الأَمْثَلُ
في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل
طبعة جديدة منقّحة مع إضافات
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى
الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
المجَلّد الحَادي عَشَر
[5]
سُورَةُ الـنُّور
مَدنيّة وعددُ آياتِها أربَع وَسِتُّونَ آية
وهي تشكل الجزء الثّامن عشر من القرآن الكريم
"سورة النّور"
فضل سورة النور:
جاء في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمِن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقى".
وجاء في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام): "حصنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النّور وحصّنوا بها نساءكم، فإنَّ من أدْمَنَ قراءتها في كل يوم أو في كل ليلة لم يزن أحَدٌ من أهل بيته أبداً حتى يموت"(1).
والإهتمام بمضمون السورة الذي دعا بطرق مختلفة إِلى مكافحة عناصر الإِنحراف بالتزام العفّة، يوضح الغاية الاساسية في الحديثين اعلاه ومفهومهما العملي.
محتوى سورة النّور:
يمكن اعتبار هذه السورة خاصّة بالطهارة والعفة، وكفاح الإِنحطاط الخلقي، لأن محور تعاليمها ينصب على تطهير المجتمع بطرق مختلفة مِن الرذائل والفواحش، والقرآن الكريم يحقق هذا الهدف عبر مراحل، هي:
المراحلة الأُولى: بيان العقاب الشديد للمرأة الزانية والرجل الزاني، وهو ما ورد حاسماً في الآية الثّانية من هذه السورة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير مجمع البيان للآية موضع البحث، وكتاب ثواب الأعمال للصدوق (حسبما نقله نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 568).
[8]
المرحلة الثّانية: بيان حد الزنا الذي لا تَنْبِغي إِقامَتُه إِلاّ بشروط مشدّدة للغاية، إذ لابُدَّ من أربعةِ شهود يشهدون أنّهم رأوا بأُمِّ أعيُنِهم رجلا غريباً يَزْني بأمرأة غريبة عنه، يَفْعَلُ بِها فِعْلَ الزوج بزوجِه ساعة مُباشرته إيَّاها.
وَلو شهدَ الرجلُ على زوجتِه بالزّنا للاعَنَ القاضِي بينهما، أو يُقرِّ أحدُهما أو كلاهما بالحق.
ومن اتَّهم محصنةً ولم يأتِ بَأربعةِ شهود جلدَهُ القاضي أربعة أخماسِ حدّ الزِّنا، أي ثمانين جلدة، لِئلاّ يتصوَّرَ أحَدُ أنَّ بإمكانه الطَّعْنَ على الناسِ وَهَتك حُرُماتِهِم وهو في منجىَّ عن العقاب.
ثمّ طرحت الآية بهذه المناسبة الحديث المعروف باسم الإِفك، وما فيه من اتّهام إحدى نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). فعقّب القرآن المجيد على هذه المسألة مُوضَحاً للمسلمين مَدَى بشاعة الإِفتراء والتهمةِ، وَفظاعَةِ إشاعةِ الفاحِشة عُدواناً على الناس، وكاشفاً عمّا ينتظر القائم بذلك من عقوبات إِلهية.
وفي المرحلة الثّالثة: تناولت الآية أحد السبل المهمّة لاجتناب التدهور الأخلاقيّ، من أجل ألا يُتصوَّرَ أنَّ الإِسلام يهتم فقط بمعاقبة المذنبين.
فطرحت الآية نظر الرجال إِلى النساء بشهوة أو بالعكس، وحجاب المرأة المسلمة، لأنَّ أحد أسباب الإِنحراف الجنسي المهمّة ناجم عن هاتين المسألتين. وإذا لم تحل هاتان المسألتان جذرياً، لا يمكنُ القضاءُ على الإِنحطاط والتفسخ.
وفي المرحلة الرّابعة: كخطوة للنجاة من التلوث بما يُخِلُّ بالشرف ـ دعا القرآن المجيد إِلى الزواج اليسير التكاليف، ليحارب الإِشباع الجنسي غيرالمشروع باشباع مشروع.
وفي المرحلة الخامسة: بيّنت الآيات جانباً من آداب المعاملة، ومبادىء تربية الأولاد وعدم دخول الأبناء الغرفة المخصصة للوالدين في ساعات الخلوة والاستراحة إِلاَّ بإذن منهما، بغية المحافظة على أفكارهم من الإِنحراف. كما بيّنت
[9]
آداب الحياةِ الأُسريّة عامّة.
وفي المرحلة السادسة: جاء ذكر مسائل خاصّة بالتوحيد والمبدأ والمعاد والإِمتثال لتعاليم النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). كلّ ذلك خلال البحوث المطروحة. ومن المعلوم أن الإِعتقاد بالوحدانية والنّبوة والمبدأ والمعاد. يدعم مناهج التربية الأخلاقية في الفردِ والجماعة، فذلك الإِعتقاد هو الأصل، وما عداهُ مَنْ أمور فروع عَلَيْه، تورق وتثمر إِذا قويَ الأصْلُ واشتَدَّ.
وتطرقت بحوث هذه الآيات إِلى حكومة المؤمنين الصالحين العالمية، وأشارت إِلى تعاليم إسلامية أُخرى، وهي تشكل ـ بمجموعها ـ وحدة متكاملة شاملة.
* * *
[10]
الآيات
سُورَةٌ أَنزَلْنَـهَا وَفَرَضْنَـهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَآ ءَاَيَـتِ بَيِّنَـت لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَان أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3)
التّفسير
حد الزاني والزانية:
سمّيت هذه السورة بالنّور لأنّ آية النور فيها من أهم آياتها، إضافة إِلى أنّ مضمونها يشعشع في جوانح الرجل والمرأة والأسرة والبشر عفّة وطهارة، وحرارة تقوى، ويعمر القلوب بالتوحيد والإِيمان بالمعاد والإِستجابة لدعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وأُولى آيات هذه السورة المباركة بمثابة إشارة إِلى مجمل بحوث السورة (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون).
[11]
"سورة" كلمة مشتقّة من "السور" أي الجدار المرتفع، ثمّ أطلقت على الجدران التي تحيط بالمدن لحمايتها من مهاجمة الأعداء. وبما أنّ هذه الجدران كانت تعزل المدينة عن المنطقة المحيطة بها، فقد استعملت كلمة "سورة" تدريجياً في كل قطعة مفصولة عن شيء، ومنها استعملت لتعني قِسماً من القرآن. كما قال بعض اللغويين: إِنَّ "سورة" بناء جميل مرتفع، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على قسم من بناء كبير، وتطلق السورة على أقسام القرآن المختلفة المفصولة بعضها عن بعض(1).
وعلى كل حال فإنّ هذه العبارة إشارة إِلى كون أحكام ومواضيع هذه السورة ـ من اعتقادات وآداب وأوامر إِلهية ـ ذات أهمّيّة فائقة، لأنّها كلها من الله.
وتؤكّد ذلك عبارة "فرضناها"، لأنّ "الفرض" يعني قطع الشي الصلب والتأثير فيه كما يقول الراغب في مفرداته.
وعبارة (آيات بينات) قد تكون إشارة إِلى الحقائق المنبعثة عن التوحيد والمبدأ والمعاد والنّبوة، التي تناولتها هذه السورة. وهي إزاء "فرضنا" التي تشير إِلى الأوامر الإِلهية والاحكام الشرعية التي بيّنتها هذه السورة. وبعباره أخرى: إحداها تشير إِلى الاعتقادات، والأُخرى إِلى الأحكام الشرعية.
ويحتمل أن تعني "الآيات البينات" الأدلة التي استندت إِليها هذه الأحكام الشرعية.
وعبارة (لعلكم تذكرون) تؤكّد أن جذور جميع الاعتقادات الصحيحة، وتعاليم الإِسلام التطبيقية، تكمن في فطرة البشر.
وعلى هذا الأساس فإن بيانها يعتبر نوعاً من التذكير.
وبعد هذا الإستعراض العام. تناولت السورة أوّل حكم حاسم للزاني والزانية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "لسان العرب" المجلد الرّابع، مادة "سور".
[12]
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) ولتأكيد هذا الحكم قالت (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).
وأشارت الآية في نهايتها إِلى مسألة أخرى لإكمال الإستنتاج من العذاب الإِلهي (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).
وتشتمل هذه الآية على ثلاثة تعاليم:
1 ـ الحكم بمعاقبة النساء والرجال الذين يمارسون الزنا.
2 ـ إقامة هذا الحكم الإِلهي بعيداً عن الرأفةِ بمن يقامُ عليه، فهذه الرأفةُ الكاذبة تؤدّي إِلى الفساد وانحطاط المجتمع. وتضع الآيةُ الإِيمان بالله ويوم الحساب مُقابِل الرأفةِ التي قَدْ يحس بها أحد تجاه الزاني والزانية ساعةِ إِقامة الحدّ عليهما، لأن أداء الأحكام الإِلهية من غير تأثُرِ بالعواطِفَ دليل على صدق الإِيمان بالمبدأ والمعاد، والإيمان بالله العالم الحكيم يعني أنّ لكل حكم من أحكامه غاية وهدف حكيم، والإيمان بالمعاد يُشعر الإِنسان بالمسؤولية إزاء كل مخالفة.
وذكر بهذا الصدد حديث مهم عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): "يُؤتي بوال نقص من الحدّ سوطاً، فيقال له: لِمَ فعلت ذلك؟ فيقول: رحمةً لعبادك، فيقال له: أنت أرحم بهم منّي؟! فيؤمر به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطاً، فيقال له: لم فعلت ذلك؟ فيقول: لينتهوا عن معاصيك! فيقول: أنت أحكم به منّي؟! فيؤمر به إلى النّار!".(1)
3 ـ أوجب الله حضور عدد من المؤمنين في ساحة معاقبة الزناة ليتعظ الناس بما يرونَ مِنْ إقامة حكم الله العادل على المذنبين، وبملاحظة النسيج الإِجتماعي للبشر نرى أن انحطاط الشخص لا ينحصر فيه، بل يسري إِلى الآخرين، ولإتمام التطهير يجب أن يكون العقاب علناً مثلماً كان الذنب علناً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرّازي، المجلد الثّالث والعشرين، صفحة 148.
[13]
وبهذا يتّضح الجواب عن السؤال: لِمَ يعرّض الإِسلامُ كرامة إنسان بين الناس إلى الخدش والامتهان؟ فيقال: ما دَامَ الذنبُ سِرَّاً لِمَ يَطَّلِعْ عليه أحَدٌ وَلم يبلُغ القضاء، فلا بأسَ بكتمانِهِ في النفس وإستغفارِ الله مِنْهُ، فإنَّه تعالى يَسْتُرُهْ بلطفِهِ ويُحبُّ مَنْ يَسْتُرهُ، أمّا إذا ظهر الجُرْمُ بالأدِلَّةِ الشرعيّةِ، فلابُدَّ من تنفيذ العقاب بشكل يبطل آثار الذنب السيئة، ويبعثُ على استفظاعه وَبَشاعته. ومن الطبيعي أن يولي المجتمع السليم الأحكامَ اهتماماً كبيراً، فتكرار التحدِّي للحدود الشرعيَّة يُفْقِدُها فاعليتها في صيانَةَ الطمأنينة والأستقرار في النفوس، ومِنْ هنا وجبت إقامة هذا الحَدِّ عَلَناً ليمتنع الناسُ مِن تكرار فاحِشَة ساءَتْ سبيلا.
ويجب أن لا ننسى أن كثيراً من الناس يهتم باطّلاع الناسِ على سُوءِ فِعله أكثر من اهتمامه بِما يَنْزِلُ به من العقابِ على ذلك الفِعل الشنيع. ولهذا وجبت إقامة الحَدِّ على الزَّاني بحضور الناس، وهذا الإعلان لإقامة هذا الحدِّ الإِلهي أمام الناس قد يمنع المفسدين مِن الإستمرار في الفَسادِ ويكون بمثابة فرامل قوية امام التمادي في ركوب الشهوات.
وبعد بيان حدِّ الزِّنا، جاء بيان حكم الزواج من هؤلاء في الآية الثّالثة وكما يلي (الزاني لا ينكح إِلاّ زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين).
اختلف المفسّرون في كون هذه الآية بياناً لحكم إلهي، أو خبراً عَنْ قضيّة طبيعيَة.
فيرى البعض أنَّ الآية تبيّن واقعة ملموسة فقط، فالمنحطون يختاروُن المنحطات، وكذلِك يفعلْنَ هن في اختيارهن، بينما يَسْمُو المتطهّرون المؤمنون عن ذلك. ويحرّمون على أنفسهم اختيار الأزواج من ذلك الصنف تزكيةً وتطهيراً، وهذا ما يَشْهَدُ به ظاهِرُ الآية الذي جاء على شكل جملة خبرية.
إِلاّ أنّ مجموعة أُخرى ترى في هذه العبارة حكماً شرعياً وأمراً إِلهياً يمنع
[14]
المؤمنين من الزواج مع الزانياتِ، ويمنع المؤمناتِ من الزواج مع الزناة، لأنّ الإِنحرافات الأخلاقية كالأمراضِ الجسميةِ المعدية في الغالب. فضلا عن أنَّ ذلك عارٌ يأباهُ المؤمِنُ وينأى عنه.
مضافاً إلى المصير المبهم والمشكوك للأبناء الذين ينشؤون في احضان ملوثة ومشكوكة. ينتظر الأبناءَ من مثل هذا الزواج!
ولهذه الأسباب والخصوصيات منعه الإسلام.
والشاهد على هذا التفسير جملة (وحرِّم ذلك على المؤمنين) الّتي تدلّ على تحريم الزنا.
والدليل الآخر أحاديث عديدة رويت عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) التي فسّرت هذه الآية باعتبارها حكماً إلهياً ينص على المنع.
وحتى أن بعض كبار المفسّرين كتب بشأن نزول هذه الآية: إنّ رجلا من المسلمين استأذن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يتزوج "أم مهزول" وهي امرأة كانت تسافح ولها راية على بابها، فنزلت الآية(1)، عن عبدالله بن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة والزهري، والمراد بالآية النهي وإن كان ظاهرها الخَبَر.
ويؤيده ما روي عن أبي جعفر(عليه السلام) وأبي عبدالله(عليه السلام) أنّهما قالا: "هم رجال ونسَاء كانوا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مشهورين بالزنا، فنهى الله عن أُولئك الرجال والنساء، والناس على تلك المنزلة، فمن شهر بشيء من ذلك وأقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرف توبته"(2).
ولا بد أن نذكّر أن العديد من الأحكام جاء جملا خبرية. ولا ضرورة لأن تكون إنشائيةً آمرةً ناهيةً.
والجديرُ بالإِنتبَاهِ أَنَّ المشركين كانوا يعطفون على الزُناةُ، وهذا يكشِفُ عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، تفسير الآية موضع البحث والقرطبي في تفسيره لهذه الآية. حيث رويا هذا الحديث.
2 ـ مجمع البيان، من تفسير الآية موضع البحث.
[15]
أنَّ الزّنا والشِّركَ صنوانِ. قال الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص"(1)
* * *
ملاحظات
1 ـ الحالات التي يعدم فيها الزاني
ما ذكرته الآيةُ السابقة حكْمٌ عامٌّ يُستثنى منه زنا المحصّن والمحصنة، فحدُّهُما القتل، إذا ثبت عليهما الجُرْمُ.
ويقصد بالمحصن الرجل الذي له زوجة تعيشُ معه، والمحصنة هي المرأة المتزوجة التي يعيش زوجها معها فمن توفر له السبيل المشروع لإرضاء الغريزة الجنسية ثمّ يزني فإنّ حدّه القتل.
كما أن الزنا بالمحرمات حكمه الإعدام.
وكذلك الزنا بالعنف والإكراه، أي الاغتصاب فحكمه القتل أيضاً. وفي بعض الحالات يحكم إضافة إِلى الجلد بالنفي وأحكام أُخرى ذكرتها الكتب الفقهية.
2 ـ لماذا ذكرت الزانية أولا؟
لا شك في أنّ ممارسة هذا العمل الذي يخالف العفة، هي في غايةِ القبح، وتزدادُ قُبحاً وبشاعةً بالنسبة للمرأةِ، فحياؤها أكثر من حياء الرجل، والخروج عليه دليل تمرد شديد جدّاً. وإضافة إلى أنّ عاقبته المشؤومةَ بالنسبةِ لها أكبر رغم فداحتِهِ وَوَبالِه على الطرفين كليهما.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي، الأصول، المجلد الثاني، صفحة 26 (المطبعة الإسلامية عام 1388). حسبما نقله صاحب نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 571.
[16]
ويحتمل أن تكون المرأة مصدر الوساوس في اقتراف هذا الذنب، وتعتبر في كثير من الأحيان السبب الأصلي فيه. ولهذا كله ذكرت الآية الزانية أولا ثمّ الزاني. إلاّ أن النساء والرجال من أهل العفّة والإيمان يجتنبون هذه الأعمال.
3 ـ لماذا تكون العقوبة علنية؟
تستوجب الآية السابقة ـ التي جاءت بصيغة الأمر ـ حضور طائفة من المؤمنين حين تنفيذَ حدّ الزنا، لكنّ القرآن لم يشترط أن يجري ذلك في الملأ العام، بل وقفه على الظروف، ويكفي حضور ثلاثة أشخاص أو أكثر وفق ما يقرر القاضي(1).
وفلسفة هذا الحكم واضحة; لأنّه أوّلاً: إنّ الهدف هو أن يكون هذا الحكم عبرة للناس جميعاً، وسبباً لتطهير المجتمع.
وثانياً: ليكون خجل المذنب مانعاً له من ارتكاب هذا الذنب في المستقبل.
وثالثاً: متى نفذ الحدّ بحضور مجموعة من الناس يتبرأ القاضي والقائمين على تنفيذ الحدّ من أية تهمة كالإِرتشاء أو المهادنة أو التفرقة أو ممارسة التعذيب وأمثال ذلك.
ورابعاً: حضور مجموعة من الناس يمنع التعنت والإِفراط في تنفيذ الحدّ.
وخامساً: حضور الناس يمنع المجرم من نشر الشائعات والإِتهامات ضد القاضي، كما يحول هذا الحضور من نشاط المجرم التخريبي في المستقبل وغير ذلك من الفوائد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ شكك عدد من المفسّرين في ضرورة حضور مجموعة من المؤمنين حين تنفيذ حدّ الزنا، في حين أن الأمر بالحضور ظاهر من الآية، وهي لا تقصد الإِستحباب.
[17]
4 ـ ماذا كان حدّ الزاني سابقاً؟
يستفاد من الآيتين (15) و (16) من سورة النساء أنّ الحكم قبل نزول سورة النّور كان السجن المؤَيَّد للزانية (فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت)وإلحاق الأذى بالزناة غير المحصنين (فآذوهما) ولم يحدد مقدار هذا الأذى حتى حددته هذه الآيةُ بمائة جلدة. وعلى هذا حلّ الإِعدام محل السجن المؤيد في الحكم على الزانية المحصنة، وحُدِّدَ الأذى لغير المحصن بمائة جلدة (ولمزيد من الإِطّلاع راجع التّفسير الأمثل في تفسير الآيتين (15) و (16) من سورة النساء).
5 ـ منع الإِفراط والتفريط عند تنفيذ الحدّ!
لا ريب في أنّ القضايا الإِنسانية والعاطفية توجب بذل أقصى الجهود لمنع إصابة بريء بهذا العقاب، وإصدار العفو وفق الأحكام الإِلهية، أمّا إذا ثبت الذنب فلابُدَّ مِن الحسم مِن غير تأثر بالمشاعر الكاذبة والعواطف البشرية إلاّ بالحَقّ، فهيجانُها الجارفُ يُلحِقُ بالنظام الإِجتماعي ضرراً كبيراً.
ولا سيما وقد وردت في الآية عبارة: "في دين الله" أي: عندما يكون الحكم من الله فهو أَبْصَرُ وأحكَم بمواقِع الرأفةِ والرَّحمةِ، فحين ينهى عن الإِنفعال العاطفيّ في إقامة حكم شَرْعِي من أجل أنّ أكثرية الناس تتملّكهم هذه الحالة، فيحتمل غلبة عواطفهم واحساساتهم على عقلهم وايمانهم. ولا جدالَ في وجود فئة قليلة من الناس تِمِيلُ إِلى العُنْفِ، وهذا انحرافُ عَمَّا دَعَانا إليه رَبُّ العِزَّةِ والحِكمةِ ـ سبحانَهُ ـ مِنَ العَدْلِ والإِحسان اللذين لا يظهران إِلاّ بإقامةِ أحكامِهِ الرشيدة، فلا ينبغي لِمُسلِم أن يزيد أو ينقص في حكم الله سبحانه.
[18]
6 ـ شروط تحريم الزواج بالزانية والزاني:
ذكرنا أن ظاهر الآيات السابقة يحرّم الزواج من الزانية والزاني، وخصصتِ الأحاديث الشريفةُ ذلك بالذين اشتهروا بالزنى ولم يتوبوا، وأمّا إذا لم يشتهروا بهذا العمل القبيح، أو أنّهم تركوه وطهّروا أنفسهم منه، وحافظوا على عفتهم، فلا مانع من الزواج منهم.
أمّا الدليل على الصورة الثّانية، وهي حالة التوبة، فإنه لا ينطبق عنوان الزاني والزانية على هؤلاء فكانت حالة مؤقّتة زالت عنهم. أمّا في الحالة الأُولى فقد ورد هذا القيد في الروايات الإِسلامية ويؤيده سبب نزول الآية السابقة. ففي حديث معتبر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أن الفقيه المعروف "زرارة" سأَله عن تفسير (الزاني لا ينكح إلاّ زانية). فقال الإمام(عليه السلام): "هن نساء مشهورات بالزنا ورجال مشهورون بالزنا، قد شهروا بالزنا وعرفوا به، والناس اليوم بذلك المنزل، فمن أقيم عليه حد الزنا، أو شهر بالزنا، لا ينبغي لأحد أن يناكحه حتى يعرف منه توبته"(1)
كما جاءت أحاديث أُخرى بهذا المضمون.
7 ـ فلسفة تحريم الزنا:
لا يخفى على أحد مساويء هذا العمل القبيح على الفرد والمجتمع، ومع ذلك نرى من اللازم بيان هذا المعنى باختصار: إنّ ممارسة هذا العمل القبيح وانتشاره يعرّض النظام الأسريّ إلى الدمار.
ويجعل العلاقة بين الابن وأبيه غامضة وسلبية.
وقد بيّنت لنا التجربة أنّ الأولاد المجهولي النسب يتحولون إلى جُناة خطرين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، ص 335.
[19]
على المجتمع.
كما أنّ هذا العمل القبيح يؤدي إلى مصادمات بين أصحاب المطامع والأهواء.
إضافة إلى انتشار أنواع الأمراض النفسية والجلدية. وذلك ليس خافياً على أحد.
ومن نتائجه المشؤومة الإِجهاضُ وارتكاب الجرائم من هذا القبيل (ولمزيد الإِطلاع راجع التّفسير الأمثل آخر الآية 32 من سورة الإِسراء).
* * *
[20]
الآيتان
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الُمحْصَنـتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَـنِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَـدَةً أَبَدَاً وَأُؤلَـئكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ(4) إَلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رِّحِيمٌ(5)
التّفسير
عقوبة البهتان:
قَد يستغِلّ المعترضون ما نَصَّتْ عليه الآيات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون للمتطهّرين، فبيّنت الآيات اللاحقةُ هنا عقوبات شديدة للذين يرمون المحصنات، ويُسخّرونَ هذا الحكم لأغراضهم الدنيئة. فجاءت هاتان الآيتان لحفظ الحرمات الطاهرة وصيانة الكرامات مِن عبث هؤلاء المفسدين.
تقول الآية: (والذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء)فالأشخاص الذين يتّهمون النساء العفيفات بعمل ينافي العفّة (أي الزنا)، ولم يأتوا بأربعة شهود عدول لاثبات ادعائهم. فحكمهم (فاجلدوهم ثمانين جلدة) وتضيف
[21]
الآية حكمين أخرين: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأُولئك هم الفاسقون).
فهنا لا يقع مثل هؤلاء الأشخاص تحت طائلة العقاب الفيزيقي الشديد فحسب، بل إنّ كلامهم وشهادتهم يسقطان عن الإعتبار أيضاً، لكيلا يتمكنوا من التلاعب بسمعة الاخرين وتلويث شرفهم في المستقبل، مضافاً إلى أن وصمة الفسق تكتب على جببينهم فيفتضح أمرأهم في المجتمع. وذلك لمنعِهم من تلويث سمعة الطاهرين.
وهذا التشديد في الحكم المشرَّع لحفظ الشرفِ والطهارةِ، ليس خاصاً بهذه المسألة، ففي كثير من التعاليم الإِسلامية نراه ماثلا أمامنا للأهمية البالغة التي يمنحها الإِسلام لشرف المرأة والرجل المؤمن الطاهر.
وجاء في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام): "إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإِيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء"(1).
ولكِنَّ المولى العزيزَ الحكيمَ سبحانه وتعالى لا يسدّ بابَ رحمته في وجه التائبين، الذين تابوا من ذنوبهم وطهّروا أنفسهم، وندموا على ما فرَّطوا، وسعوا في تعويض ما فاتهم مِن البرِّ (إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفور رحيم).
وقد اختلف المفسّرون في كون هذا الإِستثناء يعود إلى جملة (أُولئك هم الفاسقون) أو إِلى جملة (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً)، فإذا كانَ الإِستثناءُ عائداً إلى الجملتينِ معاً، فمعنى ذلك قبول شهادتهم بعد التوبة وإزالَتُه الحكمَ بفسقهم. أمّا إذا كان عائداً إلى الجملة الأخيرة، فإن الحكم عليهم بالفسق سيزول عنهم في جميع الأحكام الإِسلامية، إلاَّ أن شهادتهم تظل باطلة لا تُقبَلُ منهم حتى آخر أعمارهم.
إلاَّ أن المبادىء المعمول بها في "أُصول الفقه" تقول: "إن الإستثناء الوارد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، صفحة 269، باب التهمة وسوء الظن.
[22]
بعد عدّة جمل يعود إلى الأخيرةِ منها، إلاَّ في حالة وجود قرائن تنص على شمول هذه الجمل بهذا الإستثناء. وهنا يوجد مثل هذه القرينة، لأنّه عندما يزول الحكم بالفسق عن الشخص بتوبته إلى الله، فلا يبقى دليل على رَدُّ شهادته لأنّ عدم قبول الشهادة كان من أجل فسقه. فإذا تاب ورجعت إليه ملكة العدالة فلا يسمى فاسقاً.
وجاءت أحاديث عن أهل البيت(عليهم السلام) مؤكّدة هذا المعنى، فقد روى أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد وحماد عن القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حداً، ثمّ يتوب ولا نعلم منه إلاّ خيراً أتجوز شهادته؟ قال: "نعم. ما يقال عندكم؟".
قلت: يقولون: توبته فيما بينه وبين الله، ولا تقبل شهادته أبداً.
فقال: "بئس ما قالوا: كان أبي يقول: إذا تاب ولم نعلم منه إلاّ خيراً جازت شهادته"(1)
كما رويت أحاديث أُخرى في هذا الباب بهذا المعنى، ولكن يوجد حديث واحد يحمل على التقية.
ومن الضروري أن نذكّر بأن كلمة "أبداً" في جملة (لا تقبلوا لهم شهادة أبداً)دليل على عمومية الحكم. وكما نعلم فإنّ كل عام يقبل الإستثناء (خاصّة الإستثناء المتصل به)، فالرأي القائل أن لفظة (أبداً) تمنع تأثير التوبة خطأ مؤكّد.
* * *
بحوث
1 ـ المراد من كلمة "رمى"
"الرّمي" في الأصل هو اطلاق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما، وطبيعي أنه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 18 كتاب الشهادات، الباب 36 صفحة 282.
[23]
يؤذي في معظم الأوقات، وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتهام الأشخاص وسبابهم ووصفِهم بما لا يليق، لأن هذه الكلمات كالسهم يصيب الشخص ويجرحه.
ولعل ذلك هو السبب في استخدام هذه الآيات ـ والآيات المقبلة ـ لهذه الكلمة بشكل مطلق، فلم ترِدِ الآيةُ على هذا النحو (والذين يرمون المحصنات بالزنا) وإنّما جاءت (والذين يرمون المحصنات) لأنّ مفهوم "يرمون" وخاصّة مع ملاحظة القرائن الكلامية يستبطن معنى (الزنا)، وعدم التصريح به ولا سيما عند الحديث عن النساء العفيفات نوع من الاحترام لهن. وهذا التعبير مثال بارزٌ لإكرام المتطهرين، ونموذج لإحترام الآدب والعفة في الكلام.
2 ـ لماذا أربعة شهود؟
من المعلوم أن شاهدين عادلين يكفيان ـ في الشريعة الإِسلامية ـ لإثبات حق، أوذنب اقترفه شخص ما، حتى وإن كان قتل النفس. أمّا في إثبات الزنا فقد اشترط الله تعالى أربعة شهود. وقد يكون ذلك لأن الناس يتعجلون الحكم في هذه المسألة، ويتطاولون بإلصاق تهمة الزنا بمجرّد الشك، ولهذا شدّد الإِسلام في هذا المجال ليحفظ حرمات الناس وشرفهم. أمّا في القضايا الأُخرى ـ حتى قتل النفس ـ فإن موقف الناس يختلف.
إضافة إلى أن قتل النفس ذو طرف واحد في الدعوى، أي إنّ المجرم واحد، أمّا الزنا فذو طرفين، حيث يثبت الذنب على شخصين أو يُنْفَى عنهما، فإذ كان المخصص لكل طرف شاهدين، فيكون المجموع أربعة شهود.
وهذا الكلام تضمنه الحديث التالي: عن أبي حنيفة قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام)أيّهما أشدّ الزنا أم القتل؟ قال: فقال(عليه السلام): القتل: قال: فقلت: فما بال القتل جاز فيه شاهدان، ولا يجوز في الزنا إِلاَّ أربعة؟ فقال لي: ما عندكم فيه يا أبا حنيفة، قال:
[24]
قلت: ما عندنا فيه إلاَّ حديث عمر، إنّ الله أجرى في الشهادة كلمتين على العباد، قال: ليس كذلك يا أبا حنيفة ولكنّ الزنا فيه حدّان، ولا يجوز أن يشهد كلّ اثنين على واحد، لأنّ الرجل والمرأة جميعاً عليهما الحدّ، والقتل إنّما يقام الحدّ على القاتل ويدفع عن المقتول(1).
وهناك حالات معينة في الزنا، ينفذ الحد فيها على طرف واحد (كالزنا بالإِكراه وأمثاله) إلاّ أنها حالات مستثناة والمتعارف فيه اتفاق الطرفين، ومن المعلوم أن غايات الأحكام تتبع الغالب في الأفراد.
3 ـ الشّرط المهم في قبول التوبة
قلنا مراراً: إنّ التوبة ليست فقط بالندامة على ما اقترفه الإنسان وتصميمه على تركه في المستقبل، بل تقتضي ـ إضافة إلى هذا ـ أن يقوم الشخص بالتعويض عن ذنوبه اقترفها، فإذا وجّه المرء تهمة لامرأة أو رجل طاهر ثمّ تاب، فيجب عليه أن يعيد الاعتبار إلى من تَضَرَّرَ باتّهامِه، وذلِك بأن يكذب هذه التهمة بَيْنَ كل الذين سمعوها عنه.
فعبارة (واصلحوا) التي أعقبت عبارة (تابوا) هي إشارة إلى هذه الحقيقة، حيث أوجبت التوبة ـ كما قلنا ـ أولا، ثمّ إصلاح ما أفسده وإعادة ماء وجه الذي أساء إليه، وليس صحيحاً أن يتَّهم إنسانٌ أخاهُ ظلماً في ملأ عام، أو يعلن عن ذلك في الصحّف وأجهزة الإعلام، ثمّ يستغفر في خلوة داره ـ مثلا ـ ويطلب من الله الصفح عنه، وبالطبع لن يقبل الله مثل هذه التوبة.
لذلك روي عن أئمّة المسلمين قال الرّاوي: سألته عن الذي يقذف المحصنات، تقبل شهادته بعد الحدّ إذا مات؟ قال: نعم، قلت، وما توبته؟ قال:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 574.
[25]
لا يجىء فيكذب نفسه عند الإمام ويقول: "قد افتريت على فلانة ويتوب ممّا قال"(1).
4 ـ أحكام القذف:
يوجد باب تحت عنوان "حد القذف" في كتاب الحدود.
و"القذف" على وزن "فَعْلُ" يعني لغةً رمي الشيء نحو هدف بعيد، إلاّ أنّه استخدمت كلمة "رمى" كناية عن إتهام شخص ما في عرضه، أو بتعبير آخر: هو سباب يرتبط بهذه الأُمور.
و "القذف" إذا جرى بلفظ صريح، وبأي لغة وأية صورة فحدّة ـ كما قلنا سابقاً ـ هو ثمانون جلدةً. وإذا لم يكن صريحاً فيعزّر القاذف. (ولم ترد في الشريعة الإِسلامية حدود للتعزير، بل وكل التعزير إلى تقدير القاضي، ليقرر حدودها وفق خصائص المذنب وكيفية وقوع الذنب والشروط الأُخرى).
وإذا وجه شخص اتهاماً لمجموعة من الناس، وكرره بالنسبة لكل واحد منهم، فإنه يواجه حدّ القذف لكل تهمة تفوّه بها، أمّا إذا اتهمهم مرّة واحدة، فينفَّذُ بحقه حَدٌّ واحدٌ إن طالبوا القاضي جميعاً مرة واحدة. وأمّا إذا أقام كلّ واحد منهم الدعوى بصورة مستقلة، فإنه يعاقب المذنب بعدد هذه الدعاوي.
وهذا الموضوع من الأهمية إلى درجة أنّه إذا إتهم شخصاً ومات المتهم، فلورثته الحق في المطالبة باقامة الحدّ على الذي إتهم مورثّهم بشيء. وبما أن هذا الحكم مرتبط بحق الشخص، فلصاحب الحق العفو عن الذنب وإسقاط الحدّ عنه، بإستثناء حالة تكرر هذا الذنب من شخص معين بحيث يعرض وجود وشرف المجتمع إلى الخطر، فيكون حسابه عسيراً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الثامن عشر، صفحة (283) (أبواب الشهادات باب 36 الحديث 4).
[26]
وإذا تسابّ شخصان سَقَط الحد عنهما، إلاَّ أنّ حاكم الشرع يعزرهما، ولهذا لا يجوز للشخص رَدُّ السّباب بالمثل، بَل لَهُ أنْ يطلب من حاكم الشرع معاقبة المذنب.
وعلى كل حال فإنّ هذا الحكم الإِسلامي يَرْمي إلى المحافظة على سمعة الناس وشرفهم، وإلى الحيلولةِ دون انتشار المفاسد الإِجتماعية والأخلاقية التي يبتلي المجتمع بها عن هذا الطريق. ولو تُرِكَ المفسدون يعملون ما يحلو لهم يسبّون ويتهمون الأشخاص والمجتمع متى شاؤوا دون رادع، لتعرض شرف الناس وكرامتهم إلى الهتك، ولوصل الأمر بسبب هذه التهم الباطلة إلى وقوع الريبة بين الزوج وزوجته، وسوء ظن الأب بشرعية ولده إلى الخطر. ويسيطر الشك وسوء الظن على المجتمع كله. وتروّج الشائعات فتصيب الطاهرين أيضاً. وهنا يستوجب العمل بحزم كبير مثلما عامل الإِسلام هؤلاء المسيئين مروّجي التهم والشائعات.
أجل، يجب أن يُضربوا ثمانين جلدة إزاء كل تهمة بالزنا ليقفوا عند حَدّهم، ولتتم المحافظة على كرامة الناس وشرفهم.
* * *
[27]
الآيات
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدآءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَـدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـدَتِ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّـدِقِينَ (6)وَالْخَـمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَـذِبينَ (7)وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَـدَتِ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَـذِبينَ(8) وَالْخَـمِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الْصَّـدِقينَ(9) وَلَوْ لاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأنَّ اللهُ تَوَّابٌ حَكِيمٌ(10)
سبب النّزول
روى ابن عباس أن سعد بن عبادة (سيد الأنصار) من الخزرج، قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بحضور جمع من الأصحاب: "يا رسول الله! لو أتيت لكاع (زوجته) وقد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتي باربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
[28]
يا معشر الأنصار ما تَسمعون إلى ما قال سيدكم؟
فقالوا: لا تلمه فإنّه رجل غيور. ما تزوج امرأة إلاّ بكراً، ولا طلّق امرأة له فاجترى رجل منّا أن يتزوجها.
فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمي، والله إنّي لأعرف أنّها من الله، وأنّها حق، ولكن عجبت من ذلك لما اخبرتك.
فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): فإنّ الله يأبى إلاّ ذاك.
فقال: صدق الله ورسوله.
فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ابن عم له، يقال له: هلال بن أُمية قد رأى رجلا مع امرأته ليلا، فجاء شاكياً إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنّي جئت أهلي عِشَاءُ فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته بأُذني.
فكره ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى رؤيت الكراهة في وجهه، فقال هلال: إنّي لأرى الكراهة في وجهك، والله يعلم إنِّي لصادق، وإنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً.
فهمَّ رسولُ الله بضربه، واجتمعت الأنصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فنزل الوحي وأمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل، فأنزل الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآيات، فقال رسولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أبشريا هلال، فإنّ الله تعالى قد جعل فرجاً.
فقال: قد كنت أرجوا ذاك من الله تعالى.(1)
وبنزول الآيات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة، وشرحها كما يأتي.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفاسير مجمع البيان، وفي ظلال القرآن، ونورالثقلين، والميزان، في تفسير الآيات موضع البحث (مع بعض الإختلاف).
[29]
التّفسير
عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة!
يستنتج من سبب النّزول أنّ هذه الآيات في حكم الإِستثناء الوارد على حد القذف، فلا يُطبق حدّ القذف (ثمانين جلدة) على زوج يتّهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر، وتقبل شهادته لوحدها. ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقاً كما يمكن أن يكون كاذباً في شهادته. وهنا يقدم القرآن المجيد حلا أمثل هو:
على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق ادعائه (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم الشهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنّه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة "اشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها من الزنا" أربع مرات لإثبات ادعائه من جهة، وليدفع عن نفسه حد القذف من جهة أُخرى. ويقول في الخامسة: "لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين".
وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين، فإمّا أن تقر بالتهمة التي وجهها إليها زوجها، أو تنكرها على وفق ما ذكرته الآيات التالية.
ففي الحالة الأُولى تثبت التهمة.
وفي الثّانية (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين). وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابلُ شهادات الرجل الخمس ـ أيضاً ـ لتنفي التهمة عنها. بأن تكرر أربع شهادات "أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني من الزنا" وفي الخامسة تقول "أن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين".
وهذِهِ الشهاداتُ منهما هي ما يسمّى بـ "اللعان"، لاستخدام عبارة اللعن في الشهادة.
وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية.
[30]
أوّلها: انفصالهما دون طلاق.
وثانيها: تحرم الزوج على الزوجة إلى الأبد، أي لا يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معاً بعقد جديد.
وثالثها: سقوط حد القذف عن الرجل، وحد الزنا عن المرأة (وإذا رفض أحدهما تنفيذ هذه الشهادات يقام عليه حَدُّ القذف إن كان الرافض الرجل، وإن كانت المرأة يقام عليها حد الزنا.
ورابعها: الطفل الذي يولد بعد هذه القضية لا ينسب إلى الرجل، وتحفظ نسبته للمرأة فقط.
ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في الآيات المذكورة أعلاه، وإنّما جاء في آخر الآية موضع البحث (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله توّاب حكيم). فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة، لأنّها تدل على أن اللعانَ فضل من الله، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان، بشكل صحيح.
فمن جهة لا يجبر الرجل على التزام الصمت إزاء سوء تصرف زوجته ويمتنع من مراجعة الحاكم الشرعي.
ومن جهة أُخرى لا تتعرض المرأة إلى حدّ الزنا الخاص بالمحصنة بمجرّد توجيه التهمة إليها، بل يمنحها الإسلام حق الدفاع عن نفسها.
ومن جهة ثالثة لا يلزم الرجل البحث عن شهود أربعة إن واجه هذه المشكلة، لاثبات هذه التهمة النكراء والكشف عن هذه الفضيحة المخزية.
ومن جهة رابعة يفصل بين هذين الزوجين ولا يسمح لهما بالعودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد في المستقبل أبداً، لتعذّر الإستمرارُ في الحياة الزوجيةِ إن كانت التهمة صادقة، كما أن المرأة تصاب بصدمة نفسية إن كانت التهمة كاذبة. وتجعل الحياة المشتركة ثانية صعبة للغاية ولا تقتصر على حياة باردة وخاملة، بل ينتج عن هذه التهمة عداء مستفحلٌ بينهما.
[31]
ومن جهة خامسة توضح الآية مستقبل الوليد الذي يولد بعد توجيه هذه التهمة.
هذا كله فضل من الله ورحمة منّ بها على عباده. وحل هذه المشكلة بشكل عادلُ يُعبِّرُ عَنْ لطفِ اللهِ بعبادِهِ وَرَحمته لهم. ولو دققنا النظر في الحكم لرأينا أنّه لا يتقاطع مع ضرورة وجود شهود أربعة في هذه القضية. إذ أن تكرار كل من الرجل والمرأة شهادتهما أربع مرات يعوض عن ذلك.
* * *
ملاحظات
1 ـ لماذا استثني الزوجان من حكم القذف؟
السّؤال الأوّل الذي يطرح نفسه هنا: ما هي خاصية الزوجين، ليصدر هذا الحكم المستثنى بحقّهما؟
ونجد جواب هذا السؤال من جهة في سبب نزول الآية، وهو عدم تمكن الرجل من التزام الصمت إزاء مشاهدته لزوجته وهي تخونه مع رجل آخر.
كيف له أن يمتنع عن رد الفعل إزاء الإعتداء على شرفه؟ وإذا توجّه إلى القاضي وهو يصرخ ويستنجد، فقد يواجه حدّ القذف، لعدم تيقن القاضي من صدق دعواه. وإذا حاول إحضار أربعة شهود، فإن ذلك صعب عليه لمساسه بشرفه، وقد تنتهي الحادثة ولا يمكنه إحضار شهوده في الوقت المناسب.
ومن جهة أُخرى، فإنّ الغرباء يتّهمون بعضهم بعضاً بسهولة، ولكن الرجل والمرأة نادراً ما يتّهم أحدهما الآخر.
ولهذا السبب حكم الشارع في هذه القضية بوجوب إحضار أربعة شهود في غير الزوجين، وإلاّ نُفِّذَ حَدُّ القذف على الذي يوجه تهمة الزنا، وليس الأمر كذلك بالنسبة للزوجين، ولهذا خصّهما الحكم المذكور لما فيهما من ميزات خاصّة في هذه الحالة.
[32]
2 ـ كيفية اللعان
توصلنا بعد الإِيضاحات التي ذكرناها خلال تفسير هذه الآيات، إلى وجوب تكرار الرجل شهادته أربع مرات ليثبت صحة دعواه في اتهامه لزوجته بالزنا، ولينجو من حَدِّ القذف. وبهذا فإن هذه الشهادات الأربع من الزوج بمثابة أربعة شهود، وفي الخامسة يتقبل لعنة الله عليه إن كان كاذباً.
ومع الإلتفات إلى أن تنفيذ هذه الاحكام يتم عادة في محيط اسلامي ملتزم وبيئة متديّنة، ويرى الزوج نفسه مضطراً للوقوف بين يدي الحاكم الشرعي، ليدلي بشهادته أربع مرات بشكل حاسم لا يقبل الشك والترديد، وفي الخامسة يطلب من الله أن يلعنه إن كان كاذباً، فهذا كله يمنع الرجل من التهوّر وتوجيه اتهام باطل إلى زوجته.
أمّا المرأة التي تريد الدفاع عن نفسها وترى نفسها بريئة من هذه التهمة، فعليها تكرار شهادتها أربع مرات وتشهد أن التهمة باطلة، لإيجاد موازنة بين شهادتي الرجل والمرأة، وبما أن التُّهمة موجهة للمرأة، فإنّها تدافع عن نفسها بعبارة أقوى في المرحلة الخامسة، حيث تدعو الله أن ينزل غضبه عليها إن كانت كاذبة.
وكما نعلم فإنّ "اللعنة" إبتعاد عن الرحمة.
وأمّا "الغضب" فإنّه أمر أشد من اللعنة، لأنّ الغضب يستلزم العقاب، فهو أكثر من الابتعاد عن الرحمة.
ولهذا قلنا في تفسير سورة الحمد: إنَّ (المغضوب عليهم) هم أسْوَأ من (الضالين) على الرغم من أنّ الضالّين هم بالتأكيد بعيدون عن رحمة الله تعالى.
3 ـ العقاب المحذوف في الآية:
جاءت الآية الأخيرةُ ـ ممّا نحن بصدده ـ جملةً شرطيةً لم يذكر جزاءها
[33]
حيث تقول: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله توّاب حكيم). لكنّها لم تذكر نتيجة ذلك. وبملاحظة القرائن فيها يتّضح لنا جواب الشرط. والصمت إزاء مسألة ما يكشف عن أهميتها البالغة، ويثير في مخيلة المرء تصورات عديدة لها. وكل تصور منها له مفهوم جديد. فهنا قد يكون جواب الشرط: لو لا فضل الله ورحمته عليكم، لكشف عن أعمالكم وفضحكم.
أو: لولا فضل الله ورحمته عليكم، لعاقبكم فوراً وأهلككم.
أو: لولا هذا الفضل، لما وضع الله سبحانه وتعالى مثل هذه الأحكام الدقيقة من أجل تربيتكم.
وفي الواقع فإن حذف جواب الشرط يثير في فكر القارىء كل هذه الأُمور(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكر تفسير "الميزان" جواب الشرط بشكل يشمل التفاسير الأُخرى قال: "لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريع الشرائع لنظم أمور حياتكم، لزمتكم الشقوة، وأهلكتكم المعصية والخطيئة، واختل نظام حياتكم بالجهالة".
[34]
الآيات
إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىء مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)لَّولاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذَ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلـئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَـذِبُونَ(13) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ(15) وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَنْ نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَـنَكَ هَذَا بُهْتَـنٌ عَظِيمٌ(16)
سبب النّزول
ذكر سببين لنزول الآيات السابقة:
أوّلهما: ما روته عائشة زوجة الرّسول قالت: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن
[35]
يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة(1) غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما نزل الحجاب وأنا أُحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوته تلك وقفل.
فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار(2). قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم إنّما تأكل المرأة العلقة(3) من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنّهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت.
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثمّ الذكر إنّي من وراء الجيش فأدلج(4)فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة واحدة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطّى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هي غزوة بني المصطلق في العام الخامس لللهجرة.
2 ـ ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء، وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي فيه سواد وبياض.
3 ـ العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق.
4 ـ أدلج القوم: ساروا الليل كله أو في آخره.
[36]
وكان الذي تولى الإفك عبدالله بن أُبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أُشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنّما عليَّ فيسلم ثمّ يقول: كيف تيكم؟ ثمّ ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أُشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أُم مسطح قبل المناصع(1) وهي متبرزنا وكنّا لا نخرج إلاّ ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأوّل في التبرّز قبل الغائط فكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا وأُم مسطح فأقبلت أنا وأُم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا(2) من ثيابنا فعثرت أُم مسطح في مرطها(3) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدراً؟ قالت: إي هنتاه(4) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم ثمّ قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ ـ قالت: وأنا حينئذ أُريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ قالت: فأذن لي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت لأبوي فقلت لاُمي: يا أُمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقاً لي دمع ولا أكتحل بنوم ثمّ أصبحت أبكي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المناصع: المواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة.
2 ـ أي رفعنا ثيابنا.
3 ـ المرط ـ بالكسر ـ كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به.
4 ـ خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه.
[37]
ودعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب وأُسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأمّا اسامة فأشار على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً، وأمّا علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئاً يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً أغمضه أكثر من أنّها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فاستعذر يومئذ من عبدالله بن أبي فقال وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي.
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواتنا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحاً ولكن احتملته الحميّة ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بن خضير وهو ابن عم سعد بن عبادة، قال: كذبت لنقتلنه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيّان: الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قائم على المنبر فلم يزل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يخفضهم حتى سكنوا وسكت.
فبكيت يومي ذلك فلا يرقاً لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ولا يرقاً لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.
[38]
فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأبصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ثمّ جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس ثمّ قال: أمّا بعد يا عائشة إنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا إعترف بذنبه ثمّ تاب تاب الله عليه.
فلمّا قضى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مقالته قلص(1) دمعي حتى ما أُحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت لاُمي: أجيبي عني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إنّي والله لقد علمت أنّكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدّقتم به فلئن قلت لكم: إنّي بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنّي منه بريئة لتصدّقنّي، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلاّ قول أبي يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
ثمّ تحوّلت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرَّئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا يبرَّئني الله بها.
قالت: فوالله ما رام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدّر منه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قلص: اجتمع وانقبض.
[39]
مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أُنزل عليه فلمّا سري عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سري عنه وهو يضحك فكان أوّل كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أمّا الله فقد برّأك، فقالت أُمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم اليه ولا أحمد إلاّ الله الذي أنزل براءتي، وأنزل الله: "إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم" العشر الآيات كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبوبكر، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: "ولا يأتلِ أُولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين ـ إلى قوله ـ رحيم" قال أبوبكر: والله إنّي اُحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مَسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
قالت عائشة: فكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل زينب أبنة حجش عن أمري فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلاّ خيراً، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فعصمها الله بالورع، وطفقت اختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.(1)
إمام باقر(عليه السلام) يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حزن عليه حزناً شديداً فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلاّ ابن جريح، فبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) وأمره بقتله.
فذهب علي(عليه السلام) ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب علي(عليه السلام)باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليّاً(عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان فوثب علي(عليه السلام) على الحائط ونزل إِلى البستان واتبعه وولى جريح مدبراً فلما خشي أن يرهقه(2) صعد في نخلة وصعد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الميزان، ج15، ص96 ـ 100.
2 ـ أرهقه: أدركه.
[40]
علي(عليه السلام) في أثره فلما دنا منه رمي بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإِذا ليس له ما للرجال ولا له ماللنساء.
فانصرف علي(عليه السلام) إِلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا رسول الله إِذا بعثتني في الأمر أكون كالسمار المحميّ في الوبر أم أُثبّت؟ قال: لابل تثبّت. قال: والذي بعثك بالحق ما له ماللرجال وما له ماللنساء، فقال: الحمدالله الذي صرف عنّا السوء أهل البيت.(1)
* * *
تحقيق المسألة:
على رغم ممّا ذكرته معظم المصادر الإسلامية لهذين السببين فإن هناك أموراً غامضةً في السبب الأوّل تثير النقاش، منها:
1 ـ يستفاد من تعابير هذا الحديث ـ رغم تناقضاته ـ أنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وقع تحت تأثير الشائعة، وأدى ذلك إلى مشاورتِهِ أصحابَهُ وتغيير سلوكِهِ مع عائشة حتى ابتعد عنها لمدّة طويلة.
وهذا الموضوع لا ينسجم مع عصمةِ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحسب، بل كل مسلم ثابت الإِيمان لا ينبغي أن يقع تحت تأثير الشائعات دون مبرر، وإذا تأثّر بالشائعة فعليه ألا يُغيِّر سلوكَهُ عملياً، ولا يَسْتَسلِم للشائعةِ وأثرها فكيف بالمعصوم.
فهل يمكن التصديق أنَّ العتاب الشديد الذي ذكرته الآيات التالية وتساءلت: لماذا وقع بعض المؤمنين تحت تأثير هذه الشائعة، ولماذا لم يطلبوا شهوداً أربعة، يشمل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هذه تساؤلات تدفعنا في أقل تقدير إلى الشك في صحة سبب النّزول الأول.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق، ص103.
[41]
2 ـ رغم أن ظاهر الآيات يَدُلُّ على أن حكم القذف (الإتهام بعمل مخل بالشرف والعفة) نزل قبل حديث الإِفك، فلماذا لم يستدع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عبدالله بن أبي سلول وعدداً آخر ممَّنْ نشروا هذه الشائعة ليجري الحد الذي فرضه الله؟ (الاّ أن يقال بأن آيات القذف والافك نزلت سويةً، وأن حكم القذف قد شرح حينذاك لتناسبه مع الموضوع، ففي هذه الصورة ينتفي هذا الإشكال ولكن يبقى الأوّل على قوّته).
أمّا بالنسبة لسبب النّزول الثّاني، فإنّ ما يثير فيه النقاش هو عدّة أُمور، منها:
1 ـ إن الذي وجه التهمة ـ وفقاً لسبب النّزول هذا ـ هو شخصٌ واحدٌ لا غير، في الوقت الذي ذكرت الآيات فيه أنّهم مجموعة، وقد روّجوا لها لدرجة شيوعها تقريباً في المدينة كلها. لهذا استخدمت الآيات ضمير جمع للمؤمنين الذي عاتبتهم بشدّة، والذين تورّطوا في تصديق وترويج هذه الشائعة، وهذا لا ينسجم أبداً مع سبب النّزول الثّاني.
2 ـ يبقى سؤال هو: إذا كانت عائشة ارتكبت هذا الإثم (القذف) ثمّ ثبت خلاقة، فلماذا لم يُنفِّذِ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حَدَّ القذف بحقها؟
3 ـ كيف يمكن للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصدر حكم القتل بحق شخص بشهادة امرأة واحدة؟ مع أنّ التنافس بين زوجات رجل واحد أمراً اعتياديّاً، والإنحراف عن الحق والعدل أو ارتكاب إحداهن لخطأ على الأقل ممكن.
وليس مهماً ما يكون سبب النّزول، بل المهم أن نعلم من مجموع الآيات هو أنه قد اتهم شخص بريء بعمل مخلّ بالعفة والشرف حين نزول هذه الآيات، وأن الشائعات كانت منتشرة في المدينة، كما يفهم من الدلائل الموجودة في هذه الآية، أن هذه التهمة كانت موجهة لشخص له أهمية خاصّة في المجتمع آنذاك. وأن مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أرادوا الاخلال بالمجتمع الإِسلامي بترويجهم هذه الشائعة، فنزلت هذه الآيات، وتصدّت لهذه الحادثة بقوة، ودفعت
[42]
المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم.
ومهما يكن سبب نزول هذه الأحكام، فإنها لا تخص سبب النّزول وحده، ولا تنصرف لزمانه ومكانه فقط، بل هي أحكام نافذة في كُلِّ بيئة وزمان.
بعد هذا الحديث نشرع في تفسير هذه الآيات لنرى كيف يتابع القرآن بفصاحته وبلاغته هذه الحادثة الخاصّة، وكيف يبحث تفاصيلها بدقة.
* * *
التّفسير
حديث الافك المثير:
تقول أوّل آية من الآيات موضع البحث، دون أن تطرح أصل الحادثة (إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم) لأن من علائم الفصاحة والبلاغة، حذفَ الجملِ الزائدة، والإكتفاء بما تدلّ عليه الكلمات من معان شاملة.
كلمة "الإفك" على وزن "فكر" كما يقول الراغب الأصفهاني: يقصد بها كل مصروف عن وجهه، الذي يحق له أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب "مؤتفكة" ثمّ اطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب، ومن ذلك يطلق على الكذب "أفك".
ويرى "الطبرسي" في مجمع البيان أن الأفك لا يطلق على كل كذبة بل الكذبة الكبيرة التي تبدل الموضوع عن حالته الأصلية، وعلى هذا يستفاد أن كلمة "الأفك" بنفسها تبيّن أهمية هذه الحادثة وكذب التهمة المطروحة.
وأمّا كلمة "العُصبة" فعلى وزنِ "فُعْلَة" مشتقّة من العَصَبْ، وجمعها أعصاب، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض، وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم، ثمّ أطلقت كلمة "عصبة" على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة.
[43]
واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الإِرتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك، حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات.
وقال البعض: إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصاً(1).
وعلى كل حال فإن القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة (لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم)، لأنّه كشف عن حقيقةِ عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء، وفضح أمر هؤلاء المرائين، وسوّد وجوههم إلى الأبد.
ولو لم تكن هذه الحادثة، لما افتضح أمرهم بهذا الشكل، ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين.
إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أن اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء، وأنَّ عليهم أن يَقِفُوا بقوّة امام هذا العمل. كما علّم هذا الحادث المسلمين درساً آخر، وهو أنَّ لا ينظروا إلى ظاهر الحادِثِ المؤلم، بل عليهم أن يتبحّروا فيه، فقد يكون فيه خيراً كثيراً رغم سوء ظاهره.
وممّا يلفت النظر أنّ ذكر ضمير "لكم" يعمّ جميع المؤمنين في هذا الحادث، وهذا حقّ، لأن شرف المؤمنين وكيانهم الإجتماعي لا ينفصل بعضه عن بعض، فهم شركاء في السرّاء والضرّاء.
ثمّ تعقّب هذه الآية بذكر مسألتين:
أوّلاهما: (لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم) إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق كبار المذنبين لا تحول دون تحمل الآخرين لجزء من هذه المسؤولية، ولهذا يتحمل كلّ شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل تفسير "روح المعاني" هذا المعنى عن كتاب "الصحاح".
[44]
والمسألة الثّانية: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) قال بعض المفسّرين: إن الشخص المقصود هو "عبدالله بن أبي سلول" قائد أصحاب الإفك.
وقال آخرون: إنّه مسطح بن أُثاثة. وحسان بن ثابت كمصاديف لهذا الخطاب.
وعلى كل حال، فإنّ الذي نشط في هذا الحادث أكثر من الآخرين، وأضرم نار الإفك، هو قائد هذه المجموعة الذي سيُعاقَبُ عِقاباً عظيماً لِكبر ذنبه. (ويحتمل أن كلمة "تولى" يقصد بها رأس مروجي حديث الإِفك).
ثمّ تَوجّهت الآية التالية: إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات، فلا متهم بشدّة (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً).
أي: لِمَاذا لم تقفوا في وَجْهِ المنافقين بقوّة، بل استمعتم إلى أقوالهم الّتي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم. ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأن هذا الكلام كذب وافتراء: (وقالوا هذا افك مبين).
أنّكم كنتم تعرفون جيداً الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين، وتعرفون جيداً طهارة الذي اتّهم، وكنتم مطمئنين من عدم صدق هذه التهمة وفق الدلائل المتوفرة لديكم.
وكنتم تعلمون أيضاً بما يحاك من مؤامرات ضدّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الأعداء والمنافقين، لذا فإنّكم تستحقون اللوم والتأنيب لمجرد هذه الشائعات الكاذبة، ولالتزامكم الصمت إزاءها، فكيف بكم وقد اشتركتم في نشر هذه الشائعة بوعي أو دون وعي منكم؟
وممّا يلفت النظر أن الآية السابقة بدلا من أن تقول: عليكم أن تحسنوا الظن بالمتهم وتصدقوا تهمته، فإنها تقول (ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً)وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى أنَّ أنفس المؤمنين كنفس واحدة، فإذا اتهم
[45]
أحدهم، فكأن التهمة موجهة لجميعهم، ومثالهم في ذلك كمن اشتكى عضو منه فهبت بقية الأعضاء لنجدته.
وهكذا يجب أن يهب المسلم للدفاع عن إخوته وأخواته في الدين مثلما يدافع عن نفسه(1).
وقد استعملت كلمة "الأنفس" في آيات أخرى من القرآن في هذا المعنى أيضاً ـ في مثل هذه الحالات ـ كما هو في الآية (11) من سورة الحجرات (ولا تلمزوا أنفسكم)! أمّا الإستناد إلى الرجال والنساء المؤمنين فيشير إلى قدرة الإيمان على ردع سوء الظن بالآخرين.
وحتى هذه اللحظة كانت الملامة ذات طابع أخلاقي ومعنوي، وتقضي بعدم التزام المؤمنين جانب الصمت إزاء مثل هذه التهم القبيحة، أو أن يكونوا وسيلة بيد مُروِّجي الشائعات.
ثمّ تهتم الآيات بالجانب القضائي للمسألة فتقول: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) أي لماذا لم تطلبوا منهم الإيتان بأربعة شهود. (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون).
إنّ هذه الملامة تبيّن أن الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم، وكذلك حد القذف في حالة عدمه قد نزل قبل الآيات التي تناولت حديث الإفك.
وأمّا الجواب عن سؤال: كيف لم يقدم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على تنفيذ هذا الحدّ؟ فإنّه واضح، لأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقدم على شيء ما لم يسند من قبل الناس، فالتعصب القبلي قد يؤدي إلى مقاوة سلبية لبعض أحكام الله ولو بصورة مؤقتة، وقد ذكر المؤرخون أنّ الأمر كان هكذا في هذه القضية.
وأخيراً جمعت الآية التالية هذه الملامات، فقالت (ولولا فضل الله عليكم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وأمّا قول البعض بأن المضاف محذوف وتقديره "ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفس بعضهم خيراً" ليس صائباً ويفقد الآية جمالها وروعتها.
[46]
ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم).
ونظراً لأن "أفضتم" مشتقة من الإفاضة، بمعنى خروج الماء بكثرة، واستُعْمِلت في حالات أُخرى للتوغل في الماء، نَتَج مِن هذِهِ العبارة أنَّ شائعة الإتهام توسعت بشكل شملت المؤمنين مضافاً إلى مروجيها الأصليين (المنافقين).
وتبيّن الآية التالية ـ في الحقيقة ـ البحث السابق. وهو كيف ابتلي المؤمنين بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم؟ فتقول (إذ تلقونه بألسنتكم) أي تذكّروا كيف رحبتم بهذه التهمة الباطلة فتناقلتموها (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ولا تحسبونه هيناً هو عندالله عظيم).
وتشير هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال:
الأوّل: تَقَبُّل الشائعة: استقبالها وتناقلها.
الثّاني: نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها.
الثّالث: استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة للّهو وقضاء الوقت، في وقت تمس فيه كيان المجتمع الإِسلامي وشرفه، إضافة إلى مساسها بشرف بعض المسلمين.
وممّا يلفت النظر أنَّ الآية استعملت تعبير "بألسنتكم" تارةً أخرى تعبير "بأفواهكم" على الرغمِ من أنَّ جميعَ الكلام يصدر عن طريق الفم واللسان، إشارة إلى أنّكم لم تطلبوا الدليل على الكلام الذي تقبلتموه، ولا تملكون دليلا يُسوِّغُ لكم نَشْرَهُ، والأمر الوحيد الذي كان بأيديكم هو لقلقة لسانكم وحركات أفواهكم.
ونظراً لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين، أكدتها الآية ثانية، فانَّبتهم مرّة أُخرى ولذعتهم بعباراتها إذْ قالت (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم).
[47]
وسبق لهذه الآية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه الإتهام باطلا، وهنا تقول الآية: إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب ألا تسمحوا لأنفسكم بالتحدث عنه، ولا تتناولوا التهمة الموجهة إليه، فكيف بكم وقد كنتم سبباً لنشرها!
عليكم أن تعجبوا لهذه التهمة الكبيرة، وأن تذكروا الله سبحانه وتعالى، وأن تلجأوا إلى الله يطهركم من نشر هذه التهمة وإشاعتها. ومع كل الأسف استصغرتموها ونشرتموها بكل يسر، فأصبحتم بذلك آلةً بيد المنافقين المتآمرين المروجين للشائعات.
هذا وسنتناول بالبحث ـ خلال تفسير الآيات القادمة ـ ذنب اختلاق الشائعة ودوافعها، والسبيل إلى مكافحتها، بعون الله وتوفيقه.
* * *
[48]
الآيات
يَعُظِكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لْمِثْلِهِ أبَدَاً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(17) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الاَْيَـتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَتَعْلَمُونَ(19) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(20)
التّفسير
حرمة إشاعة الفحشاء:
تحدثت هذه الآيات أيضاً عن حديث الإفك، والنتائج المشؤومة والأليمة لاختلاق الشائعات ونشرها، واتهام الأشخاص الطاهرين بتهمة تمس شرفهم وعفتهم. وهذه القضية مهمه بدرجة أن القرآن المجيد تناولها عدّة مرات، وعَرَضَ لها من طرق مختلفة مؤثرة، باحثاً محللا لها من أجل ألاّ تتكرر مثل هذه الواقعة الأليمة في المجتمع الإسلامي، فذكر أولا (يعظكم الله أن تعودوا لمثله)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لهذه الجملة كلمة محذوفة هي حرف "لا" وتقديرها: "يعظكم الله أن لا تعودوا لمثله أبداً" وإذا لم نقدّر محذوفاً، فإن عبارة "يعظكم" تعني ينهاكم. أي إن الله ينهاكم من العودة إلى مثل هذا العمل.
[49]
أي أن من علامات الإيمان أن لا يتوجه الإنسان نحو الذنوب العظام، وإذا ارتكبها فذلك يدلّ على عدم إيمانه أو ضعفه، والجملة المذكورة تشكل ـ في الحقيقة ـ أحد أركان التوبة، إذ أنَّ الندم على الماضي لا يكفي، بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل، لتكون توبة كاملة.
ولتأكيد أكثر على أنَّ هذا الكلام ليس اعتيادياً، بل صادر عن الله العليم الحكيم، ولبيان الحقائق ذات الأثَر الفَعَّال في مصير الإنسان، يقول سبحانه وتعالى (ويبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم).
فهو يعلم تفاصيل أعمالكم تمام العلم، ويصدر أحكامَهُ بمقتضى حكمته الهادِيةِ لكم. وبتعبير آخر: إنه يعلم حاجاتكم وما يضرّكم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع، ويصدر أحكامه وأوامره المتناسبة لاحتياجاتكم بمقتضى حكمته.
ولتثبيت الأمر نقل الكلام من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم، فقال: (إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم من الدنيا والآخرة).
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يقل "الذين يشيعون الفاحشة، بل قال: (الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) وهذا يحكي عن الأهمية القصوى التي يدليها القرآن لذلك. وبعبارة أخرى: أنّه لا ينبغي توهم أن ذلك كان من أجل زوجة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو شخص آخر بمنزلتها، بل من أجل كلّ مؤمن ومؤمنة، فلا خصوصية في ذلك، إنّما هي عامّة للجميع على الرغم من أن كل حالة لها خصائصها، وقد تزيد الواحدة على الأُخرى في الخصائص أو تنقص.
كما يجب الإنتباه إلى أن إشاعة الفحشاء لا تنحصر في ترويج تُهمة كاذبة ضد مسلم مؤمن، يتهم بعمل مخل بالشرف، بل هذه مصداق من مصاديقها ولهذا التعبير مفهوم واسع يضم كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر.
وقد وردت في القرآن المجيدِ كلمةُ "الفحشاء" غالباً للدلالة على العمل
[50]
المخل بالعفّة والشرف. ولكن من الناحية اللغوية، فقد ذكر الراغب الإصفهاني مفهوماً واسعاً لها فقال: الفحش والفحشاء والفاحشة، ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.
ويستعمل القرآن أحياناً هذا المفهوم الواسع، حيث يقول (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش).(1)
وبهذا يتّضح المفهوم الواسع للآية:
أمّا قول القرآن الكريم: (لهم عذاب عظيم في الدنيا) فقد يكون إشارة إلى الحدود والتعزيرات الشرعية. وردود الفعل الإجتماعية، وما يبتلى به الناس في هذه الدنيا من مظاهر مشؤومة بسبب أعمالهم القبيحة، إضافة إلى عدم تقبل أية شهادة منهم، وإدانتهم بالفسق والفجور وافتضاح أمرهم. كل ذلك من النتائج الدنيوية التي تترتب على أقوالهم وأعمالهم القبيحة.
وأمّا عذابهم الأليم في الآخرة، فيكون في ابتعادهم عن رحمةِ الله، واستحقاقهم غضب الله وعذاب النار.
وتختم الآية بالقول (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) أجل، وإن الله يعلم بالعاقبة المشؤومة التي تنتظر الذي يشيعون الفحشاء في الدنيا والآخرة، ولكنّكم لا تعلمون أبعاد هذه القضية.
إنّه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب، ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة، أمّا أنتم فلا تعلمون ذلك ولا تدركونَهُ.
أجل، يعلم الله كيف ينزل أحكامه ليحول دون ارتكاب هذه الأعمال القبيحة.
وكررت الآية الأخيرةُ ـ ممّا نَحنُ بصددِه مِن الآيات التي تناولت حديث الافك ومكافحة إشاعة الفحشاء، وقَذْف المؤمنين المتطهرين ـ هذه الحقيقة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الشورى، 37.
[51]
لتؤكّد القول (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رؤوف رحيم).(1)
* * *
بحوث
1 ـ مامعنى إشاعة الفحشاء؟
بما أن الإنسان مخلوق إجتماعي، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه لَهُ حُرْمة يجب أن لا تقِلَّ عَنْ حرْمتِهِ الشخصيَّةِ، وطهارةُ كِلَّ مِنْهُما تُساعِدُ في طهارةِ الآخر، وقبح كلِّ منهما يسري إلى صاحِبه. وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدّة كُلَّ عمل ينشر السموم في المجتمع، أو يدفعه نحو الهاوية والإِنحطاط.
ولهذا السبب حارب الإسلام ـ بقوة ـ الغيبة والنميمة، لأن الغيبة تكشف العيوب الخفية، وتسيء إلى حرمة المجتمع.
أوجب الإسلام ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العمومية والشمول.
وعندما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء، حتى أن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال: "المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له"(2). فالسبب هو ماذكرنا.
وهكذا لنفس السبب يدين القرآن ـ بشدّة ـ ارتكاب الذنوب في العلن، كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها الآيات السابقة فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم، تأتي على المجتمع مِن أساسه فتنخُره حتى تَهْدِمَهُ وَتَذْروهُ، لهذا يجب الإسراع لإطفاء هذه النار، أو لمحاصرتها على الأقل. أمّا إذا زدنا النار لهيباً،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لهذه الجملة محذوف كما يبدو في آيات اُخرى سبقت، وتقديره "لولا فضل اللّه عليكم لمسّكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم".
2 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، باب ستر العيوب.
[52]
ونقلناها من مكان إلى آخر، فإنّها ستحرق الجميع، ولا يمكن بَعْدَئذ إطفاؤُها أو السيطرة عليها.
وإضافة إلى ذلك، فإنّه لو عظم الذنب في نظر عامّة الناس، وتمّت المحافظة على سلامة ظاهر المجتمع من التلوث والفساد، فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة. أمّا اشاعة الفحشاء والذنوب والتجاهر بالفسق، فمن نشأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد. ويستصغر شأن الذنوب من قبل الناس، ويسهل التورط فيها.
وقد جاء في حديث للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله "من أذاع فاحشة كان كمبتدئها"(1).
وجاء في حديث آخر عن محمد بن الفضيل الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك الرجل من اخواني بلغني عنه الشيء الذي اكرهه فاسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال الإمام(عليه السلام) لي: "يا محمّد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، وإن شهد عندك خمسون قسامة. وقال لك قول فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الذين قال الله عزَّوجلّ:(إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة)(2)(3).
وممّا يلزم ذكره أنّ لإشاعة الفحشاء صوراً عديدةً فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة ونَقلِها بين الناس.
واخرى يكون بانشاء مراكِزَ للفساد ونشر الفحشاء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، باب القبح.
2 ـ كتاب ثواب الأعمال، حسبما ذكره تفسير نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 582.
3 ـ لهذه القضية استنثاءات، منها موضوع الشهادة في المحكمة، أو حالات النهي عن المنكر حيث لا سبيل إلاّ بكشف العمل القبيح الذي يرتكبه شخص ما والشهادة ضده.
[53]
وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس، أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب.
ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملاحظة الدين، ولا رعاية لقانون ولا التفات لآداب عامّة، وكل هذه مصاديق لإشاعة الفحشاء. لانّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً (فتأملوا جيداً).
2 ـ مصيبة الشائعات
إن اختلاق ونشر الشائعة الكاذبة يُودِّي إلى سَيْطَرةِ القَلَقِ واستبدادِ الإضطراب وانعدام الثقةِ، وهذِهِ مِن أهَمِّ ما تَرْمي إليه الحَرْبُ النفسيّةُ للمستعمرين بغية إثارة الْبَلْبلةِ وَنشْرَ الفَزَع، ليتسنى لهم التَّغَلُّب العَسكريّ والسياسيّ.
فعندما يعجز العدو عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة، يقوم بنشر الشائعات، لبث الرعب والقلق في الناس، ليشغلهم بأنفُسهم، وَلِيَحْرِفَهُمْ عَنْ أهم قضاياهم حساسيةٌ، وليتسنَّى لَهُ الظُهُورُ عليهم والتمكُّنُ مِنهُم في كل مجال. واختلاق الشائعة من الأسلحة المخربة المستعملة ضدّ الصالحين والطيبين، لِعَزْلِهِم وإقصاءِ الناس عنهم.
وبحسب أسباب النّزول المعروفة بشأن الآيات موضع البحث لجأ المنافقون إلى أخَسَّ السبل لتلويث سمعة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والحط من شأنه المقدّس لدى الناس، باختلاق شائعة تمسّ طهارة وعفة إحدى زوجاته مستغلين في ذلك فرصة سنحت لهم، ممّا أدى إلى تشويش أفكار المسلمين، وإدخال الحزن إلى قلوبهم، بحيث اضطرب الجميع. وأصاب المؤمنين القلق الشديد حتى نزل الوحي وأنقذهم من هذه الحالة، ومرّغ أنُوفَ المنافقين في الوَحلِ بما اختلقوا هذه الشائعة. وجعلهم عبرة للآخرين .
ورغم أن اختلاق الشائعة يعد نوعاً من الكفاح في المجتمعات التي تسودها الدكتاتورية ويفتقد الناس فيها الحرية... إلاَّ أن من أسبابها ودوافعها الإنتقام،
[54]
وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين، وإزالة الثقة العامّة بالشخصيات الكبيرة. وحرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية.
ولا يهمنا أن نعلم دوافع اختلاق الشائعات، إنّما المهم تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في برائن الذين يختلقون الشائعات وينشرونها بين الناس، وبذلك يدمرون المجتمع وأنفسهم بأيديهم! وأن نعلّم الناس بأن يدفنوا الشائعة في مهدها،وإلاّ فقد أدخلنا السرور إلى قلب العدو، وعرضنا أنفسنا إلى عذاب الدنيا والآخرة كما نصت عليه الآيات السابقة.
3 ـ استصغار الذنب
يستفاد من الآيات السابقة أنها استنكرتْ استصغار نشر البهتان والتهمة، وهو خطأ فادِحٌ وَجُرْمٌ عظيمٌ وفي الحقيقة إن استصغار الذنب بذاته ذنب آخر. فالذي يرتكب الذنب ويشعر بعظمة ذنبه، ويندم على ما فعل هو الذي يؤمل فيه التوبة والجبران.
أمّا الذي يستصغر الذنب ويقول: ماأسعدني إن كان ذنبي هذا فقط فهذا الشخص يسير في طريق خطر وقد يواصل ارتكاب ذنبه، لهذا نقرأ في حديث للإمام علي(عليه السلام) قوله: "أشد الذنوب ما استهان به صاحبهُ"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 348.
[55]
الآيات
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَتَتَّبِعُوا خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً وَلَـكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوآ أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسَـكِينَ وَالْمُهَـجِرينَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الُْمحْصَنَـتِ الْغَـفِلَـتِ الْمُؤْمَنَـتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) يَوْمَئِذ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبينُ(25) الْخَبِيثَـتُ لِلْخَبِيثينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـتِ وَالطَّيِّبَـتُ لِلطَّيِّبينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـتِ أُوْلَئكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ(26)
[56]
التّفسير
للعقوبات حساب!
على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة، إلاّ إنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث، وتحذّر المؤمنين جميعاً من تأثير الأفكار الشيطانية التي تبدو أوّلا في صورة باهتة، فلابدّ من الإنتباه إليها، وإلاّ فالنتيجة سيئة للغاية، ولا يمكن تلافيها بسهولة فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعةِ الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوّة حاسمة، حتى يمنع من انتشاره وتوسّعه.
وتخاطب الآية الأُولى المؤمنين، فتقول (يا أيّها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر)(1).
وإذا فسّرنا الشيطان بأنه كل مخلوق مؤذ وفاسد ومخرّب، يتّضح لنا شمولية هذا التحذير لأبعادِ حياتنا كلها، وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد، فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد أُخرى في طريق الفساد:
الخطوة الأُولى: مرافقة الملوثين والمنحرفين.
الخطوة الثّانية: المشاركة في مجالسهم.
الخطوة الثّالثة: التفكير بارتكاب الذنوب.
الخطوة الرّابعة: ارتكاب الأعمال المشتبه بها.
الخطوة الخامسة: إرتكاب الذنوب الصغيرة.
وأخيراً الإبتلاء بالكبائر. وكأنّ الإنسان في هذه المرحلة يسلّم نفسه لمجرم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هناك محذوف لجملة (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء) وهو جواب الشرط وتقديره "ومن يتبع خطوات الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإنّه يأمر بهما" (روح المعاني، المجلد الثامن عشر، صفحة 112 تفسير آخر الآيات موضع البحث) ويجب الإِنتباه إلى أن جملة فإنه يأمر بالفحشاء، لا يمكن اعتبارها جواباً للشرط.
[57]
ليقوده نحو الهاوية، أجل هذه (خطوات الشيطان)(1).
ثمّ تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منَّ الله بها على الإنسان في هدايته فتقول: (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء والله سميع عليم).
ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الإنحطاط والإنحراف من الذنوب جميعاً، فالله منحه العَقْلَ، ولطف به فأرسل إليهِ الرُّسُلَ، وَيسَّرَ له سُبُلَ الإِرتقاء والإهتداء، وأعانَهُ على استكمالِ الخَيْرِ. وإضافة إلى هذه المواهب شمل الله الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة، وإمداداته التي يستحقونها، والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس.
وكما أسلفنا. مراراً، فإنّ عبارة "من يشاء" لا تعني المشيئة دون مبرّر، بل إنّ الله يهدي عباده الذين يسعون في نيلها، الذين يسيرون في الطريق إلى الله، ويجاهدون في سبيله، فيمسك الله بيدهم ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده حتى يبلغهم الهدف الأسمى.
وبعبارة أُخرى: إنَّ الفضل والرحمة الإلهية تارة يكون لهما جانب تشريعي عن طريق الرسل عليهم السلام والكتب السماوية وما فيها من تعاليم إلهية وبشارات وإنذارات سماوية. وأُخرى يتخذ الفضل والرحمة الإِلهية جانباً تكوينياً عن طريق الإِمدادات المعنوية الإِلهية.
والآيات موضع البحث استهدفت القسم الثّاني، بدليل عبارة "من يشاء"، ويجب الإنتباه إلى أن "الزكاة" و "التزكية" تعني في الأصل النمو، والعمل من أجل النمو، إلاّ أنها وردتْ غالباً بمعنى التطهُّر والتطهير.
ويمكن إرجاعها إلى أصل واحد، إذ أنّ النمو والرشد لا يمكن أن يتحققا إلاّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحثنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (90) من سورة النحل.
[58]
بزوالِ الحواجز والتطهير من المفاسد والرذائل.
وذكر عدد من المفسّرين سبباً لنزول الآية الثّانية ـ من الآيات موضع البحث ـ يكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة، قال: إنّ هذه الآية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مساعدة مالية إلى الذين تورّطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس، وألا يشاركوهم همومَهم، فنزلت هذه الآية لتمنعهم من رَدَّ فعل قاس، وأمرتهم بالعفو والسماح.
وقد روى سبب النّزول هذا "القرطبي" في شأن نزول هذه الآيات في تفسيره عن ابن عباس والضحاك، ورواه المرحوم "الطبرسي" عن ابن عبّاس، ورواهُ آخرون لدى تفسير الآيات موضع البحث، وهو يمتاز بعموميته.
إلاّ أن مجموعة من مفسّري أهل السنة يُصرُّون على أن هذه الآية نزلت بخصوص "أبي بكر" حيث أقسم بعد حادث الإفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية لـ "مسطح بن أثاثة" الذي كان ابن خالته، أو ابن أخته، وهو الذين نشر شائعة الإفك، في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الآية، جاءت بصيغة الجمع، وتبيّن أنّ مجموعة من المسلمين اتخذوا قراراً بقطع مساعداتهم عن هؤلاء المجرمين، إلاّ أنّ هذه الآية نهتهم عن العمل.
