنسأوه إلا ملغى فتصير تلك السنة ثلاثة عشر وتتبدل أشهرها فيحلون الأشهر الحرم ويحرمون غيرها فأبطل الله تعالى ذلك وقرره على مداره الأصلي فالسنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع هي السنة التي وصل ذو الحجة إلى موضعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الزمان قد استدار يعني أمر الله تعالى أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت فاحفظوه واجعلوا الحج في هذا الوقت ولا تبدلوا شهرا بشهر كعادة أهل الجاهلية كذا في شرح المشكاة
[ 295 ]
وقال الإمام الحافظ الخطابي في المعالم معنى هذا الكلام أن العرب في الجاهلية كانت قد بدلت أشهر الحرام وقدمت وأخرت أوقاتها من أجل النسئ الذي كانوا يفعلونه وهو ما ذكر الله سبحانه في كتابه فقال إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما الآية ومعنى النسئ تأخير رجب إلى شعبان والمحرم إلى صفر وأصله مأخوذ من نسأت الشئ إذا أخرته ومنه النسيئة في البيع وكان من جملة ما يعتقدونه من الدين تعظيم هذه الأشهر الحرم وكانوا يتحرجون فيها عن القتال وسفك الدماء ويأمن بعضهم بعضا إلى أن تنصرم هذه الأشهر ويخرجوا إلى أشهر الحل فكان أكثرهم يتمسكون بذلك فلا يستحلون القتال فيها وكان قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا في شهر حرام حرموا مكانه شهرا آخر من أشهر الحل فيقولون نسأنا فيه الشهر واستمر ذلك بهم حتى اختلط ذلك عليهم وخرج حسابه من أيديهم فكانوا ربما يحجون في بعض السنن في شهر ويحجون في بعض السنن في شهر ويحجون من قابل في شهر غيره إلى كان العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصادف حجهم شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة فوقف بعرفة اليوم التاسع منه ثم خطبهم فأعلمهم أن أشهر الحج صلى قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى الأصل الذي وضع الله حساب الأشهر عليه يوم خلق السماوات والأرض وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل أو يتغير فيما يستأنف من الأيام فهذا تفسيره ومعناه انتهى كلامه (السنة اثنا عشر) جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى قاله الطيبي (منها أربعة حرم) قال تعالى فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة ويؤيد النسخ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة (ثلاث) أي ليالي (متواليات) أي متتابعات اعتبر ابتداء الشهور من الليالي فحذفت التاء قاله الطيبي (ورجب مضر) إنما أضاف الشهر إلى مضر لأنها تشدد في تحريم رجب وتحافظ على ذلك أشد من محافظة سائر العرب فأضيف الشهر إليهم بهذا المعنى (الذي بين جمادى وشعبان) فقد يحتمل أن يكون ذلك على معنى توكيد البيان كما قال في أسنان الصدقة فإذا لم يكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر ومعلوم أن ابن اللبون لا يكون إلا ذكرا ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أنهم قد كانوا نسوا رجبا وحولوه عن موضعه وسموا به بعض الشهور الأخر فنحلوه اسمه فبين لهم أن رجبا هذا الشهر الذي بين جمادي وشعبان لا ما كانوا يسمونه رجبا على حساب النسئ قاله الخطابي والحديث سكت عنه المنذري
[ 296 ]
(عن ابن أبي بكرة) إثبات واسطة ابن أبي بكرة في هذا الحديث أي حديث محمد بن يحيى بن فياض صحيح قال المزي في الأطراف حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال إن الزمان قد استدار الحديث أخرجه أبو داود في الحج عن محمد بن يحيى بن فياض عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن ابن أبي بكرة عن أبيه به ورواه إسماعيل ابن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي بكرة وسيأتي انتهى وقال المنذري محمد بن سيرين عن ابن أبي بكرة هو عبد الرحمن عن أبي بكرة انتهى وأما زيادة ابن أبي بكرة بين محمد وأبي بكرة في حديث مسدد عن إسماعيل عن أيوب عن محمد المتقدم فقد وجدت في بعض نسخ السنن دون بعض والصحيح إسقاط هذه الزيادة في حديث مسدد وهكذا بحذف إسقاط واسطة ابن أبي بكرة في تحفة الأشراف في ترجمة مسدد عن إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي بكرة وقال المنذري محمد هو ابن سيرين عن أبي بكرة هكذا في النسختين من المنذري (وسماه ابن عون) حديث ابن عون رواه البخاري في كتاب العلم عن مسدد عن بشر بن المفضل عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة وأخرجه مسلم في الديات من طريق حماد بن مسعدة عن ابن عون قاله المزي في الأطراف قال المنذري وحديث محمد بن سيرين عن ابن أبي بكرة عن أبيه أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه مختصرا ومطولا من لم يدرك عرفة (عن عبد الرحمن بن يعمر) غير منصرف وهو بفتح الياء تحتها نقطتان وفتح الميم ويضم (الديلي) بكسر الدال وسكون التحتانية (فنادى) ذلك الرجل (رسول الله) مفعول نادى (فأمر)
[ 297 ]
النبي صلى الله عليه وسلم (فنادى) المنادي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (الحج الحج يوم عرفة) قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام تقديره إدراك الحج وقوف عرفة وفي المرقاة أي ملاك الحج ومعظم أركانه وقوف عرفة لأنه يفوت بفواته (من جاء قبل صلاة الصبح) فيه رد على من زعم أن الوقوف يفوت بغروب الشمس يوم عرفة ومن زعم أن وقته يمتد إلى ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس (من ليلة جمع) أي ولو من ليلة المزدلفة وهي العيد ولفظ الترمذي الحج يوم عرفة من أدرك عرفة ليلة جمع قبل طلوع الفجر (فتم حجه) أي لم يفته وأمن من الفساد إذا لم يجامع قبل الوقوف وأما إذا فاته الوقوف حتى أدركه الفجر وجب عليه أن يتحلل بأفعال العمرة ويحرم عليه استدامة إحرامه إلى قابل كما نقل الإجماع في ذلك إلا رواية عن مالك فإن استدام إحرامه إلى قابل لم يجزئه الحج (أيام منى ثلاثة) مرفوع على الابتداء وخبره قوله ثلاثة وهي الأيام المعدودات وأيام التشريق وأيام رمي الجمار وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر وليس يوم النحر منها جماع الناس على أنه لا يجوز النفر يوم ثاني النحر ولو كان يوم النحر من الثلاث لجاز أن ينفر من شاء في ثانية قاله الشوكاني (فمن تعجل) أي استعجل بالنفر أي الخروج من منى (في يومين) أي اليومين الأخيرين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني منها بعد رمي جمارة (فلا إثم عليه) بالتعجيل (ومن تأخر) عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى بات ليلة الثالث ورمى يوم الثالث جماره وقيل المعنى ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع العامة قاله الشوكاني وسقط عنه مبيت الليلة الثالثة ورمى اليوم الثالث ولا دم عليه وتعجل جاء لازما ومتعديا وهنا لازم لمقابلة قوله ومن تأخر (فلا إثم عليه) وهو أفضل لكون العمل فيه أكمل لعملهلله وقال وقد ذكر أهل التفسير أن أهل الجاهلية كانوا فئتين إحداهما ترى المتعجل آثما وأخرى ترى المتأخر آثما فورد التنزيل بنفي الحرج عنهما ودل فعله عليه الصلاة والسلام على بيان الأفضل منهما كذا في المرقاة وقال الزرقاني في شرح الموطأ أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب الشافعي قيل إن الأيام المعدودات يوم النحر ويومان بعده وهو قول علي بن أبي طالب ويروي عن ابن عمر أيضا وهو مذهب أبي حنيفة وقال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي ابن ماجه وأخرجه الترمذي من حديث
[ 298 ]
سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري وذكر أن سفيان بن عيينة قال وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري (ابن مضرس) بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة ثم سين مهملة (بجمع) أي بالمزدلفة (من جبل طي) هما جبل سلمى وجبل أجا قاله المنذري وطئ بفتح الطاء وتشديد الياء بعدها همزة (أكللت مطيتي) أي أعييت دابتي (من حبل) بفتح الحاء المهملة وإسكان الموحدة أحد حبال الرمل وهو ما اجتمع فاستطال وارتفع قاله الجوهري (هذه الصلاة) يعني صلاة الفجر بمزدلفة قال الخطابي وظاهر قوله من أدرك معنا هذه الصلاة شرط لا يصح إلا بشهوده جمعا وقد قال به غير واحد من أعيان أهل العلم قال علقمة والشعبي والنخعي إذا فاته جمع ولم يقف به فقد فاته الحج ويجعل إحرامه عمرة وممن تابعهم على ذلك أبو عبد الرحمن الشافعي وإليه ذهب ابن خزيمة وابن جرير الطبري واحتجوا بقوله تعالى فاذكروا الله عند المشعر الحرام وهذا نص والأمر على الوجوب فتركه لا يجوز بوجه وقال أكثر الفقهاء إن فاته المبيت بالزدلفة والوقوف بها أجزأه وعليه دم انتهى كلامه (ليلا أو نهارا) تمسك بهذا أحمد بن حنبل فقال وقت الوقوف لا يختص بما بعد الزوال بل وقته ما بين طلوع الفجر يوم عرفة وطلوعه يوم العيد لأن لفظ الليل والنهار مطلقان وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد بالنهار ما بعد الزوال بدليل أنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله فكأنهم جعلوا هذا الفعل مقيدا لذلك المطلق (فقد تم حجه) فاعل تم قال الخطابي يريد به معظم الحج وهو الوقوف لأنه هو الذي يخاف عليه
[ 299 ]
الفوات فأما طواف الزيارة فلا يخشى فواته وهذا كقوله الحج عرفه أي معظم الحج هو الوقوف (وقضى) ذلك الحاج (تفثه) مفعول قضى قيل المراد به أنه أتى بما عليه من المناسك والمشهور أن التفث ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة ويدخل في ضمن ذلك نحر البدن وقضاء جميع المناسك لأنه لا يقضي التفث إلا بعد ذلك وأصل التفث الوسخ والقذر قال الخطابي في هذا الحديث من الفقه أن من وقف بعرفات وقفة بعد الزوال من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج وقال أصحاب مالك النهار تبع الليل في الوقوف فمن لم يقف بعرفة حتى تغرب الشمس فقد فاته الحج وعليه حج من قابل وروي عن الحسن أنه قال عليه هدي من الإبل وحجة تامة وقال أكثر الفقهاء من صدر يوم عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم وحجة تامة كذلك قال عطاء وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وقال مالك والشافعي فمن دفع من عرفة قبل غروب الشمس ثم رجع إليها قبل طلوع الفجر فلا شئ عليه وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا رجع بعد غروب الشمس ووقف لم يسقط عنه الدم انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح هذا آخر كلامه قال علي بن المديني عروة ابن مضرس لم يرو عنه الشعبي انتهى كلامه قلت عامر هو الشعبي وهو يقول أخبرني عروة بن المضرس فكيف يقال عروة بن مضرس لم يرو عنه الشعبي والحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والدارقطني وصححه الحاكم والدارقطني والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما كذا في الشرح النزول بمنى (ونزلهم) من التنزيل (وأشار) النبي صلى الله عليه وسلم (إلى ميمنة القبلة) أي جانب أي جانب اليمين من القبلة (إلى ميسرة القبلة) أي جانب اليسار من القبلة بحيث لو وقفت في منى موليا ظهرك إلى منى
[ 300 ]