ومن المعلوم أنّ الآيات القرآنية لا تختص بسبب النّزول فقط، بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، فهي توصي المسلمين جميعاً بألاّ يستسلموا لعواطفهم، وألاّ يتخذوا مواقف عنيفة إزاء أخطاءِ الآخرين.
نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النّزول هذا:
يقول القرآن (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله).
إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذْ خدعهم المنافقون، ولم يُجز الله طردهم من المجتمع
[59]
الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر ممّا يستحقونه.
كلمة "يأتل" مشتقّة من "أليّة" (على وزن عطيّة) أي اليمين، أو إنّها مشتقة من "ألُو" (على وزن دلو) بمعنى التقصير والترك.
وعلى هذا، فإنّ الآية تعني وفق المعنى الأوّل النّهي عن هذا القَسَمْ بقطع مثل هذه المساعدات(1)، وعلى المعنى الثّاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل.
ثمّ تضيف الآية (وليعفوا وليصفحوا) لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: (ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).
فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين (والله غفور رحيم).
والمثير للدهشة أنّ أصحاب الإفك أُدينوا بشدّة في آيات شديدة اللهجة، إلاّ أنّها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحدّ في العقوبة بثلاث جمل ذاتِ تَشَعْشُع أخَّاد، الأول: الأمر بالعفو والسماح.
ثمّ تقول: ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك.
ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله "الغفور" و"الرحيم".
وهكذا تقول الآية للناس: لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم، وهو يأمركم بألاّ تقطعوا مساعداتكم.
ممّا لاشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد، ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضلَّلون.
ولا شك في أنّهم جميعاً مقصّرون ومذنبون، ولكن بين هاتين المجموعتين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في هذه الحالة يجب تقدير وجود حرف "لا" قبل "يؤتوا" فيكون التقدير "ولا يأتل ... أن لا يؤتوا".
[60]
فرق كبير، وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية.
وعلى كل حال، ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم، وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحدُّ المقرّرُ في معاقبةِ المذنبينِ، ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي، أو اغلاق باب المساعدة في وجوهم، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافاً فيقعوا في أحضان العدو، أو ينحازوا إلى جانبه.
وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم "قوة الدفع". وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفوراً رحيماً. فإنها تكشف عن "قوة الجذب"!
ثمّ تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن، فتقول بشكل حازم: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم).
ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة، كلّ واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهنّ في شرفهنّ: "المحصنات" أي العفيفات الطاهرات الذيل و"الغافلات" البعيدات عن كل تهمة وتلوّث و"المؤمنات"، كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل(1).
كما أنّ عبارة ـ "غافلات" تلفت النظر، لأنّها تكشف عن منتهى طهارتهنّ من أي انحراف وتلوّث، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنّهن لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه مرحلة عالية من التقوى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الميزان، تفسير الآيات موضع البحث، المجلد 15، صفحة 122.
[61]
ويحتمل أن يكون المراد من "الغافلات" أنهن لا يعلمن بما ينسب اليهنّ من بهتان في الخارج، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهنّ، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعاً جديداً للبحث، لأن الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلاّ أنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحدّ الشرعي: فتقول الآية: أنّ هؤلاء لا يتصوروا أنّهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب الإلهي دائماً، لأنّ الله تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا. كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.
إن هذه الآية رغم مجيئها بعد حديث الإفك، وظهورها بمظهر الإرتباط بذلك الحادث، فإنها كبقية الآيات التي تنزل لسبب خاص، وهي ذات مفهوم عامّ، لا تختص بحالة معينة.
والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المفسّرين كالفخر الرازي في "التّفسير الكبير"، وآخرين، على أنّ مفهوم هذه الآية خاص باتهام نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ويجعلون هذا الذنب بدرجة الكفر، ويستدلون بكلمة "اللعن" التي ذكرتها الآية، في الوقت الذي لا يمكن فيه اعتبار توجيه التهمة ـ حتى إن كان هذا الذنب عظيماً كإتهام نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لوحده سبباً للكفر. لهذا لم يعامل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أصحاب الإفك معاملة المرتدين عن دينهم. بل إن الآيات التالية التي بيّنا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم الإفراط في عقابهم، فذنبهم لا يُوازي الكفر بالله.
وأمّا "لعنة الله" فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضاً، وعليه أوردت هذه الآيات المتحدِّثة عن حدّ القذف (في الأحكام الخاصّة باللعان) مرتين كلمة "لعن" ضد الكذابين المسيئين للناس. كما استعملت الأحاديث الإسلامية كراراً كلمة "اللعن" ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة. وحديث "لعن الله في الخمر عشر طوائف..." معروف.
[62]
وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي، قائلة (ويوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون).
تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق. وعندما يجد المجرمون الدلائل والشواهد العينية على ما اقترفوه من أعمال إجرامية، تراهم يُعرفون بذنوبهم ويفضحون أمرهم خلافاً لرغبتهم الباطنية، حيث لا ينفع في ذلك اليوم إنكارهم للتهم الموجهة إليهم.
وتشهد أيديهم وأرجلهم، وكما ذكرت الآيات القرآنية: تنطق جلودهم وكأنّها شريط مسجّل، تنطق بما اقترف صاحبها من ذنوب، حيث رسمت آثار الجرائم عليها طوال عمره، حقاً إنّه يوم البروز والإفتضاح، ويوم تنكشف فيه السرائر.
وإذا وجدنا في بعض آيات القرآن إشارة إلى يوم القيامة تذكر (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)(1) فإنّه لاخلاف فيها مع هذا البحث، إذ يمكن أن تتعطل الأفواه عن الكلام أولا، فتشهد سائر أعضاء الجسم. وعندها تكشف الأيدي والأرجل الحقائق، ينطق اللسان بما جرى ويعترف بالذنوب كلّها.
* * *
بحوث
1 ـ مَن هن الخبيثات ومَن هم الخبيثون؟
ذكر المفسّرون تعاريف مختلفة لـ "الخبيثات" و"الخبيثون" و"الطيبات" و"الطيبون".
1 ـ قيل أنّ المراد هو الكلام السيء والتهمة والإفتراء والكذب الصادر عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة يس، الآية 65.
[63]
المخطئين والمذنبين من الناس، وعلى العكس من ذلك الكلام الطيّب ما يصدر عن الطيّبين المتطهرين، وحسبما يقول المثل المأثور "ينضح الإناء بما فيه".
2 ـ وقيل إن كلمة "الخبيثات" تعني "السيئات" وكل الأعمال السيئة وغير المرغوب فيها التي تصدر عن الخبثاء من الناس، وعلى العكس من ذلك "الحسنات" الخاصّة بالطيبين من الناس.
2 ـ "الخبيثات" و"الخبيثون" تعنيان النساء والرجال الساقطين، وهم عكس (الطيبات) و(الطيبون) الخاصتين بالنساء والرجال المتطهرين.
وظاهر الآية قصد هذا المعنى بذاته، حيث هناك قرائن تؤكّد هذا المعنى:
أ ـ جاءت هذه الآيات إثر آيات الإفك ـ وبعد آية (الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين)وهذا التّفسير ينسجم مع مفهوم تلك الآيات.
ب ـ إن جملة (اُولئك مبرءون ممّا يقولون) التي تقصد الرجال والنساء الطاهرين من الدنس دليل آخر على صحة هذا التّفسير.
ج ـ قرينة المقابلة لجمع المذكر السالم في "الخبيثون" حيث يقصد بها الرجال الخبيثون، فمن ذلك يعلم أن الخبيثات جمع مؤنث حقيقي، وتعني النساء الساقطات.
د ـ إضافة إلى ذلك روي حديث عن الإمامين الباقر والصّادق(عليهما السلام) "إنّ هذه الآية كآية (الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة) همّ رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله6 مشهورين بالزنا فنهى الله عن أُولئك الرجال والنساء والناس على تلك منزلة..".(1)
كما نقرأ في روايات كتاب النكاح، كيف كان أصحاب الإِمام يستفسرون منه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، في تفسير الآيات موضع البحث.
[64]
أحياناً عن الزواج بالخبيثات فيجيبهم سلباً. وهذا يدل على أن الخبيثة تعني المرأة الساقطة، وليس الكلام السيء ولا العمل المنحط(1).
والسؤال الآخر: هل أن خبث هذه المجموعة من النساء والرجال أو طيبهم يرادبه الشرف والعفّة، أو يتعلّق بانحطاط في الفكر أو العمل أو القول؟
إنَّ المفهوم الأوّل للآية هو الأصوب، لأنّه يطابق ما جاء في الآيات والأحاديث، لكنَّ بعضَ الأحاديث يعطي معنىً واسعاً لكلمتي الخبيث والطيب اللتين وردتا في هذه الآيات، ولا يحصرهما بالإِنحطاط الخلقي وطهارة الشخص.
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون مفهوم الآية الأُولى خاصاً بذلك المعنى الخاص، إلاّ أنه بملاحظة الملاك والغاية من الحكم يمكن تعميمه وتوسعته.
وبتعبير آخر: إن الآية السابقة بيان لميل الصنو إلى صنوه، رغم اختصاصها من حيث الموضوع يبحث العفّة والإنحطاط الخلقي، "تأملوا جيداً".
2 ـ هل هذا حكم تكويني أم تشريعي؟
لا شكّ في أن الأمثال التالية تشير إلى سنة تكوينيّة تطبق على المخلوقات جميعاً، حتى على ذرات الوجود في الأرض والسماء، وهي جذب الشيء لنظيره كما يجذب الكهرب التبن.
أصحاب النور ينجذبون إلى أصحاب النور.
وأصحاب النّار يميلون إلى أصحاب النّار.
و"السنخية علّة الانظمام" كما يقول المثل.
وعلى كل حال، فإن كل صنو يتبع صنوه، وكل مجموعة متجانسة ترتاح
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 337، الباب 14 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
[65]
لأفرادها، إلاّ أنّ هذه الحقيقة لا تمنع من كون الآية السابقة كما هي عليه الآية (الزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك) إشارة إلى حكم شرعي يمنع الزواج من النساء اللواتي اشتهرن بالعمل المخلّ بالشرف.
أليس لجميع الأحكام التشريعية جذور تكوينية؟
أليس هناك انسجام بين السنن الإِلهية، التشريعية منها والتكوينية؟ (لإيضاح أكثر راجع شرح الآية التي ذكرناها).
3 ـ جواب استفسار:
الإستفسار هو: إننا نشاهد عبر التاريخ أو في حياتنا حالات لا تنسجم مع القانون السابق؟ ومثال ذلك ما جاء في القرآن المجيد (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وأمرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما)(1)... ومقابل هذه الحالة ذكر القرآن المجيد زوجة فرعون مثالا للإِيمان والطهارة: (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجنّي من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين)(2).
كما شوهد نظير هاتين الحالتين في صدر الإسلام، حيث ابتلي بعض قادة المسلمين بنساء سيئات، وآخرون من الله عليهم بنساء مؤمنات جاء ذكرهن في كتب التاريخ الإسلامي.
وفي الجواب عن ذلك نقول أنّه مضافاً إلى أنّ لكل قانون استثناءات، فلابدّ من ذكر مسألتين:
1 ـ قلنا خلال تفسير الآية موضع البحث: إنَّ القصد من الخبث الإنحطاط الخلقي والسقوط بارتكاب أعمال مخلة بالشرف، والطيب ضد الخبث، وعلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة التحريم، 10.
2 ـ سورة التحريم، 11.
[66]
هذا فجوابُ السؤال السابق يكون واضحاً، لأن نساء الأنبياء والأئمة الأطهار(عليهم السلام). لم ينحرفن والم يخبثن أبداً، وإنّما القصد من الخيانة في قصة نوح ولوط(عليهما السلام)، التجسس لمصلحة الكفّار وليس خيانة شرفهما، وأساساً إن هذا العيب من العيوب المنفّرة ونعلم أن المحيط العائلي للأنبياء(عليهم السلام) يجب أن يكون طاهراً من أمثال هذه العيوب المنفرة للناس حتى لا يتقاطع مع هذف النّبوة في جذب الناس إلى الرسالة الإلهية.
2 ـ إضافة إلى ذلك، فإنّ نساء الأنبياء والإِئمّة(عليهم السلام)، لم يكنّ كافرات منذ البداية، بل يصبن بالضلال أحياناً فيما بعد، ولهذا تستمر علاقة الأنبياء والأولياء بهنّ على ما كانت عليه قبل ضلالهنّ، كما أنّ أمرأة فرعون لم تكن مؤمنة بربّ موسى حين زواجها، إذ أنّ موسى(عليه السلام) لم يكن قد ولد بعد، وقد آمنت برسالته السماوية بعد أن بعثه الله، ولم يكن لها مخرج إلاّ بمواصلة حياتها الزوجية والكفاح، حتّى انتهت حياتها باستشهادها.
* * *
[67]
الآيات
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَة فِيهَا مَتـعٌ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)
التّفسير
لا تدخلوا بُيُوت الناس حَتَّى يؤذنَ لَكُم:
بيّنت هذه الآيات جانباً من أدب المعاشرة، والتعاليم الإسلامية الإِجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامّة حول حفظ العفّة، أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس، وكيفية الإستئذان بالدخول إليها.
حيث تقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى
[68]
تستأنسوا وتسلموا على أهلها). وبهذا الترتيب عندما تعزمون على الدخول لابدّ، من إخبار أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم.
والذي يلفت النظر في هذه الجملة استعمالها "تستأنسوا" ولم تستعمل "تستأذنوا" لأنّ الجملة الثّانية لبيان الإستئذان بالدخول فقط، في الوقت الذي تكون الجملة الأُولى مشتقّة من "أنس" أي الإستئذان المرافق للمحبّة واللطف والمعرفة والإخلاص، وتبيّن كيف يجب أن يكون الإستئذان برفق وأدب وصداقة، بعيداً عن أي حدّة وسوء خلق. ولو تبحرنا في هذه الجملة على هذا الأساس لوجدنا فيها الكثير من الأدب الذي يدور حول هذا الموضوع، وهو يعني ألا تصرخوا وألاّ تقرعوا الباب بقوة، وألا تستأذنوا بعبارات حادّة، وألا تدخلوا حتى يُؤذنَ لكم، فتسلّموا أوّلا سلاماً يستبطن مشاعر السلام والود ورسالة المحبة والصداقة.
وممّا يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة، مرافقته لجملتين أولاها: (ذلكم خير لكم) وثانيها: (لعلكم تذكرون). وهذا بحدّ ذاته دليل على أن لهذه الأحكام جذوراً في أعماق العواطف والعقول الإنسانية، ولو دقق الإنسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير والصلاح.
وتمّ هذا الحكم بجملة أخرى في الآية التالية: (فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم).
قد يكون المراد من هذه العبارة أنَّهُ رُبَّما كانَ في المنزل أحد، ولكن من لدَيه حقّ إعطاء الإِذن بالدخول غيرموجود، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل.
أو قد لا يوجد أحد في المنزل، ولكن صاحب المنزل على مقربة من ذلك المكان، أو في منزل الجيران بحيث لو طرق المرء الباب أو نادى صاحبه فقد يسمعه، ثمّ يحضر ليسمح له بالدخول، وعلى أي حال، فالمسألة المطروحة أن
[69]
لا ندخل منزلا دون إذن.
ثمّ تضيف الآية (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم) إشارة إلى أنّه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول، فلعلّ صاحب المنزل في وضع غير مريح، أو أن منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف!
وبما أن بعض الناس قد يدفعهم حبّ الإطلاع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع، أو التجنس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم، لهذا قالت الآية: (والله بما تعملون عليم).
وبما أن لكل حكم استثناءً، لرفع المشكلات والضرورات بشكل معقول عن طريقه، تقول آخر آية موضع البحث: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم).
وتضيف في الختام (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون). ولعل ذلك إشارة إلى استغلال البعض هذه الإستثناءات، فيتذرّع بأنّ المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض الأسرار، أو الدخول إلى منازل مسكونة متذرعاً بعدم علمه بأنّها مسكونة، إلاّ أنّ الله يعلم بكلّ هذه الأعمال، ويعلم الذين يسيئون الإستفادة من هذا الإستثناء.
* * *
بحوث
1 ـ الأمن والحرية في حريم المنزل
لا ريب في أن لوجود الإنسان بعدين: بعد فردي، وآخر إجتماعي، ولهذا فله نوعان من الحياة: حياة خاصّة، وأخرى عامّة. ولكل واحدة خصائصها وآدابها، حيث يضطر الإنسان في البيئة الإجتماعية إلى تحمل قيود كثيرة من حيث اللباس والحركة، ومواصلة الإنسان حياته على هذا النسق وحده ـ خلال الأربع
[70]
والعشرين ساعة ـ مُتعب ويبعث على الضجر، إذ أنّه يرغب في أن يكون حراً خلال فترة من الليل والنهار ليستريح بعيداً عن هذه القيود، مع أسرته وبين أولاده، لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به، وينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقت، ليتخلص من قيوده، فيجب أن يكون محيط المنزل آمناً إلى حدٍّ كاف.
وأمّا إذا أراد كلّ عابر الدخول إلى منازل الآخرين، فلا تبقى حرمة لمنازل الناس، ويسلب منها أمنها وحريتها، وبهذا تتحول إلى بيئة عامّة كالسوق والشارع. ولهذا السبب كانت بين الناس ـ على مرّ العصور ـ أعراف خاصّة في هذا المجال. حتى أن جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان وتعاقب عليه، وحتى في حالات الضرورة القصوى ولغرض حفظ الأمن وغايات أخرى أجيز عدد قليل على وفق القانون بالدخول إليها.
ونصّت الأحكام الإسلامية على تعاليم وآداب خاصّة في هذا المجال، لا يشاهد نظيرها إلاّ نادراً.
نقرأ في حديث أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مستقبل الباب فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تستأذن وأنت مستقبل الباب".(1)
وجاء في حديث آخر أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب. من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم، وذلك لأنّ الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.
وجاء في الأحاديث الإسلامية ضرورة استئذان المرء حين دخوله إلى منزل والده أو والدته، وحتى حين الدخول إلى منزل ولده.(2)
وجاء في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) جواباً على استفسار رجل: قال: أستأذن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير فخر الرازي، المجلد 23، ص 198، آخر آية موضع البحث.
2 ـ المصدر السابق.
[71]
على اُمي؟ أجاب(صلى الله عليه وآله وسلم): نعم. قال: إنّها ليس لها خادم خادم غيري أفأستاذن عليها كلما دخلت؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): أتحب أن تراها عريانه؟ قال الرجل لا، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): فاستأذن عليها(1).
وجاء في حديث آخر عن الامام الباقر(عليه السلام) عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال: "خرج رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يريد فاطمة(عليها السلام) وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت: فاطمة(عليها السلام): عليك السلام يا رسول اللّه، قال: أدخل؟ قالت: اُدخل يارسول اللّه، قال(صلى الله عليه وآله وسلم):أدخل ومن معي؟ قالت: يارسول اللّه ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت، ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت: وعليك السلام يارسول اللّه، قال أدخل قالت: نعم يار سول اللّه، قال أنا ومن معي؟ قالت: ومن معك، قال جابر: فدخل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فدخلت..."(2)
وهذا الحديث يبيّن لنا كيف كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو القدوة للمسلمين كافة، يراعي هذه الأُمور بدقة، وحتى جاء في حديث.
عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام)قال: "الاستيذان ثلاثة: أوّلهنّ يسمعون، والثّانية يحذرون، والثّالثة إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن".(3)
ويرى بعض المفسّرين ضرورة وجود فواصل زمنية بين كل استئذان وآخر، إذ قد يكون صاحب المنزل لم يتهيأ ـ بعد ـ بلباس مناسب، أو يريد تغيير هيئة أو إعداد منزله، فيجب إعطاءه فرصةً ليعدّ نفسه ومنزله لاستقبال ضيفه، وعلى الضيف الإنصراف دون انزعاج أو توتُّر إن لم يُسمح له بالدخول.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، الصفحة 586.
2 ـ نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 587.
3 ـ وسائل الشيعة المجلد الرّابع عشر، صفحة 161، أبواب مقدمات النكاح، الباب 23.
[72]
2 ـ ما المقصود بالبيوت غيرالمسكونة؟
في معرض الإجابة على هذا السؤال لابدّ من الإشارة إلى اختلاف المفسّرين في ذلك، فقد قال البعض: يقصد بها المباني التي لا يسكنها شخص معين، وهي لعموم الناس، كالمنازل العامّة في الطرق البرية والفنادق والحمامات العامّة وأمثالها. وقدجاء هذا المعنى بصراحة في حديث للإمام الصادق(عليه السلام)(1).
وفسّر البعض ذلك بالخرائب التي ليست لها جدران ولا أبواب، يدخلها من يشاء، غير أنّ هذا التّفسير يبدو بعيداً جداً عن الصواب، فلا أحد يضع متاعه في هذه المنازل.
وقال آخرون: إنّها إشارة إلى مخازن التجار وحوانيتهم، التي احتوت على متاع الناس أمانةً لديهم لغرض البيع، ويمكن لكلّ صاحب متاع الدخول إلى هذا المخزن ليأخذ متاعه، وهذا التّفسير أيضاً يبدو غير منسجم مع ما قصدته الآية.
كما يحتمل أنّها قصدت المنازل التي ليس فيها أحد، ويضع المرء متاعه فيها أمانةً بعد علمه برضا صاحبها ضمناً في حراستها ورفعها عند الحاجة.
وبعض هذه التفاسير لا يتناقض مع غيره، إلاّ أنَّ التّفسير الأوّل ينسجم انسجاماً أفضل مع معنى الآية وقصدها، ويتّضح بذلك أنَّه لا يجوز لشخص له متاع في منزل أن يدخل المنزل دون استئذان من صاحبه حتى لو لم يكن في البيت أحد حينذاك.
3 ـ عقاب من يتلصّص على منازل الناس:
جاء في كتب الفقه والحديث. إذا تلصّص شخص على داخل منزل وشاهد امرأة فيه لم تتحجب، فلاهل الدار أوّلا نهيهُ عن هذا العمل، وإن امتنع رموه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، صفحة 161.
[73]
بالحجارة. وإن عاود، فبامكانهم الدفاع عن أعراضهم بآلة جارحة، فلو قُتل هذا الشخص في هذه الحالة فدمه هدر ولا ديّة له.
وطبيعي أنّه لابدّ من تتبع هذه الخطوات أوّلا بأول. أي: عليهم أوّلا إتباع السبيل اليسير لمنعه، ثمّ اتباع اُسلوب العنف.
* * *
[74]
الآيتان
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَنِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَنِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُنَّ أَوِ التَّـبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الاْرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعَلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)
سبب النّزول
جاء في كتاب الكافي حول سبب نزول أوّل آية من الآيات السابقة، عن
[75]
الإمام الباقر(عليه السلام) قال: استقبل شاب من الأنصار أمرأة بالمدينة وكان النساء يقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل زقاق قد سمّاه يعني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لاتين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولأخبرنّه، قال: فآتاه فلمّا رآه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: ما هذا فأخبره، مهبط جبرئيل(عليه السلام) بهذه الآية: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون).(1)
التّفسير
مكافحة السفور وخائنة الاعين:
قلنا في البداية: إنّ هذه السورة ـ في الحقيقة ـ اختصت بالعفة والطهارة وتطهير الناس من جميع الإنحرافات الجنسية، وبحوثها منسجمة، وهي تدور حول الأحكام الخاصّة بالنظر إلى الإجنبية والحجاب، ولا يخفى على أحد ارتباط هذا البحث بالبحوث الخاصّة بالقذف.
تقول الآية أوّلا: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم).
وكلمة "يغضوا" مشتقّة من "غضّ" من باب "ردّ" وتعني في الأصل التنقيص، وتطلق غالباً على تخفيض الصوت وتقليل النظر. لهذا لم تأمر الآية أن يغمض المؤمنون عيونهم. بل أمرت أن يغضّوا من نظرهم. وهذا التعبير الرائع جاء لينفي غلق العيون بشكل تام بحيث لا يعرف الإِنسان طريقه بمجرّد مشاهدته امرأة ليست من محارمه، فالواجب عليه أن لا يتبحّر فيها، بل أن يرمي ببصره إلى الأرض، ويصدق فيه القول أنه غضَّ من نظره وأبعد ذلك المنظر من مخيلته.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، صفحة 39، تفسير نور الثقلين، والميزان، وروح المعاني مع بعض الإختلاف في تفسير الآية موضع البحث.
[76]
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يحدد الشيء الذي يستوجب غضّ النظر عنه. (أي أنه حذف متعلّق الفعل) ليكون دليلا على عموميته. أي غضّ النظر عن جميع الأشياء التي حرم الله النظر إليها.
ولكن سياق الكلام في هذه الآيات، وخاصّة في الآية التالية التي تتحدث عن قضية الحجاب، يوضح لنا جيداً أنها تقصدالنظر إلى النساء غيرالمحارم، ويؤكّد هذا المعنى سبب النّزول الذي ذكرناه(1) سابقاً.
ويتّضح لنا ممّا سبق أن مفهوم الآية السابقة ليس هو حرمة النظر الحاد إلى النساء غيرالمحارم، ليتصور البعض أنَّ النظر الطبيعي إلى غير المحارم مسموح به، بل إن نظر الإنسان يمتدّ إلى حيّز واسع ويشمل دائره واسعة، فإذا وجد امرأة من غير المحارم عليه أن يخرجها عن دائرة نظره. وألاّ ينظر إليها، ويواصل السير بعين مفتوحة، وهذا هو مفهوم غضّ النظر. (فتأملوا جيداً).
الحكم الثّاني في الآية السابقة: هو "حفظ الفروج". و"الفرج" ـ كما قلنا سابقاً ـ يعني الفتحة والفاصلة بين شيئين، إلاّ أنّها هنا ورد كناية عن العورة.
والقصد من حفظ الفرج ـ كما ورد في الأحاديث ـ هو تغطيته عن الأنظار، وقد جاء في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: "كلّ آية في القرآن فيها ذكر الفروج فهي من الزنا، إلاّ هذه الآية فإنّها من النظر"(2).
إن الإسلام نهى عن هذا العمل المندفع مع الأهواء النفسية والشهوات، لأنّ (ذلك أزكى لكم) كُما نصّت عليه الآية ـ موضع البحث ـ في ختامها.
ثمّ تحذر الآية أُولئك الذين ينظرون بشهوة إلى غير محارمهم، ويبررون عملهم هذا بأنّه غير متعمّد فتقول: (إنّ الله خبير بما تصنعون).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اختلف المفسّرون في تعليل وجود "من" في جملة (يغضوا من أبصارهم) فقال بعضهم إنّها للتبعيض وقيل: إنّها زائدة، وقيل: ابتدائية. ولكن الظاهر هو المعنى الأوّل.
2 ـ أصول الكافي، وتفسير علي بن إبراهيم (وفق ما نقله نورالثقلين المجلد الثالث، صفحة 587، 588).
[77]
وتناولت الآية التالية شرح واجبات النساء في هذا المجال، فأشارت أوّلا إلى الواجبات التي تشابه ما على الرجال، فتقول: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن).
وبهذا حرم الله النظر بريبة على النساء أيضاً مثلما حرّمه على الرجال، وفرض تغطيه فروجهن عن أنظار الرجال والنساء مثلما جعل ذلك واجباً على الرجال.
ثمّ أشارت الآية إلى مسألة الحجاب في ثلاث جمل:
1 ـ (ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها).
اختلف المفسّرون في تفسير الزينة التي تجب تغطيتها، والزينة الظاهرة التي يسمح باظهارها.
فقال البعض: إنّ الزينة المخفية هي الزينة الطبيعية في المرأة (جمال جسم المرأة) في حين أن استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى قليل.
وقال آخرون: إنّها تعني موضع الزينة: لأن الكشف عن أداة الزينة ذاتها كالعضد والقلادة مسموح به، فالمنع يخصُ موضعها، أي اليدين والصدر مثلا.
وقال آخرون: خصّ المنع أدوات الزينة عندما تكون على الجسم، وبالطبع يكون الكشف عن هذه الزينة مرادفاً للكشف عن ذلك الجزء من الجسم. (و هذين التّفسيرين الأخيرين لهما نتيجة واحدة على الرغم من متابعة القضية عن طريقين مختلفين).
والحق أنّنا يجب أن نفسر الآية على حسب ظاهرها ودون حكم مسبّق، وظاهرها هو التّفسير الثّالث.
وعلى هذا، فلا يحق للنساء الكشف عن زينتهن المخفية، وإن كانت لا تُظهر أجسامهن، أي لا يجوز لهن الكشف عن لباس يتزيّن به تحت اللباس العادي أو العباءة، بنصّ القرآن الذي نهاهنَّ عن ذلك.
[78]
وذكرت الأحاديث التي رُويت عن أهل البيت(عليهم السلام) هذا المعنى، فقد فسّروا الزينة المخفية بالقلادة والدملج (حلي يشدُّ أعلى الساعد) والخلخال(1).
وقد فسّرت أحاديث عديدةُ أُخرى الزينة الظاهرة بالخاتم والكحل وأمثاله، لهذا نفهم بأنّ المراد من الزينة المخفية الزينة التي تحت الحجاب (فتأملوا جيداً).
2 ـ وثاني حكم ذكرته الآية هو: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) وكلمة "خُمُر" جمع "خِمار" على وزن "حجاب" في الأصل تعني "الغطاء"، إلاّ أنّه يطلق بصورة اعتيادية على الشيء الذي تستخدمه النسوة لتغطية رُؤوسهن.
و"الجيوب" جمع "جيب" على وزن "غيب" بمعنى ياقة القميص، وأحياناً يطلق على الجزء الذي يحيط بأعلى الصدر لمجاورته الياقة.
ويستنتج من هذه الآية أنّ النساء كنّ قبل نزولها، يرمين أطراف الخمار على أكتافهن أو خلف الرأس بشكل يكشفن فيه عن الرقبة وجانباً من الصدر، فأمرهن القرآن برمي أطراف الخمار حول أعناقهن أي فوق ياقة القميص ليسترن بذلك الرقبة والجزء المكشوف من الصدر. (ويستنتج هذا المعنى أيضاً عن سبب نزول الآية الذي ذكرناه آنفاً).
3 ـ وتشرح الآية في حكمها الثّالث الحالات التي يجوز للنساء فيها الكشف عن حجابهنّ وإظهار زينتهنّ، فتقول (ولا يبدين زينتهن إلاّ).
1 ـ (لبعولتهن).
2 ـ (أو آبائهن).
3 ـ (أو آباء بعولتهن).
4 ـ (أو أبنائهن).
5 ـ (أو أبناء بعولتهن).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير على بن إبراهيم لآخر الآية موضع البحث.
[79]
6 ـ (أو إخوانهن).
7 ـ (أو بني إخوانهن).
8 ـ (أو بني أخواتهن).
9 ـ (أو نسائهن).
10 ـ (أو ما ملكت أيمانهن).
11 ـ (أو التابعين غير أولي الإِربة من الرجال) أي الرجال الذين لا رغبة جنسية عندهم أصلا بالعنن أو بمرض غيره.
12 ـ (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء).
4 ـ وتبيّن الآية رابع الأحكام فتقول (ولا يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهنّ) أي على النساء أن يتحفّظن كثيراً، ويحفظن عفّتهنّ، ويبتعدن عن كلّ شيء يثير نار الشهوة في قلوب الرجال، حتى لا يتهمن بالإِنحراف عن طريق العفة.
ويجب أن يراقبن تصرفهن بشدّة بحيث لا يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم، وهذا كله يؤكّد دقّة نظر الإسلام إلى هذه الأُمور.
وإنتهت الآية بدعوة جميع المؤمنين رجالا ونساءً إلى التوبة والعودة إلى الله ليفلحوا (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) وتوبوا أيّها الناس ممّا ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال، بعدما اطلعتم على حقائق الأحكام الإسلامية، وعودوا إلى الله لتفلحوا، فلا نجاة لكم من كلّ الإنحرافات الخطرة إلاّ بلطف من الله ورحمته، فسلّموا أمركم إليه!
صحيح أنّه لا معنى للذنوب والمعاصي ـ في هذه المسألة ـ قبل نزول هذه الأحكام من الله، إلاّ أنّنا نعلم بأنّ قسماً من المسائل الخاصّة بالإنحطاط الخلقي ذا جانب عقلاني وكما في الإصطلاح أنها من "المستقلات العقلية" ويكفي لوحده في تحديد المسؤولية.
* * *
[80]
بحوث
1 ـ فلسفة الحجاب
ممّا لا شكّ فيه أنّ الحديث عن الحجاب للمتغربين في عصرنا الذي سمّوه بعصر التعري والحرية الجنسية، ليس حديثاً سارّاً حيث يتصوّرونه أُسطوره يعود لعصور خلت.
إلاّ أنّ الفساد الذي لا حدّ له، والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحريّات التي لا قيد لها ولاحدود، أدى بالتدريج إلى ايجاد الأُذن الصاغية لهذا الحديث.
وقد تمّ حلّ كثير من القضايا في بيئات إسلامية ودينية أُخرى، خاصّة في أجواء إيران بعد الثورة الإسلامية، وأُجيب عن الكثير من هذه الأسئلة بشكل مقنع.
ومع كل هذا تستوجب أهمية الموضوع بحث هذه القضية بحثاً واسعاً وعميقاً.
والقضية المطروحة (نقولها مع الإعتذار): هل من الصحيح أن تُستغل النساء للتلذّذ من جانب الرجال عن طريق السمع والنظر واللمس (باستثناء المجامعة) وأن يَكُنْ تحت تصرف جميع الرجال، أو أن تكون هذه الأُمور خاصّة لأزواجهنّ؟
إنّ النقاش يدور حول هذا السؤال: هل يجب بقاء النساء في سباق لا نهاية له في عرض أجسامهنّ، وتحريك شهوات وأهواء الرجال؟ أو يجب تصفية هذه الأُمور من أجواء المجتمع، وتخصيصها بالأُسرة والحياة الزوجية؟!
الإسلام يساند الأسلوب الثّاني. ويعتبر الحجاب جزءاً من هذا الأُسلوب، في الوقت الذي يساند فيه الغربيون والمتغربون الشهوانيون الأُسلوب الأوّل!
يقول الإسلام: إنَّ الأُمور الجنسية سواءً كانت مجامعة أو استلذاذاً عن طريق السمع أو البصر أو اللمس خاصّ بالأزواج، ومحرّم على غيرهم، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه، وعبارة (ذلك أزكى لكم) التي جاءت في الآية
[81]
السابقة تشير إلى هذه المسألة.
إنّ فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد للأسباب التالية:
1 ـ إنّ تعري النساء وما يرافقه من تجميل وتدلل ـ وما شاكل ذلك ـ يحرك الرجال ـ خاصّة الشباب ـ ويحطّم أعصابهم، وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي، وأحياناً يكون ذلك مصدراً للأمراض النفسية، فأعصاب الإنسان محدودة التحمّل، ولا تتمكن من الإِستمرار في حالة الهيجان؟
ألم يقل أطباء علم النفس بأنّ هذه الحالة من الهيجان المستمر سبب للأمراض النفسية؟
خاصّة إذا لاحظنا أنّ الغريزة الجنسية، أقوى الغرائز في الإنسان وأكثرها عمقاً، وكانت عبر التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة، حتى قيل: إنّ وراء كلّ حادثة مهمّة امرأة!
أليس إثارة الغرائز الجنسية لعباً بالنار؟
وهل هذا العمل عقلاني؟
الإسلام يريد للرجال والنساء المسلمين نفساً مطمئنة وأعصاباً سليمة ونظراً وسماعاً طاهرين، وهذه واحدة من فلسفات الحجاب.
2 ـ تبيّن إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلاق وتفكّك الأُسرة في العالم، بسبب زيادة التعرّي، لأنّ الناس أتباع الهوى غالباً، وهكذا يتحوّل حبّ الرجل من امرأة إلى أخرى، كلّ يوم، بل كل ساعة.
أمّا في البيئة التي يسودها الحجاب (والتعاليم الإسلامية الأُخرى) فالعلاقة وثيقة بين الزوج وزوجته، ومشاعرهما وحبهما مشترك.
وأمّا في سوق التعري والحرية الجنسية، حيث المرأة سلعة تباع وتشترى، أو في أقل تقدير موضع نظر وسمع الرجال، عندها يفقد عقد الزواج حرمته، وتنهار أُسس الأُسر بسرعة كانهيار بيت العنكبوت، ويتحمل هذه المصيبة الأبناء
[82]
بعد أن يفقدوا أولياءهم ويفقدوا حنان الأُسرة.
3 ـ انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء الحجاب، ولا حاجة إلى إحصائية بهذا الصدد، فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربي، واضحة بدرجة لا تحتاج إلى بيان.
لا نقول: إنّ السبب الرئيسي في إزدياد الفحشاء والأبناء غيرالشرعيين ينحصر في إلغاء الحجاب وعدم الستر، ولا نقول: إنَّ الإستعمار المشؤوم والقضايا السياسية المخربة ليس لها دور قوي فيه، بل نقول: إن التعري من الأسباب القوية لذلك.
وكما نعلم فإن انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعيين مصدر أنواع الجرائم في المجتمعات البشرية قديماً وحديثاً.
وبهذا تتضح الأبعاد الخطرة لهذه القضية.
وعندما نسمع أنّ الولادات غير الشرعية في بريطانيا بلغت بحسب إحصائياتهم خمسمائة ألف طفل كلّ عام، وأنّ علماءها حذّروا المسؤولين من مغبة هذا الوضع، ليس لأنّه ـ كما يقولون ـ بسبب مخالفته للقضايا الأخلاقية والدينية، وإنّما بسبب الخطر الذي أوجده هؤلاء الأبناء لأمن المجتمع، فقد وجدوا أنّهم يمثّلون القسم الأعظم من ملفات القضايا الخاصّة بالجرائم.
ومن هنا ندرك أهمية هذه القضية، وأنّها كارثة حتى للذين لا يؤمنون بدين ولا يهتمون بأخلاق.
وكلّما انتشر الفساد الجنسي في المجتمعات البشرية اتّسع التهديد لهذه المجتمعات وتعاظم الخطر عليها، وقد برهنت دراسات العلماء في التربية على ظهور الأعمال المنافية للعفة، وتفشّي الإهمال في العمل والتأخر، وعدم الشعور بالمسؤولية، في المدارس المختلطة والمنشئات التي يعمل فيها الرجال والنساء بشكل مختلط.
[83]
4 ـ قضية "ابتذال المرأة" وسقوط شخصيتها في المجتمع الغربي ذات أهمية كبيرة لا تحتاج إلى أرقام، فعندما يرغب المجتمع في تعري المرأة، فمن الطبيعي أن يتبعه طلبها لادوات التجميل والتظاهر الفاضح والإنحدار السلوكي، وتسقط شخصيّة المرأة في مجتمع يركز على جاذبيتها الجنسية، ليجعلها وسيلةً إعلاميّة يُروّج بها لبيع سلعة أو لكسب سائح.
وهذا السقوط يفقدها كلّ قيمتها الإنسانية، إذ يصبح شبابها وجمالها وكأنّه المصدر الوحيد لفخرها وشرفها، حتى لا يبقى لها من إنسانيتها سوى أنّها أداةٌ لإتباع شهواتِ الآخرين، الوحوش الكاسرة في صور البشر!
كيف يمكن للمرأة في هذا المجتمع أن تبرز علمياً وتسمو أخلاقياً؟!
ومن المؤسف أن تلعب المرأة باسم الفن، وتشتهر وتكسب المال الوفير، وتنحطّ إلى حد الإبتذال في المجتمع، ليرحب بها مسيّرو هذا المجتمع المنحط خلقيّاً، في المهرجانات والحفلات الساهرة؟!
هكذا حال المرأة في المجتمع الغربي، وقد كان مجتمعنا قبل انتصار الثورة الإسلامية كذلك، ونشكر الله على إنهاء تلك المظاهر المنحطة في بلادنا بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية، فقد عادت المرأة إلى مكانتها السامية التي أرادها الله لها، وها هي ذي تمارس دوراً إيجابياً في المجتمع مع محافظتها على حجابها الإسلامي، حتى أنها ساهمت بشكل فعّال خلف جبهات الحرب بمختلف الأعمال لدعم الجبهة والجهاد في سبيل الله.
وكان هذا جانباً من الفلسفة الحيوية لموضوع الحجاب في الإسلام. وهو ينسجم مع تفسيرنا.
الإشكال الذي يورده معارضو الحجاب:
نصل هنا إلى الإنتقادات التي يطرحها معارضو الحجاب، فنبحثها بشكل
[84]
مضغوط:
1 ـ أهم الإنتقادات التي يذكرها معارضو الحجاب أنّ النساء يشكلن نصف المجتمع، والحجاب يجعلهنّ في معزل عن المجتمع، ويكون ذلك سبباً في تأخرهنّ الثقافي، وانعدام الإستفادة من هذه الطاقات العظيمة في ازدهار الإقتصاد. وإذا شغر مكانهنّ في المنشئات الثقافية والإجتماعية أصبحن موادَّ استهلاكيّة ليست بذات جدوى للمجتمع.
إلاَّ أنّ هؤلاء المتمسّكين بهذا المنطق غفلوا عن عدّة أُمور، أو تغافلوا عنها، للأسباب التالية: ـ
أوّلا: من الذي قال: إنَّ الحجاب الإسلامي يعزل المرأة عن المجتمع؟
لئن صعب علينا الجواب عن هذا السؤال في السابق، فما نظن أنّنا بعد قيام الجمهورية الإسلامية المباركة بحاجة إلى دليل على نهضةِ المرأة نهضة كريمةً ومشاركتها في تشييد المجتمع الإسلامي المنشود مشاركةً تحقق النفع للمرأة والأُسره والحكومة والأُمة، فهي مسؤولة في الدوائر والمصانع والمتاجر، وفي النشاط السياسي في المسيرات والمظاهرات، في الإذاعة والتلفزيون، وفي المراكز الصحيّة ـ خاصّة في معالجة جرحي الحرب ـ وفي المدارس والجامعات، حتّى في ساحة الحرب ومجاهدة العدو.
وباختصار: إنّ الواقع الإجتماعي في بلدنا خير جواب عن هذا السؤال: وإذ كنّا نتحدث في السابق عن إمكانية حدوث ذلك، فإنّنا اليوم نراه ماثلا بين أعيننا. وكما يقول الفلاسفة: خير دليل على إمكان وجود الشيء حدوثه، ولا حاجة للبرهنة على وجود الواقع.
ثانياً: إضافة إلى ذلك، ألا تُعتبر إدارة المنزل وتربية الأبناء الأصحّاء رجال المستقبل ـ الذين يديرون عجلة الإقتصاد والسياسة في البلاد ـ عملا؟
إن الذين لا يعدّون هذه المسؤولية للمرأة أمراً ايجابياً جاهلون بحقيقة دور
[85]
المرأة في الأُسرة وفي التربية، وفي بناء مجتمع سليم فعّال، بل لا يعترفون إلاّ بمغادرة الرجال والنساء المنازل صباحاً ـ كالغربيين ـ ليلتحقوا بالدوائر والمصانع. ويجعلون أبناءهم تحت رعاية الآخرين، في دور الحضانة، أو يغلقوا عليهم المنازل ليعيشوا في معتقل دون رعاية، حتى يعود الوالدان من العمل وقد أرهقهما التعب!
هؤلاء غافلون عن أنّ إفتقاد الأطفال للرعاية والعطف، يؤدي إلى تحطّم شخصيتهم ويعرض المجتمع إلى الخطر.
2 ـ كما يتذرع معارضو الحجاب بادعائهم بأنّه يعوق المرأة عن نشاطها الإجتماعي ولا ينسجم مع العصر الحديث، ويقولون: كيف تحفظ المرأة حجابها وطفلها وعملها في آن واحد؟!
إنّهم غافلون عن أنّ الحجاب ليس العباءة ونحوها، بل هو غطاء الجسم، فإن تسنى للمرأة الإحتجاب بالعباءة فذلك حسن، وإلاّ كفاها غطاءُ الرأس واللباس المحتشم حجاباً. وقد لبّت نساؤنا الريفيات وخاصّة العاملات ـ في مزارع الرز المملوكة لعوائلهن ـ هذا اللباس، حيث يمارسن الحراثة والبذار والإهتمام بالزرع ثمّ حصاده، وبرهنّ عمليّاً على إمكانية محافظة المرأة على حجابها دون أن يمنع ذلك ممارستها لا شقّ الأعمال.
3 ـ يعترض المخالفون للحجاب قائلين: إنّ الحجاب يفصل بين الرجال والنساء، ويزيد في حرص الرجال بدلا من إخماد هذا الحرص، لأنَّ (المرء حريص على ما منع).
وهذه سفسطة واضحة، فلو قارن المرء بين مجتمعنا على عهد الطاغوت واليوم لتجلّى له الحقّ صريحاً، فبالأمس كان نزع الحجاب إجبارياً، واليوم يسود الحجاب الإسلامي مجتمعنا كله، والفساد كان ينتشر بالأمس في كل أنحاء البلاد، ويسيطر التسيب على معظم الأسر، ويزداد الطلاق بنسبة عالية، وترتفع نسبة
[86]
المواليد غير الشرعية، وآلاف المصائب الأُخرى. ونحن لا نجزم بأنّ كل الفساد قد زال في بلادنا واقتلعت جذوره، إلاّ أنّه ممّا لا شك فيه أنّه قد انخفض بدرجة كبيرة، واستعاد مجتمعنا سلامته بدرجة كبيرة.
وإذا استمر الوضع على هذا المنوال بعون من الله، فإنّنا سنتمكن من حلّ جميع المشاكل. ويبلغ مجتمعنا مرتبة الطهارة الكاملة، ويحفظ للمرأة مكانتها الرفيعة.
2 ـ استثناء الوجه والكفين
هناك اختلاف في الرأي بين الفقهاء حول شمول حكم حجاب الوجه والكفين من الرسغ إلى أطراف الأصابع، أم لا؟
الكثير من الفقهاء يرى أنّ تغطية الوجه والكفين مستثنى من حكم الحجاب، في الوقت الذي أفتى آخرون بوجوب تغطيتها، أو في الأقل احتاطوا في وجوب تغطيتها، وطبيعي أنّ القول باستثناء وجوب الحجاب على الوجه والكفين هو في حالة عدم نشوب فساد، وإلاّ فيجب تغطيتها.
وهناك قرائن في الآية الشريفة تؤيد هذا الإستثناء ويؤيد الرأي الأوّل:
أ ـ استثناء الزينة الظاهر في الآية السابقة، سواء دلت على أنّها تقصد موضع الزينة أو الزينة ذاتها، تكشف عن عدم وجوب تغطية الوجه والكفين.
ب ـ إن حكم الآية السابقة بوجوب رمي أطراف خمار المرأة على طرفي الياقة يفهم منه تغطية جميع أجزاء الرأس والرقبة والصدر. ولم يتحدث هذا الحكم عن تغطية الوجه، وهذا دليل آخر على هذا الرأي.
ولإيضاح ذلك نقول: كانت بعض نساء العرب يلبسن الخمار ويرمين طرفية على الكتفين بشكل تبقى الرقبة وجزء من الصدر مكشوفين، وقد أصلح الإسلام هذه الحالة، فأمر بتغطية الرقبة والصدر برمي طرفي الخمار على جانبي ياقة
[87]
الثوب، لتبقى دائرة الوجه وحدها مكشوفة.
ج ـ كما جاءت أحاديث إسلامية عديدة في هذا المجال تؤكّد ما ذهبنا إليه(1)مع وجود أحاديث معارضة لها، ولكنّها ليست بتلك الدرجة من الصراحة، والجمع بينهما بالقول باستحباب تغطية الوجه والكفين ـ عند خشية الفساد والإنحراف ـ أمر ممكن. كما تدل شواهد تاريخية على أنّ تغطية الوجه بقناع لم تكن عامّة في صدر الإسلام (ذكر شرح مفصل فقهي وروائي عن هذه القضية في البحوث الفقهية عن النكاح).
إلاّ أنّنا نؤكّد ثانية أنّ هذا الحكم في وقت لا يؤدي إلى استغلال أو انحراف.
كما يجب القول: إنَّ استثناء الوجه والكفين من حكم الحجاب لا يعني جواز النظر بشكل عمومي من قبل الرجال، وإنّما هو نوع من التسهيلات التي مُنحت للمرأة في الحياة.
3 ـ ما المقصود من نسائهنّ؟
ذكرنا في تفسير الآية السابقة أنّ تاسع مجموعة مستثناة بالإطلاع على زينة النساء هنّ النساء الأُخريات، وبملاحظة عبارة "نسائهنّ" ندرك أنّها تقصد النساء المسلمات، ولا يكشفن عن زينتهنّ لغير المسلمات، وفلسفة ذلك، أنّه من المحتمل أن يصفن ـ غير المسلمات ـ لأزواجهنّ ما شاهدنه من زينة النساء المسلمات. وهذا ليس عملا صائباً من قبل المسلمات.
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب (من لا يحضره الفقيه): "لا ينبغي للمرأة أن تكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنّهنّ يصفن ذلك لأزواجهنّ"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كتاب وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 145، الباب 109، من أبواب مقدمات النكاح.
2 ـ من لا يحضره الفقيه، حسبما ذكره تفسير نور الثقلين، المجلد 3، صفحة 593.
[88]
4 ـ تفسير عبارة (أو ما ملكت أيمانهن)
لظاهر هذه العبارة مفهوم واسع، ويدل على أنّه بإمكان المرأة الظهور دون حجاب بحضور عبدها، إلاّ أنّ بعض الأحاديث صرّحت بأنّ ذلك يعني فقط الظهور بين الجواري حتى لوكنّ غير مسلمات، ولا يشمل هذا الحكم العبيد. ففي حديث للإمام أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): "لا ينظر العبد إلى شعر سيّدته"(1).
ويستفاد من أحاديث أُخرى تعميم هذا الحكم على الجواري والعبيد، إلاّ أنَّ ذلك خلافاً للإحتياط.
5 ـ تفسير (أولي الإِربة من الرجال)
"الإِربة" في الأصل مشتقة من "أَرَب" على وزن "عرب" وكما يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته، شدّة الحاجة التي تدفع بالإنسان إلى إيجاد حلٍّ لها.
كما استعملت بمعنى الحاجة بشكل عامّ. والقصد هنا من "أُولي الإربة من الرجال" الذين لهم رغبة جنسية وهم بحاجة إلى زوجة، وعلى هذا، فإنَّ "غير أولي الإربة" هم الرجال الذين لا رغبة جنسية لديهم أصلا.
ولكن من المقصود بذلك؟
هنالك اختلاف بين المفسّرين.
قال البعض منهم: إنّهم كبار السنّ الذين خمد لديهم دافع الشهوة الجنسية، (كالقواعد من النساء والنسوة اللاتي تجاوزت أعمارهن حدّ الزواج وهنّ كالمتقاعدات في هذا المجال).
وقال آخرون: إنَّ المقصود هو الخصي من الرجال.
وقال بعض المفسّرين: إنّه الرجل الخنثى، أي: الذي لا يمتلك آلة الرجولة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، الباب 124، من مقدمات النكاح، الحديث الثامن.
[89]
إلاّ أنّ التّفسير الذي يمكن الإعتماد عليه. هو الذي جاء في أحاديث مؤكّدة عن الإِمامين الباقر والصادق(عليهما السلام): "هو الأحمق الذي لا يأتي النساء" من أنّ القصد هنا هو الأبلة من الرجال الذي لا يحسّ برغبة جنسية أبداً، ويستفاد منهم في الأعمال البسيطة وخدمة الأفراد، وعبارة "التابعين" تؤكّد هذا المعنى(1).
وبما أن هذا الوصف ـ أي عدم الشعور بالرغبة الجنسية ـ فئة خاصّة من المسنين يصدق على. فلا نستبعد إمكانية توسعة مفهوم الآية ليشمل هذه الفئة، وقد روي حديث عن الإِمام الكاظم(عليه السلام) يؤكّد ذلك، بيد أنّ ذلك لا يعني أنّهم يصبحون من المحارم، غاية الأمر هو عدم وجوب تغطية الرأس أو جزء من اليدين بحضور هذه المجموعة.
6 ـ أي طفل مستثنى من هذا الحكم؟
ذكرنا أنّ المجموعة الثّانية عشرة ـ أي الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم ـ مستثنون من حكم الحجاب.
وعبارة "لم يظهروا" تعني أحياناً "لم يطلعوا" وأحياناً أُخرى "لم يعتدوا" لأنّها جاءت بهذين المعنيين، حيث استعملها القرآن مرّة بهذا المعنى، وأُخرى بالمعنى الثّاني، ومثال ذلك ما جاء في الآيه (20) من سورة الكهف (وأن يظهروا عليكم يرجموكم).
ونقرأ في الآية الثّانية من سورة التوبة (كيف وأن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّةً).
إلاّ أنّ هذا الفرق ليس له أثر كبير بالنسبة للآية موضع البحث. حيث المقصود فيها الأطفال الذين ليس لهم ميول جنسية، بسبب عدم قدرتهم وعدم اطلاعهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لتوضح أكثر يراجع جواهر الكلام، المجلد 29، صفحة 94، وكذلك الوسائل الباب 111، من مقدمات النكاح (المجلد 14، ص 148) وكذلك التهذيب المجلد السابع، صفحة 468.
[90]
وعلى هذا يجب على النساء المسلمات أن يتحجبن بحضور الأطفال الذين بلغوا مرحلة برزت فيها رغبتهم الجنسية وقدرتهم على ذلك.
7 ـ لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم؟
يطرح هذا السؤال بعد دراسة الآيات السابقة: لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم ـ قط ـ وهم من المحارم؟
ربّما كان القرآن قد استهدف البلاغة في تعابيره بعدم ذكر أيّة كلمة إضافية، فقد دلّ استثناء ابن الأخ وابن الأخت على أنّ العمّة والخالة تعتبران من محارم الرجل، ويتّضح بذلك أن العم والخال لإحدى النساء هما من محارمها.
وبعبارة أُخرى: إنّ الحرمة ذات جانبين، فمن جهة بنات الأُخت وبنات الأُخ من محارم الرجال، وإنّه من الطبيعي سيكون من الجهة الثّانية العمّ والخال من المحارم "فتدبّر".
8 ـ تحريم سبل الإثارة!
آخر كلام في هذا المجال هو أنّ الآية السابقة نصّت على حرمة المشي بقوّة من قبل النساء ليسمعن صوت الخلخال.
وهذا يدل على دقّة الأحكام الإسلامية ومبلغ اهتمامها بالقضايا الخاصّة بعفّة الناس وشرفهم، بحيث لا يسمح معها بالقيام بمثل هذه الأعمال.
ومن البداهة أن لا يسمح الإسلام بإثارة شهوات الشباب، عن طريق نشر الصور الخلاعية، والأفلام المثيرة للشهوات، والقصص والروايات الجنسية، ولا ريب في أنّ البيئة الإسلامية يجب أن تكون طاهرة سليمة من هذه الأُمور التي تجرّ أفرادها إلى مهاوي الفساد وظلماته، وتدفع بالشباب والشابات نحو الإنحطاط الخلقي والرذيلة.
* * *
[91]
الآيات
وَأَنكِحُواْ الاَْيَـمَى مِنكُمْ وَالصَّـلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (32)وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَيَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِى ءَاتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَـتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهِهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَـت مُّبَيِّنـَت وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(34)
التّفسير
الترغيب في زواج يسير التكاليف:
طرحت هذه الآية ـ منذ بدايتها حتى الآن ـ سبلا أمينةً متعدّدةً للحيلولة دون الإنحطاط الخلقي والفساد، فكلّ واحد من هذه السبل يرتقي بالأُمَّة فَرداً وجماعةً
[92]
إلى عالم أرحب من الطّهر والإستقامة، ويحول دون تقهقرها أو انحدارها في مهاوي الرّذيلة، وقد أشارت الآيات ـ موضع البحث ـ إلى أهم طرق مكافحة الفحشاء، ألا وهو الزواج اليسير الذي يتمّ بعيداً عن أجواء الرياء والبذخ، لأنّ إشباع الغرائز بشكل سليم وشرعي خير سبيل لاقتلاع جذور الذنوب، أو بعبارة أُخرى: كل مكافحة سلبية لابدّ أن ترافقها مكافحة إبجابية.
لهذا تقول بداية الآية موضع البحث: (وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائِكم).
و"الأيامى" جمع "أيِّم" على وزن "قيِّم" وتعني في الأصل المرأة التي لا زوج لها، وكذلك تطلق هذه الكلمة على الرجل الذي لا زوجة له، فيدخل في هذا المفهوم كلّ من ليس له زوج، سواء كان بكراً أم ثيّباً.
وعبارة "أنكحوا" أي "زوّجوا" ـ وبما أنَّ الزواج يتمّ بالتراضي وحرية الإختيار الطرفين، فالمراد من هذا الأمر بالتزويج التمهيد للزواج، عن طريق تقديم العون المالي عند الحاجة، أو العثور على زوجة مناسبة، أو التشجيع على الزواج والإستفادة من وساطة الأشخاص لحلّ المشاكل المستجدة.
وباختصار: إنّ مفهوم الآية واسع، حتى أنَّهُ ليضم كلّ خطوة وحديث في هذا المجال. ولا اختلاف في أنَّ أصل التعاون الإِسلامي يوجب تقديم العون من قبل المسلمين بعضهم لبعض.
وجاء ذلك هنا بصراحة ليؤكّد أهميّة الزواج الخاصّة. وهي أهميّةٌ بالغة المدى، إذ ورد حديث بصددها عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قوله: "أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع الله بينهما".(1)
وجاء في حديث آخر عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) قوله: "ثلاثة يستظلون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 27 (الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح).
[93]
بظلّ عرش الله يوم القيامة، يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، رجل زوّج أخاه المسلم، أو خدمه، أو كتم له سرّاً"(1).
كما جاء في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله في الذي يسعى لزواج أخيه المسلم "كان له بكلّ خطوة خطاها، أو بكلّ كلمة تكلم بها في ذلك عمل سنة قيام ليلها وصيام نهارها"(2).
وبما أنّ بعض الإعذار كالفقر أو عدم وجود وتوفّر الإمكانات اللازمة قد تقف حائلا دون الزواج، أو هو عذر للفرار من الزواج وتشكيل الأُسرة. يقول القرآن بهذا الصدد: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله إن الله واسع عليم).
إنّ قدرة الله واسعة سعة تشمل عالم الوجود كلّه، وعلمه واسع يحيط بما خفي وبما ظهر من المقاصد والأفعال، خاصّة الذين يقدمون على الزواج ابتغاء المحافظة على عفتهم وطهارتهم، وبهذا يشمل الله الجميع بفضله وكرمه.
ولنا في هذا المجال دراسة وتحليل، وسنذكر أحاديث عديدة في نهاية هذا البحث.
ولكن أحياناً بالرغم من بذل الجميع جهودهم لتهيئة مستلزمات زواج إنسان ما لا يفلحون في ذلك، ممّا يضطره إلى مضي فترة من الزمن محروماً من الزواج، ولكي لا يظنّ أن إقدامه على الفساد أمراً مباحاً تقتضيه الضرورة أسرعت الآية التالية لتأمره بالطهارة والعفّة فقالت: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله).
فيجب عليه تجنّب التلوث والفساد في هذه المرحلة المتأزّمة ومواجهة الامتحان الإِلهي، حيث لا يقبل أي عذر منه، فلابدّ أن يمتحن قوّة إيمانه وشخصيته وتقواه في هذه المرحلة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 27 (الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح).
2 ـ المصدر السابق.
[94]
ويهتم الإسلام كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعياً من أجل تيسير حريتهم، فيتناول القرآن المجيد مسألة المكاتبة (وهي تعهد الغلام بتوقيعه إتفاقاً ينص على القيام بعمل معيّن أو دفع مبلغ مقابل عتقه)، فتقول الآية (والذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً).
وتقصد عبارة (علمتم فيهم خيراً) أي قد بلغوا من النمو الجسمي ووجدتم فيهم صلاحية لإبرام العقد، وقدرتهم على إنجاز ما تعهدوا به.
أمّا إذا لم يتمكنوا من الوفاء بما عاهدوا عليه، فلا ينبغي مكاتبتهم وعتقهم، لأنّ في ذلك ضرراً عليهم وعلى المجتمع، فيجب تأجيل ذلك إلى وقت آخر يؤهّلهم من حيث القدرة والصلاحية، ولأجل ألا يقع العبيد في مشاكل لا يتمكنون من حلّها ويعجزون عن تسديد ما بذمتهم، يدعو القرآن الكريم إلى مساعدتهم فيقول: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
هناك اختلاف حول هذا المال بين المفسّرين: فقال عدد كبير منهم: ـ إنّه حصة من الزكاة، مثلما نصت عليه الآية (60) من سورة التوبة. ليتمكن العبيد من الوفاء بدينهم وانعتاقهم.
وقال آخرون: على مالك الغلام أن يتَبرع بقسم من أقساط الدّين، أو يساعده بإعادته إليه، ليتمكن من الحياة الحرّة.
كما يحتمل أن المقصود هنا منح العبيد في البداية مبلغاً للإنفاق، أو جعله رأسمال لهم ليمكنهم من التجارة والعمل وإدارة شؤونهم الخاصّة، ودفع الأقساط التي بذمّتهم، وطبيعي أنّ التفاسير الثلاثة هذه غير متناقضة. ويمكن للآية السابقة أن تستوعبها جميعاً.
والهدف الحقيقي هو أن يشمل المسلمون هذه الطبقة المستضعفة بمساعداتهم لتتحرر بأسرع وقت ممكن.
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية: "تضع عنه من نجومه
[95]
التي لم تكن تريد أن تنقصه، ولا تزيد فوق ما في نفسك"(1).
إشارة إلى مجموعة من الناس كانوا يكاتبون عبيدهم بمبالغ أكبر ممّا يعطونهم، ويتظاهرون بمساعدتهم. وقد نهى الإمام الصادق(عليه السلام) عن ذلك مبيّناً أنّه يجب أن يكون التخفيض حقيقيّاً.
وعقّبت هذه الآية بإشارة إلى أحد الأعمال القبيحة التي كان يمارسها عبّاد الدنيا إزاء جواريهم: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).
قال بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية: كان عبدالله بن أُبي يملك ست جوار يجبرهن على البغاء، وعندما نزلت آيات قرآنية تنهى عن الفحشاء جئن إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعرضن شكواهن على سيّدهنّ عنده، فنزلت الآية أعلاه ونهت عن ارتكاب هذا الإثم(2).
وهذه الآية تكشف عن مدى الرذيلة والإنحطاط الخلقي الذي كان سائداً في عهد الجاهليه. وقد واصل البعض أعماله القبيحة هذه حتى بعد ظهور الإسلام، حتى نزلت الآية السابقة، وأنهت هذه الأعمال.
ومع بالغ الأسف نجد عصرنا الذي سمي بجاهلية القرن العشرين، تمارس البشرية هذا العمل بقوه وعلى قدم وساق في بلدان تدّعي المدنية والحضارة والدفاع عن حقوق الإنسان. وكذلك كان الوضع في بلادنا على عهد الطاغوت، إذ كان هذا العمل القبيح يمارس ببشاعة ومرارة، وكان البعض يخدع البنات البريئات والنساء الجاهلات، ويدفع بهنّ إلى مراكز الفساد، ويجبرهنّ على القيام بأعمال الرذيلة والفساد، ويغلق أبواب النجاة بوجوههنّ ليجني ثروات طائلة وتفصيل الكلام في ذلك مؤلم وخارج عن عهدة هذا الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 601.
2 ـ مجمع البيان في تفسير آخر الآية موضع البحث، وتفسير القرطبي (مع بعض الإختلاف).
[96]
وبالرغم من أن العالم المعاصر يدّعي التحضّر وإزالة معالم العبودية القديمة، إلاّ أنّ الجرائم والمفاسد الخُلقية تشيع بشكل أكثر توحّشاً من كلّ ما حدث في غابر الأيّام، ونسأل الله أن يحفظ الإِنسانية من شرّ هؤلاء الذين يدّعون التمدّن. كما نحمده ونشكره على زوال هذه المعالم من إيران بعيد انتصار الثورة الإسلامية.
وجدير بالذكر أنّ عبارة (إن أردن تحصناً) لا تعني في مفهومها أنهنّ إن رغبن في الفساد فلا مانع من إجبارهن، بل تعني نفي الموضوع بشكل تامّ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، لأنّ مسألة الإكراه تصدق في حالة عدم الرغبة فيه. وإلاّ فبيع الجسد وإشاعة هذا الفعل بأية صورة كانت هو من كبائر الذنوب.
وجاءت هذه العبارة لتثير غيرة مالكي الجواري إن كان لهم أدنى غيرة، ومفهومها أنّ الجواري مع أنهنّ من الطبقة الدانية ولكن لا يرغبن في ارتكاب الفاحشة. فلماذا ترتكبون هذه الأعمال المنحطة على الرغم من تصوركم أنّكم طبقة راقية؟
وفي الختام ـ على حسب الأُسلوب الذي يتبعه القرآن ـ يفتح طريق التوبة للمذنبين، ويشجعهم على إصلاح أنفسهم: (ومن يكرههن فإنّ الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم).
ويمكن أن تكون هذه الجملة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى الوضع السائد بين ملاّك الجواري الذين غلب عليهم الندم، واستعدوا للتوبة وإصلاح أنفسهم.
أو تكون هذه الجملة إشارة إلى النسوة اللواتي يرتكبن هذا العمل القبيح بإكراه من قبل أسيادهنّ.
وعلى نهج القرآن، نجد آخر الآيات ـ موضع البحث ـ تستنتج وتلخّص الموضوع المطروح خلال إشارتها إلى البحوث السابقة: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات) وكذلك دروس وعبر من الاقوام الماضية تنفعكم في يومكم هذا: (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين).
* * *
[97]
مسائل مهمّة:
1 ـ الزواج سُنّة إلهية
على الرغم من أن الزواج في الوقت الحاضر قد تعقد بما أحاطته الأعراف الإجتماعية من عادات خاطئة وخرافية أحياناً، فأصبح طريقاً صعباً لا يتمكن الشاب من سلوكه، فإنّه لو اجتزنا هذه العراقيل لأدركنا أنّ الزواج تعبير فطري منسجم مع قانون الخليقة وضروري لبقاء نسل الإنسان، وسكن لروحه، وراحة لجسمه، وحل للمشاكل النفسية والإجتماعية. فالإسلام يخطو بانسجام مع الخلق، وله تعابير جميلة مؤثرة، ومن جملتها حديث مشهور عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)"تناكحوا وتناسلوا تكثروا. فإنّي أباهي بكم الأُمم يوم القيامة ولو بالسقط"(1).
ونقرأ حديثاً آخر له(صلى الله عليه وآله وسلم) "من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي"(2).
والسبب في كلّ هذا الإهتمام هو أنَّ الغريزة الجنسية من أقوى وأشرس الغرائز في الإنسان، وتنافس الغرائز الأُخرى بأجمعها، وانحرافها يعرّض دين المرء إلى الخطر، ولذا يعلو صوت حديث نبوي آخر: "شراركم عزّابكم"(3) لهذا شجعت الآيات ـ موضع البحث ـ وأحاديث عديدة المسلمين على التعاون في تزويج العزّاب، وتقديم ما بوسعهم من مساعدات في هذا السبيل.
وقد حمّل الدّين الإسلامي الآباء مسؤولية كبيرة عن أبنائهم، والآباء الذين يتصرّفون دون مبالاة إزاء هذه القضية، فإنّهم يشاركون في إنحراف أبنائهم. كما نقرأ في حديث للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) "من أدرك له ولدٌ وعنده ما يزوجه فلم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار، المجلد الأول، صفحة 561 (مادة الزوج).
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ مجمع البيان، في تفسير الآية موضع البحث.
[98]
يزوجه، فأحدث، فالإثم بينهما!"(1).
وقد أكّدت تعاليم الإسلام ـ لهذا السبب أيضاً ـ بالتيسير في نفقات الزواج والمهر، لإزالة الحواجز من طريق العُزّاب. خاصّة إذا علمنا أنّ المهر الغالي يقف حجر عثرة في وجه زواج العزّاب. ففي حديث للرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "من شؤم المرأة غلاء مهرها"(2).
وجاء في حديث آخر أعقب الحديث السابق: "من شؤمها شدّة مؤونتها"(3).
وقد صرّحت الآية السابقة بأنّ الفقر لا يمكن أن يكون مانعاً للزواج، وقد يغني الله المرء بالزواج.
وبهذا حكمت الآية وأدانت الذين يفرون من الزواج بحجّة أنّهم فقراء، ولا يتحملون هذه المسؤولية الإلهية والإنسانية، بأعذار واهية.
والسبب في التأكيد على الزواج، هو أنّ المرء يشعر بعد زواجه بمسؤوليته في الحياة، فيزج قواه للكسب الحلال. بينما نجد العزاب في معظم الحالات مشردين! لعدم شعورهم بالمسؤولية. والمتزوج يكتسب شخصية إجتماعية، حيث يجد نفسه مسؤولا عن المحافظة على زوجته، وماء وجه أُسرته، وتأمين حياة سعيدة ومستقبل زاهر لها. ويستغلّ المتزوج جميع طاقاته للحصول على دخل معتبر، فتراه يقتصد في نفقاته ليتغلّب على الفقر بأسرع وقت ممكن، لهذا ذكر الإمام الصادق(عليه السلام) "الرزق مع النساء والعيال"(4).
جاء في حديث للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) حين شكا رجل إليه فقره فأجابه(صلى الله عليه وآله وسلم): "تزوّج". فتزوّج فوسع له(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية موضوع البحث.
2 ـ وسائل الشيعة، المجلد الخامس عشر، الباب الخامس من أبواب المهور صفحة 10.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 595.
5 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، صفحة 25، الباب 11 "من أبواب مقدمات النكاح".
[99]
ولا جدال في أنَّ الإمدادات الإِلهية والقوى الروحية الخفية تساعد هذا الشخص الذي تزوج ليحفظ نفسه ويطهرها. وعلى كلّ مؤمن أن يطمئن لما وعده الله، فقد ذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) "من ترك التزويج مخافة العيلة فقد ساء ظنّه بالله، إن الله عزَّوجلّ يقول: (أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)(1).
وهناك أحاديث عديدة في هذا المجال، لو تناولناها جميعاً بالبحث لخرجنا عن بحثنا التّفسيري هذا.
2 ـ المراد من عبارة (والصالحين من عبادكم وإمائكم).
ممّا يلفت النظر في الآيات موضع البحث أنّها حين التحدّث عن زواج الرجال والنساء الأيامي تأمر بالتعجيل في الزواج، وعدم وضع العراقيل في وجهه، أمّا بالنسبة للعبيد والجوارى، فتطلب توفر شرط الصلاح فيهم للزواج.
وذهب عدد من المفسّرين (كالكاتب العظيم صاحب تفسير الميزان، وكذلك صاحب تفسير الصافي) إلى صلاحيتهم للزواج في حين أن هذا الشرط يجب أن يتوفر في النساء والرجال الأحرار أيضاً.
وقال البعض الآخر: إنّه يقصد الصلاح من ناحية الأخلاق والعقيدة، لأنّ الصالحين يتمتعون بمكانة خاصّة من هذه الجهة، ولكن السؤال يبقى على حاله:
لماذا لم يرد هذا الشرط في الاحرار؟
ويحتمل أن يكون المراد غير هذا: ـ إذ أنّ أكثر العبيد في تلك الفترة في مستوى ثقافي وأخلاقي واطيء، فلا يشعرون بأيّة مسؤولية، ولا يُقدرون المشاعر المشتركة في الحياة. فلو تزوجوا لتركوا زوجاتهم بسهولة، ومن هنا استوجبت الآية التأكد من صلاحيتهم للزواج.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، صفحة 24، الباب 10 "من أبواب مقدمات النكاح".
[100]
ومفهوم هذه الآية أن يعدّوا العبيد للزواج أوّلا بتهذيب أخلاقهم وزيادة صلاحهم، ليكونوا بمستوى المسؤولية التي تقع على عاتقهم بعد الزواج.
3 ـ ما هو عقد المكاتبة؟
قلنا: إنَّ الإسلام وضع برنامج التحرر التدريجي للعبيد، واستفاد من كل فرصة لعتقهم، فكانت قضية "المكاتبة" حكماً يجب اتباعه، كما نصّت عليه الآيات موضع البحث.
وتشتق "المكاتبة" من الكتابة، والكتابة في الأصل مشتقّة من "كتب" بمعنى "الجمع" أي: جمع الحروف والكلمات. وبما أنّ العقد بين المولى والعبد يتمّ بكتابة موادَّ يتفق عليها، فلذلك سمّيت "مكاتبة". فعقد المكاتبة نوع من الإتفاقات يتمّ بين المولى وعبده، يلتزم العبد فيه بإعداد مبلغ من المال من عمل حرّ، ليدفع أقساطاً لسيّده، فاذا دفع آخر قسط ينال حريته.
وأمر الإسلام ألا تتجاوز هذه الأقساط ثمن العبد نفسه.
وإذا عجز العبد لسبب ما عَن دفع الأقساط المترتبة بذمّته، وجب أن تسدّد هذه الأقساط من بيت المال أو من الزكاة ليعتق، حتّى أنَّ بعض الفقهاء قال بصراحة: إذا تعلقت زكاة بذمّة السيّد، وجب عليه احتساب هذه الأقساط منها، وهذا العقد لازم التنفيذ، ولا يمكن فسخه من أيّ طرف من طرفي العقد.
ويتّضح بذلك كيف يجعل هذا المشروع عتق العبيد يسيراً، ليعيشوا أحراراً مستقلين حتى في فترة إعداد الأقساط، كما أن أسيادهم لا يتضررون بذلك، فلا يدفعهم هذا إلى إلحاق الأذى بعبيدهم.
ولعقد المكاتبة أحكام وفروع عديدة مذكورة في الكتب الفقهية في باب المكاتبة.
* * *
[101]
الآيات
اللهُ نُورُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوة فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِى زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَة مُّبَـرَكَة زَيْتُونَة لاَّ شَرْقِيَّة وَلاَ غَرْبِيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلى نُور يَهْدِى اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الاْمْثَلَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(35) فِى بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالاْصَالِ(36) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ وَإيِتَآءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالاَْبْصَـرُ(37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَاب(38)
التّفسير
آية النور!
تحدث الفلاسفة والمفسّرون والعرفاء الاسلاميون كثيراً عن مقاصد الآيات
[102]
أعلاه، وهي مُرتبطة بما سبقها من الآيات الشريفة التي عرضت لقضية العفة ومكافحة الفحشاء بمختلف السبل.
وبما أنَّ ضمانة تنفيذ الأحكام الإلهية، وخاصّة السيطرة على الغرائز الثائرة، ولا سيّما الغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز، لا تتمّ دون الإستناد إلى الإيمان، ومن هنا إمتد البحث إلى الإيمان وأثره القويّ، فقالت الآية أوّلا: (الله نور السموات والأرض).
ما أحلى هذه الجملة! وما أثمنها من كلمات! أجل إنّ الله نور السموات والأرض... النور الذي يغمر كلّ شيء ويضيئه.
ويرى بعض المفسّرين أنّ كلمة "النّور" تعني هنا "الهادي"، وذهب البعض الآخر أنّ المراد هو "المنير". وفسّرها آخرون بـ "زينة السماوات والأرض".
وكلّ هذه المعاني صحيحة، سوى أنَّ مفهوم هذه الآية أوسع بكثير ممّا ذُكر، فالقرآن المجيد والأحاديث الإِسلامية فسّرت النور بأشياء عدّة منها:
1 ـ "القرآن المجيد": ـ ذكرت الآية (15) من سورة المائدة: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) وجاء في الآية (157) من سورة الأعراف (واتبعوا النور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون).
2 ـ "الإيمان" ذكرت الآية (257) من سورة البقرة. (والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور).
3 ـ "الهداية الإلهية" مثلما جاء في الآية (122) من سورة الأنعام (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)؟!
4 ـ "الدين الإسلامي" كما نقرأ في الآية (32) من سورة التوبة: (ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون).
5 ـ النّبي الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ نقرأ عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (46) من سورة
[103]
الأحزاب: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً).
6 ـ الأئمة الأطهار: كما جاء في الزيارة الجامعة لهم: "خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقّين". وكذلك في نفس هذه الزيارة "وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار".
7 ـ "العلم والمعرفة" حيث عُرِّف بالنور كما جاء في الحديث المشهور "العلم نور يقدفه الله في قلب من يشاء".
كلّ هذه من جهة، ومن الجهة الأُخرى علينا التدقيق في خصائص النور وميزانه، ليتّضح أنَّه يمتاز بما يلي:
1 ـ النور أجمل وألطف ما في العالم، وهو مصدر لكلّ جمال ولطف!
2 ـ النور أسرع الأشياء، كما ثبت لمشهوري العلماء الكبار في العالم، إذ تبلغ سرعته ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثّانية. وبإمكانه الدوران حول الكرة الأرضية سبع مرات في طرفة عين (أقلّ من ثانية واحدة).
ولهذا السبب تقاس المسافات الهائلة بين النجوم فقط بسرعة الضوء، والوحدة المستعملة في هذا المجال هي السنة الضوئية، أي: المسافة التي يقطعها الضوء وهو بتلك السرعة الهائلة ـ في سنة واحدة.
3 ـ بالنور يمكن مشاهدة الأشياء في العالم، ومن دونه يستحيل رؤية أيّ شيء، فالنور ظاهر بنفسه ومظهر لغيره.
4 ـ إنّ ضوء الشمس يُعدّ من أهم أنواع النور في عالمنا، فهو ينمي الأزهار والنباتات وبه تستمرّ الحياة، بل هو رمز بقاء المخلوقات الحيّة، ولا يمكن لموجود حيّ أن يستمرّ في الحياة دون أن يستفيد من نور الشمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
5 ـ ثبت اليوم أن جميع الألوان يمكن مشاهدتها بنور الشمس أو الأنوار الأُخرى، وَلولاها لعاشت المخلوقات في عتمة قاتمة.
[104]
6 ـ إنّ جميع أنواع الطاقة الموجودة في محيطنا (باستثناء الطاقة النووية) مصدرها الشمس من قبيل حركة الرياح، سقوط المطر، وحركة الأنهر والوسائط فيها والشلالات ولو دققنا في حركة جميع المخلوقات الحية لوجدناها ترتبط بنور الشمس.
مصدر الحرارة وتدفئة الأحياء كلها هو الشمس، حتى أن حرارة النار المتولدة من الخشب أو الفحم أو الفحم الحجري أو النفط ومشتقاته مصدرها حرارة الشمس. لأنّ هذه الأشياء بِحسب الدراسات العلمية تعود إلى النباتات أو الحيوانات، وهذه بدورها قد استفادت من نور الشمس وحرارتها، فخزنت الفائض منها في جسمها، لهذا فإنّ حركة المحركات والمكائن أيضاً من بركات الشمس.
7 ـ نور الشمس قاتل الميكروبات والمخلوقات المضرّة، وبفقدان هذا النور تتبدّل الأرض إلى مستشفىً كبير قد ابتلي سكانها بأنواع الأمراض ويصارعون الموت بين لحظة وأُخرى!
وكلما دققنا في عالم النور الذي يشكل ظاهرة فريدة، يتّضح لنا أثرهُ البالغ الأهمية وبركاته العظيمة.
وبملاحظة هاتين المقدمتين إذا أردنا تشبيه الذات المقدسة لربّ العالمين (رغم منزلته العظيمة التي لا نظير لها ولا شبيه) فلا نجد خيراً من النور؟! الله الذي خلق كل شيء في عالم الوجود ونوّره، فأحيا المخلوقات الحية ببركته، ورزقها من فضل، ولو انقطعت رحمته عنها لحظة، لأصبح الجميع في ظلمات الفناء والعدم.
وممّا يلفت النظر أنّ كل مخلوق يرتبط بالله بمقدار معين يكتسب من النور بنفس ذلك المقدار:
القرآن نور لأنّه كلام الله.
والدين الإسلامي نور لأنّه دينه.
[105]
الأنبياء أنوار لأنّهم رسله.
والأئمّة المعصومون(عليهم السلام) أنوار إلهية، لأنّهم حفظة دينه بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
والإيمان نور، لأنّه رمز الإلتحام به سبحانه وتعالى.
والعلم نور، لأنّه السبيل إلى معرفته ـ عزَّوجلَّ ـ .
ولهذا: اللّه نور السموات والأرض.
وإذا استعملنا كلمة "النور" بمعناها الواسعِ، أي الظاهر في ذاته والمظهر لغيره في هذه الحالة يصبح استعمال كلمة النور الذات الله المقدسة حقيقة ولا تشبيه فيها، لأنّه لا يوجد أظهر من الله تعالى في العالم، وكلّ الأشياء تظهر من بركاتِ وجودِه.
وجاء في كتاب التوحيد، عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حين سئل عن معنى قوله تعالى:(الله نور السموات والأرض) قال "هادِ لأهل السموات، وهاد لأهل الأرض".
وهذه في الواقع واحدة من خصائص النور الإِلهي، ولا يمكن حصره بهذه الخصيصة، ولهذا يمكن جمع كلّ ما قيل في تفسير هذه الآية، وكلّ تفسير هوإشارة إلى أحدِ أَبعادِ هذا النور الذي لا مثيل له.
والجديرُ بالذكر ما جاء في الفقرة السابعة والأربعين من دعاء الجوشن الكبير الذي يحتوي على صفاتِ الله تعالى: "يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور، يا مدبر النور، يا مقدر النور، يا نور كلّ نور، يا نوراً قبل كلّ نور، يا نوراً بعد كلّ نور، يا نوراً فوق كلّ نور، يا نوراً ليس كمثله نور" وبهذا تأخذ أنوار الوجود نورها من نوره وتنتهي بنوره الطاهر.
وقد أوضح القرآن بعد بيانه الحقائق السالفة ذلك، إذْ ذكر مثالا رائعاً دقيقاً لكيفية النور الإلهي: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسّه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله
[106]
الأمثال للناس والله بكل شيء عليم).
ولشرح هذا المثال يجب الإلمام بعدة أُمور:
"المشكاة" في الأصل تعني الكُوّة التي تخصص في الجدار لوضع المصابيح الزيتية فيها لحفظها من الرياح، وأحياناً تبنى في الجدار فتحة صغيرة، يغطى جانبها المشرف على ساحة الدار بالزجاج، لإضاءة داخل وخارج الغرفة كما تحفظ المصباح من الرياح. كما تطلق هذه الكلمة على وعاء (الفانوس القديم) يصنع من زجاج على شكل متوازي المستطيلات له باب وفتحة في أعلاه لخروج الهواء الساخن. وكانوا يضعون المصباح فيه.
وباختصار نقول: إنّ المشكاة محفظة للمصباح من الرياح الشديدة، وغالباً ما يثبت في الجدار لتركيزِ الضوء وسهولة انعكاسِه.
"الزجاجة" تطلق في الأساس على الأحجار الشفّافة، وسَمّيت الصفائح الشفافة بالزجاج لأنّها تصنع من مواد معدنية، والزجاجة هنا تعني الزجاجة التي توضع فوق المصباح لتحفظ شعلته، وتنظّم جريانَ الهواء، لتزيد من نور الشعلة.
"المصباح" يتألف من وعاء للزيت وفتيل.
عبارة (يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) تشير إلى الطاقة التي تُجَهِّز هذا المصباحَ بوقود لا ينضب معينه. وزيت الزيتون من أجود الوقود المستعمل للمصابيح، ثمّ أن هذا الزيت يُحْصَلُ عليه من زيتون شجر يتعرّض للشمسِ من جميعِ جوانبه بشكل متساو، لا أن تكون الشجره في الجانب الشرقي مِنَ البستان وبجانب حائط يمنع وصول أشعة الشمس إليها، كما لا تكون في جهة الغرب ليتعرض جانب واحد منها على أشعة الشمس، فلا تنضج ثمرتها بصورة جيدة ولا يكون زيتها نقياً وصافياً.
وبعد هذا الإيضاح يتبيّن أنّنا للإِستفادة من نور المصباح بإشعاع قويّ نحتاج إلى توفر أربعة أشياء.
[107]
"محفظة للمصباح" لا تقلل من نوره، بل تركز هذا النور وتعكسه و "زجاجة" تنظم جريان الهواء حول الشعلة، ويجب أن تكون شفّافة بدرجة لا تمنع تشعشع النور، و"مصباح" هو مصدر النور، وهو عبارة عن إناء فيه زيت وفي أعلاه الفتيل.
وأخيراً "مادة الإحتراق" صافية خالصة شفّافة مستعدة للإِشتعال بدرجة يتصوَّر فيها الإِنسان إنّها سوف تشعل لوحدها دون أن يمسّها قبس من النار.
كلّ هذه العبارات تكشف في الحقيقة عن ظاهر القضية.
ومن جهةُ أُخرى أورد كبار المفسّرين تفاسير عديدة بشأن هذا التشبيه وأنّه ما هو "المشبّه" ومن أيّ نور إلهي يكون:
قال البعض: المقصود هنا نور الهداية التي يجعله الله في قلوب المؤمنين، وبعبارة أُخرى: المقصود الإِيمان الذي استقرّ في قلوب المؤمنين.
وقال آخرون: إنّ المشبّه يعني هنا القرآن الذي ينير قلوب الناس.
وآخرون: إنّه اشارة إلى شخص النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
وآخرون: إنَّه إشارة إلى أدلة التوحيد والعدل الإِلهي.
وآخرون: إنّه روح الطاعةِ والتقوى التي هي أساسُ كلِّ خير وسعادة.
وفي الحقيقة فإنّ هذهِ التفاسير قد أوردت كلّ ما جاء في القرآن والأحاديث الإسلامية بعنوان مصاديق للنور، وجوهرها واحد، وهو نور الهداية بذاته، ومصدره القرآن والوحي ووجود الأنبياء، وينهل من أدلة التوحيد، ونتيجته التسليم بحكم الله والتمسك بالتقوى.
وتوضيح ذلك: إنّ نور الإيمان الموجود في قلوب المؤمنين يحتوي على العناصر الأربعة المتوفرة في المصباح المضيء، هي:
"المصباح" وهو شعلة الإيمان في قلب المؤمن يضيء طريق الهداية.
و"الزجاجة" هي قلب المؤمن ينظم الإيمان في ذاته ويحفظه من كل سوء.
و"المشكاة" صدر المؤمن، أو بعبارة أُخرى: شخصيته بما فيها وعيه وعلمه
[108]
وفكرهُ الذي يصون إيمانه من الأعاصير والأخطار.
"شجرة مباركة زيتونة" هي الوحي الإِلهي الذي يكون بمنتهى الصفاء والطهارة وتوقد شعلة إيمان المؤمنين ـ في الحقيقة ـ من نورُ الله الذي ينير السموات والأرض وقد أشرق من قلوب المؤمنين، فأضاءَ وُجودَهم ونور وجوههم.
فتراهم يمزجون الأدلَّة العقلائية بنور الوحي، فيكون مصداق "نور على نور".
ولهذا ترى القلوب المستعدة لاستقبالِ النورِ الإِلهي تهتدي، وهي المقصودة بعبارة(يهدي الله لنوره من يشاء) وعلى هذا فإنَّ المحافظة على النور الإِلهي (نور الهداية والإِيمان) يستوجب توفر مجموعة من المعارف والعلوم والوعي والأخلاق وبناء الذات، من أجل أن تكون كالمشكاة تحفظ هذا المصباح.
كما تحتاج إلى قلب مستعد لينظَّمُ هذا النور الإِلهي كما تنظم الزجاجة شعلة المصباح.
وتحتاج إلى مدد من الوحي، ليمنحها طاقة مثلما تمنحها الشجرة التي سمّاها القرآن بعبارة (شجرة مباركة زيتونة).
وتجب المحافظة على نورِ الوحي من التلوث والميول المادية والإنحراف إلى الشرق أو الغرب الذي يؤدّي إلى التفسخ والإندثار.
ولتعبيء قوى الإنسان بشكل سليم بعيداً عن كلّ فكر مستورد وانحراف، لتكون مصداقاً لـ (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار).
وكلّ تفسير يتضمّن حكماً مسبقاً ويتضمّن ذوق المفسّر وعقيدته الخاصّة به، أو رغبةً يساريةً أو يمنيةً، أو خرافة يؤدي إلى تلويث سمعة هذه الشجرة المباركة، ويُقلل من تشعشع مصباحها. وأحياناً يُطفئه.
هذا هو المثال الذي ذكره اللهُ لنورِهِ في هذه الآية، وهو الذي أحاط بكلّ شيء
[109]
علماً.
وممّا سلف يتّضح لنا أن ما ذكرته الرّوايات عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)بخصوص تفسير هذه الآية أنّ المشكاة هي قلب نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) والمصباح نور العلم، والزجاجة وصية علي(عليه السلام)، والشجرة المباركة إبراهيم الخليل(عليه السلام) الذي يرجع نسب بيت النبوّة إليه، وعبارة (لا شرقية ولا غربية) تعني نفي أيّ ميل إلى اليهودية والنصرانية فهو وجه آخر لنور الهداية والإيمان، ومصداق واضح لها، ولا يعني أنّ هذه الآية مختصة بهذا المصداق.
كما أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ النور الإِلهي هو القرآن، أو الأدلة العقلائية، أو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بذاته، له جذور مشتركة بالتّفسير أعلاه.
وقد شاهدنا حتى الآن خصائص هذا النور الإِلهي، نور الهداية والإِيمان من خلال تشبيهه بمصباح قويّ الإضاءة.
ويجب أن نعرف الآن أين موضع هذا المصباح، وشكل موضعه؟ ليتّضح لنا ما كان ضرورياً إيضاحه في هذا المجال. لهذا تقول الآية التالية: إنّ هذه المشكاة تقع (في بيوت أذن الله أن ترفع) لكي تكون في مأمن من الشياطين والاعداء والانتهازيين (ويذكر فيها اسمه) ويتلى فيها القرآن والحقائق الإلهية.
وقد اعتبر العديد من المفسّرين هذه الآية مرتبطةً كما قلنا بالآية التي سبقتها(1). غير أن البعض من المفسّرين يرى أنّ هذه الجملة ترتبط بالجملة التي تليها، إلاّ أنّ ذلك بعيد عن الصواب.
أمّا ما أورده البعض وتساءل عن مدى تأثير هذا النور الباهر في البيوت
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هكذا يكون تقدير الآية "هذه المشكاة في بيوت ... أو هذا المصباح في بيوت ... هذه الشجرة في بيوت ... نورالله في بيوت" في الوقت الذي يرى أصحاب التّفسير الثّاني أنّ عبارة "في بيوت" تعود إلى كلمة "يسبّح" ليكون معنى الآية (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال) أي في الصباح والمساء. إلاّ أن هذا التّفسير لا ينسجم مع وجود كلمة "فيها" لأنّه يعد تكراراً لا داعي له، إضافة إلى عدم انسجامها مع الأحاديث الواردة بهذا الصدد (فتأملوا جيداً).
[110]
المذكورة بتلك الخصوصيات، فجوابه واضح، لأنّ البيوت التي ورد ذكرها في هذه الآية والتي يحرسها رجال أشداء يقظون، هم الذين يحفظون هذه المصابيح المنيرة، إضافة إلى أن هؤلاء الرجال يبحثون عن مصدرِ نور، فيهرعون إليه بعد أن يتعرّفون على موضع هذا النور.
ولكن ماالمقصود من هذه البيوت؟
الجواب يتّضح بما ذكرته آخر الآية من خصائص حيث تقول: أنّه في هذه البيوت يسبّح أهلها صباحاً ومساءاً: (يسبح له فيها بالغدو والآصال)(1).
(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) إنّ هذه الخصائص تكشف عن أنَّ هذه البيوت هي المراكز التي حُصِّنَتْ بأمر من الله، وأنّها مركز لذكر الله ولبيان حقيقة الإسلام وتعاليم الله، ويضم هذا المعنى الواسع المساجد وبيوت الأنبياء والأولياء خاصّة بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبيت عليّ(عليه السلام). ولا دليل يؤيِّدُ حصرها من قبل بعض المفسّرين ـ بالمساجد أو بيوت الأنبياء وأمثالها.
وفي الحديث المروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) "هي بيوت الأنبياء وبيت عليّ منها"(2).
وفي حديث آخر حيث سئل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا قرأ الآية، أي بيوت هذه؟ فقال: "بيوت الأنبياء" فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها، يعني بيت عليّ وفاطمة. قال: "نعم، من أفاضلها"(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الغدو" على وزن "علو" بمعنى الصبح، ويقول الراغب الأصفهاني: الغدوة والغداة من أوّل النهار، وقوبل في القرآن بالآصال، نحو قوله (بالغدو والآصال) وقوبل الغداة بالعشيِّ.
و"الآصال" جمع "الأصل" على وزن "رُسُلْ" وهو بدوره جمع للأصيل بمعنى العصر، والسبب في ذكر الغدو مفردة والآصال جمعاً؟ يقول فخر الرازي، لأنّ الغدو ذات بعد مصدري ولا يجمع المصدر.
2 ـ تفسير نورالثقلين، المجلد الثالث، ص 607.
3 ـ تفسير مجمع البيان للآية موضع البحث.
[111]
وكل ذلك إشارة إلى مصاديق واضحة تذكرها الأحاديث كعادتها حين تفسير القرآن.
أجل، إنَّ كُلَّ مركز يقامُ بأمر من الله، ويذكر فيه اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال، وفيه رجال لا تلهيهم تجارة عن ذكر الله، فهي مواضع لمشكاة الأنوار الإلهية والإِيمان والهداية.
ولهذه البيوت عدّة خصائص:
أوّلها: أنّها شيّدتْ بأمر من الله.
والأُخرى: إن جدرانها رُفعت وأُحكم بناؤها لتمنع تسلل الشياطين.
وثالثها: أنها مركز لذكر الله.
وأخيراً: فإنّ فيها رجالا يَحْرسُونُها ليل نهار، وهم يسبحون الله، ولا تلهيهم الجواذب الدنيوية عن ذكر الله.
هذه البيوت بهذه الخصائص، مصادر للهداية والإِيمان.
ولابدّ من التنبيه إلى ورود كلمتين في هذه الآية هما "التجارة" و"البيع" وهما كلمتان تبدوان وكأنّ لهما معنىً واحداً، إلاّ أنّ الفرق بينهما هو أنّ التجارة عمل مستمر، والبيع يُنجز مرة واحدة، وقد تكون عابرة.
ويجب الإلتفاتُ إلى أنَّ الآية لم تقل: أنّ هؤلاء لا يمارسون أبداً التجارة والبيع بل قالت: إنّهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
إنّهم يخافون يوم القيامة والعدل الإِلهي الذي تتقلّب فِيْه القلوبُ والأبصار من الخوف والوحشة (ويجب الإنتباه إلى أنَّ الفعل المضارع، "يخافون" يدلّ على الإستمرار في الخوف، وهذا الخوف هو الذي دفعهم إلى تحمل مسؤولياتهم، ولبلوغ رسالتهم في الحياة).
وأشارت آخر هذه الآيات إلى الجزاء الوافي لحراس نور الهداية وعشّاق الحقّ والحقيقة، فقالت: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله)،
[112]
ولا عجب في ذلك، لأنّ الفضل الإلهي لمن كان جديراً به غير محدود: (والله يرزق من يشاء بغير حساب).
وقال بعض المفسّرين عما تعنيه عبارة (أحسن ما عملوا) في هذه الآية، أنّها إشارة إلى جميع الأعمال الطيبة، سواء كانت واجبة أم مستحبة، صغيرة أم كبيرة.
ويرى آخرون أنّها إشارة إلى أنّ الله يكافيء الحسنة بعشر أمثالها، وأحياناً بسبعمائة مثلها، حيث نقرأ في الآية (160) من سورة الأنعام: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها). كما جاء في الآية (261) من سورة البقرة حول جزاء المنفقين في سبيل الله أنَّ المكافأة تعادل سبعمائة مرة أو ضعفها.
كما يمكن أن تفسّر العبارة السابقة بأنّ المقصود هو أنَّ الله يكافيء جميع أعمالهم بموجب أفضلها، ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها، حيث يجعلها الله بمستوى أفضل الأعمال حين منحه المكافأة.
وليس هذا بعيداً عن رحمة الله وفضله، والعدالة تقضي بمساواة المكافأة مع العمل في سبيل الله، إلاّ أنّ رحمة الله وسعتْ كلّ شيء، فهو يهب دون حساب ولا حدود، فذاته المقدسة غير محدودة، وأنعمه لا تنتهي، وكرمه عظيم لا حدود له.
* * *
ملاحظات
بيّنا كثيراً من مسائل هذه الآيات خلال تفسيرنا لها، وبقيت عدّة أحاديث يقتضي الأمر ذكرها بُغية إتمام هذا البحث.
1 ـ نقرأ في كتاب روضة الكافي حديثاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير آية النور: "إن المشكاة قلب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) والمصباح النور الذي فيه العلم،
[113]
والزجاجة قلب علي(عليه السلام) أو نفسه"(1).
2 ـ وجاء حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام) في توحيد الصدوق "إن المشكاة نور العلم في صدر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والزجاجة صدر علي ... ونور علي نور إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في أثر الإمام من آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله عزّوجلّ ـ خلفاء في أرضه وحجج على خلقه، لا تخلو الأرض في كلّ عصر من واحد منهم"(2).
3 ـ وفسّر حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) المشكاة بفاطمة(عليها السلام)والمصباح بالحسن(عليه السلام) والزجاجة بالحسين(عليه السلام).(3)
وكما أشرنا سابقاً فإنّ للآيات مفهوماً واسعاً، وكلّ حديث من هذه الأحاديث بيان لمصداق بارز من مصاديقها دون الاخلال بعموميتها.
وبهذا لا نجد تناقضاً في الأحاديث السابقة.
4 ـ نقرأ في حديث عن أبي جعفر الثمالي قال: قال أبو جعفر(عليه السلام) الباقر لقتادة: من أنت؟ قال: أنا قتادة ابن دعامّة البصري فقال له أبو جعفر(عليه السلام): أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: نعم، فقال له الامام الباقر(عليه السلام): ويحك باقتادة إن الله خلق خلقاً من خلقه فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه قوّام بأمره نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه، أظلة عن يمين عرشه قال: فسكت قتادة طويلا ثمّ قال: أصلحك الله والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّامهم، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك.
فقال له الإمام الباقر(عليه السلام): أتدري أين أنت؟ بين يدى: (بيوت اذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين في تفسير الآيات موضع البحث (مع بعض التلخيص المجلد الثالث، صفحة 602 و 603).
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
[114]
ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة) فأنت ثمّ ونحن أُولئك.
فقال له قتادة: "صدقت والله جعلني الله فداك والله ما هي بيوت حجارة ولا طين..."(1)
5 ـ وذكر حديث آخر حول رجال الله حماة الوحي والهداية: "هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، إذا دخل مواقيت الصلاة أدوا إلى الله حقّه فيها"(2)
إشارة إلى أنّ هؤلاء الرجال همّهم ذكر الله ولا يقدمون عليه شيئاً، رغم أنّهم يمارسون نشاطاً إقتصادياً في الحياة.
6 ـ وصفت شجرة الزيتون في الآيات السابقة بأنّها شجرة مباركة.
وكان لهذه الشجرة أهمية بالغة حين نزول القرآن، وقد اتّضح ذلك اليوم، لأنَّ كبار العلماءِ أخبرونا بخلاصة تجاربهم ودراساتهم عن خواصّ أنواعِ النباتات، وحول شجرة الزيتون يقولون: إنّها مباركة حقّاً، وثمرها مفيد جدّاً، ويمنحنا أجود الزيوت، ولها دور حيوي في سلامة الجسم.
يقول ابن عباس: إنَّ أجزاء هذه الشجرة مفيدة ومريحة، وحتى رماد خشبها فيه منفعة، وهي أولُ شجرة نبتت بعد طوفان نوح(عليه السلام)، وقد دعا لها الأنبياء وباركوها.
7 ـ ذكر المفسّرون الكبار عدّة تفاسير لعبارة "نور على نور" فقال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: إنّها إشارة إلى أنبياء من نسل واحد يتعاقبون على النبوة ويُواصِلُونَ طريق الهداية.
ويقول الفخر الرازي في تَفسيرهِ: إنّها إشارة إلى تجمع شعاع النور وتراكمه، حيث ذكر حول المؤمن: "يقف المؤمن بين أربعة مواقف، فإذا وهبهُ الله شكره،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق، 609.
2 ـ المصدر السابق.
[115]
وإذا أصابته مصيبة صبر وصمد، وإذا تكلم صدق، وإذا حكّم بين اثنين عدل، وهو إنسان واع بين جهلة ومثله كحيّ بين أموات. إنّه يسير بين خمسة أنوار: كلامه نور، عمله نور، إقامته نور، رحله نور، هدفه نور الله يوم القيامة".
ويمكن أن يكون النور الأوّل الذي ذكرته الآية إشارة إلى نور الهداية الإِلهية عن طريق الوحي، والنور الثّاني نور الهداية عن طريق العقل.
أو أنّ النور الأوّل هو نور الهداية التشريعة، والنور الثّاني نور الهداية التكوينية فهو نور على نور.
وبهذا فسّرت هذه العبارة بمختلف مصادر النور، مرّة فُسِّرت بالأنبياء وأُخرى بأنواعِ النور، ومرة ثالثة بمراحل النور المختلفة، وهي ممكنة جميعاً في آن واحد، لأنّ مفهوم الآية واسع جداً (فتأملوا جيداً).
* * *
[116]
الآيتان
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَـلُهُمْ كَسَرابِ بِقِيعَةِ يَحْسَبُهُ الظَّمأَنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39) أَوْ كَظُلُمَـت فِى بَحْر لُّجِّىٍّ يَغْشَـهُ مَوْجٌ مِّنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَريَـهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّور(40)
التّفسير
أعمال سرابية
تحدثت الآيات السابقة عن نور الله، نور الإيمان والهداية. ولإتمام هذا البحث ولتوضيح المقارنة بين الذين نوّر الله قلوبهم وبين الآخرين تناوَلَتْ هذه الآيات عالَم الكفر والجهل والإلحاد المظلم، وتحدثت عن الكفار والمنافقين الذين وجودهم (ظلمات بعضها فوق بعض) خلافاً للمؤمنين الذين أصبحت حياتهم وأفكارهم (نور على نور).
[117]
الكلام في الآية الأُولى عن الذين يبحثون عن الماء في صحراءَ جاقّة حارقة، ولا يجدون غير السراب فيموتون عطشاً، في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون على نور الإِيمان، ومنبع الهداية الرائعة، فاستراحوا بجنبها، فتقول أوّلا: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) ولكن يجد الله عند أعماله (ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب).
"السراب" مشتق من السرب على وزن "حَرْبْ" بمعنى الطريق المنحدر، وتطلق كلمة السراب على لمعان يشاهد في الصحارى والمنحدرات من بعيد وكأنّه ماء، وما هو إلاّ إنعكاسٌ لأشعة الشمس(1).
ويرى البعض أنّ "القيعة" جمع "قاعة"، بمعنى الأرض الواسعة التي لاماء ولا نبات فيها، ويطلق ذلك على الصحاري التي يظهر فيها السراب في معظم الأحيان، إلاّ أنَّ بَعْضَ المفسّرين واللغويين يرون أنّ هذه الكلمة مفردة، وجمعها "قيعان" أو "قيعات"(2).
ورغم عدم وجود الفرق مِنْ حيثُ المعنى، فإنّ الآيَةُ تُوجِبُ أَن تكون هذه الكلمة مفردة، لأَنّها ذكرت السراب مفرداً والسراب الواحد يكون في أرض واحدة طبعاً.
ثمّ تناولت الآية الثّانية مثالا آخر لأعمال الكفار وقالت: (أو كظلمات في بحر لّجيّ يغشاه موج من فوقه من فوقه سحاب) وبهذا المنوال تكون (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها).
أجل، إنّ النور الحقيقي في حياة البشر هو نور الإِيمان فقط، ومن دونه تَسودُ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يقول علماء الفيزياء المعاصرون: عند إرتفاع درجات الحرارة فالهواء المجاور للارض يتمدد ويزداد تخلخله فيختلف مع الطبقة المجاورة له، وبذلك تنعكس موجة الضوء ويحدث السراب.
2 ـ تراجع التفاسير التالية: مجمع البيان، روح المعاني، تفسير القرطبي، تفسير الفخر الرازي، ومفردات الراغب.
[118]
الحياةُ الظلمات، ونور الإِيمان هذا إنّما هو لطفٌ من عندِ الله (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
ولفهم عمق هذا المثال لابدّ من الإهتمام بمعنى كلمة "اللجّيّ" وهو البحر الواسع والعميق. وبالأصل مشتقّة من "اللجاج" بمعنى متابعة عمل ما (التي تطلق عادة على الأعمال غير الصحيحة) ثمّ أُطلقت على تتابع أمواج البحر واستقرارها الواحدة بعد الأُخرى، ولقد استخدمت هذه الكلمة بهذا المعنى لأنّ البحر كلّما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه.
ولَوْ تصوَّرتُم بحراً هائجاً عميقاً، ومع علمنا أنَّ نور الشمسِ أقْوى أنواعِ النور، لكنّه لا ينفذ إلاّ بمقدار مُعيَّن في البحر، وآخر حدود نفوذه في العمق لا يتجاوز سبعمائة متر، حيث يسودُ الظلام الدائم أعماق البحار والمحيطات.
كما نعلم أَنّ الماء إذا كان هادئاً يعكسُ النورَ بشكل أفضل، بينما تكسر أمواج البحر أشعة الشمس، ولا تسمح لها بالنفوذ إلى العُمقِ إلاّ بِمقدارِ أقل. وإذا أضفنا إلى ذلك مسألة مرور سحاب داكن اللون فوق هذا البحر الهائج، فإنّ الظلام يَزْدادُ عُتمة وسواداً بشكل كبير(1).
إن الظلام في عمق البحر من جهة، وظلمة الأمواج الهائجة من جهة أُخرى، وظلمة الغيوم السوداء من جهة ثالثة، ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.
وفي مثل هذا الظلام لا يمكنُ رؤية أيّ شيء، مهما اقتَرب منّا، حتّى لو وضع الإنسان الشيء نُصبَ عينيه لما استطاع مشاهدته.
وهكذا حال الكفار الذين حرموا من نور الإِيمان فابتلوا بهذه الظلمات، خلافاً للمؤمنين الذين نوّر الله قلوبهم وطريقهم وهم مصداق (نور على نور).
وقال بعض المفسّرين: إنّ هذه الظلمات ثلاثة أقسام، قد ابتلي غير المؤمنين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يجب الإنتباه إلى أن "السحاب" يعني كما جاء من "لسان العرب" الغيوم الممطرة، وعادة تكون السحب المتراكمة أكثر عتمة.
[119]
بها، وهي: ظلمة العقيدة الباطلة، وظلمة القول الخاطيء، وظلمة السلوك السيء، وبعبارة أُخرى: إنّ أعمالِ غيرالمؤمنين أساسها الفكري ظلمات. وكذلك أقوالَهُم التي هي انعكاس لعقائدهم، ثمّ انسجامها مع افعالهم الظلمانية.
وقال آخرون: إنَّ هذه الظلمات الثلاث عبارة عن مراحل جهل غيرِ المؤمنين، وأوّلها أنّهم لا يعلمون، وثانيتُها أنّهم لا يعلمون بأنّهم لا يعلمون، وثالثتها أنّهم مع كل هذا يتصوّرون أنّهم يعلمون، وبهذا يعيشون في جهل مركّب دَامِس.
وقال البعض الآخر: إنَّ أساس المعرفة ـ كما يقول القرآن المجيد ـ في ثلاثة أشياء: القلب والعين والأذن (وبالطبع يعني بالقلب العقل). كما جاء في الآية (78) من سورة النحل: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)(1). ولكن الكفار فقدوا بكفرهم نور العقل والسمع والبصر، فصاروا في ظلمات متراكمة.
ولا تناقض بين هذه التفاسير الثلاثة، كما هو واضح، إذ يمكن أن تشملهم هذه الآية جميعاً.
وعلى كلّ حال، فيمكننا أن نصل إلى استنتاج عام من الآيتين السابقتين. فقد شبّهت الآية أعمال غيرالمؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة، لا يروي هذا السراب العطاشى أبداً، وإنّما يزيد في سعيهم للحصول على الماء فيرهقهم دون نتيجة تذكر.
ثمّ ينتقل القرآن من الحديث عن هذا النور الكاذب، الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن هذه الأعمال، الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث تتعطل فيه حواسٌ الإنسان، وتظلم عليه الدنيا حتى لا يرى نفسه، فكيف يمكه رؤية الآخرين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرازي، للآية موضع البحث.
[120]
وطبيعي أنّ المرءُ في هذه الظلمات في وحدة مطلقة وجهل دائم، لا يجد طريقه، ولا رفيق سفره، ولا موقف له، ولا يملك وسيلة للنجاة، لأنّه لم يكتسِب شيئاً من مصدر النور، أي الله سبحانه وتعالى، وقد ختم الله على قلبه بالجهل والضلال.
ولعلكم تتذكرون أنّنا قلنا: أنَّ النور مصدر أنواع الجمال والحياة والحركة، عكس الظلام الذي يعتبر مصدر القبائح والموت والعدم والسكون والسكوت.
الظلام مصدر الخوف والكراهية، وهو توأم الهمّ والغمّ، هكذا وضع الذين افتقدوا نور الإِيمان، وغرقوا في ظلمات الكفر.
* * *
[121]
الآيتان
أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ وَالطَّيْرُ صَـفَّـت كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41) وَللهِ مُلْكُ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ(42)
التّفسير
الجميع يسبّح لله:
تحدثت الآيات السابقة عن نور الله، نور الهداية والإيمان، وعن الظلمات المضاعفة للكفر والضلال.
أمّا الآياتُ موضعُ البحث، فإنّها تتحدّث عن دلائل الأنوار الإلهية وأسباب الهداية، وتخاطب الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض) وكذلك الطير يسبّحن لله في حال أنها باسطات اجنحتهن في السماء (والطير صافّات كل قد علم صلاته وتسبيحه). (والله عليم بما يفعلون).
وبما أنّ هذا التسبيح العام دليل على خلقِهِ تعالى لجميع المخلوقات، وخالقيته دليل على مالكيته للوجود كله، وكذلك دليل على أنَّ كُل ما في الوجود يرجع إليه سبحانه، فتضيف الآية (ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير).
[122]
كما يحتمل وجود رابطة بين هذه الآية وسابقتها، حيث تحدّثت الآية الأُولى في آخر جملة لها، عن علم الله بأعمال البشر جميعاً وعلمه بالمسبحين له.
أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى محكمة العدل الإِلهي في الآخرة، وأنّ لله ما في السموات والأرض، وهو الحاكِمُ والقديرُ العادِل في مصيرِ الناس وما في الوجود.
* * *
مسائل مهمة:
1 ـ ماذا تعني عبارة (ألم تر)
حسبما يراها الكثير من المفسّرين، تَعني: ألم تعلم، حيث التسبيح العام من قبل جميع المخلوقات في العالم لا يمكن ادراكه بالعين، بل بالقلب والعقل.
ولكونِ هذهِ القضية واضحةً جِداً وكأنّها ترى بالعين المجرّدة، استخدمت الآيةُ عبارة (ألم تر).
كما يجب الإِنتباه إلى أنّه على الرغم من كونِ المخاطَب في هذه الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالذات، فإنّ عدداً من المفسّرين يرى أنّها تشمل الناس جميعاً، لأنّ ذلك من أساليب القرآن المجيد اتبعها في كثير من آياته.
وقال البعض: إنَّ هذا الخطاب خاصّ بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مرحلة الرؤيا والمشاهدة، حيث منحه اللهُ القدرة على مشاهدة تسبيح جميع المخلوقات، وكذلك منح سبحانه وتعالى هذه القدرة لجميع عباده المخلصينَ له المتمسّكين بِهُداه.
أمّا بالنسبة لعامّة الناس، فالمسألة تخصّ إدراكَهُم لتسبيح الموجوداتِ عن طريق العقل، وليس بالمشاهدةِ البصريَّةِ(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الصافي للآية موضع البحث.
[123]
2 ـ التسبيح العامّ لجميع المخلوقات
تحدّثت الآيات المختلفة في القرآن المجيد عن أربع عبادات تمارسها مخلوقات هذا الكون العظيم، هي: التسبيح، والحمد، والسجود، والصلاة، أمّا الآية موضع البحث، فقد تناولت الصلاة والتبسيح.
وتحدثت الآية الخامسة عشرة من سورة الرعد عن السجود العام: (ولله يسجد من في السموات والأرض).
أمّا الآية الرّابعة والأربعون من سورة الإِسراء، فقد تحدثت عن التسبيح والحمد من قبل جميع المخلوقات في الوجود كله (وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده) وقدتناولنا حقيقة الحمد والتسبيح العامّين من قبل المخلوقات والتفاسير المختلفة الواردة بهذا الصدد، في تفسيرنا الآية الرّابعة والأربعين من سورة الإسراء، ونذكر هنا ملخصه:
هناك تفسيران جديران بالإهتمام، وهما: ـ
1 ـ إنّ ذرات هذا العالم كلها ـ عاقلة أو غير عاقلة ـ لها نوع من الإدراك والشعور، وهي تسبح في عالَمِها لله وتحمده على الرغم مِن عدم إدراكنا لها. ولهذا التّفسير أدِلَّة قرآنية.
2 ـ إن القصد من التسبيح والحمد هما ما نعبر عنه بعبارة "لسان حاله" أي نظام الوجود وأسراره المدهشة الكامنة في كلّ مخلوق تتحدّث بصراحة عن عظمة الخالق وعلمه وحكمته التي لا حدود لها، إذْ كُلّ مخلوق جميل، وكلّ أثر فنيّ بديع يثير الدهشة والإعجاب، حتّى أنّ لوحة فنية وقطعة شعرية جميلة، تحمد وتسبّح لِمبدعها. فمن جهة تكشف عن صفاته (بحمدها له) ومن جهة أُخرى تنفي عنه أي عيب أو نقص (فتسبحه). فكيف وهذا الكون العظيم بما فيه من عجائب وغرائب لا تنتهي! (للإطلاع أكثر على ذلك يُراجع تفسير الآية 44 من سورة الإسراء في تفسيرنا هذا).
[124]
وإذا قلُنا: إنَّ عبارة (يسبّح له من في السموات والأرض) تعني تسبيح كلّ من في السماوات والأرض، ونحدد كلمة "من" بذوي العقول، فإنّ التسبيح يخصّ هنا المعنى الأوّل، فهو تسبيح بوعي وإرادة ولازم هذا القول أن الطيور أيضاً لها شعور، لأنّ كلمة الطيور جاءت بعد حرف "من". ولا عجب في ذلك، لأنّ آيات قرآنية أُخرى قالت بوجود مثل هذا الشعور لدى بعض الطيور (يراجع تفسير الآية 38 من سورة الأنعام).
3 ـ التسبيح الخاصّ بالطيور:
ما السبب في ذكر تسبيحِ الطيور من بين جميع المخلوقات، وخاصّة في حالة بسط جناحيها في السماء؟
المسألة تكمن في أنّ الطيور إضافة إلى تنوُّعها الكبير، تمتاز بصفات خاصّة تجلب نظر كل عاقل إليها، حيث تحلّق هذه الأجسام ـ وبعضها ثقيل ـ في السماء خلافاً لقانون الجاذبية، وتطير بسرعة من نقطة إلى أُخرى في الجو، وتركب أمواج الرياح وهي باسطة جناحيها دون أي تعب أو جهد. بشكل يثير الإعجاب.
والمثير فيها هو إدراكها لقضايا الأنواء الجوية، ومعلوماتها الدقيقة لِوَضع الأرض الجغرافي ـ خلالَ سفرِها وهجرتها من قارة إلى أُخرى، حتى أنّ بعضها يُهاجر من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي.
فهي تمتلك جهاز توجيه خفي عجيب يرشُدها إلى الهدف إيَّان سفرها الطويل، حتى لو تلبّدت السماءُ بالغيوم. وهذه من أكثر الأُمور إثارة للدهشة والعجب، ومن أوضح أدلة التوحيد.
طيور الليل بدورها تملك راداراً مدهشاً يخبرها حين الطيران في ظلمة الليل عن كلّ حاجز أمامها، حتى أن بعضها يرى سمكّة تحت الماء، فيخطفها بسرعة البرق، وهذه ميزة مدهشة في هذه الطيور!!
[125]
وعلى كل حال فإنّ هناك أُموراً عجيبة في الطيور جعلت القرآن المجيد يخصّها بالذكر.
4 ـ عبارة (كل قد علم صلاته وتسبيحه):
نسب عدد من المفسّرين ضمير "علم" إلى كلمة "كلّ"، وبهذا يصبح معنى العبارة السابقة: كلّ من في الأرض والسماء، وكذلك الطيور علم صلاته وتسبيحه.
وقال بعض المفسّرين: إنّ ضمير (علم) يعود إلى الله تعالى، أي أنّ الله علم صلاة وتسبيح كلّ منهم.
والتّفسير الأوّل يلائم الآية بشكل أفضل.
وبهذا الترتيب يعلم كلّ مسبّح لله أُسلوب تسبيحه وطريقته وشروطه وخصائص صلاته.
فإذا كان التسبيح بوعي من هذه الكائنات يتّضح جيداً مفهومُ هذا الكلام، أمّا إذا كان بلسان حالها فيكون مفهومه أنّ كلّ واحد منها له نظام خاصّ يُعبِّرُ بشكل من الأشكال عن عظمة الله، وكلّ واحد منها يعكس قدرة الله وحكمته.
5 ـ ما المقصود بالصلاة؟
قال بعض المفسّرين كالمرحوم "الطبرسي" في مجمع البيان، و"الآلوسي" في روح البيان: إنّ الصلاة هي الدعاء.
وهذا هو مفهومها اللغوي، وبهذا تمارس جميع المخلوقات في الأرض والسماء الدعاء إلى الله بلسان حالها أو مقالها وتسأله الرحمة، لأنّه أرحم الراحمين، وأنّه سبحانه وتعالى يمنّ عليها برحمته كُلاً بحسب قابليته.
غاية الأمر إنّهم جميعاً يعلمون حاجتهم ومطلبهم وما ينبغي أن يدعون،
[126]
وإضافة إلى ذلك ـ وفق الآيات التي أشرنا إليها سابقاً ـ فهم خاضعون لعظمة الله، وقد سَلَّمُوا بقوانين الخلق، ويُردِّدون من الأعماق الثناء على صفاتِهِ الكاملة سبحانَه وتعالى، ونفي كلّ نقص عنه جَلّ اسمُه المقَدّس.
وبهذا الشكل تتمّ العبادات الأربع "الحمد" و"التسبيح" و"الدعاء" و"السّجود".
* * *
[127]
الآيات
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَـلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَال فِيهَا مِن بَرَد فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاَْبْصَـرِ(43) يُقَلِّبُ اللهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُِّولِى الاْبْصَـرِ(44) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّة مِّن مَّآء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَع يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(45)
التّفسير
جانب آخر من الخلق العجيب:
نواجه ثانية ـ في هذه الآيات ـ جانباً آخر من مسألة الخلق المدهشة، وما احتوته من آيات العلم والحكمه والعظمة، وكلّ ذلك من أدلّة توحيد ذاتِ اللهِ الطاهرة.
يخاطِبُ القرآنُ المجيد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ثانية ويقول(ألم تر أن الله يزجي سحاباً
[128]
ثمّ يؤلف بينه ثمّ يجعله ركاماً) وبعد أن تتراكم السحب ترى قطرات المطر تخرج من بين السحاب وتهبط على الجبال والسهول والصحاري (فترى الودق يخرج من خلاله).
وكلمة "يزجي" مشتقّة من "الإزجاء"، أي سوقه بأُسلوب لين لترتيب المخلوقات المتبعثرة هنا وهناك بقصد جمعها.
وهذا التعبير يصدق بالنسبة للسحب، حيث ترتفع كلّ قطعة منه من جانب من البحر. ثمّ تسوقها يد القدرة الإلهية. وتجمعها، فتراكم بعضها على بعض.
وكلمة "ركام" على وزن "غلام"، بمعنى الأشياء المتراكمة بعضها فوق بعض.
وأمّا "الودق" على وزن "شرق"، فيرى الكثيرون أنّها حبّات المطر، إلاّ أّن الراغب الأصفهاني يرى في مفرداته أنّها ذرات دقيقة من الماء، أي: الرذاذ الذي يتناثر في الفضاء حين هطول المطر.
والمعنى الأوّل أكثر ملاءمة هنا، فما يدلّ بشكل أكبر على عظمة الله هو ذرات المطر نفسها وليس رُذاذه، إضافة إلى أنَّ القرآن كُلَّما ذكر السحاب ونزول بركات الله من السماء، أشار فيها إلى المطر. فهو الذي يحيي الأرض بعد موتها ويبعث الحياة في الأشجار والنباتات، ويروي عطش البشر والحيوان.
وأشار القرآن إلى ظاهرة أُخرى من ظواهر السماء المدهشة، وهي السحاب، حيث قال: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) أي من جبال السحب في السماء تنزل قطرات المطر على شكل ثلج وَبَرَد، فتكون بلاء لمن يريد الله عذابه فتصيب هذه الثلوج المزارع والثمار وتتلفها وقد تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم (فيصيب به من يشاء) ومن لم يرد تعذيبه دفع عنه هذا البلاء (ويصرفه عمن يشاء).
أجل، إنّه هو الذي ينزّل الغيث المخصب من سحابة تارة ... وهو الذي يُصيّره برَداً بأدنى تغيير بأمره فيصيب به (بالأذى) من يشاء، وربما يكون مُهلكاً أحياناً.
[129]
وهذا يدلّ على منتهى قُدرته وعظمته ـ إذ جَعَلَ نفع الإِنسان وضرره وموته وحياته متقارنة، بل مزج بعضها ببعض!
وفي نهاية الآية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية الّتي هي من آيات التوحيد فيقول سبحانه (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار).
فالسُحبُ المؤلفة في الحقيقة من ذرات الماء تحمل في طيّاتها الشحنات "الكهربائية"، وتُومض إيماضاً يُذهل برقها (العيون) والأبصار وَيَصُكّ رعدها السمع من صوته، وربّما اهتزت له جميع الاجواء.
إن هذه الطاقة الهائلة يبن هذا البخار اللطيف لمثيرةٌ للدهشة حقّاً!...
ردّ على استفسار:
السؤال الذي بقي هنا هو: ما هذا الجبل الذي في السماء ينزل منه البَرَد؟ أجاب المفسّرون عن هذا الإستفسار بأجوبة مختلفة، هي:
1 ـ قال البعض: إنَّ كلمة الجبال هنا كناية، مثلما نقول جبل من غذاء أو جبل من علم. وعلى هذا فإنّ مفهوم الآية السابقة، هو أنّ هناك بَرَداً متراكماً كالجبل في قلب السماء أوجد السحاب، وينزل قسم منه في المدن، وقسم آخر في الصحراء، ويصيب به من يشاء.
2 ـ وقال آخرون: المقصود من الجبال السحب المتراكمة بحيث تشبه الجبل.
3 ـ وذكر صاحب تفسير "في ظلال القرآن"، بياناً آخر هو الأوفق حسب الظاهر، وهو: "إن يدالله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان، ثمّ تؤلف بينه وتجمعه فإذا هو ركام بعضه فوق بعض، فإذا ثقل خرج منه الماء والويل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة، ومشهد السحاب كالجبال لا يبدو لنا كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو
[130]
تسير بينها، فإذا المشهد مشهد جبال حقاً، بضخامتها ومساقطها وارتفاعها وانخفاضها، وإنّه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس إلاّ بعد ما ركبوا الطائرات"(1).
ويمكن أن يضاف إلى ذلك أنَّ العلماء يرون في كيفية تكون البَرد في السماء أنَّ قطرات المطر تنفصل من السحاب، وإذا مرت بطبقة باردة من الهواء أصبحتْ ثلجاً، ثمّ تدفعها أحياناً العواصف الموجودة هناك إلى الأعلى، فتدخل قطع الثلج هذه إلى داخل السحب، ويكتسب بعضها مياهاً جديدة ثمّ تهبط، فتجمد ثانية عند مرورها بطبقة من الهواء البارد جدّاً.
وكلما تكرر وقوع هذا العمل نَمَت هذه القطع من الثلج وآزداد وزنها، إلى أنْ تقع على الأرض بعد أن تعجز الأعاصير عَنْ دفعِها إلى الأَعلى مرّة أُخرى. أو أنَّ الإعصار يهدأ فيِسقط البرد على الأرض.
وبهذا الشرح العلمي يتّضح لنا المراد من كلمة "الجبال" التي وردت في هذه الآية، لأن تكوّن البَرَد بقطع كبيرة وثقيلة ممكن في حال تراكم السحب، حتى يقذف الإعصار حبّات البَرَد وسطها، لتكسب هذه الحبّات قدراً أكبر من مياه السحب.
وذلك ممكن في حالة وجودِ جبال مرتفعة من السحب، لتكون مصدراً جيداً لتكونَ البَرد.(2)
ونقرأ هنا تحليلا آخر ذكره بعضُ الكتّاب، وخلاصته كالآتي: "أشارت
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير من ظلال القرآن المجلد (19 ـ 20) صفحة 109 ـ 110 ـ دار إحياء الكتب العربية ـ الطبعة الأُولى.
2 ـ تكرر حرف (من) ثلاث مرات في عبارة (وينزل من السماء من جبال فيها من يرد) أولاها ابتدائية، وثانيتها لها نسبة مع إبتدائية، وأمّا الثّالثة فقد اختلف في تفسيرها كما ذكرنا أعلاه، فهي بحسب التّفسير الأوّل بيانية، ويكون مفهوم الجملة هو ينزل من السماء من جبال من برد. وقد حذف مفعول الفعل (ينزل) وهو البرد، ويفهم ذلك من قرينة في الكلام، وعلى حسب التفسيرين الثّاني والثّالث اللذين اخترناهما تكون "من" إمّا زائدة (حسبما نقله تفسير روح المعاني عن الأخفش) أو هي للتبعيض.
[131]
الآيات موضع البحث بصراحة إلى الجبال الثلج، أي الجبال التي فيها نوع من الثلوج.
وهذا يثير الإنتباه كثيراً، لأنّ اختراع الطائرات والتمكن من التحليق بها في مستوىً مرتفع زاد من آفاق علم البشر، فقد تمكّن العلماء من الوصول إلى سُحب مستورة ومتكونة من تراكمات ثلجية، وحقّاً ممكن أن تسمى بجبال الثلج.
وممّا يثير الدهشة أنَّ أحد علماء السوفيت استخدم ـ لعدة مرات ـ اسم "جبال السحب" و"جبال الثلج" خلال شرحه موضوع سُحُب العواصف الثلجية، وبهذا يتّضح لنا وجود جبال من الثلج في السماء.
وأشارت الآية التالية إلى إحدى معاجز الخلق ودلائل عظمة الله، وهو خلق الليل والنهار بما فيهما من خصائص، حيث تقول (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار).
وذكرت لمعنى "يقلّب" عدّة تفاسير، فقال البعض: إنَّ تقلب الليل والنهار هو أنْه إذا حَلَّ أحدهما مَحَا الآخر.
وقال البعض: إنَّه قصر أحدهما وطولُ الآخر، ويَحْدُثُ ذلك بصورة تدريجية وله ارتباطٌ بالفصول الأربعة.
واعتبْر آخرون تقلبات الحرّ والبرد، وحوادث أُخرى تقع في الليل والنهار(1).
وليس بين هذا التفاسير أيُ تناقض، بل يمكن جمعُها في مفهوم عبارة "يقلب"، ولا ريب ـ وقَدْ برهن العلم على ذلك ـ أنَّ لتعاقب الليل والنهار والتغييرات التدريجية الحاصلة منه أثر فَعّال في استدامة الحياة وبقاء الإنسان، وفي ذلك عبرة لأُولي الأبصار.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير مجمع البيان، وتفسير روح المعاني.
[132]
وإذا كانت حرارة الشمس على نسق واحد، فإنَّها ترفع درجة حرارة الهواء، وتقتل الأحياء وتتعب الأعصاب، لكنَّ وقوع الليل بين نهارين يعدِّل من أثر الشمس القوي ويلائمه.
كما إنّ التغييرات التدريجية في ساعات الليل والنهار هي السبب في ظهور الفصول الأربعة، وعامِلٌ مؤثِّرٌ جدّاً في نمو النباتات وحياة جميع الأحياء وهطول المطر وتكوين المياه الجوقية التي هي مِنْ كنوزِ الأرض(1).
وأشارت آخر الآيات ـ موضع البحث ـ إلى أبرز صورة وأوضح دليل على التوحيد، وهي مسألة الحياة بصورها المختلفة، فقالت: (والله خلق كل دابّة من ماء) أي أنّ أصلها جميعاً من ماء، ومع هذا فلها صور مختلفة (فمنهم من يمشي على بطنه) كالزواحف. (ومنهم من يمشي على رجلين) كالإنسان والطيور (ومنهم من يمشي على أربع) كالدواب.
وليس الخلق محدداً بهذِهِ المخلوقات، فالحياة لها صور أُخرى متعددةٌ بشكل كبير، سواءَ كانت أحياء بحرية أم حشرات بأنواعها المتعددة التي تبلغ آلاف الأنواع، لهذا قالت الآية في الختام (يخلق اللّه ما يشاء إن الله على كل شيء قدير).
* * *
بحوث
1 ـ ماذا يعني الماء هنا؟
وإلى أي نوع من الماء أشارت الآية موضع البحث؟
للمفسِّرين بهذا الصدد ثلاثةُ آراء:
1 ـ يقصد بالماء النطفة، وقد اختار الكثير من المفسّرين هذا المعنى، وقد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحثنا في هذا المجال في التّفسير الأمثل عند تفسير الآية (6) من سورة يونس.
[133]
أشارت إليه بعض الأحاديث.
وهناك مشكلة تواجه هذا التّفسير، إذْ أنَّ الاحياء جميعاً لم تخلق من ماء النطفة، فمنها أحياء مجهرية ذات خلّية واحدة، وأُخرى تخلق من انقسام الخلايا وليس من النطفة إلاّ أن يقال بالنسبة للحكم أعلاه: إنّ المراد هو الجانب النوعي وليس عاماً.
2 ـ والتّفسير الثّاني يقول: إنَّ المقصود هنا ظهور أوّل مخلوق، فقد ذكرت بعض الأحاديث أنَّ أوّل ما خلق الله الماء، ثمّ خلق الإنسان من الماء.
وينسجم هذا مع النظريات الجديدة القائلة: إنَّ أوّل عنصر حي ظهر في البحار. وهذه ظاهرة سادت أعماقَ البحار وسواحلها. (وطبيعي فإنّ القدرة التي خلقت هذا الموجود الحيّ بجميع تعقيداته ورعته في المراحل البعدية، هي قدرة أسمى من الطبيعة، أي إرادة الله تعالى).
3 ـ آخر تفسير لخلقِ الأحياءِ مِنَ الماءِ، هو أنَّ الماءَ يشكِّل حالياً أساسَ تكوينها، وأكبر نسبة من بنائها، ولا يمكن للأحياء أن تواصل حياتها دون الماء.
وطبيعي أن لا نجد تناقضاً بين هذه التفاسير، لكنَّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أقرب إلى الصواب على ما يبدو(1).
2 ـ جواب على استفسار
يطرح هنا سؤال يقول: إنَّ الحيوانات لا تحدد بهذه الأنواع الثلاثة (الزواحف وثنائية الأرجل ورُباعيتها) إذ أنّ هناك دوابّاً لها أكثر من أربع أرجل؟
والجواب عنه يكمن في الآية ذاتها، أي في قولِه تعالى (يخلق الله ما يشاء)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ استند البعض عن دعاة نظرية التطور إلى هذه الآيه لإثبات نظريتهم، إلاّ أننا ذكرنا عدم ثبوت هذه النظرية في تفسيرنا للآية (26) من سورة الحجر. والجدير بالإِهتمام هو أنّه يجب أن لا نطبق الآيات مع النظريات. فالآيات القرآنية تحكي عن حقائق لا تتغير، أمّا النظريات العلمية فتتغير.
[134]
فهي تتناول الحيواناتِ كافّة، مضافاً إلى أن أهم الحيوانات التي يستخدمها الإنسان، هي هذه الأنواع الثلاثة.
ويرى البعض أنّ الأحياء التي لها أكثر من أربع أرْجُل، تعتمد على أربع منها، والباقي منها سواعد مساعدة لها(1)(2).
3 ـ صور الحياة المختلفة:
لا شك أنّ الحياة تعتبر أعجب ظاهرة في العالم، ذلك السرّ الذي لم يقدر العلماء على فكّ رموزه حتّى الآن، فالجميع يقول: إنَّ الأحياء خلقت من مادّة لا حياة فيها، إلاّ أنّه لا أَحَدَ يعلم كيف حدثت هذه الطفرة وفي أيّ ظرف، إذْ لم يشهد أيّ مختبر تبدُّلَ موجود عديم الحياة إلى آخر حي، على الرغم من انشغال الآلاف من العلماء طوال سنين عديدة في التفكير بذلك، وإجراء تجارب مُختبرية يخطئها الحصر.
وهناك خيال من بعيد يتراءى للعلماء في هذا المجال، ولكنّه مجرّد خيال وشبح، فانّ العلم البشري عاجز عن كشف أسرار الحياة مَع تقدّمِه الهائل، وذلك لتعقد هذه الأسرار بدرجة كبيرة.
وفي الظروف السائدة تولّد الأحياء من أحياء أخرى، ولا يولد أيُّ حيّ من غير حيّ. ولكن المؤكّد أن هذا الحال لم يكن كذلك في الماضي البعيد. أو بعبارة أُخرى: أنّ الحياةُ تملك تاريخاً لظهورها.
ولكن كيف وتحت أية شروط؟
إنّ ذلك لغز لم تتضح حقيقته بعدُ، والأعجب من ذلك تنوع الحياةِ في هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.
2 ـ لابدّ من الإهتمام بهذه المسألة لغوياً، وهي أنّ الضمير "هم" في "منهم" رغم أنّه للجمع العاقل، فقد استخدمتها الآية لغير العاقل أيضاً. وكذلك حرف "من" وذلك بسبب استخدام هذه الكلمات أحياناً لغير العاقل أيضاً.
[135]
الصور الكاملة، تبدأ من الأحياء المجهرية وحيدة الخلية حتى تصل إلى الحيتان العظيمة التي يتجاوز طولُ الواحدة منها الثلاثين متراً، وتبدو إحداها كأنّها جبل من لحم طائف في المحيط.
ومن مئات الآلاف من الحشرات المختلفة إلى الآف من الطيور الجميلة، كلّ له عالمه الخاصّ به وأسرارُهُ الذاتية.
وتشغل كتب علم الحيوان اليوم حيّزاً كبيراً من مكتبات العالم، ويستعرض مؤلفوها جوانب من أسرار هذه الأحياء، خاصّة الأحياء البحرية.
والبحر دوماً تكمن فيه الأسرار التي ما تزالُ معلوماتُنا قاصرة عن استكناهها، على الرغم من سِعة تطوّرنا العلميِّ وعُمقِه، حقّاً الله اكبر، خلق كلّ هذه الأحياء، ومنحها ما تحتاج إليه، فما أعظم قدرته وعلمه!
سبحانه! كيف وضع كلّ واحد منها في ظروف مناسبة له، ووفّر غذاءه وما يحتاج إليه، والأعجب من ذلك خلقه سبحانه وتعالى جميع هذه الكائناتِ، من ماء وقليل من تراب.
* * *
[136]
الآيات
لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـت مُّبَيِّنَـت وَاللهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرط مُّسْتَقِيم(46) وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47) وَإذَا دُعُواْ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ (48)وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49) أَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّـلِمُونَ(50)
سبب النّزول
ذكر المفسّرون سببين لنزول بعض هذه الآيات:
قيل نزلت الآيات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة، فدعاه اليهودي إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشراف (اليهودي) (حتّى أنّ بعض الرّوايات ذكرت أنَّ المنافق قال صراحة: يحتمل أن لا يعدل محمداً فينا):
[137]
وحكي أنّه كان بين علي(عليه السلام) وعثمان (وحسب رواية بين علي(عليه السلام) والمغيرة بن وائل) منازعة في أرض اشتراها من علي(عليه السلام) فخرجت فيها أحجار، وأراد ردَّها بالعيب، فلم يأخذها فقال: بيني وبينك رسولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم). فقال الحكم بن أبي العاص (وهو من المنافقين): إن حاكمته إلى ابن عمِّه يحكم له، فلا تحاكمه إليه، فنزلت الآيات واستنكرت عليه ذلك بشدَّة، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام)أو قريب منه(1).
التّفسير
الإيمان وقبول حكم الله:
تحدثت الآيات السابقة عن الإيمان بالله وعن دلائل توحيده وعلائمه في عالم التكوين، بينما تناولت الآيات ـ موضع البحث ـ أثَرَ الإيمان وانعكاس التوحيد في حياة الإنسان، وإذعانه للحقّ والحقيقة.
تقول أوّلا: (لقد أنزلنا آيات مبينات) آيات تنور القلوب بنور الإيمان والتوحيد، وتزيد في فكر الإنسان نوراً وبهجة، وتبدّل ظلمات حياته إلى نور على نور. وطبيعي أنّ هذه الآيات المبينات تُمهد للإِيمان، إلاّ أنَّ الهداية الإِلهية هي صاحبةُ الدور الأساسي (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
وكما نعلم فإنّ إرادة الله ومشيئته ليست دون حساب، فهو سبحانه وتعالى يدخل نور الهداية إلى القلوب المستعدة لتقبله، أي التي أبدت المجاهدة في سبيل الله وقطعت خطوات للتقرب إليه، فأعانها على قَدرِ سَعْيِها في الوصول إلى لطفه سبحانه.
ثمّ استنكرت الآية الثّانية وذمَّت مجموعة من المنافقين الذين يدّعون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "مجمع البيان" وتفسير "روح المعاني" وتفسير "التبيان" وتفسير "القرطبي" وتفسير "الفخر الرازي" وتفسير "الصافي" وتفسير "نورالثقلين" (مع بعض التصرف).
[138]
الإيمان في الوقت الذي خلت فيه قلوبُهُم من نور الله، فتقول الآية عن هذه المجموعة (ويقولون آمنا بالله وبالرّسول وأطعنا ثمّ يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أُولئك بالمؤمنين).
ما هذا الإيمان الذي لا يتجاوز حدود ألسنتهم، ولا أثر له في أعمالهم؟
ثمّ تذكر الآية التي بعدها دليلا واضحاً على عدم إيمانهم (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون).
ولتأكيد عبادة هذه المجموعة للدنيا وفضح شركهم، تُضيف الآية (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) وبكامل التسليم والخضوع.
والجدير بالذكر أن العبارة الأُولى تحدثت عن الدعوة إلى الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم). وأمّا العبارة التالية أي كلمة "ليحكم" فإنّها جاءت مفردة، وهي تشير إلى تحكيم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لوحده; وذلك لأنّ تحكيم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس منفصلا عن تحكيم الله تعالى، حيث أنّ كلا الحكمين في الحقيقة واحد.
كما يجب الإنتباه إلى أنّ ضمير الهاء المتصلّة في "إليه" يعود إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)نفسه، أو إلى تحكيمه. وكذلك لابدّ من الإلتفات إلى أن الآية نسبت التخلُف عن هذا الحكم والإعراض عن تحكيم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مجموعة من المنافقين فقط. ولعل ذلك لأن الفئات الأُخرى لم تكن بهذه الدرجة من الجرأة وعدم الحياء، لأنّ للنفاق مراتب أيضاً كمراتب الأيمان المختلفة.
وبيّنت الآية الأخيرة في ثلاث جمل، الجذور الأساسية ودوافع عدم التسليم إزاءَ تحكيم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت أوّلا (أفي قلوبهم مرض).
هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون بالإيمان، ولكنّهم لا يُسلِّمون بحكم الله ورسوله، ولا يستجيبون له، إمّا بسبب انحرافهم قلبياً عن التوحيد أو الشك والتردد (أم ارتابوا) وطبيعي أنّ الذي يتردّد في عقيدته، لن يستسلم لها أبداً.
وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا، أي كانوا من المؤمنين: (أم يخافون أن
[139]
يحيف الله عليهم ورسوله).
في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضاً صريحاً، إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ويعتبر حكمه حكم الله تعالى أن يَنْسِب الظلم إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وهل يمكن أن يظلم الله أحداً؟
أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟
إنّ الله تعالى مقدَّس عن كلّ هذه الصفات (بل أُولئك هم الظالمون) إنّهم لا يقتنعون بحقّهم، وهم يعلمون أنَّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجحف بحقِ أحد، ولهذا لا يستسلمون لحكمه.
ويرى مفسّر "في ظلال القرآن": في الآية: (أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟) أنّ السؤال الأوّل للإِثبات، أي لاثبات وجود مرض النفاق في قلوبهم فمرض القلب جدير بأن ينشىء مثل هذا الأثر.
والسؤال الثّاني للتعجب، فهل هم يشكّون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكّون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكّون في صلاحيته لإقامة العدل؟
والسؤال الثّالث لاستنكار أمرهم الغريب، والتناقض الفاضح بين إدعائهم وعملهم.
وإنّه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان، فالله خالق الجميع وربّ العالمين، فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب مخلوق آخر(1).
وما يورده هذا المفسّر هو أنَّ عبارة "أم ارتابوا" تعني الشك في عدالةِ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي صحة تحكيمه في الوقت الذي يرى كثير من المفسّرين أنَّهُ الشكُ في أصل النّبوة كما هو الظاهر.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، المجلد (17 ـ 20)، صفحة 115 ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ الطبعة الأُولى.
[140]
بحثان
1 ـ مرض النفاق
ليست هذهِ المرة الأُولى التي يستخدم فيها القرآن عبارة "المرض" للنفاق، فقد استخدمها في مطلع سورةِ البقرة عند بيانه لصفات المنافقين (في قلوبهم مرض فزادهم الله مَرضاً) وكما قُلنا في المجلد الأوّل في أثناءِ تفسير الآية المذكورة، فإنّ النفاق في حقيقته مرض وانحراف عن الطريق السوي، فالإنسان السليم له صورة واحدة هي انسجامٌ روحِه مع بدنه.
فإذا كان مؤمناً فكلّ أجزاء بدنه تعبر عن إيمانها، وإذا كان عديم الإيمان فإنّ ظاهره وباطنه يكشفان عن كفره وانحرافه.
أمّا إذا كان مُتظاهراً بالإيمان ومبطناً للكفر، فإنّ ذلك يعتبر نوعاً من المرض.
وبما أنَ هؤلاء الأشخاص (المنافقين) لا يستحقون لطف الله ورحمته، بسبب عنادهم وإصرارهم على المُضِي بمناهجهم المنحرفة، فقد تركهم الله على حالهم، ليزدادوا مرضاً.
والمنافقون في الواقع أخطر مجموعة في المجتمع، لأنّه لا يتّضح للمؤمن بأيّ أُسلوب يجب أن يعاملهم، فهم ليسوا أصدقاء ولايبدون أنّهم أعداء، فيستفيدون من إمكاناتِ المؤمنين ويصونون أنفسهم عن العقاب المفروض على الكفار بالتظاهر وإخفاءِ حقائِقهم المشؤُومِة، فأعمالهم أتعس من أعمال الكفّار.
ولكن هؤلاءِ لا يمكنهم أن يُواصِلُوا هذا المنهج لمدّة طويلة، فلابدّ أن يفتضح أمرهم وينكشف باطنهم. وكما ذكرت الآيات ـ موضع البحث ـ وسببُ نُزولها. افتضاحهم في عملية تحكيم واحدة وانكشاف باطنهم الخبيث(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لإيضاح أكثر حول صفات المنافقين يراجع التّفسير الأمثل من بداية سورة البقرة آخر الآية العاشرة وما يليها.
[141]
2 ـ الحكومة العادلة هي الحكومة الإلهية فقط:
لاشك في أن الانسان مهما سعى في تهذيب نفسه مِن الصفات الرذيلة، خاصّة الكِبر والبغضاء وحب الذات والأنانية، فإنّه قد يبتلى ببعضها دون وعي منه، إلاّ المعصوم من البشر، إذ يعصمه الله من الخطأ والزلل.
ولهذا السبب نقول: الله وحده هو المشرّع الحقيقي، لأنّه إضافة إلى علمه المطلق بحاجات الإنسان، فإنّه يعلم سبل سدِّ هذه الحاجات، وهو الذي لا يزلُّ ولا ينحرف بسبب احتياجه وميول الحب والبغض فيه سبحانه.
وقضاء الله والنّبي والإمام المعصوم أفضل قضاء، ويليهم التابعون السائرون على نهجهم المتوكلون على الله، إلاّ أنّ البشر الذي يصاب بالكبر وحبّ الذات لا يرضخ لهذا القضاء، فهو يبحث عن قضاء يشبع طمعه وشهواته. ما أجمل العبارة التي استخدمتها الآية الكريمة بحق هؤلاء (أُولئك هم الظالمون).
كما أنّ المرور في مثل هذا الإمتحان، خير دليل على إيمان الإنسان أو عدم إيمانه.
ويستوقفنا قولُ القرآن في موضعِ آخر (فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلموا تسليماً)(1).
أجل، المؤمنون الحقيقيون لا يرتضون قضاءَك فحسب، وإنّما قد سلّموا أنفسهم لك حتّى إنْ لحقهم ضررٌ.
أمّا المنافقون، فلا يقنعون بحكم من الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ما يحقق مصالحهم، فهم عبيد لها، وعلى الرغم من ادعائهم الإيمان، فهم مشركون حقّاً!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النساء، 65.
[142]
الآيات
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُؤلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(51) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ (52)وَأقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ(53) قُلْ أطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبَلَـغُ الْمُبِينُ(54)
التّفسير
الإيمان والتسليم التام إزاء الحقّ:
لاحظنا في الآيات السابقة ردّ فعل المنافقين، الذين اسودّتْ قلوبهم، وأصبحت ظلمات في ظلمات. وكيف لم يرضخوا لحكم الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكأنَّهُم يَخَافُونَ أن يحيف الله ورسوله عليهم، فيضيع حقّهم!
[143]
أمّا الآيات ـ موضع البحث ـ فإنّها تشرح موقف المؤمنين إزاء حكم الله ورسوله، فتقول (إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا).
ما أجمل هذا التعبير المختصر والمفيد (سمعنا وأطعنا)!
وقد وردتْ كلمة "إنّما" في الآية السابقة لتحصر كلام المؤمنين في عبارة (سمعنا وأطعنا) والواقع أن حقيقة الايمان يكمن في هاتين الكلمتين فقط.
كيف يمكن أن يرجّح شخص حكم شخص آخر على حكم الله، وهو يعتقد بأنّ الله عالم بكلّ شيء، ولا حاجة له بأحد، وهو الرحمن الرحيم؟ وكيف له أن يقوم بعمل إزاء حكم الله إلاّ السمع والطاعة؟
فما أحسن هذه الوسيلة لامتحان المؤمنين الحقيقيين ونجاحهم في الإمتحان؟! لهذا تختتم الآية حديثها بالقول: (وأُولئك هم المفلحون) ولا شك في أنّ الفلاح نصيبُ الذي يسلّم أمرَه إلى الله، ويعتقد بعدله وحُكمِه في حياته المادية والمعنوية.
وتابعت الآية الثّانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية، فتقول: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأُولئك هم الفائزون)(1).
وقد وصفت هذه الآية المطيعين المتقين بالفائزين، كما وصفت الآيةُ السابقة الذين يرضخون لحكم الله ورسوله بالمفلحين.
وتُفيد مصادر اللغة أنَّ "الفوز" و"الفلاح" بمعنىً واحد تقريباً، قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: "الفوز: الظفر بالخير مع حصول السلامة" و"الفلاح: الظفر وادراك البغية" (وفي الأصل بمعنى الشق، وبما أنّ الاشخاص المفلحين يشقون طريقهم إلى مقصدهم ويزيلون العقبات منه أطلق الفلاح على الفوز أيضاً) وبما أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أصل "يتقه" بسكون القاف وكسر الهاء "يتقيه" وقد حذفت الياء منها لأنّها في حالة جزم وقد حذفت إحدى الكسرتين المتاليتين لأنّها ثقيلة للفظ.
[144]
الكلام في الآية السابقة كان عن الطاعة بشكل مطلق، وفي الآية قبلها عن التسليم أمام حكم الله، وأحدهما عام والآخر خاص، فنتيجة كليهما واحدة.
و ما يستحقُّ الملاحظة هو أن الآية الأخيرة ذكرت ثلاثةَ أوصاف للفائزين: هي: طاعة الله والرّسول، وخشية الله، وتقوى الله.
وقال بعض المفسّرين: إنّ الطاعة ذات معنىً عام، والخشية فرعها الباطني، والتقوى فرعها الظاهري. وقد تحدثت أوّلا عن الطاعةِ بشكل عامّ، ثمّ عن باطنها وظاهرها.
ورُوي عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (أُولئك هم المفلحون)قال: "إنَّ المعني بالآية أميرالمؤمنين (علي (عليه السلام))"(1).
ولا خلاف في أنَّ علياً(عليه السلام) خير مصداق لهذه الآية، وهذا هو المراد من هذا الحديث فلا يفقد الآية عموميتها.
لحن الآية التالية ـ وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته بعض التفاسير ـ يعني أنّ بعض المنافقين تأثروا جداً على ما هم فيه، بعد نزول الآيات السابقة والتي وجّهت اللوم الشديد إليهم، فجاءوا إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأقسموا يميناً مغلظة أنّنا نسلّم أمرنا إليك، ولهذا أجابَهُم القرآن بشكل حاسم (وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن) إلى ميدان الجهاد، أو يخرجوا من أموالهم وبيوتهم فقل لهم: لا حاجة إلى القسم، وعليكم عملا اطاعة الله بصدق واخلاص(قل لا تقسموا طاعة معروفة إنّ الله خبير بما تعملون).
يرى كثير من المفسّرين أنّ كلمة "ليخرجن" في هذه الآية يقصد منها الخروج للجهاد في سبيل الله، غير أنّ مفسّرين آخرين يرون أنّها تقصد عدم التهالك على المال والحياة، وأتباع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أينما رحل وحَلّ وطاعته.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نورالثقلين، المجلد الثالث، صفحة 616.
[145]
وقد وردت كلمة "الخروج" ومشتقاتها في القرآن المجيد بمعنى الخروج إلى ميادين الجهاد تارة، وتركِ المنزل والأهل والوطن في سبيل الله تعالى تارة أخرى، إلاّ أنّ الآيات السابقة التي تحدثت عن حكم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في القضايا المختلفة يجعلنا نتقبل التّفسير الثّاني. بمعنى أن المنافقين جاءوا إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ليعربوا عن طاعتهم لحكمُه(صلى الله عليه وآله وسلم) والتسليم له، فأقسموا على اخراج قسم من أموالهم، بل أن يتركوا الحياة الدنيا إن أمرهم بذلك.
ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين، أي إنّهم كانوا على استعدادهم لترك أموالهم وأهليهم، والخروج للجهاد ولتضحية في سبيل الله.
ولكن بما أنّ المنافقين يتقلبون في مواقفهم بحسب الظروف السائدة في المجتمع، فتراهم يقسمون الأيمان المغلَّظة حتى تشعُرَ بأنّهم كاذبون، فقد رَدَّ القرآن ـ بصراحة ـ أنّه لا حاجة إلى اليمين، وإنّما لا بُدّ من البرهنة على صدق الإدعاء بالعمل، لأنّ الله خبير بما تعملون. يعلم هل تكذبون في يمينكم، أم تبغون تعديل مواضعكم واقعاً؟
لهذا أكدت الآية التالية ـ التي هي آخر الآيات موضع البحث ـ هذا المعنى، وتقول للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول).
ثمّ تضيف الآية أنّ هذا الأمر لا يخرج عن إحدى حالتين: (فإن تولوا فإنّما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) ففي صورة العصيان فقد ادّى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أنّكم مسؤولون عن أعمالكم حين أن وظيفتكم الطاعة، ولكن (وإن تطيعوه تهتدوا) لأنّه قائد لا يدعو لغير سبيل الله والحقّ والصواب.
في كل الأحوال (وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين) وإنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مكلّف بإبلاغ الجميع ما أمر الله به، فإن أطاعوه استفادوا، وإنْ لم يُطيعوه خَسروا. وَلَيْسَ على النّبي أن يجبر الناس على الهداية وتقبّل دعوته.
وما يلفت النظر في الآية السابقة تعبيرها عن المسؤولية بـ "الحملِ" الثقيل
[146]
وهذا هو الواقع، فرسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تستوجب الإبلاغ عليه(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الناس طاعته. إنّها لمسؤوليةٌ لا يطيق حملها إلاّ المخلصون.
ولذا روى الإمام الباقر(عليه السلام) حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيه "يا معشر قرّاءِ القرآن، اتقوا الله عزَّوجلّ فيما حملكم من كتابه، فإنّي مسؤول، وأنتم مسؤولون: إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأمّا أنتم فتسألون عما حُمِلْتُم من كتاب الله وسنّتي"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
[147]
الآية
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلوُاْ الصَّـلِحـتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ(55)
سبب النّزول
روى كثير من المفسّرين. ومنهم السيوطي في "أسباب التنزيل" والطبرسي في "مجمع البيان" وسيد قطب في "في ظلال القرآن" والقرطبي في تفسيره، مع بعض الإختلاف، سبب نزول هذه الآية أنه: عندما هاجر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمون إلى المدينة، استقبلهم الأنصار بترحاب، ولكن العرب تحالفوا ضدهم. لهذا كان المسلمون يبيتون ليلتهم والسلاح إلى جانبهم لا يفارقهم، إذ كانوا في حالة تأهّب تامّ. وقد شقّ على المسلمين ذلك. حتى تساءل البعض: إلى متى يدوم هذا الوضع؟ وهل يأتي زمان نستريح وتطمئنّ أنفسنا ولا نخشى إلاّ الله؟ فنزلت الآية السابقة تبشرهم بتحقّق ما يصبون إليه.
[148]
التّفسير
حكومة المستضعفين العالمية:
تحدثت الآية السابقة عن طاعة الله ورسوله والتسليم له، وقد واصلت الآية ـ موضع البحث ـ هذا الموضوع، وبيّنت نتيجة هذه الطاعة ألا وهي الحكومة العالمية التي: وعدها الله المؤمنين به. فقالت الآية مؤكّدة (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم). (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) ويجعله متجذراً وثابتاً وقوياً بين شعوب العالم.
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم وإجراء الأحكام الإِلهية، واستقرار الأمن واقتلاع جذور الشرك، (ومن كفر بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون).
وعلى كلّ حال يبدو من مجمل هذه الآية أنّ الله يبشر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون بالإيمان والعمل الصالح بثلاث بشائر:
1 ـ استخلافهم وحكومتهم في الأرض.
2 ـ نشر تعاليم الحقّ بشكل جذري وفي كلّ مكان (كما يستفاد من كلمة "تمكين"...).
3 ـ انعدام جميع عوامل الخوف والإضطراب.
وينتج من كل هذا أن يُعبد الله بكلّ حرية، وتُطبق تعاليمُه ولا يشرك به، ويتمّ نشرُ عقيدة التوحيد في كلّ مكان.
ويتّضح ممّا يلي متى تمّ وعد الله هذا؟ أو متى سيتم؟
* * *
[149]
بحوث
1 ـ تفسير عبارة (كما استخلف الذين من قبلهم)
هناك اختلاف بين المفسّرين حول الذين أشارت إليهم الآية الشريفة من الذين استخلفوا في الأرض قبل المسلمين.
البعض من المفسّرين يرى أنّهم آدم وداود وسليمان(عليهم السلام)، حيث قالت الآية (30) من سورة البقرة حول آدم(عليه السلام)(إنّي جاعل في الأرض خليفة) وفي الآية (26) من سورة ص جاء بصدد داود(عليه السلام) (يا داود إنا جعلناك خليفة في الإرض).
وبما أنَّ سليمان(عليه السلام) ورِث حكم داود(عليه السلام) بمقتضى الآية (16) من سورة النمل فإنَّه قد استخلف في الأرض.
لكن بعض المفسّرين ـ كالعلامة الطباطبائي في الميزان ـ استبعد هذا المعنى وَرَأى أنَّ عبارة (الذين من قبلهم) لا تُناسبُ مقامَ الأَنبياء. إذ أنَّ القرآن المجيد لم ترد فيه هذه العبارة بخصوص الأنبياء. وإنّما هي إشارة إلى أمم خلت، وكانت على درجة من الإيمان والعمل الصالح بحيث استخلفها الله في الأرض.
ويرى مفسرون آخرون أنَّ هذه الآية إشارة إلى بني إسرائيل، لأنّهم استخلفوا في الحكم في الأرض بعد ظهور موسى(عليه السلام) وتدمير حكم فرعون والفراعنة، حيث يقول القرآن المجيد في الآية (127) من سورة الأعراف (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) ويضيف (ونمكن لهم الأرض) أي جعلناهم حكاماً بعد أن استضعفوا في الأرض.
ولا شكّ في أنَّهُ كان في بني إسرائيل ـ حتى في زمن موسى(عليه السلام) ـ أشخاص عرفوا بفسقهم وكفرهم، لكنّ الحكم كان بيد المؤمنين الصالحين، (وبهذا يمكن دفع ما أشكل به البعض على هذا التّفسير) ويظهر أن التّفسير الثّالث أقرب إلى الصواب.
[150]
2 ـ الذين وعدهم الله باستخلاف الأرض:
لقد وعدالله المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة بالإستخلاف في الأرض وتمكينهم من نشر دينهم وتمتعهم بالأمن الكامل، فما هي خصائص هؤلاء الموعودين بالإستخلاف؟
هناك اختلاف بهذا الصدد بين المفسّرين: يرى البعض من المفسّرين أنّ الوعد بالإستخلاف خاصّ بأصحاب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الذين استخلفهم الله في الأرض في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم). (ولا يقصد بالأرض جميعها، بل هو مفهوم يطلق على الجزء والكل).
ويرى آخرون أنّه خاصّ بالخلفاء الأربعة الذين خلفوا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
ويرى البعض أنَّ مفهومه واسع يشمل جميع المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات.
ويرى آخرون أنَّه إشارة إلى حكومة المهدي (عج) الذي يخضع له الشرق والغرب في العالم، ويجري حكم الحقّ في عهده في جميع أرجاء العالم، ويزول الإضطراب والخوف والحرب وتتحقق للبشرية عبادة الله النقية من كلّ أنواع الشرك.
ولا ريب في أنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل، كما أنّ حكومة المهدي(عج) مصداق لها، إذْ يتفق المسلمون كافة من شيعة وسنة على أن المهدي(عج) يملأ الأرض عَدْلا وقسطاً بعد أن مُلئت جوراً وظلماً.
ومع كل هذا لا مانع من تعميمها. وينتج من ذلك تثبيت أُسس الإيمان والعمل الصالح بين المسلمين في كلّ عصر وزمان، وأنَّ لهم الغلبة والحكم ذا الأسس الثابتة.
أمّا قول البعض: إنّ كلمة "الأرض" مطلقة وغيرمحددة، وتشمل كلّ الأرض، وبذلك تنحصر بحكومة المهدي (أرواحنا له الفداء)، فهولا ينسجم مع
[151]
عبارة (كما استخلف الذين من قبلهم)، لأن خلافة وحكومة السابقين بالتأكيد لم تشمل الأرض كلها.
وإضافة إلى ذلك فإنّ سبب نزول هذه الآية يبيّن لنا ـ على أقلّ تقدير ـ وقوع مثل هذا الحكم في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (رغم حدوثه في أواخر حياته(صلى الله عليه وآله وسلم)).
ونقولها ثانية: إنّ نتيجة جهود جميع الأنبياء والمرسلين حصول حكم يسوده التوحيد والأمن الكامل والعبادة الخالية من أيّ نوع من الشرك، وذلك حين ظهور المهدي(عج)، وهو من سلالة الأنبياء(عليهم السلام) وحفيد النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو المقصود في هذا الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً"(1).
وممّا يجدر ذكره هنا قول العلاّمة الطبرسي في تفسير هذه الآية: روي عن أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حول هذه الآية: "إنّها في المهدي من آل محمد"(2).
وذكر تفسير "روح المعاني" وتفاسير عديدة لمؤلفين شيعة عن الإمام السجاد(عليه السلام) في تفسير الآية موضع البحث أنه قال: "هم والله شيعتنا ـ أهل البيت ـ يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منّا، وهو مهدي هذه الأُمة يملأ الأرض عدلا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهو الذي قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم...".