جعلت القبلة تلقاء وجهك فأي مكان وقع جانبك اليمين فهو يمين القبلة وما كان جانبك اليسار فهو يسار القبلة (ثم لينزل الناس حولهم) أي حول المهاجرين والأنصار وهذا المعنى يفهم من لفظ الحديث لكن حديث عبد الرحمن بن معاذ الآتي في باب ما يذكر الإمام في خطبته يفسر هذا الحديث تفسيرا واضحا لا يبقى فيه خفاء فالمعنى أشار إلى ميمنة القبلة أي إلى مقدم مسجد منى وأشار إلى ميسرة القبلة أي إلى وراء مسجد منى وهذا المعنى هو المتعين والحديث سكت عنه المنذري أي يوم يخطب بمنى (عن رجلين من بني بكر) والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله رجال الصحيح (يخطب بين) أي في (أوسط أيام التشريق) هو اليوم الثاني من أيام التشريق (وهي) أي خطبته صلى الله عليه وسلم في ثاني عشر ذي الحجة (التي خطب بمنى) يوم النحر عاشر ذي الحجة فالخطبتان أنه في يوم النحر وفي ثالث النحر متحدتان في المعنى وهو تعليم أحكام المناسك وغير ذلك وسيجئ بيان أنه كم يتسحب من الخطب في الحاج في آخر أبواب الخطب (سراء) بفتح السين المهملة وتشديد الراء والمد وقيل القصر (بنت نبهان) الغنوية صحابية لها حديث واحد قاله صاحب التقريب والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقال في مجمع الزوائد رجاله ثقات (وكانت ربة بيت) أي صاحبة بيت يكون فيه الأصنام (يوم
[ 301 ]
الرؤوس) بضم الراء والهمزة بعدها وهو اليوم الثاني من أيام التشريق سمي بذلك لأنهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي قال إمام الفن جاد الله الزمخشري في أساس البلاغة أهل مكة يسمون يوم القر يوم الرؤوس لأنهم يأكلون فيه رؤوس الأضاحي انتهى وهذا من ألفاظ المجاز ولذا لم يذكره أصحاب اللغة كصاحب المصباح والقاموس واللسان وغيرهم وأما يوم القر فقال في المصباح قيل اليوم الأول من أيام التشريق يوم القر لأن الناس يقرون في منى (أي يوم هذا) سأل عنه وهو عالم به لتكون الخطبة أوقع في قلوبهم وأثبت (الله ورسوله أعلم) هذا من حسن الأدب في الجواب للأكابر والاعتراف بالجهل ولعلهم قالوا ذلك لأنهم ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه كما وقع في حديث أبي بكرة (عم أبي حرة) بضم الحاء المهملة وتشديد الراء واسم أبي حرة حنيفة وقيل حكيم (الرقاشي) بفتح الراء وتخفيف القاف وبعد الألف شين معجمة من قال خطب يوم النحر (العضباء) هي مقطوعة الأذن قال الأصمعي كل قطع في الأذن جدع فإن جاوز الربع فهي عضباء وقال أبو عبيد إن العضباء التي قطع نصف أذنها فما فوق وقال الخليل هي مشقوقة الأذن قال الحربي الحديث يدل على أن العضباء اسم لها وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها هذا (يوم الأضاحي بمنى) وهذه هي الخطبة الثالثة بعد صلاة الظهر فعلها ليعلم الناس بها المبيت والرمي في أيام التشريق وغير ذلك مما بين أيديهم كذا في نيل الأوطار قال المنذري وأخرجه النسائي
[ 302 ]
صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر) فيه دليل واضح على مشروعية الخطبة في يوم النحر والحديث سكت عنه المنذري ورجال إسناده ثقات أي وقت يخطب يوم النحر (رافع بن عمرو المزني) نسبة إلى قبيلة مزينة بضم الميم وفتح الزاي (يخطب الناس بمنى) أي أول النحر بقرينة قوله (حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء) أي بيضاء يخالطها قليل سواد ولا ينافيه حديث قدامة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء (وعلي رضي الله عنه يعبر عنه) من التعبير أي يبلغ حديثه من هو بعيد من النبي صلى الله عليه وسلم فهو رضي الله عنه وقف حيث يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم ويفهمه فيبلغه للناس ويفهمهم من غير زيادة ونقصان (والناس بين قائم وقاعد) أي بعضهم قاعدون وبعضهم قائمون وهم كثيرون حيث بلغوا مائة ألف وثلاثين ألفا كذا في المرقاة واعلم أن حديث الهرماس بن زياد وأبي أمامة وغيره يدل على مشروعية الخطبة في يوم النحر وهو يرد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج وأن هذه الأحاديث إنما هو من قبيل الوصايا العامة لا أنه خطبة من شعار الحج ووجه الرد أن الرواة سموها خطبة كما سموا التي وقعت بعرفات خطبة وقد اتفق على مشروعية الخطبة بعرفات ولا دليل على ذلك إلا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب بعرفات والقائلون بعدم مشروعية الخطبة يوم النحر هم المالكية والحنفية وقالوا خطب الحج سابع ذي الحجة
[ 303 ]
ويوم عرفة وثاني يوم النحر ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر قال وبالناس إليها حاجة ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف واستدل بالأحاديث الواردة في ذلك وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة يوم النحر ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئا من أعمال الحج وإنما ذكر وصايا عامة قال ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا مما يتعلق بالحج يوم النحر فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج وقال ابن القصار إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا فظن الذي رآه أنه خطب قال وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها بمكة أو يوم عرفة انتهى وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر وعلى تعظيم عشر ذي الحجة وعلى تعظيم بلد الحرام وقد جزم الصحابة بتسميتها خطبة فلا تلتفت إلى تأويل غيرهم وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكره يوم عرفة يعكر عليه كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر وكان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج لكن لما كان في كل يوم أعمال لسيت في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجدد الأسباب وأما قول الطحاوي إنه لم يعلمهم شيئا من أسباب التحلل فيرده ما عند البخاري من حديث عمرو بن العاص أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر وذكر فيه السؤال عن تقديم بعض المناسك كذا في النيل قال المنذري وأخرجه النسائي ما يذكر الإمام في خطبته بمنى (ونحن بمنى) أيام منى أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده والأحاديث الأخر مصرحة بيوم النحر فيحمل المطلق على المقيد ويتعين يوم النحر (ففتحت أسماعنا) بضم الفاء الثانية وكسر الفوقية بعدها أي اتسع سمع أسماعنا وقوي من قولهم قارورة فتح بضم الفاء والتاء أي واسعة الرأس قال الكسائي ليس لها صمام وغلاف وهكذا صارت أسماعهم لما سمعوا
[ 304 ]
صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من بركات صوته إذا سمعه المؤمن قوي سمعه واتسع مسلكه حتى صار يسمع الصوت من الأماكن البعيدة ويسمع الأصوات الخفية (ونحن في منازلنا) فيه دليل على أنهم لم يذهبوا لسماع الخطبة بل وقفوا في رحالهم وهم يسمعونها ولعلى هذا المكان فيمن له عذر منعه عن الحضور لاستماعها وهو اللائق بحال الصحابة رضي الله عنهم (فطفق يعلمهم) هذا انتقال من التكلم إلى الغيبة وهو أسباب من أساليب البلاغة مستحسن (حتى بلغ الجمار) يعني المكان الذي ترمى فيه الجمار والجمار هي الحصى الصغار التي يرمي به الجمرات (فوضع إصبعيه السبابتين) زاد في نسخة لأبي داود في أذنيه وإنما فعل ذلك ليكون أجمع لصوته في إسماع خطبته ولهذا كان بلال يضع إصبعيه في صماخي أذنيه في الأذان وعلى هذا وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره فوضع إصبعيه السبابتين في أذنيه حتى بلغ الجمار (ثم قال) أي رمى وفيه استعارة القول للفعل وهو كثير في السنة والمراد أنه وضع إحدى السبابتين على الأخرى ليريهم أنه يريد حصى الخذف قاله الشوكاني وقال في موضع آخر يحتمل أن يكون المراد بالقول القول النفسي كما قال تعالى ويقولون في أنفسهم ويكون المراد هنا النية للرمي قال أبو حيان وتراكيب القول الست تدل على معنى الخفة والسرعة فلهذا عبر هنا بالقول (بحصى الخذف) بالحاء المهملة والذال المعجمة ويروي بالخاء والذال المعجمتين قال الشوكاني والثاني هو الأصوب قال الجوهري في فصل الحاء المهملة حذفته بالعصا أي رميته بها وفي فصل الخاء المعجمة خذف الحصى الرمي به بالأصابع وقال الأزهري حصى الخذف صغار مثل النوى يرمى بها بين إصبعين قال الشافعي حصى الخذف أصغر من الأنملة طولا وعرضا ومنهم من قال بقدر الباقلا وقال النووي بقدر النواة وكل هذه المقادير متقاربة لأن الخذف بالمعجمتين لا يكون إلا بالصغير (في مقدم المسجد) أي مسجد الخيف الذي بمنى ولعل المراد بالمقدم الجهة (ثم نزل الناس) برفع الناس على أنه فاعل وفي نسخة من سنن أبي داود ثم نزل بتشديد الزاي كذا في النيل قال المنذري وأخرجه النسائي
[ 305 ]
يبيت بمكة ليالي منى (فبات بمنى وظل) ظل عطف على بات أي بات بمنى وظل بمنى وظل وبات من الأفعال الناقصة موضوعتان لاقتران مضمون الجملة بوقتيهما فمعنى ظل زيد سائرا كان زيد في جميع النهار سائرا فاقترن مضمون الجملة وهو سير زيد بجميع النهار مستغرقا له ومعنى بات زيد سائرا كان زيد في جميع الليل سائرا فاقترن مضمون الجملة أعنى سير زيد بجميع الليل مستغرقا له فمعنى قول ابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جميع الليل والنهار مقيما بمنى أيام منى يعني أنه لم يبت بمكة أيام منى أصلا ليلا ولا نهارا وأما نحن فلم نكن كذلك فإن منا من كان يبيت بمكة أيام منى لضرورة داعية إلى بيتوته بها مثل حفظ المال وسقاية الحج فنحن نتبايع بأموال الناس فيأتي أحدنا مكة أيام منى فيبيت هناك من أجل حفظ المال الذي كنا نتبايع به كما أن العباس رضي الله عنه يبيت بها من أجل سقايته وفقه الحديث أن للحاج رخصة في بيتوتته بمكة أيام منى إذا دعت إليها الضرورة وليست مقصورة على سقاية الحاج بل يعمها وغيرها من الضرورات كذا في الشرح وقال في فتح الودود يريد ابن عمر أن فعلكم يخالف السنة ومقتضى حديث العباس الآتي أنه لا إساءة في المعذور في ترك المبيت انتهى قال الخطابي قد اختلف أهل العلم في المبيت بمكة ليالي منى لحاجة من حفظ مال ونحوه فكان ابن عباس يقول لا بأس به إذا كان للرجل متاع بمكة يخشى عليه إن بات بمنى وقال أبو حنيفة وأصحابه لا شئ على من كان بمكة أيام منى إذا رمى الجمرة وقد أساء وقال الشافعي ليست الرخصة في هذا إلا لأهل السقاية ومن مذهبه أن في ليلة درهما وفي ليلتين درهمين وفي ليال دم وكان مالك يرى عليه في ليلة واحدة دما انتهى والحديث سكت عنه المنذري (أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته) أي التي بالمسجد الحرام المملوءة من ماء
[ 306 ]
زمزم المندوب الشرب منها عقب طواف الإفاضة وغيره إذا لم يتيسر الشرب من البئر للخلق الكثير وهي الآن بركة وكانت حياضا في يد قصي ثم منه لابنه عبد مناف ثم منه لابنه هاشم ثم منه لابنه عبد المطلب ثم منه لابنه العباس ثم منه لابنه عبد الله ثم منه لابنه علي وهكذا إلى الآن لهم نواب يقومون بها قالوا وهو لآل عباس أبدا (فأذن له) قال بعض العلماء يجوز لمن هو مشغول بالاستقاء من سقاية العباس لأجل الناس أن يترك المبيت بمنى ليالي منى ويبيت بمكة ولمن له عذر شديد أيضا فلا يجوز ترك السنة إلا بعذر ومع العذر ترتفع عنه الإساءة وأما عند الشافعي فيجب المبيت في أكثر الليل ومن الأعذار الخوف على نفس أو مال أو ضياع مريض أو حصول مرض له يشق معه المبيت مشقة لا تحتمل عادة كذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه الصلاة بمنى أي في بيان كمية الصلاة الرباعية في منى هل يصلي على حالها أو يقصر (وحديث أبي معاوية أتم) هذه مقولة أبي داود (عن الأعمش) أي يروي أبو معاوية وحفص عن الأعمش (زاد) أي مسدد (عن حفص) بن غياث (صدرا من إمارته) إنما ذكر صدرا وقيد به لأن عثمان أتم الصلاة بعد ست سنين (زاد) أي مسدد (من ههنا) أي من قوله الآتي ثم تفرقت إلى اخره (ثم تفرقت بكم الطرق) أي اختلفتم فمنكم من يقصر ومنكم من لا يقصر (فلوددت) أي فلتمنيت إذا غرضه وددت أن عثمان صلى ركعتين بدل الأربع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه يفعلونه وفيه كراهة مخالفة ما كانوا عليه كذا في عمدة القاري وقال الحافظ في فتح الباري قال الداودي خشي ابن مسعود أن لا يجزئ الأربع فاعلها وتبع عثمان كراهية لخلافه وأخبر بما يعتقده وقال
[ 307 ]