وكما قلنا، لا تعني هذه التفاسير حصر معنى هذه الآية، بل بيان مصداقها التام، وممّا يؤسف له عدم انتباه بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في روح البيان ـ إلى هذه المسألة، فرفضوا هذه الأحاديث.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إحتوى كتاب "منتخب الأثر" على مائة وثلاثة وعشرين حديثاً بهذا الصدد، من مصادر إسلامية مختلفة خاصّة السنّية منها. للإستزادة يراجع هذا الكتاب في صفحة 247، ومايليها.
2 ـ مجمع البيان في تفسير الآية موضع البحث.
[152]
وروى القرطبي المفسّر المشهور من أهل السنة عن المقداد بن الأسود عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام"(1).
وللحصول على إيضاح أكثر حول حكومة المهديّ(عج) وشرح أدلتها في كتب علماء السنة والشيعة، يراجع تفسير الآية (33) من سورة التوبة.
3 ـ الهدف النهائي عبادة خالصة:
إنّ مفهوم عبارة (يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) من الناحية الأدبية سواء كانت جملة حالية أم مستقبلية(2)، هو أن الهدف النهائي إعدادُ حكومة عادلة راسخة الأُسس، ينتشر فيها الحقّ والأمن والإطمئنان، وتكون ذات تحصينات أُسسها العبودية لله وتوحيده على نحو ما ذكرتهُ آية قرآنية أُخرى تذكر الغاية من الخلق (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون)(3).
عبادة هدفها السامي تربية البشر وتسامي أنفسهم. عبادة لا يحتاج الله إليها، وإنّما يحتاج إليها البشر لطّي مراحل تكاملهم الإنساني.
وعلى هذا فإنّ الفكر الإسلامي ليس كالأفكار المادية التي تتوخى مكاسب مادية ورفاهية في الحياة، بل تكون للحياة المادية قيمة في الإسلام إن أصبحت وسيلة لتحقيق هدف معنوي سام، فالإهتمام بكون العبادة خاليةً من شوائبِ الشرك نافيةً للأهواءِ الزّائفة، يعني أنّه لا يمكن تحقق هذه العبادة الصافية إلاّ بتشكيل حكومة عادلة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي، المجلد السابع، صفحة 4292.
2 ـ في الصورة الأُولى الجملة الحالية للضمير "هم" الذي جاء في الآيات السابقة. وفي الصورة الثّانية تقدر بـ "ليعبدونني" واحتمل آخرون أنها جملة استئنافية وهو احتمال ضعيف.
3 ـ الذاريات، 65.
[153]
هذا ويمكن كسب مجموعة من الناس إلى جانب الحقّ بالتربية والتعليم والتبليغ المستمر، ولا يمكن تعميم هذه الحالة في المجتمع إلاّ بتشكيل حكومة عادلة يقودها المؤمنون الصالحون، ولهذا سعى الأنبياء إلى تشكيل مثل هذه الحكومة خاصّة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فَبمجرَّد وصوله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة، وفي أوّل فرصة، شكَّل نموذجاً لها.
ويمكن الإستنتاج من ذلك أنّ جميع الجهود ـ من حرب وسلام وبرامج تثقيفية واقتصادية وعسكرية ـ تنصّب في ظلّ هذه الحكومة في مسيرة العبودية لله الخالية من كل شائبة من شوائب الشرك.
ولابدّ من القول: إنّه لا يعني خُلو الأرضِ من المذنبين والمنحرفين في ظلّ حكومة الصالحين المؤمنين الذين يمكّنهم الله من نشر الحقّ والعدل، وعبادته عبادة خالية من صور الشرك، بل مفهوم هذه الحكومة هو أنها تُدار من قبل المؤمنين الصالحين، والصفة السائدة في المجتمع هي خلوه من الشرك. وبما أن الإنسان خلق حرّاً، فإن مجال الإنحراف موجود حتى في أفضل المجتمعات الإنسانية (فتأملوا جيداً).
* * *
[154]
الآيتان
وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوْا الزَّكَوةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَمَأْوَيهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ(57)
التّفسير
استحالة الفرار من حكومته تعالى:
وعدت الآية السابقة المؤمنين الصالحين بالخلافة في الأرض، وتعيىء هاتان الآيتان الناس للتمهيد لهذه الحكومة، وخلال نفيها وجود حواجز كبيرة لهذا العمل، تضمن هي بذاتها نجاحه. وفي الحقيقة أن إحدى هاتين الآيتين بيّنت المقتضي، بينما نفت الثّانية المانع، فهي تقول أوّلا: (وأقيموا الصلاة).
وهي الوسيلة التي توثق الصلة بين الخالق والمخلوق، وتقرّب الناس إلى بارئهم، وتمنع عنهم الفحشاء والمنكر.
(وآتوا الزّكاة) وهي الوسيلة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان، وتقلل الفواصل بينهما، وتقوي ارتباطهما العاطفي.
وبشكل عام يكون في كلّ شيء تبعاً للرسول: (وأطيعوا الرّسول) طاعة
[155]
تكونون بسببها من المؤمنين الصالحين الجديرين بقيادة الحكم في الأرض (لعلكم ترحمون) وتكونون لائقين لحمل رأية الحقّ والعدل.
وإذا احتملتم أن الأعداء الأقوياء المعاندين يمنعوكم من تحقق ما وعدكم الله إيّاهُ، فذلك غير ممكن، لأن قادرٌ على كلّ شيء، ولا يحجُب إرادته شيء، ولهذا (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض) فهؤلاء الكفار لا يستطيعون الفرار من عقاب الله وعذابه في الأرض، ولا يقتصر ذلك على الدنيا فقط، بل أنّهم في الآخرة (مأواهم النار ولبئس المصير)
وكلمة "معجزين" جمع "معجز"، المشتقّة من الإعجاز بمعنى نفاذ القدرة، وأحياناً يتابع المرء شخصاً يفر من يديه، ولا يمكنه القبض عليه وقد خرج من سلطته فهو يعجزه، لهذا استعملت كلمة "معجز" بهذا المعنى، وكذلك تشير الآية السابقة إلى المعنى ذاته، ومفهومها أنّكم لا يمكنكم الفرارُ من حكومة الله.
* * *
[156]
الآيات
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَئْذِنُكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَـثَ مَرَّت مِنْ قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلَـثُ عَوْرَت لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّفُونَ عَلَيْكُمْ بَعضُكُمْ عَلَى بَعْض كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الاَْيَتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(58) وَإِذَا بَلَغَ الاَْطْفَـلُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَئْذِنُوا كَمَا اسْتَئْذَن الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ ءَايـتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(59) وَالْقَوَعِدُ مِنَ النِّسآءِ الَّـتِى لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَـاتِ بِزينَة وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(60)
التّفسير
آداب الدخول إلى المكان الخاصّ بالوالدين:
إنّ أهم مسألة تابعتها هذه السورة ـ كما ذكرنا ـ هي مسألة العفاف العام
[157]
ومكافحة كل انحطاط خلقي، بأبعاده المختلفة.
وقد تناولت الآيات ـ موضع البحث ـ إحدى المسائل التي ترتبط بهذه المسألة، وشرحت خصائصها، وهي استئذان الأطفال البالغين وغيرالبالغين للدخول إلى الغرفة المخصصة للزوجين.
فتقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات) فيجب على عبيدكم وأطفالكم الاستئذان في ثلاث أوقات (من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء).
"الظهيرة" تعني كما يقول "الراغب الإصفهاني" في مفرداته "والفيروزآبادي" في القاموس المحيط: منتصف النهار وقريب الظهر حيث ينزع الناس عادة الملابس الإضافية، وقد يختلي الزوج بزوجته.
(ثلاث عورات لكم) أي هذه ثلاث أوقات للخلوة خاصّة بكم.
"العورة" مشتقّة من "العار"، أي: العيب. وأطلق العرب على العضو التناسلي العورة، لأنّ الكشف عنه عار.
كما تعني العورة الشقّ الذي في الجدار أو الثوب، وأحياناً تعني العيب بشكل عامّ.
وعلى كلّ فإنّ إطلاق كلمة (العورة) على هذه الأوقات الثلاثة بسبب كون الناس في حالة خاصّة خلال هذه الأوقات الثلاثة، حيث لا يرتدون الملابس التي يرتدونها في الأوقات الأُخرى.
وطبيعي أنّ المخاطب هنا هم أولياء الأطفال ليعلموهم هذه الأُصول، لأنّ الأطفال لم يبلغوا بعد سنّ التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية.
كما أنّ عمومية الآية تعني شمولها الأطفال البنين والبنات، وكلمة "ألَّذين" التي هي لجمع المذكر السالم، لا تمنع أن يكون مفهوم الآية عاماً، لأنّ هذه العبارة
[158]
استعملتْ في كثير من الموارد وقصد بها المجموع، كما في آية وجوب الصوم، فلفظ "ألَّذين" هناك يَعُمُّ المسلمين كافةً (سورة البقرة الآية 83).
ولابدّ من القول بأنّ هذه الآية تتحدّث عن أطفال مميزّين يعرفون القضايا الجنسية، ويعلمون ماذا تعني العورة. لهذا أمرتهم بالإستئذان عند الدخول إلى غرفة الوالدين، وهم يدركون سبب هذا الإستئذان، وجاءت عبارة "ثلاث عورات" شاهداً آخراً على هذا المعنى ولكن هل أن الحكم المتعلق بمن ملكت أيديكم يختص بالعبيد الذكور منهم أو يشمل الأماء والجواري، هناك أحاديثٌ مختلفةٌ في هذا المجال، ويمكن ترجيح الأحاديث التي تؤيد ظاهر الآية، أي شمولها الغلمان والجواري.
وتختتم الآية بالقول: (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض) فلا حرج ولا إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، أجل: (كذلك يبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم).
كلمة (طوافون) مشتقة من "الطواف" بمعنى الدوران حول شيء ما، وقد جاءت بصيغة مبالغة لتأكيد تعدد الطواف.
وبما أنّ عبارة (بعضكم على بعض) جاءت بعد كلمة (طوافون) فإنّ مفهوم الجملة يكون: إنهُ مسموح لكم بالطواف حول بعضكم في غير هذه الأوقات الثلاثة، ولكم أن تتزاوروا فيما بينكم ويخدم بعضكم بعضاً.
وكما قال "الفاضل المقداد" في كنز العرفان، فإنّ هذه العبارة بمنزلة دليل على عدم ضرورة الإستئذان في غير هذه الأوقات، لأنّ المسألة تتعقد إن رغبتم في الإستئذان كلّ مرّة(1).
وبيّنت الآية التالية الحكم بالنسبة للبالغين، حيث تقول: (وإذا بلغ الأطفال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كنزالعرفان، المجلد الثاني، صفحة 225.
[159]
منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم).
وكلمة "الحلم" على وزن "كتب" بمعنى العقل والكناية عن البلوغ، الذي يعتبر توأماً لِطفرة عقلية وفكرية، ومرحلة جديدة في حياة الإنسان.
وقيل أنّ الحلم بمعنى الرؤيا، فهي كناية عن احتلام الشباب حين البلوغ.
وعلى كلّ حال يستفاد من الآية السابقة، أنّ الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة للأطفال غير البالغين، لأنّ أولئك يجب عليهم إستئذانُ الوالدين في الأوقات الثلاثة فقط، لأنّ حياتهم قد امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيلُ بها الإستئذانُ كلّ مرة، وكما أنّهم لم يعرفوا المشاعر الجنسية بعد. أمّا الشباب البالغ، فهم مكلّفون في جميع الأوقات بالإستئذان حين الدخول على الوالدين.
ويَخصُّ هذا الحكم المكان المخصَّص لاستراحهِ الوالدين. أمّا إذا كان في غرفة عامّة يجلس فيها آخرون أيضاً، فلا حاجة للإستئذان منهما بالدخول.
والجدير بالذكر إنّ عبارة (كما استأذن الذين من قبلهم) إشارة إلى الكبار الذين يستأذنون من الوالدين حين الدخول إلى غرفتهما. وقد أردفتِ الآيةُ الشباب الذين بلغوا الرشد بهؤلاء، الكبار.
وتقول الآية في الختام للتأكيد والإهتمام الفائق: (كذلك يبيّن الله لكم آياته والله عليم حكيم).
وهذا هو نفس التعبير الذي جاء في آخر الآية السابقة دون تغيير، باستثناء استعمال الآية السابقة كلمة "الآيات" وهذه استعملت كلمة "آياته" ولا فرق في معناهما.
وسنتناول بحث ميزات هذا الحكم، وكذلك فلسفته في ذيل تفسير هذه الآيات.
وفي آخر الآيات ـ موضع البحث ـ استثناء لحكم الحجاب، حيث استثنت النساء العجائز والمسنّات من هذا الحكم، فقال: (والقواعد من النساء اللاتي لا
[160]
يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة).
ولهذا الإستثناء شرطان:
أولهما: وصول هذه العجائز إلى عمر لا يتوقع أن يتزوجن فيه، أو بعبارة أُخرى: أن يفقدن كلّ جاذبية أُنثوية.
وثانيهما: ألا يتزيَّن بزينة بعد رفع حجابهنّ، ويتّضح بذلك أنّه لا ضير في رفع الحجاب بعد إجراء هذين الشرطين. ولهذا استثناهنّ الإسلام من حكم الحجاب.
كما أنّ ـ من الواضح ـ أنّه لا يقصد برفع العجائز للحجاب اباحة خلع الملابس كلها والتعريّ، بل خلع اللباس الفوقاني فقط. وكما عبّرت عنه بعض الأحاديث بالجلباب والخمار.
وجاء في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) في شرح هذه الآية: "الخمار والجلباب"، قلت: بين يدي من كان؟ قال: "بين يدي من كان غير متبرجة بزينة".(1)
كما وردت أحاديث أُخرى عن أهل البيت(عليهم السلام) بهذا المضمون أو ما يقاربه(2).
وتضيف الآية في ختامها (وإن يستعففن خير لهن).
فالإسلام يرغب في أن تكون المرأة أكثر عفّة وأنقى وأطهر. ولتحذير النساء اللواتي يسئن الإستفادة من هذه الحرية، ويتحدثن أو يتصرفن بأُسلوب لا يليق بشرفهنّ، تقول الآية محذرة إيّاهن: (والله سميع عليم) كلّما تقولونه يسمعه الله، وما تكتمون في قلوبكم أو في أذهانكم يعلمه الله أيضاً.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 14 كتاب النكاح صفحة 147، الباب 110.
2 ـ للإستزادة يراجع المصدر السابق.
[161]
بحثان
1 ـ فلسفة الإستئذان والمفاسد المترتبة على عدم الإلتزام به
لا يكفي اللجوء إلى القوة لاقتلاع جذور المفاسد الإجتماعية كالأعمال المخلة بالشرف، ولا يرجى نتيجة مرضية من العقاب فقط في القضايا الإجتماعية. وإنّما يستوجب اتباع عدة أُمور كالتثقيف الإسلامي، وتعليم آدابه الخلقية، واتباع السبل الصحيحة في القضايا العاطفية. وإلى جانب هذه الأُمور يكون العقاب كعامل لردع المنحرفين عن الطريق السوي.
ولهذا السبب بدأت سورة النور ـ وهي في الواقع سورة العفاف والشرف ـ بالحديث عن جلد الرجال الزناة والنساء الزانيات، كما تحدثت في نفس الوقت عن تسهيل الزواج ورعاية الحجاب الإسلامي، والنهي عن النظر بلذة وتحريم إتهام الآخرين بشرفهم وناموسهم، وأخيراً استئذان الأبناء حين الدخول إلى غرفة الوالدين.
وهذا يدلّ على عدم إغفال الإسلام أي من هذه التفاصيل التي لها علاقة بمسألة العفاف والشرف.
وعلى الخدم أن يستأذنوا حين الدخول إلى غرفة الزوجين الخاصّة اللذين يخدمانهما، كذلك يستوجب على الأطفال البالغين عدم الدخول إلى الغرفة المذكورة دون استئذان، وتعليم الأطفال غير البالغين الذين يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالوالدين، أن لا يدخلوا غرفة الوالدين دون استئذان وعلى الأقل في الأوقات الثلاثة التي أشارت إليها الآية "قبل صلوة الفجر وحين الظهر ومن بعد صلوة العشاء".
وهذا نوع من الأدب الإسلامي، رغم قلّة الالتزام به مع كلّ الأسف. ورغم بيان القرآن ذلك بصراحة في الآيات السابقة. فإنّه من النادر أن يتناوله الخطباء
[162]
والكتّاب، ولا يعرف سبب إهمال هذا الحكم القرآني الحاسم؟!
ورغم أنّ ظاهر الآية يوجب هذا الحكم، وحتى لو اعتبرناه مستحباً فإنّه ينبغي الحديث عنه، وبحث جزئياته. ورغم تصور بعض السذج بأن الأطفال لا يدركون شيئاً عن هذه الأُمور، وأن خدم البيت لا يهتمون بها، فإنّ الثابت هو حساسية الأطفال بالنسبة لهذه القضية (فكيف بالنسبة للكبار). وقد يؤدي إهمال الوالدين ورؤية الأطفال لمشاهد ممنوعة إلى انحرافهم خلقياً وأحياناً إلى إصابتهم بأمراض نفسية.
وقد واجهنا أشخاصاً اعترفوا بأنّهم اثيروا جنسياً، أو أُصيبوا بعقد نفسية لمشاهد جنسية من هذا القبيل وقد شبّت في قلوب البعض منهم نار الحقد على الوالدين، إلى درجة الرغبة في قتلهما، أو الانتحار. كلّ ذلك بسبب الأثر الذي زرعه في نفوسهم إهمال الوالدين، وعدم حيطتهم حين الممارسة الجنسية أومقدماتها.
هنا تتضح لنا قيمة وأهمية هذا الحكم الإسلامي الذي بلغه العلماء المعاصرون، بينما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرناً. وهنا نجد لزاماً علينا توصية الآباء والأُمهات بالجدية في الحياة الزوجية، وتعليم أولادهم الإستئذان حين الدخول إلى غرفتهما، واجتناب كلّ عمل قد يثير الأولاد ويحركهم. ومن هذه الأعمال مبيت الزوجين بغرفة فيها أولاد بالغون، فيجب اجتناب ذلك بالقدر الممكن. وأن يعلما بأنّ هذه الأُمور تؤثّر بشكل كبير في مستقبل أولادهما.
وممّا يلفت النظر حديث للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه "إيّاكم وأن يجامع الرجل امرأته والصبي في المهد ينظر إليهما"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحارالأنوار، المجلد 103، صفحة 295.
[163]
2 ـ حكم الحجاب بالنسبة للنساء العجائز:
لاخلاف في أصل هذا الإستثناء في حكم الحجاب بين علماء المسلمين، لأنّ القرآن صريح في هذا الأمر. إلاّ أنّ هناك أقوالا في خصوصيات هذا الحكم.
فبالنسبة لعمر هؤلاء النسوة، والحد الذي يجب أن يبلغنه ليكنَّ من القواعد، هناك أقوال. فبعض الأحاديث الإسلامية تنص على أنّ المراد هو "المسنّة".(1)
بينما فسرته أحاديث أخرى بـ "القعُود عن النكاح"(2).
ولكن عدد من المفسّرين يرى أنّها تعني "النساء اللواتي لا يطمئن، فيصلن إلى مرحلة عدم الحمل. ولا يرغب أحد في الزواج بهنّ"(3).
ويبدو أنّ جميع هذه التعابير تشير إلى واقع محدد، هو بلوغهن سناً لا يتزوجن عادة. وقد يحدث نادراً أن يقدم بعضهن على الزواج في هذا العمر.
كما جاءت تعابير مختلفة في الأحاديث الإسلامية حول المقدار من الجسم المسموح بكشفه، لأنّ القرآن الكريم ذكر المسألة بشكل عام (فليس عليهن جناح أن يَضَعْنَ ثيابهن غير متبرجات) ويقصد بهذه الثياب الملابس الفوقانية.
وجاء في بعض الأحاديث جواباً على سؤال: أي الثياب يجوز وضعها؟
يجيب الإمام الصادق(عليه السلام) "الجلباب" (4).
بينما ذكر حديث آخر أنه "الجلباب والخمار"(5).
ويبدو أنّ هذه الأحاديث غير متناقضة، وقصدها جواز الكشف عن رؤوسهن، وعدم تغطية الشعر والرقبة والوجه. كما قالت أحاديث أُخرى ـ وقال فقهاء ـ بشمول الإستثناء إلى حدّ الرسغ. ولا سند لدينا يسمح بأكثر من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 14، كتاب النكاح، الباب 110، الحديث 4.
2 ـ المصدر السابق، الحديث 5.
3 ـ الجواهر، المجلد 29، صفحة 85 وكنز العرفان، المجلد 2، ص 226.
4 ـ وسائل الشيعة، كتاب النكاح، الباب 110، الحديث 1.
5 ـ المصدر السابق، الحديث 2 و 4.
[164]
وعلى كلّ حال، فإنّ ذلك مسموح لهنّ بشرط أن يكنّ (غير متبرجات بزينة)وأن يخفين الزينة التي تحت الحجاب، والتي من الواجب إخفاؤها من قبل جميع النساء، وأن لا يرتدين الملابس التي تنزين بها النساء، والتي تثير انتباه الآخرين. وبتعبير آخر: إنّه مسموح لهنّ بعدم التحجب على أن يخرجن إلى الشارع بلباس محتشم ودون تزين بزينة.
وهذا كلّه ليس حكماً إلزامياً. إذ أنّ الأفضل لهن أن يخرجن محجبات كالنساء الأُخريات، كما جاء في آخر الآية المذكورة، إذ هنّ معرضات إلى الزلل ـ وإن كان نادراً.
* * *
[165]
الآية
لَيْسَ عَلَى الاَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلى الاَْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَـتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَتِكُم أَوْ بُيُوتِ أَعْمَـمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّـتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَـلَـتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةْ مِّن عِندِ اللهِ مَبَـرِكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الاَْيَـتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(61)
التّفسير
البيوت التي يسمح بالأكل فيها:
تحدثت الآيات السابقة عن الإستئذان في أوقات معينة، أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل الخاصّ بالأب والأُم.
أمّا الآية موضع البحث فإنّها استثناء لهذا الحكم، حيث يجوز للبعض
[166]
وبشروط معينة، الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم، وحتّى أنّه يجوز لهم الأكل فيها دون استئذان، حيث تقول هذه الآية أولا (ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج).
لأنّ أهل المدينة كانوا ـ كما ورد بصراحة في بعض الأحاديث ـ وقبل قبولهم الإسلام، يمنعون الأعمى والأعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم، ويتنفّرون من هذا العمل.
وعلى عكس ذلك كانت مجموعة منهم بعد إسلامها، تفرد لمثل هؤلاء موائد خاصّة، ليس لاحتقارهم المشاركة معهم على مائدة واحدة، وإنّما لأسباب إنسانية، فالأعمى قد لا يرى الغذاء الجيد في المائدة، وهم يرونه، ويأكلونه، وهذا خلاف الخلق السليم، وكذلك الأمر بالنسبة للأعرج والمريض، حيث يحتمل تأخرهما عن الغذاء، وتقدم السالمين عليهما. ولهذا كلّه لم يشاركوهم الغذاء على مائدة واحدة. ولهذا كان الأعمى والأعرج والمريض يسحب نفسه حتى لا يزعج الآخرين بشيء. ويعتبر الواحد منهم نفسه مذنباً إن شارك السالمين غذاءهم في مائدة واحدة.
وقد استفسر من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الموضوع، فنزلت الآية السابقة التي نصّت على عدم وجود مانع من مشاركة الأعمى والأعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة واحدة.(1)
وقد فسر آخرون هذه العبارة باستثناء هذه الفئات الثلاث من حكم الجهاد، أو أنّ القصد أنّه مسموح لكم استصحاب العاجزين معكم إلى الأحد عشر بيتاً التي أشارت إليها الآية في آخرها، ليشاركوكم في غذائكم.
إلاّ أن هذين التفسيرين ـ كما يبدو ـ بعيدان عن قصد الآية، ولا ينسجمان مع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكرت هذا التّفسير أيضاً، التفاسير التالية "الدر المنثور" و "نور الثقلين" و "مجمع البيان" و"الصافي" و"التّفسير الكبير" و"التبيان".
[167]
ظاهرها. (فتأملوا جيداً).
ثمّ يضيف القرآن المجيد (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم).
والمقصود بعبارة بيوتكم الأبناء أو الزوجات.
(أو بيوت آبائكم).
(أو بيوت أمهاتكم).
(أو بيوت إخوانكم).
(أو بيوت إخواتكم).
(أو بيوت أعمامكم).
(أو بيوت عماتكم).
(أو بيوت أخوالكم).
(أو بيوت خالاتكم).
(أو ما ملكتم مفاتحه).
(أو صديقكم).
بالطبع فإنّ هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتي ذكرها في آخر تفسير الآية.
ثمّ تضيف الآية (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً).
ذكر أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يمتنعون عن الأكل منفردين، بل كانوا يبقون جياعاً لمدّة حتى يجدوا من يشاركهم غذاءهم، فعلمهم القرآن المجيد أن تناول الغذاء مسموح بصورة جماعية أو فردية.(1)
ويرى البعض: إنّ مجموعة من العرب كانت تقدم غذاء الضيف على حدة احتراماً له، ولا يشاركونه الغذاء (حتى لا يخجل أثناء تناوله الطعام).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير التبيان، للآية موضع البحث.
[168]
لقد رفعت الآية المذكورة هذه التقاليد واعتبروا غير محمودة(1)
وقال آخرون: إنّ البعض كان يرى عدم جواز تناول الأغنياء الغذاء مع الفقراء، والمحافظة على الفروق الطبقية حتى على مائدة الطعام. لهذا نفى القرآن المجيد هذا التقليد الخاطىء والظالم بذكره العبارة السابقة.(2)
ولا مانع من احتواء الآية السابقة لكلّ هذه المعاني.
ثمّ تشير الآية إلى أحد التعاليم الأخلاقية فتقول: (وإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) واختتمت بهذه العبارة (كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلكم تعقلون).
وقال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من عبارة "بيوتاً" في هذه الآية، هي البيوت الأحد عشرة المذكورة سابقاً.
وقال آخرون: إنّها المساجد.
ولكن بيدو أنها عامّة، تشمل جميع البيوت، سواء الأحد عشر بيتاً التي يجوز للمرء الأكل فيها، أو غيرها كبيوت الأصدقاء والأقرباء. حيث لا يوجد دليل على تضييق المفهوم الواسع لهذه الآية.
ولكن ما هو المقصود من عبارة (سلّموا على أنفسكم)؟
نجد هنا عدداً من التفاسير: حيث يرى البعض من المفسّرين أنّه سلام البعض على البعض، مثلما جاء في قصّة بني إسرائيل (سورة البقرة الآية 54) (فاقتلوا أنفسكم).
ورأى آخرون أنّه يعني السلام على الزوجة والأبناء والأهل، حيث هم بمنزلة النفس، لهذا استخدمت الآية تعبير "الأنفس"، كما جاء هذا التعبير أيضاً في آية المباهلة (سورة آل عمران الآية 61). وهذا يبيّن لنا أن قرب الشخص من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ المصدر السابق.
[169]
الآخر قد يصل إلى درجة أنّه يكون كنفسه، أي يكونان كنفس واحدة، مثلما كان عليّ(عليه السلام) من الرّسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).
ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية السابقة أشارت إلى بيوت لم يسكنها أحد، حيث يحيي المرء نفسه عند دخولها فيقول: السّلام عليكم من قبل ربّنا. أو: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ونرى عدم وجود تناقض بين هذه التفاسير. حيث يجب السلام عند الدخول إلى أيّ منزل كان، ويجب أن يسلم المؤمنون بعضهم على بعض، ويسلّم أهل المنزل أحدهم على الآخر. وأمّا إذا لم يجد أحداً في المنزل فيحيي المرءُ نفسه، حيث تعود هذه التحيات بالسلامة على الإنسان ذاته.
لهذا نقرأ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) يجيب فيه على سؤال يخصّ تفسير هذه الآية فيقول: "هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم".(1)
وفي حديث عن الباقر(عليه السلام) أيضاً، يقول فيه: "إذا دخل الرجل منكم بيته فإنّ كان فيه فليسلم عليه، وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا، يقول الله عزَّوجلّ "تحيّة من عند الله مباركة طيبة"(2).
* * *
بحوث
1 ـ هل أن تناول غذاء الآخرين غير منوط بإذنهم؟
كما شاهدنا في الآية السابقة، أنّ الله تعالى سمح أن يأكل الإنسان في بيوت أقربائه المُقرّبين وبعض الأصدقاء وأمثالهم، وأصبح عدد هذه البيوت أحد عشر بيتاً. ولم تشترط الآية استئذانهم لتناول الطعام، ولا شك في عدم وجوب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نورالثقلين، المجلد الثالث، ص 627.
2 ـ المصدر السابق.
[170]
الاستئذان. إذ أنّ بوجود الإذن بالأكل يمكن تناول الغذاء العائد لأي شخص، وبذلك لا تبقى ميزة لهذه المجموعة المؤلفة من أحد عشر بيتاً.
فهل يشترط توفر الرضى القلبي يتناول الغذاء "وكما يقال من شاهد الحال". بسبب الصلة الوثيقة بين الطرفين إن ظاهر اطلاق الآية ينفي هذا الشرط، إذ يكفي احتمال حصول رضاه فقط وعادة يحصل الرضى.
أمّا إذا كانت الحالة تؤكّد عدم رضى صاحب الطعام في تناول غذاءه، فبالرغم من اطلاق الآية وشمولها لهذا المورد أيضاً، إلاّ أنّه لا يبعد إنصراف الآية عن هذا المورد، وخاصّة أنّ مثل هذا المورد نادر الوقوع، ومن المعلوم أنّ الإطلاقات لا تشمل الأفراد النادرة.
وعلى هذا فإنّ الآية المذكورة تخصص الآيات والرّوايات التي تشترط في التصرف بأموال الآخرين احراز رضاهم في دائرة محدودة. وتكرر القول بأن هذا التخصيص. في نطاق محدد، أي تناول الغذاء بمقدار الحاجة تناولا بعيداً عن الإسراف.
والذي ذكرناه متعارف عليه بين كبار فقهائنا. وجاء بعضه بصراحة في الأحاديث الإسلامية، حيث ذكر رواية معتبرة عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال عند الإستفسار منه عبارة "أو صديقكم" الوارد في هذه الآية قال(عليه السلام): "هو والله الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه"(1).
كما ذكرت أحاديث أُخرى بهذا المضمون، أكّدت أنّه لا يشترط الإستئذان في هذه الحالات. (وبالطبع لا يوجد خلاف بين الفقهاء حول عدمِ جواز الأكل من غذاء الآخرين دون استئذان، الذي نهت عنه الآية بصراحة مع العلم بهذا النهي. لهذا أهملت الآية السابقة ذكرهُ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 16، صفحة 434، كتاب الأطعمة والأشربة ـ أبواب آداب المائدة ـ الباب 24 الحديث، 1.
[171]
وحول عبارتي "عدم الإفساد" و"عدم الإسراف" فقد صرحت بعض الأحاديث بذلك أيضاً(1).
ولا بد من الإشارة إلى أنّه ورد حديث في هذا الباب يقول بأنّه يمكن الإستفادة فقط من غذاء خاص وليس أيّ غذاء، إلاّ أنّ الفقهاء أعرضوا عن هذا الحديث لضعف سنده.
واستثنى بعض المفسّرين الأطعمة الممتازة التي يحفظها صاحب المنزل لنفسه، أو لضيوفه المقربين، أو لمناسبات خاصّة. وهذا الإستثناء غير بعيد، بسبب انصراف الآية عنه(2).
2 ـ فلسفة هذا الحكم الإسلامي:
يمكن أن يثير هذا الحكم تساؤلا بالمقارنة مع الأحكام الشديدة التي نصت عليها التعاليم في تحريم الغصب، هو: كيف سمح الإسلام بذلك، رغم تشديده في قضية التصرف بأموال الآخرين؟!
إنّنا نرى أنّ هذا السؤال ينسجم مع طبيعة البيئات المادية تماماً، كالمجتمع الغربي، حيث يطرد الأبناء من المنزل حين البلوغ! ولا يهتمون بالوالدين حين إصابتهم بالعجز أو الشيخوخة! حيث نشاهد الأبناء هناك، لا يثمنون أتعاب الوالدين ولا يشفقون عليهما، بسبب تسلط التفكير المادي على العلاقات الإجتماعية في الغرب! ولا خبر هناك عن العاطفة الإنسانية والشفقة!
إلاّ أنّ التعاليم الإسلامية والعواطف الإنسانية التي تمتد جذورها في المجتمع الإسلامي، خاصّة بين الأهل والأقرباء والأصدقاء، قد ميّزت المجتمع الإسلامي عن المجتمع الغربي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق، الحديث4.
2 ـ لإيضاح أكثر يراجع جواهر الكلام المجلد 36، صفحة 406، (كتاب الأطعمة والأشربة).
[172]
والواقع أنّ الإسلام جعل علاقات الأقرباء والأصدقاء أسمى من الأُمور المادية، وهذا يعكسه الصفاء والود اللذان يسودان المجتمع الإسلامي الحقيقي، حيث يبتعد أفراد هذا المجتمع عن الصفات غير المحمودة كالبخل وحب الذات.
ولا ريب أن أحكام الغصب تكون نافذة في غير هذه الدائرة. ولكن الإسلام في داخل هذه الدائرة يفضل القضايا العاطفية والروابط الإنسانية، فهي التي ينبغي أن تسود العلاقات بين الأقرباء والأصدقاء جميعاً.
3 ـ من هو الصديق؟
لا شك أنّ للصداقة مفهوماً واسعاً، وهي تعني هنا بالتأكيد الأصدقاء الخاصين الذين تربطهم علاقات وثيقة، وهذه العلاقة توجب التزاور فيما بينهم والأكل من طعام الآخر، ولا حاجة هنا ـ كما أسلفنا ـ إلى احراز الرضا، بل يجوز الأكل بمجرّد عدم العلم بعدم رضا صاحب الغذاء.
لهذا قال بعض المفسّرين حول هذه الآية: الصديق هو الذي يصدق في علاقاته معك.
وقيل: الصديق هو الذي يصدّق ظاهره باطنه وكما يبدو فإن الجميع يشيرون إلى حقيقة واحدة.
ويتّضح من هذه العبارة أنّ الذي لا يسمح بمشاركة صديقه لغذائه، لا يمكن اعتباره صديقاً!
ومن المناسب هنا أن نقرأ حديثاً عن الإِمام الصادق(عليه السلام) ضمّ مفهوم الصداقة الواسع وشروطها الكاملة:
"لا تكون الصداقة إلاّ بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فإنسبه إلى الصداقة، ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة.
فأوّلاها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة.
[173]
والثّاني: أن يرى زينك زينه وشينك شينه.
والثّالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال.
والرّابعة: أن لا تمنعك شيئاً تناله مقدرته.
والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات".(1)
4 ـ تفسير عبارة (ماملكتم مفاتحه)
جاء في بعض أسباب النّزول أنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا يسلمون أحياناً مفاتيح منازلهم إلى الذين لا يشملهم الجهاد. حين توجههم إلى الجهاد في سبيل الله. وكانوا يسمحون له بتناول الطعام من هذه المنازل، إلاّ أنّ هؤلاء كانوا يمتنعون من الأكل في هذه المنازل خوفاً من ارتكاب إثم في ذلك.
وحسب هذه الرواية فإنّ المراد من عبارة (ما ملكتم مفاتحه) هو ما ذكرنا.(2)
وروي عن ابن عباس أيضاً أن قصد الآية هو وكيل الشخص على ما يملكه من ماء وبستان ومواشي، حيث سمح له بتناول الفاكهة من بستان الموكّل بقدر حاجته والشرب من حليب ماشيته.
كما فسّر آخرون ذلك بحارس المخزن الذي يسمح له بتناول قليل من المواد الغذائية الموجودة في هذا المخزن.
ومع ملاحظة سائر المجموعات التي ورد ذكرها في هذه الآية، يبدو أنّها تقصد الذين يسلمون مفاتيح منازلهم لأشخاص مؤثقين ومقربين لهم، وهذا التقارب الوثيق بينهما يؤدي إلى أن يكونوا في صف الأقرباء والأصدقاء المقرّبين، وسواءً كان وكيلا رسمياً أم لا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، صفحة 467.
2 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثّاني عشر، ص 315 (وجاء في وسائل الشيعة المجلد السادس عشر، صفحة 436، الباب 24 من أبواب المائدة حديث بهذا المضمون).
[174]
وإذا لاحظنا أنّ بعض الأحاديث تفسر عبارة (ما ملكتم مفاتحه) بالوكيل الذي يتعهد بالإِشراف على أموال شخص آخر، فإنّ ذلك مصداق للآية وليس لتحديد معناها وحصرها بهذا التّفسير.
5 ـ السلام والتحية
"التحية" مشتقّة من الحياة، بمعنى الدعاء لسلامة الآخرين، سواء كانت بشكل السلام عليكم، أو السلام علينا، أو قولا كحيّاك الله، فكل هذا إعراب عن المحبة التي يبديها الشخص عند لقائه بآخر، وتدعى بالتحية.
ويقصد بعبارة (تحية من عند الله مباركة طيبة). ربط التحية بالله بشكل ما، أي "السلام عليكم"، سلام الله عليكم، أو نسأل الله أن يسلمكم، إذ أن كل موحّد يرى ربط الدعاء بالله، وطبيعي أنّ الدعاء بهذا الشكل يكون مباركاً وطيباً. (تناولنا بحث السلام وأهميته ووجوب الردّ على التحية، في تفسير الآية 86 من سورة النساء).
* * *
[175]
الآيات
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْر جَامِع لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَئْذِنُوكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَئْذَنُوكَ لِبَعْضِ شأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَنِ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(62) لاَّ تَجْعَلُوا دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)أَلاَ إِنَّ للهِ مَا فِى السَّمَـواتِ وَالاَْرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أنَتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(64)
سبب النّزول
ذكرت عدة أسباب لنزول الآية الأُولى من الآيات أعلاه، فقد جاء في بعض الأحاديث أنّ هذه الآيه نزلت في "حنظلة بن أبي عياش" الذي صادف زواجه ليلة معركة أُحد، وكان الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يشاور أصحابه حول هذه المعركة، فجاءه
[176]
حنظلة يستأذنه المبيت عند زوجته، فأجازه(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد بكّر حنظلة للإلتحاق بصفوف المسلمين، وكان على عجل من أمره بحيث لم يتمكن من الإغتسال. ودخل المعركة على هذه الحال، وقاتل حتى قتل في سبيل الله.
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه "رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض".
لهذا سمي حنظلة بعدها بـ "غسيل الملائكة"(1).
وذكر سبب آخر لنزول هذه الآية حيث "روى ابن إسحاق" في سبب نزول هذه الآيات أنّه لما سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بتجمع قريش والاحزاب على حربه ـ وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة. فعمل فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه فدأب ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين لا ينجزون إلاّ اليسير من العمل، أو يتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ولا إذنه، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لابدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ويسأله في اللحوق بحاجته فيأذن له.
فإذا قضى حاجته، رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له، فأنزل الله تعالى في أُولئك المؤمنين (إنّما المؤمنون ...) الآية، ثمّ قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم ...) الآية(2)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، حسبما نقله تفسير نورالثقلين، المجلد الثالث، صفحة 628.
2 ـ في ظلال القرآن ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ الجزء السابع عشر، ص 126.
[177]
التّفسير
لا تتركوا النبيّ وحده!
قال بعض المفسّرين حول علاقة هذه الآيات بسابقتها، وفيهم المرحوم "الطبرسي" في مجمع البيان "وسيد قطب" في تفسير في ظلال القرآن: بما أنّ الآيات السابقة طرحت للبحث جانباً من أُسلوب التعامل مع الأصدقاء والأقرباء. فإنّ الآيات موضع البحث تناولت كيفية تعامل المسلمين مع قائدهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد أكّدت التزام الوقار أمامه، وطاعته وعدم ترك الجماعة إلاّ بإذنه.
ويمكن أيضاً أنّ الآيات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن علائم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه، لهذا تحدثت الآيات ـ موضع البحث ـ حول هذا الموضوع. فتقول أوّلا: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه).
والمراد من "أمر جامع" كلّ عمل يقتضي إجتماع الناس فيه ويتطلب تعاونهم، سواء كان عملا استشارياً، أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو، أو صلاة جمعة في الظروف الإستثنائية وأمثالها.
وإذا وجدنا أنّ بعض المفسّرين، قالوا بأنّه يعني الإستشارة أو الجهاد أو صلاة الجمعة أو العيد فنقول: إنّهم عكسوا جانباً من معاني هذه الآية. وأسباب النّزول السابقة أيضاً هي من مصاديق هذا الحكم العام.
وفي الحقيقة إنّ هذا من شروط النظم والتنظيم ولا يمكن لأية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله، فغياب شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضرراً بالهدف النهائي، خاصّة إذا كان قائد الجماعة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلامه مطاع.
كما يجب الإنتباه إلى أنّ الإذن لا يعني الإستئذان الشكلي لقضاء الشخص أعماله الخاصّة والتفرغ لتجارته. وإنّما أن يكون صادقاً في الإستئذان. فإذا وجد القائد أن غياب هذا الشخص يلحق ضرراً، فمن حقه أن لا يأذن له، وعليه أن
[178]
يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى. لهذا تضيف الآية: (إنّ الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم).
ومن الواضح أنّ هؤلاء المؤمنين لا يستأذن أحدهم لعمل بسيط في حين أنّهم اجتمعوا لأمر أهم، والمقصود من عبارة "شأنهم"، الأعمال الضرورية والمهمّة فقط.
ومن جهة أخرى، لا تعني إذن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للأشخاص دون دراسة جوانب المسألة وأثر حضور وغياب الأفراد، بل جاء هذا التعبير ليطلق يد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأن لا يأذن لأحد حين إحساسه بضرورة حضوره في الجماعة.
ودليل هذا الكلام ما جاء في الآية (43) من سورة التوبة حيث يلام الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لإذنه بعض الأفراد: (عفى الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبيّن الذين صدقوا وتعلم الكاذبين).
وتبيّن هذه الآية كيف أوجبت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) التحقيق قبل الإذن، وأن يلاحظ أبعاد هذه المسؤولية الإلهية.
وتقول الآية في الختام: (واستغفر لهم الله إنّ الله غفور رحيم).
و هنا يطرح سؤال: ما الغرض من هذا الإستغفار؟ فهل هم مذنبون رغم أخذهم الإذن من الرّسول بالمغادرة، كي يحتاجوا إلى استغفاره لهم؟
و للجواب على هذا السؤال هناك وجهان:
أحدهما: أن يستغفر لهم تنبيهاً على أنّ الأوْلى أن لا يقع الإِستئذان منهم وإن أذن لهم، لأن ذلك يعتبر تقديم الشخص لمصلحته الخاصّة على مصلحة المسلمين، و لا يخلو هذا الامر من "الترك الاولى" ولذا يحتاج الى الاستغفار (كالاستغفار
[179]
على عمل مكروه).(1)
كما تبيّن هذه العبارة ضرورة عدم الإستئذان بالقدر الممكن. واتباع التضحية و الإيثار حتى لا يتورطوا بارتكاب عمل تركه أوْلى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط.
و الوجه الثاني: يحتمل أنّه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة لتمسّكهم بآداب اللّه تعالى في الإستئذان.(2)
ولكن نرى عدم وجود تناقض بين هذين الوجهين، كما أنّه من الطبيعي أن لا تخصّ هذه التعاليم التنظيمية الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقط. وإنّما هي واجبة الإتباع إزاء كلّ قائد إلهي، سواء كان نبياً أم إماماً أم عالماً نائباً لهما، حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه الطاعة. كما يحتمه ـ إضافة إلى القرآن ـ العقل والمنطق، لأنّ الاستمرار التنظيم يتوقف على رعاية هذه المبادىء، ولا يمكن إدارة المجتمع بدونها.
و المدهش تفسير كبار مفسّري أهل السنة لهذه الآية بأنّها دليل على جواز الإجتهاد وتوقف الحكم على رأي المجتهد. ولا يخفى أنّ الإجتهاد المطروح في مباحث الأصول والفقه يخص الأحكام الشرعية، ولا يتعلق بالاجتهاد في الموضوعات حيث أنّ الإجتهاد في الموضوع لا يقبل الإنكار، فكل قائد جيش أو مدير دائرة أو مشرف على جماعة يجتهد في القضايا الإجرائية الخاصّة بدائرة عمله. وليس هذا دليلا على إمكان الإجتهاد في الأحكام الشرعية العامّة بإيجاب حكم بدعوى المصلحة العامّة، أو نفي حكم أو تشريع آخر.
ثمّ بيّنت الآية التالية حكماً آخر له علاقة بتعاليم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، وروح المعاني، وتفسير القرطبي للآيات موضع البحث.
2 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي ـ في تفسيره للآية موضع البحث صفحة 39 من طبعة دار الكتب العلمية بطهران ـ الطبعة الثّانية.
[180]
تقول:(لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً).
إن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يدعوكم للإجتماع، فإنه لابدّ من أن يكون لمسألة إلهية مهمّة، لهذا يجب عليكم الإهتمام بدعوته، والإلتزام بتعاليمه، وألاّ تهملوها، فأمره من الله ودعوته منه سبحانه وتعالى.
ثمّ تضيف الآية (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
"يتسللون" مشتقّة من "تسلل"، وتعني سحب الشيء من موضعه، كأنّ يقال: سلّ السيف من غمده. كما يطلق على الذين يفرون سرّاً من مكان تجمع محدد لهم، كلمة "متسللون".
"لواذاً" مشتقّة من "ملاوذة" بمعنى الإختفاء، وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف جدار، أو بتعبير آخر: استغفال الآخرين ثمّ الفرار من مكان تجمعهم، وهذا ما كان يقوم به المنافقون حينما يوجه الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة للجهاد أو لأمر مهم آخر، يقول لهم القرآن المجيد: "إنّ عملكم النفاقي هذا إن خفي على الناس فإنّه لا يخفى على الله، وسيعاقبكم على هذه الاعمال ومخالفتكم لاوامر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والآخرة".
ماذا يقصد به "فتنة" هنا؟ قال بعض المفسّرين: إنّها القتل، وآخرون قالوا: إنّها تعني الضلال، كما قال بعضهم: إنّها السلطان الظالم، وقيل: إنّها بلاء النفاق الذي يتوغل في قلب الإنسان.
كما يحتمل أن تعني الفتنة الفتن الإجتماعية ومشاكلها، وأن يسود الهرج والمرج في المجتمع، وابتلائه بالهزيمة، وسائر الفتن الاُخرى التي يبتلى بها المجتمع في حالة عصيانه أوامر قائده.
و على كلّ حال فالفتنة ذات مفهوم واسع يضمّ جميع هذه الأُمور وغيرها، مثلما يضمّ العذاب الأليم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة أو كليهما.
[181]
و ممّا يجب الإنتباه إليه في تفسير الآية محل البحث وجود احتمالين إضافة إلى ما ذكرناه هما:
الأوّل: أنّ القصد من قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) أنّكم عندما تدعو النّبى(صلى الله عليه وآله وسلم) فينبغي أن تدعوه بأدب واحترام يليق بمنزلته، وليس كما تدعون بعضكم بعضاً، والسبب يكمن في أنّ جماعة من المسلمين لم يتعلموا ـ بعد ـ الآداب الإسلامية في التعامل مع الآخرين، فكانوا ينادون الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعبارة: يا محمّد! وهذا لا يليق بنداء قائد إلهي كبير. وتستهدف الآية تعليم الناس أن يدعوا الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدب، كأن يدعوه: يا رسول الله، أو: يا نبىّ الله.
وهذا التّفسير ورد في بعض الرّوايات أيضاً إلاّ أنّه لا ينسجم مع ظاهر الآية التي تحدثت عن الإستجابة لدعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ووجوب عدم الغياب عن الجماعة دون استئذان منه(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أن نقول: إن كلا المعنيين مقصودان للآية واحدة، وأن مفهوم الآية شامل للتفسيرين الأوّل والثّاني .
و الآخر: ويبدو أنّه ضعيف جدّاً، وهو ألاّ تجعلوا دعاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على أحد الاشخاص ولعنه له كدعاء بعضكم على بعض(1)، لأنّ دعاء ولعن النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يتمّ وفق حساب دقيق وخاضع للتعاليم الإلهية، وهو نافذ حتماً.
و لكن ليس لهذا التّفسير علاقة بأوّل الآية ونهايتهاً، ولم يرد حديث إسلامي خاصّ به، ولهذا السبب لا يمكن قبوله.
و تجدر الإشارة إلى أنّ علماء الأُصول فسّروا عبارة (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) بأنّ أوامر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تدل على الوجوب، إلاّ أنّ هذا الإستدلال فيه نواقص اُشير إليها في علم الاُصول.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لقد جاء بعد كلمة الدعاء "لام" فإنّها تعني الإبتهال والدعاء، أمّا إذا جاء الحرف "على" فإنّها تعني الدعاء على شخص لغير صالحه، وإذا افتقدت الجملة أي من هذين الحرفين فيحتمل أن تتضمّن العبارة المعنيين.
[182]
و آخر آية من الآيات موضع البحث، ـ والتي هي آخر سورة النور ـ اشارة بليغة إلى قضية المبدأ والمعاد التي تعتبر دافعاً لإمتثال التعاليم الإلهية جميعاً، وضمان لتنفيذ جميع الأوامر والنواهي، ومنها التي وردت في هذه السورة حيث تقول: (ألا أن لله ما في السموات والأرض)
فإنّ الله العالم بكلّ شيء (قد يعلم ما أنتم عليه) أي يعلم أُسلوبكم في التعامل و أعمالكم واعتقادكم ومقاصدكم، فكلّها واضحة له سبحانه وتعالى. وثابتة في لوحة علمه (و يوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا) ويجازيهم بها (والله بكل شيء عليم).
و ممّا يلفت النظر تأكيد الآية ثلاث مرات على علم الله بأعمال البشر. ليشعر الإنسان أنّه مراقب بشكل دائم، ولا يخفى على الله شيء من أعمال هذا الإنسان أبداً. ولهذا الإعتقاد أثره التربوي الكبير ويضمن سيطرة الإنسان على نفسه إزاء الإنحرافات والذنوب.
إلهي، نوّر قلوبنا بنور العلم والإيمان، وقوِّ مشكاة وجودنا للمحافظة على هذا الإيمان، لنجتاز صراطك المستقيم الذي سار عليه أنبياؤك لكسب رضاك، ولتحفظنا بلطفك من كل انحراف.
ربّاه، نوّر أبصارنا بنور العفة، وقلوبنا بنور المعرفة، وأرواحنا بنور التقوى، ونور وجودنا كله بنور الهداية، واحفظنا من التيه والغفلة، وأعذنا من وساوس الشيطان.
إلهي، وطّد أركان حكومة العدل الإسلامي من أجل تنفيذ حدودك، واحفظ مجتمعنا من الزلل والسقوط في هاوية الرذيلة، إنك على كل شيء قدير.
نهاية سورة النور
* * *
[183]
سُورَةُ الفُرقانْ
مَكيَّة وَ عَدَدُ آياتِها سَبْع وَسَبْعُونَ آية
[185]
"سورة الفرقان"
محتوى سورة الفرقان:
هذه السورة بحكم كونها من السور المكية(1)، فإن أكثر ارتكازها على المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد، وبيان نبوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمواجهة مع الشرك والمشركين، والانذار من العواقب الوخيمة للكفر وعبادة الأصنام والذنوب.
و تتألف هذه السورة في مجملها من ثلاثة أقسام: ـ
القسم الأوّل: الذي يشكل مطلع هذه السورة، يدحض منطق المشركين بشدّة، و يستعرض ذرائعهم، ويردُّ عليها، ويخوفهم من عذاب الله، وحساب يوم القيامة، و عقوبات جهنم الأليمة، ويذكرّهم بمقاطع من قصص الأقوام الماضية الذين افترستهم على أثر مخالفتهم لدعوة الأنبياء ـ الشدائد والبلايا والعقوبات، وذلك على سبيل الدرس والعبرة لهؤلاء المشركين المعاندين.
في القسم الثانى: لأجل إكمال هذا البحث، تبحث الأيات بعض دلائل التوحيد ومظاهر عظمة الله في الأكوان، بدءاً من ضياء الشمس إلى ظلمة وعتمة الليل، وهبوب الرياح، ونزول الأمطار، وإحياء الأراضي الموات، وخلق السماوات والأرضين في ستة أيّام، وخلق الشمس والقمر، وسيرهما المنظم في الأفلاك السماوية، وما شابه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يُصر بعض المفسّرين على أن ثلاث آيات من هذه السورة (68، 69، 70) نزلت في المدينة، ولعل ذلك لأنّ أحكاماً مثل قتل النفس والزنا، شُرِّعت في هذه الآيات، في حين أن التدقيق في الآيات التي قبلها والتي بعدها، يكشف جيداً عن أنّ السياق واحد متصل ومنسجم تماماً حول (عباد الرحمن) وبيان أوصافهم، لذا فالظاهر أن السورة نزلت كلها في مكّة.
[186]
فالقسم الأوّل في الحقيقة ـ يحدد مفهوم (لا إله)، والقسم الثّاني يحدد مفهوم (إلاّ الله).
القسم الثالث: مختصر جذاب جدّاً، وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين (عباد الرحمن) وعباد الله المخلصين، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الأوّل، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماماً. كما أنّنا سنرى أنّ هذه الصفات مجموعة من الاعتقاديات والأعمال الصالحة ومكافحة الشهوات، وامتلاك الوعي الكافي، والإحساس والإلتزام بالمسؤولية الإجتماعية.
و اسم هذه السورة قد اُخذ من آيتها الأُولى، التي تعبر عن القرآن بـ "الفرقان" (الفاصل بين الحق والباطل).
فضيلة سورة الفرقان:
ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن "من قرأ سورة الفرقان (و تدبّر في محتواها وعمل بما ورد فيها) بعث يوم القيامة وهو مؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور".(1) (أي مؤمن بأن الساعة...)
و نقل في حديث آخر عن إسحاق بن عمار عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام أنّه قال له: "يابن عمار، لا تدع قراءة سورة (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) فإن من قرأها في كل ليلة لم يعذبه الله أبداً، ولم يحاسبه، وكان منزله في الفردوس الأعلى".(2)
كما أننا سنرى ـ في تفسير هذه السورة ـ أن كلَّ من تلا بحق صفات عباد الله المخلصين المبيّنة في السورة كما هي، وامتزجت بقلبه وروحه، وبنى صفاته أعماله طبقاً لها فإنّ منزِله الفردوس الأعلى.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان آخر الآية مورد البحث.
2 ـ ثواب الاعمال للصدوق، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 2 .
[187]
الآيتان
تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لَلْعَـلَمِينَ نَذيراً(1) الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ والأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَريكٌ فِى الْمُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً(2)
التّفسير
المقياس الأعلى للمعرفة:
تبدأ هذه السورة بجملة "تبارك" من مادة "بركة"، ونعلم أنّ الشيء ذو بركة، عبارة عن أنّه ذو دوام وخير ونفع كامل. يقول تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً).(1)
الملفت للإنتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالق عزَّوجلّ بواسطة نزول الفرقان، يعني أنّه أنزل قرآناً فاصلا بين الحق والباطل، وهذا يدل على أن أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة ـ معرفة الحق من الباطل.
و هنا وقفة مهمّة أيضاً، وهي أنّ كلمة "الفرقان" وردت بمعنى "القرآن" تارةً، و تارةً بمعنى معجزات مميزة للحق من الباطل، ووردت بمعنى "التوراة" تارةً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ورد شرح كلمة "البركة" في ج 5، آخر الآية (54) من سروة الأعراف، شرح اصل "البركة".
[188]
أخرى.
عن القرآن والفرقان، أهما شيئان، أو شيء واحد؟ فقال: "القرآن: جُملةُ الكتاب، والفرقان: المحكم الواجب العمل به".
ولا منافاة بين هذا القول وبين أنّ الفرقان هو جميع آيات القرآن، والمراد هو أنّ آيات القرآن المحكمات تعتبر مصداقاً أوضح وأبرز للفرقان وللتمييز بين الحق والباطل.
ولموهبة "الفرقان والمعرفة" أهمية بالغة بحيث أنّ القرآن المجيد ذكرها كمكافأة عظيمة للمتقين: (يا أيّها الذي آمنوا إنْ تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً..)(1).
نعم، فبدون التقوى لا يمكن تمييز الحق من الباطل، لأنّ الأهواء والذنوب تلقي على وجه الحق حجاباً كثيفاً، وتعمي بصر ابن آدم وبصيرته.
و على أية حال، فالقرآن المجيد هو الفرقان الأعلى.
القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في نظام حياة البشر.
القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في مسير الحياة الفردية والإجتماعية، وهو الميزان والمحك على صعيد الأفكار والعقائد، والقوانين، والأحكام، والآداب، والأخلاق.
وهذه الوقفة مهمّة أيضاً، حيث يقول تعالى (نزّل الفرقان على عبده) نعم، فمقام العبودية والإنقياد التامّين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان، ولتلقي موازين الحق والباطل.
والنكتة الأخيرة التي طرحت في هذه الآية، تبيّن أنّ هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين، الإنذار الذي نتيجته الإحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق الإنسان. وعبارة "للعالمين" كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الأنفال، الآية 29 .
[189]
عالمية لا تختص بمنطقة معينة، ولا بقوم أو عنصر معينين. بل إن بعضهم قد استدل منها على خاتمية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أن "العالمين" كما أنّها غير محدودة من حيث المكان، فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضاً، فـ "العالمين" تشمل جميع الأجيال القادمة أيضاً (فتأمل!).
الآية الثّانية تصف الله الذي نزل الفرقان بأربع صفات، صفة منها هي الأساس، والبقية نتائج وفروع لها، فتقول أوّلا: (الذي له ملك السموات والأرض)(1).
نعم، إنّه الحاكم على كل عالم الوجود، وكل السماوات والأرض، فلا شيء خارج عن سلطة حكومته، وبالإلتفات إلى تقدم "له" على "ملك السموات" الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض منحصرة به تبارك وتعالى، ذلك لأن حكومته عامّة وخالدة وواقعية، بخلاف حاكمية غيره التي هي جزئية ومتزلزلة. وفي نفس الوقت فهي مرتبطة به سبحانه.
ثمّ يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الأُخرى، فيقول تعالى: (ولم يتخذ ولداً)(2).
و كما قلنا من قبل فإن الحاجة إلى الولد من حيث الأصل إمّا لأجل الإستفادة من طاقته البشرية في الأعمال، أو لأجل الإستعانة به حال الضعف والعجز والشيخوخة، أو لأجل الإستئناس به في حال الوحدة، ومن المعلوم أن ذاته المقدسة عزَّوجلّ منزّهة عن أي واحد من تلك الإحتياجات.
وبهذا الترتيب، يدحض اعتقاد النصارى بأنّ "المسيح"(عليه السلام) ابن الله، أو ما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة (المُلْك) كما يقول "الراغب" في "المفردات" بمعنى تملك الشيء والحاكمية عليه، في حين أن (المِلْك) ليس دليلا على الحاكمية وتصرف المالك دائماً. وبهذا الترتيب: فكلُ مُلك مُلكاً، في حين أنّ ليس كل مِلك مُلكاً.
2 ـ ورد إيضاح أكثر حول نفي الولد عن الله تعالى، ودلائل ذلك في تفسير الآية (116) من سورة البقرة.
[190]
يعتقده اليهود أنّ "العزير" ابن الله، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب، ثمّ يضيف جل ذكره: (ولم يكن له شريك في الملك).
فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء، ويتوهمونهم شركاء لله في العبادة، ويتوسلون بهم من أجل الشفاعة، ويسألونهم المعونة لقضاء حوائجهم، حتى آل بهم الأمر أنّهم كانوا يقولون بصراحة ـ حين التلبية للحج ـ جملا قبيحة ملوثة بالشرك، مثل: "لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك". فإنّ القرآن يدين ويدحض كل هذه الأوهام.
و يقول تعالى في العبارة الأخيرة: (وخلق كلَّ شيء فقدّره تقديراً).
ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأن قسماً من موجودات هذا العالم مخلوقات "الله"، وأن قسماً منها مخلوقات "الشيطان".
و بهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين الله والشيطان، ذلك لأنّهم كانوا يتوهمون الدنيا مجموعة من "الخير" و "الشر"، والحال ألاّ شيء في عالم الوجود إلاّ الخير من وجهة نظر الموحد الحق. فإذا رأينا شرّاً، فإمّا أن يكون ذا جنبة "نسبية" أو "عدمية"، أو أن يكون نتيجة لأعمالنا (فتأمل)!.
* * *
بحث
تقدير الموجودات بدقة:
ليس نظام العالم الدقيق والمتقن ـ وحده ـ من الدلائل المحكمة على معرفة الله وتوحيده، فتقديراته الدقيقة أيضاً دليل واضح آخر، أنّنا لا يمكن أن نعتبر مقادير موجودات هذا العالم المختلفة، وكميتها وكيفيتها المحسوبة، معلولة للصدفة التي لا تتوافق مع حساب الإحتمالات.
و قد تقصّى العلماء الأمر في هذا الصدد، وأزاحوا الستار عن أسراره
[191]
المدهشة التي تذهل فكر الانسان، وتترك لسانه يترنم بتمجيد عظمة وقدرة الخالق بلا اختيار.
و نعرض لكم ـ ها هنا ـ جانباً من ذلك:
يقول العلماء: لو كانت قشرة الأرض أسمك ممّا هي عليه الآن بمقدار بضعة أقدام، لما وجد غاز "الاوكسجين" الذي يعتبر المادة الاصلية للحياة، ولو كانت البحار أعمق من عمقها الفعلي عدّة أقدام لا متصت جميع ما في الجو من الكاربون و الاوكسجين، ولما امكن وجود حياة لحيوان ونبات على سطح الارض، ويحتمل أن تقوم قشرة الأرض والبحار بامتصاص كل الأوكسجين، وكان على الانسان أن ينتظر نمو النباتات التي تلفظ الأوكسجين.
وطبقاً للحسابات الدقيقة في هذا المجال يتّضح أنّ للأوكسجين مصادر مختلفة، ولكن مهما كان مصدره فإنّ كميته مطابقة لاحتياجاتنا بالضبط.
ولو كانت طبقة الغلاف الجوي أرق ممّا هي عليه الآن ممّا هو، فإنّ بعض الشهب التي تحترق كل يوم بالملايين في الهواء الخارجي، كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثّانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للإحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة، ولو تعرض الأنسان للاصطدام بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة، لتحول الى رماد لمجرّد حرارته.
الغلاف الجوي سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلاّ إذا عرّض نفسه لها مدة أطول من اللازم. وعلى الرغم من الإنبعاثات الغازية من اعماق الأرض طول الدهور، ومعظمها سام، فإنّ الهواء باق دون تلوث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان.
إنّ الجهاز الذي يقوم بهذه الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء،
[192]
أى البحار والمحيطات التي هي مصدر الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، وأخيراً استمد الإنسان نفسه جميع تلك المقومات الحيوية منهما، فدع من يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته تعالى، ويقرُّ بواجباته شاكراً!
إنّ التعادل العجيب بين الأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية، وعالم النبات كلّه، قد استرعت أنظار كل العالم المفكر، غير أن أهمية ثاني أوكسيد الكاربون لم يدركها الجميع بعد، وثاني أوكسيد الكاربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا، وهوغاز ثقيل، ولحسن الحظ يعلق بالأرض، و لايتمّ فصله إلى أوكسجين وكاربون إلاّ بصعوبة كبيرة، وإذا أشعلت ناراً، فإنّ الخشب ـ الذي يتكون غالباً من الأوكسجين والكاربون والهيدروجين ـ يتحلل تحت تأثير الحرارة ويتحد الكاربون مع الأوكسجين بشدّة، وينتج من ذلك ثاني أوكسيد الكاربون. والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الأوكسجين فنحصل على بخار الماء. ومعظم الدخان هو كاربون خالص غير متحد مع غيره.
وحين يتنفس رجل فإنّه يستنشق الأوكسجين فيتلقاه الدم، ويقوم بتوزيعه الى جميع انحاء جسمه، ويقوم هذا الأكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبياً، النتيجة هي ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء.
و بذلك يتسلل ثاني أوكسيد الكاربون إلى رئتيه، ويعود الى الجو مرّة اُخرى من خلال الزفير، وكلّ كائن حيواني حي يمتص الاوكسجين ويلفظ ثاني اوكسيد الكاربون.
ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان ـ مهما يكن من وحشيته، أو ضخامته، أو مكره ـ من السيطرة على العالم غير أنّ الإنسان وحده بامكانه قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر، وسرعان ما يلقى جزاءه القاسي على ذلك ماثلا في تطورات آفات الحيوان
[193]
والحشرات والنبات.
والواقعة الآتية مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان، فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبّار (الكاكتوس) في أستراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطي مساحة تقرب من مساحة إنجلترا، وزاحم أهالي المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة، ولم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الإنتشار، وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع الصامت، يتقدم في سبيله دون عائق!
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبار ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدو يعوقها في أستراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبّار، ثمّ تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبّار عن الأنتشار إلى الابدّ.
وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية.
ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم وتقتل بذلك النوع البشري مع أن البعوض متوفر في جميع انحاء العالم حتى في القطبين؟ ومثل ذلك أيضاً يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك.
و لماذا لم تتطور ذبابة "تسي تسي" "الذبابة المنومة" حتى تستطيع أن تعيش في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفتاكة التي لم يكن منها وقاء حتى الأمس القريب، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري معها يدعو حقاً إلى الدهشة!(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُقتباس من كتاب "الإنسان لا يقوم وحده" تأليف كريسي موريسون، ترجمه محمود صالح الفلكي بعنوان (العلم يدعو للإيمان)، من الصفحات 65، 66، 70، 71، 159، 160.
[194]
الآيات
وَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعَاً وَلاَ يَمْلِكونَ مَوْتاً ولاَ حَيَوةً وَلاَ نُشُوراً(3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّإفْكٌ افْتَرِاهُ وَأَعَانَهُ عَليْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُو ظُلْماً وَزُوراً (4)وَقَالُواْ أسَـطِيرُ الاَْوَّلينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيلا(5) قُلْ أنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(6)
التّفسير
الإِتهامات المتعددة الألوان:
هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان. ثمّ في الإدعاءات الواهية لعبدة الأوثان، واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن، وشخص النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
الآية الأُولى ـ في الواقع ـ تجر المشركين إلى المحاكمة، ولتحريك وجدانهم
[195]
تقول بمنطق واضح وبسيط، وفي نفس الوقت قاطع وداحض: (واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون).
المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود، ولا يدعي المشركون هذا الإدعاء لأوثانهم، بل يعتقدون أنّها مخلوقة لله.
وبعدُ، فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فما بالك بما تستطيعه للآخرين!؟ (ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً).
والاُصول المهمّة عند الإنسان هي هذه الأُمور الخمسة بالذات: النفع والضر، والموت، والحياة، والنشور.
فمن يكن بحق مالكاً أصيلا لهذه الأُمور، يكن بالنسبة إلينا جديراً بالعبادة.
لكن هذه الأصنام غير قادرة أصلا على هذه الأُمور لنفسها، فكيف تريد أن توفّر هذه الاُمور لمن يعبدها من المشركين؟!
أي منطق مفتضح هذا!؟ أن ينقاد الإنسان ويتذلل على أعتاب موجود لا اختيار له في نفسه، فما بالك باختياره للآخرين!؟
هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب، بل إنّها لا يؤمل منها شيء في الآخرة أيضاً.
هذا التعبير يدل على أنّ هذه الفئة من المشركين، المخاطبة في هذه الآيات، كانت تقبل بالمعاد نوعاً من القبول (المعاد الروحي لا الجسدي)، أو أن القرآن ـ حتى مع عدم اعتقادهم بمسألة المعاد ـ يتناول القضية كمسلّمة، فيخاطبهم بشكل قاطع على هذا الصعيد، وهذا مألوف، فالإِنسان أحياناً يكون أمام شخص منكر للحقيقة، لكنّه يدلي بكلامه طبقاً لأفكاره هو، دون اعتناء بأفكار ذلك المنكر. خاصّة وأنّ دليلا ضمنياً على المعاد قد كمن في نفس الآية، لأنّ خالقاً حينما يبتدع مخلوقاً ـ وهو مالك موته وحياته وضرّه ونفعه ـ لابدّ أن يكون له هدف من خلقه،
[196]
ولايمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس بدون الإِيمان بالنشور، ذلك لأنّه إذا انتهى بموت الإِنسان كل شيء، فسوف تكون الحياة فارغة بلا معنى، وهذا يدلّ على أن ذلك الخالق لم يكن حكيماً.
إذا تأملنا جيداً وجدنا مسألة "الضرر" جاءت في الآية قبل "النفع" وذلك لأن الإِنسان ينفر من الضرر بالدرجة الأُولى، ولهذا كانت جملة "دفع الضرر أولى من جلب المنفعة" أحد القوانين العقلائية.
وإذا كان "الضرر" و "النفع" و "الموت" و "الحياة" و "النشور" جاءت بصيغة النكرة، أيضاً، فلأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أن هذه الأوثان لا تملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، حتى في مورد واحد، فما بالك بالموارد كلها!؟
وإذا ذكرت "لا يملكون" و "لا يخلقون" بصيغة "جمع المذكر العاقل" (في حال أنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور) فذلك لأنّ هذا الخطاب لا يتعلق بالأوثان الحجرية والخشبية فحسب، بل بالجماعة التي كانت تعبد الملائكة أو المسيح، ولأن العاقل وغير العاقل مجتمعان في معنى هذه الجملة، فذكر الجميع بصيغة العاقل من باب "التغليب" كما في الإِصطلاح الأدبي.
أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقاً لإعتقاد المخاطبين به، حتى يثبت عجزهم وعدم استطاعتهم، يعني: إذا كنتم تعتقدون أن هذه الأوثان ذات عقل وشعور، فلماذا لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضرراً، أو أن تجلب منفعة!؟
الآية التالية ـ تتناول تحليلات الكفار ـ أو حججهم على الأصح ـ في مقابل دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (وقال الذين كفروا إن هذا إلاّ إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون).
في الواقع، إنّهم من أجل أن يلقوا عن عواتقهم مسؤولية تحمل الحق ـ شأن كل الذين أصروا على معارضة القادة الربانيين على طول التاريخ ـ اتهموا الرّسول
[197]
صلّى الله عليه وآله وسلّم أوّلا بالإِفتراء والكذب، خاصّة وأنّهم قد استخدموا لفظة "هذا" ليحقروا القرآن.
ثمّ من أجل أن يثبتوا أنّه غير قادر على الإِتيان بمثل هذا الكلام ـ لأنّ الإِتيان بمثل هذا الكلام المبين مهما يكن بحاجة إلى قدرة علمية وافرة، وما كانوا يريدون التسليم بهذا ـ ومن أجل أن يقولوا أيضاً: إنّ هذا خطّة مدبرة ومحسوبة، قالوا: إنّه لم يكن وحده في هذا العمل، بل أعانه قوم آخرون، وهذه مؤامرة بالتأكيد، ويجب الوقوف بوجهها.
بعض المفسّرين قالوا: إنّ المقصود بـ (قوم آخرون) جماعة من اليهود.
وقال آخرون: إنّ المقصود بذلك ثلاثة نفر كانوا من أهل الكتاب، وهم: "عداس" و "يسار" و "حبر" أو "جبر".
على أية حال ـ بما أنّ هذه المواضيع لم يكن لها وجود في أوساط مشركي مكّة، وإنّ قسماً منها مثل قصص الأنبياء الأولين كان عند اليهود وأهل الكتاب ـ فقد كان المشركون مضطرين الى نسبة هذه المطالب الى أهل الكتاب كي يخمدوا موجة إعجاب الناس من سماع هذه الآيات.
لكن القرآن يردُّ عليهم في جملة واحدة فقط، تلك هي: (فقد جاؤوا ظلماً وزوراً).(1)
"الظلم" هنا لأنّ رجلا أميناً طاهراً وصادقاً مثل الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) اتّهموه بالكذب والإِفتراء على الله، وبالإِشتراك مع جماعة من أهل الكتاب. فظلموا أنفسهم والناس أيضاً.
و "الزور" هنا أن قولهم لم يكن له أساس مطلقاً، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دعاهم عدّة مرات إلى الإِتيان بسورة وآيات مثل القرآن، فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "جاؤا" من مادة "مجيء": يراد بها عادة معنى "القدوم"، لكنّها وردت هنا بمعنى "الإتيان"، كما نقرأ أيضاً في الآية (81) سورة يونس أن موسى(عليه السلام) قال للسحرة "ما جئتم به السحر".
[198]
وهذا بالذات يدل على أن هذه الآيات ليست من صنع عقل البشر، لأنّ الأمر لو كان كذلك، لكانوا يستطيعون بمعونة جماعة اليهود وأهل الكتاب أن يأتوا بمثلها. ومن هنا فإنّ عجزهم دليل على كذبهم، وكذبهم دليل على ظلمهم.
لهذا فالجملة، القصيرة (فقد جاؤوا ظلماً وزوراً) رد بليغ وداحض في مواجهة ادعاءاتهم الواهية.
كلمة "زور" في الأصل من "زَور" (على وزن غور) أخذت بمعنى: أعلى الصدر، ثمّ أطلقت على كل شيء يتمايل عن حدّ الوسط، وبما أن "الكذب" انحرف عن الحق، ومال إلى الباطل، فقد، سمّوه "زوراً".
تتناول الآية التالية لوناً آخر من التحليلات المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن، فتقول: (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها).
لا شيء عنده من قبل نفسه، لا علم ولا ابتكار، فكيف له بالنّبوة والوحي! إنّه استعان بآخرين، فجمع عدّة من الأساطير القديمة، وأطلق عليها اسم الوحي والكتاب السماوي. وهو يستلهمها من الآخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا).
إنّه يتلقى المعونة لأجل هدفه في الأوقات التي يقلُّ فيها تواجد الناس، أي بكرة وعشياً.
هذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تفسير وتوضيح للإِتهامات التي نقلت عنهم في الآية السابقة. إنّهم في هذه الجملة القصيرة أرادوا أن يفرضوا على القرآن مجموعة من نقاط الضعف:
أوّلها: أن ليس في القرآن موضوع جديد مطلقاً، بل مجموعة من الأساطير القديمة.
و الثّانية: أنَّ نبي الإِسلام لا يستطيع الإستمرار بدعوته ـ حتى يوماً واحداً ـ بدون مساعدة الآخرين، فلابدّ أن يُملوا الموضوعات عليه بكرة وعشياً، وعليه أن
[199]
يكتبها.
والأُخرى: أنّه يعرف القراءة والكتابة. فإذا قال: إنّني اُمّي، فهي دعوى كاذبة.
إنّهم ـ في الواقع ـ كانوا يريدون أن يفرقوا الناس عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة هذه الأكاذيب والإتهامات، في الوقت الذي يعلم كل العقلاء الذين عاشوا مدّة في ذلك المجتمع، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن قد درس عند أحد، مضافاً إلى أنّه لم تكن له أية رابطة مع جماعة اليهود وأهل الكتاب. وإذا كان يستلهم من الآخرين كل يوم بكرة وعشياً، فكيف أمكن أن يخفى على أحد؟ فضلا عن هذا، فإن آيات القرآن كانت تنزل عليه في السفر والحضر، بين الناس ومنفرداً، وفي كل حال.
مضافاً إلى كل هذا، كان القرآن مجموعة من التعليمات الإِعتقادية، والأحكام العملية، والقوانين، ومجموعة من قصص الأنبياء، ولم تكن قصص الأنبياء لتشكل كل القرآن، مضافاً إلى أنّ ما ورد من قصص الأقوام الأولين في القرآن لم يكن له شبه لما جاء في العهدين (التوراة والإِنجيل) المحرفين، وأساطير العرب الخرافية، لذلك لأنّ ما في العهدين مليء بالخرافات، والقرآن منزّه عنها، ولو وضعنا القرآن والعهدين جنباً إلى جنب، وقايسنا بينهما، فسوف تتجلى حقيقة الأمر جيداً.(1)
لذا فالآية الأخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه الإِتهامات الواهية، فتقول: (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض). إشارة إلى أن محتوى هذا الكتاب، والأسرار، المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ الأقوام الأولين، والقوانين والإِحتياجات البشريه، وحتى أسرار عالم الطبيعة والأخبار المستقبلية،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يعتقد جماعة من المفسّرين أنّ المراد من جملة (اكتتبها): هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أراد من الآخرين أن يكتبوا له هذه الآيات، وكذلك، جملة (تملى عليه) مفهومها: هو أنّ أُولئك كانوا يلقونها إليه، وكان هو يحفظها. لكنّه مع الإلتفات إلى أنّنا لا دليل لدينا على حمل هاتين الجملتين على خلاف الظاهر، يكون التّفسير الذي ورد في المتن هو الأصح، ففي الواقع إن أولئك كانوا يريدون أن يتهموا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا الطريق، بأنّه يقرأ ويكتب، لكنّه كان يظهر نفسه أمياً عمداً.
[200]
تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر، ولم ينظم بمساعدة هذا أو ذاك. بل بعلم الذي هو جدير بأسرار السماء والأرض، والمحيط بكل شيء علماً.
لكن مع كل هذا، فإن القرآن يترك طريق التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء المغرضين والمنحرفين، فيقول تبارك وتعالى في ختام الآية (إنّه كان غفوراً رحيماً).
فبمقتضى رحمته أرسل الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل الإِيمان والتوبة عن ذنوبكم التي لا تحصى.
* * *
[201]
الآيات
وَقَالُواْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ االطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاَْسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً(7) أَوْيُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْتَكوُنُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّـلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُوراً(8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاَْمثَـلَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا(9) تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورا(10)
سبب النّزول
في رواية عن الإِمام الحسن العسكري(عليه السلام)، أنّه قال: قلت لأبي علي بن محمد(عليهما السلام): هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجّهم؟ قال: مراراً كثيرة وذلك أنّ رسول الله كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة، فابتدأ عبدالله بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمد لقد أدّعيت دعوى عظيمة، وقلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، وما ينبغي لربّ العالمين
[202]
وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشراً مثلنا، تأكل كما نأكل وتمشي في الأسواق كما نمشي، فقال رسول الله: اللّهمّ أنت السامع لكل صوت، والعالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك فأنزل الله عليه: يا محمد: (وقالوا ما لهذا الرّسول...)إلى قوله تعالى (و يجعل لك قصوراً).(1)
التّفسير
لم لا يملك هذا الرّسول كنوزاً وجنات؟!
عُرض في الآيات السابقة قسم من إشكالات الكفار فيما يخص القرآن المجيد، وأجيب عليها، ويعرض في هذه الآيات قسم آخر يتعلق بشخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويجاب عنها، فيقول تعالى: (وقالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق).
ما هذا النّبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من الأفراد العاديين؟ ويمشي في الأسواق من أجل الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة الرسل ولا طريقة الملوك والسلاطين! وفي الوقت الذي يريد هذا الرّسول التبليغ بالدعوة الإِلهية، ويريد أيضاً السلطنة على الجميع!
لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.
ثمّ أضافوا: (لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً)، فلِمَ لم يُرسل إليه ـ على الأقل ـ ملك من عند الله، شاهد على صدق دعوته، وينذر معه الناس!؟
حسن جداً، لنفرض أنّنا وافقنا على أن رسول الله يمكن أن يكون إنساناً، ولكن لماذا يكون فقيراً فاقداً للثروة والمال!؟ (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، الجزء 4، الصفحة 6 .
[203]
يأكل منها).
ولم يكتفوا بهذا أيضاً، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها (وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلا مسحوراً). ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أن السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم!
من مجموع الآيات أعلاه، يستفاد أنّ المشركين كانت لديهم عدّة إشكالات واهية حول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يتنازلون عن مقالتهم مرحلة بعد مرحلة.
أوّلا: إنّه أساساً يجب أن يكون ملكاً، وهذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ليس ملكاً بالضرورة.
ثمّ قالوا: حسن جدّاً، إن لم يكن ملكاً، فيرسل اللّه ـ على الأقل ـ ملكاً يرافقه ويعينه.
ثمّ تنازلوا عن هذا أيضاً، فقالوا: لنفرض أن رسول الله بشر، فينبغي أن يُلقى إليه كنز من السماء، ليكون دليلا على أنه موضع اهتمام الله.
وقالوا في نهاية المطاف: لنفرض أنه لم يكن له أىٌّ من تلك الميزات، فينبغي على الأقل ألا يكون إنساناً فقيراً، فليكن كأي مزارع مرفه، له بستان يضمن منه معيشته. لكنّه فاقد لكلّ هذا مع الأسف، ويقول إنّني نبيّ!؟
واستنتجوا في الختام، أنّ ادعاءة الكبير هذا، في مثل هذه الشرائط، دليلٌ على أن ليس له عقل سليم.
الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإِشكالات في عبارة موجزة: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا).
هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بالله ـ ليخفوا وجه الحقيقة.
[204]
حقّاً، إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدلالاتنا المنطقية من خلال حفنة من الحجج، الواهية: فنقول من دون الاجابة عليها بالتفصيل: انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمام الدليل المنطقي.
و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها، لأن:
أوّلا: لماذا يجب أن يكون الرّسول من جنس الملائكة؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم، كما يحكم به العقل والعلم، حتى يدرك جميع آلام ورغبات وحاجات ومشكلات ومسائل حياة الانسان تماماً، ليكون قدوة عملية له على كل المستويات، وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج، ومن المسلّم أن تأمين هذه الأهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملائكة، ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم الإِهتمام بالدنيا: إنّه ملك، وليست له حاجات مادية تجرّه إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس: إنه لا يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية، وعشرات (إذا) مثل تلك.
ثانياً: ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشراً من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لإدراك هذه الحقيقة، وخاصّة معجزة عظيمة كالقرآن!
ثالثاً: أكل الطعام كسائر الناس، والمشي في الأسواق يكون سبباً للإندماج بالناس أكثر، والغوص في أعماق حياتهم، ليؤدي رسالته بشكل أفضل.
رابعاً: عظمة الرّسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ولا بساتين النخيل والفواكه الطازجة، هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة ـ و حتى القرب من الله ـ في الأثرياء خاصّة، في حال أنّ الأنبياء جاؤوا ليقولوا: أيّها الإِنسان، إنّ قيمة وجودك ليست بهذه الأشياء، إنّها بالعلم والتقوى والإِيمان.
خامساً: بأي مقياس كانوا يعتبرونه "مسحوراً" أو "مجنوناً"؟ الشخص الذي كان عقله معجزاً بشهادة تأريخ حياته وانقلابه العظيم وتأسيسه الحضارة الإِسلامية، كيف يمكن إتهامه بهذه التهمة المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم
[205]
الأصنام ورفض الإِتباع الأعمى للأجداد دليل على الجنون؟!
إتضح بناءً على ما قلناه أن (الأمثال) هنا، خاصّة مع القرائن الموجودة في الآية، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية، ولعل التعبير عنها بـ (الأمثال) بسبب أنّهم يلبسونها لباس الحق فكانها مثله، وأقوالهم مثل الأدلة المنطقية، في حال أنّها ليست كذلك واقعاً.(1)
و ينبغي أيضاً الإِلتفات إلى هذه النكتة، وهي أنّ أعداء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتهمونه ـ بـ "الساحر" وأحياناً بـ "المسحور" وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل أن "المسحور" بمعنى "الساحر" (لأن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحياناً) ولكن الظاهر أن بينهما فرقاً.
عندما يقال عنه بأنّه ساحر، فلأن كلامه كان ذا نفوذ خارق في القلوب، ولأنّهم ما كانوا يريدون الإِقرار بهذه الحقيقة، فقد لجأوا إلى اتهامه بـ "الساحر".
أمّا "المسحور" فمعناه أن السحرة تدخّلوا في عقله وتصرفوا به، وعملوا على اختلال حواسه، هذا الإِتّهام نشأ من أن الرّسول كان محطماً لسنتهم، ومخالفاً لعاداتهم وأعرافهم الخرافية، وقد وقف في وجه مصالحهم الفردية.
أمّا جواب جميع هذه الإِتهامات فقد اتضح من الكلام أعلاه
و هنا يأتي هذا السؤال، وهو أنّه لماذا قال تعالى: (فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا).
الجواب هو أنّ الإِنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما، إذا كان مريداً للحق باحثاً عنه، أمّا من يتخذ موقفه ـ ابتداءً ـ على أساس أحكام
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كثير من المفسّرين اعتبروا (الامثال) هنا بمعنى (التشبيهات) لكنّهم لم يوضحوا هنا ما هي التشبيهات التي قدمها المشركون، وبعض آخر اعتبر (الأمثال) هنا بمعنى (الصفات)، لأن أحد معاني (المثل) ـ طبقاً لما قاله الراغب في المفردات هو (الصفة)، فالمقصود هنا هي الصفة الواهية التي لا أساس لها، ذلك لأن ما في صدر وذيل الآية القرآنية أعلاه يدل على هذا المعنى، فمن جانب يقول بعنوان التعجب: انظر آية أمثال ضربوا؟ ومن جانب آخر يقول: الاوصاف التي تؤدي الى ضلالهم الذي لا هداية بعده.
[206]
مسبّقة خاطئة ومضلّة، نابعة من الجهل والتزمت والعناد، فمضافاً إلى أنّه لا يعثر على الحق، فإنّه سيتخذ موقعه ضد الحق دائماً.
الآية الأخيرة مورد البحث ـ كالآية التي قبلها ـ توجه خطابها إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على سبيل تحقير مقولات أُولئك، وأنّها لا تستحق الإِجابة عليها، يقول تعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً).
و إلاّ، فهل أحدٌ غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور البساتين؟!
لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أن مكانتك مردُّها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية. إنه يريد أن تكون حياتك كالأفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين، حتى يمكنك أن تكون ملاذاً لجميع هؤلاء ولعموم الناس.
أمّا لماذا يقول قصوراً وبساتين أفضل ممّا أراده أُولئك؟ فلأن "الكنز" وحده ليس حلاّل المشاكل، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين، مضافاً الى أنّهم كانوا يقولون: ليكن لك بستان يؤمن معيشتك، أمّا القرآن فيقول: إن الله قادر على أن يجعل لك قصوراً وبساتين، لكن الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر.
ورد في "الخطبة القاصعه" من "نهج البلاغة" بيان معبر وبليغ: هنالك حيث يقول الإِمام(عليه السلام):
"... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(عليهما السلام) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال: "ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال
[207]
الفقر والذل، فهلاّ أُلقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه. ولو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذُهبان، ومعادان العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله اُولي قوّة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً، وخصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذىً.
و لو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرام وعزّة لا تُضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتِشدُّ إليه عُقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الإِعتبار وأبعد لهم في الإِستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّاتُ مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والإِستكانة لأمره والإِستسلام لطاعته، أموراً له خاصّة لا تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والإِختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل".(1)
و الجدير بالذكر أنّ البعض يرى بأنّ المراد بالجنّة والقصور، جنّة الآخرة قصورها، لكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية بأي وجه.(2)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الخطبة القاصعة"، الخطبة 192 نهج البلاغة.
2 ـ وكذلك الذين قالوا: إن المقصود هو جنات الدنيا وقصور الآخرة، فالفعلان الماضي والمضارع (جعل ويجعل) اللذان في الاية، ينبغي ألا يكونا باعثاً على هكذا وهم أيضاً، لأنّنا نعلم طبقاً لقواعد الأدب العربي، أن الأفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني.
[208]
الآيات
بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَاَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)إِذا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانِ بَعيد سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً(12) وَإِذَآ أُلْقُوأ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَواْ هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لاَّ تَدْعُواْ الْيَوَمَ ثُبُوراً وَحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً(14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً(15) لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَـلِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولا(16)
التّفسير
مقارنة بين الجنة والنار:
في هذه الآيات ـ على أثر البحث في الآيات السابقة حول إنحراف الكفار في مسألة التوحيد والنّبوة ـ يتناول القرآن الكريم قسماً آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والإِنحراف في تمام أصول الدين، في التوحيد، وفي النبوة، وفي المعاد، حيث ورد القسمان
[209]
الأولان منه في الآيات السابقة، ونقرأ الآن القسم الثالث:
يقول تعالى أوّلا: (بل كذبوا بالساعة).
وبما أنّ كلمة "بل" تستعمل لأجل "الإِضراب" فيكون المعنى: أن ما يقوله أُولئك الكفار على صعيد نفي التوحيد والنبوة، إنّما ينبع في الحقيقة من إنكارهم المعاد، ذلك أنه إذا آمن الانسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإِلهي، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الإِستهزاء واللامبالاة، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النّبي وبراهينه الظاهرة، ولن يتذلل أمام الأصنام التي صنعها وزينّها بيده.
لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي، ذلك لأن هذه الفئة لم تكن من أهل الإِستدلال والمنطق، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم، فهذا الاسلوب قد يكون أقوى تأثيراً لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلا: (واعتدنا لمن كذّب بالساعة سعيراً).(1)
ثمّ وصف هذه النار المحرقة وصفاً عجيباً، فيقول تعالى: (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً).
في هذه الآية، تعبيرات بليغة متعددة، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإِلهي:
1 ـ إنّه لا يقول: إنّهم يرون نار جهنم من بعيد، بل يقول: إن النار هي التي تراهم ـ كأن لها عيناً وأُذناً ـ فسمّرت عينها على الطريق بانتظار هؤلاء المجرمين.
2 ـ إنّها لا تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون منها، حتى تهيج، بل إنّها تزفر من مسافة بعيدة.. من مسافة مسيرة عام، طبقاً لبعض الروايات.
3 ـ وصفت هذه النار المحرقة بـ "التغيظ" وذلك عبارة عن الحالة التي يعبّر بها الإِنسان عن غضبه بالصراخ والعويل.
4 ـ إن لجهنم "زفيراً" يعني كما ينفث الإِنسان النفس من الصدر بقوة، وهذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "سعير" من "سَعْر" على وزن "قعر" بمعنى التهاب النار، وعلى هذا يقال للسعير: النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة.
[210]
عادة في الحالة التي يكون الإِنسان مغضباً جداً.
مجموع هذه الحالات يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه "نستجير بالله".
هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى: (وإذا أُلقوا منها مكاناً ضيقاً مقرّنين دعوا هنالك ثبوراً).(1)
هذا ليس لأنّ جهنم صغيرة، فإنّه طبقاً للآية (30) من سورة ق (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) فهي مكان واسع، لكن أُولئك يُحصَرون مكاناً ضيقاَ في هذا المكان الواسع، فهم "يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط".(2)
كما أن كلمة "ثبور" في الأصل بمعنى "الهلاك والفساد"، فحينما يجد الإِنسان نفسه أمام شيء مخيف ومهلك، فإنّه يصرخ عالياً "واثبورا" التي مفهومها ليقع الموت عليّ".
لكنّهم يجابون عاجلا (لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً).
على أية حال، فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء، ولن يكون ثمّة موت أو هلاك، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم.
هذه الآية في الحقيقة تشبه الآية (16) من سورة الطور حيث يقول تعالى (أصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون).
مَن هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل على أنّهم ملائكة العذاب، ذلك لأنّ حسابهم مع هؤلاء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "مقرنين" من "قرن" بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما، ويقولون للحبل الذي يربطون به الأشياء "قرن"، ويقولون أيضاً لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلاسل "مقرّن" (من أجل توضيح أكثر في المسألة راجع آخر الآية (49) من سورة إبراهيم).
2 ـ مجمع البيان، آخر الآية مورد البحث.
[211]
وأمّا لماذا يقال لهم هنا: (لا تدعوا ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً)؟ ربّما كان ذلك لأنّ عذابهم الأليم ليس مؤقتاً فينتهي بقول (واثبورا) واحداً، بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة، علاوة على أنّ العقوبات الإِلهية لهؤلاء الظالمين المجرمين متعددة الألوان، حيث يرون الموت أمام أعينهم إزاء كل مجازاة، فتعلوا أصواتهم بـ (واثبورا)، فكأنّهم يموتون ثمّ يحيون وهكذا.
ثمّ يوجه الخطاب إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويأمره أن يدعو أُولئك إلى المقايسة، فيقول تعالى: (قل أذلك خيرٌ أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراً).
تلك الجنّة التي (لهم فيها ما يشاؤون).
تلك الجنّة التي سيبقون فيها أبداً (خالدين).
أجل، إنّه وعد الله الذي اُخذه على نفسه: (كان على ربّك وعداً مسؤولا).
هذا السؤال، وطلب هذه المقايسة، ليس لأن أحداً لديه شك في هذا الأمر، وليس لأن تلك العذابات الأليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي لا نظير لها، بل إن هذا النوع من الأسئلة والمطالبة بالمقارنة لأجل إيقاظ الضمائر الهامدة، حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد، وعلى مفترق طريقين:
فإذا قالوا في الجواب: إنّ تلك النعم أفضل وأعظم (وهو ما سيقولونه حتماً) فقد حكموا على أنفسهم بأنّ أعمالهم خلاف ذلك. وإذا قالوا: إنّ العذاب أفضل من هذه النعمة، فقد وقّعوا على وثيقة جنونهم، وهذا يشبه ما إذا حذرنا شاباً ترك المدرسة والجامعة بقولنا: اعلم أنّ السجن هو مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد، ترى السجن أفضل أم الوصول إلى المقامات الرفيعة!؟
* * *
[212]
ملاحظات
1 ـ ينبغي الإِلتفات أوّلا إلى هذه النكتة، وهي الايات الكريمة وصفت الجنّة بالخلود تارةً وصفة لأهل الجنّة تارةً أُخرى، ليكون تأكيداً على هذه الحقيقة، وهي كما أن الجنة خالدة، فكذلك ساكنوها.
2 ـ قوله تعالى (لهم فيها ما يشاؤون) جاءت في مقابل حال الجهنميين في الآية (54) من سورة سبأ (وحيل بينهم وبين ما يشتهون).
3 ـ التعبير بـ "مصير" بعد كلمة "جزاء" بالنسبة إلى الجنّة، كله تأكيد على ما يدخل في مفهوم الجزاء، وهو بجميعه نقطة مقابلة إزاء مكان أهل النّار، حيث ورد في الآيات السابقة أنّهم يلقون في مكان ضيق محدود مقرنين بالأصفاد.
4 ـ قوله تعالى (كان على ربك وعداً مسؤولا) إشارة إلى أن المؤمنين كانوا في أدعيتهم يطلبون من الله الجنّة وجميع نعمها، فهم السائلون، والله "المسؤول منه" كما نقرأ قول المؤمنين في الآية (194) من سورة آل عمران (ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك...)، لسان حال جميع المؤمنين أيضاً، إنّهم يطلبون هذا الطلب من الله، لأن لسان حال كل من يطيع أمره تبارك وتعالى أن يطلب ذلك.
والملائكة كذلك يسألون الله الجنّة والخلود للمؤمنين، كما نقرأ في الآية (8) من سورة المؤمن: (ربّنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم...).
و يوجد هنا تفسير آخر، وهو أنّ كلمة (مسؤولا) تأكيد على هذا الوعد الإِلهي، الحتمي، يعني أنّ هذا الوعد على قدر عظيم من القطع بحيث أنّ المؤمنين يستطيعون أن يطالبوا الله به، وهذا يشبه ما إذا أعطينا وعداً لأحد، وأعطيناه ـ في الضمن ـ الحقَ في أن يطالبنا به.
قطعاً لا يوجد أي مانع من أن تجتمع كل هذه المعاني في المفهوم الواسع لـ (مسؤولا).
5 ـ بالإِلتفات إلى قوله تعالى (لهم فيها ما يشاؤون) ينشأ لدى البعض هذه
[213]
السؤال: إذا أخذنا في الإِعتبار المفهوم الواسع لهذه العبارة، فنتيجة هذا أن أهل الجنّة إذا أرادوا مقام الأنبياء والأولياء يعطى لهم، مثلا، أو إذا طلبوا نجاة أقربائهم وأصدقائهم المذنبين المستحقين لجهنم، يعطون سؤلهم، وما سوى هذه الرغبات؟!
و يتّضح الجواب مع الإِلتفات إلى هذه النكتة، وهو أنّ الحجب تزول عن أعين أهل الجنّة فيدركون الحقائق جيداً، ويتّضح تناسبها في نظرهم كاملا، إنّهم لا يخطر ببالهم أبداً أن يطلبوا من الله طلبات كهذه، وهذا يشبه تماماً أن نطلب في الدنيا من طفل في الإِبتدائية أن يكون اُستاذاً في الجامعة، أو أن يكون لصٌ مجرم قاضيَ محكمة... ترى هل تخطر مثل هذه الأُمور في فكر أي عاقل في الدنيا!؟ وفي الجنّة أيضاً كذلك، فضلا عن هذا فإنّ كلَّ إرادتهم في طول إرادة الله، وإنَّ ما يريدونه هو ما يريده الله.
* * *
[214]
الآيات
وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقوُلُ ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَـؤُلآءِ أَمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبِيلَ(17) قَالُواْ سُبحَـنَكَ مَا كاَنَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابِآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكانُواْ قَوْمَا بُوراً(18) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقوُلوُنَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً ولاَنَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً(19)
التّفسير
المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين:
كان الكلام في الآيات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين الفريقين، وتواصل هذه الآيات نفس هذا الموضوع بشكل آخر، فتبيّن السؤال الذي يسأل الله عنه معبودي المشركين في القيامة وجوابهم، على سبيل التحذير، فيقول تعالى أولا: واذكر يوم يحشر الله هؤلاء المشركين وما يعبدون من دون الله: (و يوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله).
فيسأل المعبودين: (فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل).
[215]
ففي الإجابة: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء).
فليس فقط أنّنا لم ندعهم إلى أنفسنا، بل إنّنا كنّا نعترف بولايتك وربوبيتك، ولم نقبل غيرك معبوداً لنا ولغيرنا.
وكان سبب انحراف أولئك هو: أنّ الله تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا و نعيمها فتمتعوا هم وآباءهم وبدلا من شكر الله تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر الله: (ولكن متعتهم وآباءَهم حتى نسوا الذكر) ولهذا هلكوا واندثروا (وكانوا قوماً بوراً).
هنا يوجه اللّه تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول: (فقد كذبتم بما تقولون).
لأنّ الأمر هكذا، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم: (فما يستطيعون صرفاً ولا نصراً، ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً).
لا شك أنّ "الظلم" له مفهوم واسع، ومع أنّ موضوع البحث في الآية هو "الشرك" الذي هو أحد المصاديق الجلية للظلم، إلاّ أنّه لا يقدح بعمومية المفهوم.
و الملفت للنظر أن "من يظلم" جاءت بصيغة الفعل المضارع، وهذا يدل على أن القسم الأوّل من البحث وأن كان مرتبطاً بمناقشات البعث، لكن الجملة الأخيرة خطاب لهم في الدنيا، لعل قلوب المشركين تصبح مستعدة للتقبل على أثر سماعها (محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة)، فيحول الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم: (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً).(1)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ويحتمل أن تكون الجملة الأخيرة استمراراً لمحاورة الله مع المشركين في القيامة، ولا يضرّ كون الفعل مضارعاً، لأنّ جملة (من يظلم..) ذكرت بصورة قانون عام (جملة شرطية)، ونعلم أنّ الأفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني، وتبقى وحدة الإرتباط بين الشرط وجوابه معتبرة.
[216]
مسائل مهمة:
1 ـ من هم المقصودون بالمعبودين هنا!؟
في الإجابة على هذا السؤال، هناك تفسيران بين المفسّرين المعروفين:
أوّلا: أن يكون المقصود بالمعبودين إنساناً (مثل المسيح) أو شيطاناً (مثل الجن) أو (الملائكة)، حيث أن كلّ واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبوداً لهم. ولأنّهم أهل عقل وشعور وإدراك، فيمكنهم أن يكونوا موضع الإستنطاق والمحاسبة، ولإتمام الحجة، ولإثبات كذب المشركين الذين يقولون: إنّ هؤلاء دعونا لعبادتهم! فهم يسألون عمّا إذا كان هذا الإدعاء صحيحاً؟ ولكنّهم يكذبون ادعاء المشركين بصراحة!
التّفسير الثّاني: الذي ذكره جمع من المفسّرين هو أنّ الله يمنح الأصنام في ذلك اليوم نوعاً من الحياة والإدراك والشعور، بالشكل الذي تستطيع فيه أن تكون موضع المحاسبة، لينطقوا بالجواب اللازم: إلهنا، نحن ما أضللنا هؤلاء، بل هم أنفسهم ضلوا بسبب انغماسهم في الشهوات والغرور.
و هناك الإحتمال آخر، وهو أنّ المقصود يشمل جميع المعبودين، سواء كانوا ذوو عقل وشعور يخبرون بألسنتهم عن الوقائع، أام لم يكونوا من أهل العقل والشعور، حيث يعكسون الحقيقة أيضاً، بلسان حالهم.
ولكن القرائن الموجودة في الآية تتفق أكثر مع التّفسير الأوّل، ذلك لأنّ الأفعال والضمائر تدل جميعها على أن طرف المحاورة هم أصحاب عقل وشعور، وهذا يتناسب مع معبودين كالمسيح والملائكة وأمثالهم.
إضافة إلى أنّ قوله تعالى (فقد كذبوكم...) يُظهر أن المشركين قد ادّعوا من قبل أن هؤلاء المعبودين قد أضلونا ودعونا لعبادتهم، وبعيد أن يكون المشركون قد ادعوا هذا بالنسبة إلى الأصنام الحجرية والخشبية، لأنّهم ـ كما ورد في قصة إبراهيم ـ كانوا على يقين بأنّ الأصنام لا تتكلم (لقد علمت ما هؤلاء
[217]
ينطقون)(1).
في حين أنّنا نقرأ مثلاً بالنسبة إلى المسيح(عليه السلام) في الآية (116) من سورة المائدة: (أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمي إلهين من دون الله)؟!
ومن المسلّم أنّ ادعاء المشركين وعبدة الأصنام كان واهياً وبلا أساس، فأُولئك لم يدعوهم إلى عبادة أنفسهم.
الملفت هو أن المعبودين لم يقولوا في الجواب: إلهنا، ما دعوناهم إلى عبادة أنفسنا، بل يقولون: نحن ما اتّخذنا لأنفسنا غيرك معبوداً، يعني في الوقت الذي نحن نعبدك وحدك، فمن الأُولى أنّنا لم ندعهم إلى أحد غيرك، خاصّة وأن هذا الكلام يقترن مع (سبحانك) ومع (ماكان ينبغي لنا) التي تكشف عن غاية أدبهم، وتأكيدهم على التوحيد.
2 ـ دافع الإنحراف عن أصل التوحيد
المهم هو أنّ المعبودين يعدّون العامل الأصلي لانحراف هذا الفريق من المشركين هو (الحياة المرفهة) لهم، ويقولون، إلهنا، متّعتَ هؤلاء وآباءَهم من نعم هذه الحياة، وهذا هو بالذات كان سبب نسيانهم، فبدلا من أن يعرفوا واهب هذه النعم فيشكرونه ويطيعونه، توغلوا في دوامة الغفلة والغرور.
فالحياة المرفهة لجماعة ضيقةِ الأفق، ضعيفة الإيمان، تبعث على الغرور من جهة، ذلك لأنّهم في الوقت الذي ينالون النعم الكثيرة، ينسون أنفسهم وينسون الله، حتى أنّ فرعون كان يطبّل أحياناً (أنا الله).
ومن جهة أُخرى، فإنّ هؤلاء الأفراد يميلون إلى التحرر من كل القيود التي تعيقهم في ملذّاتهم من قبيل الحلال والحرام، والمشروع واللامشروع وتمنعهم من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأنبياء، 063
[218]
الوصول إلى أهدافهم، ولهذها فهم لا يريدون أن يخضعوا أمام القوانين والمقررات الدينية، ولا أن يقبلوا بيوم الحساب والجزاء.
و هكذا نجد أنّ أتباع دين الله وتعليمات الأنبياء قليلٌ في أوساط المرفهين دائماً ولكن المستضعفين هم الأتباع الصامدون والمحبّون الأوفياء للدين والمذهب.
إنّ هذا الكلام له استثناءات في كلا الطرفين قطعاً، ولكن أكثرية كلّ من الفريقين هم كما قلنا.
وممّا تتضمنه الآية أعلاه، أنّها لم تركز على رفاهية حياتهم فقط، بل ركزت على رفاهية حياة آبائهم أيضاً، ذلك لأنّ الإنسان حينما ينشأ على الدلال والنعمة فإنه سوف يرى فارقاً وامتيازاً بينه وبين الآخرين، ولن يكون مستعداً لفقد المنافع المادية والحياة المرفهة بسهولة.
في حين أن التقيد بأمر الله، وبتعاليم الدين تحتاج إلى الإيثار، وأحياناً إلى الهجرة، وتحتاج حتى إلى الجهاد والشهادة، وأحياناً إلى التعاطي مع أنواع المحروميات، وعدم التسليم للعدو، وهذه الأُمور نادراً ما تتوافق مع مزاج المرفهين، إلاّ إذا كانت نفوسهم أرفع من حياتهم المادية، فإذا توفرت يوماً ما شكروا الله، وإلاّ فلن يتزلزلوا ولن ينزعجوا، وبعبارة أُخرى: إنّهم حاكمون على حياتهم المادية غير محكومين لها، أمراء عليها لا أسارى عندها.
و يستفاد أيضاً من التوضيح أنّ المقصود من قوله تعالى (نسوا الذكر)نسيان ذكر الله، حيث ورد مكان ذلك في الآية (19) من سورة الحشر (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أو نسيان يوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي، كما جاء في الآية (26) سورة ص (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) أو نسيان كل منهما، وجميع التعاليم الإلهية.
[219]
3 ـ كلمة "بور".
"بور" من مادة "بوار" وهي في الأصل بمعنى شدّة كساد الشيء، ولأنّ شدّة الكساد تبعث على الفساد، كما جاء في المثل العربي "كسد حتى فسد"، فهذه الكلمة بمعنى الفساد، ثمّ أُطلقت بعد هذا على الهلاك، ولهذا يقولون للأرض الخالية من الشجر والورد والنبات، والتي هي في الحقيقة فاسدة وميتة كلمة "بائر".
وعلى هذا فإنّ قوله تعالى: (كانوا قوماً بوراً) إشارة إلى أنّ هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة المادية المرفهة، ونسيانهم الله واليوم الآخر، صاروا إلى الفساد والهلكة، وصارت أراضي قلوبهم كالصحراء جافة وبائرة، وأُخليت من أزاهير ملكات القيم الإنسانية، وفواكه الفضيلة والحياة المعنوية.
مطالعة حال الأُمم الغرقى في الدلال والنعمة اليوم، الغافلة عن الله وعن الخلق، توضح عمق معنى هذه الآية في كيفية غرق هذه الأُمم في بحر الفساد الأخلاقي، وكيف اجتثت الفضائل الإنسانية من أرض وجودهم البائرة.(1)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تعتبر بعض المصادر أنّ كلمة "بور" تأتي بمعنى اسم الفاعل، وتأتي واحدة في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وبعض يعدها جمع "بائر".
[220]
الآية
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاَْسْواقِ وَجَعَلْنَابَعْضَكُمْ لِبَعْض فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً(20)
سبب النّزول
أورد جماعة من المفسّرين وأصحاب السير كابن إسحاق في سيرته في سبب نزول هذه الآية "أن سادات قريش "عتبة بن ربيعة" وغيره اجتمعوا معه(صلى الله عليه وآله وسلم)فقالوا: يا محمد، إن كنت تحبّ الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحبّ المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، رجعوا في باب الإحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيّروه بأكل الطعام، لأنّهم أرادوا أن يكون الرّسول ملكاً، وعيّروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك والجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان(عليه السلام)يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يريد أن يتملك علينا، فما له يخالف سيرة الملوك؟ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيّه:
[221]
(وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)فلا تغتم ولا تحزن، فأنّها شكاة ظاهرٌ عنك عارُها".(1)
التّفسير
هكذا كان جميع الأنبياء
في عدّة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين بهذه الصيغة: لماذا يأكل رسول الله الطعام، ويمشي في الأسواق؟ وأجيب عليها بجواب إجمالي ومقتضب، أمّا الآية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جواباً أكثر تفصيلا وصراحة، فيقول تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) فقد كانوا من البشر ويعاشرون الناس، وفي ذات الوقت (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) وامتحاناً.
وهذا الإمتحان، قد يكون بسبب أنّ اختيار الأنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته، لأنّ البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم، خاصّة إذا كان في مستوىً واطىء من حيث الإِمكانات المادية، وهم في مستوى عال مادياً، أو أن أعمارهم أكبر، أو أنّهم أكثر شهرة في المجتمع.
ويرد احتمال آخر في المراد بالفتنة، وهو أنّ الناس عموماً بعضهم لبعض فتنة، ذلك أن المتقاعدين والعجزة والمرضى والأيتام والمزمنين فتنة للأقوياء والأصحاء السالمين، وبالعكس، فإنّ الأفراد الأصحاء الأقوياء فتنة للضعفاء والعجزة.
تُرى هل أنّ الفريق الثّاني راض برضا الله! أم لا؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وإن كان قد جاء مضمون الرواية أعلاه في كثير من التفاسير، ولكن ما ذكرناه أعلاه مطابق للرواية التي أوردها القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" ج 13، ص 5 دار إحياء التراث العربي / بيروت.
[222]
وهل أن الفريق الأوّل يؤدي مسؤوليته وتعهده إزاء الفريق الثّاني، أم لا؟!
من هنا، لا تقاطع بين هذين التّفسيرين فمن الممكن أن يجتمع كلاهما في المفهوم الواسع للآية في أن الناس بعضهم لبعض فتنة.
و على أثر هذا القول، جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى:
(أتصبرون)؟
ذلك لأنّ أهم ركن للنجاح في جميع هذه الإمتحانات هو الصبر والإستقامة والشجاعة... الصبر والإستقامة أمام خيالات الغرور الذي يمنع من قبول الحق... الصبر والإستقامة أمام المشكلات الناشئة من المسؤوليات وأداء الرسالات، وكذلك الجلد أمام المصائب والحوادث الأليمة التي لا تخلو منها حياة الإنسان على كل حال.
والخلاصة: أنّ من الممكن اجتياز هذا الإمتحان الإلهي العظيم بقوّة الإستقامة و الصبر.(1)
ويقول تعالى في ختام الآية بصيغة التحذير: (وكان ربّك بصيراً) فينبغي ألا يتصور أحد أن شيئاً من تصرفاته حيال الإختبارات الإلهية يظل خافياً ومستوراً عن عين الله وعلمه الذي لا يخفى عليه شيء. إنّه يراها بدقة ويعلمها جميعاً.
سؤال:
يرد هاهنا استفسار، وهو أن ردّ القرآن على المشركين في الآيات أعلاه قائم على أن جميع الأنبياء، كانوا من البشر. وهذا لا يحلّ المشكلة، بل يزيد من حدّتها، ذلك أن من الممكن أن يعمموا إشكالهم على جميع الأنبياء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ من أجل توضيح أكثر في مسألة الإختبارات الإلهية، والغاية من هذه الإختبارات وسائر أبعاد ذلك، بحثنا ذلك بشكل مفصّل في ذيل الآية (55) من سورة البقرة.
[223]
و الجواب:
أنّ الآيات القرآنية المختلفة تدلّ على أن إشكالهم على شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعاً خاصاً به، ولهذا كانوا يقولون: مالهذا الرّسول...
يقول القرآن في جوابهم: ليس هذا منحصراً بالرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فجميع الأنبياء كانت لهم مثل هذه الأوصاف، وعلى فرض أنّهم سيعممون هذا الأشكال على جميع الأنبياء، فقد أعطى القرآن جوابهم أيضاً حيث يقول: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا) "كي يستطيع أن يكون أسوة وأنموذجاً للناس في كل مجالات". إشارة إلى أن الإنسان فقط يستطيع أن يكون مرشداً للإنسان، فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته ومشكلاته ومسائله.
* * *
[224]
الآيات
وَقَالَ الَّذِينَ لاَيَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَـئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوَّاً كَبيراً(21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَـئِكَةَ لاَبُشْرَى يَوْمَئِذ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقوُلُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً(22) وَقَدِمْنآ إِلَى مَا عَمِلوُاْ مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَـهُ هَبَآءً مَّنثُوراً(23) أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذ خَيْرٌ مُّستَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلا(24)
التّفسير
الإدعاءات الكبيرة:
قلنا أنّ المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فكانوا يقولون تارةً: لماذا يحتاج الرّسول إلى الطعام ويمشي في الأسواق؟ حيث قرأنا الإجابة عليها في الآيات السابقة.
الآيات الحالية، تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها، فيقول
[225]
تعالى أوّلا: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا).
فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النّبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا. لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده، ولا نراه نحن، فهذا مالا يمكن القبول به، ما المانع من أن يظهر الملك فيؤكّد صحة نبوة الرّسول؟ أو أن يسمعنا بعضاً من الوحي!؟ أو أن نرى ربّنا بأعيننا حتى لا يبقى عندنا مكان لأي شك أو شبهة!؟
هذه هي الأسئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).
المهم هو أن القرآن يصنف هؤلاء المتعللين بالذرائع تحت عنوان (لا يرجون لقاءنا)، حيث يدل على أنّ منبع هذه الأقوال الواهية هو عدم الإيمان بالآخرة، وعدم القبول بالمسؤولية أمام الله.
في الآية (7) من سورة الحجر نقرأ أيضاً شبيهاً لهذا القول، حيث قالوا (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) وقرأنا أيضاً في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).
في حين أن من حق أي إنسان لإثبات قضية ما، أن يطالب بالدليل فقط. أمّا نوع الدليل، فمن المسلّم أنّه لا فرق فيه، في الوقت الذي أثبت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ بإظهار المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه ـ حقانية دعوته بوضوح، إذن فما معنى هذه الذرائع؟
وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوة النّبي، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك، حيث ورد شرحه في سورة الأعراف الآية 143 .
لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً).
"العتو" على وزن "غلو"، بمعنى الإمتناع عن الطاعة، والتمرد على الأمر،
[226]
مصحوباً بالعناد واللجاجة.
و تعبير "في أنفسهم" من الممكن أن يكون بمعنى: أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.
في عصرنا وزماننا أيضاً، يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين، فيقولون: مادمنا لا نرى الله في مختبراتنا، ولا نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة، فلن نصدّق! بوجودهما ومنبع الإثنين واحد وهوا الإستكبار والعتو.
و من حيث الأصل، فإنّ جميع الأشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة فقط، يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني، فكلّ الماديين داخلون في هذا الصنف، في حين أنّ الحواس لا تدرك إلاّ جزءً ضئيلا لا يذكر من مادة هذا العالم.
ثمّ يقول تعالى بصيغة التهديد: إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة، سوف يرونهم آخر الامر، لكن (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين).(1)
بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الإِستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإِحساس بالخطر أمام الآخرين، فيقولون: الأَمان.. الأَمان، اعفوا عنّا: (ويقولون حجراً محجوراً).
ولكن لا هذه الجملة ـ ولاغيرها ـ لها أثر على مصيرهم المحتوم، ذلك لأنّ النار التي هم أوقدوها ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا، وستتجسد أمامهم الأعمال السيئة التي ارتكبوها، فلا يملكون شيئاً لأنفسهم.
كلمة "حجر" (على وزن قشر) تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة (لا) ها هنا، قد تكون للنفي، كما قال كثير من المفسّرين، ويحتمل أيضاً أن تكون لانشاء الدعاء السلبي، حيث يصبح معنى الجملة في هذه الصورة، هكذا: "في ذلك اليوم لا كانت بشرى للمجرمين".
[227]
وجعلوها ممنوعة الورود، وعندما يقال "حجر إسماعيل" فلأن حائطاً أُنشيء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً "حجراً" لأنّه يمنع الانسان من الأعمال المخالفة. لذا نقرأ في الآية (5) من سورة الفجر (هل في ذلك قسم لذي حجر)، وأيضاً "اصحاب الحجر" الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال، فكانوا يعيشون في أمانها.
هذا في ما يخص كلمة "حجر".
أمّا جملة "حجراً محجوراً"فقد كانت اصطلاحاً بين العرب، إذا التقوا بشخص يخافونه، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.
كان هذا عرف العرب، خاصّة في الأشهر الحرم، حيث كانت الحرب ممنوعة، فحينما يواجه شخص آخر، ويحتمل خرق هذا العُرف والتعرض للأذى، فإنّه يكرر هذه الجملة، والطرف المقابل ـ أيضاً ـ مع سماعة لها كان يعطيه الأمان، فيخرجه من القلق والإضطراب والخوف.
على هذا فإنّ معنى الجملة المذكورة هو: "أريد الأمان، الأمان الذي لا رجعة فيه ولا تغيير".(1)
اتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول، وتناسب الأفعال الموجودة في الآية، والسير التاريخي، وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب ـ أيضاً ـ يستدعي هذا، ولكن البعض احتمل أنّ الملائكة هم أصحاب هذا القول، و هدفهم منع المشركين من رحمة الله.
وقال آخرون: إنّ أصحاب هذا القول هم المجرمون، يقولونه بعضهم لبعض، ولكن الظاهر هو المعنى الأول، حيث اختاره كثير من المفسّرين، أو ذكروه كأوّل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ومن الناحية الأدبية فإنّ "حجراً" مفعول لفعل مقدر و "محجوراً" جاءت للتوكيد، فهي في الأصل (أطلب منك منعاً لا سبيل إلى رفعه ودفعه).
[228]
تفسير لذلك.(1)
أمّا أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملائكة؟ فقد ذكر المفسّرون احتمالين: أحدهما: هو يوم الموت حيث يرى الإنسان ملك الموت، كما نقرأ في الآية (93) من سورة الأنعام: (ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم). والثّاني: أنّ المقصود هو يوم القيامة والنشور، حيث يكون المجرمون أمام ملائكة العذاب فيشاهدونهم.
و مع الإنتباه إلى الآيات الآتية التي تتكلم عن النشور، خصوصاً جملة (يومئذ) التي تشير إليه، يتبيّن أنّ التّفسير الثّاني هو الأقرب.
الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة، فتقول: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً).
كلمة "العمل" على ما قاله "الراغب" في المفردات بمعنى: كل فعل يكون بقصد، ولكن الفعل أعم منه، فهو يطلق على الأفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد.(2)
جملة "قدمنا" من "القدوم" بمعنى "المجيء" أو "الذهاب على أثر شيء" وهي هنا دليل على تأكيد وجدّية المسألة، يعني مسلّماً وبشكل قاطع أن جميع أعمال أُولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادة ـ وإن كانت أعمال خير ظاهراً ـ سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء، لشركهم وكفرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الميزان، تفسير الفخر الرازي، في ظلال القرآن، تفسير أبو الفتوح الرازي، ذيل آية البحث.
2 ـ يذهب (الراغب) الى هذا الفرق في مادة "عمل"، ولو أنّ له بياناً خلاف ذلك في مادة "فعل". لكن مع الإلتفات إلى موارد استعمال هاتين الكلمتين يكون هذا الفرق صحيحاً، طبعاً يمكن أن يكون له استثناءات كما يقولون للثيران التي تعمل "عوامل".
[229]
آفات العمل الصالح:
كلمة "هباء" بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدّاً التي لا تُرى بالعين المجرّدة وفي الحال العادية أبداً إلاّ في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كُوّة، فيكشف عن هذه الذرات ويمكن مشاهدتها.
هذا التعبير يدل على أن أعمال أُولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً، وإن كانوا قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة.
هذه الآية نظيرة الآية (18) من سورة إبراهيم التي تقول: (مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف).
الدليل المنطقي لذلك واضح أيضاً، لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى، هو النّية والدافع وغاية العمل النهائية، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة، وخطط سليمة صحيحة، في حين أن من لا إيمان لهم، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور و العجب، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم.
على سبيل المثال، نحن نعرف مساجد من مئات السنين، لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير، وبعكسها نرى بيوتاً تظهر فيها الشروخ وعلامات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة واحدة، فالأُولى بنيت من كل النواحي بناءً محكماً بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية، أمّا الثّانية فلأن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة، فالعناية فيها كانت بالزخرفة فقط.(1)
من وجهة نظر المنطق الإسلامي، فإن للأعمال الصالحة آفات، ينبغي مراقبتها بدقة، فقد يكون العمل أحياناً خراباً وفاسداً منذ البداية، كمثل العمل الذي يتخذ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحثنا في هذا الصدد بصورة أكثر تفصيلا في (ذيل الآية 18 من سورة إبراهيم).
[230]
(رياءً).
و احياناً اُخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب الانسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة عمله بسبب ذلك.
و قد يمحى أثر العمل الصالح بعد الانتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية، كمثل الإنفاق الذي تتبعه "منّة"، أو كالأعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد.
حتى ارتكاب الذنوب أحياناً يترك أثره على العمل الصالح بعدها ـ طبقاً لبعض الرّوايات الإسلامية ـ كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث لا تقبل أعماله عند الله أربعين يوماً.(1)
على أية حال، فللإسلام منهج فذ، دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح. نقرأ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال:
يبعث الله عزَّوجلّ يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي، ثمّ يقول له: (كن هباءً منثوراً) ثمّ قال: أمّا والله ـ يا أبا حمزة ـ إنّهم كانوايصومون ويصلون، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) أنكروه، قال: والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس".(2)
و بما أن القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنّة فتقول: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا).
ليس معنى هذا الكلام أنّ وضع أهل جهنم حسن، ووضع أهل الجنّة أحسن، لأنّ صيغة "أفعل التفضيل" تأتي أحياناً حيث يكون أحد الأطراف واجداً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 427، مادة "خمر".
2 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 9 .
[231]
للمفهوم، وآلاخر فاقداً له كلياً. مثلا نقرأ في الآية (40) من سورة فصّلت: (أفمن يُلقى في النّار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة).
"مستقر" بمعنى محل الإستقرار.
و "مقيل" بمعنى محل الإستراحة في منتصف النهار، من مادة "قيلولة"، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار.
* * *
[232]
الآيتان
وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـمِ وَنُزِّلَ الْمَلَـئِكَةُ تَنزِيلا (25)الْمُلْكُ يَوْمَئِذ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـنِ وكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَـفِرِينَ عَسِيراً(26)
التّفسير
تشقق السماء بالغمام:
مرّة أخرى يواصل القرآن في هذه الآيات البحث حول القيامة، ومصير المجرمين في ذلك اليوم، فيقول أوّلا: إن يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم:(ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا).(1)
"الغمام" من "الغم" بمعنى ستر الشيء، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له "الغمام"، وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمّونه "الغم".
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جملة "يوم تشقق السماء" في الواقع عطف على جملة "يوم يرون الملائكة" التي مرّت سابقاً، وعلى هذا فأنّ "يوم" هنا متعلق بذلك الشيء الذي كان في الآية السابقة، يعني جملة "لا بشرى". ويعتقد جماعة أنّه متعلق بفعل مقدّر، مثل (أذكرْ) و "الباء" في "الغمام" يمكن أن تكون بمعنى الملابسة، أو بمعنى "عن"، أو للسببية كما تقدم في تفسير الآيات أعلاه.
[233]
هذه الآية ـ في الحقيقة ـ ردّ على طلبات المشركين، وعلى إحدى ذرائعهم، لأنّهم كانوا يتوقعون أن يأتي الله والملائكة ـ طبقاً لأساطيرهم وخرافاتهم من خلال الغيم، فيدعونهم إلى الحق، وفي أساطير اليهود جاء ـ أيضاً ـ أنّ الله أحياناً يظهر ما بين الغيوم.(1)
يقول القرآن في الردّ عليهم: نعم الملائكة (وليس الله) يأتون إليهم يوماً ما، لكن أي يوم؟ اليوم الذي تتحقق فيه مجازاة وعقوبة هؤلاء المجرمين، وينهي ادعاءاتهم الباطلة.
ولكن ما هو المقصود من تشقق السماء بالغمام، مع أنّنا نعلم أن لا وجود حولنا لشيء يسمى السماء، يكون قابلا للتشقق؟
قال بعض المفسّرين مثل "العلامة الطباطبائي" في تفسير "الميزان": المقصود هو تشقق سماء عالم الشهود، وزوال حجاب الجهل والغباء وظهور عالم الغيب، فيكون للانسان إدراك ورؤية تختلف كثيراً عمّا هي عليه اليوم، فحينئذ تزول الحجب، فيرون الملائكة وهي تتنزل من العالم الأعلى.
ثمّة تفسير آخر، هو أنّ المقصود من السماء هو الأجرام السماوية التي تتلاشى على أثر انفجارات متوالية، فيملأ الغيم الحاصل من هذه الإنفجارات ومن تلاشي الجبال صفحة السماوات، وبناءً على هذا فالأفلاك السماوية تتشقق مع الغيوم الحاصلة من ذلك.(2)
آيات كثيرة من القرآن المجيد، خصوصاً التي وردت في السور القصار آخر القرآن، تبيّن هذه الحقيقة، حيث تملأ جميع عوالم الوجود تغيرات عظيمة، وانقلاب وتحول عجيب، تتلاشى الجبال وتتناثر في الفضاء كذرات الغبار، الشمس تفقد نورها وكذلك النجوم. ويلتقي الشمس والقمر، وتملأ نواحي الأرض
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في ظلال القرآن، ج 6، ص 154 (ذيل الآية مورد البحث).
2 ـ "الباء" من الناحية الأدبية في هذه الحالة للملابسة.
[234]
زلزلة وهزّة عجيبة.
نعم، في مثل ذلك اليوم، زوال السماء، بمعنى الأجرام السماوية، وتلبُّسُ السماء بغيوم كثيفة، سيكون أمراً طبيعياً.
من الممكن توضيح نفس هذا التّفسير بنحو آخر:
شدّة التغيرات، وانفجارات الكواكب والسيارات يصير سبباً في تغطية السماء بغيم كثيف، ولكن توجد انشقاقات بين هذا الغيم، وعلى هذا فالسماء التي ترى بالعين في الأحوال العادية، تتشقق بواسطة هذه الغيوم الانفجارية العظيمة.(1)
تفسيرات أخرى قيلت لهذه الآية أيضاً لا تتوافق مع الأصول العلمية والمنطقية، وفي نفس الوقت فالتّفسيرات الثلاثة الآنفة لا تتنافى مع بعضها، فمن الممكن أن ترتفع حجب العالم المادي عن عين الإنسان من جهة، فيشاهد عالم ماوراء الطبيعة، ومن جهة أُخرى ستتلاشى الأجرام السماوية، وتظهر الغيوم الانفجارية، فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم، يوم نهاية هذا العالم وبداية النشور، يوم أليم جدّاً للمجرمين الظالمين المعاندين الذين لا إيمان لهم.
بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علائم ذلك اليوم فيقول: (الملك يومئذ الحق للرحمن).
حتى أُولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال، يخرجون أيضاً من دائرة الملك، فتكون الحاكمية من كلّ النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصّة، وبهذا (وكان يوماً على الكافرين عسيراً).
نعم، في ذلك اليوم تزول القوى الكاذبة تماماً، وتكون الحاكمية لله خاصّة، فتتداعى قلاع الكافرين، وتزول قوى الجبابرة والطواغيت، وإن كانوا جميعاً في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في هذه الحالة "الباء" في "بالغمام" للسببية.
[235]
هذا العالم ـ أيضاً ـ لا شيء أمام إرادته تبارك وتعالى. واذا كان لهم في هذه الدنيا بهرجة، فبأي ملاذ يلوذون من الجزاء الإلهي في يوم القيامة، يوم انكشاف الحقائق وزوال المجازات والخيالات والأوهام، ولهذا سيكون ذلك اليوم يوماً بالغ الصعوبة عليهم، في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهلا يسيراً وهيناً جدّاً.
في حديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فقلت: ما أطول هذا اليوم!؟ فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) "والذي نفسي بيده إنّه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخفَّ عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا".(1)
والتأمل الدقيق في سائر آيات القرآن يكشف عن دلائل صعوبة ذلك اليوم على الكافرين، ذلك أنّنا نقرأ من جهة (و تقطعت بهم الأسباب).(2)
و من جهة أخرى (ما أغنى عنه ماله وما كسب).(3)
و من جهة ثالثة (يوم لا يُغني مولى عن مولى شيئاً).(4)
حتى الشفاعة التي هي وحدها طريق النجاة، تكون للمذنبين الذين كانت لهم صلة بالله وبأولياء الله (من ذا الذي يشفع عنده إلابإذنه).(5)
وايضاً (فلا يؤذن لهم فيعتذرون)،(6) فلا يسمح لهم بالاعتذار، فما بالك بقبول الاعذار الواهية!!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، ج 13، ص 23; ج 7، ص 4739.
2 ـ سورة البقرة،الآية 166.
3 ـ سورة تبّت، الآية 2.
4 ـ سورة الدخان، الآية 41.
5 ـ سوره البقرة، الآية 255.
6 ـ سورة المرسلات، الآية 36.
[236]
الآيات
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَـلَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا(27) يَـوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا(28) لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَـنُ لِلاِْنسَـنِ خَذُولا(29)
سبب النّزول
"قال ابن عباس: نزل قوله تعالى: (ويوم يَعض الظالم) في عقبة بن أبي معيط، وأُبي بن خلف، وكانا متخالّين، وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة الرّسول، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً ودعا الناس، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعامه، فلما قربوا الطعام قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وبلغ ذلك أُبي بن خلف فقال: صبئتَ يا عقبة؟ قال: لا والله ما صبأتُ، ولكن دخل عليَّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدتُ له فطعم، فقال أُبي: ما كنتُ براض عنك أبداً حتى تأتي فتبزق في وجهه،
[237]
ففعل ذلك عقبة وارتدَّ، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا ألقاك خارجاً من مكّة إلاّ علوتُ رأسك بالسيف، فضرب عنقه يوم بدر صبراً، وأمّا أُبي بن خلف فقتله النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أُحد بيده في المبارزة".
وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عاد بزاقه في وجهه، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى مات.
وقيل نزلت في كل كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم وترك متابعة أمر الله تعالى.(1)
نزلت الآيات أعلاه لترسم صورة مصير الرجل الذي يُبتلى بخليل ضال، ويجره إلى الضلال.
وقلنا مراراً أنّ سبب النّزول وإن يكن خاصّاً، إلاّ أنّه لا يقيد مفهوم الآيات أبداً، وعمومية المفهوم تشمل جميع المصاديق.
* * *
التّفسير
أضلني صديق السوء
يوم القيامة له مشاهد عجيبة، حيث ورد بعضٌ منها في الآيات السابقة، وفي هذه الآيات اشارة الى قسم آخر منها، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم، يقول تعالى أوّلا: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرّسول سبيلا)(2).
"يعضّ" من مادة "عضّ" (على وزن سدّ) بمعنى الأزم بالأسنان، ويستخدم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 166 .
2 ـ جملة (يوم يعض الظالم...) عطف على "يوم يرون" التي مضت قبل عدّة آيات، بعض يعتبرها أيضاً متعلقة بجملة مقدرة "اذكر".
[238]
هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الأشخاص المهووسين من شدّة الحسرة والأسف، كما في المثل العربي، لأن الإنسان في مثل هذه الحالات لا يعض الإصبع دائماً، بل يعض ظاهر اليد أحياناً، وكثيراً ما يقال ـ كما في الآية الآية مورد البحث ـ "يديه" يعني كلتا اليدين حيث تبيّن شدّة الأسف والحسرة بنحو أبلغ.
و هذا العمل يصدر من هؤلاء الأشخاص حينما يطلعون على ماضيهم، ويعتبرون أنفسهم مقصرين، فيصممون على الأِنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة.
وينبغي حقّاً، أن يسمى ذلك اليوم (يوم الحسرة) كما ورد هذا الوصف بالذات في القرآن ليوم القيامة أيضاً (سورة مريم الآية 39)، ذلك لأن المجرمين يرون أنفسهم في أتعس حال بين يدي الحياة الخالدة، في الوقت الذي كانوا يستطيعون خلال أيام من الصبر والإستقامة ومجاهدة النفس والإيثار أن يستبدلوا ذلك بحياة مشرفة وسعيدة، وهو يوم أسف أيضاً حتى بالنسبة إلى المحسنين، فهم يأسفون على أنّهم: لماذا لم يحسنوا أكثر.
ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّ هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم الأسف، يقول:(يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا).(1)
واضح أن المقصود بـ "فلان" هو ذلك الذي أضله: الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال، وفردٌ مثل "أُبي" لـ "عقبة" الذي ورد في سبب النّزول.
هذه الآية ـ والآية التي قبلها ـ تعرضان حالتي نفي وإثبات متقابلتين في مكان واحد، يقول تعالى: (يا ليتني اتخذتُ مع الرّسول سبيلا)، وهنا يقول: (...ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا) حيث كانت التعاسة كلها في ترك الإرتباط بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقبول الإرتباط بهذا الخليل الضال.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "خليل" تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله الإنسان مشاوراً لنفسه. وللخليل معان أخرى أيضاً قد أوردناها في ذيل الآية (125) من سورة النساء.
[239]
ثمّ يستمر ويقول: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذجاءني).
لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين الإيمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم اكن آسف الى هذا الحد، ولكني كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصدّني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة ظامئاً وأغرقني في دوامة التعاسة.
"الذكر" في الجملة أعلاه، له معنىً واسع، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية، بل يدخل في إطاره كلُّ ما يوجب يقظة ووعي الإنسان.
وفي ختام الآية يقول تعالى: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة، ثمّ يتركه حيران ويذهب لسبيله،
وينبغي الإنتباه إلى أنّ "خذولا" صيغة مبالغة، بمعنى كثير الخذلان.
وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماماً في اللحظات الحساسة.
في هذه الجملة الأخيرة (وكان الشيطان للإنسان خذولا) قد تكون من مقولة الله تعالى على سبيل الإنذار لجميع الظالمين والظالين، أو تتمة لمقولة هؤلاء الأفراد المتحسرين في القيامة، ذكر المفسّرون تفسيرين، وكل منهما منسجم مع معنى الآية، غير أن كونها مقولة الله تعالى أكثر انسجاماً.
* * *
بحث
أثر الصديق في مصير الإِنسان:
لا شك في أن عوامل بناء شخصية الإِنسان ـ بعد عزمه وإرادته وتصميمه ـ أُمور مختلفة، من أهمها الجليس والصديق والمعاشر، ذلك لأنّ الإِنسان قابل للتأثر
[240]
شاء أم أبى، فيأخذ قسطاً مهماً من أفكاره وصفاته الأخلاقية عن طريق أصدقائه، ولقد ثبتت هذه الحقيقة من الناحية العلمية وعن طريق التجربة والمشاهدات الحسية أيضاً.
قابلية التأثر هذه نالت اهتماماً خاصّاً لدى الإسلام إلى حدّ أنّه نقل في الرّوايات الإسلامية، عن نبيّ الله سليمان(عليه السلام) أنّه قال: "لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، وينسب إلى أصحابه وأخدانه".(1)
يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في خطبة له: "ومن اشتبه عليكم أمره ولم تعرفوا دينه، فانظروا إلى خلطائه، فإن كانوا أهل دين الله فهو على دين الله، وإن كانوا على غير دين الله، فلا حظّ له من دين الله".(2)
حقّاً، إنّ أثر الصديق في سعادة وشقاوة إنسان ما قد يكون من أهم العوامل أحياناً، فقد يؤدي به إلى دركات الشقاء الأبدي، وقد يرقى به أحياناً إلى غاية المجد.
الآيات الحالية وسبب نزولها، تبيّن ـ بوضوح ـ كيف أنّ الإنسان قد يقترب من السعادة، لكنّ وسوسة شيطانية واحدة من صديق سيء تقلبه رأساً على عقب وتقلب مصيره، حيث سيعضُّ على يديه من الحسرة يوم القيامة، وستتعالى منه صرخة "ياويلتى".
في كتاب "العِشرة" وردت روايات كثيرة في نفس هذا الموضوع، تبيّن أن الإسلام شديد ودقيق وثاقب النظرة في مسألة اختيار الصديق.
نُنهي هذا البحث القصير بنقل حديثين في هذا الموضوع، ومن أراد الإطلاع أكثر في هذا الموضوع فليراجع كتاب "العشرة" من بحار الأنوار، الجزء 74.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 27 مادة (صدق).
2 ـ بحار الأنوار، ج 74، ص 197 .
[241]
نقرأ في حديث عن التاسع من أئمة الإسلام العظام، الإمام محمد التقي الجواد(عليه السلام) "اِيّاك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره".(1)
وقال الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): "أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب... ومجالسة الموتى" قيل له: يا رسول الله، وما الموتى؟ قال: "كل غني مترف".(2)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار ج 74 ص 198.
2 ـ الخصال، للصدوق، طبقاً لنقل بحار الأنوار، ج 74، ص 195 .
[242]
الآيات
وَ قَالَ الرَّسُولُ يَـرَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُوراً(30) وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوَّاً مِّنَ الُمجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً(31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَُ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَـهُ تَرْتِيلا(32) وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَل إِلاَّ جِئْنَـكَ بِالْحَقِّ وَأحْسَنَ تَفْسِيراً(33) الَّذِينَ يَحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكاناً وَأضَلُّ سَبِيلا(34)
التّفسير
إلهي، إنّ الناس قد هجروا القرآن:
كما تناولت الآيات السابقة أنواعاً من ذرائع المشركين والكافرين المعاندين، تتناول الآية الأُولى في مورد البحث هنا حزن وشكاية الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بين يدي الله عزَّوجلّ من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن، فتقول:
[243]
(وقال الرّسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً).(1)
قول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا، وشكواه هذه، مستمران إلى هذا اليوم من فئة عظيمة من المسلمين، يشكو بين يدي الله أنّهم دفنوا القرآن بيد النسيان، القرآن الذي هو رمز الحياة ووسيلة النجاة، القرآن الذي هو سبب الإنتصار والحركة والترقي، القرآن الممتلىء ببرامج الحياة، هجروا هذا القرآن فمدّوا يد الإستجداء إلى الآخرين، حتى في القوانين المدنية والجزائية.
إلى الآن، لو تأملنا في وضع كثير من البلدان الإِسلامية، خصوصاً أُولئك الذين يعيشون تحت هيمنة الشرق والغرب الثقافية، لوجدنا أنّ القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات، يذيعون ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث، ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن المعماري، ولافتتاح منزل جديد، أو لحفظ مسافر، وشفاء مريض، وعلى الأكثر للتلاوة من أجل الثواب.
ويستدلون بالقرآن، أحياناً وغايتهم إثبات أحكامهم المسبّقة الخاطئة من خلال الإستعانة بالآيات، وبالإستفادة من المنهج المنحرف في التّفسير بالرأي.
في بعض البلدان الإسلامية، هناك مدارس في طول البلاد وعرضها بعنوان: مدارس "تحفيظ القرآن" وفريق عظيم من الأولاد والبنات مشغولون بحفظ القرآن، في الوقت الذي تؤخذ أفكارهم عن الغرب حيناً، وعن الشرق حيناً آخر، وتؤخذ قوانينهم وقراراتهم من الأجانب، أمّا القرآن فغطاء لمخالفاتهم فقط.
نعم، اليوم أيضاً يصرخ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً). مهجوراً من ناحية لبّه ومحتواه، متروكاً من ناحية الفكر والتأمل،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الظاهر أن جملة "قال" فعل ماض، تدل على أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد ذكر هذا القول على سبيل الشكوى في هذه الدنيا، وأكثر المفسّرين أيضاً على هذا الإعتقاد، لكن بعضاً آخر مثل "العلامة الطباطبائي" في "الميزان" يعتقدون أن هذا القول مرتبط بيوم القيامة، والفعل الماضي هنا بمعنى المضارع. وذكر العلامة الطبرسي في مجمع البيان أيضاً هذا على سبيل الإحتمال، لكن الآية التي بعدها، والتي فيها جنبة مواساة للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دليل على أن التّفسير المشهور هو الأصح.
[244]
ومهملا من ناحية برامجه البناءَة.
تقول الآية التي بعدها في مواساة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان يواجه هذا الموقف العدائي للخصوم: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين).
لست وحدك قدواجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة، فقد مرّ جميع الأنبياء بمثل هذه الظروف، حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من (المجرمين) فكانوا يناصبونهم العداء.
ولكن إعلم أنّك لست وحيداً، وبلا معين (وكفى بربّك هادياً ونصيراً).
فلا وساوسهم تستطيع أن تضلك، لأنّ الله هاديك، ولا مؤامراتهم تستطيع، أن تحطمك، لأن الخالق معينك، الخالق الذي علمه فوق كل العلوم، وقدرته أقوى من كل القدرات.
الآية التي بعدها، تشير أيضاً إلى ذريعة أُخرى من ذرائع هؤلاء المجرمين المتعللين بالمعاذير، فتقول: (وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة).
أليس القرآن جميعه من قبل الله!؟ أليس من الأفضل أن ينزل جميع محتوى هذا الكتاب دفعة واحدة حتى يقف الناس على عظمته أكثر؟ ولماذا تتنزل هذه الآيات تدريجياً وعلى فواصل زمنية مختلفة؟
و قد يأخذ هذا الإشكال في كيفية نزول القرآن مأخذه من الأفراد السطحيين، خاصّة إذا كانوا من المتمحلين للأعذار بأن هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس ومصدر كل حياة المسلمين، ومحور كل قوانينهم السياسية و الإجتماعية والحقوقية والعبادية، لماذا لم ينزل كاملا ودفعة واحدة على نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى يقرأه أتباعه من البداية إلى النهاية فيطلعون على محتواه. واساساً فقد كان الأفضل للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أن يكون ذا اطلاع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة، كيما يجيب الناس فوراً على كل ما يسألونه ويريدون
[245]
منه.
ولكن القرآن في تتمة نفس هذه الآية يجيبهم: (وكذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا).وقد غفل اُولئك السطحيون عن هذه الحقيقة، فلا شك أن نزول القرآن التدريجي له ارتباط وثيق بتثبيت قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وسيأتي بحث مفصل عن ذلك في نهاية هذه الآيات.
ثمّ للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً). أي أنّهم لا يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لاضعاف دعوتك ومقابلتها، إلاّ آتيناك بكلام حقّ يقمع كلماتهم الجوفاء وأدلتهم الخاوية بأحسن بيان وأفضل تفسير.
وبما أنّ هؤلاء الأعداء الحاقدين استنتجوا ـ بعد مجموعة من إشكالاتهم ـ أن محمّداً وأصحابه مع صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شرُّ خلق الله (العياذ بالله)، ولأنّ ذكر هذا القول لا يتناسب مع فصاحة وبلاغة القرآن، فإنّ الله سبحانه يتناول الإجابة على هذا القول في الآية الأخيرة مورد البحث دون أن ينقل أصل قولهم، يقول:
(الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرُّ مكاناً وأضلّ سبيلا).
نعم، تتضح هناك نتيجة منهاهج حياة الناس، فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو، ووجوه منيرة كالقمر، وخطوات واسعة، يتوجهون بسرعة إلى الجنّة، في مقابل فريق مطأطئي رؤوسهم إلى الأرض، تسحبهم ملائكة العذاب إلى جهنّم، هذا المصير المختلف يكشف عمن كان ضالا وشقياً! ومن كان مهتدياً وسعيداً؟!
* * *
بحوث
1 ـ تفسير (جعلنا لكل نبيّ عدوّاً).
يفهم من هذه الجملة ـ أحياناً ـ أن الله من أجل مواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لست
[246]
وحدك لك عدوّ، بل لقد جعلنا لكل نبي عدوّاً، ولازم هذا القول إسناد وجود أعداء الأنبياء إلى الله تعالى، الأمر الذي لا يتفق مع حكمته ولا مع أصل حرية وإرادة الإنسان. ذكر المفسّرون أجوبة متعددة على هذا السؤال ...
قلنا مراراً أن جميع أعمال الإنسان منسوبة إلى الله، لأنّ جميع متعلقاتنا، قدرتنا، قوانا، عقلنا وفكرنا، وحتى حريتنا واختيارنا أيضاً من عنده، وعلى هذا فمن الممكن من هذه الناحية نسبة وجود الأعداء للأنبياء إلى الله، دون أن يستلزم ذلك الجبر وسلب الإختيار، ولا يردَ خدشٌ في مسؤوليتهم إزاء أعمالهم (فتأمل)!
مضافاً إلى أن وجود هؤلاء الأعداء الأشداء ومخالفتهم للأنبياء، يكون سبباً في أن يصبح المؤمنون أقوى في عملهم، وأثبت قدماً، فيتحقق الإمتحان الإلهي بالنسبة إلى الجميع.
هذه الآية في الحقيقة مثل الآية (112) من سورة الأنعام حيث تقول: (وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّاً شياطين الإِنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً).
أمام الأزاهير تنمو الأشواك، وفي قبال المحسنين يوجد المسيئون، دون أن تنتفي مسؤولية أي واحد من هاتين المجموعتين.
وقال البعض: إنّ المقصود من "جعلنا" هي أوامر ونواهي ومناهج الأنبياء البناءة التي تجر بعض الضالين إلى العداوة، شاؤوا أم أبوا.
و إذا أُسند ذلك إلى الله فلأن الأوامر والنواهي من جهته عزَّوجلّ.
التّفسير الآخر: أن هنالك فئة يطبع الله على قلوبهم ويعمي أبصارهم ويصم أسماعهم بسبب الإِصرار على الذنب والإِفراط في التعصب واللجاجة، هذه الفئة يصبحون أعداء الأنبياء في نهاية المطاف، أمّا أسباب ذلك فهي بما قدموا لأنفسهم.
ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة، فمن الممكن أن تجتمع كلها في مفهوم الآية.
[247]
2 ـ الآثار العميقة لنزول القرآن التدريجي
صحيح أنّه كان للقرآن نزولان، طبقاً للرّوايات (بل لظاهر بعض الآيات): أحدهما: "نزول دفعي" مرّة واحدة في ليلة القدر على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآخر: "نزول تدريجي" في ثلاث وعشرين سنة، لكن بلا شك أن النّزول المعترف به الذي كان النّبي والناس يتفاعلون معه دائماً هو النّزول التدريجى للقرآن.
وهذا النّزول التدريجي بالذات صار سبباً لاستفهامات الأعداء: لماذا لم ينزل القرآن مرّة واحدة ويجعل دفعة واحدة بين أيدي الناس، حتى يكونوا أكثر إطلاعاً وتفهماً، فلا يبقى مكان للشك والريبة؟
ولكن ـ كما رأينا ـ فإنّ القرآن أجابهم جواباً قصيراً وجامعاً وبليغاً من خلال جملة (كذلك لنثبت به فؤادك)، فكلما تأملنا فيها أكثر تتجلى آثار النّزول التدريجي للقرآن أوضح.
1 ـ لا شك أنّ التشريعات إذا كانت تتنزل بشكل تدريجي تبعاً للحاجات، ويكون لكل مسألة شاهد ومصداق عينيّ، فستكون مؤثرة جدّاً من ناحية "تلقي الوحي" وكذلك "إبلاغ الناس".
مباديء التربية تؤكّد أنّ الشخص أو الأشخاص المراد تربيتهم ينبغي أن يؤخذ بأيديهم خطوة خطوة، فينظم لهم لكل يوم برنامج، ويسلكوا من المرحلة الأدنى التي شرعوا منها إلى المراحل الأعلى والبرامج التي تتدرج بهذه الكيفية تكون أكثر مقبولية وأعمق أثراً.
2 ـ إنّ هؤلاء المعترضين غافلون أساساً عن أنّ القرآن ليس كتاباً عادياً يبحث في موضوع أو علم معين، بل هو منهج حياتي للأُمة التي تغيرت به، واستلهمت منه في جميع أبعاد الحياة ولا تزال.
كثير من آيات القرآن نزلت في مناسبات تاريخية مثل معركة (بدر) و(أُحد) و (الأحزاب) و(حنين)، وبذلك سُنّت التشريعات والإستنتاجات من هذه
[248]
الحوادث، ترى هل يصح أن تكتب هذه مرّة واحدة وتعرض على الناس!؟
بعبارة أُخرى: القرآن مجموعة من أوامر ونواه، أحكام وقوانين، تاريخ وموعظة، ومجموعة من الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة الأحداث التي كانت تبرز أمام مسير الأُمة الإسلامية، كتاب ـ كهذا ـ يبيّن وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في ميادين حياة الأُمة، لا يمكن أن ينظم ويُدوَّنَ دفعة واحدة.
و هذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر جميع بياناته وإعلاناته وأوامره ونواهيه ـ التي يصدرها في المناسبات المختلفة ـ دفعة واحدة من أجل تسيير الثورة، تُرى هل يعتبر هذا العمل عقلائياً!؟
3 ـ النّزول التدريجي للقرآن كان سبب ارتباط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الدائم والمستمر بمبدأ الوحي ممّا يجعل قلبه الشريف أقوى وإرادته أشدّ. ومن غير الممكن إنكار تأثيره في المناهج التربوية.
4 ـ من جهة أخرى فإنّ استمرار الوحي دليل على استمرار رسالة وسفارة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسوف لن يترك مجالا لوسوسة الأعداء لكي يقولوا: لقد بعث هذا النّبي ليوم واحد! ثمّ تركه ربه، كما نقرأ في التأريخ الإسلامي أن هذه الهمهمة ظهرت أثناء تأخر الوحي في بداية الدعوة، فأنزلت سورة (والضحى) لنفي ذلك.
5 ـ لا شك أنّه إذا كان مقرراً لمناهج الإسلام أن تنزل جميعها دفعة واحدة، فقد كان من اللازم أن تطبَّقَ دفعة واحدة أيضاً، لأن النّزول بدون تطبيق يُفقد النّزول قيمته، ومن المعلوم أن تطبيق جميع المناهج أعم من العبادات كالزكاة والجهاد، ورعاية جميع الواجبات والإمتناع عن كل المحرمات دفعة واحدة.. عمل ثقيل جدّاً قد يؤدي إلى فرار فئة كبيرة من الإسلام.
و بهذا يتبيّن أن النّزول التدريجي وبالتالي التطبيق التدريجي أفضل من جهات كثيرة.
[249]
و بعبارة أُخرى: إنّ أيّ واحد من هذه التشريعات في صورة النّزول التدريجي سيتم هضمه واستيعابه بصورة جيدة، وفي حالة تعرضه لبعض الاستفهامات يمكن طرحها والاجابة عليها.
6 ـ وفائدة اُخرى من فوائد النّزول التدريجي هو اتضاح عظمة وإعجاز القرآن، ذلك لأن في كل واقعة تنزل عدّة آيات كريمة تكون لوحدها دليل العظمة و الاعجاز، وكلما يتكرر تتجلى أكثر هذه العظمة وهذا الإِعجاز، فينفذ في أعماق قلوب الناس.
3 ـ معنى الترتيل في القرآن:
كلمة "ترتيل" من مادة "رتل" (على وزن قمر) بمعنى انتظم واتسق، لذا فالعرب يقولون "رتل الأنسان" لمن تكون أسنانه جيدة ومنتظمة ومتسقة. وعلى هذا الأساس يطلق الترتيل بمعنى القراءة المتسقة للكلام أو الآيات بموجب نظام وحساب.
و على هذا فجملة (ورتلناه ترتيلا) إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ آيات القرآن وإن نزلت تدريجاً وفي مدة 23 سنة، لكنّ هذا النّزول كان على أساس نظام وحساب ومنهج بحيث ادى الى رسوخه في الأفكار وغرسه في القلوب.
في تفسير كلمة "ترتيل" نقلت روايات جذابة، نشير إلى بعضها كما يأتي:
في تفسير "مجمع البيان" "نقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه أمر ابن عباس: "إذا قرأت القرآن فرتلْه ترتيلا" فسألته: وما الترتيل؟ قال: "بينه تبييناً ولا تنثره نثر الدقل ولا تهزه هزَّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكونن همُّ أحدكم آخر
[250]
السورة".(1)
و هناك رواية بهذه المضمون رواه الشيخ الكليني في "أصول الكافي" عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام).(2)
و نقل أيضاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) "الترتيل أن تتمكث به وتحسن به صوتك، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذ بالله من النار، وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنّة".(3)
4 ـ تفسير(يحشرون على وجوههم إلى جهنم)
أقوال كثيرة بين المفسّرين في ما هو المقصود بحشر هذه الفئة من المجرمين على وجوههم!؟
بعضهم فسّروا ذلك بنفس معناه الحقيقي، وقالوا: إنّ ملائكة العذاب يسحبونهم إلى جهنم وهم ملقَون على وجوههم إلى الأرض، وهذا علامة على مهانتهم وذلتهم، لأنّهم كانوا في الدنيا في غاية الكبر والغرور والإستهانة بخلق اللّه، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى تجسيد لضلالتهم في هذا العالم، ذلك أن من يسحبونه بهذه الصورة لا يرى ما أمامه بأي شكل، وغافل عما حوله.
و البعض الآخر أخذوا بمعناه الكنائي، فقالوا تارة هذه الجملة كناية عن تعلق قلوب أولئك بالدنيا، فهم يسحبون إلى جهنم لأن وجوه قلوبهم لا زالت مرتبطة بالدنيا.(4)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 170 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ أصول الكافي، ج2، ص 449 (باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن).
3 ـ مجمع البحرين مادة رتل.
4 ـ طبقاً لهذا التّفسير، فإنّ عبارة "على وجوههم" أخذت محل العلّة. فيكون مفهوم الجملة هكذا (يحشرون إلى جهنم لتعلق وجوه قلوبهم إلى الدنيا).
[251]
وقالوا تارةً اُخرى: انها كناية مستعملة في الأدب العربي حيث يقولون: فلان مرَّ على وجهه، يعني أنّه لم يكن يدري أين يذهب.
لكن الواضح أنّنا مع عدم الدليل على المعنى الكنائي، لابدّ من حملها على المعنى الأوّل، وهو المعنى الحقيقي.
* * *
[252]
الآيات
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَـرُونَ وَزِيراً(35) فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَـتِنَا فَدَمَّرْنَـهُمْ تَدْمِيراً(36) وَقَوْمَ نُوح لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنـهُمْ وَجَعَلْنـهُمْ لِلنَّاسِ ءايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّـلِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37)وَعَاداً وَثَموُدَاْ وَأَصْحـبَ الرَّسِّ وَقُروُنَاً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (38)وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ أَمْثَـلَ وَكُلاَّ ً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً(39) وَلَقَدْ أَتَوْاْ عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَل كَانُواْ لا يَرْجوُنَ نُشوُراً(40)
التّفسير
مع كل هذه الدروس والعبر، ولكن...
أشار القرآن المجيد في هذه الآيات إلى تاريخ الأُمم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤكّداً على ست أمم بخاصّة (الفراعنة، وقوم نوح، وقوم عاد، وثمود، وأصحاب الرَّس، وقوم لوط) وذلك لمواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة، ولتهديد
[253]
المشركين المعاندين الذين مرَّ أنموذج من أقوالهم في الآيات السابقة، من جهة أُخرى ويجسد دروس العبرة من مصير هذه الأقوام بشكل مختصر وبليغ تماماً.
يقول أوّلا: (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً).
فقد القيت على عاتقيهما لمسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة، ويجب عليهما مواصلة هذا العمل الثوري بمساعدة أحدهما الآخر حتى يثمر (فقلنا إذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا) فإنّهم قد كذبوا دلائل الله وآياته التي في الآفاق وفي الأنفس وفي كل عالم الوجود، وأصروا على طريق الشرك وعبادة الأصنام من جهة.. ومن جهة أخرى أعرضوا عن تعاليم الانبياء السابقين وكذبوهم.
ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون،بالرغم من رؤية كل تلك المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة، أصروا أيضاً على طريق الكفر والإِنكار، لذا (فدمرناهم تدميراً).
كلمة "تدمير" من مادة "دمار" بمعنى الإهلاك بأُسلوب يثير العجب، حيث كان هلاك قوم فرعون في أمواج النيل المتلاطمة بتلك الكيفية المعروفة من عجائب التاريخ حقاً.
وكذلك: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية، واعتدنا للظالمين عذاباً أليماً).
الملفت للإنتباه أنّه تعالى يقول: إنّ أُولئك كذبوا الرسل (لا رسولا واحداً فقط) ذلك أنه لا فرق بين أنبياء الله ورسله في أصل الدعوة، وتكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم، فضلا عن أنّهم كانوا مخالفين لدعوة جميع أنبياء الله ومنكرين لجميع الأديان.
وكذلك: (وعاداً وثموداً وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "وعاداً وثموداً" عطف على ضمير "هم" في جملة "دمرناهم". واحتمل بعضهم أيضاً أن العطف على "هم" في "جعلناهم"، أو يكون عطفاً على محل "الظالمين" لكن الإحتمال الأوّل مناسب أكثر.
[254]
"قوم عاد" هم قوم النّبي "هود" العظيم، الذي بعث في منطقة (الأحقاف) أو (اليمن).
و"قوم ثمود" قوم نبي الله "صالح" الذي بعث في منطقة وادي القرى (بين المدينة والشام)، أمّا ما يتعلق بمسألة "أصحاب الرس" فسنبحثها في نهاية هذا البحث.
"قرون" جمع "قرن" وهي في الأصل بمعنى الجماعة الذين يعيشون معاً في زمان واحد، ثمّ أطلقت على الزمان الطويل (أربعين أو مائة سنة).
لكننا لم نجاز أولئك على غفلة أبداً، بل (وكلاّ ضربنا له الأمثال).
أجبنا على إشكالاتهم، مثل الإِجابة على الإِشكالات التي يوردونها عليك، وبينّا لهم الأحكام الإِلهية وحقائق الدين. أخطرناهم، أنذرناهم، كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين، لكن حين لم ينفع أيُّ من ذلك اهلكناهم ودمّرناهم تدميراً: (وكلا تّبرنا تتبيراً).(1)
وفي نهاية المطاف ـ في الآية الأخيرة مورد البحث ـ يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام، وإلى الأثر الحي الناطق عن المصير الأليم لأولئك الملوثين والمشركين، فيقول تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها).
نعم، لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه، لكنّهم لم يأخذوا منها العبرة، ذلك لأنّهم (بل كانوا لا يرجون نشوراً).
إنّهم يعدون الموت نهاية هذه الحياة، وإذا كان لهم اعتقاد بحياة ما بعد الموت فهو اعتقاد ضعيف وبلا أساس، لا يطبع أثراً في ارواحهم ولا ينعكس في مناهج
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تتبير" من مادة "تبر" (على وزن ضرر، وعلى وزن صبر) بمعنى الإهلاك التام.
[255]
حياتهم، ولهذا فهم يأخذون جميع الأشياء مأخذ اللعب، ولا يفكرون إلاّ بأهوائهم السريعة الزوال.
* * *
بحثان
1 ـ من هم "أصحاب الرس"
كلمة "رسّ" في الأصل بمعنى الأثر القليل، فيقال مثلا "رسّ الحديث في نفسي" (قليل من حديثه في ذاكرتي) أو يقال: وجد رسّاً من حمى" (يعني: وجد قليلا من الحمّى في نفسه).(1)
وجماعة من المفسّرين اعتقدوا بأن "الرسّ" بمعنى البئر.
على أية حال فتسمية هؤلاء القوم بهذا الاسم، إمّا لأنّ أثراً قليلا جداً بقي منهم، أو لأنّهم كانت لهم آبار كثيرة، أو لأنّهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم.
أمّا من هم هؤلاء القوم؟ هناك أقوال كثيرة بين المؤرخين والمفسّرين:
1 ـ يرى كثيرون أن "أصحاب الرس" كانوا طائفة تعيش في "اليمامة" وبعث لهم نبي اسمه "حنظلة" كذبوه وألقوه في بئر، وذكروا أيضاً: إنّهم ملأوا هذا البئر بالرماح، وأغلقوا فم البئر بعد إلقاء النّبي فيها بالحجارة حتى استشهد ذلك النبي.(2)
2 ـ البعض الآخر يرى أن "أصحاب الرسّ" إشارة إلى قوم "شعيب" الذين كانوا يعبدون الأصنام، وكانوا ذوي أغنام كثيرة وآبار ماء، و"الرسّ" كان اسماً لبئر عظيم، حيث أغاضه الله، فأهلك أهل ذلك المكان.
3 ـ بعض آخر يعتقد أن "الرسّ" كانت قرية في أرض "اليمامة" حيث كان يعيش فيها جماعة من بقايا قوم ثمود، فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مفردات الراغب.
2 ـ أعلام القرآن ص 149 .