غيره يريد أنه لو صلى أربعا تكلفها فليتها تقبل كما تقبل الركعتان انتهى والذي يظهر أنه قال ذلك على سبيل التفويض إلى الله لعدم اطلاعه على الغيب وهل يقبل الله صلاته أم لا فتمنى أن يقبل منه من الأربع التي يصليها ركعتان ولو لم يقبل الزائد وهو يشعر بأن المسافر عنده مخير بين القصر والإتمام والركعتان لابد منهما ومع ذلك فكان يخاف أن لا يقبل منه شئ فحاصله أنه قال إنما أتم متابعة لعثمان وليت الله قبل مني ركعتين من الأربع قال الخطابي لو كان المسافر لا يجوز له الإتمام كما يجوز له القصر لم يتابعوا عثمان إذ لا يجوز على الملأ من الصحابة متابعته على الباطل فدل ذلك على أن من رأيهم جواز الإتمام وإن كان الاختيار عند كثير منهم القصر ألا ترى أن عبد الله أتم الصلاة بعد ذلك واعتذر بقوله الخلاف شر فلو كان الإتمام لا يجوز لكان الخلاف له خيرا من الشر إلا إنه روى عن إبراهيم أنه قال إنما صلى عثمان رضي الله عنه أربعا لأنه كان اتخذها وطنا وعن الزهري أنه قال إنما فعل ذلك لأنه اتخذ الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها وكان من مذهب ابن عباس رضي الله عنه أن المسافر إذا قدم على أهل أو ماشية أتم الصلاة وقال أحمد بن حنبل بمثل قول ابن عباس انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي مختصرا ومطولا وليس في حديثهم ما ذكره ابن قرة عن ابن مسعود (لأنه أجمع) أي أجمع عزيمته وصمم قصده على الإقامة بعد الحج قال المنذري هذا منقطع الزهري لم يدرك عثمان رضي الله عنه
[ 308 ]
(عن إبراهيم) قال المنذري هذا أيضا منقطع (ثم أخذ به) أي بالإتمام دون القصر (عامئذ) أي في تلك السنة قال المنذري والظاهر أن هذا كله إنما هو تأويل لفعل عثمان رضي الله عنه وقد فقال جميعه . القصر لأهل مكة (أكثر ما كانوا) ما مصدرية ومعناه الجمع أي أكثر أكوانهم لأن ما أضيف إليه أفعل يكون جمعا والمعنى صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين والحال أن الناس كان أكوانهم في ذلك الوقت أكثر من أكوانهم في سائر الأوقات يعني أن الناس كانوا في ذلك الوقت أكثر مما كانوا في سائر الأوقات ففي رواية مسلم والناس أكثر مما كانوا وفقه الحديث أن القصر ليس
[ 309 ]
مختصا بالخوف فإن ذلك الوقت كان وقت أمن ومع ذلك قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصرنا معه فدل على أن القصر ليس بمختص بالخوف وفي حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه النسائي خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله يصلي ركعتين كذا في الشرح قال الخطابي ليس في قوله صلى بنا ركعتين دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسافرا بمنى فصلى صلاة المسافر ولعله لو سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاته لأمره بالإتمام وقد يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان بعض المأمور في بعض المواطن اقتصارا على ما تقدم من البيان السابق خصوصا في مثل هذا الأمر الذي هو من العلم الظاهر العام وكان عمر بن الخطاب يصلي بهم فيقصر فإذا سلم التفت إليهم وقال أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي يقصر الإمام والمسافر معه ويقوم أهل مكة فيتمون لأنفسهم وإليه ذهب سفيان الثوري وأحمد بن حنبل وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقد روي ذلك عن عطاء ومجاهد والزهري وذهب مالك والأوزاعي وإسحاق إلى أن الإمام إذا قصر قصروا معه وسواء في ذلك أهل مكة وغيرهم انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي بنحوه في رمي الجمار (عن أمه) هي أم جندب الأزدية كما سيجئ (من بطن الوادي) هو مسيل الماء قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون أن يرمي الرجل من بطن الوادي وقد رخص بعض أهل العلم إن لم يمكنه أن يرمي من بطن الوادي رمى من حيث قدر عليه وإن لم يكن في بطن الوادي قال محمد في الموطأ هو أفضل ومن حيث ما رمى فهو جائز وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقول العامة (لا يقتل بعضكم بعضا) أي بالزحام وبالرمي بالحصى الكبيرة قال المنذري وأخرجه ابن ماجه بنحوه وأم سليمان هي أم جندب الأزدية جاء ذلك مبينا في
[ 310 ]
بعض طرقه وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وقد تقدم الكلام عليه (بين أصابعه حجرا) أي حصى كما يدل عليه قوله بين أصابعه (ولم يقم عندها) أي عند جمرة العقبة يوم النحر وأما بعد يوم النحر ففيه حديث عائشة أنه كان يقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام كما سيجئ (عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار) قال المنذري في إسناده عبد الله ابن عمر بن حفص العمري وفيه مقال وقد أخرج له مسلم مقرونا بأخيه عبيدالله (يرمي على راحلته يوم النحر) قال الشافعي يستحب لمن وصل منى راكبا أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا ومن وصلها ماشيا أن يرميها ماشيا وفي اليومين الأولين من التشريق يرمي جميع الجمرات ماشيا وفي اليوم الثالث راكبا وقال أحمد وإسحاق يستحب يوم النحر أن يرمي ماشيا ذكره الطيبي (لتأخذوا) بكسر اللام قال النووي هي لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم قال وهكذا وقع في رواية غير مسلم وتقدير الحديث أن هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته والمعنى اقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس (قال لا أدري) ولفظ مسلم فإني لا أدري (لعلي لا أحج بعد حجتي) بفتح الحاء مصدر (هذه) التي في تلك السنة الحاضرة وفيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم ولهذا سميت حجة الوداع وروى البيهقي وابن عبد البر أنه صلى الله عليه وسلم رمى أيام التشريق ماشيا قال البيهقي فإن صح هذا
[ 311 ]
كان أولى بالاتباع وقال غيره قد صححه الترمذي قال ابن عبد البر وفعله جماعة من الخلفاء بعده وعليه العمل وحسبك ما رواه القاسم بن محمد من فعل الناس ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة راكبا ورمى الجمار ماشيا وذلك محفوظ من حديث جابر انتهى قلت ويستثنى منه رمي جمرة العقبة في أول أيام النحر وحديث جابر هذا ليس في رواية اللؤلؤي ولذا لم يذكره المنذري قال المزي هذا الحديث في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم قلت وأخرجه مسلم والنسائي والله أعلم (ضحى) أي قبل الزوال قال الشوكاني لا خلاف أن هذا الوقت هو الأحسن لرميها واختلف فيمن رماها قبل الفجر فقال الشافعي يجوز تقديمه من نصف الليل وبه قال عطاء وطاووس وقالت الحنفية وأحمد وإسحاق والجمهور إنه لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس ومن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز وإن رماها قبل الفجر أعاد قال ابن المنذر السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر لأن فاعله مخالف للسنة ومن رماها حينئذ فلا إعادة عليه إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه انتهى والأدلة تدل على أن وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز له قبل ذلك ولكنه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعا واعلم أن قد قيل إن الرمي واجب بالإجماع كما حكى ذلك بعض واقتصر صاحب الفتح على حكاية الوجوب عن الجمهور وقال إنه عند المالكية سنة وحكى ابن جرير عن عائشة وغيرها أن الرمي إنما شرع حفظا للتكبير فإن تركه وكبر أجزأه والحق أنه واجب لأن أفعاله صلى الله عليه وآهله أي وسلم بيان لمجمل واجب وهو قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وقوله صلى الله عليه وآله وسلم خذوا عني مناسككم قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه (عن وبرة) بفتحات وقيل بسكون الموحدة هو ابن عبد الرحمن تابعي (قال سألت ابن عمر متى أرمي الجمار) أي في اليوم الثاني وما بعده (قال إذا رمي إمامك) أي اقتد في الرمير
[ 312 ]
بمن هو أعلم منك بوقت الرمي قاله الطيبي رحمه الله ويؤيده ما قال بعضهم من تبع عالما لقى الله سالما وأما قول ابن حجر المكي أي الإمام الأعظم إن حضر الحج وإلا فأمير الحج ففيه أنهم لا يجوز الاقتداء بهم في زماننا (فارم) تقديره ارم موضع الجمرة أو ارم الرمي أو الحصى (فأعدت عليه المسألة) أردت تحقيق وقت رمي الجمرة (فقال كنا نتحين) أي نطلب الحين والوقت أي بعد يوم النحر قال الطيبي أي ننتظر دخول وقت الرمي (فإذا زالت الشمس رمينا) بلا ضمير أي الجمرة وفي رواية ابن ماجه تصريح بأنه بعد صلاة الظهر كذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه البخاري (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه) أي طاف للزيارة في آخر يوم النحر وهو أول أيام النحر (حين صلى الظهر) فيه دلالة على أنه صلى الظهر بمنى ثم أفاض وتقدم الكلام فيه (فمكث بها) أي بمنى (ليالي أيام التشريق) هذا من جملة ما استدل به الجمهور على أن المبيت بمنى واجب وأنه من جملة مناسك الحج وقد اختلف في وجوب الدم لتركه وتقدم الكلام فيه (يكبر مع كل حصاة) حكى الماوردي عن الشافعي أن صفته الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد (ويقف عند الأولى الخ) فيه استحباب الوقوف عند الجمرة الأولى والثانية وهي الوسطى والتضرع عندها وترك القيام عند الثالثة وهي جمرة العقبة قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار وقد تقدم الكلام عليه
[ 313 ]
(عن ابن مسعود قال لما انتهى) أي وصل (إلى الجمرة الكبرى) أي العقبة ووهم الطيبي فقال أي الجمرة التي عند مسجد الخيف (جعل البيت) أي الكعبة (عن يساره) فيه أنه يستحب لمن وقف عند الجمرة أن يجعل مكة عن يساره (ومنى عن يمينه) فيه أنه يستحب أن يجعل منى على جهة يمينه ويستقبل الجمرة بوجهه (ورمى الجمرة بسبع حصيات) فيه دليل على أن رمي الجمرة يكون بسبع حصيات وهو يرد قول ابن عمر ما أبالي رميت الجمرة بست أو بسبع وروي عن مجاهد أنه لا شئ على من رمى بست وعن طاووس يتصدق بشئ وعن مالك والأوزاعي من رمى أقل من سبع وفاته التدارك يجبره بدم وعن الشافعي في ترك حصاة مد وفي ترك حصاتين مدان وفي ثلاثة فأكثر دم وعن الحنفية إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع وإلا فدم (أنزلت عليه سورة البقرة) خصها بالذكر لأن معظم أحكام الحج فيها قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرا
[ 314 ]
(عن أبي البداح) بفتح الموحدة فتشديد الدال وبالحاء المهملتين ابن عاصم (عن أبيه) أي عاصم بن عدي قال الطيبي رحمه الله الصحيح أن أبا البداح صحابي يروي عن أبيه قال ابن عبد البر وقد اختلف في صحبته فقيل له إدراك وقيل إن الصحبة لأبيه وليست له صحبة والصحيح أنه صحابي (رخص لرعاء الإبل) بكسر الراء والمد جمع راع لرعاتها (في البيتوتة) أي في تركها (يرمون) أي جمرة العقبة (يوم النحر) أي يوم العيد وهو العاشر من ذي الحجة (ثم يرمون الغد) من يوم النحر وهو اليوم الحادي عشر وأول أيام التشريق (ومن بعد الغد) وهو اليوم الثاني عشر (بيومين) أي ليومين متعلق ليرمون فظاهر الحديث أنهم يرمون بعد يوم النحر وهو اليوم الحادي عشر لذلك اليوم باليوم الآتي وهو الثاني عشر ويجمعون بين رمي يومين بتقديم الرمي على يومه وفي الترمذي والنسائي وغيرهما من هذا الوجه بلفظ رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرموه في أحدهما (ويرمون يوم النفر) أي الانصراف من منى وهذا الظاهر خلاف ما فسره مالك لهذا الحديث فقال في الموطأ والزرقاني في شرحه قال مالك تفسير الحديث فيما نرى والله أعلم أنهم يرمون يوم النحر جمرة العقبة ثم ينصرفون لرعيهم فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر وهو ثانيه أتوا اليوم الثالث رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول لمن تعجل في يومين فيرمون لليوم الذي مضى أي ثاني النحر ثم يرمون ليومهم ذلك الحاضر ثالث النحر ويدل لفهم مالك الإمام رواية سفيان الآتية بلفظ رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما قال مالك فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا لأنهم تعجلوا في يومين وإن أقاموا بمنى إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر بكسر الخاء ونفروا وهكذا قاله مالك والزرقاني في شرحه وقال الخطابي أراد بيوم النفر ههنا النفر الكبير وهذا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم للرعاء لأنهم مضطرون إلى حفظ أموالهم فلو أنهم أخذوا بالمقام والمبيت بمنى ضاعت أموالهم وليس حكم غيرهم كحكمهم وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمى فيه فقال مالك يرمون يوم النحر فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول
[ 315 ]
يرمون لليوم الذي مضى ويرمون ليومهم ذلك وذلك لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه وقال الشافعي نحوا من قول مالك وقال بعضهم هم بالخيار إن شاؤوا قدموا وإن شاؤوا أخروا انتهى قلت النفر الآخر والنفر الكبير هو نفر اليوم الرابع إن لم يتعجلوا كذا في الشرح قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح (عن أبي البداح بن عدي) قال الحافظ في التلخيص قال الحاكم من قال عن أبي البداح بن عدي فقد نسبه إلى جده انتهى (رخص للرعاء أن يرموا) قال المنذري وأخرجه الترمذي وذكر الأول أصح (عن شئ من أمر الجمار) أي عن عدد الحصى التي يرمي بها الجمار (فقال) ابن عباس (ما أدرى) قلت قد ثبت من حديث عبد الله بن مسعود عند الشيخين وابن عمر عند البخاري وجابر بن عبد الله عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات فهو أولى بالأخذ وأما ابن عباس فتردد وشك فيه فلا يؤخذ به كذا في الشرح قال المنذري وأخرجه النسائي (إذا رمى أحدكم الخ) وعند أحمد في مسنده من هذا الوجه إذا رميتم وحلفتم فقد حل لكم الطيب وكل شئ إلا النساء وهو يدل على أنه بمجموع الأمرين رمي جمرة العقبة والحلق يحل كل محرم على المحرم إلا النساء فلا يحل وطئهن إلا بعد طواف الإفاضة والظاهر أنه مجمع على حل الطيب وغيره إلا الوطء بعد الرمي وإن لم يحلق كذا في سبل السلام وعند أحمد أيضا من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل
[ 316 ]
شئ إلا النساء قال في البدر المنير إسناده حسن قال الشوكاني واستدل به الحنفية والشافعية على أنه يحل بالرمي لجمرة العقبة كل محظور من محظورات الإحرام إلا الوطء للنساء فإنه لا يحل به بالإجماع انتهى قال المنذري والحجاج هذا هو ابن أرطاة قد ذكر غير واحد من الحفاظ أنه لا يحتج بحديثه وذكر عباد بن العوام ويحيى وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان أن الحجاج لم يسمع من الزهري شيئا وذكر عن الحجاج نفسه أنه لم يسمع منه شيئا الحلق والتقصير (قال اللهم ارحم المحلقين) وفيه دليل على الترحم على الحي وعدم اختصاصه بالميت (والمقصرين) هو عطف على محذوف تقديره قل والمقصرين ويسمى عطف التلقين والحديث يدل على أن الحلق أفضل من التقصير لتكريره صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء للمحلقين وترك الدعاء للمقصرين في المرة الأولى والثانية مع سؤالهم له ذلك وظاهر صيغة المحلقين أنه يشرع حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة إذ لا يقال لمن حلق بعض رأسه إنه حلق إلا مجازا وقال قال بوجوب حلق الجميع أحمد ومالك واستحبه الكوفيون والشافعي ويجزئ البعض عندهم واختلفوا في مقداره فعن الحنفية الربع إلا أن أبا يوسف قال النصف وعن الشافعي أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات وهكذا الخلاف في التقصير وقد اختلف أهل العلم في الحلق هل هو نسك أو تحليل محظور فذهب إلى الأول الجمهور وإلى الثاني عطاء وأبو يوسف ورواية عن أحمد وبعض المالكية وقد أطال صاحب الفتح الكلام على هذا الحديث فمن أحب الإحاطة بجميع ذيوله فليرجع إليه قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم
[ 317 ]
(حلق رأسه) بتشديد اللام وتخفيفها أي أمر بحلقه اختلفوا في اسم هذا الرجل الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فالصحيح المشهور أنه معمر بن عبد الله العدوي لما في صحيح البخاري قال زعموا أنه معمر بن عبد الله قال في المرقاة في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قصر في عمرة القضاء وقد قال تعالى محلقين رؤوسكم ومقصرين فدل على جواز كل منهما إلا أن الحلق أفضل بلا خلاف والظاهر وجوب استيعاب الرأس وبه قال مالك وغيره وحكى النووي الإجماع عليه والمراد به إجماع الصحابة أو السلف رحمهم الله ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه الكرام الاكتفاء ببعض شعر الرأس وأما القياس على مسح الرأس فغير صحيح للفرق بينهما ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام قط أنهم اكتفوا بحلق بعض الرأس أو تقصيره بل ورد النهي عن القزعة حتى للصغار وهي حلق بعض الرأس وتخلية بعضه فالظاهر أنه لا يخرج من الإحرام إلا بالاستيعاب كما قال به مالك قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم (ثم رجع إلى منزله بمنى) وهو الآن يسمى مسجد الحنيف قال ابن حجر المكي هو ما بين مسجد الحنيف ومحل نحره المشهور على يمين الذاهب إلى عرفة (فدعا بذبح) بكسر أوله ما يذبح من الغنم (ثم دعا بالحلاق) هو معمر بن عبد الله العدوي وقيل غيره (فأخذ بشق رأسه الأيمن) قال الطيبي دل على أن المستحب الابتداء بالأيمن وذهب بعضهم إلى أن المستحب الأيسر أي ليكون أيمن الحالق (الشعرة) بفتح الشين (ثم قال ههنا) بحذف حرف الاستفهام (أبو طلحة) الأنصاري (فدفعه) أي النصف (إلى أبي طلحة) قال الشوكاني فيه مشروعية التبرك بشعر أهل الفضل ونحوه وفيه دليل على طهارة شعر الآدمي وبه قال الجمهور قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي
[ 318 ]
(قال للحالق) قد وجد هذا الحديث في النسختين قال المزي حديث عبيد بن هشام الحلبي وعمرو بن عثمان الحمصي في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم ولم يوجد هذا الحديث في بعض النسخ الموجودة وكذا ليس في مختصر المنذري كذا في الشرح (كان يسأل) بصيغة المجهول (يوم منى) أي عن تقديم بعض الأفعال وتأخيرها (فيقول لا حرج) قال الطيبي أفعال يوم النحر أربعة رمي جمرة العقبة ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الإفاضة فقيل هذا الترتيب سنة وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق لهذا الحديث فلا يتعلق بتركه دم وقال ابن جبير إنه واجب وإليه ذهب جماعة من العلماء وبه قال أبو حنيفة ومالك وأولوا قوله ولا حرج على دفع الإثم لجهله دون الفدية انتهى قلت الحديث يدل على جواز تقديم بعض الأمور المذكورة فيها على بعض وهو إجماع كما قال ابن قدامة في المغني قال في الفتح إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع انتهى وقد ذهب إلى إيجاب الدم بعض الأئمة كما تقدم وذهب أكثر العلماء من الفقهاء والمحدثين إلى الجواز وعدم وجوب الدم قالوا لأن قوله صلى الله عليه وسلم ولا حرج يقتضي رفع الإثم والفدية معا لأن المراد بنفي الحرج نفي الضيق وإيجاب أحدهما فيه ضيق وأيضا لو كان الدم واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز قاله الشوكاني في النيل وأطال فيه الكلام (إني أمسيت) المساء خلاف الصباح قال أهل اللغة المساء ما بين الظهر إلى المغرب والمعنى أني دخلت في المساء ولم أرم وكان علي الرمي قبل الزوال قال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي
[ 319 ]
(ليس على النساء الحلق) أي لا يجب عليهن الحلق في التحلل إنما على النساء التقصير أي إنما الواجب عليهن التقصير بخلاف الرجال فإنه يجب عليهم أحدهما والحلق أفضل كذا في المرقاة وفي النيل فيه دليل على أن المشروع في حقهن التقصير وقد حكى الحافظ الإجماع على ذلك قال جمهور الشافعية فإن حلقت أجزأها قال القاضي أبو الطيب والقاضي حسين لا يجوز وقد أخرج الترمذي من حديث علي رضي الله عنه نهى أن تحلق المرأة رأسها وحديث ابن عباس سكت عنه المنذري وأخرجه الدارقطني والطبراني وقد قوى إسناده البخاري في التاريخ وأبو حاتم في العلل وحسنه الحافظ وأعله ابن القطان ورد عليه ابن المواق فأصاب قاله الشوكاني العمرة هي في اللغة بمعنى الزيارة وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة هي الطواف والسعي دون الوقوف بعرفة ودون المبيت بمزدلفة (عن ابن جريج عن عكرمة) وأخرجه ابن خزيمة من طريق محمد ابن بكر عن ابن جريج قال قال عكرمة بن خالد وفي صحيح البخاري من طريق ابن جريج أن عكرمة بن خالد سأل ابن عمر عن العمرة قبل الحج فقال لا بأس قال عكرمة قال ابن عمر اعتمر النبي قبل أن يحج قال البخاري وقال إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق حدثني عكرمة بن خالد قال سألت ابن عمر مثله وعند أحمد في مسنده
[ 320 ]
من طريق يعقوب بن إبراهيم عن ابن إسحاق حدثنا عكرمة بن خالد قال قدمت المدينة في نفر من أهل مكة فلقيت عبد الله بن عمر فقلت إنا لم نحج قط أفنعتمر من المدينة قال نعم وما يمنعكم من ذلك فقد اعتمر رسول الله عمره كلها قبل حجه قال فاعتمرنا كذا في فتح الباري (ليقطع) وليبطل (بذلك) أي باعتمارها في ذي الحجة (أمر أهل الشرك) الذين يرون أن العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا وهذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة من غير أصل (ومن دان دينهم) أي تعبد بدينهم وتدين به (إذا عفا) أي كثر يقال عفى القوم إذا كثر عددهم ومنه قوله تعالى حتى عفوا (الوبر) بفتح الواو والباء أي وبر الإبل الذي حلق بالرحال ولفظ الشيخين يقولون إذا عفا الأثر أي اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها ويحتمل أثر الدبر (وبرأ الدبر) بفتح المهملة والموحدة أي ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقة السفر فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج كذا في الفتح قال النووي وهذه الألفاظ تقرأ ساكنة الراء رادة السجع قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم طرفا منه ولم يخرجا قصة عائشة في العمرة وحديث أبي داود في إسناده محمد بن إسحاق وتقدم الكلام عليه (أخبرني رسول مروان الذي) صفة رسول (أرسل) بصيغة المجهول (إلى أم معقل) والمرسل بكسر السين هو مروان ويحتمل أن يكون لفظ الذي صفة مروان ولفظ أرسل بصيغة المعلوم وفاعله مروان وهذا احتمال قوي وتؤيده رواية ابن مندة من طريق أبي عوانة وفيها الذي أرسله إلى أم معقل (فلما قدم) أبو معقل (قالت أم معقل) لزوجها أبي معقل (قد علمت) بصيغة الخطاب (أن علي حجة) أي بإرادة حج لي كانت مع رسول الله لكن ما قدر لي
[ 321 ]