[256]
4 ـ وذهب آخرون أنّهم كانوا جماعة من العرب الماضين، يعيشون(1) بين الشام والحجاز.
5 ـ بعض التفاسير يعرّف "أصحاب الرسّ" من بقايا عاد وثمود، ويعتبر (وبئر معطلة وقصر مشيد).(2) متعلقة بهم أيضاً، وذكر أن موطنهم في "حضرموت" واعتقد "الثعلبي" في "عرائس البيان" أن هذا القول هو الأكثر اعتباراً.
البعض الآخر من المفسّرين طبقوا "الرس" على "أرس" (في شمال آذربيجان)!
6 ـ العلامة الطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في التّفسير الكبير، والآلوسي في روح المعاني نقلوا من جملة الإحتمالات، أنّهم قوم يعيشون في أنطاكية الشام، وكان نبيهم "حبيب النجار".
7 ـ في عيون أخبار الرضا، نقل حديث طويل حول "أصحاب الرس" خلاصته: "إنّهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر يقال لها (شاه درخت) كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها (روشن آب) وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له "الرسّ"، يسمين بأسماء: آبان، آذر، دي، بهمن أسفندار، فرودين، أُردي بهشت، خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، ومنها اشتقّ العجم أسماء شهورهم.
وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبّة. أجروا عليها نهراً من العين التي عند الصنوبرة، وحرّموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم، ومن شرب منه قتلوه، ويقولون: إنّه حياة الآلهة فلا ينبغي لأحد أن ينقص حياتها. وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوماً ـ في كل قرية، عيداً، يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثمّ يحرقونها في النار
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ شرح نهج البلاغه، لابن أبي الحديد، ج 1، ص 94.
2 ـ سورة الحج، الآية 45.
[257]
فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها وسطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون، و الشيطان يكلمهم من الشجرة. وكان هذا دأبهم في القرى حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التي كان يسكنها ملكهم واسمها (أسفندار) اجتمع إليها أهل القرى جميعاً وعيّدوا اثني عشر يوماً، وجاءوا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة، وكلّمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر ممّا كان من الشياطين في سائر الأعياد من سائر الشجر.
ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة، بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا، فدعاهم برهة إلى عبادة الله وترك الشرك، فلم يؤمنوا، فدعا على الشجرة فيبست، فلما رأوا ذلك ساءهم، فقال بعضهم: إنّ هذا الرجل سحر آلهتنا، وقال آخرون: إنّ آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب لآلهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئراً عميقاً وألقوه فيها، وسدّوا فوهتها، فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات، فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم".(1)
قرائن متعددة تؤيد مضمون هذا الحديث، لأن مع وجود ذكر "أصحاب الرسّ" في مقابل عاد وثمود يكون احتمال أنّهم جماعة من هاتين الأُمتين بعيداً جداً.
كذلك، فإنّ وجود هؤلاء القوم في الجزيرة العربية والشامات وتلك الحدود ـ و هو الذي احتمله الكثيرون ـ بعيد أيضاً، ذلك لأنّه يجب أن يكون له انعكاس في تاريخ العرب بحسب العادة، في الوقت الذي لم نر حتى انعكاساً ضئيلا لأصحاب الرس لديهم.
مضافاً الى ذلك توافقه مع كثير من التفاسير الأُخرى، من جملتها: أنّ "الرس"
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، طبقاً لنقل وتلخيص تفسير الميزان، ج 15، ص 219 والحديث في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الإمام الرضا(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام).
[258]
كان اسماً لبئر (البئر التي ألقوا فيها نبيهم) أو أنّهم كانوا أصحاب زراعة ومواشي وأمثال ذلك.
و ما ورد في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام): أنّ نساءهم كن منحرفات جنسياً و يمارسن "المساحقة" لا منافاة له مع هذا الحديث أيضاً(1)
و من عبارة (نهج البلاغة، الخطبة 180) يستفاد أنه كان لهم أكثر من نبيّ واحد فقط، لأنّه(عليه السلام) يقول: "أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيّين، وأطفأوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين!؟".
و كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) هذا لا يتنافى مع الرواية أعلاه، لأنّ من الممكن أن الرواية تشير إلى مقطع من تاريخهم وكان قد بعث نبي فيهم.
2 ـ مجموعة من الدروس المؤثرة:
ست فئات في الآيات أعلاه، ذكرت أسماؤهم: قوم فرعون قوم نوح المتعصبون، قوم عاد المتجبرون، ثمود، أصحاب الرس، وقوم لوط، حيث كان كل منهم أسير نوع من الإنحراف الفكري والأخلاقي أدّى بهم إلى الهلاك والشقاء.
الفراعنة كانوا ظالمين جائرين ومستعمرين واستثماريين وأنانيين.
قوم نوح كما هو معلوم كانوا معاندين ومتكبرين ومغرورين.
قوم عاد وقوم ثمود كانوا يتكلون على قدراتهم الذاتية.
و كان أصحاب الرس في دوامة الفساد والشذوذ الجنسي وخاصّة نسائهم، وكان قوم لوط غارقين في وحل من الفحشاء، وشذوذ الرجال بخاصّة، والجميع منحرفون عن جادة التوحيد. حيرى في الضلالات.
و هنا يريد القرآن أن يُنذر مشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وجميع الناس على مدى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 19 .
[259]
التاريخ: ليكن لكم من القدرات والإستطاعة والإمكانات كل شيء ومهما كان لكم من اموال وثروات وحياة مرفّهة، فإن التلوث بالشرك والظلم والفساد سيستأصل أعماركم، وإنّ نفس أسباب تفوقكم تلك ستكون أسباب هلاككم!
قوم فرعون: وقوم نوح، أُهلكوا بالماء الذي هو أساس الحياة، قوم عاد بالعاصفة والرياح التي هي أيضاً في ظروف خاصّة أساس الحياة، قوم ثمود بالسحاب الحامل للصواعق، وقوم لوط بمطر من الحجارة نزل بعد الصاعقة، أو انفجار بركان على قول بعضهم، وأصحاب الرس طبقاً لذيل تلك الرواية أعلاه، أُبيدوا بنار تطلع من الأرض، وبشعلة مهلكة انتشرت من السحاب، ليؤوب هذا الإنسان المغرور إلى نفسه، فيتمسك بطريق الله والعدالة والتقوى.
* * *
[260]
الآيات
وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا(41) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42)أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا(43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَْنْعَـمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا(44)
التّفسير
أضلُّ من الأَنعام:
الملفت للإنتباه أنّ القرآن المجيد لا يورد أقوال المشركين دفعة واحدة في آيات هذه السورة، بل أورد بعضاً منها، فكان يتناولها بالردّ والموعظة والإنذار، ثمّ بعد ذلك يواصل تناول بعض آخر بهذا الترتيب.
الآيات الحالية، تتناول لوناً آخر من منطق المشركين وكيفية تعاملهم مع رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته الحقّة.
[261]
يقول تعالى أولا: (وإذا رأوك إن يتّخذونك إلاّ هزواً أهذا الذي بعث الله رسولا).(1)
وهكذا نجد هؤلاء الكفار يتعجبون! أيَّ ادعاء عظيم يدعي؟ أي كلام عجيب يقول!؟ ... إنّها مهزلة حقّاً!
لكن يجب ألا ننسى أنّ رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، كان هو ذلك الشخص الذي عاش بينهم أربعين عاماً قبل الرسالة، وكان معروفاً بالأمانة والصدق والذكاء والدراية، لكنَّ رؤوسَ الكفر تناسوا صفاته هذه حينما تعرضت منافعهم الى الخطر، وتلقوا مسألة دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بالرغم من جميع تلك الشواهد والدلائل الناطقة ـ بالسخرية والإستهزاء حتى لقد اتّهموه بالجنون.
ثمّ يواصل القرآن ذكر مقولات المشركين فينقل عن لسانهم (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها)(2).
لكن القرآن يجيبهم من عدّة طرق، ففي البداية من خلال جملة واحدة حاسمة يرد على مقولات هذه الفئة التي ما كانت أهلا للمنطق: (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا).
يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة، كما قال بعض المفسّرين مثل "الطبرسي" في مجمع البيان، أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم "بدر" وأمثالها، كما قال "القرطبي" في تفسيره المعروف، ويمكن أن تكون الإشارة إليهما معاً.
الملفت للنظر أنّ هذه الفئة الضالة في مقولتها هذه، وقعت في تناقض فاضح، فمن جهة تلقت النّبي ودعوته بالسخرية، إشارة إلى أن ادعاءه بلا أساس ولا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "هزواً" مصدر، وجاء هنا بمعنى المفعول، وهذا الإحتمال وارد أيضاً وهو أن يكون مضافاً مقداراً (محل هزو)، أيضاً فالتعبير بـ "هذا" للتحقير ولتصغير النّبي.
2 ـ كلمة (إنْ) في (إنْ كاد ليضلنا) مخففة، للتوكيد، وفي تقدير "إنّه كاد" وضميرها ضمير الشأن.
[262]
يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد، ومن جهة أُخرى أنّه لولا تمسكهم بمذهب أجدادهم، فمن الممكن أن ـ يؤثر عليهم كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويضلّهم عن ذلك المذهب، وهذا يدل على أنّهم كانوا يعتبرون كلامه قوياً وجدياً ومؤثراً ومحسوباً، و هذا المنطق المضطرب ليس غريباً عن هؤلاء الأفراد الحيارى اللجوجين.
و كثيراً ما يُرى أنّ منكري الحق حينما يقفون قبالة الأمواج المتلاطمة لمنطق القادة الإلهيين، فإنّهم يختارون اُسلوب الإستهزاء تكتيكاً من أجل توهينه ودفعه، في حين أنّهم يخالفون سلوكهم هذا في الباطن، بل قد يأخذوه بجدية أحياناً ويقفون ضده بجميع امكاناتهم.
الجواب القرآني الثّاني على مقولاتهم ورد في الآية التي بعدها، موجهاً الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل المواساة وتسلية الخاطر، وأيضاً على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النّبي من قبل أُولئك، فيقول: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه (أفأنت تكون عليه وكيلا).
يعني إذا وقف أُولئك أمام دعوتك بالإستهزاء والإنكار وأنواع المخالفات، فلم يكن ذلك لأن منطقك ضعيف ودلائلك غير مقنعة، وفي دينك شك أو ريبة، بل لأنّهم ليسوا أتباع العقل والمنطق، فمعبودهم أهواؤهم النفسية، تُرى أتنتظر أن يطيعك هكذا أشخاص، أو تستطيع أن تؤثر فيهم!؟
أقوال مختلفة للمفسرين الكبار في معنى جملة: (أرأيت من اتّخذ إلهة هواه):
قال جماعة ـ كما قلنا آنفاً ـ : إنّ المقصود أنّ لهم صنماً، ذلك هو هواهم النفسي، وكل أعمالهم تصدر من ذلك المنبع.
في حين أنّ جماعة أُخرى ترى أنّ المراد هو أنّهم لا يراعون المنطق بأي شكل في اختيارهم الأصنام، بل إنّهم متى ما كانت تقع أعينهم على قطعة حجر، أو شجرة جذابة، أو شيء آخر يثير هواهم، فإنّهم يتوهمونه "معبوداً"، فكانوا يجثون
[263]
على ركبهم أمامه، ويقدمون القربان، ويسألونه حل مشكلاتهم.
وذكر في سبب نزول هذه الآية رواية مؤيدة لهذا المعنى، وهي أن إحدى السنين العجاف مرّت على قريش، فضاق عليهم العيش، فخرجوا من مكّة وتفرقوا فكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو حجراً حسناً هويه فعبده، وكانوا ينحرون النعم ويلطخونها بالدم ويسمونها "سعد الصخرة"، وكان إذا أصابهم داء في إبلهم أغنامهم جاؤوا إلى الصخرة فيمسحون بها الغنم والإبل، فجاء رجل من العرب بإبل يريدُ أن يمسح بالصخرة إبله ويتبرك بها، فنفرت إبله فتفرقت، فقال الرجل شعراً:
أتيتُ إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فما نحن من سعدِ
وما سعدِ إلاّ صخرة مستوية من الأرض لا تهدي لغيٍّ ولا رشدِ
و مرَّ به رجل من العرب والثعلب يبول عليه فقال شعراً:
وربّ يبول الثعلبانُ برأسه لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالب(1)التّفسيران أعلاه لا منافاة بينهما، فأصل عبادة الأصنام ـ التي هي وليدة الخرافات ـ هو اتباع الهوى، كما أنّ اختيار الأصنام المختلفة بلا أي منطق، فرع آخر عن أتباع الهوى أيضاً.
وسيأتي بحث مفصل في الملاحظات الآتية، بصدد "اتباع الهوى والشهوات" إن شاء الله.
وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثّالث لهذه الفئة الضالة، هو قوله: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلا).
يعني لا يؤذينك استهزاؤهم ومقولاتهم السيئة وغير المنطقية أبداً، لأنّ الانسان إمّا أن يكون ذا عقل، ويستخدم عقله، فيكون مصداقاً لـ "يعقلون".
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 20.
[264]
أو أنّه فاقد للعلم ولكنّه يسمع قول العلماء، فيكون مصداقاً لـ "يسمعون"، لكن هذه الفئة لا من أُولئك ولا من هؤلاء، وعلى هذا فلا فرق بينهم وبين الانعام. وواضح أنّه لا يتوقع من الأنعام غير الصياح والرفس والأفعال اللامنطقية. بل هم أتعس من الأنعام وأعجز، إذ أن الأنعام لا تعقل ولا فكر لها، وهؤلاء لهم عقل وفكر، وتسافلوا إلى حال كهذه.
المهم هو أنّ القرآن يعبّر بـ "أكثرهم" هنا أيضاً، فلا يعمم هذا الحكم على الجميع، لأنّه قد يكون بينهم أفراد مخدوعون واقعاً، وحينما يواجهون الحق تنكشف عن أعينهم الحجب تدريجياً، فيتقبلوا الحق، وهذا نفسه دليل على أن القرآن يراعي الإنصاف في المباحث القرآنية.
* * *
بحثان
1 ـ اتباع الهوى وعواقبه الأليمة
لا شك أنّ في كيان الإنسان غرائز وميولا مختلفة، وجميعها ضروري لإدامة حياته، الغيظ والغضب، حب النفس، حب المال والحياة المادية، وأمثالها، ولا شك أنّ مبدع الوجود خلقها جميعاً لذلك الهدف التكاملي.
لكن المهم هو أنّها تتجاوز حدها أحياناً، وتخرج عن مجالها، وتتمرّد على كونها أداة طيعة بيد العقل، وتصرُّ على العصيان والطغيان، فتسجن العقل، وتتحكم بكل وجود الإنسان، وتأخذ زمام اختياره بيدها.
هذا هو ما يعبرون عنه بـ "اتباع الهوى" الذي هو أخطر أنواع عبادة الأصنام، بل إن عبادة الأصنام تنشأ عنه أيضاً، فليس عبثاً أن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) اعتبر صنم "الهوى" أعظم وأسوأ الأصنام، لذا قال: "ما تحت ظل السماء من إله يعبد
[265]
من دون الله أعظم عند الله من هوىً متبع"،(1)
ونقرأ في حديث آخر عن بعض أئمّة الإِسلام "أبغض إله عُبد على وجه الأرض الهوى".
وإذا تأملنا جيداً في أعماق هذا القول، نعلم جيداً لماذا كان اتباع الهوى مصدر الغفلة، كما يقول القرآن: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه).(2)
و من جهة أُخرى فإن اتباع الهوى منبع الكفر وعدم الإيمان، كما يقول القرآن (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه).(3)
و من جهة ثالثة فإنّ اتباع الهوى أسوأ الضلال، يقول القرآن الكريم: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله).(4)
و من جهة رابعة فإن اتباع الهوى نقطة مقابلة لطلب الحق، ويخرج الإنسان عن طريق الله، كما نقرأ في القرآن: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).(5)
و من جهة خامسة فإن اتباع الهوى مانع من العدل والإنصاف كما نقرأ في القرآن: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا).(6)
و أخيراً، فإنّ نظام السماء والأرض إذا دار حول محور أهواء وشهوات الناس، فإنّ الفساد سوف يعمُّ كلَّ ساحة الوجود: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن).(7)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الدر المنثور، في ذيل الآية مورد البحث، نقلا عن تفسير الميزان، ج 15، ص 257.
2 ـ سورة الكهف، الآية 28.
3 ـ سورة طه، الآية 16.
4 ـ سورة القصص، الآية 50.
5 ـ سورة ص، الآية 26.
6 ـ سورة النساء، الآية 135.
7 ـ سورة المؤمنون، الآية 71.
[266]
وفي الروايات الإسلامية أيضاً، نلاحظ تعبيرات مؤثرة في هذا الصدد:
نقرأ في رواية عن على(عليه السلام): "الشقي من انخدع لهواه وغروره".(1)
وفي حديث آخر عنه(عليه السلام)، نقرأ أن: "الهوى عدو العقل".(2)
نقرأ أيضاً: "الهوى أُسُّ المحن".(3)
و عنه(عليه السلام): "لا دين مع هوى"(4) و"لا عقل مع هوى".(5)
والخلاصة أن اتباع الهوى ليس من الدين وليس من العقل، وليس عاقبة اتباع الهوى إلاّ التعاسة والمحن والبلاء، ولا يثمر إلاّ المسكنة والشقاء والفساد.
أحداث حياتنا والتجارب المرّة التي رأيناها في أيّام العمر بالنسبة إلينا وإلى الآخرين، شاهد حي على جميع النكات التي وردت في الآيات والرّوايات أعلاه بصدد اتباع الهوى.
نرى أفراداً يتجرعون المرارة إلى آخر أعمارهم، جزاء ساعة واحدة من أتباع الهوى.
و نعرف شباباً صاروا أسارى مصيدة الإِدمان الخطير، والإِنحرافات الجنسية و الأخلاقية، على أثر انقيادهم للهوى، بحيث تحولوا إلى موجودات ذليلة لا قيمة لها، وفقدوا كل قواهم وطاقاتهم الذاتية.
في التأريخ المعاصر والماضي، نلتقي بأسماء الذين قتلوا آلافاً وأحياناً ملايين من الناس الأبرياء، من أجل أهوائهم، بحيث أن الاجيال تذكر أسماءهم المخزية بالسوء إلى الأبد.
هذا الأصل لا يقبل الإستثناء، فحتى العلماء والعبابدون أهل السابقة مثل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغه، الخطبة 86 .
2 ـ غرر الحكم، الجملة 265.
3 ـ غرر الحكم، الجملة 1048 .
4 ـ غرر الحكم، الجملة 10531 .
5 ـ غرر الحكم، الجملة 10541 .
[267]
(بلعم بن باعورا) سقطوا من قمة العظمة الإنسانية إلى الهاوية، نتيجة انقيادهم لهوى النفس، حيث يمثلهم القرآن بالكلب النجس الذي لا ينفك عن النباح (الآية 176 سورة الأعراف).
لهذا فلا عجب أن يقول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام): "إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان، اتباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة".(1)
وردت أيضاً في النقطة المقابلة ـ يعني ترك أتباع الهوى ـ آيات وروايات توضح عمق هذه المسألة من وجهة نظر الإسلام، إلى حد أن يُعدّ مفتاح الجنّة الخوف من الله، ومجاهدة النفس: (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنّة هي المأوى).(2)
يقول علي(عليه السلام): "أشجع الناس من غلب هواه".(3)
و قد نقلت قصص كثيرة في حالات محبي الحق وأولياء الله، والعلماء والعظماء، حيث نالوا المقامات العالية نتيجة ترك أتباع الهوى، هذه المقامات لم تكن ممكنة بالطرق العادية.
2 ـ لماذا أَضلُّ من الأنعام!؟
لتجسيد أهمية الموضوع في الآيات أعلاه، يبيّن القرآن أوّلا: أن الذين اتّخذوا اهواءهم آلهه يعبدونها هم كالأنعام، وبعد ذلك يضيف مشدداً: بل هم أضل!
نظير هذا التعبير ورد أيضاً في الآية (172) من سورة الأعراف في أهل النار الذين يؤولون إلى هذا المصير نتيجة عدم الإستفادة من السمع والبصر والعقل،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 728 (ذيل مادة هوى) ونهج البلاغة، الخطبة 28 و42 .
2 ـ سورة النازعات، الآية 40.
3 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 689 (مادة شجع).
[268]
يقول تعالى: (أُولئك كالأنعام بل هم أضل).
(أضل)و إن كانت واضحة إجمالا، لكن المفسّرين قدموا بحوثاً جيدة في هذه المسألة، وهي ـ مع تحليل وإضافات:
1 ـ إذا لم تفهم الأنعام شيئاً، وليس لها أذن سامعة وعين باصرة، فذلك لعدم استعدادها الذاتي، لكن الأعجز منها الإِنسان الذي تكمن في وجوده خميرة جميع السعادات، والذي أفاض الله عليه قدراً عظيماً من الإستعدادات ليستطيع أن يكون خليفة الله في الأرض، ولكن أفعاله الذميمة بلغت به حدّاً أسقطته عن مستوى الأنعام، وأذهبت كل لياقاته هدراً، وهوى مِن رتبة مسجود الملائكة إلى حضيض الشياطين الذليلة. وهذا هو الأضل والمؤلم حقاً.
2 ـ الأنعام غير مسؤولة تقريباً، وليست مشمولة بالجزاء الإلهي، في حين أنّ البشر الضالين يجب عليهم أن يحملوا عبء كل أعمالهم على عواتقهم، ليروا جزاء أعمالهم بلا نقص أو زيادة.
3 ـ تؤدي الأنعام للإنسان خدمات كثيرة، وتنجز له أعمالا مختلفة، أمّا طغاة البشر العصاة فلا تتأتى منهم أية منفعة، بل يسببون آلافاً من البلاءات والمصائب.
4 ـ الأنعام لا خطر منها على أحد، فإذا كان ثمّة خطر منها، فخطر محدود، لكن الويل من الإنسان غير المؤمن، والمستكبر، عابد الهوى، الذي يؤجج أحياناً نار حرب يذهب ضحيتها الملايين من الناس.
5 ـ إذا لم يكن للأنعام قانون ومنهج، فإنّها تتبع مساراً عيّنه الله لها على شكل غرائز، فهي تتحرك على ذلك الخط. أمّا الإنسان المتمرد، فلا يعترف بقوانين تكوينية ولا قوانين تشريعية، ويعتبر هواه وشهواته حاكماً على كل شيء.
6 ـ الأنعام لا تبرير لديها لأعمالها أصلا، فإذا خالفت فهي المخالفة، وإذا أرادت أن تمضي في طريقها حين تمضي فذلك هو الواقع، أمّا الإنسان المتكبر
[269]
السفاك، عابد الهوى فكثيراً ما يبرر جميع جرائمه بالشكل الذي يدعي فيه أنّه يؤدي مسؤولياته الإلهية والإنسانية.
ولهذها، فلا موجود أكبر خطراً وأشد ضرراً من إنسان متبع للهوى، عديم الايمان ومتمرد.
ولهذا وصمته الآية (22) من سورة الأنفال بلقب (شر الدواب) وكم هو مناسب هذا اللقب؟!!
* * *
[270]
الآيات
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الضِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا(45) ثُمَّ قَبَضْنَـهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46)وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورَاً(47) وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَ طَهُوراً(48) لِّنُحْىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَـماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً(49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَـهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً(50)
التّفسير
حركة الظلال:
في هذه الآيات كلام في أقسام مهمّة من النعم الإلهية، على سبيل بيان أسرار التوحيد ومعرفة الله، الأُمور التي يزيدنا التفكر فيها معرفة بخالقنا وقرباً منه، ومع الإلتفات إلى أنّ المحاورات الكثيرة في الآيات الماضية كانت مع المشركين، تتّضح صلة وارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة.
[271]
في هذه الآيات، كلام في نعمة "الضلال" ثمّ في آثار وبركات "الليل" و"النوم و الإستراحة" و"ضياء" النهار و"هبوب الرياح" و"نزول المطر" و"إحياء الأراضي الموات" و"سقاية" الأنعام والناس.
يقول تعالى أولا: (ألم تر إلى ربّك كيف مد الظل، ولو شاء لجعله ساكناً).
لا شك أنّ هذا الجزء من الآية إشارة إلى أهمية نعمة الظلال الممتدة والمتحركة.
الظِلال التي لا تثبت على حال، بل هي في حركة وانتقال.
ولكن أي ظل هو المقصود بالآية؟ ثمّة أقوال في أوساط المفسّرين:
بعضهم يقول: هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الأرض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وأهنأ الظلال والساعات هي تلك، هذا النور الشفاف، والظل المنبسط، يبدأ عند طلوع الفجر، يتلاشى عند طلوع الشمس حيث يأخذ مكانه الضياء.
و يرى البعض الآخر أن المقصود هو ظل الليل بأجمعه، الذي يبدأ من لحظة الغروب وينتهي عند لحظة طلوع الشمس، لأنّنا نعلم أنّ الليل في الحقيقة هو ظل نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس، وهو ظل مخروطي يكون في الطرف الآخر ومنتشراً في الفضاء الواسع. وهذا الظل المخروطي في حركة دائمة ومع طلوع الشمس على منطقة يزول عنها ليتشكل في أُخرى.
وقال آخرون: المقصود هو الظل الذي يظهر للأجسام بعد الظهر فينبسط شيئاً فشيئاً بالتدريج.
طبيعي، أنّه لو لم تكن الجمل الآتية، لكنّا نفهم من هذه الجملة معنىً واسعاً يشمل جميع الظلال الشاسعة، لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن التّفسير الأوّل أكثر تناسباً، لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك: (ثمّ جعلنا الشمس عليه دليلا).
[272]
إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لو لم تكن الشمس، فالظل من حيث الأصل يخلق بسبب ضياء الشمس، لأنّ "الظل" يطلق عادة على الظلمة الخفيفة اللون التي تظهر الأشياء فيها، وهذا في حالة ما إذا أضاء النور جسماً مانعاً لنفوذ النور، فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة. بناءً على هذا فليس تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقاً لقاعدة "تعرف الأشياء بأضدادها" فقط، بل إنّ وجوده أيضاً من بركة النور.
بعد ذلك يبيّن تعالى: ثمّ إنّنا نجمعه جمعاً وئيداً (ثمّ قبضناه إلينا قبضاً يسيراً).
من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجياً، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماماً في بعض المناطق، لأنّ الشمس آنئذ تستقر تماماً فوق رأس كل موجود، وفي مناطق أُخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعةً واحدةً، وهذا نفسه حكمة الخالق، ذلك لأنّ الإنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضاراً بجميع المخلوقات. لكن هذا النظام المتدرج في هذه الحالة الإنتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات، دون أن يكون له أي ضرر.
التعبير بـ "يسيراً" إشارة إلى انقباض الظل التدريجي، أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة الخاص، شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق. وكلمة (إلينا) تأكيد على هذه القدرة أيضاً.
على أية حال، لا شك أن الإنسان كما يحتاج إلى أشعة "النور" في حياته، فهو كذلك يحتاج إلى "الظل" لتعديل ومنع "النور" أوقات اشتداده، فكما أنّ أشعة النور المستديمة تربك الحياة، كذلك فإنّ الظل الدائم الساكن مهلك أيضاً.
في الحالة الأُولى تحترق جميع الموجودات، وفي الحالة الثّانية تنجمد جميعاً، ولكن هذا النظام المتناوب من "النور" و"الظل" هو الذي يجعل الحياة ممكنة وسائغة للإِنسان.
[273]
لذا فإنّ آيات قرآنية أُخرى تعدُّ وجود الليل والنهار، الواحد تلو الآخر، من النعم الإلهية العظيمة، ففي موضع يقول تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء، أفلا تسمعون). ويضيف مباشرة (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون).(1)
و يستنتج من هذا القول أنّ هذا النظام من رحمة الله الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا وتستريحوا فيهما، ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله، ولعلكم تشكرون (و من رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).(2)
ولهذا يعد القرآن "الظل الممدود" إحدى نعم الجنّة، حيث لا نورَ مُعش مرهق، ولا ظلمة موحشة.
بعد ذكر نعمة الظلال، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين أُخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود الله، يقول تعالى: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً).
كم هو تعبير جميل ورائع (جعل لكم الليل لباساً)... هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم، أو لإيجاد الظلام.
ثمّ يشير تعالى إلى نعمة النوم (و النوم سباتاً).
"السبات" في اللغة من "سبت" (على وزن وقت) بمعنى القطع، ثمّ جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة، ولذا فإنّ أوّل أيّام الأسبوع يسمّونه في لغة العرب "يوم السبت" وهي تسمية أُخذت من طريقة اليهود، لأنّه يوم تعطيلهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ القصص، 71 و72.
2 ـ القصص، 73.
[274]
هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم، لأنّنا نعلم أن قسماً مهماً من الأفعال البدنية يتوقف كلياً في حال النوم، وقسماً آخر مثل عمل القلب وجهاز التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جدّاً، ويستمر بصورة أكثر هدوءً كيما يرتفع التعب وتتجدد القوى.
النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه، مجدد لجميع طاقات البدن، وباعث للنشاط والقوّة، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب، بعكس الأرق خصوصاً لفترة طويلة ـ فهو ضارٌ جدّاً وقد يؤدي الى الموت أيضاً. ولهذا فإنّ قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة الإنسان بسرعة.
وفي ختام الآية، أشار تعالى إلى نعمة "النهار" فقال تعالى: (وجعل النهار نشوراً).
كلمة "النشور" في الأصل من النشر بمعنى البسط، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع، والحركة للمعاش على وجه الأرض. نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يقول كل صباح: "الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور".(1)
فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً، كما أن الظلام باعث على النوم والهدوء.
في عالم الطبيعة أيضاً، فإنّ الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية و يستجد انبعاثٌ فيها بمجرّد سطوع أوّل اشعة للشمس، فينطلق كل واحد منها إلى سبيله، وحتى النباتات تتنفس وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور، أمّا عند مغيب الشمس، فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء العمل والسكون، الطيور تؤوب إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي.
[275]
أوكارها، الموجودات الحية تفيء إلى الإستراحة والنوم، حتى النبانات تغطُّ في نوع من النوم.
بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية ـ يتناول القرآن الكريم موهبة أُخرى مهمّة جدّاً فيقول: (وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً).
لا يخفى أن دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية، وإلاّ فلن تنزل قطرة مطر على الأرض العطشى أبداً.
صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء، وتراكم هذه الأبخرة في طبقة عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة، ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.
والخلاصة أن وجود بشائر الرحمة هذه، التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الأرض، سبب رواء الجفاف على الأرض، ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل الأنهار والعيون والآبار، ونمو أنواع النباتات.
إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم، في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر، هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبىء عن قدوم مسافر عزيز.
التعبير بـ "الرياح" بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها، فبعض شمالي، وبعض جنوبي، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق.(1)
المهم هنا هو أن "الماء" قد وصف بـ "الطهور" التي هي صيغة مبالغة من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يجب الإنتباه إلى أنّ "بُشْراً" ـ بسكون الشين مخفف ـ "بُشُراً" ـ بضم الشين ـ الذي هو جمع "بشور" (على وزن قبول) بمعنى مبشر وبشير.
[276]
الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته، ويطهر الأشياء الملوثة... ثمّة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة، ولكنّها لا تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها!
وعلى أية حال، فمضافاً إلى خاصية الإحياء، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتلا للميكروب عادة، ولكنّه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة (الإذابة). ومن هذه الناحية فإنّه يقدم مساعدة مؤثرة جدّاً في مسألة سلامة الإنسان ومكافحة أنواع الأمراض.
مضافاً إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً.
لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية، اعتبرت في الدرجة الثّانية، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء: (لنحي به بلدة ميتاً)(1).
وأيضاً (ونسقيه ممّا خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً).
* * *
ملاحظات
و هنا ملاحظات مهمّة:
1 ـ في هذه الآية ورد الكلام عن الأنعام والأناسي الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد من ماء المطر!!
هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذين ليس لديهم ماء مطلقاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أن "بلدة" هنا بمعنى الصحراء، ومع أنّ هذا اللفظ مؤنث، فصفته التي هي "ميتاً" وردت بصيغة المذكر، ذلك لأن المراد بالمعنى "المكان" وهو مذكر.
[277]
سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة، هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما تظهر السُحب في السماء ويمطل عليهم المطر، وتمتلىء الأراضي المنخفضة من ماء المطر الزلال، فيرتوون منه ويسقون انعامهم، ويشعرون بنشاط الحياة يدبُّ في وجودهم ووجود أنعامهم.
2 ـ جملة "نسقيه" من مادة "إسقاء" وفرقها عن "سقى"كما قال الراغب في المفردات وآخرون من المفسّرين، هو أنّ الإسقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية، ليشرب منه الإنسان متى أراد، في حين أن مادة "سقى" بمعنى أن يُعطى من يريد الماء حتى يشرب، وبعبارة أخرى فإن الإسقاء له معنىً أوسع وأعم.
3 ـ في هذه الآية، ورد الكلام أوّلا عن الأراضي الميتة، ثمّ الأنعام ثمّ الأناسي، وهذا التعبير ربّما كان لأن الأراضي إذا لم تحي بالمطر، فلن يكون للأنعام طعام، وإذا لم تعش الأنعام، فلن يستطيع الإنسان إن يتعذى منها.
4 ـ طرح مسألة الإِحياء بالماء بعد مسألة التطهير، قد يكون إشارة إلى الإِرتباط الوثيق بين هاتين المسألتين (حول آثار الإِحياء بالماء، ثمّة بحث مفصل في ذيل الآية 30 سورة الانبياء).
في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ يشير تعالى إلى القرآن فيقول: جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق، لكن كثيراً من الناس لم يتخذوا موقفاً إزاء ذلك إلاّ الإنكار والكفران: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً).
وإن أرجع كثير من المفسّرين مثل العلامة الطبرسي في تفسيره، والشيخ الطوسي في تفسير التبيان، والعلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين، الضمير في جملة "صرفناه" إلى المطر، حيث يكون مفهومها هكذا: أنزلنا المطر في جهات ومناطق مختلفة من الأرض، ووزعناه بين الناس ليتذكروا هذه النعمة العظمى.
[278]
لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته، لأن هذا التعبير (بصيغة الفعل الماضي والمضارع) ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد، حيث أُرجع في تسعة مواضع إلى آيات القرآن وبياناته صراحة، وأُتبع بجملة "ليذكروا" أو ما يشابهها في موارد متعددة. على هذا فمن البعيد جداً أن يأخذ هذا التعبير مفهوماً آخر في هذا المورد الواحد.
و من حيث الأصل فإنّ "تصريف" التي هي بمعنى التحويل من حال إلى حال، ليس لها تناسب كثير مع نزول المطر، في وقت هي أكثر تناسباً مع آيات القرآن التي تأتي في انحاء مختلفة، أحياناً بصورة وعد، وأحياناً بصورة أمر، وأُخرى بصورة نهي، وأحياناً بصورة قصص الماضين.
* * *
[279]
الآيات
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَة نَّذِيزاً(51) فَلاَ تُطِعِ الْكَـفِرِينَ وَجَـهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبيراً(52) وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً(53) وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً(54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً(55)
التّفسير
بحران متجاوران: عذب فرات وملح أُجاج:
الآية الأُولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول تعالى: لو أردنا لبعثنا نبيّاً في كل مدينة وبلد، لكنّنا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين على عاتقك: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً).
كما أنّ الله عزَّوجلّ ـ طبقاً للآيات السابقة ـ قادر على إرسال قطرات المطر الباعث على الحياة إلى كل الأراضي الميتة، فله القدرة أيضاً على إنزال الوحي
[280]
والنبوّة على قلب نبيّ في كل قرية، وأن يبعث لكل أُمة نذيراً، لكن الله يختار لعباده ما هو أصلح، لأنّ تمركز النبوّة في وجود فرد واحد يكون باعثاً على وحدة وانسجام الناس، ومانعاً من كل فرقة وتشتت.
و يحتمل أن بعض المشركين أوردوا هذا الاشكال وهو: ألم يكن من الأفضل أن يبعث الله نبيّاً في كل مدينة وقرية؟!
لكن القرآن يقول في ردّهم: لو أراد الله ذلك لفعل، لكن هذا التشتت ليس في صالح الأمم والشعوب قطعاً.
وعلى أية حال، فكما أن هذه الآية دليل على عظمة مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي دليل كذلك على وجوب وحدة القائد، وعلى ثقل عبء مسؤوليته.
وبنفس هذا الدليل، يبيّن الله تبارك وتعالى في الآية التالية، أمرين إلهيين مهمين يشكلان منهجين أساسيين للانبياء، فيوجه الخطاب أوّلا إلى الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: (فلا تطع الكافرين).
لا تخطُ أية خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم، فإنّ التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى الله، قف أمامهم بقوّة، واسعَ إلى إصلاحهم، لكن كن حذراً ولا تتسلم لأهواءهم وخرافاتهم.
أمّا القانون الثّاني فهو: جاهد أُولئك بالقرآن: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً).
جهاداً كبيراً بعظمة رسالتك، وبعظمة جهاد كل الأنبياء الماضين، الجهاد الذي يشمل جميع الأبعاد الروحية والفكرية للناس، ويشمل كل الأصعدة المادية والمعنوية.
لا شك أن المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكري والثقافي والتبليغي وليس الجهاد المسلح، ذلك لأنّ هذه السورة مكية، والأمر بالجهاد المسلح لم يكن قد نزل في مكّة. وعلى قول العلامة "الطبرسي" في مجمع البيان، أن هذه الآية دليل واضح على أنّ الجهاد الفكري والتبليغي في مواجهة وساوس
[281]
المضلين وأعداء الحق من أكبر أنواع الجهاد.
وروي عن النّبى(صلى الله عليه وآله وسلم): "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".
وربّما كان هذا الحديث إشارة إلى نفس هذا الجهاد وإلى عظمة ما يؤديه العلماء في التبليغ بالدين، هذا التعبير يجسد أيضاً عظمة مقام القرآن، ذلك لأنّه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلاحه القاطع، فإنّ قدرته البيانية واستدلاله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر.
الوسيلة المؤثرة والواضحة كوضوح الشمس وضياء النهار، والمطمئنة كطمأنية ستائر الليل، والمحركة كحركة الرياح الخلاقة، والعظيمة بعظمة الغيوم وفيما تبثه قطرات المطر من حياة، حيث أشارت إلى ذلك الآيات السابقة.
و بعد فاصلة وجيزة، يتناول القرآن الكريم مجدداً الإستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الإختلاط بين المياه العذبة والمالحة: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً).
"مرج" من مادة "المرج" (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال، وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح.
"عذب" بمعنى سائغ وطيب وبارد، و"فرات" بمعنى لذيذ وهنيء.
"ملح" بمعى مالح، و"أجاج" بمعنى مُرّ وحار. (بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب وفرات).
"برزخ" بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.
و جملة (حجراً محجوراً) كما أشرنا سابقاً (ذيل الآية 22 من هذه السورة) كانت جملة لاخذ الأمان بين العرب يقولونها عندما يفاجؤون بشخص يخافونه ويرهبونه، يعني (أعفُ عنا، وآمنا، وابتعد عنا).
على أية حال، فهذه الآية تصور واحداً من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق
[282]
في عالم مخلوقاته، وكيف يستقر حجاب غير مرئي، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب، فلا يسمح لهما بالاختلاط.
و قد اتّضح اليوم أن هذا الحجاب اللامرئي، هو ذلك "التفاوت بين كثافة المالح والعذب" وفي الإصطلاح "تفاوت الوزن النوعي" لهما، حيث يكون سبباً في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.
و رغم أنّ جماعة من المفسّرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة الأرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء ولا يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة انحلت لنا، لأنّنا نعلم أن جميع أنهار الماء، العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل، تشكل بحراً من الماء العذب، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف، ويستمر هذا الوضع إلى مدّة طويلة، وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن الإمتزاج مع بعضهما، فكل واحد منهما يقول للآخر: (حجراً محجوراً).
الملفت هو أنّ سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصلان مرّتين في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة التي شكلت بحراً اليابسة في مصبات تلك الأنهار وأطرافها، وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان، فحفروا جداول كثيرة في أطراف ملتقى الأنهار مع البحر، وزرعوا اراض شاسعة بالاشجار، حيث تتمّ سقايتها بنفس ذلك الماء العذب الذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر.
توجد حتى الآن في جنوب العراق وإيران ملايين من أشجار النخيل، وقد شاهدنا عن قرب أنّ قسماً منها يسقى فقط بهذه الوسيلة، ويقع على بعد كبير من ساحل البحر، وأحياناً يتغلب الماء المالح حيث تقل المياه التي تصبها الأنهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية، فيقلق المزارعون من أهل هذه المنطقة، لأنّ ذلك يضرُّ بزراعتهم ضرراً بالغاً.
[283]
لكن العادة ليست كذلك، فهذا الماء "العذب الفرات" المستقر إلى جوار الماء "المالح والأجاج" يُعدُّ ذخيرة عظيمة لهم.
معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه المسائل لا يقلل من قيمتها أبداً، وإلاّ فما هي الطبيعة؟ ليست هي إلاّ فعل الله وإرادته ومشيئته، وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات.
و الملفت للنظر أنّ الإنسان حينما يجتاز هذه المناطق بالطائرة، يرى جيداً هذان الماءان المختلفان في اللون، غير الممتزجين، فيذكّر هذا المشهد الإِنسان بهذه النكتة القرآنية.
إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق بـ "الكفر" و"الإيمان" ربّما تكون أيضاً إشارة وتمثيلا لهذا الأمر، ففي المجتمع الواحد أحياناً، وفي المدينة الواحدة، بل حتى في البيت الواحد أحياناً، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج... مع طرازين من الفكر، ونوعين من العقيدة، و نمطين من العمل، طاهر وغير طاهر، دون أن يمتزجا.
في الآية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر، وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء، فيقول تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً).
حقاً إن النحت في الماء، وخلق صورة بديعة كهذه على الماء، دليل على عظمة قدرة الخالق، وكان الكلام في الآيات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر، و الكلام ـ هنا عن مرحلة أعلى، يعني خلق الإنسان من الماء.
و بين المفسّرين أقوال في المراد من الماء هنا:
ذهب جماعة أنّ المقصود من "بشر" هو الإنسان الأول، يعني آدم(عليه السلام)، ذلك لأنّ خلقه كان من "طين" يعني عجيناً من ماء وتراب، إضافة إلى أن الماء كان أوّل موجود خلقه الله تعالى طبقاً للرّوايات الإسلامية، وخلق الإنسان من ذلك الماء،
[284]
وتنكير "بشر" شاهد على هذا المعنى.
و ذهب جماعة آخرون أن المقصود من "الماء" هو ماء النطفة، حيث يتكون جميع الناس منه بقدرة الخالق، ومع امتزاج نطفة الرجل "الحيمن" الذي يسبح في الماء مع "البويضة" نطفة المرأة، تتكون أول نواة لحياة الإنسان، يعني الخلية الإنسانية الحية الأُولى.
لو تدبّر الإنسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها، فسيشاهد الكثير من آيات عظمة الحق وقدرة الخالق فيها، حيث تكفي وحدها لمعرفة ذاته المقدسة تبارك وتعالى.
الشاهد على هذا التّفسير، جملة وردت في آخر الآية، وسنشرحها (فجعله نسباً وصهراً).
فضلا عن هذا، فلا شك أنّ الماء يشكل القسم الأكبر من وجود الإنسان، بالصورة التي يمكن القول أنّ المادة الأساس لوجود أي إنسان هي الماء، لهذا فإن مقاومة الإنسان إزاء العطش قليلة جدّاً، في حين يستطيع الإنسان أن يقاوم أيّاماً وأسابيع حيال قلّة المواد الغذائية.
و يحتمل قوياً أيضاً، أنَّ جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم الآية، أي أن الإنسان الأوّل خلق من ماء، وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضاً، وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضاً... الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم، كيف صار مبدأ ايجاد مثل هذا الخلق الجميل!؟ وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى.
بعد ذكر خلق الإنسان، يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الأنسان، فيقول: (فجعله نسباً وصهراً).
المقصود من "النسب" هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد، مثل ارتباط الأب والابن، أو الإخوة بعضهم مع بعض، أمّا المقصود من
[285]
"صهر" التي هي في الأصل بمعنى "الختن" هو الإرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق، مثل ارتباط الإنسان بأقرباء زوجته، وهذان الإثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح بـ "النسب" و "السبب".
في القرآن المجيد في سورة النساء، أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد (الأم، البنت، الأخت، العمة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت) وإلى المحارم السببية في أربعة موارد (بنت الزوجة، أم الزوجة، زوجة الابن، زوجة الأب).
من المؤكّد أن هناك وجهات نظر أُخرى لدى المفسّرين في تفسير هذه الجملة، لكن ماقلناه أوضح وأقوى من جميعها.
فمن جملتها أنّ جماعة منهم اعتبروا "النسب" بمعنى أولاد الابن، و "الصهر" بمعنى أولاد البنت، ذلك لأن الإرتباط النسبي يحسب على أساس الآباء لا على أساس الاُمهات.
و كما قلنا بشكل مفصل ـ في ذيل الاية (61) من سورة آل عمران ـ فإنّ هذا اشتباه كبير، استمدَّ من سنن أيّام ما قبل الإسلام، حيث اعتبروا النسب عن طريق الأب فقط، وليس للأم أي أثر، في حين أن من المسلمات في الفقه الإسلامي وبين جميع علماء الإسلام أن الحرمة النسبية من ناحية الأب ومن ناحية الاُم أيضاً (ولزيادة الاطلاع، راجع التّفسير ذيل الآية (61) من سورة آل عمران).
و الجدير بالذكر، أن لدينا حديثاً معروفاً، نقل في كتب الشيعة والسنة، وطبقاً لهذا الحديث فإنّ الآية أعلاه نزلت في النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام)، وذلك أنّ النّبي زوّج ابنته فاطمة من علي(عليهما السلام)، ولهذا فقد كان علي(عليه السلام) ابن عمّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج ابنته أيضاً، وهذا معنى "نسباً وصهراً".(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، وتفسير روح المعاني، ذيل هذه الآية.
[286]
ولكن هذه الرّوايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة، ولا تقدح بعمومية مفهوم الآية، فالآية تشمل كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة، وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي(عليه السلام) من جهتين مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية: (وكان ربّك قديراً).
و يبيّن القرآن الكريم في نهاية المطاف في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ انحراف المشركين عن أصل التوحيد، من خلال المقايسة بين قدرة الأصنام وقدرة الخالق، حيث مرّت نماذج منها في الآيات السابقة، يقول: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم).
من المسلّم أنّ وجود المنفعة والضرر لا يكون وحده معيار العبادة، لكن القرآن يبيّن من خلال هذا التعبير هذه النكتة، وهي أنّهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة، لأنّ الأصنام موجودات عديمة الخاصية تماماً، وفاقدة لأية قيمة، ولأي تأثير سلبي أو إيجابي.
و يضيف القرآن الكريم في ختام الآية أن الكفرة يعين بعضهم بعضاً في مواجهة خالقهم "في طريق الكفر" (وكان الكافر على ربّه ظهيراً).
إن هؤلاء ليسوا وحدهم في طريق الضلال، إنهم يقوي بعضهم بعضاً بشكل قاطع، ويعبئون القوى ويقيمون العراقيل ضد دين الله ونبيّه والمؤمنين الحقيقيين. وإذا رأينا أن بعض المفسّرين يحصر "الكافر" الوارد في هذه الآية في "أبي جهل" فمن باب ذكر المصداق البارز، وإلاّ فإنّ الكافر في كل مورد له معنى واسع يشمل جميع الكفار.
* * *
[287]
مسألتان
1 ـ وحدة القيادة
في الآية الأُولى ـ مورد البحث ـ قرأنا قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً) ولكننا لم نفعل مثل هذا... ومن المسلّم أن علة ذلك لأن الأنبياء قادة الأُمم، ونعلم أن التعدد في مسألة القيادة يؤدي إلى إضعاف كل أُمّة وشعب، خاصّة و أنّ الكلام هنا عن خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويجب أن تستمر هذه القيادة حتى نهاية العالم. لذا تتّضح ـ أكثر ـ أهمية التمركز والوحدة في القيادة.
القائد الواحد يستطيع أن يوحد جميع القوى، ويمنحها الإنسجام والوحدة. وفي الحقيقة فإن مسألة وحدة القيادة انعكاس لحقيقة التوحيد في المجتمع الإنساني، ويكون في النقطة المقابلة ظواهر الشرك والتفرقة والنفاق.
و ما ورد في الآية (24) من سورة فاطر: (وإن من أُمة إلاّ خلا فيها نذير)فليس ثمّة منافاة مع البحث أعلاه، لأن الكلام فيها عن الأُمة، لا أهل كل مدينة وكل بلد.
فلو أغمضنا النظر عن مقام الأنبياء، فإنّ هذا الأصل صحيح أيضاً حتى في أدنى مستويات القيادة، والشعوب التي صارت أسيرة التعدد في القيادة، إنتهت إلى التجزئة في سائر شؤونها، فضلا عن الضعف والعجز.
2 ـ القرآن وسيلة الجهاد الكبير
"الجهاد الكبير" تعبير بليغ عن أهمية منهج الكفاح الرّباني البنّاء.
الملفت للإنتباه في الآيات أعلاه، هو أنّ هذا العنوان قد أُعطي للقرآن، أو بعبارة أخرى: للأشخاص الذين يجاهدون بالقرآن مظاهر الظلال والإنحرافات والتلوثات.
هذا التعبير يبيّن المواجهات المنطقية والعقائدية من جهة، ويكشف عن
[288]
عظمة مقام القرآن من جهة أُخرى.
ورد في بعض الرّوايات: أنّ أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة... خرجوا ليلة ليستمعوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً! ثمّ انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثّانية عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة! ثمّ انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثّالثة أخذ كلُّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك، ثمّ تفرقوا.
فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثمّ خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني ـ يا أبا حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محمّد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها.
قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
قال: ثمّ خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟
فقال: ماذا سمعت!؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه!!.
[289]
قال: فقام عنه الأخنس وتركه.(1)
نعم، جاذبية القرآن ردت هؤلاء إلى أنفسهم ليالي متوالية، وكانوا حتى بياض الصبح غرقى هذه الجاذبية الإلهية، لكن التكبر والتعصب والحرص على المصالح المادية كان مسلطاً عليهم بحيث منعهم من قبول الحق.
ولا شك أنّ هذا النّور الإلهي له هذه القدرة على أن يجذب إليه كل قلب مستعد أينما كان، ولهذا كان القرآن وسيلة "الجهاد الكبير" في الآيات مورد البحث.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سيرة ابن هشام، ج 1، ص 337; وفي ظلال القرآن، ج 6، ص 172 .
[290]
الآيات
وَ مَآ أَرْسَلنَـكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً(56) قُلْ مَآ أَسْئَلُكُم عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا(57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58)الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الَّرحْمَـنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً(59)
التّفسير
أَجري هو هدايتكم:
كان الكلام في الآيات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع، وفي الآية الحالية الأُولى يشير القرآن إلى مهمّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قبالة هؤلاء المتعصبين المعاندين، فيقول تعالى: (وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "نذير" في اعتقاد البعض صيغة مبالغة، في حين أنّ "مبشر" اسم فاعل فقط، هذا التفاوت التعبيري يمكن أن يكون بسبب أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في مواجهة فئة بلا إيمان وكان لها إصرار بالغ على انحرافها، فلا بد أن يبالغ في إنذارها. (روح المعاني ذيل الآية مورد البحث).
[291]
إذا لم يتقبل هؤلاء دعوتك، فلا جناح عليك، فقد أديت مهمتك في البشارة والإِنذار، ودعوت القلوب المستعدة إلى الله.
هذا الخطاب، كما يشخص مهمّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كذلك يسلّيه، وفيه نوع من التهديد لهذه الفئة الضالة، وعدم المبالاة بهم.
ثمّ يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم أنني لا اريد منكم في مقابل هذا القرآن وابلاغكم رسالة السماء أي أجر وعوض: (قل ما أسألكم عليه من أجر)ثمّ يضيف: إن الأجر الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق الله (إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا).
يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط، وبكامل الإرادة والإختيار أيضاً، فلا إكراه ولا إجبار فيه، وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأتباعه، ذلك لأنّه عدَّ(1) أجره وجزاءَه سعادتهم.
بديهي أنّ للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أجراً معنوياً عظيماً على هداية الأمة، ذلك لأن "الدال على الخير كفاعله".
و ذكر المفسّرون احتمالات أُخرى أيضاً في تفسير هذه الآية من جملتها:
يرى جماعة من المفسّرين أنّ معنى هذه الآية هكذا "أنا لا أريد منكم أي جزاء إلاّ ما أردتم من إنفاق الأموال على المحتاجين في سبيل الله، وذلك مرتبط برغبتكم".(2)
لكنّ التّفسير الأ.ّل .قرب إلى معنى الآية.
اتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ الضمير في "عليه" يرجع إلى القرآن وتبليغ دين الإِسلام، لأن الكلام كان في عدم المطالبة بالأجر والجزاء في مقابل هذه الدعوة.
هذه الجملة بالإِضافة إلى أنّها تقطع حجج المشركين، فهي توضح أن قبول
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بناء على هذا فالإستثناء في الآية أعلاه "استثناء متصل" وإنْ بدا منقطاً لأول وهلة.
2 ـ الإستثناء في هذه الحالة "استثناء منقطع".
[292]
هذه الدعوة الإِلهية سهل ويسير جدّاً لكل أحد، بلا مشقّة ولا خسارة.
وهذا بنفسه شاهد على صدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونقاء فكره ومنهجه، وذلك لأنّ الأدعياء الكاذبين لابدّ أن يُدخلوا في هذا العمل رغبتهم في الأجر والجزاء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
و تبيّن الآية التي بعدها المعتمد الأساس للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وتوكل على الحي الذي لا يموت).
فمع هذا المعتمد والملجأ والمولى الذي ما زال ولن يزال حياً دائماً، فلا حاجة لك بأجر وجزاء هؤلاء، ولا خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم.
والآن حيث الأمر على هذه الصورة فسبح الله تنزيهاً له من كل نقص، وأحمده إزاء كل هذه الكمالات (وسبح بحمده).
من الممكن اعتبار هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، لأنّ تعالى هو المنزّه من كل عيب ونقص، وأهلٌ لكل كمال وجمال، وحقيق بالتوكل عليه.
ثمّ يضيف القرآن الكريم: لا تقلق من بهتان ومؤامرات الأعداء، لأنّ الله مطلع على ذنوب عباده وسيحاسبهم: (وكفى به بذنوب عباده خبيراً).
الآية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود، ووصف آخر لهذا الملاذ الأمين، يقول تعالى: (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيّام). ثمّ (استوى على العرش) فأخذ بتدبير العالم.
إنّ من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة، فكما أنّ خلق العالم كان بواسطة قدرته، كذلك فإنّ إدارة وقيادة وتدبير ذلك العالم بأمر ذاته المقدسة.
ضمناً، فإنّ خلق العالم بشكل تدريجي إشارة إلى أنّ الله لا يعجل في أي عمل، فإذا لم يجاز أعداءك سريعاً، فلأجل أن يمنحهم الفسحة والفرصة حتى يأخذوا بإصلاح أنفسهم، فضلا عن أن من يعجل هو من يخاف الفوت، وهذا غير
[293]
متصور بالنسبة إلى الله القادر المتعال.
في مسألة خلق عالم الوجود في ستة أيّام، فإنّ "اليوم" في مثل هذه الموارد بمعنى "المرحلة"، أو الفترة الزمنية وهذه الفترة من الممكن أن تستغرق ملايين أو مليارات من السنين، وشواهد هذا المعنى في الأدب العربي وغيره كثيرة، بحثناه بشكل مفصل في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف، وشرحنا هناك هذه المراحل الست.
و أيضاً فإنّ معنى "العرش" وجملة (استوى على العرش) وردت هناك أيضاً.
وفي ختام الآية يضيف تعالى: (الرحمن): من شملت رحمته العامّة جميع الموجودات، فالمطيع والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي لا انقطاع فيها.
والآن، حيث ربّك الرحمن القادر المقتدر، فإذا أردت شيئاً فاطلب منه فإنّه المطلع على احتياجات جميع عباده: (فاسأل به خبيراً).
هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ نتيجة لمجموع البحوث السابقة. يأمر الله النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): أعلِنْ لهم أنّني لا أريد منكم أجراً، وتوكل على الله الجامع لكل الصفات، القادر، والرحمن، والخبير، والمطلع، وأطلب منه أي شيء تريده.
للمفسّرين أقوال أُخرى في تفسير هذه الجملة، فقد جعلوا السؤال هنا بمعنى الإستفهام (لا الطلب)، وقالوا: إن مفهوم الجملة هو: إذا أردت أن تسأل في موضوع خلق الوجود وقدرة الخالق، فاسأله هو، فهو العالم بكل شيء.
بعض آخر، بالإضافة إلى أنّهم فسروا "السؤال" بـ "الإستفهام" قالوا: إن المقصود بـ "الخبير" جبرئيل، أو النّبي، يعني: إسألهما عن صفات الله.
التّفسير الأخير بعيد جدّاً بالتأكيد، وما قبله أيضاً غير متناسب كثيراً مع الآيات السابقة، والأقرب هو ما قلناه في معنى الآية من أن المقصود من السؤال
[294]
هو الطلب من الله.(1)
* * *
مسألتان
1 ـ أجر الرسالة
نقرأ في كثير من آيات القرآن أنّ أنبياء الله كانوا يبيّنون هذه الحقيقة بصراحة: إنّنا لا نسأل أي أجر من أي أحد، بل إنّ أجرنا على الله العظيم فقط.
الآيات 109 و127 و145 و164 و180 سورة الشعراء، وكذلك الآيات 29 و 51 سورة هود، والآية 72 سورة يونس و47 سورة سبأ، تدل على هذا المعنى.
لا شك أن عدم المطالبة بالأجر هذه، تدفع كل اتهام عن الأنبياء، فضلا عن أنّهم يستطيعون أن يواصلوا عملهم بحرية تامة، وترتفع الموانع والحواجز التي قد تحدد من حرية ألسنتهم بسبب العلاقة المادية.
أمّا الملفت للإنتباه فإنّه تلاحَظ ثلاثة تعابير مختلفة فيما يخص الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).
1 ـ التعبير الذي ورد في الآيات أعلاه (قل ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا) هذا التعبير الفذ البليغ الرائع.
2 ـ التعبير الوارد في الآية (23) من سورة الشورى (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى).
3 ـ التعبير الوارد في الآية (47) من سورة سبأ (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن أجري إلاّ على الله).
من أنضمام هذه التعابير الثلاثة إلى بعضها، تتحصل النتيجة التالية: فيما يخص
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ طبقاً لهذا التّفسير فـ "الباء" في "به" زائدة، أمّا طبقاً للتفاسير الأُخرى، فإن "الباء" بمعنى "عن".
[295]
الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، إذا عُدَّت المودة في القربى أجر رسالته، فهذه المودة ـ من جانب ـ في نفع المؤمنين أنفسهم لا بنفع النّبي. ومن جانب آخر فإن هذه المودة وسيلة حصول الهداية على طريق الله تبارك وتعالى.
بناء على هذا، فإنّ مجموع هذه الآيات يشير إلى أن المودة في قربى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هي استمرار منهج رسالة وقيادة ذلك النّبي، وبعبارة أخرى: لمواصلة طريق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهدايته وقيادته يجب الإرتباط بذوي قرباه، والإعتماد على قيادتهم، هذا هو الأمر الذي يدافع عنه اتباع أهل البيت في مسألة الإمامة، فإنّهم يعتقدون أن امتداد القيادة بعد النّبي سيستمر إلى الأبد، لا في شكل النبوّة، بل في شكل الإمامة.
و من اللازم الإلتفات إلى هذه النكتة أيضاً، وهي أن المحبة عامل مؤثر في الأتباع، كما نقرأ في الآية (31) من سورة آل عمران: (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني...) ذلك لأنّي المبلغ بأمره.
ورابطة الحب من حيث الأصل، تأخذ الإنسان باتجاه المحبوب وإراداته، وكلما كانت رابطة الحب أكثر قوّة، كانت هذه الجاذبية قوية أكثر. خصوصاً المحبّة التي يكون دافعها كمال "المحبوب"، ويكون الإحساس بهذا الكمال سبباً في أن يسعى الإنسان ليتقرب إلى مبدأ الكمال وإلى تنفيذ إراداته.(1)
2 ـ على من يجب التوكل؟
في الآيات أعلاه، يأمر الله تبارك وتعالى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالتوكل، وأن يصرف النظر عن جميع المخلوقات، وينظر إلى الله عزَّوجلّ فقط.
ولذلك يعدد صفات لهذه الذات المقدسة، هي في الحقيقة شرائط أساسية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ من أجل توضيح أكثر في هذا الصدد، راجع التّفسير الأمثل (ذيل الآية 31 سورة آل عمران).
[296]
فيمن يستطيع أن يكون ملاذاً واقعياً وآمناً للناس.
الأُولى: هي أن يكون حياً، وذلك أنّ موجوداً ميتاً فاقداً لخصائص الحياة ـ مثل الأصنام ـ لا يمكنه أبداً أن يكون معتمداً.
الثّانية: هي أن تكون حياته خالدة، بالشكل الذي لا يحدث احتمال موته تزلزلا في فكر المتوكلين.
الثّالثة: هي أن يحيط بكل شيء علماً، فيكون مطلعاً على احتياجات المتوكلين، وعلى خطط ومؤامرات الأعداء أيضاً.
الرّابعة: هي أن يكون على كل شيء قديراً، حيث لا وجود فيه لأي شكل من العجز وعدم الإستطاعة الموجبين لضعف هذا الملجأ.
الخامسة: هي أن تكون الحاكمية له على جميع الأُمور، وإدارتها بيده المقتدرة.
ونحن نعلم أن هذه الصفات ليست إلاّ لله تبارك وتعالى، ولهذا فهو وحده الملجأ الباعث على الإطمئنان الذي لا يتزلزل أمام كل الحوادث.
* * *
[297]
الآيات
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَـنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً(60) تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِرجاً وَقَمَراً مُّنِيراً(61) وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أرَادَ شُكُوراً(62)
التّفسير
البروج السماوية:
كان الكلام في الآيات الماضية عن عظمة وقدرة الله، وعن رحمته أيضاً، ويضيف الله تعالى في الآية الأُولى هنا: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن).
نحن لا نعرف "الرحمن" أصلا، وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا، (أنسجد لما تأمُرنا) نحن لا نخضع لأي أحد، وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك (وزادهم نفوراً) اي أنّهم يتكلمون بهذا الكلام ويزدادون ابتعاداً ونفوراً عن الحقّ.
لا شكّ أنّ أنسب اسم من أسماء الله للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه،
[298]
هو ذلك الاسم الممتلىء جاذبية "الرحمن" مع مفهوم رحمته العامّة الواسعة، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم، لم يظهروا تأثراً حيال هذه الدعوة، بل تلقوها بالسخرية والإستهزاء، وقالوا على سبيل التحقير: (وما الرحمن) كما قال فرعون حيال دعوة موسى(عليه السلام): (وما رب العالمين).(1) فهؤلاء لم يكونوا على استعداد حتى ليقولوا: "ومن الرحمن" أو "من ربّ العالمين".
ورغم أن بعض المفسّرين يرى أن اسم "الرحمن" لم يكن مأنوساً بين عرب الجاهلية، وحينما سمعوا هذا الوصف من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) طرحوا هذا السؤال على سبيل التعجب واقعاً، حتى كان يقول البعض منهم: "ما نعرف الرحمن إلاّ رجلا باليمامة" (يعنون به مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوّة كذباً، وعرفه وقومه بهذا الاسم "الرحمن").
لكن هذا القول بعيد جدّاً، لأنّ مادة هذا الاسم وصيغته كلاهما عربيان، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو ـ دائماً ـ في بداية السور القرآنية، الآية (بسم الله الرحمن الرحيم)وعلى هذا فلم يكن هدف أُولئك إلاّ التحجج والسخرية، والعبارة التالية شاهد على هذه الحقيقة أيضاً لأنهم يقولون: (أنسجد لما تأمرنا).
وبما أن تعاليم القادة الإلهيين تؤثر في القلوب المؤهلة فقط، فإنّ عمي القلوب من المعاندين مضافاً الى عدم انتفاعهم بها، فإنّها تزيدهم نفوراً لأنّ آيات القرآن كقطرات المطر الباعثة على الحياة تنمي الورد والخضرة في البستان، والشوك في الأرض السبخة، ولذا لا مجال للتعجب حيث يقول: (وزادهم نفوراً).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الشعراء، الآية 23.
2 ـ على هذا فإنّ فاعل (زاد) هو ذلك الأمر بالسجود الذي ترك أثراً معكوساً في أولئك المرضى قلوبهم، وإن نقل بعض المفسّرين أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سجد بعد هذا الكلام وسجد المؤمنون أيضاً، فسبّب هذا ابتعاد أُولئك أكثر، بناء على هذا ففاعل (زاد) السجدة، لكن المعنى الأوّل أكثر صحّة.
[299]
الآية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون: "وما الرحمن"، وإن كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية، لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة، يقول تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً).
"البروج" جمع "برج" في الأصل بمعنى "الظهور" ولذا يسمون ذلك القسم الأعلى والأظهر من جدار أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية "برج"، ولهذا أيضاً يقال حينما تظهر المرأة زينتها "تبرجت المرأة"، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على القصور العالية.
على أية حال، فالبروج السماوية، إشارة إلى الصور الفلكية الخاصّة حيث تستقر الشمس والقمر في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها، يقولون مثلا: استقرت الشمس في برج "الحمل" يعني أنّها تكون بمحاذاة "الصورة الفلكية"، "الحمل"، أو القمر في "العقرب" يعني وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية "العقرب" (تطلق الصورة الفلكية على مجموعة من النجوم لها شكل خاص في نظر المشاهد).
بهذا الترتيب، أشارت الآية إلى منازل الشمس والقمر السماوية، وتضيف على أثر ذلك: (وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً)(1).
تبيّن هذه الآية النظم الدقيق لسير الشمس والقمر في السماء (و بديهي أن هذه التغييرات في الحقيقة ترتبط بدوران الأرض حول الشمس دائماً). والنظام الفذ الدقيق الذي يحكمهما ملايين السنين بلا زيادة أو نقصان، بالشكل الذي يستطيع الفلكيون ـ أحياناً ـ أن يتنبؤا. قبل مئات السنين بوضع حركة الشمس والقمر في يوم معين وساعة معينة بالنسبة إلى مئات السنين الآتية، هذا النظام الحاكم على هذه الأفلاك السماوية العظيمة شاهد ناطق على وجود الخالق المدبر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ طبقاً للتفسير أعلاه، فإنّ ضمير "فيها" يرجع إلى البروج، وينبغي أن يكون هكذا، ذلك لأنّ الموضوع المهم هو دوران الشمس والقمر ضمن نظام خاص في البروج: وليس وجود البروج في السماء فقط.
[300]
والمدير لعالم الوجود الكبير.
مع هذه الدلائل الواضحة، ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر، فهل مازلتم تجهلونه وتقولون: "وما الرحمن"!؟
أمّا لماذا سميت الشمس، "سراجاً"، وقُرِنَ القمر بصفة "منير"؟ فمن الممكن أن يكون دليله أن "السراج" بمعنى المنبع الضوئي الذي نوره مستمدٌ من ذاته وهذا ينطبق على حال الشمس، حيث أنّ من المسلمات العلمية طبقاً للتحقيقات أن نورها من نفسها. بخلاف القمر الذي نوره من ضياء الشمس، ولذا وصفه بـ "المنير" الذي يستمد نوره من غيره دائماً، (في التّفسير الأمثل، أوردنا القول مفصلا في هذا الصدد، ذيل الآية 5 و 6 سورة يونس).
في الآية الأخيرة، يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه، ويتحدث مرّة أُخرى في قسم آخر من نظام الوجود، فيقول تعالى: (و هو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً).
هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار، حيث يعقب أحدهما الآخر متناوبين متواصلين على هذا النظم ملايين السنين... النظم الذي لولاه لإنعدمت حياة الإنسان نتيجةً لشدة النور والحرارة أو الظلمة والعتمة، وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا الله عزَّوجلّ
ومن المعلوم أن نشوء نظام "الليل" و "النهار" نتيجة لدوران الأرض حول الشمس، وأن تغيراتهما التدريجية والمنظمة، حيث ينقص من أحدهما ويزاد في الآخر دائماً بسبب ميل محور الأرض عن مدارها ممّا يؤدي لوجود الفصول الأربعة.
فإذا دارت كرتنا الأرضية في حركتها الدورانية أسرع أو أبطأ من دورانها الفعلي ففي احدى الصور تطول الليالي الى درجة أنّها تجمد كل شيء، ويطول النهار الى درجة أنّ الشمس تحرق كل شيء ... وفي صورة اخرى فإنّ الفاصلة
[301]
القصيرة بين الليل والنهار كانت ستبطل تأثيرهما وفائدتهما. فضلا عن أنّ القوّة المركزية الطاردة كانت سترتفع بحيث ستقذف جميع الموجودات الأرضية بعيداً عن الكرة الأرضية.
والخلاصة أنّ التأمل في هذا النظام يوقظ فطرة معرفة الله في الإنسان من جهة (ولعل التعبير بالتذكر والتذكير إشارة إلى هذه الحقيقة)، ومن جهة أُخرى يُحي روح الشكر فيه، وقد أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: (أو أراد شكوراً).
الجدير بالذكر أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات التي نقلت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّة المعصومين في تفسير الآية، أن تعاقب الليل والنهار من أجل أن الإنسان إذا أهمل اداء واجب من واجباته تجاه الله سبحانه وتعالى فإنّه بإمكانه جبرانه أو قضاءه في الوقت الآخر منهما. هذا المعنى من الممكن أن يكون تفسيراً ثانياً للآية، وممّا سبق من كون الآيات القرآنية ذات بطون، فلا منافاة بين هذا المعنى والمعنى الأوّل أيضاً.
وفي ذلك ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "كلّ ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار، قال الله تبارك وتعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار، وما فاته بالنهار بالليل".(1)
نفس هذا المعنى نقله "الفخر الرازي" عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ من لا يحضره الفقيه، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4 ذيل الآية.
[302]
الآيات
وَعِبَادُ الرَّحْمَـنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـهِلُونَ قَالُواْ سَلَـماً(63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيماً(64) وَالَّذِينَ يَقوُلُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً(65) إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً(66) وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً(67)
التّفسير
الصفات الخاصّة لعباد الرحمن:
هذه الآيات ـ فما بعد ـ تستعرض بحثاً جامعاً فذاً حول الصفات الخاصّة لعباد الرحمن، إكمالا للآيات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم الله "الرحمن" يقولون وملء رؤوسهم استهزاء وغرور "وما الرحمن"؟ ورأينا أن القرآن يعرّف لهم "الرحمن" ضمن آيتين، وجاء الدور الآن ليعرّف "عباد الرحمن".
تبيّن هذه الآيات اثنتي عشرة صفة من صفاتهم الخاصّة، حيث يرتبط بعضها بالجوانب الإعتقادية، وبعض منها أخلاقي، ومنها ما هو إجتماعي، بعض منها
[303]
يتعلق بالفرد، وبعض آخر بالجماعة، وهي أوّلا وآخراً مجموعة من أعلى القيم الإنسانية.
يقول تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً).(1)
إن أول صفة لـ: "عباد الرحمن" هو نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه ـ بدقّة ـ من أسلوب مشيته.
نعم، إنّهم متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.
لقد رأينا بأُم أعيننا في الحياة اليومية، وقرأنا مراراً في آيات القرآن أيضاً، أن المتكبرين المغرورين لم يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كلام القادة الإلهيين، كانوا يتلقون الحقائق بالسخرية، ولم تكن رؤيتهم أبعد من أطراف أُنوفهم، تُرى أيمكن أن يجتمع الإيمان في هذه الحال مع الكبر؟!
نعم، هؤلاء المؤمنون، عباد ربهم الرحمن، والعلامة الأُولى لعبوديتهم هو التواضع... التواضع الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم، فهو ظاهر حتى في مشيتهم.
فإذا رأينا أنّ إحدى أهم القواعد التي يأمر الله بها نبيّه هي (ولا تمش في الأرض مرحاً، إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)(2) فلنفس هذا السبب أيضاً، وهو أن التواضع روح الإيمان.
حقّاً إذا كان للإنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالم الوجود، فسيعلم كم هو ضئيل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "هون" مصدر، وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع، واستعمال المصدر في معنى اسم الفاعل هنا للتوكيد، يعني أنّهم في ما هم عليه كأنّهم عين الهدوء والتواضع.
2 ـ سورة الإسراء، الآية 37.
[304]
حيال هذا العالم الكبير، حتى وإن كانت رقبته كالجبال، فإن أعلى جبال الأرض أمام عظمة الأرض أقل من تعرجات قشر (النارنج) بالنسبة إليها، تلكم الأرض التي هي نفسها لا شيء بالنسبة الى الأفلاك العظيمة.
ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور، دليلا على الجهل المطلق!؟
نقرأ في حديث رائع عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه كان يعبر أحد الأزقة يوماً ما، فرأى جماعة من الناس مجتمعين، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: مجنون شغل الناس بأعمال جنونية مضحكة، فقال: رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقاً، فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): "المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه، الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه، فذلك المجنون، وهذا مبتلى!".
الصفة الثّانية لـ "عباد الرحمن" الحلم والصبر، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).
السلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة، وليس الناشيء عن الضعف.
السلام دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى، سلام الوداع لأقوالهم غير المتروية، ليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة.
والخلاصة، أنه السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.
نعم، المظهر الآخر من مظاهر عظمتهم الروحية، هو التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف لا يطوي أي إنسان طريق "العبودية لله" الصعب الممتلىء بالعقبات، خصوصاً في المجتمعات التي يكثر فيها الفاسدون و"مفسدون" وجهلة.
وتتناول الآية الثّانية، خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة لله، فيقول تعالى: (والذين يبيتون لربّهم سجداً وقياماً).
في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء،
[305]
حرّموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو ألذّ من ذلك، حيث ذكرُ الله والقيام والسجود بين يدي عظمته عزَّوجلّ، فيقضون شطراً من الليل في مناجاة المحبوب، فينورون قلوبهم وأرواحهم بذكره وباسمه.
ورغم أن جملة "يبيتون" دليل على أنّهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح، لكن المعلوم أنّ المقصود هو شطر كبير من الليل، وإن كان المقصود هو كل الليل فإنّ ذلك يكون في بعض الموارد.
كما أن تقديم "السجود" على "القيام" بسبب أهميته، وإن كان القيام مقدّم على السجود عملياً في حال الصلاة.(1)
الصفة الرّابعة لهم هي الخوف من العذاب الإلهي (والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنم إنّ عذابها كان غراماً). أي شديداً ومستديماً. (إنّها ساءت مستقراً ومقاماً).
و مع أنّهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإنَّ قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من المسؤوليات، ذلك الخوف الباعث على القوّة في الحركة أكثر وأفضل باتجاه أداء التكاليف، ذلك الخوف الذي يوجه الإنسان من داخله كشرطي قوي، فينجز تكاليفه على النحو الأحسن دون أن يكون له آمر ورقيب، في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصراً أمام الله.
كلمة "غرام" في الأصل بمعنى المصيبة، والألم الشديد الذي لا يفارق الانسان. ويطلق "الغريم"(2) على الشخص الدائن، لأنّه يلازم الإنسان دائماً من أجل أخذ حقّه.
ويطلق "الغرام" أيضاً على العشق والعلاقة المتوقدة التي تدفع الإنسان بإصرار باتجاه عمل أو شيء آخر، وتطلق هذه الكلمة على "جهنم" لأنّ عذابها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ينبغي الإنتباه إلى أنّ "سجداً" جمع "ساجد"، "وقياماً" جمع "قائم".
2 ـ تطلق "الغريم" على "الدائن" و"المدين" أيضاً. (لسان العرب مادة غرم).
[306]
شديد ودائم لا يزول.
ولعل الفرق بين "مستقراً" و"مقاماً" أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم "مقام"، ومكان مؤقت للمؤمنين، أي "مستقر"، وبهذا الترتيب يكون قد أُشير إلى كلا الفريقين الذين يردان جهنم.
ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء، وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران الحارقة.
ومن المحتمل أيضاً أن تكون "مستقراً" و"مقاماً" كلاهما لمعنىً واحد، وتأكيد على دوام عقوبات جهنم، وهو صحيح في مقابل الجنّة، حيث نقرأ عنها في آخر هذه الآيات نفسها (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً).(1)
في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لـ "عباد الرحمن" التي هي الإعتدال والإبتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال، خصوصاً في مسألة الإِنفاق، فيقول تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً).
الملفت للإنتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمراً مسلماً لا يحتاج إلى ذكر، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعاً، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.
في تفسير "الإسراف" و "الإقتار" كنقطتين متقابلتين، للمفسّرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد، وهو أنّ "الإسراف" هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و"الإِقتار" هو أن ينفق أقل من الواجب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الفرقان، الآية 76.
[307]
في إحدى الروايات الإِسلامية، ورد تشبيه رائع للإِسراف والإِقتار وحد الإِعتدال، تقول الرّواية: تلا أبو عبد الله(عليه السلام) هذه الآية: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً). قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا الإِقتار الذي ذكره الله عزَّوجلّ في كتابه، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى كفَّه كلَّها، ثمّ قال: هذا الإِسراف، ثمّ أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام".(1)
كلمة "قوام" (على وزن عوام) لغة بمعنى العدل والإِستقامة والحد والوسط بين شيئين، و"قُوام" (على وزن كتاب): الشيء الذي يكون أساس القيام والإستقرار.
* * *
مسألتان
1 ـ طريقة مشي المؤمنين
قرأنا في الآيات أعلاه أنّ التواضع أحد علائم "عباد الرحمن"، التواضع الذي يهيمن على أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم، التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحق. لكن من الممكن أحياناً أن يتوهم البعض في التواضع ضعفاً وعجزاً وخوراً وكسلا، وهذا النمط من التفكير خطير جدّاً.
التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة الخائرة، بل إنّ الخطوات المحكمة التي تحكي عن الجدية والقدرة هي من صميم التواضع.
نقرأ في سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن أحد أصحابه يقول: "مارأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، كأنّما الأرض تطوى له، وإنّا لنجهد أنفسنا وإنّه لغير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي: طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 29.
[308]
مكترث".(1)
ونقرأ في حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في تفسير الآية (الذين يمشون على الأرض) أنّه قال: "والرجل يمشي بسجيته التي جُبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر".(2)
وورد في حديث آخر، في حالات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "قد كان يتكفأ في مشيه كإنّما يمشي في صبب".(3)
يعني حينما كان الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يمشي فإنّه يخطو خطوات سريعة دونما استعجال، كأنّما يمشي في منحدر.
على أية حال فإنّ طريقة المشي ليست مقصودة بذاتها، بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية للإنسان، والآية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح التواضع والخشوع في أرواح وقلوب "عباد الرحمن".
2 ـ البخل والإسراف
لا شك أنّ "الإِسراف" واحد من الأعمال الذميمة بنظر القرآن والإِسلام، وورد ذم كثير له في الآيات والرّوايات، فالإسراف كان نهجاً فرعونياً: (وإنّ فرعون لعال في الأرض وأنّه لمن المسرفين).(4)
والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم (وإن المسرفين هم أصحاب النار).(5)
ومع الإلتفات إلى أنّه أصبح ثابتاً اليوم أن منابع الثروات الأرضية ليست
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في ظلال القرآن، ذيل الآية مورد البحث، وفي تفسير القرطبي ينقل رواية أُخرى في هذا الصدد أيضاً لها شبه كبير بما قلناه أعلاه.
2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
3 ـ تفسير روح المعاني، ذيل الآية مورد البحث.
4 ـ سورة يونس، الآية 83.
5 ـ سورة غافر، الآية 43.
[309]
كثيرة جداً نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن للإنسان أن يسرف، وكل إسراف سيكون سبباً في حرمان أُناس لا ذنب لهم، فضلا عن أن الإسراف عادة قرين التكبر والغرور والبعد عن خلق الله.
في تفس الوقت فإنّ التقتير والبخل أيضاً، ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة، فالأصل على أساس النظرة التوحيدية، أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي، ونحن جميعاً مستخلفون من قبله، وكلّ نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول، ونحن نعلم أن الله لم يأذن بالإِسراف ولم يأذن بالبخل.
* * *
[310]
الآيات
وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلـقَ أَثَاماً (68)يُضَـعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً(69) إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَـلِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَـت وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً(71)
التّفسير
بحث آخر في صفات عباد الرحمن:
ميزة "عباد الرحمن" السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة، فيقول تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر).
فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والإجتماعية، وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم ظلمات الشرك.
[311]
الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق).(1)
ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أن جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل، ومحرم إراقة دمائها إلاّ إذا تحققت أسباب ترفع هذا الإِحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم.
صفتهم الثّامنة هي أن عفافهم لا يتلوث أبداً: (ولا يزنون).
إنّهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان، فينتخبون الإيمان، وعلى مفترق طريقين الأمان واللاأمان في الأرواح، فهم يتخيرون الأمان، وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث: فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل انواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهم واجتهادهم.
وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر: (ومن يفعل ذلك يلق أثاماً).
"الإثم" و "آثام" في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الإنسان إلى المثوبة، ثمّ أطلقت على كل ذنب، لكنّها هنا بمعنى جزاء الذنب.
قال بعضهم أيضاً: إن "إثم" بمعنى الذنب و "آثام" بمعنى عقوبة الذنب(2) فإذا رأينا أن بعض المفسّرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق.
و حول فلسفة تحريم الزنا، قدمنا بحثاً مفصلا في ذيل الآية (33) سورة الإسراء.
ومن الملفت للنظر في الآية أعلاه، أنها بحثت أولا في مسألة الشرك، ثمّ قتل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الإستثناء في الجملة أعلاه "استثناء مفرغ" اصطلاحاً، وكان في التقدير هكذا "لا يقتلون النفس التي حرم الله بسبب من الأسباب إلاّ بالحق".
2 ـ تفسير الفخر الرازي.
[312]
النفس، ثمّ الزنا، ويستفاد من بعض الرّوايات أن هذه الذنوب الثلاثة تكون من حيث الأهمية بحسب الترتيب الذي أوردته الآية.
ينقل ابن مسعود عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قال: قلت: ثمّ أَيُّ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال: قلت: ثمّ أيُّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديقها.(1)
وبالرغم من أن الكلام في هذا الحديث، ورد عن نوع خاص من القتل والزنا، لكن مع الإنتباه إلى إطلاق مفهوم الآية يتجلى أنّ هذا الحكم يشمل جميع أنواع القتل والزنا، وما في الرّواية مصداق أوضحٌ لهما.
تتكيء الآية التالية أيضاً على ما سبق، من أن لهذه الذنوب الثّلاثة أهمية قصوى، فيقول تعالى: (يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً).
و يتجسد هنا سؤالان:
الأوّل: لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من الأشخاص؟ ولماذا لا يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل ينسجم هذا مع أصول العدالة!؟
الثّاني: إنّ الكلام هنا عن الخلود في العذاب، في حين أنّ الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط. والذنب الأوّل من هذه الذنوب الثلاثة التي ذكرت في الآية يكون كفراً، فقط، وأمّا قتل النفس والزنا فليسا سبباً للخلود في العذاب.
بحث المفسّرون كثيراً في الإجابة على السؤال الأول، وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل، فتكون العقوبات بمجموعها عذاباً مضاعفاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ صحيح "البخاري" و "مسلم" طبقاً لنقل مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.
[313]
فضلا عن أنّ ذنباً ما يكون أحياناً مصدر الذنوب الأُخرى، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.
لهذا اتّخذ بعض المفسّرين هذه الآية دليلا على هذا الأصل المعروف أن: "الكفار مكلفون بالفروع كما أنّهم مكلفون بالأصول".
وأمّا في الإجابة على السؤال الثّاني: فيمكن القول أن بعض الذنوب عظيم إلى درجة يكون عندها سبباً في الخروج من هذه الدنيا بلا إيمان، كما قلنا في مسألة قتل النفس في ذيل الآية (93) سورة النساء.(1)
ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك في مورد الزنا أيضاً، خاصّة إذا كان الزنا بمحصنة.
ومن المحتمل أيضاً أن "الخلود" في الآية أعلاه يقصد به من يرتكب هذه الذنوب الثلاثة معاً، الشرك وقتل النفس والزنا، والشاهد على هذا المعنى: الآية التالية حيث تقول: (إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً).
واعتبر بعض المفسّرين ـ أيضاً ـ أن "الخلود" هنا بمعنى المدة الطويلة لا الخالدة، لكن التّفسير الأوّل والثّاني أصح.
ومن الملفت للنظر هنا ـ فضلا عن مسألة العقوبات العادية ـ عقوبة أُخرى ذكرت أيضاً هي التحقير والمهانة، أي البعد النفسي من العذاب، وقد تكون بذاتها تفسيراً لمسألة مضاعفة العذاب، ذلك لأنّهم يعذبون عذاباً جسدياً وعذاباً روحياً.
لكن القرآن المجيد كما مرِّ سابقاً، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي، الآية التالية يقول تعالى هكذا: (إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأُولئك يبدل الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير الأمثل، الجزء الثّالث.
[314]
سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً).
كما مرّ بنا في الآية الماضية، ففي الوقت الذي ذكرت ثلاثة ذنوب هي من أعظم الذنوب، تركت الآية باب التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء الأشخاص، وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله، بشرط أن تكون توبته حقيقية، وعلامتها ذلك العمل الصالح (المُعَوِّض) الذي ورد في الآية، وإلاّ فإن مجرّد الإستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب لا يكون دليلا على التوبة أبداً.
المسألة المهمّة فيما يتعلق بالآية أعلاه هي: كيف يبدل الله "سيئات" أولئك "حسنات"؟
* * *
تبديل السيئات حسنات:
هنا عدّة تفاسير، يمكن القبول بها جميعاً:
1 ـ حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله، تتحقّق تحولات عميقة في جميع وجوده، وبسبب هذا التحول والإنقلاب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلا للنفس المحترمة في الماضى، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانياً، فإنّه يكون بعدها عفيفاً وطاهراً، وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.
2 ـ أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات، نقرأ في رواية عن أبي ذر: قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغار ذنوبه، وتخبأ كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وهو يقرّ ليس بمنكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فإذا أراد الله خيراً قال: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا ربّ لي ذنوب ما رأيتها ها هنا؟" قال: ورأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضحك حتى بدت نواجذه،
[315]
ثمّ تلا: (فأُولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات).(1)
3 ـ التّفسير الثّالت هو أن المقصود من السيئات ليس نفس الأعمال التي يقوم بها الإنسان، بل آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه، وتبدل بآثار الخير، وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات.
ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة قطعاً، ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثلاثة في مفهوم الآية.
الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة، فيقول تعالى: (ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً).(2)
يعني أن التوبة وترك الذنب ينبغي ألا تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى الله تبارك وتعالى.
لهذا فإنّ ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثلا، وإن كان حسناً، لكنّ القيمة الأسس لهذا الفعل لا تتحقق إلاّ إذا استمدَّ من الدافع الربّاني.
بعض المفسّرين ذكروا تفسيراً آخر لهذه الآية، وهو أن هذه الجملة جواب على التعجب الذي قد تسببه الآية السابقة أحياناً في بعض الأذهان، وهو: كيف يمكن أن يبدل الله السيئات حسنات؟!، فتجيب هذه الآية: حينما يؤوب الإنسان إلى ربه العظيم، فلا عجب في هذا الأمر.
تفسير ثالث ذكر لهذه الآية، وهو أن كلَّ من تاب من ذنبه فإنّه يعود إلى الله، ومثوبته بلا حساب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ عوالي اللئالي، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 33.
2 ـ "متاب" مصدر ميمي بمعنى التوبة، ولأنّه مفعول مطلق هنا، فهو للتوكيد.
[316]
وبالرغم من عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة، لكن التّفسير الأوّل أقرب، خاصّة وأنّه يتفق مع الرّواية المنقولة في تفسير علي بن إبراهيم القمي في ذيل هذه الآية.
* * *
[317]
الآيات
وَ الَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِااللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَاماً (72)وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِأَيَـتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً(73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَجِنَا وَذُرِّيَّـتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً(74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَروُاْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـماً(75) خَـلِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً(76)
التّفسير
جزاء "عباد الرحمن":
في متابعة للآيات الماضية التي كررت القول في خصائص "عباد الرحمن"، تشرح هذه الآيات بقية هذه الصفات:
الصفة الرفيعة التاسعة لهم، هي احترام وحفظ حقوق الآخرين: إنّ هؤلاء لا يشهدون بالباطل مطلقاً: (والذين لا يشهدون الزور).
المفسّرون الكبار فسّروا هذه الآية على نحوين:
[318]
اعتبر بعضهم "الزور" بمعنى "الشهادة بالباطل" كما قلنا أعلاه، لأنّ "الزور" لغة بمعنى التمايل والإنحراف، وحيث أن الكذب والباطل والظلم من الإنحرافات، فإن "الزور" يطلق عليها.
هذه العبارة (شهادة الزور) في كتاب الشهادات في فقهنا، موجودة بنفس هذا العنوان، وقد نُهي عنها في روايات متعددة، وإن لم نرفي تلك الرّوايات استدلالا بالآية أعلاه.
التّفسير الآخر: هو أنّ المقصود من "الشهود" هو "الحضور" يعني أن عباد الرحمن لا يتواجدون في مجالس الباطل.
وفي بعض الرّوايات التي وردت عن طرق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، فسّرت بـ "الغناء" أي تلك المجالس التي يتمّ فيها إنشاد اللهو مصحوباً بأنغام الآلات الموسيقية أو بدونها.
لا شك أنّ مراد هذا النوع من الرّوايات ليس هو تحديد مفهوم "الزور" الواسع بـ "الغناء"، فالغناء واحد من مصاديقه البارزة إنه يشمل سائر مجالس اللهو واللعب وشرب الخمر والكذب والغيبة وأمثال ذلك.
ولا يستبعد أيضاً أن يجتمع كلا التّفسيرين في معنى الآية، وعلى هذا فعباد الرحمن لا يؤدون الشهادة الكاذبة، ولا يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة، ذلك لأنّ الحضور في هذه المجالس ـ فضلا عن ارتكاب الذنب ـ فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح.
ثمّ يشير تعالى في آخر الآية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة، وهي امتلاك الهدف الإيجابي في الحياة، فيقول: (وإذا مروا باللغو مروا كراماً).
إنّهم لا يحضرون مجالس الباطل، ولا يتلوثون باللغو والبطلان. ومع الإلتفات إلى أن "اللغو" يشمل كل عمل لا ينطوي على هدف عقلائي، فإن ذلك يدل على أن "عباد الرحمن" يتحرون دائماً الهدف المعقول والمفيد والبناء، وينفرون من
[319]
اللاهدفية والأعمال الباطلة، فإذا اعترضهم هذا النوع من الأعمال في مسير حياتهم، مروا بمحاذاتها مرور اللامبالي، ولا مبالاتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه الأعمال، فهم عظماء بحيث لا تؤثر عليهم الأجواء الفاسدة ولا تغيرهم.
ولا شك أنّ عدم اعتنائهم بهذه الاُمور من جهة أنّهم لا طريق لهم إلى مواجهة الفساد والنهي عن المنكر، وإلاّ فلا شكّ أنّهم سوف يقفون ويؤدون تكاليفهم حتى المرحلة الأخيرة.
الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلاك العين الباصرة والأذن السامعة حين مواجهتهم لآيات الخالق، فيقول تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربّهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً).
من المسلّم أنّ المقصود ليس الإشارة إلى عمل الكفار، ذلك لأنّهم لا اعتناء لهم بآيات الله أصلا، بل إن المقصود: فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر، الذين يقعون على آيات الله بأعين وآذان موصدة، دون أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها، فيعرفوا ما يريده الله ويتفكروا فيه، ويستهدوه في أعمالهم.
ولا يمكن طي طريق الله بعين وأذن موصدتين، فالأذن السامعة والعين الباصرة لازمتان لطي هذا الطريق، العين الناظرة في الباطن، المتعمقة في الأشياء، والأذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة.
ولو تأملنا جيداً لأدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات الأعين والآذان الموصدة وفي ظنها أنّها تتبع الآيات الإلهية، ليس أقلّ من ضرر الأعداء الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق اصرار، بل أن ضررهم أكثر بمراتب أحياناً.
التلقي الواعي عن الدين هو المعين الأساس للمقاومة والثبات والصمود، لأنْ من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين، وبتحريفه يتم الإنحراف عن الخط الأصيل، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفر والضلالة وعدم الإيمان.
[320]
هذا النوع من الأفراد أداة بيد الأعداء، ولقمة سائغة للشياطين، المؤمنون وحدهم هم المتدبرون المبصرون السامعون كمثل الجبل الراسخ، فلا يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك.
نقرأ في حديث عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن قول الله عزَّوجلّ: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً)، قال: "مستبصرين ليسوا بشكاك".(1)
الصفة الثّانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلاء (والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين).
بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء، بل إن الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر، ورمز جدهم واجتهادهم.
من المسلَّم أنّ أفراداً كهؤلاء لا يقصرون في بذل مالديهم من طاقة وقدرة في تربية أبنائهم وأزواجهم، وتعريفهم بأصول وفروع الإسلام، وسبل الحق والعدالة وفي ما لا تصل إليه قدرتهم وطاقتهم، فإنّهم يدعون الله، يسألونه التوفيق بلطفه.
فالدعاء الصحيح من حيث الأصل، ينبغي أن يكون هكذا: السعي بمقدار الإستطاعة، والدعاء خارج حدّ الإستطاعة.
"قرّة العين" كناية عمّن يُسرَّ به، هذا التعبير أُخذ في الأصل من كلمة "قر" التي بمعنى البرد، وكما هو معروف (وقد صرح به كثير من المفسّرين) أن دمعة الشوق والسرور باردة، ودموع الحزن والغم حارة حارقة، لذا فـ "قرّة عين" بمعنى الشيء الذي يسبب برودة عين الإنسان، يعني أن دمعة الشوق تنسكب من عينيه، وهذه كناية جميلة عن السرور والفرح.(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، ج4، ص 43 .
2 ـ الشاهد على هذا القول، الشعر الذي نقله القرطبي في تفسيره عن أحد الشعراء العرب.
فكم سخنت بالأمسِ عينٌ قريرة وقرتْ عيون دمعها اليوم ساكب
[321]
مسألة تربية الأبناء وإرشاد الزوجات، ومسؤولية الآباء والأمهات إزاء أطفالهم من أهم المسائل التي أكد عليها القرآن، وسنفصل القول فيها إن شاء الله في ذيل الآية (6) من سورة التحريم.
وأخيراً فالصفة الرفيعة الثّالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة: هي أنّهم لا يقنعون أبداً أنّهم على طريق الحق، بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً.
إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس همّهم انقاذ أنفسهم من الغرق، بل إن سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى.
لذا يقول في آخر الآية، إنّهم الذين يقولون: (واجعلنا للمتقين إماماً).
ينبغي الإلتفات إلى هذه النكتة أيضاً، إنّهم لا يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافاً، بل إنّهم يهيئون أسباب العظمة والإمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللائقة بالقدوة الحقيقية، وهذا عمل عسير جداً، وله شرائط صعبة وثقيلة.
ولا ننس أنّ القرآن لا يذكر في هذه الآيات صفات جميع المؤمنين، بل أوصاف نخبة ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان "عباد الرحمن". نعم، إنّهم عباد الرحمن، وكما أن رحمة الله العامّة تشمل الجميع فإنّ رحمة الله بهؤلاء العباد عامّة أيضاً من أكثر من جهة، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق الله.
أُولئك نماذج وأُسوات المجتمع الإنساني.
أُولئك قدوات المتقين.
إنّهم أنوار الهداية في البحار والصحاري. ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في الدوامة، ومن السقوط في المزالق.
[322]
نقرأ في روايات متعددة أنّ هذه الآية نزلت في علي(عليه السلام) وائمّة أهل البيت(عليهم السلام).
ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الصادق(عليه السلام): "إيانا عنى".(1)
ولا شك أن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من أوضح مصاديق هذه الآية، لكن هذا لا يمنع من اتساع مفهوم الآية، فالمؤمنون الآخرون أيضاً يكون كل منهم إماماً وقدوة للآخرين بمستويات متفاوتة.
واستنتج بعض المفسّرين من هذه الآية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير مذموم فقط، بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضاً.(2)
وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة "إمام" وإن كانت للمفرد، إلاّ أنّها تأتي بمعنى الجمع، وهكذا هي في الآية.
بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه الخصائص، وفي صورة الكوكبة الصغيرة، فيبيّن جزاءهم الإلهي (أُولئك يجزون الغرفة بما صبروا).
"غرفة" من مادة "غرف" (على وزن حرف): بمعنى رفع الشيء وتناوله، ويقال لما يغترف ويتناول "غرفة" (كاغتراف الإنسان الماء من العين بيده للشرب) ثمّ أُطلقت على الأقسام العليا من البناء، ومنازل الطبقات العليا، وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجنّة.
لذلك فإنّ "عباد الرحمن" بامتلاكهم هذه الصفات، يكونون في الصف الأوّل من المؤمنين، وينبغي أن تكون درجتهم في الجنّة أعلى درجة أيضاً.
المهم أنّه يقول: إن هذا المقام العالي قد أُعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر والإستقامة في طريق الله، ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصف آخر من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أورد هذه الروايات في تفسير آخر هذه الآية "علي بن إبراهيم"، ومؤلف كتاب نور الثقلين في تفسيريهما.
2 ـ يراجع تفسير "القرطبي" وتفسير "الفخر الرازي".
[323]
أوصافهم، لكن هذا في الحقيقة ليس وصفاً جديداً، بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة، وإلاّ فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق، ومواجهة الطغيان والشهوات، وترك شهادة الزور، والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة.
هذا البيان يُذكّر الإنسان بالحديث المعروف عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)حيث يقول: "والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد" فبقاء الجسد من بقاء الرأس، ذلك لأن قيادة جميع أعضاء البدن تستقر في دماغ الإنسان.
وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق، والجهاد والمواجهة ضد العصاة، والوقوف أمام دواعي الذنوب، تجتمع كلها في ذلك المفهوم، وإذا فسر في بعض الرّوايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي، فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان المصداق.
ثمّ يضيف تعالى: (ويلقّون فيها تحية وسلاماً).
أهل الجنّة يحي بعضهم بعضاً، وتسلم الملائكة عليهم، وأعلى من كل ذلك أن الله يحييهم ويُسلم عليهم، كما نقرأ في الآية (58) من سورة يس (سلام من ربّ رحيم)، ونقرأ في الآية (23 و24) من سورة يونس (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم...).
تُرى هل لـ "التحية" و"السلام" هنا معنيان، أم معنى واحد!؟ ثمّة أقوال بين المفسّرين، لكن مع الإلتفات إلى أن "التحية" في الأصل بمعنى الدعاء لحياة الغير، و"سلام" من مادة السلامة، وبمعنى الدعاء للغير.
على هذا نستنتج: أن الكلمة الأُولى بعنوان طلب الحياة، للمخاطب والكلمة الثّانية طلب اقتران هذه الحياة مع السلامة، ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان بمعنى واحد أحياناً.
[324]
"التحية" في العرف لها معنى أوسع، فهي كل ما يقولونه في بيان اللقاء مع الآخرين، فيكون سبباً في سرورهم واحترامهم وإظهار المحبّة لهم.
ثمّ يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر: (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً).
* * *
[325]
الآية
قُلْ مَا يَعْبَؤُاْبِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا(77)
التّفسير
لولا دعاؤكم، لما كانت لكم قيمة:
هذه الآية التي هي الآية الأخيرة في سورة الفرقان، جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة، وللأبحاث التي بصدد صفات "عباد الرحمن" في الآيات السابقة، فيقول تبارك وتعالى مخاطباً النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (قل ما يعبؤبكم ربّي لو لا دعاؤكم).
"يعبؤ" من مادة "عبء" بمعنى "الثقل"، وعلى هذا فجملة لا يعبأ يعني لايزن، وبعبارة أُخرى لا يعتني.
ولو أن احتمالات كثيرة ذكرت هنا في مسألة معنى الدعاء، لكن أساس جميعها يعود إلى أصل واحد.
فذهب البعض: إن الدعاء هو نفس ذلك المعنى المعروف للدعاء.
بعض آخر فسّره بمعنى الإيمان.
وبعض بمعنى العبادة والتوحيد.
وآخر، بمعنى الشكر.
[326]
وبعض: بمعنى التضرع إلى الله في المحن والشدائد.
لكنّ أساس جميعها هو الإيمان والتوجه إلى الله.
وبناء على هذا، يكون مفهوم الآية هكذا: إن ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند الله هو الإِيمان بالله والتوجه إليه، والعبودية له.
ثمّ يضيف تعالى: (فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً).
من الممكن التصور أن تضاداً بين بداية الآية ونهايتها، أو أنّه لا يبدو على الأقل الإرتباط والإنسجام اللازم بينهما، ولكن إذا دققنا قليلا يتّضح أنّ المقصود أساساً هو: أنّكم قد كذبتم فيما مضى بآيات الله وبأنبيائه، فإذا لم تتوجهوا إلى الله، ولم نسلكوا طريق الإيمان به والعبودية له، فلن تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده، وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم.(1)
ومن جملة الشواهد الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير، الحديث المنقول عن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه سُئِلَ: "كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء"؟ فقال(عليه السلام): "كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية".(2)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الآية أعلاه من الآيات التي هي مورد مناقشات كثيرة بين المفسّرين، وما قلناه في تفسيرها هو أوضح تفسير، لكن جماعة من المفسّرين المعروفين ذكروا لها تفسير آخر خلاصته هكذا.
لا اعتناء لله بكم، ذلك لأنّكم كذبتم بآياته، إلاّ أن الله يدعوكم إلى الإيمان (طبقاً لهذها التّفسير: "دعاؤكم" من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول، وفاعله ضمير يعود إلى "ربّي".
لكن طبقاً للتفسير الذي اخترناه فإن "دعاؤكم" من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، وظاهر إضافة المصدر إلى الضمير هي أن تكون الإضافة إلى الفاعل، إلاّ أن تظهر قرينة على خلافه).
ثمّة تفسير ثالث لهذه الآية وهو أنّ الهدف بيان: إنّكم أيّها البشر، غالباً ما سلكتم طريق التكذيب، فلا وزن ولا قدر لكم عند الله، إلاّ لأجل تلك الأقلية مثل "عباد الرحمن" الذين يتوجهون إلى الله ويدعونه بإخلاص (هذا التّفسير وإن كان صحيحاً من ناحية المعنى والمضمون، لكنّه لا يوافق ظاهر الآية كثيراً، ذلك لأنّ الضمير في "دعاؤكم" و"كذبتم" يعود ظاهراً إلى فئة واحدة لا فئتين (فتأمل!).
2 ـ تفسير الصافي، ذيل هذه الآية ـ نقلوا لهذه الرّواية أيضاً تفاسير أُخرى يتفاوت يسير، نقلت أيضاً روايات أُخرى شاهدة على التّفسير أعلاه، بعضها عن أمالي الشيخ الطوسي، وبعضها عن تفسير علي بن إبراهيم ذيل هذه الآية.
[327]
بحث
الدعاء طريق إصلاح النفس ومعرفة الله:
معلوم أن مسألة الدعاء أعطيت أهمية كبيرة في آيات القرآن والرّوايات الإسلامية، حيث كانت الآية أعلاه أنموذجاً منها، غير أن قد يكون القبول بهذا الأمر ابتداءً صعباً على البعض، كأنّه يقال: الدعاء عمل سهل جدّاً، ويمكن أن يؤديه الجميع أو يتوسعون أكثر فيقولون: الدعاء عمل المغلوبين على أمرهم، الأمر الذي لا أهمية له.
لكن الإشتباه هنا ينشأ من أنّهم ينظرون إلى الدعاء الخالي من شرائطه، في حين إذا أخذت الشرائط الخاصّة للدعاء بنظر الإعتبار، فإن هذه الحقيقة تثبت بوضوح. وهي أن الدعاء وسيلة مؤثرة في إصلاح النفس، والإرتباط القريب بين الله والإنسان.
أوّل شرائط الدعاء، معرفة المدعو.
الشرط الثاني: تخلية القلب وإعداد الروح لدعائه تبارك وتعالى، ذلك لأن الإنسان حينما يذهب باتجاه أحد، ينبغي أن يملك الإستعداد للقائه.
الشرط الثّالث للدعاء: هو جلب رضاه من يدعوه الإنسان، ذلك لأنّه لا يحتمل التأثير بدون ذلك الأنادراً.
وأخيراً فالشرط الرّابع لاستجابة الدعاء: هو أن يستخدم الإنسان كلّ قدرته، وقوته واستطاعته في عمله، ويؤديه بأعلى درجة من الجدّ والإجتهاد، ثمّ يرفع يديه ويوجه قلبه إلى بارئه بالدعاء في ماوراء ذلك.
ذلك لأنّه ورد صريحاً في الرّوايات الإسلامية، أن الإنسان إذا قصّر في العمل الذي يستطيع أن يؤديه بنفسه، ثمّ يتوسل بالدعاء فلن يستجاب دعاؤه.
من هنا، فإنّ الدعاء وسيلة لمعرفة الخالق ومعرفة صفاته الجمالية والجلالية،
[328]
ووسيلة أيضاً للتوبة من الذنب، ولتطهير الروح، وسبب أيضاً لأداء الحسنات للجهاد والجدّ والاجتهاد إلى منتهى الإستطاعة.
لهذا نجد عبارات مهمّة حول الدعاء لا يمكن فهمها إلاّ على ضوء ما قلناه، مثلا:
نقرأ في رواية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض".(1)
ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام): "الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي".(2)
ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): "الدعاء أنفذ من السنان".(3)
فضلا عن كل ذلك، فإن من الطبيعي أن حوادث تقع في حياة الإنسان، فتغرقه في اليأس من حيث الأسباب الظاهرية، فالدعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز، ووسيلة مؤثرة في مواجهة اليأس والقنوط.
لهذا فالدعاء إزاء الحوادث الصعبة المرهقة، يمنح الإنسان قدرة وقوة وأملا وطمأنينة، وأثراً لا يمكن إنكاره من الناحية النفسية.
وقدّمنا بحثاً مفصلا بصدد مسألة الدعاء، وفلسفته، وشرائطه، ونتائجه، في التّفسير الأمثل ذيل الآية (186) من سورة البقرة، فتفضل بمراجعته هناك من أجل التوضيح أكثر.
اللّهمّ، أجعلنا من خاصّة عبادك، وترحم علينا بتوفيق اكتساب خصائص وصفات "عباد الرحمن".
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، الجزء الثّاني، أبواب الدعاء باب أن الدعاء سلاح المؤمن.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
[329]
ربّنا، افتح لنا أبواب الدعاء واجعل ذلك سبباً لتثمين وجودنا بين يديك.
اللّهمّ، تفضل علينا بتوفيقات الدعاء المطلوبة بين يديك، ولا تحرمنا من الإستجابة.
إنّك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
* * *
نهاية سورة الفرقان
[330]
[331]
سُورَةُ الشُّعَرَاء
مكيَّة وَعَدَدُ آياتِهَا مئتان وسبع وعشرون آية
[332]
[333]
"سورة الشعراء"
محتوى سورة الشعراء:
المعروف بين المفسّرين أنّ جميع آيات هذه السورة المائتين وسبع وعشرين نزلت في مكّة عدا الآيات الأربع الأخيرة.(1)
إيقاع آيات هذه السورة يتناغم أيضاً مع إيقاعات السور المكية الأُخرى، ونعلم أنّ السور المكية التي أنزلت في بداية دعوة الإسلام، تستند على بيان الأُصول الإعتقادية: التوحيد والمعاد، ودعوة أنبياء الله، وأهمية القرآن.
وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء حول هذه المسائل تقريباً.
و يمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام:
القسم الأوّل: مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة، ثمّ يتحدث في عظمة القرآن، وتسلية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة إصرار وحماقة المشركين، والإشارة إلى بعض دلائل التوحيد، وصفات الله تبارك وتعالى.
القسم الثّاني: يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم، وفي مكابرات وحماقات أُولئك حيال هؤلاء الأنبياء، حيث فصّل الحديث أكثر في بعض منها، كما في قصة موسى وفرعون، واختصره في بعض آخر منها، كما في قصّة إبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير "مجمع البيان" وتفسير "الفخر الرازي" وتفسير "القرطبي" وتفسير "التبيان"، واستثنى في تفسير "روح المعاني" خمس آيات. لكن بعض المفسّرين مثل العلاّمة الطباطبائي في "الميزان" لم يقبل استثناء هذه الآيات. وسوف يكون لنا بحث أكثر إن شاء الله في ذيل هذه الآيات.
[334]
في هذا القسم بخاصّة، أشير إلى منطق المشركين. الضعيف الممزوج بالتعصب في كل عصر وزمان في مواجهة أنبياء الله، والذي يشبه كثيراً منطق مشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان هذا سبباً في تسلية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الأوائل:، ليعلموا تاريخ هذا الصنف من الناس ومنطقهم، حتى لا يتأثروا ويتراخوا، وحتى لا يفسحوا للضعف والفتور ليجد طريقاً إلى أنفسهم.
وفيه بشكل خاص أيضاً، تركيز على العذاب العظيم والإبتلاءات المروعة التي حلّت بهذه الأمم، والذي هو بذاته تهديد مؤثر لأعداء النّبي في تلك الشرائط.
القسم الثّالث: وتغلب عليه جنبه الإستنتاج من القسمين الأوليين، يتناول الحديث حول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعظمة القرآن، وتكذيب المشركين، والأوامر الصادرة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يتعلق بطريقة الدعوة، وكيفية التعامل مع المؤمنين، ويختم السورة بالبشرى للمؤمنين الصالحين، وبالتهديد الشديد للظالمين.
وبالمناسبة، فإنّ اسم هذه السورة أخذ من مجموعة الآيات الأخيرة التي تتحدّث حول الشعراء غير المؤمنين.
وهناك نكتة جديرة بالإِهتمام أيضاً، وهي أن هذه السورة تعتبر من أكبر السور بعد سورة البقرة من حيث عدد الآيات، وإن كانت ليست كذلك من حيث عدد الكلمات، بل هي أقصر من كثير من السور.
فضيلة سورة الشعراء:
ورد في الحديث الشريف عن رسول الاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان أهمية تلاوة هذه السورة أنّه قال:
"من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل من صدّق بنوح وكذب به، وهود وشعيب وصالح وابراهيم، وبعدد كل من كذب بعيسى وصدق بمحمّد".
[335]
ولا يخفى أن كلّ هذا الأجر والثواب ليس على التلاوة بدون التفكر والعمل بها، بل ان القرائن المتعدد في روايات فضائل السور تحكي عن أن المراد من التلاوة هي ما كانت مقدمة للتفكر، ثمّ العزم والعمل، وقد أشرتا الى ذلك سابقاً.
وممّا يؤيد هذا المعنى التعبير الوارد في نفس الحديث اعلاه، لأنّ استحقاق الحسنات بعدد المصدّقين والمكذبين للانبياء من أجل أن يكون الشخص في صف المصدّقين ويتجنّب منهج المكذبين.
* * *
[336]
الآيات
طـسـم(1) تِلْكَ ءَايـتُ الْكِتَـبِ المُبِينِ(2) لَعَلَّكَ بَـخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـقُهُمْ لَهَا خَـضِعِينَ(4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْر مِّنَ الرَّحْمَـنِ مُحْدَث إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ(5) فَقَدْ كَذَّبوُاْ فَسَيأْتِيهِمْ أَنبَـؤُاْ مَا كَانوُاْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(6)
التّفسير
إنهم يُعرضون عن كل جديد!
مرّةً أُخرى نواجه في بداية هذه السورة مثلا آخر من الحروف المقطعة وهو: (طَسَمَ).
وكان لنا في تفسير هذه الحروف المقطعة بحوث مُسهَبة ومستقلّة في مستهل سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف! فلا نرى حاجةً إلى التكرار والإعادة!
إلاّ أنّ ما ينبغي أن نضيفه هنا هو ما ورد من روايات متعددة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو
[337]
بعض أصحابه في تفسير "طسم" ويدلّ جميعُها على أنّ هذه الحروف علامات "مختصرة" عن أسماء الله تعالى، أو أسماء القرآن، أو الأمكنة المقدسة، أو بعض أشجار الجنّة!...
وهذه الرّوايات تؤيد التّفسير الذي نقلناه في مستهلّ سورة الأعراف في هذا الصدد، كما أنّها في الوقت ذاته لا تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أن المراد من هذه الحروف بيان أعجاز القرآن وعظمته، حيث أن هذا الكلام العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة!
والآية التالية تبيّن عظمة القرآن بهذا النحو: (تلك آيات الكتاب المبين).
وبالطبع فإنّ "تلك" في لغة العرب اسم إشارة للبعيد، ويشار بها للمؤنث "المفرد" و"الجمع"; كما قد يشار بها لجمع التكسير.(1)
وكما بيّنا آنفاً فقد يعبّر في لغة العرب عن عظمة الشيء ـ وإن كان قريباً ـ باسم الإشارة (للبعيد) فكان الموضوع لأهميّتهِ وارتفاع "وعلوّ" مرتبته بعيد عنّا، ومكانه في السماوات العُلى!
وممّا ينبغي الإلتفات إليه وملاحظته أنّ هذه الآية بنصّها وردت في بداية سورة يوسف وسورة القصص ـ أيضاً ـ دون زيادة أو نقصان. كما أنّها وردت بعد الحروف المقطعة في مستهلّ السور آنفة الذكر، وهي تدل على ارتباط هذه الحروف بعظمة القرآن.
ووصفُ القرآن بـ "المبين" المشتق من "البيان"، هو إشارة إلى كونه جليّاً بيّناً عظيماً معجزاً ـ فكلّما أمعن الإنسان النظر في محتواه تعرّف على إعجازه أكثر فأكثر... ثمّ بعد هذا فإنّ القرآن يبيّن الحق ويميزه عن الباطل، ويوضّح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلال!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كقوله تعالى (وتلك الأيّام نداولها بين الناس).
[338]
والآية التالية تُسرّي عن قلب النّبي وتثبته فتقول: (لعلك باخعٌ نفسَك أن لا يكونوا مؤمنين).
كلمة "باخع" مشتقّة من (البَخْع) (على وزن الدَّمع)! ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ... وهذا التعبير يدلّ على مدى تحرّق قلب النّبي وشفقته لأُمته، وأداء رسالته، وما كان عليه من إصرار في خِطته، وتجلّد في مواجهة شدته ومحنته، لأنّه يرى القلوب المتعطشة الظامئة في جوار النبع القرآني الزلال، ولكنّها لا تزال على ظمئها ولا ترتوي من معينه العذب، فكان يتحرق لذلك!
كان قلقاً ـ وباخعاً نفسه ـ أن يرى الإنسان الذي منحه الله العقل واللبّ يسير في الطريق المظالم، بالرغم من كل هذا الضياء، ويهوي في الوادي السحيق ليكون من الهالكين!
أجل، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على أُممهم ولا سيما الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة...
قال بعض المفسّرين: إن سبب نزول الآية الأنفة الذكر هو أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو أهل مكّة إلى توحيد الله باستمرار، إلاّ أنّهم لم يؤمنوا. فأسف النّبي وتأثر تأثراً بالغاً حتى بدت أماراته في وجهه، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).(1)
ولبيان أنّ الله على كل شيء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقاً ويضطرّهم إلى ذلك، فإنّ الآية التالية تقول: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين).
وهي إشارة إلى أن الله قادر على إنزال معجزة مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذاباً شديداً فيذعنوا له، يطأطئوا برؤوسهم خضوعاً له، يستسلموا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 8 ذيل الآية محل البحث.
[339]
الأمره وحكمه، إلاّ أن الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.
ومن الواضح أنّ المراد بخضوع الأعناق خضوع أصحابها... فاللغة العربية تذكر الرقبة أو العنق كناية عن الإنسان لأنّها جزء مهمٌّ منه، ويقال مثلا كناية عن البغاة القساة: غلاظ الرقاب، وعن المضطهدين والضعفاء: الرقاب الذليلة!
وبالطبع فهناك احتمالات أُخرَ لتفسير "أعناقهم" من جملتها أنّ الأعناق تعني الرؤساء، كما أن من التفاسير أن الأعناق تعني طوائف من الناس. وجميع هذه الإحتمالات ضعيفة.
ثمّ يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلاّ كانوا عنه معرضين).
والتعبير بـ "ذكر" هو إشارة إلى أن القرآن موقظ ومنبّه، وهذا الأمر متحقّق في جميع آياته وسوره! إلاّ أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه، فهي تفرّ عن كل ذلك!...
والتعبير بـ "الرحمن" إشارة إلى أن نزول هذه الآيات من قبل الله إنّما هو من رحمته العامّة، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال!
كما أن هذا التعبير ـ أيضاً ـ ربّما كان لتحريك الإحساس بالشكر لله، فهذا الذكر من الله الذي عمّت نعمه وجودكم من القرن إلى القدم، فكيف يمكن الإعراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه لا يتعجل بإنزال العذاب عليكم، فذلك من رحمته أيضاً...
والتعبير بـ "محدث" ـ أي جديد ـ إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الأُخرى، وكلُّ منها ذو محتوى جديد، ولكن ما جدوى ذلك، فهم مع كل هذه الحقائق الجديدة ـ معرضون... فكأنّهم اتّفقوا على خرافات السلف وتعلّقوا بها ـ فهم لا يرضون أن يودّعوا ضلالهم وجهلهم وخرافاتهم!! فأساساً مهما كان
[340]
الجديد موجباً للهداية، فإنّ الجهلة والمتعصبين يخالفون الحق ولا يذعنون له...
ونقرأ في سورة "المؤمنون" الآية 68 منه إذ تقول: (أفلم يدبّروا القول أم جاءهم مالم يأتِ آباءهم الأولين) فبذريعة مالم يأت آباءهم تجدهم متعصبين مخالفين!
ثمّ يضيف القرآن: أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الإستهزاء به، فيقول: (فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزئون).
"الأنباء": جمع "انبأ"، أي الخبر المهمّ، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي. على أنّ بعض المفسّرين كالشيخ الطوسي في "التبيان"، قال بأن هذا العقاب منحصر العقاب الآخرة. إلاّ أن أغلب المفسّرين يعتقدون بشموله لعقاب الدارين، وهو ـ في الواقع ـ كذلك!... لأنّ الآية مُطْلَقَةٌ.
وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ للكفر والإِنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة الإنسان... فكيف يمكن السكوت عنها!
والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أن الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر ـ .
ففي المرحلة الأُولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه... ثمّ بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب.. ثمّ يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والإستهزاء... ونتيجةً لذلك ينال عقاب الله وجزاءه "وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيتين 4 و 5 من سورة الأنعام".
* * *
ملاحظتان
1 ـ ورد في بعض خُطب أمير المؤمنين "في نهج البلاغة" المعروفة بالخطبة
[341]
القاصعة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله أرسل الأنبياء على شاكلة يستطيع معها أن يؤمن الناس بدعوتهم إلى الله دون إكراه، بحيث لو لم يكونوا كذلك لكان الإيمان إجبارياً، إذ يقول: "ولوْ أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرضين لفعل... ولو فعل لسقط البلاءُ وبطل الجزاء..."(1).
وورد في كتاب الكافي ذيل الآية محل البحث "لو أنزل الله من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين. ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين".(2)
وممّا يسترعي النظر أنه ورد في بعض الكتب المعروفة كالإرشاد للشيخ المفيد، وروضة الكافي، وكمال الدين للشيخ الصدوق، وتفسير القمي، أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال في تفسير الآية: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية...) قال: "تخضع رقابهم ـ يعني بني أمية ـ وهي الصيحة في السماء باسم صاحب الأمر ـ صلوات الله عليه ـ".(3)
وواضح أنّ المراد من هذه الرّوايات هو بيان مصداق من هذا المفهوم الواسع للآية، إذ ستخضع أخيراً جميع الحكومات الباغية والمتجبرة والظالمة التي تواصل السير على منهج حكومة بني أمية، وذلك عندما يظهر المصلح المهدي(عليه السلام) إمامُ الحكومة العالمية، فتستسلم إذعاناً لقدرته وحماية الله له وتنحني له إجلالا.
2 ـ أحد البحوث التي كثر الكلام فيها والتعليق عليها في القرون الأُولى ـ أو الصدر الأوّل ـ للإسلام هو البحث أو الكلام عن كون كلام الله قديماً أو حادثاً؟! وقد انجرّ هذا الكلام إلى كتب التّفسير أيضاً، وقد استدل جماعة من المفسّرين بالتعبير الوارد في الآية آنفاً "محدث" على كون القرآن حادثاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، رقم 192 "تواضع الأنبياء".
2 ـ الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث.
3 ـ تفسير الميزان، ونور الثقلين ذيل الآيات محل البحث.
[342]
إلاّ أنّه ـ كما أشرنا من قبل أيضاً ـ فإنّ أساس هذا البحث لا يمكن أن يكون منطقيّاً بأيِّ وجه، ويبدو أنّ ذوي السلطة أو أولي الأمر في ذلك الزمان من بني أمية وبني العباس، كان لهم الأثر الكبير في هذه البحوث المضلة ليحرفوا أفكار المسلمين عن المسائل المهمّة والجديّة، وليشغلوا علماء المسلمين بهذه المسائل حفاظاً على حكومتهم وسلطتهم.
لأنّه إذا كان المراد من كلام الله هو محتوى القرآن، فهو من الأزل في علم الله والله خبير بكل ما فيه، وإذا كان المراد منه نزول الوحي وكلمات القرآن وحروفه، فذلك حادث قطعاً ولا خلاف فيه.
فبناء على ذلك فالقرآن تارة هو قديم بذلك النحو، وأُخرى هو حادث قطعاً بهذه الصورة، فعلى المجتمع الإسلامي أن يكون فطناً ولا سيما العلماء، فلا يُبتلوا بالبحوث المضلة الإنحرافية المبتدعة من قِبَلِ الجبابرة وأعداء الإسلام.
* * *
[343]
الآيات
أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاَْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم(7) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنينَ(8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)
التّفسير
الزوجية في النباتات:
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إعراض الكفار عن الآيات التشريعية (أي القرآن المجيد)، أمّا في الآيات محل البحث فالكلام عن الآيات التكوينية ودلائل الله في خلقِه وما أوجده سبحانه، فالكفار لم يَصمّوا آذانهم ويوصدوا أبواب قلوبهم بوجه أحاديث النّبي وكلماته فحسب، بل كانوا يحرمون أعينهم رؤية دلائل الحق المنتشرة حولهم.
فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يتعدي الفعل "يرى" عادة إلى المفعول بدون حرف الجر (إلى) وقد تتعدى إلى المفعولين، وإنّما تعدت هنا بحرف الجر (إلى) لأنّ المراد منها النظر العميق الدقيق لا الرؤية السطحية...
[344]
والتعبير بـ "زوج" في شأن النباتات يستحق الدقّة... فبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين قالوا بأن الزوج يعني النوع أو الصنف، وأن الأزواج معناها الأصناف والانواع، إلاّ أنّه ما يمنع أن نفسر معنى الزوج بما يتبادر إلى الذهن من المعنى المعروف وهو الإشارة إلى الزوجيّة في النباتات؟!
كان الناس فيما مضى يدركون أن بعض النباتات لها جنسان (ذكر وأُنثى) وكانوا يستعينون بتلقيح النباتات لتثمر ... وكانت هذه المسألة معروفة وواضحة تماماً في النخيل...
إلاّ أنّ العالم السويدي والخبير بعلم النبات "لينه" وُفّق لأول مرّة في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي لاكتشاف هذه الحقيقة، وهي أن الزوجية في عالم النباتات قانون عام تقريباً، والنباتات كسائر الحيوانات تحمل عن طريق تلقيح الذكر لأنثاه ثمّ تقذف بالثمار...
غير أنّ القرآن المجيد أشارَ إلى هذه الظاهرة "الزوجية في النبات" في آيات مختلفة مراراً قبل هذا العالم السويدي بقرون، كما هي الحال في الآيات محل البحث. وفي الآية الرّابعة من سورة الرعد، والآية العاشرة من سورة لقمان، والآية السابعة من سورة ق. وهذه الإشارة بنفسها إحدى معاجز القرآن العلمية!
وكلمة "كريم" في الأصل تعني كل شيء قيّم وثمين، فقد تستعمل في الإنسان، وقد تستعمل في النبات، وقد تستعمل في الكتاب [أي الرسالة المعهودة بين المتراسلين] أيضاً... كما هي الحال في شأن حديث ملكة سبأ عن كتاب سليمان إليها إذا قالت: (إنّي أُلقي إليّ كتاب كريم).(1)
والمراد من (كم أنبتنا فيها من كلّ زوج كريم) هو النباتات المهمّة ذوات الفائدة، وطبعاً ما من نبات إلاّ وله فائدة أو فوائد جمّة، ومع تقدم العلم تتجلى هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النمل، 29.
[345]
الحقيقة يوماً بعد يوم.
وتأتي الآية التالية لتقول مؤكّدةً بصراحة: (إنّ في ذلك لآية).
أجل إن الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذا التراب الذي لا قيمة له ظاهراً، بما فيه من تركيب معين هو مبدأ ظهور أنواع الأزهار الجميلة، والأشجار المثمرة الظليلة، والفواكه ذات الألوان الزاهية، وما فيها من خواص مختلفة. وهو ـ أي التراب ـ يبيّن منتهى قدرة الله، إلاّ أن أُولئك الذين طُبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات الله بأعينهم، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها، ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل!
لذلك فإنّ الآية هذه تعقّبُ قائلة: (وما كان أكثرهم مؤمنين).
أي إنّ عدم الإيمان لدى أُولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم، فلا عجب أن لا ينتفعوا من هذه الآيات، لأنّ قابليّة المحل من شرائط التأثير الأصيلة أيضاً كما نقرأ قوله تعالى: (هُدى للمتقين).(1)
وفي آخر آية من الآيات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدلُّ على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب، فيقول سبحانه: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم)...
"العزيز" معناه المقتدر الذي لا يغلب ولا يُقهر، فهو قادر على إظهار الآيات العظمى، كما أنه قادر على إهلاك المكذبين وتدميرهم.. إلاّ أنّه مع كل ذلك رحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ويكفي الرجوع بإخلاص إليه في لحظة قصيرة! لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب، فيعفو عنه بلطفه ورحمته!
ولعل تقديم كلمة "العزيز" على "الرحيم" لأنّه لو تقدمت كلمة الرحيم على العزيز لأشعرت الإحساس بالضعف، إلاّ أنّه قدم سبحانه الوصف بالعزيز ليُعلم أنّه وهو في منتهى قدرته ذو رحمة واسعة!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البقرة، الآية 2.
[346]
الآيات
وَإذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(10) قَومَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ(11) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافَ أَن يُكَذِّبُونِ (12)وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَـروُنَ (13)وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخافُ أَن يَقْتُلُونِ(14) قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِأَيَتِنَآ إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ(15)
التّفسير
بداية رسالة موسى:
قلنا إنّ في هذه السورة بياناً لقصص سبعة من الأنبياء الكرام العظام، ليكون درس اعتبار لعامّة المسلمين، ولا سيما المسلمين الأوائل في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ...
فأوّل قصّة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى(عليه السلام)، وتشرح جوانب مختلفة من حياته ومواجهته لفرعون واتباعه حتى هلاكهم بالغرق في النيل!
وقد جاء الكلام عن بني إسرائيل وموسى وفرعون وقومه حتى الآن في سور شتى "كالبقرة والمائدة والأعراف ويونس والإسراء وطه" كما ورد الكلام في هذا الشأن أيضاً في بعض السور التالية!...
[347]
وهذه البحوث وإن تكررت ـ بحسب الظاهر ـ إلاّ أن الإمعان أو التدقيق فيها يكشف عن أن كلّ بحث منها يتناول جانباً خاصّاً من هذه القصّة ذات المحتوى الغزير، ويعوّل على هدف معين!...
مثلا.. حين نزلت الآيات ـ محل البحث ـ كان المسلمون قلّةً ضعافاً وكان أعداؤهم كثرةً أولي قوّة وبأس شديد، بحيث لا يمكن الموازنة بين الفرقتين، فكان ينبغي أن يبيّن الله قصص الأُمم السابقة المشابهة لحال هؤلاء، ليعلم المسلمون أن هذه القوّة التي يمتلكها الأعداء وهذا الضعف الظاهري الذي يكتنف المسلمين لن يؤدي أيٌّ منهما بنفسه إلى اندحار المسلمين، ولتزداد معنويات المسلمين وتثّبت استقامتهم ومقاومتهم...
وممّا يلفتُ النظر تكرار عبارة: (و ما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربّك لهو العزيز الرحيم) بعد تمام الحديث عن كل نبي... وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).. وهذا الإتساق في التعبير شاهد حيّ على أن ذكر هذه الجوانب من قصص الأنبياء إنّما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والإجتماعية كما كان عليها الأنبياء السابقون...
فتقول الآيتان الأُوليان من الآيات محل البحث (وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون). ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم، ومن الواضح أن الظلم له معنى جامعٌ واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الآية (13) من سورة لقمان (إنّ الشرك لظلم عظيم)...
كما أنَّ استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق الأُخرى أيضاً، ثمّ بعد هذا كله فإن قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوة الأنبياء جميعهم بمبارزة الظلم
[348]
بجميع أبعاده!...
ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لربّ العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى، فيقول في الآية التالية: (قال ربّ إنّي أخاف أن يكذبونِ) وأخشى أن أُطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما أُلاقيه من صخب وتكذيب فلا يتحقق الهدف المنشود...
وكان لموسى الحق في كلامه هذا تماماً، لأنّ فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر، بحيث لم يكن لأحد أن يخالفهم ولو برأيه، وإذا أحسّوا بأدنى نغمة مخالفة لأي شخص بادروا إلى الإجهاز عليه فوراً..
وإضافة إلى ذلك فان صدري لا يتّسع لاستيعاب هذه الرسالة الالهية: (ويضيق صدري).
ثمّ بعد هذا كله فلساني قد يعجز عن بيانها: (ولا ينطلق لساني)...
فلذلك فإني أطلب أن تشدّ أزري بأخي (فأرسل إلى هارون).(1)
لنؤدي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين.
وبغض النظر عن كلّ ذلك فإنّ قوم فرعون يطاردونني (ولهم عليّ ذنب) كما يعتقدون لأنّي قتلت واحداً منهم ـ حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم ـ بضربة حاسمة! وأنا قلق من ذلك (فأخاف أن يقتلونِ).
وفي الحقيقة إنّ موسى(عليه السلام) كان يرى أربع مشاكل كبرى في طريقه، فكان يطلب من الله حلّها لأداء رسالته وهذه المشاكل هي...
مشكلة التكذيب.
مشكلة ضيق الصدر.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في هذه الجملة حذفٌ وتقديره: فأرسل جبرئيل إلى هارون.
[349]
مشكلة عدم الفصاحة الكافية.
و مشكلة القصاص!
ويتّضح ضمناً أنّ موسى لم يكن خائفاً على نفسه، بل كان خوفه أن لا يصل إلى الهدف والمقصد للأسباب آنفة الذكر، لذلك فقد كان يطلب من الله سبحانه مزيد القوّة لهذه المواجهة!...
طلبات موسى(عليه السلام) من الله في هذا الصدد خير شاهد على هذه الحقيقة، إذ طلب أن يشرح صدره وحلّ عقدة لسانه وأن يرسل إلى هارون للمعاضدة في التبليغ كما جاء ذلك في سورة طه بصورة أكثر تفصيلا إذ قال: (ربّ اشرح لي صدري ويسِّرلي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً).
فاستجاب الله طلب موسى ودعوة الصادقة و(قال كلاّ) فلن يستطيعوا قتلك، أو كلاّ لن يضيق صدرك وينعقد لسانك، وقد أجبنا دعوتك أيضاً في شأن أخيك، فهو مأمور معك في هذه المهمّة: (فاذهبا بآياتنا) لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد الله.
ولا تظنّا بأنّ الله بعيد عنكم أو لا يسمع ما تقولان (إنّا معكم مستمعون)...
فإنا معكما ولن اتتركما أبداً، وسأنصركما في الحوادث الصعبة، فاذهبا مطمئني الخاطر، وامضيا في هذا السبيل بأقدام ثابتة وعزيمة راسخة!...
وهكذا فإنّ الله سبحانه أعطى لموسى الإطمئنان الكافي في جمل ثلاث وحقّق له طلبه... إذ طمأنه بقوله: (كلا) على أنّ قوم فرعون لن يقتلوه ولن يستطيعوا ذلك... ولن تحدث له مشكلة بسبب ضيق صدره أو التلكؤ في لسانهِ وبقوله: (فاذهبا بآياتنا) أرسل أخاه ليعينه على أمره. وبقوله: (إنا معكم مستمعون) وعدهما أنّهما سيكونان أبداً تحت ظل خيمته وحمايته!...
[350]
وممّا ينبغي الإلتفات إليه ورود الضمير في آخر الجملة بصيغة الجمع في قوله: (إنا معكم) ولعل ذلك إشارة إلى أن الله حاضر مع موسى وهارون ومن يواجهانهما من الطغاة والفراعنة في جميع المحاورات، ويسمع ما يدور بينهم جميعاً، فينصر موسى وأخاه هارون على أولئك الطغاة!...
وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أن كلمة "مع" دالة على النصرة والحماية فلا تشمل قوم فرعون، غير سديد، بل إن "مع" تعني حُضور الخالق الدائم في جميع الميادين والمحاورات حتى مع المذنبين، حتى مع المذنبين، وحتى مع الموجودات التي لا روح فيها، فهو في كل مكان ولا يخلو منه مكان.
والتعبير بـ "مستمعون"، أي الإصغاء المقرون بالتوجه هو تأكيد على هذه الحقيقة أيضاً.
* * *
[351]
الآيات
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرءِيلَ(17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكـفِرِينَ(19) قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ(20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسرءِيلَ(22)
التّفسير
مواجهة فرعون مواجهةً منطقية وقاطعة:
انتهت في الآيات المتقدمة المرحلة الأُولى لمأمورية "موسى(عليه السلام)" وهي موضوع الوحي "والرسالة" وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير!...
وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي الآيات ـ محل البحث ـ لتمثل المرحلة الثّانية، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون، والكلام المصيري الذي جرى بينهم!
تقول الآية الأُولى من هذه الآيات مقدمةً لهذه المرحلة: (فأتيا فرعون فقولا
[352]
إنّا رسول ربّ العالمين).
وجملة (فأتيا فرعون) تكشف عن أنّهما ينبغي أن يواجها فرعون نفسه بأيّة قيمة أو أيّ ثمن كان...
والتعبير بـ "رسول" بصيغة الإفراد مع أنّهما "موسى وهارون" نبيّان مرسلان، يشير إلى وحدة دعوتهما، فكأنّهما روحان في بدن واحد لهما خِطّة واحدة وهدف واحد.(1)
وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يُرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم: (أن أرسل معنا بني إسرائيل).
وبديهي أن المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نيرْ العبوديّة والقهر والإستعباد، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون، وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب.
وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقول لموسى: (ألم نربّك فينا وليداً...).
إذْ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فإنقذناك من الهلاك، وهيّأنا لك مرضعة، وعفونا عن الحكم الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمولا به، فتربّيت في محيط هادىء آمن منعّماً... وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زماناً (ولبثت فينا من عمرك سنين).
ثمّ توجه إلى موسى وذكرّه بموضوع قتل القبطي فقال: (وفعلت فعلتك التي فعلت).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يقول الراغب في "المفردات": "الرّسول" من الكلمات التي تطلق على المفرد والجمع، وإن جمعت أحياناً على "الرسُل" فمنهم من يرى أنها مصدر أيضاً ومعناها الرسالة، ونعرف أنه لا تثنية ولا جمع في المصدر. وقد ورد في لسان العرب أن الرّسول بمعنى الرسالة، إلاّ أن هذه الكلمة تحمل المعنى الوصفي حتماً، وكثيراً ما تجمع أو تثنى وقد ورد في سورة طه عن هذه القصة وقصة موسى وهارون: "إنّا رسولا ربك"!...
[353]
إشارةً إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبيّاً ولديك مثل هذه السابقة؟!
ثمّ بعد هذا كله: (وأنت من الكافرين)! (أي بنعمة فرعون) فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت من زادنا فكيف تكون نبيّاً وأنت كافر بنعمتي؟!
وفي الحقيقة; كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكوماً بهذه التهم المواجهة إليه، وبهذا المنطق الإستدراجي.
والمراد من قصّة القتل المذكورة هنا هو ما جاء في سورة القصص "الآية 15 منها" حيث جاء فيها أن موسى وجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه، فاستغاثة الذي هو من شيعته على الذي من عدوّه فوكزه موسى فقضى عليه انتصاراً لشيعته!...
وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالات فرعون الثلاثة، إلاّ أنه قدّم الإجابة على الإشكال الثّاني نظراً لأهميته. (أو أنه أساساً لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة، لأن تربية الشخص لا تكون دليلا على عدم جواز هداية مربّية إن كان المربي ضالا، ليسلك سبيل الرشاد)
وعلى كل حال أجابه موسى(عليه السلام): (قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين).
وهنا كلام طويل بن المفسّرين على المراد من كلمة "الضالين" الواردة في تعبير موسى(عليه السلام)... لأنّه كما نعلم لا مجال لأن تكون للنبيّ سابقةُ سوء حتى قبل مرحلة النبوّة.. لأنّها تزلزل موقعه في أفكار عامّة الناس، ويبقى الهدف من بعثته ناقصاً غيرِ تام، ولذلك فإنّ العصمة في الأنبياء لازمة حتى قبل زمان نبوتهم!... هذا من جهة...
ومن جهة أُخرى ينبغي أن يكون هذا الكلام جواباً مسكتاً ومضحماً لفرعون! لذلك فإن كثيراً من المفسّرين يعتقدون أن المراد من "الضال" هنا هو كونُه أخطأ في الموضوع، أي أن موسى كانت ضربته للرجل القبطي لا بقصد القتل، بل لكي
[354]
يحمي المظلوم ويدافع عنه، ولم يدر أنّه ستؤول ضربته إلى الإجهاز عليه وقتله، فبناءً على ذلك فإنّ الضالّ هنا معناه "الغافل" والمراد منه الغافل عن العاقبة التي أدّى عمله إليها.
وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من ذلك أنّه لم يكن أيّ خطأ في قتل القبطي الظالم لأنّه كان مستحقاً، بل إنّ موسى(عليه السلام) يريد أن يقول: إنّه لم يدر أن عاقبة عمله ستكون على هذا الوجه، وأنه لا يستطيع البقاء في مصر وعليه أن يخرج بعيداً عن وطنه، وأن يتأخر منهجه "في أداء رسالته".
ولكن الظاهر أنّ هذا لا يعدّ جواباً لفرعون، بل هو موضوع كان لموسى أن يبيّنه لأتباعه ومن حوله من محبّيه! لا أنه ردّ على إشكال فرعون!...
والتّفسير الثّالث الذي من المحتمل أن يكون مناسباً أكثر لمقام موسى(عليه السلام)ـ من جهات متعددة ـ ويتلاءم وعظمة كيانه، أن موسى(عليه السلام) استخدم التورية في تعبيره جواباً على كلام فرعون، فقال كلاماً ظاهره أنّه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ... لكنّ الله عرّفه إياه بعدئذ، ووهب له حكماً ـ فجعله من المرسلين، إلاّ أنه كان يقصد في الباطن أنه لم يدر أن عمله حينئذ سيؤدي إلى هذه النتيجة! من الجهد والعناء واضطراب البال ـ مع أَنّ أصل عمله كان حقاً ومطابقاً لقانون العدالة "أو أنه يوم كانت هذه الحادثة قد وقعت كان موسى(عليه السلام) قد ضلّ طريقه فصادف أمامه هذه القضيّة"...
ونحن نعرف أن "التورية" هي أن يقول الإنسان كلاماً باطنه حق، إلاّ أن الطرف الآخر يفهمُ من ظاهره شيئاً آخر، وهذا الأمر يقع في موارد خاصّة يُبتلى الإنسان فيها بالحرج أو الضيق، ولا يريد أن يكذب، وهو في الوقت ذاته على ظاهر كلامه...(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذا الكلام يوافق مضمون الحديث الوارد عن الإمام الرضا(عليه السلام) في تفسير الآية، راجع كتاب عيون اخبار الرضا، ج 4، ص 48 نقلا عن "نور الثقلين".
[355]
ثمّ يضيف موسى قائلا: (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين)!
وهناك اختلاف بين كلمات المفسّرين في المراد من "الحكم" في هذه الآية، أهو مقام النبوة، أم مقام العلم، أم سواهما؟! لكن مع ملاحظة ذيل الآية نفسها المذكور فيها مقام الرسالة بإزاء الحكم يتّضح أنّه غير الرسالة والنبوّة!
والشاهد الآخر على هذا الموضوع الآية (79) من سورة آل عمران إذ قال: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله...).
إن كلمة "الحكم" تعني في اللغة: المنع من أجل الإصلاح، هذا هو الأصل في ما وضعت له، ولذا سمّوا لجام الحيوان "حَكَمةً" على وزن (صَدَقَة) ثمّ أطلقت هذه الكلمة على ما يطابق الحكمة، ومن هنا سمي العقل والعلم حكماً أيضاً لهذا التناسب، وقد يقال: إنّه يستفاد من الآية (14) من سورة القصص أن موسى(عليه السلام) كان قد بلغ مقام الحكم والعلم قبل هذه القضية إذ تقول: (ولما بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكماً وعلماً).
فنجيب على ذلك أن للعلم والحكمة مراحل مختلفة، فكان موسى(عليه السلام) قد بلغ مرحلة منهما من قبل، وحين بلغ مقام النبوّة أدرك المرحلة الأكمل!...
ثمّ يردّ موسى(عليه السلام) على كلام فرعون الذي يمنُّ به عليه في أنّه ربّاه وتعهده منذ طفولته وصباهُ، معترضاً عليه بلحن قاطع فيقول: (وتلك نعمة تمنُّها عليّ أن عبّدتِ بني إسرائيل).
صحيح أنّ يد الحوادث ساقتني ـ وأنا طفل رضيع ـ إلى قصرك، لأتربّى في كنفك، وكان في ذلك بيان لقدرة الله، لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم لا تربيتُ في أحضان والديّ وفي بيتهما؟!
ألم يكن ذلك لأنّك عبّدت بني إسرائيل وصفّدت أيديهم بنير الأسر! حتى
[356]
أمرت أن يُقتل الأطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة؟!
فهذا الظالم المفرط من قبلك، كان سبباً لأن تضعني اُمي في الصندوق حفاظاً عليّ، وتلقيني في أمواج النيل، وكانت مشيئة الله أن تسوق الأمواج "زورقي" الصغير حتى توصله إلى قصرك... أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منّتك وحرمني من بيت أبي الكريم، وصيرني في قصرك الملوّث!...
وبهذا التّفسير يتّضح ارتباط جواب موسى بسؤال فرعون تماماً.
كما يحتمل في تفسير هذه الآية أنّ مراد موسى(عليه السلام) هو الإِعتراض على فرعون بأنّه لو كانت تربيتي عندك نعمةً من قبلك، فهي إزاء ظلمك لبني إسرائيل بمثابه القطرة في مقابل البحر، فأية نعمةَ لك عليّ مع ما عندك من الظلم والجور على الناس؟!
والتّفسير الثّالث لجواب موسى لفرعون، هو أنّه: لو تربيت في قصرك وتمتعت بنعمك المختلفة، فلا تنس بُناة قصرك الأوائل فهم أرقّاء من قومي، والموجدون لجميع تلك النعم هم أسراؤك من بني إسرائيل، فكيف تمنّ عليّ بجهود قومي وأتعابهم؟!
وهذه التفاسير الثلاثة لا تتنافى جميعاً، وإن كان التّفسير الأوّل من بعض الجهات أكثر وضوحاً!
ويستفاد من عبارة: "من المرسلين" ضمناً بأنّني لست الوحيد المرسل من قبل الله. فمن قبلي جاء رُسُل عدّة، وأنا واحدٌ منهم، إلاّ أن فرعون نسيَهم أو تناساهم!!
* * *
[357]
الآيات
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رِبُّ العَـلَمِينَ(23) قَالَ رَبُّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ(24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ(25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الاَْوَّلِينَ(26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لََمجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(28) قَالَ لَئِن اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِى لاََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)
التّفسير
الإتهام بالجنون والتهديد بالسجنِ:
حين واجه موسى(عليه السلام) فرعون بلهجة شديدة: وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في ردّه، غيّر فرعون مجرى كلامه، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول ربّ العالمين، و (قال فرعون وما ربّ العالمين)..
ومن المستبعد جدّاً أن يكون فرعون قد سأل موسى(عليه السلام) هذا السؤال لفهم الحقيقة ومعرفة الموضوع، بل يبدو أنّه سأله متجاهلا ومستهزئاً.
[358]
إلاّ أنّ موسى ـ على كل حال ـ لم يجد بُداً كسائر الباحثين الواعين اليقظين، أن يجيب على فرعون بجدّ... وحيث أن ذات الله سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس، فإنّهُ أخذ يحدثه عن آيات الله في الآفاق وآثاره الحيّة إذْ (قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما إن كنتُمْ موقنين).
فالسماوات بما فيهن من عظمة، والأرض على سعتها... والموجودات المتعددة بألوانها بحيث لا تساوي أنت وقصرك بإزائها إلاّ ذرّة في مقابل المجرّة! كلّها من خلق ربّي، فمثل هذا الخالق المدبّر لهذا العالم جدير بالعبادة، لا الموجود الضعيف التافه مثلك!...
وينبغي الإلتفات إلى أن عبدة الأوثان كانوا يعتقدون أنّ لكلّ موجود في هذا العالم ربّاً، وكانوا يعدّون العالم تركيباً من نُظُم متفرقة، إلاّ أن كلام موسى(عليه السلام) يشير إلى أن هذا النظام الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أن له ربّاً واحداً...
وجملة (إن كنتم موقنين) لعلها إشارةً إلى أنّ موسى(عليه السلام) يريد أن يفهم فرعون ومن حوله ـ ولو تلويحاً ـ أنه يعرف أن الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة... لأنّه لو أراد إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلاله كافياً.. فكأنّه يقول لهم: افتحوا أعينكم قليلا وتفكروا ساعة في السماوات والأرض بما فيهما من الآثار وعجائب المخلوقات... لتطلعوا على معالمها وتصححوا نظرتكم نحو الكون!
إلاّ أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الرّباني السماوي... فعاد لمواصلة الإستهزاء والسخرية، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور، و (قال لمن حوله ألا تستمعون).
ومعلوم من هم الذين حول فرعون؟ فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القوّة والظلم والقهر والمال.
[359]
يقول ابن عباس: كان الذين حول فرعون هناك خمسمائة نفر، وهم يعدّون من خواص قومه.(1)
وكان الهدف من كلام فرعون أن لا يترك كلام موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة لأُولئك الرهط... فعدّه كلاماً بلا محتوى وغير مفهوم.
إلاّ أن موسى(عليه السلام) عاد مرّةً أُخرى إلى كلامه المنطقي دون أي خوف ولا وهن ولا إيهام، فواصل كلامه و (قال ربّكم وربّ آبائكم الأولين).
إن موسى(عليه السلام) بدأ في المرحلة الأُولى بـ "الآيات الآفاقية"، وفي المرحلة الثّانية أشار إلى "الآيات الانفسية"، وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية الله في أرواح البشر وأجسامهم، ليفكر هؤلاء المغرورون على الأقلّ في أنفسهم ويحاولوا التعرّف عليها وبالتالي معرفة من خلقها.
إلاّ أن فرعون تمادى في حماقته، وتجاوز مرحلة الإستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون، فـ (قال إنّ رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون)...
وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين!...
وممّا يستجلب النظر أن هذا الضالَّ المغرور لم يكن مستعدّاً حتى لأنّ يقول: "إنّ رسولنا الذي أرسل إلينا"، بل قال: "إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم"، لأن التعبير برسولكم ـ أيضاً ـ له طابع الاستهزاء المقترن بالنظرة الإستعلائية... يعني: إنني أكبر من أن يدعوني رسول... وكان الهدف من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القويّ المتين لئلا يترك أثراً في أفكار الحاضرين.
إلاّ أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى(عليه السلام) ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار الله في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس، مبيناً خط التوحيد الأصيل فـ (قال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الآية محل البحث.
[360]
ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون).
فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات!... وأساساً فإنّ هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام، كل ذلك بنفسه آية له ودليل على عظمته... إلاّ أنّ العيب كامن فيكم، لأنّكم لا تعقلون، ولم تعتادوا التفكير (وينبغي الإلتفات إلى أن جملة (إن كنتم تعقلون) هي إشارة إلى أنه لو كنتم تتفكرون وتستعملون العقل في ماضي حياتكم وحاضرها لتوصلتم إلى إدراك هذه المسألة).
وفي الواقع إن موسى(عليه السلام) أجاب على اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأنّه ليس مجنوناً، وأن المجنون هو من لا يرى كل هذه الآثار ودلائل وجود الخالق، والعجيب أنه مع وجود الآثار على باب الدار والجدار، فانه يوجد من لا يفكر في هذه الآثار!".
وصحيح أنّ موسى(عليه السلام) أشار بادىء الأمر إلى تدبير أمر السماوات والأرض، إلاّ أنه حيث أن السماء عالية جداً، وأن الأرض ذات أسرار غربية، فقد وضع موسى(عليه السلام) أخيراً إصبعه على نقطة لا يمكن لأحد إنكارها; ويواجهها الإِنسان كلّ يوم، وهي نظام طلوع الشمس وغروبها وما فيها من منهج دقيق... وليس لأحد من البشر أن يدعي أنّ بيده نظامها أبداً...
والتعبير بـ "ما بينهما" إشارة إلى الوحدة والإرتباط في ما بين المشرق والمغرب، وهكذا كان التعبير في شأن السماوات والأرض. (قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما).
ويبيّن التعبير (ربُكم ورب آبائكم الأولين) أيضاً ارتباط النسل والوحدة فيه...
غير أن هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى
[361]
استعمال "حربة" يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار، فجابه موسى و (قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين).
فأنا لا أعرف كلماتك، إنّما أعرف وجود اله ومعبود كبير وهو أنا... ومن قال بغيره فهو محكوم بالإعدام أو السجن!...
ويعتقد بعض المفسّرين أن الألف واللام في "من المسجونين" هما للعهد، وهي إشارة إلى سجن خاص من ألقي فيه يبقى سجيناً حتى تخرج جنازته.(1)
وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الارهابي، لأن مواصلة موسى(عليه السلام) بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ الناس!...
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير الميزان، والفخر الرازي، وروح المعاني ذيل الآية محل البحث.
[362]
الآيات
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْء مُّبِين(30) قَالَ فأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ(32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيضَآءُ لِلنَّـظِرِينَ(33) قَالَ لِلْمَلاءِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَـحِرٌ عَلِيمٌ(34) يُريدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(35) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَـشِرِينَ(36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّار عَلِيم(37)
التّفسير
بلادكم في خطر:
رأينا في الآيات المتقدمة كيف حافظ موسى(عليه السلام) على تفوّقه ـ من حيث المنطق ـ على فرعون، وبيّن للحاضرين إلى أيّة درجة يعوّل مبدؤه على منطقه وعقله، وأن ادعاء فرعون واه وضعيف، فتارة يسخر من موسى، وتارةً يرميه بالجنون، وأخيراً يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام!...
وهنا يقلب موسى(عليه السلام) صفحة جديدة، فعليه أن يسلك طريقةً أخرى يخذل
[363]
فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوّة أيضاً، القوّة الإلهية التي تنبع من الإعجاز، فالتفت إلى فرعون متحدّياً و (قال أو لوجئتك بشىء مبين)...
وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود... لأن موسى(عليه السلام) أشارَ إلى خطّة جديدة! ولفت انظار الحاضرين نحوه، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه، لإعترض عليه الجميع ولقالوا: دعه ليرينا عمله المهم، فلو كان قادراً على ذلك فلنرى، ونعلم حينئذ أنّه لا يمكن الوقوف امامه، وإلاّ فستنكشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كلام موسى ببساطة...
فاضطر فرعون إلى الإستجابة لا قتراح موسى(عليه السلام) و (قال فأت به إن كنت من الصادقين).
(فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) "بأمر الله".
ثمّ أظهر إعجازاً آخر حيث أدخل يده في جيبه (اعلى الثوب) وأخرجها فاذا هي بيضاء منيرة: (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين).
في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، والأُخرى مظهر الأمل، فالأُولى تناسب مقام الإنذار، والثّانية للبشارة! والأُولى تبيّن عذاب الله، والأُخرى نورٌ وآية رحمة! لأنّ المعجزة ينبغي أن تكون منسجمةً مع دعوة النّبي(عليه السلام).
"الثعبان" معناه الحية العظيمة، ويحتمل الراغب في مفرداته أن "الثعبان" من مادة (ثعب) المأخوذ معناه من جريان الماء، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهار المتحركة!
والتعبير بـ "المبين" لعله إشارة إلى هذه الحقيقة! وهي أنّ عصّا موسى(عليه السلام)تبدلت إلى ثعبان عظيم فعلا، ولم يكن في الأمر من إيهام أو سحر.
ولا بأس بذكر هذه اللطيفة الدقيقة هنا، وهي أنّ الآية محل البحث عبرت [عن تبدل العصا] بـ "ثعبان". أمّا الآية العاشرة من سورة النمل، والآية الحادية
[364]
والثلاثون من سورة القصص، فقد عبرت عنها بـ "جان" "ما تجنّه(1)الأرض وما يمشي عليها من الأفاعي الصغار بسرعة وقفز". أمّا الآية العشرون من سورة طه فقد عبّرت عنها بأنّها "حية" "المشتقّة من الحياة".
وهذا التفاوت أو الإختلاف في التعابير مثير للسؤال في بدو النظر، إلاّ أنّ الإختلاف أو التفاوت إنّما هو لبيان واحد من أمرين:
1 ـ لعله إشارة إلى حالات ذلك الثعبان المتباينة، ففي البداية تبدلت العصا إلى جانّ أو حية صغيرة، ثمّ بدأت تكبر حتى صارت ثعباناً مبيناً!...
2 ـ أو أنّ هذه الألفاظ الثلاثة "الثعبان، والجان، والحية" كلٌّ منها يرمز إلى بعض الخصائص الموجودة في تلك العصا المتبدلة إلى حالة جديدة! فالثعبان إشارة إلى عظمتها، والجان إشارة إلى سرعتها، والحية إشارة إلى حياتها!
غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى(عليه السلام)، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم).
ذلك الإنسان الذي كان يدعوه مجنوناً إلى لحظات آنفة، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم، وهكذا هي طريقة الجبابرة وأسلوبهم، حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عدّة مرّات، ويحاولون التشبث بأي شيء للوصول إلى هدفهم.
وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبولا عند السامعين، لأنّ ذلك العصر كان عصر السحر، فإذا أظهر موسى(عليه السلام) معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر.
ومن أجل أن يعبّىء الملأ ويُثيرَ حفيظتهم ضد موسى(عليه السلام)، قال لهم: (يريد أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جنّ يجن "من الأضداد في اللغة" والضدّ في الألفاظ ما يحمل معنيين متضادين، مثل الجون يطلق على الأسود والأبيض، وجنّ بمعنى ستره وأظهره.
[365]
يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟).
والغريب في الأمر أن فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل: (أليس لي ملكُ مصر)؟!
والآن حيث يرى عرشه متزعزعاً ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض، ويعدّها ملكَ الناس، فيقول لهم: أرضكم في خطر، إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم، ففكروا في حيلة!...
فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعداً لأن يصغي لأحد، كان الآمر بلا منازع، أمّا الآن فهو في حرج شديد يقول لمن حوله: "ماذا تأمرون"؟! إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب!...
ويستفاد من الآية (110) من سورة الأعراف أنّ أتباع فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهم وتشاوروا في الأمر، وكانوا في حالة من الإِضطراب النفسي بحيث كان كلُّ منهم يسأل الآخر قائلا: وأنت ما تقول؟ وماذا تأمرون؟!
أجل هذه سُنّةُ الجبابرة في كل عصر وزمان... فحين يسيطرون على الأوضاع يزعمون أن كل شيء لهم، ويعدون الجميع عبيدهم، ولا يفهمون شيئاً سوى منطق الإستبداد. إلاّ أنّهم حين تهتزّ عروشهم الظالمة ويرون حكوماتهم في خطر، ينزلون مؤقتاً عن استبدادهم ويلجأون إلى الناس ويتحدثون باسم الناس، فالأرض أرض الشعب، والحكومة تمثل الشعب ويحترمون آراء الشعب، ولكن حين يستقر الطوفان ويهدأ التيار، فاذا هم أصحاب الأمس و"عادت حليمة إلى عادتها القديمة".
ورأينا في عصرنا بقايا السلاطين القدامى كيف يحسبون أن الدولة ملكهم المطلق حين تُقبل الدنيا عليهم، ويأمرون من يرفض إتباعهم بالخروج عن تلك البلاد قائلين له: اذهب في أرض الله العريضة الواسعة، ففي هذا البلد لابدّ من تنفيذ ما نقول لا غير. ورأينا هذه الحالة عندما بدأت هبّت رياح الثورة الإسلامية كيف
[366]
أن الطواغيت أخذوا باحترام الشعب وتعظيمه، وحتى أنّهم أقروا بذنوبهم وطلبوا العفو، ولكن الناس الذين عرفوا سجيّتهم طوال سنين مديدة لم ينخدعوا بذلك.
وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و (قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين).(1) أي أمهلهما وابعث رسلك الى جميع المناطق والأمصار.
(يأتوك بكل سحّار عليم).
وفي الواقع أن رهط فرعون إمّا أنّهم غفلوا، وإمّا أنّهم قبلوا اتهامه لموسى واعين للأمر. فهيأوا خطةً على أنّه ساحر، ولابدّ من مواجهته بسحرة أعظم منه وأكثر مهارة!...
وقالوا: لحسن الحظّ إنّ في بلادنا العريضة سحرةً كثيرين، فلابدّ من جمع السحرة لإحباط سحر موسى(عليه السلام).
وكلمة (حاشرين) مأخوذه من مادة (الحشر) ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك، وهكذا فينبغي على المأمورين أن يعبئوا السحرة لمواجهة موسى(عليه السلام) بأيّ ثمن كان!...
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ (أرجه) مشتقّة من "الإِرجاء"، ومعناها التأخير وعدم الإِستعجال في القضاء، والضمير في (أرجه) يعود على موسى، وأصل الكلمة كان (أرجئه) وحذفت الهمزة للتخفيف!
[367]
الآيات
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَـتِ يَوْم مَّعْلُوم(38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هُلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ(39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغـلِبِينَ (40)فَلَمَّا جآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لاََجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَـلِبِينَ(41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المُقَرَّبِينَ(42)
التّفسير
اجتماع السحرة من كلّ مكان:
في هذه الآيات يُعرض مشهداً آخر من هذه القصّة المثيرة، إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم، وكان الوعد المحدد (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم).
وبتعبير آخر: إنّهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم، كي تجتمعوا في الوعد المقرر في "ميدان العرض"...
والمراد من "اليوم المعلوم" كما يستفاد من بعض الآيات في سورة الأعراف، أنّه بعض أعياد أهل مصر، وقد اختاره موسى(عليه السلام) للمواجهة ومنازلة السحرة... وكان هدفه أن يجد الناس فرصة أوسع للإجتماع، لأنّه كان مطمئناً بأنّه سينتصر،
[368]
وكان يريد أن يظهر آيات الله وضعف فرعون والملأ من حوله للجميع، وليشرق نور الإيمان في قلوب جماعة كثيرين!...