الحج مع النبي وفاتني وحصل لي الحزن والتأسف على فوت المعية التي كانت باعثة لكثرة الثواب وتؤيده رواية النسائي ولفظه أن أم معقل جعلت عليها حجة معك وعند ابن مندة أيضا جعلت على نفسها حجة معك فلم يتيسر لها ذلك وليس المراد أن علي حجة فرضا أو نذرا فلا يدل الحديث على إجزاء العمرة في رمضان عن الحج وأنه يسقط بها الفرض عن الذمة بل المراد أن ثواب العمرة في رمضان كثواب الحج مع رسول الله وهذا التأويل هو المتعين ولا شك أن رواة هذا الحديث لم يتقنوا ألفاظ الحديث ولم يحفظوها بل اختلطوا وغيروا الألفاظ واضطربوا في الإسناد وفيه ضعيف ومجهول (حتى دخلا عليه) أي على النبي (إن علي حجة) تقدم تأويله (بكرا) بالفتح الفتى من الإبل (صدقت) زوجتي أم معقل (جعلته) البكر (في سبيل الله) أي الغزو والجهاد (عليه) أي على البكر (فإنه) الحج (في سبيل الله) كما أن الجهاد في سبيل الله قال الخطابي فيه من الفقه جواز إحباس الحيوان وفيه أنه جعل الحج من السبيل وقد اختلف الناس في ذلك فكان ابن عباس لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في الحج وروي مثل ذلك عن ابن عمر وكان أحمد بن حنبل وإسحاق يقولان يعطي من ذلك الحج وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري والشافعي لا تصرف الزكاة إلى الحج وسهم السبيل عندهم الغزاة والمجاهدون انتهى وقال المنذري قال الترمذي وحديث أم معقل حسن غريب من هذا الوجه انتهى وقد روي من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي معقل وهو الأسدي ويقال الأنصاري وحديث أم معقل في إسناده رجل مجهول وفي إسناده أيضا إبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي وتكلم فيه غير واحد وقد اختلف على أبي بكر بن عبد الرحمن فيه فروى فيه عنه كما ههنا وروى عنه عن أم معقل بغير واسطة وروى عنه عن أبي معقل كما ذكرنا وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس قال قال رسول الله لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها ما منعك أن تحجي معنا قلت لم يكن لنا إلا ناضحان فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحا ننضح عليه قال فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة ولفظ البخاري فإن عمرة في رمضان حجة أو نحوا مما قال وسماها في رواية مسلم أم
[ 322 ]
سنان وفيه قال جعله في سبيل الله فقال رسول الله أعطها فلتحج عليه فعمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي انتهى كلام المنذري (إني امرأة قد كبرت) من باب سمع أي من طول عمري (وسقمت) الآن فما أدري متى أحج (فهل من عمل يجزئ) أي يكفي (عني من حجتي) معك (تجزئ حجة) معي (الأسدي أسد خزيمة) الأسدي منسوب إلى أسد والأسد كثيرون لكن أم معقل هي منسوبة إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر أبي قبيلة عظيمة من مضر الحمراء قاله في تاج العروس (فجعله أبو معقل في سبيل الله) ولم يكن لي غير هذا الجمل فكان هذا هو السبب لفوت حجتي مع رسول الله (وأصابنا مرض) بعد ذلك (وهلك أبو معقل) بعد رجوعه مع النبي وليس المراد أنه مات قبل خروجه إلى الحج فالعبارة فيها تقديم وتأخير ولفظ البخاري قالت لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه وترك ناضحا ننضح عليه وفي لفظ لمسلم قالت ناضحان كانا لأبي فلان زوجها حج هو وابنه على أحدهما وكان الآخر يسقي عليه غلامنا (فلما فرغ) النبي (من حجه) ودخل المدينة (جئته) أي أنا إلى رسول الله (فقال) لي النبي (لقد تهيأنا) للخروج معك فلم نقدر على الخروج وخرج أبو معقل معك (فهلك أبو معقل) بعد الحج (فأوصى به) أي جعله في سبيل الله (فهلا خرجت عليه) أي على ذلك الجمل المعد في سبيل الله (فإنها) العمرة في رمضان (كحجة) معي أي في الثواب
[ 323 ]
(فكانت تقول) أم معقل (الحج حجة والعمرة عمرة) تعني ما هما واحدة في المنزلة فكيف جعل النبي عمرة رمضان كحجة (و) لاشك (قد قال هذا) القول أي العمرة في رمضان تعدل حجة (فما أدري ألي خاصة) أو لجميع الأمة عامة قال الحافظ في الفتح قال ابن خزيمة في هذا الحديث إن الشئ يشبه بالشئ ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها لأن العمرة لا يقضي بها فرض الحج ولا النذر وقال ابن بطال وفيه دليل على أن الحج الذي ندبها إليه كان تطوعا جماع الأمة على أن العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض ونقل الترمذي عن إسحاق بن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرن وقال ابن العربي حديث العمرة صحيح وهو من فضل الله ونعمته فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها وقال ابن الجوزي فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد وقال غيره يحتمل أن يكون المراد عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة وعمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة ويحتمل أن يكون لبركة رمضان ويحتمل أن يكون مخصوصا بهذه المرأة قال الحافظ الثالث قال به بعض المتقدمين كسعيد بن جبير فإنه قال ولا تعلم هذا إلا لهذه المرأة وحدها وهكذا وقع عند أبي داود من قول أم معقل والظاهر حمله على العموم انتهى قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق وقال النمري أم طليق لها صحبة حديثها مرفوع عمرة في رمضان تعدل حجة فيها نظر وقال أيضا أم معقل الأنصارية وهي أم طليق لها كنيتان انتهى قال الحافظ وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق لها كنيتان فيه نظر لأن أبا معقل مات في عهد النبي وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب وهو من صغار التابعين فدل على تغاير المرأتين انتهى قلت لحديث أم معقل طرق وأسانيد ولا يخلو من الاضطراب في المتن والإسناد وقد
[ 324 ]
ساق بعض أسانيد الحافظ في الإصابة في ترجمة أبي معقل ولأجل دفع الاضطراب ورفع التناقض قد أولت في تفسير بعض الألفاظ كما عرفت والحديث الصحيح في هذا الباب ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس كذا في الشرح (فأتى) الرجل (رسول الله) بعد ما رجع رسول الله من حجته (إنها سألتني الحج معك) قبل أن تخرج (ذاك) الجمل (حبيس) أي وقف (قال) النبي (أما) بفتح الهمزة وفتح الميم المخففة حرف التنبيه (وإنها أمرتني) عطف على أنها سألتني قال الحافظ في الفتح والذي يظهر لي أن حديث ابن عباس عند الشيخين في قصة امرأة من الأنصار وأن حديث أم معقل عند أهل السنن أنهما قصتان وقعتا لامرأتين ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه أخرجها أبو علي بن السكن وابن منده والدولابي في الكنى من طريق طلق بن حبيب أن أبا طليق حدثه أن امرأته قالت له وله جمل وناقة أعطني جملك أحج عليه قال جملي حبيس في سبيل الله قالت إنه في سبيل الله أن أحج عليه فذكر الحديث وفيه فقال رسول الله صدقت أم طليق وفيه ما يعدل الحج قال عمرة في رمضان وفي القصة التي في حديث ابن عباس من التغاير للقصة التي في حديث غيره ولقوله في حديث ابن عباس إنها أنصارية وأما أم معقل فإنها أسدية انتهى وقد أخرج النسائي نحوه مختصرا من رواية أبي معقل عن رسول الله وفيه ذكر العمرة في رمضان وأخرجه ابن ماجه مختصرا قال رسول الله عمرة في رمضان تعدل حجة انتهى
[ 325 ]
(اعتمر عمرتين) وروى سعيد بن منصور عن الدراوردي عن هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي اعتمر ثلاث عمر عمرتين في ذي القعدة وعمرة في شوال قال الحافظ إسناده قوي وقد رواه مالك عن هشام عن أبيه مرسلا لكن قولها في شوال مغاير لقول غيرها في ذي القعدة ويجمع بينهما بأن يكون وقع في خر شوال وأول ذي القعدة ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن مجاهد عن عائشة لم يعتمر رسول الله إلا في ذي القعدة انتهى وقال الحافظ ابن القيم وظن بعض الناس أن النبي اعتمر في سنة مرتين واحتج بما أخرجه أبو داود عن عائشة قالوا وليس المراد بها ذكر مجموع ما اعتمره فإن أنسا وعائشة وابن عباس وغيرهم قد قالوا إنه اعتمر أربع عمر فعلم أن مرادها به أنه اعتمر في سنة مرتين مرة في ذي القعدة
[ 326 ]
ومرة في شوال قال ابن القيم وهذا الحديث وهم وإن كان محفوظا عنها فإن هذا لم يقع قط فإنه اعتمر أربع عمر بلا ريب العمرة الأولى كانت في ذي القعدة عمرة الحديبية ثم لم يعتمر إلا في العام القابل عمرة القضية في ذي القعدة ثم رجع إلى المدينة ولم يخرج إلى مكة حتى فتحها سنة ثمان في رمضان ولم يعتمر ذلك العام ثم خرج إلى حنين وهزم الله أعداؤه فرجع إلى مكة وأحرم بعمرة وكان ذلك في ذي القعدة كما قال أنس وابن عباس فمتى اعتمر في شوال ولكن لقي العدو في شوال وخرج فيه من مكة وقضى عمرته لما فرغ من أمر العدو في ذي القعدة ليلا ولم يجمع ذلك العام بين عمرتين ولا قبله ولا بعده انتهى قال ابن القيم وقولها اعتمر في شوال إن كان هذا محفوظا فلعله في عمرة الجعرانة حين خرج في شوال ولكن إنما أحرم بها في ذي القعدة وكذا له شيخ مشائخنا محمد إسحاق المحدث الدهلوي فقال قولها عمرة في شوال هذه إشارة إلى عمرة الجعرانة التي وقعت في ذي القعدة لكن لما كان خروجه إلى حنين في شوال وكان بعد رجوعه من حنين وقوع هذه العمرة في هذه السنة في هذا السفر نسبتها إلى شوال وإن كانت في ذي القعدة انتهى والحديث سكت عنه المنذري (مرتين) يشبه أن يكون ابن عمر لم يعد العمرة التي قرنها النبي بحجته ولم يعد أيضا عمرة الحديبية التي صد عنها (لقد علم ابن عمر) كأنها نسبته إلى نسيانه بعد علمه بأنها كانت
[ 327 ]
أربع عمر وقد روى مجاهد وعروة بن الزبير عن عبد الله بن عمر أنه قال اعتمر النبي أربع كما عند البخاري وغيره (قد اعتمر ثلاثا) عمرة الحديبية سنة ست والعمرة في العام المقبل وعمرة الجعرانة (سوى التي قرنها بحجة الوداع) وهي الرابعة وكانت سنة عشر مع حجة الوداع قال المنذري وأخرجه النسائي وأخرجه ابن ماجه مختصرا بنحوه (أربع عمر) بضم العين وفتح الميم جمع عمرة هو مفعول اعتمر (عمرة الحديبية) بتخفيف الياء وتشديدها قيل هي اسم بئر وقيل شجرة وقيل قرية قريب من مكة أكثرها في الحرم وهي على تسعة أميال من مكة ذهب رسول الله معتمرا إلى هذا الموضع فاجتمع قريش وصدوه من دخول مكة فصالحهم ورجع على أن يأتي العام المقبل ولم يعتمر ولكن عدوها من العمر لترتب أحكامها من إرسال الهدي والخروج عن الإحرام فنحر وحلق وكانت في ذي القعدة (والثانية) بالنصب عطف على عمرة الحديبية أي العمرة الثانية (حين تواطؤوا على عمرة من قابل) أي توافقوا وصالحوا في الحديبية على أداء العمرة في السنة القابلة وهي أيضا في ذي القعدة سنة سبع (والثالثة من الجعرانة) فيها لغتان إحداهما بكسر الجيم وسكون العين المهملة وفتح الراء مخففة وبعد الألف نون والثانية بكسر العين وتشديد الراء وهي ما بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب فهي في ذي القعدة أيضا سنة ثمان وهي بعد الفتح (والرابعة التي قرن مع حجته) هي في سنة عشر وكانت أفعالها في ذي الحجة بلا خلاف وأما إحرامها فالصحيح أنه كان في ذي القعدة كذا في عمدة القاري قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي غريب وذكر أنه روي مرسلا
[ 328 ]
(هدبة) بضم الهاء وسكون الدال وفي صحيح هداب وهما واحد (إلا التي مع حجته) أي العمرة كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته كانت في ذي الحجة قاله الحافظ وقال ابن القيم ولا تناقض بين حديث أنس أنهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته وبين قول عائشة وابن عباس لم يعتمر رسول الله إلا في ذي القعدة لأن مبدأ عمرة القران كان في ذي القعدة ونهايتها كان في ذي الحجة مع انقضاء الحج فعائشة وابن عباس أخبرا عن ابتدائها وأنس أخبر عن انقضائها (أتقنت) من الإتقان وهو الحفظ والضبط التام (من ههنا) الذي يأتي بعد ذلك وهو من قوله عمرة زمن الحديبية إلى آخر الحديث (من هدبة) بن خالد (وسمعته) أي القول المذكور آنفا (من أبي الوليد) الطيالسي (ولم أضبطه) أي لم أحفظه كما ينبغي ثم شرع في بيان لفظ هدبة فقال (عمرة زمن الحديبية) نصب باعتمر ثنا وهي العمرة الأولى (أو من الحديبية) هذا شك من أحد الرواة فوق أبي داود وهكذا أخرجه مسلم بالشك وأما البخاري فأخرجه من غير شك ولفظه عمرته من الحدييبة (وعمرة القضاء في ذي القعدة) من العام المقبل هي العمرة الثانية وهي عمرة القضاء والقضية وإنما سميت بهما لأنه قاضى قريشا لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صدر عنها إذ لو كان كذلك لكانتا عمرة واحدة وهذا مذهب المالكية والشافعية وتقدم بيان ذلك وقال الحنفية هي قضاء عنها قال ابن الهمام في فتح القدير شرح الهداية وتسمية الصحابة وجميع السلف إياها بعمرة القضاء ظاهر خلافه وتسميه بعضهم إياها عمرة القضية لا ينفيه فإنه اتفق في الأولى مقاضاة النبي أهل مكة على أن يأتي من العام المقبل فيدخل مكة بعمرة ويقيم ثلاثا وهذا الأمر قضية تصح إضافة هذه العمرة إليها فإنها عمرة كانت عن تلك القضية فهي قضاء عن تلك القضية فتصح إضافتها إلى كل منهما فلا تستلزم الإضافة إلى القضية نفي القضاء والإضافة إلى القضاء تفيد ثبوته فيثبت مفيد ثبوته بلا معارض انتهى (وعمرة من الجعرانة) هي الثالثة (غنائم) جمع غنيمة وهي ما نيل من أهل الشرك عنوة والحرب قائمة والفئ ما ينل منهم بعد أن تضع الحرب أوزارها (حنين)
[ 329 ]
بالصرف واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال وكانت في سنة ثمان في زمن غزوة الفتح ودخل عليه بهذه العمرة إلى مكة ليلا وخرج منها ليلا إلى الجعرانة فبات بها فلما أصبح وزالت الشمس خرج في بطن سرف حتى جامع الطريق ومن ثم خفيت هذه العمرة على كثير من الناس قاله القسطلاني (وعمرة مع حجته) في ذي الحجة هي الرابعة والحديث أخرجه البخاري ومسلم من طريق هدبة ابن خالد وأخرج أيضا البخاري من طريق أبي الوليد وساق متنه بالضبط والإتقان وأخرجه الترمذي فائدة ولم يحفظ عن النبي أنه اعتمر في السنة إلا مرة واحدة ولم يعتمر في سنة مرتين فإن قيل فبأي شئ يستحبون العمرة في السنة مرارا خصوصا في رمضان ثم لم يثبتوا ذلك عن النبي قيل إن النبي كان يشتغل في العبادات بما هو أهم من العمرة ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة فإنه لو اعتمر مرارا لبادرت الأمة إلى ذلك وكان يشق عليها وقد كان يترك النبي كثيرا من العمل وهو يحب أن يعمله خشية المشقة عليهم ولما دخل البيت خرج منه حزينا فقالت له عائشة في ذلك فقال إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي وهم أن ينزل يستسقي مع سقاة زمزم للحاج فخاف أن يغلب أهلها على سقايتهم بعده وقد قال رسول الله العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة رواه الشيخان من حديث أبي هريرة ولفظ الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا تابعوا بين الحج والعمرة وفيه دليل على أن التفريق بين الحج والعمرة في التكرار وتنبيه على ذلك إذ لو كانت العمرة بالحج لا تعقل في السنة إلا مرة لسوى بينهما ولم يفرقا وقد ندب النبي إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييد ولا شك أن الحديث فيه دليل على استحباب الاستكثار من الاعتمار خلافا لقول من قال يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة كالمالكية وهذا القول لا يصح والصحيح جواز الاستكثار من الاعتمار وخالف مالكا مطرف من أصحابه وابن المواز قال مطرف لا بأس بالعمرة في السنة مرارا وقال ابن المواز أرجو أن لا يكون به بأس وقد اعتمرت عائشة مرتين في شهر ولا أدري أن يمنع أحد من التقرب إلى الله بشئ من الطاعات ولا من الازدياد من الخير في موضع ولم يأت بالمنع منه نص وهذا قول الجمهور ويكفي في هذا أن النبي أعمر عائشة من التنعيم سوى عمرتها التي كانت أهلت بها وذلك في عام واحد واعتمرت عائشة في سنة مرتين فقيل للقاسم لم ينكر عليها أحد فقال أعلى أم المؤمنين وكان أنس إذا جمم رأسه خرج فاعتمر وعن علي أنه كان يعتمر في السنة مرارا ذكره ابن القيم وأطال الكلام فيه
[ 330 ]
المهلة بالعمرة تحيض قبل إتمام أفعال العمرة (فيدركها الحج فتنقض عمرتها) وفي بعض النسخ فترفض عمرتها (وتهل) تحرم (بالحج) بعد رفضها (هل تقضي عمرتها) التي أحرمت بها قبل إدراك الحج فإن قلت يفهم من ترجمة الباب أن عائشة كانت قد رفضت العمرة لأجل عذر الحيض فالعمرة التي أهلت بها من التنعيم قضاء عنها لأداء مرة أخرى قلت نعم كذا يفهم من ترجمة الباب لكن فيه كلام لأن العمرة لا يصح رفضها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعك طوافك لحجك وعمرتك وفي لفظ حللت منهما جميعا فإن قيل قد ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال لها ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وفي لفظ آخر دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وفي لفظ أهلي بالحج ودعي العمرة فهذا صريح في رفضها من وجهين أحدهما قوله ارفضيها ودعيها به والثاني أمره لها بالامتشاط قيل معنى قوله ارفضيها أي اتركي أفعالها والاقتصار عليها وكوني في حجة معها ويتعين أن يكون هذا المراد بقوله حللت منهما جميعا لما قضيت أعمال الحج وقوله يسعك طوافك لحجك وعمرتك فهذا صريح أن إحرام العمرة لم ترفض وإنما رفضت أعمالها والاقتصار عليها وأنها بقضاء حجتها انقضى حجتها وعمرتها ثم أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها إذ تأتي بعمرة مستقلة كصوا حباتها ويوضح ذلك إيضاحا بينا ما روى مسلم في صحيحه ولفظ قالت عائشة وخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فحضت فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ولم أهل إلا بعمرة فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي وأمتشط وأهل بالحج وأترك العمرة قالت ففعلت ذلك حتى إذا قضيت حجي بعث معي رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر وأمرني أن أعتمر من التنعيم مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أحل منها فهذا حديث في غاية الصحة والصراحة أنها لم تكن أحلت من عمرتها وأنها بقيت محرمة بها حتى أدخلت عليها الحج فهذا خبرها عن نفسها وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها كل منهما
[ 331 ]
يوافق الآخر كذا في زاد المعاد (أختك عائشة) بدل من أختك (فإذا هبطت) من باب ضرب أي نزلت (بها) أي عائشة (من الأكمة) تل وقيل شرفة كالرابية وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد وربما غلظ وربما لم يغلظ والجمع أكم وأكمات هذا مثل قصبة وقصب وقصبات وجمع الأكم آكام مثل جبل وجبال وجمع الآكام أكم بضمتين مثل كتاب وكتب وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق كذا في المصباح قال المنذري قال أبو بكر أحمد بن عمرو البزار ولا يعلم روت حفصة عن أبيها إلا هذا الحديث هذا آخر كلامه وقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن أوس عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعمر عائشة من التنعيم انتهى (أبي مزاحم) بدل من لفظ أبي (فجاء إلى المسجد) الذي هناك (فاستقبل بطن سرف) بفتح السين وكسر الراء وآخره فاء موضع على ستة أميال من مكة من طريق المروة جبل بمكة بني به رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث وفيه ماتت أي توجه واستقبل وجهه إلى بطن سرف (فأصبح بمكة) قال السندي في فتح الودود ظاهر هذا أنه كان بمكة إلا أنه جاء الجعرانة ليلا ثم رجع إلى مكة فأصبح بها بحيث ما علم بخروجه منها وهو خلاف المشهور والمشهور أنه كان بالجعرانة فأصبح فيها كبائت فالظاهر أن هذا التقديم والتأخير من تصرفات بعض الرواة والصواب رواية الترمذي والنسائي عن محرش الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلا فدخل مكة ليلا فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت فلما زالت الشمس من الغد خرج في بطن سرف حتى جامع الطريق طريق جمع بسرف فمن أجل ذلك خفت عمرته على الناس انتهى ولفظ أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة معتمرا فدخل مكة ليلا ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت فلما زالت الشمس أخذ في بطن سرف حتى جامع الطريق طريق المدينة وفي لفظ لأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلا من الجعرانة حين أمسى معتمرا فدخل مكة ليلا فقضى عمرته ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف حتى جامع الطريق
[ 332 ]
طريق المدينة بسرف انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي أتم منه وقال الترمذي حسن غريب ولا يعرف لمحرش الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث وقال أبو عمر النمري روي عنه حديث واحد وذكر هذا الحديث المقام في العمرة أي المقام بمكة بعد أداء العمرة (أقام في عمرة القضاء ثلاثا) قال ابن القيم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعد الهجرة خمس مرات سوى المرة الأولى فإنه وصل إلى الحدييبة وصد عن الدخول إليها ثم دخلها المرة الثانية فقضى عمرته وأقام بها ثلاثا ثم خرج ثم دخلها المرة الثالثة عام الفتح في رمضان ثم دخلها بعمرة من الجعرانة قال المنذري وذكر البخاري نحوه تعليقا وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما في الحديث الطويل من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في عمرة القضاء ثلاثا الإفاضة في الحج هي طواف الزيارة وهو المأمور به في قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق (أفاض يوم النحر) أي طاف بالبيت (ثم صلى الظهر بمنى يعني راجعا) والذي رواه جابر في الحديث
[ 333 ]
[ . . . . ]
[ 334 ]
الطويل وعائشة هو أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ثم رجع إلى منى واختلف العلماء فيه فمنهم من رجح هذا الحديث ومنهم حديث جابر وعائشة ومنهم من توقف لصحة الحديثين كذا في فتح الودود وقال النووي وفي هذا الحديث إثبات طواف الإفاضة وأنه يستحب فعله يوم النحر وأول النهار وقد أجمع العلماء على أن هذا الطواف وهو طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالإجماع فإن آخره إلى ما بعد أيام التشريق وأتى به بعدها أجزأه ولا شئ عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال مالك وأبو حنيفة إذا تطاول لزمه معه دم والله أعلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي ولفظ البخاري مختصر (عن أبيه) وهو عبد الله بن زمعة (وعن أمه) أي أم أبي عبيدة (زينب بنت أبي سلمة) بدل عن أمه وهي بنت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (كانت ليلتي التي يصير) أي يرجع (إلي فيها) أي يدخل علي فيها (مساء يوم النحر) أي اتفق أن كانت ليلة نوبتي مساء يوم النحر أي مساء ليلة تلي يوم النحر وهي ليلة الحادي عشر من ذي الحجة والمساء يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام قاله الحافظ في الفتح ولعل المراد به ههنا أول الليل (فصار) أي رجع
[ 335 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلي) في ذلك المساء أي دخل علي فيه (فدخل علي) بتشديد الياء (وهب) فاعل دخل (بن زمعة) ودخل (معه رجل من آل أبي أمية) أيضا حال كونهما (متقمصين) أي لابسي القميص (هل أفضت) أي طفت طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يا (أبا عبد الله) هذه كنية وهب (قال) الراوي (فنزعه) أي نزع وهب ذلك القميص (من رأسه) أي قبل رأسه (ونزع صاحبه) الذي دخل عليها معه أيضا (ثم قال) وهب (ولم) أمرتنا بنزع القميص عنا (إن هذا) أي يوم النحر (يوم رخص) بصيغة المجهول (لكم إذا أنتم) أيها الحجيج (رميتم الجمرة) أي فرغتم عن رمي جمرة العقبة يوم النحر (أن تحلوا) مفعول ما لم يسم فاعله لقوله رخص (يعني) أي يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله أن تحلوا أي أن تحلوا (من كل ما حرمتم منه إلا النساء) إلى ههنا تفسير من بعض الرواة (فإذا أمسيتم) أي دخلتم في المساء (قبل أن تطوفوا هذا البيت) يوم النحر (صرتم حرما) بضمتين ويجوز تسكين الراء أيضا جمع حرام بمعنى محرم أي صرتم محرمين (كهيئتكم) أي كما كنتم محرمين (قبل أن ترموا الجمرة) أي جمرة العقبة يوم النحر (حتى تطوفوا به) أي بالبيت
[ 336 ]
والحاصل أن هذا الترخيص لكم إنما هو بشرط أن تطوفوا طواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر قبل أن تدخلوا في مساء ذلك اليوم وأما إذا فات هذا الشرط بأن أمسيتم يوم النحر قبل أن تطوفوا طواف الإفاضة فليس لكم هذا الترخيص وإن رميتم وذبحتم وحلقتم بل بقيتم محرمين كما كنتم محرمين قبل الرمي وفقه الحديث أن من أفاض يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة قبل مساء يوم النحر رخص له التحلل عن الإحرام وحل له كل شئ كان حراما عليه في الإحرام ما خلا النساء وأن من لم يفض يوم النحر قبل مسائه بل دخلت ليلة الحادي عشر من ذي الحجة قبل إفاضته لم يرخص له التحليل بل بقي حراما كما كان ولم يحل له شئ مما كان حراما عليه في الإحرام كالتقمص ثم وغيره بل بقي حراما كما كان وإن كان رمى وذبح وحلق وأن من لبس القميص في الإحرام جاهلا أو ناسيا وجب عليه أن ينزعه بعد ما علمه أو ذكره وأنه يجوز له نزعه من قبل رأسه وإن لزم منه تغطية رأسه وقد وقع حديث يعلى عند أبي داود بلفظ اخلع عنك الجبة فخلعها من قبل رأسه وأما ما روي عن جابر رضي الله عنه قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقد شق قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه فنظر القوم إليه فقال إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي أخرجه الطحاوي ففيه عبد الرحمن بن عطاء وهو ضعيف لا يحتج بما انفرد به فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه وقد تركه مالك وهو جاره والله أعلم قال في فتح الودود ولعل من لا يقول به يحمله على التغليط والتشديد في تأخير الطواف من يوم النحر والتأكيد في إتيانه في يوم النحر وظاهر الحديث يأبي مثل هذا الحمل جدا والله تعالى أعلم انتهى قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق وتقدم الكلام عليه (أخر طواف يوم
[ 337 ]
النحر إلى الليل) قيل في معناه إنه رخص لطواف الزيارة إلى الليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف طواف الإفاضة في الليل وفي زاد المعاد أفاض صلى الله عليه وسلم إلى مكة قبل الظهر راكبا فطاف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة والصدر ولم يطف غيره ولم يسمع معه هذا هو الصواب وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل وهو قول طاووس ومجاهد وعروة واستدلوا بحديث أبي الزبير المكي عن عائشة المخرج في سنن أبي داود والترمذي قال الترمذي حديث حسن وهذا الحديث غلط بين خلاف المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك فيه أهل العلم بحجته صلى الله عليه وسلم وقال أبو الحسن القطان عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهارا وإنما اختلفوا هل هو صلى الظهر بمكة أو رجع إلى منى فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه فابن عمر يقول إنه رجع إلى منى فصلى الظهر بها وجابر يقول إنه صلى الظهر بمكة وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخر الطواف إلى الليل وهذا شئ لم يرو إلا من هذا الطريق وأبو الزبير مدلس لم يذكر ههنا سماعا عن عائشة انتهى وقال السندي المعلوم الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم هو أنه طواف الإفاضة وهو الطواف الفرض قبل الليل فلعل المراد بهذا الحديث أنه رخص في تأخيره إلى الليل أو المراد بطواف الزيارة غير طواف الإفاضة أي أنه كان يقصد زيارة البيت أيام منى بعد طواف الإفاضة فإذا زار طاف أيضا وكان يؤخر طواف تلك الزيارة إلى الليل بتأخير تلك الزيارة إلى الليل ولا يذهب إلى مكة لأجل تلك الزيارة في النهار بعد العصر مثلا والله أعلم قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن وأخرجه البخاري تعليقا وقد تقدم الكلام على حديث عائشة هذا مستوفى (لم يرمل) من باب نصر (أفاض فيه) أي في طواف الإفاضة قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه
[ 338 ]
الوداع من البيت فهذا باب لإثبات الوداع والباب الآتي ثبات طواف الوداع والله أعلم (كان الناس) أي بعد حجهم (ينصرفون في كل وجه) أي طريق طائفا أو غير طائف (لا ينفرن أحد) أي النفر الأول والثاني أو لا يخرجن أحد من مكة والمراد به الآفاقي (حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت) أي بالطواف به قال الطيبي رحمه الله دل على وجوب طواف الوداع وخالف فيه مالك هكذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه الحائض تخرج بعد الإفاضة (ذكر صفية) أي إحدى أمهات المؤمنين من بني إسرائيل من سبط هارون أخي موسى عليهما السلام (لعلها حابستنا) أي مانعتنا عن الرجوع إلى المدينة لانتظار طوافها (فلا إذا) جواب وجزاء أي إذا كان كذلك أنها أفاضت فلا أمنعها للخروج ونظيره ما روى البخاري في الأشربة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظروف فقالت الأنصار إنه لابد لنا منها قال فلا إذا قال في الفتح فلا إذا جواب وجزاء أي إذا كان كذلك لا بد لكم منها فلا تدعوها وفي لفظ الشيخين قلت يارسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة قال فلتنفر إذن أي فلا حبس علينا حينئذ لأنها قد أفاضت فلا مانع من التوجه والذي يجب عليها قد فعلته وفي رواية للبخاري فلا بأس انفري وفي رواية له اخرجي وفي رواية فلتنفر ومعانيها متقاربة والمراد بها الرحيل من منى إلى جهة المدينة
[ 339 ]
قال ابن المنذر قال عامة الفقهاء بالأمصار ليس على الحائض التي طافت طواف الإفاضة طواف الوداع وروينا عن عمر وابنه وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضا لطواف الوداع كأنهم أوجبوه عليها كطواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها قال وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك وبقى عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة وروى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد كان الصحابة يقولون إذا أفاضت قبل أن تحيض فقد فرغت إلا عمر قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي من حديث الزهري عن عروة وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة بمعناه (أربت عن يديك) بكسر الراء أي سقطت من أجل مكروه يصيب يديك من قطع أو وجع أو سقطت بسبب يديك أي من بنايتهما رسول قيل هو كناية عن الخجالة والأظهر أنه دعاء عليه لكن ليس المقصود حقيقته وإنما المقصود نسبة الخطأ إليه قال في النهاية أي سقطت آرابك من اليدين خاصة (لكيما أخالف) ما زائدة واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث عمر في حق الحائض وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنفر وحاضت صفية فقالت لها عائشة حبستنا فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفر ورواه سعيد بن منصور في كتاب المناسك وإسحاق في مسنده والطحاوي وأصله في البخاري ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي والترمذي وصححه الحاكم عن ابن عمر قال من حج فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الشيخين من حديث ابن عباس أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض وأخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة قال المنذري وأخرجه النسائي والإسناد الذي أخرجه أبو داود والنسائي حسن وأخرجه الترمذي بإسناد ضعيف وقال غريب
[ 340 ]
طواف الوداع (بالأبطح) وهو البطحاء التي بين مكة ومنى وهي ما انبطح من الأرض واتسع وهو المحصب وحدها ما بين الجبلين إلى المقبرة قال الإمام النووي الأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة شئ واحد كذا في العيني (حتى فرغت) من العمرة (فطاف به) أي طواف الوداع (ثم خرج) أي إلى المدينة قال المنذري وقد تقدم الكلام على التنعيم والأبطح والمحصب (في النفر الآخر) أي الرجوع من منى (فنزل المحصب) كمعظم قال الطيبي هو في الأصل كل موضع كثير الحصاة والمراد به الشعب الذي أحد طرفيه منى ويتصل الآخر بالأبطح فعبر به عن المحصب المعروف إطلاقا لاسم المجاور على المجاور انتهى وفي النهاية هو الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكة ومنى وسيجئ الكلام فيه (كان إذا جاز مكانا من دار يعلى) لعله الموضع المعلوم بموضع استجابة الدعاء قاله السندي ولفظ النسائي كان إذا جاء مكانا في
[ 341 ]
دار يعلى استقبل القبلة ودعا وفي أسد الغابة من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مكانا في دار يعلى فيستقبل البيت فيدعو ويخرج منه فيدعو ونحن مسلمات (نسيه) أي ذلك المكان (عبيدالله) بن أبي يزيد واعلم أن الحديث لا يطابق الباب إلا بالتعسف قال المنذري وأخرجه النسائي وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير في ترجمة عبد الرحمن بن طارق بالإسناد الذي خرجاه به قال وقال بعضهم عبد الرحمن عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح التحصيب ولا وهو النزول في المحصب وهو ليس من أمر المناسك الذي يلزم فعله إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستراحة بعد الزوال فصلى فيه العصرين والمغربين وبات فيه ليلة الرابع عشر لكن لما نزله صلى الله عليه وسلم كان النزول به مستحبا اتباعا له وقد فعله بعده الخلفاء (ليكون أسمح لخروجه) أي أسهل لخروجه راجعا إلى المدينة (فمن شاء نزله ومن شاء لم ينزله) قال النووي وإن عائشة وابن عباس كان لا يقولان به ويقولان هو منزل اتفاقي لا مقصود فحصل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم ومذهب الشافعي ومالك والجمهور استحبابه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وغيرهم وأجمعوا على أن من تركه لا شئ عليه ويستحب أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت من بعض الليل أو كله اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والمحصب بفتح الحاء والصاد المهملتين والحصبة بفتح الحاء وإسكان الصاد والأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة اسم لشئ واحد وأصل الخيف كل ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل قال ابن عبد البر وتبعه عياض اسم لمكان متسع بين مكة ومنى وهو أقرب إلى منى ويقال له الأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه
[ 342 ]
(أن أنزله) أي المحصب (كان) أي أبو رافع (على ثقل) بفتح الثاء والق أي متاعه (في الأبطح) وهو المحصب قال المنذري وقال عثمان وهو ابن أبي شيبة يعني في الأبطح وأخرجه مسلم (في حجته) متعلق بقلت يارسول الله صلى الله عليه وسلم (عقيل) بن أبي طالب (منزلا) أي في مكة أي كان عقيل ورث أباه أبا طالب هو وأخوه طالب ولم يرث أبا طالب إبناه جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين ولو كانا وارثين لنزل صلى الله عليه وسلم في دورهما وكان قد استولى طالب وعقيل على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما أو باعتبار ترك النبي صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة وفقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها قاله القسطلاني (بخيف) أي بوادي وهو المحصب (حالفت قريشا) قال النووي تحالفوا على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب من مكة إلى هذا الشعب وهو خيف بني كنانة وكتبوا بينهم الصحيفة المسطورة فيها أنواع من الباطل فأرسل الله عليها الأرضة فأكلت ما فيها من الكفر وتركت ما فيها من ذكر الله تعالى فأخبر جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبر به عمه أبا طالب فأخبرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوه كما قاله فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم والقصة مشهورة وإنما اختار صلى الله عليه وسلم النزول هناك شكرا لله تعالى على النعمة في دخوله ظاهرا ونقضا لما تعاقدوه بينهم قاله العيني (لا يؤووهم) من آوى يؤوي إيواء قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه
[ 343 ]
(عن أبي هريرة) إلى آخر حديث (حين أراد أن ينفر) أي يرجع (فذكر نحوه) ولفظ مسلم حدثنا أبو هريرة قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر وذلك أن قريشا وبني كنانة حالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بذلك المحصب (لم يذكر) الأوزاعي (أوله) أي أول الحديث وهو قوله هل ترك لنا الخ (ولا ذكر) الأوزاعي (الخيف الوادي) من قول الزهري كما ذكره معمر قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي مطولا (ابن عمر كان يهجع هجعة) أي ينام نومة خفيفة في أول الليل قال المنذري وأخرجه البخاري بمعناه أتم منه وأخرج مسلم نحوه (ثم هجع بها هجعة) والحديث سكت عنه المنذري من قدم شيئا قبل شئ في حجه (أنه قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي قد سبق أن أفعال يوم النحر أربعة رمي
[ 344 ]
جمرة العقبة ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الإفاضة وأن السنة ترتيبها هكذا فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا فدية عليه لهذه الأحاديث وبهذا قال جماعة من السلف وهو مذهبنا وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لا حرج أنه لا شئ عليك مطلقا وقد صرح في بعضها بتقديم الحلق على الرمي وأجمعوا على أنه لو نحر قبل الرمي لا شئ عليه واتفقوا على أنه لا فرق بين العامد والساهي في ذلك في وجوب الفدية وعدمها وإنما يختلفان في الإثم عند من يمنع التقديم وقوله صلى الله عليه وسلم اذبح ولا حرج ارم ولا حرج معناه افعل ما بقي عليك وقد أجزأك ما فعلته ولا حرج عليك في التقديم والتأخير (فما سئل يومئذ عن شئ قدم أو أخر) يعني من هذه الأمور الأربعة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (عن أسامة بن شريك) بفتح الشين وكسر الراء (حاجا) أي مريدا الحج (فمن قال يا رسول الله سعيت) أي للحج عقيب الإحرام بعد طواف قدوم الآفاق أو طواف نفل للمكي (قبل أن أطوف) أي طواف الإفاضة وهو بظاهره يشمل الآفاقي والمكي وهو مذهب أبي حنيفة على اختلاف في أفضلية التقديم والتأخير خلافا للشافعي حيث قيده بالآفاقي (أو قدمت شيئا أو أخرت شيئا) أي في أفعال أيام منى (يقول لا حرج لا حرج) أي لا إثم (إلا على رجل) بالاستثناء يؤيد أن معنى الحرج هو الإثم (اقترض) بالقاف أي اقتطع (عرض رجل مسلم) أي نال منه وقطعه بالغيبة أو غيرها (وهو) أي والحال أن ذلك الرجل (ظالم) فيخرج حرج الرواة والشهود فإنه مباح (فذلك الذي) أي الرجل الموصوف (حرج) بكسر الراء أي وقع منه حرج (وهلك) أي بالإثم والعطف تفسيري كذا في المرقاة قال المنذري قال بظاهر الحديث
[ 345 ]
مجاهد وطاؤوس والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث في جماعة من السلف وأنه لا شئ عليه في الجميع قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر وذهب قوم إلى أنه إذا قدم شيئا أو أخر كان عليه دم وقالوا أراد صلى الله عليه وسلم رفع الحرج والإثم دون الفدية وقال بعضهم من فعل ذلك ساهيا فلا شئ عليه وفي بعض طرقه أني لم أشعر فحلقت فكأنهم اعتمدوا عليه انتهى كلام المنذري في مكة هل يباح فيها شئ ما لا يباح في غيرها (باب بني سهم) قال في تاج العروس بنو سهم قبيل في قريش وهم بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب (ليس بينهما سترة) ظاهره أنه لا حاجة إلى السترة في مكة ومن لا يقول به حمله على أن الطائفين كانوا يمرون وراء موضع سجود أو وراء ما يقع فيه نظر الخاشع على اختلاف المذاهب والحديث أخرجه أبو يعلى الموصلي بقوله حدثنا ابن نمير حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه وغير واحد من أعيان بني المطلب عن المطلب بن وداعة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من سعيه حاجى بينه وبين السقيفة فيصلي ركعتين في حاشية المطاف ليس بينه وبين الطواف أحد وقال البخاري باب السترة بمكة وغيرها وساق فيه حديث أبي جحيفة وفيه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين ونصب بين يديه عنزة قال الحافظ والمراد منه أنها بطحاء مكة وقال ابن المنير إنما خص مكة بالذكر رفعا لتوهم من يتوهم أن السترة قبله ولا ينبغي أن يكون قبلة إلا الكعبة فلا يحتاج فيها إلى سترة انتهى والذي أظنه أنه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرزاق حيث قال في باب لا يقطع الصلاة بمكة شئ ثم أخرج عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم أي الناس سترة وأخرجه من هذا الوجه أيضا أصحاب السنن ورجاله موثقون إلا أنه معلول فقد رواه أبو داود عن أحمد عن
[ 346 ]
ابن عيينة قال كان ابن جريج أخبرنا به هكذا فلقيت كثيرا فقال ليس من أبي سمعته ولكن من بعض أهلي عن جدي فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث وأن لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة وقد قدمنا وجه الدلالة منه وهذا هو المعروف عند الشافعية وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة انتهى والله أعلم (قال سفيان) ابن عيينة في تفسير قوله ليس بينهما أي ليس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكعبة سترة قال المنذري في إسناده مجهول وجده هو المطلب بن أبي وداعة القرشي السهمي له صحبة ولأبيه أبي وداعة الحارث بن صبرة أيضا صحبة وهما من مسلمة الفتح ويقال فيه صبرة بالصاد المهملة وبالضاد المعجمة والأول أظهر وأشهر تحريم مكة (ثم قال إن الله حبس) أي منع الفيل عن تعرضه (وسلط عليها) أي على مكة (وإنما أحلت لي ساعة من النهار) قال في المرقاة دل على أن فتح مكة كان عنوة وقهرا كما هو عندنا أي أحل لي ساعة أي زمانا قليلا إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وفي زاد المعاد أن مكة فتحت عنوة كما ذهب إليه جمهور أهل العلم ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه انتهى (هي) أي مكة (حرام) أي على كل
[ 347 ]
أحد بعد تلك الساعة (إلى يوم القيامة أي النفخة الأولى (لا يعضد) أي لا يقطع (شجرها) أي ولو يحصل التأذي به وأما قول بعض الشافعية أنه يجوز قطع الشوك المؤذي فمخالف لإطلاق النص ولذا جرى جمع من متأخريهم على حرمة قطعه مطلقا وصححه النووي في شرح مسلم واختاره في عدة كتبه وأما قول الخطابي كل أهل العلم على إباحة قطع الشوك ويشبه أن يكون المحظور منه الشوك الذي يرعاه الإبل وهو ما دق دون الصلب الذي لا ترعاه فإنه يكون بمنزلة الحطب فلعله أراد بأهل العلم علماء المالكية قاله القاري (ولا ينفر) بتشديد الفاء المفتوحة (صيدها) أي لا يتعرض له بالاصطياد والإيحاش والإيهاج لم (لقطتها) بضم اللام وفتح القاف ساقطتها (إلا لمنشد) أي معرف أي لا يلتقطها أحد إلا من عرفها ليردها على صاحبها ولم يأخذها لنفسه وانتفاعها قيل أي ليس في لقطة الحرم إلا التعريف فلا يتملكها أحد ولا يتصدق بها وعليه الشافعي وقيل حكمها كحكم غيرها والمقصود من ذكرها أن لا يتوهم تخصيص تعريفها بأيام الموسم وعليه أبو حنيفة ومن تبعه (إلا الإذخر) بالنصب أي قل إلا الإذخر بكسر الهمزة والخاء المعجمة بينهما ذال معجمة ساكنة وهو نبت عريض الأوراق طيب الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب (فقام أبو شاه) قال النووي هو بهاء وتكون هاء في الوقف والدرج ولا يقال بالتاء قالوا ولا يعرف اسم أبي شاه هذا وإنما يعرف بكنيته (اكتبوا لأبي شاه) هذا تصريح بجواز كتابة
[ 348 ]
العلم غير القرآن ومثله حديث علي رضي الله عنه ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة ومثله حديث أبي هريرة كان عبد الله بن عمرو يكتب ولا أكتب وجاءت أحاديث بالنهي عن كتابة غير القرآن فمن السلف من منع كتابة العلم وقال جمهور السلف بجوازه ثم أجمعت الأمة بعدهم على استحبابه وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين أحدهما أنها منسوخة وكان النهي في أول الأمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد فنهى عن كتابة غيره خوفا من اختلاطه واشتباهه فلما اشتهر وأمنت تلك المفسدة أذن فيه والثاني أن النهي نهي تنزيه لمن وثق بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة والإذن لمن لم يوثق بحفظه انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (ولا يختلى خلاها) بالقصر النبات الرقيق ما دام رطبا فاختلاؤه حدثنا قطعه وإذا يبس فهو حشيش قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم (عن أمه) اسمها مسيكة (قلت يارسول الله ألا نبني) من البناء أي نحن معاشر الصحابة (مناخ) بضم الميم موضع الإناخة (من سبق إليه) والمعنى أن الاختصاص فيه بالسبق لا بالبناء
[ 349 ]
وقال الطيبي معناه أتأذن أن نبني لك بيتا في منى لتسكن فيه فمنع وعلل بأن منى موضع لأداء النسك من النحر ورمي الجمار والحلق يشترك فيه الناس فلو بني فيها لأدى إلى كثرة الأبنية تأسيا به فتضيق على الناس وكذلك حكم الشوارع ومقاعد الأسواق وعند أبي حنيفة أرض الحرم موقوفة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة قهرا وجعل أرض الحرم موقوفة فلا يجوز أن يتملكها أحد كذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن أمه مسيكة وذكر غيرهما أنها مكية (قال احتكار الطعام في الحرم) وهو اشتراء القوت في حالة الغلاء ليباع إذا اشتد غلاه وهو حرام في جميع البلاد وفي الحرم أشد (إلحاد فيه) أي عن الحق إلى الباطل في الحرم قال تعال ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم قال المناوي احتكار الطعام أي احتباس ما يقتات ليقل فيغلو فيبيعه بكثير في الحرم المكي إلحاد فيه يعني احتكار القوت حرام في جميع البلاد وبمكة أشد تحريما فإنه بواد غير ذي زرع فيعظم الضرر بذلك الحاد والانحراف عن الحق إلى الباطل قال المنذري وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير عن يعلى بن أمية أنه سمع عمر بن الخطاب يقول احتكار الطعام بمكة إلحاد ويشبه أن يكون البخاري علل المسند بهذا
[ 350 ]
في نبيذ السقاية ابن أي في فضل القيام بالسقاية والثناء على أهلها واستحباب الشرب منها (قال قال رجل) ولفظ مسلم قال كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي (ما بال أهل هذا البيت) يريد أهل بيت عباس ولفظ مسلم فقال ما لي أرى بني عمكم يسقون وذكر غيرهما أنها مكية (قال احتكار الطعام في الحرم) وهو اشتراء القوت في حالة الغلاء ليباع إذا اشتد غلاه وهو حرام في جميع البلاد وفي الحرم أشد (إلحاد فيه) أي عن الحق إلى الباطل في الحرم قال تعال ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم قال المناوي احتكار الطعام أي احتباس ما يقتات ليقل فيغلو فيبيعه بكثير في الحرم المكي إلحاد فيه يعني احتكار القوت حرام في جميع البلاد وبمكة أشد تحريما فإنه بواد غير ذي زرع فيعظم الضرر بذلك الحاد والانحراف عن الحق إلى الباطل قال المنذري وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير عن يعلى بن أمية أنه سمع عمر بن الخطاب يقول احتكار الطعام بمكة إلحاد ويشبه أن يكون البخاري علل المسند بهذا
[ 350 ]
في نبيذ السقاية ابن أي في فضل القيام بالسقاية والثناء على أهلها واستحباب الشرب منها (قال قال رجل) ولفظ مسلم قال كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي (ما بال أهل هذا البيت) يريد أهل بيت عباس ولفظ مسلم فقال ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل (أحسنتم وأجملتم) أي فعلتم الحسن الجميل الحديث فيه دليل على فضل القيام بالسقاية وقد اتفق العلماء على أنه يستحب أن يشرب الحاج وغيره من نبيذ سقاية العباس بهذا الحديث وهذا النبيذ بزبيب أو تمر أو غيره بحيث يطيب طعمه ولا يكون مسكرا فأما إذا طال زمنه وصار مسكرا فهو حرام وفيه دليل على استحباب النداء على أصحاب السقاية وكل صانع جميل قاله النووي قال المنذري وأخرجه مسلم تم - بحمد الله - الجزء الخامس ويليه الجزء السادس وأوله (باب الاقامة بمكة)