وطُلب من الناس الحضور في هذا المشهد: (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون)وهذا التعبير يدلّ على أنّ المأمورين من قِبَلِ فرعون بذلوا قصارى جهودهم في هذا الصدد... وكانوا يعلمون أنّهم لو أجبروا الناس على الحضور لكان ردّ الفعل سلبيّاً، لأنّ الإنسان يكره الإجبار ويعرض عنه بالفطرة! لذلك قالوا: هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم مجتمعون؟ ومن البديهي أن هذا الأسلوب جرّ الكثير إلى حضور ذلك المشهد.
وقيل للناس: إنّ الهدف من هذا الحضور والإجتماع هو أنّ السحرة اذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار الالهة وينبغي علينا اتباعهم: (لعلنا نتّبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) فلابدّ من تهييج الساحة للمساعدة في هزيمة عدو الالهة إلى الأبد.
وواضح أنّ وجود المتفرجين كلّما كان أكثر شدّ من أزر الطرف المبارز، وكان مدعاةً لأن يبذل أقصى جهده، كما أنه يزيد من معنوياته وعندما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثير الصخب والضجيج إلى درجةً يتوارى بها خصمه، كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من روحيّة الطرف المواجه "الخصم" فلا يدعه ينتصر!
أجل إن اتباع فرعون بهذه الآمال كانوا يرغبون أن يحضر الناس، كما أنّ موسى(عليه السلام) كان يطلب ـ من الله ـ أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد الهائل! ليبيّن هدفه بأحسنِ وجه.
كل هذا من جهة، ومن جهة أُخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون (فلما جاء السحرة قالوا لفرعون ءَإنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)...
وكان فرعون قلقاً مضطرب البال، لأنّه في طريق مسدود، وكان مستعدّاً لأن
[369]
يمنح السحرة أقصى الإمتيازات، لذلك فقد أجابهم بالرضا و (قال نعم وإنّكم إذاً لمن المقرّبين). اي إن فرعون قال لهم: ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال أم الجاه، فكلاهما تحت يديّ!...
وهذا التعبير يدلُّ على أن التقرب من فرعون في ذلك المحيط كان مهمّاً إلى درجة قصوى! بحيث يذكره فرعون للسحرة ويعدّه أجراً عظيماً، وفي الحقيقة لا أجر أعظم من أن يصل الإنسان إلى مقربة من القدرة المطلوبة!...
فإذا كان الضالّون يعدّون التقرب من فرعون أعظم أجر، فإنّ عباد الله لا يرون أجراً أعظيم من التقرب الى الله تعالى حتى الجنّة بما فيها من النعيم المقيم لا تقاس بنظرة من وجهه الكريم لهم!...
ولذلك فإنّ الشهداء في سبيل الله الذين ينبغي أن ينالوا أعظم الأجر لإيثارهم الكبير، ينالون التقرب من الله بشهادة القرآن! والتعبير القرآني (عند ربّهم) شاهد بليغ على هذه الحقيقة!...
وكذلك فإنّ المؤمن السليم القلب حين يؤدي العبادة الله، يؤديها بهدف "قربة الى الله"...
* * *
[370]
الآيات
قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ(43) فَأَلْقَواْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بَعَزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَـلِبُونَ(44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45) فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـجِدِينَ (46)قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(47) رَبِّ مُوسَى وَهَـرونَ(48) قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُم وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خَلَـف وَلاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49) قَالوُاْ لاَضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50)إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا ربُّنَا خَطَـيَنآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(51)
التّفسير
نور الإيمان في قلوب السَحَرَةَ:
حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه، وشدّ من عزمهم، فإنّهم بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ماسخت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق ـ مثلا ـ بحيث تتحرك
[371]
وتلمع عند شروق الشمس عليها!
وأخيراً كان اليوم الموعود والميقات المعلوم، وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخيّة، ففرعون وقومه من جانب، والسحرة من جانب آخر، وموسى وأخوه هارون من جانب ثالث، كلهم حضروا هناك!
وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلال الآيات المذكورة، والشروع بذكر أصل الموضوع، فيتحدّث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و: (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون).
ويستفاد من الآية (115) من سورة الأعراف، أنّ موسى(عليه السلام) قال ذلك عندما سأله السحرة: هل تلقي أنت أوّلا أم نلقي نحن أوّلا؟
وهذا الإقتراح من قبل موسى(عليه السلام) يدلّ أنّه كان مطمئناً لانتصاره، ودليلا على هدوئه وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من الأعداء وأتباع فرعون... كان هذا الإقتراح يُعدّ أوّل "ضربة" يدمغ بها السحرة، ويبيّن فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص، وأنّه مرتبط بمكان آخر ومتصل به.
وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا "الميدان"، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى(عليه السلام) (فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون).(1)
أجل، لقد استندوا إلى عزّة فرعون كسائر المتملقين، وبدأوا باسمه وقدرته الواهية!
وهنا ـ كما يبيّن القرآن في مكان آخر من سورة وآياته ـ تحركت العصيُّ كأنّها الأفاعي والثعابين و (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى).(2)
وقد انتخب السحرة العصي كوسائل لسحرهم، لتتغلّب حسب تصوّرهم على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الحبال" جمع "حبل" على وزن (طبل) ومعناها واضح، والعصي جمع العصا.
2 ـ سورة طه، الآية 66.
[372]
عصى موسى، وأضافوا عليها الحبال ليثبتوا علوّهم وفضلهم عليه...
فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحاً، وأشرق الأمل في عيني فرعون وأتباعه، وسُرّوا سروراً لم يكن ليخفى على أحد، وسرت فيهم نشوة اللّذة من هذا المشهد!
إلاّ أنّ موسى(عليه السلام) لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، فتقدم (فألقى موسى عصاه) فتحولت الى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وادوات السحرة بسرعة بالغة (فإذا هي تلقفُ ما يأفكون).(1)
وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغشّاهم الوجوم وفغرت الأفواه من الدهشة والعجب، وجمدت العيون، ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة...
و تبدّل كل شيء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا ـ إلى تلك اللحظة ـ مع فرعون غارقين في الشيطنة، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنّهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبرى (فأُلقي السحرة ساجدين).
الطريف أنّ القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ "أُلقي" وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير وجاذبية معجزة موسى لهم، حتى كأنّهم سقطوا على الأرض وسجدوا دون اختيارهم...
واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم فـ (قالوا آمنا بربّ العالمين).
ولئلا يبقى مجالُ للإبهام والغموض والتردد، ولئلا يفسر فرعون ذلك تفسيراً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ (تلقف) مشتق من (اللقف) على زنه (السقف) ومعناه إمساك الشيء بسرعة، سواء كان ذلك باليد أم الفم، ومعلوم أن المراد هنا الإِمساك بالفم والإبتلاع، و (يأفكون) مشتق من (الإفك) ومعناه الكذب، وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة.
[373]
آخر فإنّهم قالوا: (ربّ موسى وهارون).
وهذا التعبير يدّل على أنّه وإن كان موسى(عليه السلام) متكفلاً لأمر المبارزة وإلقاء العصا ومحاججة السحرة، إلاّ أنّ أخاه هارون كان يعاضده في الأمر، وكان مستعداً لتقديم أي عون لأخيه.
وهذا التبدل والتغيّر المفاجيء العجيب في نفوس السحرة بحيث خطوا في لحظة واحدة من الظلمة المطلقة إلى النور المبين. ولم يكتفوا بذلك حتى أقحموا انفسهم في خطر القتل، وأعرضوا عن مغريات فرعون ومصالحهم المادية... كلّ ذلك لما كان عندهم من "علم" استطاعوا من خلاله أن يتركوا الباطل ويتمسكوا بالحقّ!
إنّهم لم يجوبوا باقي الطريق بخطى العقل فحسب، بل ركبوا خيول العِشْقِ، وقد سكروا من عطر أزهاره، حتى كأنّهم لم يفيقوا من سكرتهم، وسنرى أنّهم لِهذا السبب استقاموا بشجاعة أمام تهديدات فرعون الرهيبة...
نقرأُ حديثاً عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "ما من قلب إلاّ بين إصبعين من أصابع الرحمان، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"(1) (وبديهي أن مشيئة الله في هاتين المرحلتين تتعلق باستعداد الإنسان، وهذا التوفيق أو سلب التوفيق إنّما هو لأجل قابلية القلوب المختلفة، وليس اعتباطاً).
أمّا فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوماً معنوياً ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و(قال آمنتم به قبل أن آذن لكم).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 208 .
2 ـ جاء التعبير في هذه الآية والآية (71) من سورة طه بـ (آمنتم له) وجاء التعبير في الآية (123) من سورة الأعراف (آمنتم به) وكما يقول أصحاب اللغة: إن الإيمان إذا تعدى باللام فإنه يعني الخضوع، وإذا تعدى بالباء فإنه يعني التصديق!
[374]
لقد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالا، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب، بل كان ترقُّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، فليس لهم أن يفكّروا دون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين!.
هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول (آمنتم له)! والمراد من هذا التعبير هو التحقير!!
إلاّ أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلا، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.
فإتهم السحرة أوّلا بأنّهم تواطؤوا مع موسى(عليه السلام) وتآمروا على أهل مصر جميعاً، فقال: (إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر).
وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم; وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم...
إلاّ أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها (فلسوف تعلمون لأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاُصلبنكم أجمعين).
أي: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ العام، وعلى جذوع النخل، (لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر).
وهذه هي طريقة الجبابرة والحكّام الظلمة في كل عصر وزمان، ففي البدء يتهمون الرجال المصلحين بالتآمر ضد الناس، وبعد الإستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في رقاب ليضعف موقع المطالبين بالحق ولا يجدوا معاضداً لهم، فيزيحوهم من طريقهم.
إلاّ أن فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأن السحرة قبل لحظة ـ والمؤمنين في هذه
[375]
اللحظة ـ قد غمر قلوبهم الإيمان، وأضرمهم عشق الله; بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع واحبطوا خطته و (قالوا لا ضير إنا إلى ربّنا منقلبون).
فأنت بهذا العمل لا تنقص منّا شيئاً، بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي، فيوم كانت هذا التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف ربّنا، وكنّا، ضالين مضلين، إلاّ أنّنا عثرنا اليوم على ضالتنا (فاقض ما أنت قاض)!
ثمّ أضافوا بأنّهم واجهوا النّبي موسى(عليه السلام) من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلك فـ (إنا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا أن كنا أوّل المؤمنين)...
إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شيء، لا من تهديداتك، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.
وإذا كنّا نخاف من شيء، فإنّما نخاف من ذنوبنا الماضية، ونرجوا أن تمحى في ظل الإيمان وبفضل الله ولُطْفهِ!
أية طاقة وقوّة هذه التي إن وُجدت في الإنسان صغرت عندها أعظم القوى، وهانت عنده أشد الأُمور، وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية والإيثار؟!
إنّها قوّة الإيمان.
إنّها شعلة العشق النيرة، التي تجعل الشهادة في سبيل الله أحلى من الشهد والعسل، وتصيّر الوصال إلى المحبوب أسمى الأهداف!
هذه هي القوّة التي استعان بها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وربّى المسلمين الأوائل عليها، وأوصل أمة جهلاءَ متأخرة إلى أوج الفخر بسرعة مذهلة، فكانت الأُمة المسلمة التي اذهلت الدنيا!
إلاّ أن هذا المشهد ـ على كل حال ـ كان غالياً وصعباً على فرعون وقومه، بالرغم من أنّه طبّق تهديداته ـ طبقاً لبعض الروايات ـ فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون ـ إلاّ أن ذلك لم يطفىء عواطف الناس تجاه موسى فحسب، بل أثارها
[376]
أكثر فأكثر!...
ففي كل مكان كانت اصداء النّبي الجديد... وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء المؤمنين، وهكذا آمن جماعة بهذا النحو، حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين حتى زوجته، آمنوا بموسى ايضاً.
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: كيف عبر السحرة التائبون المؤمنون عن أنفسهم بأنّهم أوّل المؤمنين...
هل كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين في ذلك المشهد؟!
أو كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين من حماة فرعون؟!
أو أنّهم أوّل المؤمنين الذين وردوا "الشهادة".
كل هذه الأُمور محتملة، ولا تتنافى في مابينها.
وهذه التفاسير إنّما تصحّ في صورة ما لو قلنا بأنّ جماعة من بني إسرائيل أو من غيرهم آمنوا بموسى قبل ذلك، أما لو قلنا بأنّهم أمروا بعد البعثة أن يتصلوا بفرعون مباشرةً وأن يوردوا الضربة الأُولى عليه، فلا يبعد أن يكونوا أول المؤمنين، ولا حاجة عندئذ إلى تفسير آخر.
* * *
[377]
الآيات
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52)فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَآئِنِ حـشِرِين(53) إنَّ هَـؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ(55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـذِرُونَ (56)فَأَخْرَجْنَـهُم مِّن جَنَّـت وَعُيُون(57) وَكُنُوز وَمَقام كَريم (58)كَذَلِكَ وَأَورَثْنَـهَا بَنِى إِسْرءِيلَ(59)
التّفسير
مصير الفراعنة:
في الآيات المتقدمة... رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة. رغم عدم إيمان فرعون وقومه إلاّ أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهمّة، يعدُّ كلٌ منها انتصاراً مهمّاً:
1 ـ آمن بنو إسرائيل بنبيّهم "موسى(عليه السلام)" والتفّوا حوله بقلوب موحّدة... لأنّهم بعد سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبيّاً سماوياً في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى استعداد لأنّ يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون..
[378]
2 ـ لقد شقّ موسى(عليه السلام) طريقة وسط أهل مصر من الأقباط وغيرهم... ومال إليه جمع منهم، أو على الأقل خافوا من مخالفته، وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء مصر جمعاء!
3 ـ وأهمّ من كل ذلك أنّ فرعون لم ير في نفسه القدرة ـ لا من جهة أفكار عامّة الناس، ولا من جهة الخوف على مقامة ـ على مواجهة رجل له عَصَا كهذه العصا، ولسان مؤثر كلسان موسى.
هذه الأُمور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى(عليه السلام) دعوته بين الناس، ويتمّ الحجة عليهم!
ومرّت سنون طوال على هذا المنوال، وموسى(عليه السلام) يظهر المعاجز تلو المعاجز ـ كما أشارت إليها سورة الأعراف وبينّاها في ذيل الآيات 130 ـ 135 منها ـ إلى جانب منطقه المتين، حتى ابتلى الله أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يتّقون "لمزيد الإيضاح لا بأس بمراجعة تفسير الآيات آنفة الذكر"...
ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحيُ على موسى أن يخرج بقومه من مصر، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلا: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أنّكم متبعون).
وهذه خطة إلهية على موسى(عليه السلام) أن يمتثلها ويسري بقومه ليلا، وإنّ على فرعون وقومه أن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر الله.
والتعبير بـ "عبادي" بضمير الإفراد، مع أن الفعل (أوحينا) في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير الجمع، إنّما هو لبيان منتهى محبة الله لعباده المؤمنين...
وفعلا امتثل موسى(عليه السلام) هذا الأمر، وعبأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، واختار الليل خاصّة لتنفيذ أمر الله لتكون خطته نافذة.
إلاّ أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هيناً يسيراً يمكن
[379]
إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه الى المدن لجمع القوات: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين).
بالطبع فإنّ في تلك الظروف، وصول إبلاغ فرعون إلى المدائن، وجميع مناطق مصر، يحتاج إلى زمان معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البلاغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعدّة فوراً، وتؤدي مقدمة الجيش مهمّتها، وتتبعها بقية الأفواج بالتدريج...
ولتعبئة الناس ـ ضمناً ـ وتهيئة الأرضية لإثارتهم ضد موسى وقومه، أمر فرعون أن يُعلَن (إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون).
فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتماً.
و "الشرذمة" في الأصل تعني القلة من الجماعة، كما تعني ما تبقى من الشيء، ويطلق على اللبوس الممزق الخلق "شراذم"، فبناءً على هذا يكون المعنى أنّ هؤلاء "أي موسى وقومه" بالإضافة إلى أنّهم قليلون فهم متفرقون، فكأن فرعون، بهذا التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام بني إسرائيل من حيث أعداد الجيش فيهم...
ثمّ تضيف الآية الأُخرى حاكية عن لسان فرعون (وإنّهم لنا لغائظون) فمن يسقي مزارعنا غداً، ومن يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟!
ثمّ إنّا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا: (وإنا لجميع حاذرون) ومستعدون جميعاً لمواجهتهم.
وقد فسّر بعضهم "حاذرون" على أنها من الحذَر، بمعنى الخوف والخشية من التآمر، وفسّر بعضهم (حاذرون) على أنها من الحذِر، بمعنى الفطنة والتهيؤ من حيث السلاح والقوّة. إلاّ أن هذين التّفسيرين لا منافاة بينهما، فربّما كان فرعون
[380]
وقومه قلقين من موسى ومستعدين لمواجهته أيضاً.
ثمّ يذكر القرآن النتيجة الإجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته، وقيام حكومة بني إسرائيل، فيقول: (فأخرجناهم من جنات وعيون... وكنوز ومقام كريم).
أجل (كذلك وأورثناها بني إسرائيل).
وهناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من كلمة (مقام كريم)، فقال بعضهم بأنّها القصور المجللة والمساكن المظللة...
وقال بعضهم بأنّها المجالس المنعقدة بالحبور والسرور والنشاط.
وقال بعضهم: المراد مقام الحكام والأمراء، الذين يجلسون على كراسيهم ومن حولهم أتباعهم وجنودهم يمتثلون أوامرهم...
وقال بعضهم: بل يعني المنابر التي كان يصعدها الخطباء "المنابر التي كانت لصالح فرعون وحكومته وجهازه فهي بمثابة أبواق إعلام له".
وبالطبع فإن المعنى الأوّل أنسب من الجميع كما يبدو، رغم أن هذه المعاني غير متباينة ومن الممكن أن تجتمع هذه المعاني جميعاً في مفهوم الآية... فالمستكبرون (فرعون وقومه) أخرجوا من قصورهم وحكومتهم وموقعهم وقدرتهم، كما أخرجوا من مجالسهم المنعقدة بالحبور والسرور.
* * *
ملاحظتان
1 ـ هَلْ حكمَ بنُو إسرائيلَ في مصرَ؟!
على أساس تعبير الآيات المتقدمة (كذلك وأورثناها بني اسرائيل)... فإنّ جمعاً من المفسّرين يعتقدون أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وسيطروا على
[381]
الحكم، ومكثوا في مصر حاكمين مدّة.(1)
وظاهر الآيات المتقدمة يناسب هذا التّفسير.
في حين أن بعض المفسّرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه، إلاّ أنّهم بعد مدّة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها حكومتهم.(2)
وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسم مع هذا التّفسير.
ويعتقد بعض آخر من المفسّرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة منهم بقيت في مصر وحكمت فيها، وتحركت جماعة منهم مع موسى نحو بيت المقدس.
وذكر احتمال آخر، وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى(عليه السلام) وفي زمان النّبي سليمان بن داود، والآية (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) ناظرة إلى هذا المعنى!
إلاّ أنّه مع ملاحظة أن موسى(عليه السلام) نبي ثائر كبير، فمن البعيد جدّاً أن يترك هذه الأرض التي تهاوت أركان حكومتها وقد اصبحت مقاليد اُمورها بيده فيذرها كلياً دون أن يخطط لها خطة ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة، ولا سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعودوا على محيطها، فبناءً على هذا لا يخرج الأمر من أحد حالين... أمّا أن نقول: إن بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول: إن قسماً منهم بقوا في مصر بأمر موسى(عليه السلام) واستولوا على العرش وحكموا في مصر!... وفي غير هاتين الحالين لا يتجلّى مفهوم لاخراج الفراعنة منها ووراثة بني اسرائيل لها...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع مجمع البيان والقرطبي: ذيل الآيات محل البحث، كما أن الألوسي فسّر هذا الموضوع في روح المعاني تفسيراً يستحق النظر!.
2 ـ روح المعاني ذيل الآيات محل البحث.
[382]
2 ـ ترتيب الآيات
يشرح القرآن فيما يأتي من الآيات كيفية غرق فرعون واتباعه، وهذا الأمر يدعو إلى التساوءل: كيف يذكر القرآن إخراج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وإيراثه "ذلك" بني إسرائيل! ثمّ يذكر كيفية غرق فرعون وقومه؟ مع أن الترتيب الطبيعي للآيات ليس كذلك...
هذا الأمر ربّما يكون من قبيل بيان الإجمال ثمّ التفصيل، أي أن القرآن ذكر الموضوع أوّلا بصورة مجملة، ثمّ وضحه في الآيات الاُخَر!
كما يمكن أن يكون من قبيل ذكر النتيجة، ثمّ شرح المقدمات "فتدبر".
* * *
[383]
الآيات
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ(60)فَلَمَّا تَرَءا الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـبُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ(62) فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَالَّطوْدِ العَظِيمِ(63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاَْخَرِينَ(64) وَأَنجيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ(65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ(66) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(67) وَإِنَّ رَبِّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)
التّفسير
عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة
في هذه الآيات يبرز المشهد الأخير من قصّة موسى وفرعون، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم!
وكما قرأنا في الآيات المتقدمة فإنّ فرعون أرسل المدائن حاشرين، وهيأَ مقداراً كافياً من "القوّة" والجيش، قال بعض المفسّرين: كان ما أرسله فرعون على أنّه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل، وتبعهم نفسه بألف ألف مقاتل "أي
[384]
مليون".(1)
تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة، فبلغوهم صباحاً كما تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (فاتبعوهم مشرقين(2) فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون).
فأمامنا بحر خضم متلاطم بالأمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة... هؤلاء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا الأبرياء سنين طوالا... وفرعون نفسه رجل دموي جبار... فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة، ويقتلوننا جميعاً بحدّ السيوف، أو سيأسروننا ويعذبوننا، والقرائن جميعها تدل على ذلك.
وهنا مرّت لحظات عسيرة على بني إسرائيل... لحظات مُرّة لايمكن وصف مرارتها... ولعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم.
إلاّ أنّ موسى(عليه السلام) كان مطمئناً هادىء البال، وكان يعرف أن وعد الله في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لايتخلف أبداً ولن يخلف الله وعده رسله!...
لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الإطمئنان والثقة و (قال كلاّ إن معي ربّيْ سيهدين).
ولعلّ هذا التعبير يشير إلى وعد الله لموسى وأخيه هارون حين أمرهما بإنذار قومهما، إذ قال لهما: (إنّي معكما أسمع وأرى).(3)
إذ كان موسى يعلم أن الله معه في كل مكان، وخاصّة تعويله في كلامه على كلمة (ربّي) أي الله المالك والمربّي هذا يدل على أنّ موسى(عليه السلام) كان يدري أنّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة مليون وأخواتها (مليار، بليون الخ) من مصطلحات العصر وهي غير عربية، وكان العرب يقولون ألف ألف.
2 ـ قال بعض المفسّرين: المراد من "مشرقين"، أن بني اسرائيل ساروا نحو الشرق، واتّباع فرعون وقومه بالإتجاه نفسه، لأنّ بيت المقدس يقع شرق مصر!
3 ـ سورة طه، الآية 46.
[385]
لا يطوي هذا الطريق بخطاه، بل بلطف الله القادر الرحيم...
وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلامه دون أن يصدقوه، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم، صدر أمر الله كما يقول القرآن: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر...).
تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار، وفي يوم آخر آية رحمة ونجاة!
فامتثل موسى(عليه السلام) أمر ربه فضرب البحر، فإذا أمامه مشهد رائع عجيب، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل، إذا انشقَّ البحر (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)!
و "انفلق" مأخوذ من "الفَلَق" ومعناه الإنشقاق و "فَرَقَ" من مادة "فرْق" على زنة "حلق" ومعناه الإنفصال!
وبتعبير آخر، كما يقول الراغب في مفرداته: أن الفرق بين (فلق) و (فرق) هو أن الأوّل يشير إلى الإنشقاق (أو الإنشطار) والثّاني يشير إلى الإنفصال، ولذا تطلق الفرقة والفِرَق على القطعة أو الجماعة التي انفصلت عن البقيّة!...
"الطود" معناه الجبل العظيم، ووصف الطود بالعظمة في الآية تأكيد آخر على معناه.
وعلى كل حال، فإنّ الله الذي ينفذ أمره في كل شيء، وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته أصدر أمره الى البحر، وأمواجه، فالتحمت الأمواج وتراكمت بعضها إلى بعض، وظهرت ما بينها طُرُق سالكة، فمرّتْ كل فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق!
إلاّ أنّ فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق، ولم ينزلوا عن مَركبِ غرورهم، فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما يقول القرآن في هذا الشأن: (وأزلفنا ثمّ الآخرين)...
[386]
وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضاً، واتبعوا عبيدهم القدماء الذين استرقّوهم بطغيانهم، وهم غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية، وأن عذاب الله سينزل فيهم!
وتقول الآية التالية: (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين).
وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر، صدر أمر الله فعادت الأمواج إلى حالتها الأُولى فانهالت عليهم فجأةً، فهلك فرعون وقومه في البحر، وصار كل منهم كالقشّة في وسط الأمواج المتلاطمة.
ويبيّن القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول: (ثمّ أغرقنا الآخرين)...
وهكذا انتهى كل شيء في لحظة واحدة... فالأرقاء أصبحوا أحراراً، وهلك الجبابرة، وانطوت صفحة من صفحات التأريخ، وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين، وورث الحكومة والمُلكَ المستضعفون بعدهم.
أجل (إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) فكأنّ في أعينهم عمىً، وفي آذانهم وقراً، وعلى قلوب أقفالا.
فحيثُ لا يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة، فلا تعجبُ إذاً ألاّ يؤمن بك المشركون ـ يا محمد ـ ولا تحزن عليهم لعدم إيمانهم، فالتاريخ ـ يحمل بين طياته وثناياه كثيراً من هذه المشاهد!
والتعبير بـ "أكثرهم" إشارة إلى أن جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه، لا آسيةُ امرأة فرعون فحسب، ولا رفيق موسى المخلص المذكور في القرآن على أنه مؤمن من آل فرعون، بل آخرون أيضاً كالسحرة التائبين مثلا.
أمّا آخر آية من هذه الآيات فتشير في عبارة موجزة وذات معنى غزير إلى قدرة الله ورحمته المطلقة واللامتناهية، فتقول: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
[387]
فمن عزته أنه متى شاء أن يهلك الأمم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها، ولا يحتاج أن يرسل جنوداً من ملائكة السماء لإهلاك أُمة جبّارة... فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها، كما أهلك فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم، فإذا هو يقبرهم فيه!!
ومن رحمته أنّه لا يعجل في الأمر أبداً، بل يمهل سنين طوالا. ويرسل معاجزه إتماماً للحجة، ومن رحمته أن يخلص هؤلاء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين.
* * *
مسائل مهمة:
1 ـ معبر بني إسرائيل!
ورد التعبير في القرآن مراراً عن موسى أنه عبر بقومه "البحر"(1) كما جاء في بعض الآيات لفظ "اليمّ" بدلا من البحر.(2)
والآن ينبغي أن نعرف ما المراد من "البحر" و "اليم" هنا، أهو إشارة إلى النهر الكبير الواسع في مصر، النيل الذي يروي جميع أراضيها؟ أم هو إشارة إلى البحر الأحمر "المعروف ببحر القلزم في بعض المصطلحات"؟
يستفاد من التوراة الحالية ـ وكذلك من كلمات بعض المفسّرين ـ أنه إشارة إلى البحر الأحمر... إلاّ أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أنّ المراد منه هو نهر النيل، لأن "البحر" كما يقول الراغب في مفرداته يعني في اللغة الماء الكثير الواسع، واليم بهذا المعنى أيضاً. فلا مانع إذاً من إطلاق الكلمتين على نهر النيل.
وأمّا القرائن المؤيدة لهذا الرأي فهي:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اقرأ في سورة "يونس: الآية 90 ـ وطه الآية 77 ـ والشعراء الآية 63، والآية محل البحث أيضاً.
2 ـ اقرأ سورة طه الآية 78 ـ والقصص الآية 40 ـ والذاريات الآية 40.
[388]
1 ـ أنّ منطقة سكن الفراعنة التي كانت مركزاً لمدن مصر العامرة كانت نقطة قريبةً من النيل حتماً... وإذا أخذنا بنظر الإعتبار معيار محلهم الفعلي "الأهرام" أوما حولها، فإنّ بني إسرائيل لابدّ لهم أن يعبروا نهر النيل ليصلوا إلى الأرض المقدسة، لأن هذه المنطقة تقع غرب النيل ولابدّ لهم من أن يتجهوا نحو الشرق للوصول إلى الأرض المقدسة! "فلاحظوا بدقة"!
2 ـ أنّ الفاصلة بين المناطق العامرة(1) من مصر والتي هي قريبة من النيل بالطبع، بعيدة عن البحر الأحمر بحيث لا يمكن أن تُطوى المسافة بينها وبين البحر بليلة أو نصف ليلة...
ويستفاد من الآيات المتقدمة بوضوح أن بني إسرائيل غادروا أرض الفراعنة ليلا، وطبيعي أن تكون المغادرة في الليل. أمّا فرعون وجيشه فقد اتبعوهم حتى بلغوهم مشرقين "عند الصباح".
3 ـ لم تكن حاجة ليعبر بنو إسرائيل البحر الأحمر حتى يصلوا الأرض المقدسة، إذ كانت هناك منطقة يابسة ضيقة قبل حفر ترعة السويس "أو ما يصطلح عليها بقناة السويس"... إلاّ أن نفترض أن البحر الأحمر كان متصلا بالبحر الأبيض المتوسط في الزمن السابق، ولم تكن هناك منطقة يابسة، وهذا الفرض غير ثابت بأيّ وجه!...
4 ـ يُعبّر القرآن عن قصة موسى بإلقائه في "اليم" "من قِبَلِ أُمه" الآية 39 من سورة طه، كما يعبر عن غرق فرعون وأتباعه بقوله: (فغشيهم من اليم ما غشيهم)الآية 78 من السورة ذاتها. وكلتا القضيتين في قصة واحدة وسورة واحدة أيضاً (طه) وكون اللفظين مطلقين ـ (اليم) في الآية السابقة و(اليم) في الآية اللاحقة ـ يُشعر بأنّهما واحد... ومع ملاحظة أن أمّ موسى لم تلق موسى في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ العامرة هنا اسم فاعل بمعنى المفعول أي المعمورة.
[389]
البحر الأحمر قطعاً، بل ألقته في النيل طبقاً لما تذكره التواريخ، فيعلم أن غرق فرعون وقومه كان في النيل "فلاحظوا بدقّة".
2 ـ كيفية نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه
هناك بعض المفسّرين ممن لا يميل إلى كون نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه معجزةً، بل حادثة طبيعية، كما يصرّون على ذلك، فوجّهوا ذلك كله بأسباب طبيعية،.
لذلك قالوا: إنّ هذا الموضوع يمكن تطبيقه بواسطة الجسور المتحركة المستعملة في العصر الحديث.(1)
وقال بعضهم: إنّ موسى(عليه السلام) كان مطلعاً على طرق خاصّة، وكان يمكنه العبور من البرازخ (أو الطرق الموجودة في بحر سوف) أي خليج السويس، إلى جزيرة سيناء. وانفلاق البحر ـ في الآيات محل البحث ـ إشارة إلى هذا المعنى(2)...
وقال بعضهم: من المحتمل جداً أن يكون وصول موسى وقومه البحر عند منتهى جزره، فاستطاع أن يعبر بهم من النقاط اليابسة ويجتازها بسرعة، ولكن عندما ورد فرعون وقومه البحر شرع المدّ فوراً فأُغرقوا بالنيل حينئذ وهلكوا...
ولكن الحق أن أيّاً من هذه الإحتمالات لا ينسجم وظاهر الآيات ـ إن لم نقل وصريح الآيات ـ ومع قبول معاجز الأنبياء الوارد بيانها مراراً في سور القرآن، وخاصّة معجزة عصا موسى نفسها، فلا حاجة لمثل هذه التوجيهات...
فما يمنع أن تتراكم أمواج النيل بعد ضربها من قِبَل موسى بالعصا بأمر الله الحاكم على قانون العَليّة في عالم الوجود، وتنجذب متأثرة بما فيها من سرّ غامض، لتترك طريقاً يَبساً بيّناً (يمرّ في وسط البحر) ثمّ تتلاشى هذه الجاذبيّة بعد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أعلام القرآن، ص 622 .
2 ـ المصدر السابق.
[390]
مدة، ويعود البحر إلى حالته الطبيعية وإلى أمواجه المتلاطمة!... وليس هذا استثناءً في قانون العليّة، بل هو اعتراف بتأثير علل غير معتادة، لا نعرفها لقصور علمنا أو لقلّة معلوماتنا!
3 ـ الله عزيز رحيم
ينبغي ملاحظة هذه اللطيفة، إذ جاءت الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ بمثابه استنتاج لما جرى من أمر موسى وفرعون وقومهما، وانتصار جيش الحق وانهزام الباطل! إذ تصف هذه الآية "الله" سبحانه بالعزيز الرحيم... فالوصف الأوّل إشارة إلى أنّ قدرته لا تضعف ولا تُقهر، والوصف الثّاني إشارة إلى أنه يوصل رحمته لعباده جميعاً، وخاصّة بتقديم وصف (العزيز) على (الرحيم) لئلا يُتوهّم أن رحمته من منطلق الضعف، بل هو مع قدرته رحيم!...
وبالطبع فإنّ من المفسّرين مَنْ يرى أن وصفه بالعزيز إشارة إلى اندحار أعدائه، ووصفه بالرحيم إشارة إلى انتصار أوليائه، إلاّ أنه لا مانع أبداً أن يشمل الوصفان الطائفتين معاً... لأنّ الجميع ينعمون برحمته حتى المسيئون... والجميع يخافون من سطوته حتى الصالحون...
* * *
[391]
الآيات
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَهِيمَ(69) إذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَـكُفِينَ(71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73) قَالوُاْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلوُنَ(74) قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ(75) أَنتُمْ وَءَابآؤُكُمُ الاَْقْدَمُونَ(76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلاَّ رَبَّ الْعَـلَمِينَ (77)الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ(78) والَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ (79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينَ(80) والَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ (81)وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَلِى خَطَيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ(82)
التّفسير
أعبدُ ربَّاً... هذه صفاته:
كما ذكرنا في بداية هذه السورة، فإِنّ الله يبيّن حال سبعة من الأنبياء العظام، ومواجهاتهم أقوامهم لهدايتهم، لتكون "مدعاة" تسلية للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين القلّة معه في عصره، وفي الوقت ذاته إنذار لجميع الأعداء والمستكبرين أيضاً...
[392]
لذلك تعقّب هذه الآيات على قصّة موسى وفرعون المليئة بالدروس لتبيّن قصة إبراهيم ومواجهاته المشركين، وتبدأ هذه الآيات بمحاورة إبراهيم لعمه آزر(1) فتقول:
(واتلُ عليهم نبأ إبراهيم).
ومن بين جميع الأخبار المتعلقة بهذا النبيِّ العظيم يركّز القرآن الكريم على هذا القِسْمِ: (إذْقالَ لأبيهِ وقومه ما تعبدون)؟
ومن المسلّم به أنّ إبراهيم كان يعلم أيّ شيء يعبدون، لكن كان هدفه أن يستدرجهم ليعترفوا بما يعبدون، والتعبير بـ "ما" مبيّنٌ ضمناً نوعاً من التحقير!
فأجابوه مباشرةً (قالوا نعبدُ أصناماً فنظلُّ لها عاكفين)! وهذا التعبير يدلّ على أنّهم يحسّوا بالخجل من عملهم هذا، بل يفتخرون به، إذا كان كافياً أن يجيبوه: نعبد أصناماً، إلاّ أنّهم أضافوا هذه العبارة: (فنظل لها عاكفين)!
التعبير بـ "نظلّ" يُطلق عادة على الأعمال التي تؤدى خلال اليوم، وذكره بصيغة الفعل المضارع إشارة إلى الإستمرار والدوام.
كلمة "عاكفين" مأخوذة من "العكوف"، ومعناه التوجه نحو الشيء وملازمته باحترام، وهي تأكيد لما سبق من التعبير.
"الأصنام" جمع الصنم، وهو الهيكل أو التمثال المصنوع من الذهب أو الخشب أو ما شاكلهما للعبادة، وكانوا يتصورون أنها مظهر للتقديس...
وعلى كل حال، فإنّ إبراهيم لما سمع كلامَهم رشقهم بنبال الإشكال والإعتراض بشدّة، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق، فـ (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون)؟!
إن أقلّ ما ينبغي توفره في المعبود هو أنْ يسمعَ نداء عابده، وأن ينصره في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بيّنا مراراً أنّ لفظ "الأب" يطلق في لغة العرب والقرآن على الوالد كما يطلق على العم، وهنا استعمل هذا اللفظ بمعناه الثاني.
[393]
البلاء، أو يضره عند مخالفة أمره!...
إلاّ أن هذه الأصنام ليس فيها ما يدلُّ على أن لَها أقلّ إحساس أو شعور أو أدنى تأثير في عواقب الناس، فهي أحجار أو فلزات "أو معادن أو خشب لا قيمة لها! وإنّما أعطتها الخرافات هذه الهالة وهذه القيمة الكاذبة!...
إلاّ أن عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائماً، فـ (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون).
وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردّوا به على إبراهيم(عليه السلام)، وهو جواب دليلُ بطلانه كامنٌ فيه، وليس أي عاقل يجيز لنفسه أن يقفَو أثرَ غيره ويصم أُذنيه ويغمضُ عينيه، ولا سيما أن تجارب الخلف أكثر من السلف عادة، ولا يوجد دليل على تقليدهم الأعمى!...
والتعبير بـ (كذلك يفعلون) تأكيد أكثر على تقليدهم، أي نفعل كما كانوا يفعلون، سواءً عبدوا الأصنام أم سواها.
فالتفت إبراهيم مُوبّخاً لهم ومبيناً موقفة منهم و (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنّهم عدوّلي إلاّ ربَّ العالمين)...
أجلْ... إنّهم جميعاً أعدائي وأنا معاديهم، ولا أسالمهم أبداً...
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أن إبراهيم الخليل(عليه السلام) يقول: "فإنّهم عدوٌّ لي" وإن كان لازم هذا التعبير أنّه عدوّ لهم أيضاً، إلاّ أن هذا التعبير لعله ناشىء من أن عبادة الأصنام أساس الشقاء والضلال وعذاب الدنيا والآخرة "للإنسان"، وهذه الأُمور في حكم عداوتها للانسان. أضف إلى ذلك أنه يستفاد من آيات متعددة من القرآن أن الأصنام تبرأ من عبدتها يوم القيامة وتعاديهم، وتحاججهم بأمر الله وتنفر
[394]
منهم.(1)
واستثناء ربّ العالمين مع أنّه لم يكن من معبوداتهم، وكما يصطلح عليه استثناء منقطع، إنّما هو للتأكيد على التوحيد الخالص.
كما يَرِدُ هذا الإحتمال وهو أن من بين عبدة الأصنام من كان يعبدُ الله إضافة إلى عبادة الأصنام، فاستثنى إبراهيم "ربّ العالمين" من الأصنام، رعايةً لهذا الموضوع...
وذكر الضمير "هم" الذي يستعمل عادةً للجمع "في العاقلين" وقد ورد في شأن الأصنام، لما ذكرناه من بيان آنفاً...
ثمّ يصف إبراهيم الخليل ربّ العالمين ويذكر نعمه المعنوية والماديّة، ويقايسها بالأصنام التي لا تسمع الدعاء ولا تنفع ولا تضرّ، ليتّضح الأمر جليّاً...
فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول: (الذي خلقني فهو يهدين) فقد هداني في عالم التكوين، ووفر لي وسائل الحياة المادية والمعنوية، كما هداني في عالم التشريع فأوحى إليّ وأرسل إليّ الكتاب السماوي...
وذكر "الفاء" بعد نعمة الخلق، هو إشارة إلى أن الهداية لا تنفصل عن الخلق أبداً، وجملة (يهدين) الواردة بصيغة الفعل المضارع، دليل واضح على استمرار هدايته، وحاجة الإنسان إليه في جميع مراحل عمره!
فكأن أبراهيم في كلامه هذا يريد أن يبيّن هذه الحقيقة، وهي إنّني كنت مع الله منذ أن خلقني، ومعه في جميع الأحوال، وأشعر بحضوره في حياتي، فهو وليي حيث ما كنت ويقلبني حيثما شاء!...
وبعد بيان أولى مراحل الربوبية، وهي الهداية بعد الخلق، يذكر إبراهيم الخليل(عليه السلام) النعم المادية فيقول: (والذي يطعمني ويسقين).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإيضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الآية (82) من سورة مريم.
[395]
أجلْ، إنّني أرى النعم جميعاً من لطفه، فلحمي وجلدي وطعامي وشرابي، كل ذلك من بركاته!...
ولست مشمولا بنعمة في حال الصحةِ فقط، بل في كل حال (وإذا مرضت فهو يشفين).
ومع أنّ المرض أيضاً قد يكون من الله، إلاّ أن إبراهيم نسبه إلى نفسه رعاية للأدب في الكلام...
ثمّ يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع منها... إلى الحياة الدائمة في الدار الآخرة، ليكشف أنه على مائدة الله حيثما كان، لا في الدنيا فحسب، بل في الآخرة أيضاً. فيقول: (والذي يميتني ثمّ يحيين).
أجل، إنّ موتي بيده وعودتي إلى الحياة مرّة أُخرى منه أيضاً..
وحين أرِدُ عرصات يوم القيامة اعلقّ حبل رجائي على كرمه: (والذي أطمع أن يغفرلي خطيئتي يوم الدين).
وممّا لا شك فيه أن الأنبياء معصومون من الذنب، وليس عليهم وزر كي يُغفر لهم... إلاّ أنّه ـ كما قلنا سابقاً ـ قد تعدّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين أحياناً، وقد يستغفرون أحياناً من عمل صالح لأنّهم تركوا خيراً منه... فيقال عندئذ في حق أحدهم: تَركَ الأَولى.
فإبراهيم(عليه السلام) لا يعوّل على أعماله الصالحة، فهي لا شيء بإزاء كرم الله، ولا تُقاس بنعم الله المتواترة، بل يعوّل على لطف الله فحسب، وهذه هي آخر مرحلة من مراحل الإنقطاع إلى الله!...
وملخّص الكلام أن إبراهيم(عليه السلام) من أجّلِ أن يبيّن المعبود الحقيقي يمضي نحو خالقيّة الله أولا، ثمّ يبيّن بجلاء مقام ربوبيته في جميع المراحل:
فالمرحلة الأُولى مرحلة الهداية.
ثمّ مرحلة النعم الماديّة، وهي أعمّ من إيجاد المقتضي والظروف الملائمة أو
[396]
دفع الموانع...
والمرحلة الأخيرة هي مرحلة الحياة الدائمة في الدار الأُخرى، فهناك يتجلَّى وجه الرب بالهبات والصفح عن الذنوب ومغفرتها!...
وهكذا يبطل إبراهيم الخرافات التي كانت في قومه، من تعدد الآلهة والأرباب وينحني خضوعاً للخالق العظيم.
* * *
[397]
الآيات
رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بالصَّـلِحِينَ(83) وَاجْعَل لّىِ لِسَانَ صِدّق فىِ الاَْخِرِينَ(84) وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)وَاغْفِرْ لاَِبِى إِنَّهُ، كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ(86) وَلاَتُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ(87)
التّفسير
دُعاءُ إبراهيم(عليه السلام):
من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤالاته من الله، فكأنّه بعد أن دعا قومه الضالين نحو الله، وبيّن آثار الربوبية المتجليّة في عالم الوجود... يتجه بوجهه نحو الله ويعرض عنهم، فكل ما يحتاجه فانه يطلبه من الله، ليكشف للناس ولعبدة الأصنام أنه مهما أرادوه من شؤون الدنيا والآخرة، فعليهم أن يسألوه من الله، وهو تأكيد آخر ـ ضمنيٌ ـ على ربوبيته المطلقة.
فأوّل ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو (ربّ هب لي حكماً والحقني بالصالحين).
فالمقام الأوّل هنا الذي يريده إبراهيم لنفسه من الله هو الحكم، ثمّ الإلحاق
[398]
بالصالحين...
و "الحكم" و "الحكمة" كلاهما من جذر واحد... و "الحكمة" كما يقول عنها الراغب في مفرداته: هي الوصول إلى الحق عن طريق العلم ومعرفة الموجودات والأفعال الصالحة، وبتعبير آخر: هي معرفة القيم والمعايير التي يستطيع الإنسان بها أن يعرف الحق حيثما كان، ويميز الباطل في أي ثوب كان، وهو ما يُعبّر عنه عند الفلاسفة بـ "كمال القوّة النظرية".
وهي الحقيقة التي تلقّاها لقمان من ربّه (ولقد آتينا لقمان الحكمة).(1) وعُبّر عنها بالخير الكثير في الآية (269) من سورة البقرة (ومن يؤت الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً).
ويبدو أنّ للحكم مفهوماً أسمى من الحكمة... أي إنّه العلم المقترن بالإِستعداد للتنفيذ والعمل، وبتعبير آخر: إن الحكم هو القدرة على القضاء الصحيح الخالي من الهوى والخطأ!
أجلْ، إنّ إبراهيم(عليه السلام) يطلب من الله قبل كل شيء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة بالحاكميّة، لأن أي منهج لا يتحقق دون هذا الأساس!
وبعد هذا الطلب يسأل من الله إلحاقه بالصالحين، وهو إشارة إلى الجوانب العملية، أو كما يصطلح عليها بـ "الحكمة العملية" في مقابل الطلب السابق وهو "الحكمة النظرية"!...
ولا شك أن إبراهيم(عليه السلام) كان يتمتع بمقام "الحكم" وكان في زمرة الصالحين أيضاً... فلم سأل الله ذلك؟!
الجواب على هذا السؤال هو أنّه ليس للحكمة حد معين، ولا لصلاح الإِنسان حدّ، فهو يطلب ذلك ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يوماً بعد يوم، حتى وهو
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة لقمان، الآية 12.
[399]
في موقع النبوة، وأنه من أولي العزم.. لا يكتفي بهذه العناوين...
ثمّ ـ إضافة إلى ذلك ـ فإنّ إبراهيم(عليه السلام) يعلم أن كل ذلك من الله سبحانه، ومن الممكن في أي لحظة أن تسلب هذه المواهب أو تزل به القدم، لذا فهو يطلب دوامها من الله إضافة إلى التكامل، كما أننا نخطو ونسير إن شاء الله في الصراط المستقيم، ومع ذلك فكلّ يوم نسأل ربّنا في الصلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، ونطلب منه التكامل ومواصلة هذا الطريق!
وبعد هذين الطَلَبينِ... يطلبُ موضوعاً مهماً آخر بهذه العبارة: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين).
أيْ اجعلني بحال تذكرني الأجيال الآتية بخير، واجعل منهجي مستمراً بينهم فيتخذوني أُسوةً وقدوة لهم فيتحركون ويسيرون في منهاجك المستقيم وسبيلك القويم...
فاستجاب الله دعاء إبراهيم كما يقول سبحانه في القرآن الكريم: (وجعلنا لهم لسان صدق عليّاً).(1)
ولا يبعد أن يكون هذا الطلب شاملا لما سأله إبراهيمُ الخليل ربه بعد بناء الكعبة، فقال: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم).(2)
ونعرف أن هذا الدعاء تحقق بظهور نبيّ الإِسلام. وذُكر إبراهيم الخليل بالخير في هذه الأُمة عن هذا الطريق، وبقي هذا الذكر الجميل مستمراً...
ثمّ ينظر إبراهيم إلى أفق أبعد من أفق الدنيا، ويتوجه إلى الدار الآخرة، فيدعو بدعاء رابع فيقول: (واجعلني من ورثة جنة النعيم).
"جنة النعيم" التي تتماوج فيها النعم المعنوية والمادية، النعم التي لا زوال لها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة مريم، الآية 50.
2 ـ البقرة، الآية 129.
[400]
ولا اضمحلال... النعم التي لا يمكن أن نتصورها نحنُ ـ سجناءَ الدنيا ـ فهي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت!...
وقلنا سابقاً: إن التعبير بالإرث في شأن الجنّة إمّا لأنّ معنى الإرث الحصول على الشيء دون مشقّة وعناء، ومن المسلّم أن تلك النعم التي في الجنّة تقاس بطاعاتنا، فطاعاتنا بالنسبة لا تمثل شيئاً إليها!... أو أنّ ذلك ـ طبقاً لما ورد في بعض الرّوايات ـ لأن كل إنسان له بيت في الجنة وآخر في النار، فإذا دخل النّار ورث الآخرون بيته في الجنّة ...
وفي خامس أدعيته يتوجه نظره إلى عمّه الضالّ، وكما وعده أنّه سيستغفر له، فإنّه يقول في هذا الدعاء: (واغفر لأبي إنّه كان من الضالين).
وهذا الوعد هو ما صرحت به الآية (114) من سورة التوبة إذ تحكي عنه (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إياه)! وعده من قبل، وكان هدفه أن ينفذ إلى قلبه عن هذا الطريق، وأن يجرّه إلى طريق الإيمان، لذلك قال له مثل هذا القول وعمل به أيضاً... وطبقاً لرواية عن ابن عباس أن إبراهيم(عليه السلام)استغفر لعمّه آزر مراراً، إلاّ أنه حين غادر آزر الدنيا كافراً وثبت عداؤه للدين الحق، قطع إبراهيم استغفار عن عمه، كما نرى في ذيل الآية النص التالي: (فلما تبيّن أنه عدو لله تبرأ منه).(1)
وأخيراً فإنّ دعاءه السادس من ربَّه في شأن يوم التغابن، يوم القيامة، بهذه الصورة (ولا تخزني يوم يبعثون).
(ولا تخزني)، مأخوذ من مادة (خزي) على زنة (حزب) وكما يقول الراغب في مفرداته، معناه الذل والإنكسار الروحي الذي يظهر على وجه الإنسان من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإِيضاح يراجع تفسير الآية 114 سورة التوبة.
[401]
الحياء المفرط، أو من جهة الآخرين حين يحرجونه ويخجلونه!
وهذا التعبير من إبراهيم، بالإضافة إلى أنه درس للآخرين، هو دليل على منتهى الإحساس بالمسؤولية والإعتماد على لطف الله العظيم.
* * *
[402]
الآيات
يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ(88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم (89)وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ(92) مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِروُنَ(93) فَكُبْكِبوُاْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُنَ (94)وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أجْمَعُونَ(95) قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَل مُّبِين(97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ (98)وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الُْمجْرِمُونَ(99) فَمَا لَنَا مِن شَـفِعِينَ(100) وَلاَ صَدِيق حَمِيم(101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ(102) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(103) وَإِنَّ رَبِّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ(104)
التّفسير
الخصام بين المشركين ومعبوداتهم:
أشير في آخر آية من البحث السابق إلى يوم القيامة ومسألة المعاد... أمّا في هذه الآيات فنلحظ تصوير يوم القيامة ببيان جامع، كما نلاحظ فيها أهم المتاع
[403]
"في تلك السُوق"، وعاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين والضالين وجنود إبليس، ويدلُّ ظاهر الآيات أن هذا الوصف وهذا التصوير هو من كلام إبراهيم الخليل، وأنه ختام دعائه ربَّه، وهكذا يعتقد ـ أيضاً ـ أغلب المفسّرين... وإن كان هناك مَنْ يحتمل أنه هو من كلام الله، وأن الآيات محل البحث هي منه سبحانه جاءت مكملةً لكلام إبراهيم(عليه السلام) وموضحة له، إلاّ أن هذا الإحتمال يبدو ضعيفاً!...
وعلى كل حال، فأوّل ما تبدأ به هذه الآيات هو (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون).
وفي الحقيقة إنّ هاتين الدعامتين المهمتين في الحياة الدنيا "المال والبنون" ليس فيهما أدنى نفع لصاحبهما يوم القيامة، وكل ما كان دون هاتين الدعامتين رتبةً من الأُمور الدنيوية ـ من باب أولى ـ لا نفع فيه، ولا فائدة من ورائه!
وبديهي أنّ المراد من المال والبنين هنا ليس هو ما يكون ـ من المال والبنين ـ في مرضاة الله، بل المراد منه الإستناد إلى الأُمور الماديّة، فالمراد إذاً هو أن هذه الدعامات المادية لا تحلُّ معضلا في ذلك اليوم ... أمّا لو كان أىٌّ من البنين والمال في مرضاة الله فلن يكون ذلك مادّياً.. إذ يصطبغ بصيغة الله ويُعدّ من "الباقيات الصالحات"!...
ثمّ يضيف القرآن في ختام الآية، على سبيل الإِستثناء (إلاّ من أتى اللّهَ بقلب سليم) .
وهكذا يتّضح أنّ أفضل ما ينجى يوم القيامة هو القلب السليم، وياله من تعبير رائع جامع، تعبير يتجسد فيه الإِيمان والنية الخالصة، كما يحتوي على كل ما يكون من عمل صالح! ولم لا يكون لمثل هذا القلب من ثمر سوى العمل الصالح؟!
وبتعبير آخر: كما أن قلب الإنسان وروحه يؤثران في أعماله، فإن أعماله لها أثر واسع في القلب أيضاً، سواءً كانت أعمالا رحمانية أم شيطانية!...
[404]
ثمّ يبيّن القرآن الجنّة والنار بالنحو التالي فيقول: (وأُزلفت الجنّة للمتقين(1)وبُرزت الجحيم للغاوين). أي الضالين
وهذا الأمر ـ في الحقيقة ـ قبل ورود كلٍّ من أهل الجنّة والنار إليهما! فكلّ طائفة ترى مكانها من قريب.. فيُسرّ المؤمنون ويستولي الرعب على الغاوين، وهذا أوّلَ جزائهما هناك!
الطريف هنا أنّ القرآن لا يقول: اقترب المتقون أو أزلف المتقون إلى الجنة، بل يقول: (وأُزلفت الجنة للمتقين) وهذا يدل على مقامهم الكريم وعِظَمِ شأنِهم!...
كما ينبغي الإشارة إلى هذه اللطيفة، وهي أن التعبير بالغاوين هو التعبير ذاته الوارد في قصة الشيطان، إذ طرده الله عن ساحته المقدسة فقال له: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين).(2)
ثمّ يتحدث القرآن عن ملامةِ هؤلاء الضالين، وما يُقالُ لهم من كلمات التوبيخ أو العتاب، فيقول: (وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله) فهل يستطيعون معونتكم في هذه الشدة التي أنتم فيها، أو أن يطلبوا منكم أو من غيركم النصر والمعونة (هل ينصرونكم أو ينتصرون)(3)...
إلاّ أنّهم لا يملكون جواباً لهذا السؤال! كما لا يتوقع أحد منهم ذلك!... (فكُبكُبوا فيها هم والغاوون).
كما يقول بعض المفسّرين: إن كلاًّ منهم سيُلقى على الآخر يوم القيامة! (وجنود إبليس أجمعون).
وفي الحقيقة أن هذه الفرق الثلاث، الأصنام والعابدين لها وجنود إبليس
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أُزلفتْ: فعل مشتق من (الزلفى) على وزن (كبرى) ومعنى الفعل "قربت".
2 ـ سورة الحجر، الآية 42.
3 ـ قد يكون المراد من "ينتصرون" هو أن يطلبوا العون والنصر لأنفسهم أو لغيرهم... أو مجموعهما، لاننا سنلاحظ في الآيات المقبلة أن العَبدَةَ ومعبوديهم يساقون إلى النار.
[405]
الدالين على هذا الإنحراف، يساقون جميعاً إلى النار... ولكن بهذه الكيفية... وهي أن تلقى الفرق فرقةً بعد أخرى في النار. لأن "كُبكِبوا" في الأصل مأخوذة من (كبّ)، و (الكبّ) معناه إلقاء الشيء بوجهه في الحفرة وما أشبهها، وتكراره "كبكب" يؤدي هذا المعنى من السقوط، وهذا يدلّ أنّهم حين يُلقون في النار مثلهم كمثل الصخرة إذ تهوى من أعلى الجبل أو تلقى من قمة الجبل، فهي تصل أولا نقطةً ما في الوادي ثمّ تتدحرج إلى نقاط أُخر حتى تستقرّ في القعر!.
إلاّ أن الكلام لا يقف عند هذا الحدّ، بل يقع النزاع والجدال بين هذه الفرق أو الطوائف الثلاث، فيجسم القرآن مخاصمتهم هنا، فيقول: (قالوا وهم فيها يختصمون).
أجل... إن العبدَةَ الضالين الغاوين يقسمون بالله فيقولون: (تالله إن كنّا لفي ضلال مبين(1) إذ نسويكم برب العالمين(2) وما أضلّنا إلاّ المجرمون)...
المجرمون الذين كانوا سادة مجتمعاتنا ورؤساءنا وكبراءنا، فأضلونا حفظاً لمنافعهم، وجرّونا إلى طريق الشقوة والغواية... كما يحتمل أن يكون المراد من المجرمين هم الشياطين أو الاسلاف الضالين الذين جرّوهم إلى هذه العاقبة الوخيمة.
(فيما لنا من شافعين ولا صديق حميم)...
والخلاصة أن الأصنام لا تشفع لنا كما كنا نتصور ذلك في الدنيا، ولا يتأتى لأي صديق أن يعيننا هنالك...
وممّا ينبغي الإلتفات إليه، أنّ كلمة (شافعين) جاءت في الآية السابقة بصيغة الجمع كما ترى، إلاّ أن كلمة (صديق) جاءت بصيغة الإفراد، ولعلّ منشأ هذا التفاوت والإختلاف، هو أن هؤلاء الضالين يرون بأمُ أعينهم المؤمنين الجانحين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ (إن كنا) مخففة من (إنّا كنا)...
2 ـ يُحتمل أن تكون (إذ) هنا للظرفية، كما يحتمل أن تكون تعليلية...
[406]
يشفع لهم الأنبياء والأوصياء أو الملائكة وبعض الأصدقاء الصالحين، فأُولئك الضالون يتمنون الشافعين أيضاً، وأن يكون عندهم صديق هنالك!...
إضافةً إلى ذلك فإن كلمتي (الصديق) و (العدو) كما يقول بعض المفسّرين، تطلقان على المفرد والجمع أيضاً...
إلاّ أنّهم ما أسرع أن يلتفتوا إلى واقعهم المرّ، إذْ لا جدوى هناك للحسرة ولا مجال للعمل في تلك الدار لجبران ما فات في دنياهم، فيتمنون العودة إلى دار الدنيا... ويقولون: (فلو أنْ لنا كرّةً فنكون من المؤمنين)...
وصحيح أنّهم في ذلك اليوم وفي عرصات القيامة يؤمنون بربّهم، إلاّ أن هذا الإيمان نوع من الإيمان الإضطراري غير المؤثر، وليس كالايمان الإختياري، وفي هذه الدنيا حيث يكون أساساً للهداية والعمل الصالح.
ولكن لا يحقق هذا التمني شيئاً، ولا يحلُّ مُعْضلا، ولن تسمح سنةً الله بذلك، وهم يدركون تلك الحقيقة، لأنّهم يتفوّهون بكلمة "لو"(1)...
وأخيراً بعد الإنتهاء من هذا القِسمِ من قصة إبراهيم، وكلماته مع قومه الضالين، ودعائه ربَّه، ووصفه ليوم القيامة، يكرر الله آيتين مثيرتين بمثابة النتيجة لعبادة جميعاً، وهاتان الآيتان وردتا في ختام قصة موسى وفرعون، كما وردتا في قصص الأنبياء الآخرين من السورة ذاتها فيقول: (إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربّك لهو العزيز الرحيم)...
وتكرار هاتين الآيتين، هو للتسرية عن قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتسليته ومن معه من الصحابة القلة وكذلك المؤمنين في كل عصر ومصر لئلا يستوحشوا في الطريق من قلة أهله وكثرة الأعداء... وليطمئنوا إلى رحمة الله وعزته، كما أن هذا التكرار بنفسه تهديد للغاوين الضالين. وإشارة إلى أنه لو وجدوا الفرصة في حياتهم وأمهلهم الله إمهالا فليس ذلك عن ضعف منه سبحانه، بل هو من رحمته وكرمه!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تعدّ (لو) من حروف الشرط ـ وعادةً ـ تستعمل حينما يكون الشرط محالا...
[407]
ملاحظات
1 ـ القلب السليم ـ وحده ـ وسيلة النجاة
في اثناء كلام إبراهيم الخليل(عليه السلام) قرأنا ضمن ما ساقته الآيات المتقدمة من تعابير في وصف القيامة، أنّه لا ينفع في ذلك اليوم شيء (إلاّ من أتى الله بقلب سليم).
(السليم) مأخوذ من السلامة، وله مفهوم واضح، وهو السالم والبعيد من أيّ انحراف أخلاقي وعقائدي، أو أيّ مرض آخر!...
تُرى... ألمْ يقل الله القرآن في شأن المنافقين (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).(1)
ونلاحظ تعاريف للقلب السليم في عدد من الأحاديث الغزيرة المعنى.
1 ـ ففيّ حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) ـ ذيل الآية محل البحث(2) ـ يقول فيه: "وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط".
2 ـ ونعلم من جهة أُخرى أن العلائق المادية الشديدة وحب الدنيا... كل ذلك يجرّ الإنسان إلى كل انحراف وخطيئة، لأن "حبّ الدنيا رأس كل خطيئة"(3).
ولذلك فالقلب السليم هو القلب الخالي من حبّ الدنيا، كما ورد هذا المضمون في حديث للإمام الصادق(عليه السلام) ـ ذيل محل البحث ـ إذ يقول: "هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا".(4)
ومع الإلتفات إلى الآية (197) من سورة البقرة إذ تقول: (وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى) ... يتّضح أن القلب السليم هو القلب الذي يكون محلا لتقوى الله.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة البقرة، الآية 10.
2 ـ راجع مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.
3 ـ بحار الأنوار، ج 70، ص 239 .
4 ـ تفسير الصافي في ذيل الآية محل البحث.
[408]
3 ـ وآخر ما نقوله ـ هنا ـ أنّ القلب السليم هو القلب الذي ليس فيه سوى الله، كما يجيب الإِمام الصادق(عليه السلام) على سؤال في هذا الشأن فيقول: "القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه".(1)
ولا يخفى أن المراد من القلب في مثل هذه الموارد هو روح الإنسان ونفسُه.
وهناك مسائل كثيرة وردت في الروايات الإسلامية تتحدث حول سلامة القلب والآفات التي تصيبه، وطريق مبارزتها ومكافحتها، ويستفاد من مجموع هذا المفهوم الإسلامي المتين أن الإسلام يهتم قبل كلّ شيء بالأساس الفكري والعقائدي والأخلاقي، لان جميع المناهج التطبيقية والعملية للإنسان هي إنعكاسات لذلك الأساس وآثاره!...
فكما أنّ سلامة القلب الظاهرية سبب لسلامة الجسم، وأن مرضه سبب لمرض أعضائه جميعاً، لأنّ تغذية الخلايا في البدن تتمّ بواسطة الدم الذي يتوزع ويُرسل إلى جميع الأعضاء بإعانةِ القلب على هذه المهمّة... فكذلك هي الحال بالنسبة لسلامة مناهج حياة الإنسان وفسادها، كل ذلك انعكاس عن سلامة العقيدة والأخلاق أو فسادهما...
ونختتم هذا البحث بحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) إذ قال: "إنّ القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهرُ أجرد; "أجرد من غير الله" إلى أن قال(عليه السلام): وأمّا الأزهر فقلب المؤمن، إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر. وأمّا المنكوس فقلب المشرك (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوّياً على صراط مستقيم) فإن القلب الذي فيه إيمان ونفاق، فهم قوم كانوا بالطائف، فإن أدرك أحدُهم أجله على نفاقه هلك، وإن أدركه على إيمانه نجا".(2)
2 ـ وجاء في الروايات متعددة عن الإمامين الصادقين (أبي جعفر وأبي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي... طبقاً لما جاء في تفسير الصافي ـ ذيل الآية محل البحث.
2 ـ أصول الكافي ج 2 ص 422 طـ الرّابعة، باب في ظلمة قلب المنافق.
[409]
عبد الله(عليهما السلام)) في تفسير (فكبكبوا فيها هم والغاوون) قولهما: "هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره".(1)
وهذا الحديث يدل على أنّ القول بلا عمل قبيح ومذموم جدّاً، إذ يلقي أصحابه في النار، فأولئك قوم ضالون مضلّون، وكلامهم يهدي، الناس إلى الحق، بينما عملهم يجرّهم إلى الباطل، بل إن عملهم كاشف عن عدم إيمانهم بأقوالهم!
وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أن كلمة "غاوون" المأخوذة من "الغيّ" لا تعني الضلال مطلقاً، بل كما يقول الراغب في المفردات: هو نوع من الجهل والضلال الناشيء عن فساد العقيدة.
3 ـ وردت في ذيل الآية (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) روايات متعددة، وبعضها صريحة في أن: "الشافعون الأئمّة والصديق من المؤمنين".(2)
وجاء في حديث آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "إن الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة، فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم".(3)
وبديهي أنّه لا الشفاعة بدون معيار وملاك، ولا السؤال في شأن الصديق دون حساب، فلا بد من وجود ارتباط أو علاقة بين الشفيع والمشفوع له ليتحقق هذا الهدف... "بينّا تفصيل هذا الموضوع في بحث الشفاعة، في تفسير الآية 48 من سورة البقرة ـ فليُراجع في محله".
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل هذه الرواية مؤلف تفسير نور الثقلين عن أصول الكافي، وتفسير علي بن إبراهيم، والمحاسن للبرقي.
2 ـ المحاسن للبرقي. ذيل الآية محل البحث.
3 ـ مجمع البيان ذيل الآية.
[410]
الآيات
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوح الْمُرْسَلِينَ(105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخوُهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(106) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(107) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (109)فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(110) قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاَْرْذَلُونَ(111) قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَو تَشْعُرُونَ(113) وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ(114) إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(115)
التّفسير
يا نوحُ، لِمَ يحفُّ بك الأرذلون؟!
يتحدّث القرآن الكريم بعد الإنتهاء ممّا جرى لإبراهيم وقومه الضّالين، عن قوم نوح(عليه السلام) حديثاً للعبرة والإتعاظ... فيذكر عنادهم وشدّتهم في موقفهم من نوح(عليه السلام) وعدم حيائهم وعاقبتهم الأليمة ضمن عدّة آيات... فيقول أوّلا: (كذّبت
[411]
قوم نوح المرسلين).(1)
وواضح أن قوم نوح إنّما كذبوا نوحاً فحسب... ولكنْ لمّا كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث الأصول، فقد عدّ تكذيب نوح تكذيباً للمرسلين جميعاً... ولذا قال القرآن (كذبت قوم نوح المرسلين).
كما ويحتمل أنّ قوم نوح أساساً كانوا منكرين لجميع الأديان والمذاهب، سواءً قبل ظهور نوح أو بعده...
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة نوح(عليه السلام)، الذي سبق أن أشار إليه في كلامه حول إبراهيم وموسى(عليهما السلام)، فيقول: (إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون)...
والتعبير بكلمة "أخ" تعبير يبيّن منتهى المحبّة والعلاقة الحميمة على أساس المساواة... أي أن نوحاً دون أن يطلب التفوق والإستعلاء عليهم، كان يدعوهم إلى تقوى الله في منتهى الصفاء.
والتعبير بالأُخوة لم يَردْ في شأن نوح في القرآن فحسب، بل جاء في شأن كثير من الأنبياء، كهود وصالح ولوط، وهو يلهم جميع القادة والأدلاء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى المحبة المقرونة بالإجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوس نحو مذهب الحق، ولا يستثقله الناس!...
وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة، يضيف القرآن فيقول على لسان نوح وهو يخاطب قومه: (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) فإن إطاعتي من إطاعة الله سبحانه...
وهذا التعبير يدلّ على أن نوحاً(عليه السلام) كانت له صفة ممتدة من الأمانة بين قومه،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تأنيث لفظ (كذبت) لأن (قوم) في معنى الجماعة، والجماعة فيها تأنيث لفظي... وقال بعضهم: إن كلمة (قوم) بذاتها مؤنثة، لأنّهم قالوا في تصغيرها "قويمة" نقل الوجه الأوّل الطبرسي في مجمع البيان، ونقل الوجه الثّاني الفخر الرازي في تفسيره... إلاّ أن "الآلوسى" قال في روح المعاني: إن لفظ "قوم" يستعمل في المذكر والمؤنث على السواء...
[412]
وكانوا يعرفونه بهذه الصفة السامية، فهو يقول لهم: (إنّي لكم رسول أمين) ولهذا فإنّي أمين أيضاً في أداء الرسالة الالهية، ولن تجدوا خيانةً منّي أبداً...
وتقديم التقوى على الإِطاعة، لأنه مالم يكن هناك إيمان واعتقاد بالله وخشية منه، فلن تتحقق الإطاعة لنبيّه...
ومرّة أُخرى يتمسك نوح(عليه السلام) بحقانية دعوته، ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان المتذرعين بالحجج الواهية، فيقول: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين).
ومعلوم أن الدوافع الإلهية ـ عادةً ـ دليل على صدق مدعي النبوّة، في حين أن الدوافع المادّية تدل بوضوح على أن الهدف من ورائها هو طلب المنفعة، ولا سيما أن العرب في ذلك العصر كانوا يعرفون هذه المسألة في شأن الكهنة وأضرابهم...
ثمّ يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح، بعد التأكيد على رسالته وأمانته، إذ يقول: (فاتقوا الله وأطيعون)...
إلاّ أنّ المشركين الحمقى، حين رأوا سُبُلَ ما تذرّعوا به من الحجج الواهية موصدة، تمسكوا بهذه المسألة، فـ (قالوا أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون).
إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من الأتباع، وبعبارة أخرى "إن الولي يعرف من زوّاره ـ كما يقال" فحين نلاحظ قومك يا نوح، نجدهم حفنةً من الأراذل والفقراء والحفاة والكسبة الضعاف، قد داروا حولك، فكيف تتوقع أن يتبعك الاثرياء الأغنياء الشرفاء والوجهاء ويخضعوا لك؟!
وصحيح أنّهم كانوا صادقين ومصيبين في أنّ الزعيم يُعرف عن طريق أتباعه، إلاّ أن خطأهم الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها... إذ كانوا يرون معيار القِيَم في المال والثروة والألبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق، والصفات العليا
[413]
للإنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلّة من الاشراف.
إن روح الطبقية كانت حاكمة على أفكارهم في أسوأ أشكالها، ولذلك كانوا يسمّون الفقراء الحفاة بالأراذل.
و "الأراذل" جمع (أرذل) كما أنّه جمع (للرذل) ومعناه الحقير... ولو كانوا يتحررون من قيود المجتمع الطبقي، لأدركوا جيداً أن إيمان هذه الطائفة نفسها دليل على حقانية دعوة النّبي وأصالتها!
إلاّ أنّ نوحاً(عليه السلام) جابههم وردّهم بتعبير متين، وجرّدهم من سلاحهم و (قال وما علمي بما كانوا يعملون).
فما مضى منهم مضى، والمهم هو أنّهم اليوم استجابوا لدعوة النّبي، وقالوا له: لبّيك، وتوجهوا لبناء شخصياتهم، ومكنوا الحقّ من أن ينفذ إلى قلوبهم!...
وإذا كانوا في ما مضى من الزمن قد عملوا صالحاً أو طالحاً، فلست مُحاسباً ولا مسؤولا عنهم آنئذ (إن حسابهم إلاّ على ربي لو تشعرون).
ويستفاد من هذا الكلام ـ ضمناً ـ أنّهم كانوا يريدون أن يتهموا هؤلاء الطائفة من المؤمنين، بالإضافة إلى خلوّ أيديهم، بسوء سابقتهم الأخلاقية والعملية، مع أن الفساد والإنحراف الخلقي عادةً في المجتمعات المرفهة أكثر من سواها بدرجات... فهم الذين تتوفر لديهم كل وسائل الفساد، وهم سكارى المقام والمال، وقلّ أن يكونوا من الصالحين.
إلاّ أن نوحاً(عليه السلام) ـ دون أن يصطدم بهم في مثل هذه الأُمور ـ يقول: ما علمي بهم وبما كانوا يعملون، فإذا كان الأمر كما تزعمون فإنّما حسابهم على ربي لو تشعرون!
وإنّما عليّ أن أبسط جناحي لجميع طلاّب الحق (وما أنا بطارد المؤمنين).
وهذه العبارة في الحقيقة جواب ضمني لطلب هؤلاء المثرين الأغنياء المغرورين، الذين كانوا يطلبون من نوح أن يطرد طائفة الفقراء من حوله، ليتقربوا
[414]
منه ويكونوا من أتباعه بعد طرد أُولئك الفقراء...
ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذر الناس فحسب (إن أنا إلاّ نذير مبين).
فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلاله، فهو من أتباعي كائناً من كان، وفي أي مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي!
وممّا ينبغي الإِلتفات إليه أن هذا الإِيراد لم يتعرّضْ له نوحٌ النّبي الذي هو أول الرسل من أولي العزم فحسب، بل ووُجهَ الى النّبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأنبياء به، فالأغنياء كانوا ينظرون بنظاراتهم الفكرية السوداء شخصيات هؤلاء الفقراء البيضاء، فيرونها سوداء، فيطلبون طردهم دائماً. ولم يقبلوا بربّ ولا نبي يتبعه مثل هؤلاء العباد الفقراء!...
إلاّ أنه ما أعذب وأحلى تعبير القرآن عنهم في سورة الكهف، إذ يقول: (واصبر نفسك مع الذين يدعونَ ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً).
وهذا الإيراد أو الإشكال يوردونه حتى على قادةِ الحق والأدلاّء على الهدى في كل عصر وزمان، وهو أن معظم أتباعكم المستضعفون! أو الحفاة الجائعون.
إنّهم يريدون أن يعيبوا بكلامهم هذا الرسالة والمذهب، مع أنّهم من حيث لا يشعرون، يمدحون ويطرون ذلك المذهب ويوقّعون على أصالته.
* * *
[415]
الآيات
قَالوُاْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَـنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ(116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ(117) فافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن الْمؤْمِنِينَ(118) فَأَنجَيْنَـهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ المَشْحُونِ(119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ(120) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(122)
التّفسير
نجاةُ نوح وغرقُ المشركين:
كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين في مواجهة نبيّهم نوح(عليه السلام)، هو منهج المستكبرين على امتداد التاريخ وهو الإعتماد على القوّة والتهديد بالموت والفناء: (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين).
والتعبير بـ "من المرجومين" يدلُ على أنّ الرجمَ بالحجارة بينهم كان جارياً في شأن المخالفين... وفي الحقيقة إنّهم يقولون لنوح: إذا قررت أن تواصل دعوتك للتوحيد... والإستمرار على عقيدتك ودينك، فستنال ما يناله المخالفون
[416]
ـ عامّة ـ وهو الرجم بالحجارة، الذي يعد واحداً من أسوأ أنواع القتل.(1)
ولما رأى نوح أن دعوته المستمرة الطويلة بما فيها من منطق بيّن... وبما يقترن بها من إصطبار، لم تؤثر إلاّ في جماعة قلة آمنوا به... شكا إلى ربّه أخيراً، وضمن بيان حاله، سأل ربه أن ينجيّه من قبضة الظالمين، وأن يُبعده عنهم... إذ (قال ربّ إن قومي كذبون).
وصحيح أن الله مطّلع على كل شيء، إلاّ أنه لبيان الشكوى وتمهيداً للسؤال التالي، يذكر نوح مثل هذا الكلام.
وممّا يلفت النظر أنّ نوحاً لم يشتكِ من المصائب التي أُبتلي بها، بل اشتكى من تكذيب قومه إيّاه فحسب، إذ لم يصدقوه ولم يقبلوا رسالته الالهية لهدايتهم...
ثمّ يلتفت إلى ربّه فيقول: والآن حيث لم يبق طريق لهداية هؤلاء القوم فاقض بيننا وافصل بيني وبينهم: (فافتح بيني وبينهم فتحاً).
"الفتح" معناه واضح، وهو ما يقابل الغلق ويضاده، وله استعمالان... فتارة يستعمل في القضايا المادية كفتح الباب مثلا، وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهمّ ورفع الغم، وكفتح المستغلق من العلوم، وفتح القضية، اي بيان الحكم حسم النزاع!
ثمّ يضيف فيقول: (ونجّني ومن معي من المؤمنين).
وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة الله نوحاً، وإهلاك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة، إذ يقول: (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) اي المليء بالناس وانواع الحيوانات (ثمّ أغرقنا بعدُ الباقين)...
"المشحون" مأخوذ من مادة (شحن) على وزن (صحن) ومعناه الملءُ، وقد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الرجم" مأخوذ من (رجام) على وزن (كتاب) وهو جمع (رجمة) على وزن (لقمة) ومعناها القطعة من الحجر التي توضع على القبر، أو ما يطوف حوله عبدة الأوثان، كما يعني الرجم القذف بالحجارة حتى القتل، كما يأتي أحياناً بمعنى القتل بأيّ شكل كان، لأن القتل كان بالحجر سابقاً.
[417]
يستعمل بمعنى التجهيز... و"الشحناء" تطلق على العداوة التي تستوعب جميع جوانب الإِنسان، والمراد من "المشحون" هنا هو أنّ ذلك الفلك [أي السفينة] كان مملوءاً من البشر وجميع الوسائل... ولم يكن فيه أي نقص... إي أن الله بعدما جهز السفينة وأعدّها للحركة، أرسل الطوفان لئلا يُبتلى نوح وجميع من في الفلك بأي نوع من أنواع الأذى... وهذا بنفسه إحدى نعم الله عليهم!
وفي ختام هذه القصة القصيرة، يقول القرآن ما قاله في ختام قصة موسى وإبراهيم(عليهما السلام)، فيكرر قوله: (إن في ذلك لآية) أي في ما جرى لنوح(عليه السلام) ودعوته المستمرة وصبره ونجاته وغرق مخالفيه (وما كان أكثرهم مؤمنين).
ولهذا فلا تحزن يا رسول الله من إعراض المشركين وعنادهم، واستقم كما أُمرت... فإنّ عاقبتك وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه، وعاقبة الضالين من قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح.
(و) اعلم (إن ربّك لهو العزيز الرحيم).
فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتمّ عليهم الحجة بإعطاء الفرصة الكافية، وعزته تستلزم أن ينصرك عليهم، وتكون عاقبة أمرهم خُسْرَاً!...
* * *
[418]
الآيات
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123) إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ (124)إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(125) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(126) وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ(127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع ءَايَةً تَعْبَثُونَ(128) وَتَتَّخُذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُم تَخْـلُدُونَ (129)وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُم جَبَّارِينَ(130) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُم بمَا تَعْلَمُونَ(132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَـم وَبَنِينَ (133)وَجَنَّـت وَعُيُون(134) إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم(135)
التّفسير
جنايات عاد واعمالهم العدوانية:
والآن يأتي الكلام عن "عاد" قوم "هود" إذ يعرض القرآن جانباً من حياتهم وعاقبتهم، وما فيها من دروس العبر، ضمن ثماني عشرة آيةً من آياته!...
"عادُ" ـ كما قلنا من قبل ـ جماعة كانوا يقطنون في "الأحقاف"، وهي منطقة في حضرموت تابعة لليمن، تقع جنوب الجزيرة العربية...
[419]
فيقول القرآن: (كذّبت عادٌ المرسلين).(1)
بالرغم من أنّهم كذبوا هوداً فحسب، إلاّ أنّه لمّا كانت دعوة هود هي دعوة الأنبياء جميعاً، فكأنّهم كذبوا الأنبياء جميعاً...
وبعد ذكر هذا الإجمال يقع التفصيل، فيتحدّث القرآن عنهم فيقول: (إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون).
لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم، لذلك عبّر عنه القرآن بكلمة "أخوهم"...
ثمّ أضاف قائلا: (إنّي لكم رسول أمين) وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة، فإنّي لم أخنكم أبداً... ولم تجدوا منّي غير الصدق والحق!...
ثمّ يضيف مؤكّداً: لما كنتم تعرفونني جيداً (فاتقوا الله وأطيعون) ... لأنّ إطاعتكم إيّاي إطاعة لله سبحانه... ولا تتصوروا بأنّي أدعوكم لأنتفع من وراء دعوتي إيّاكم في حياتي الدنيا وأنال المال والجاه، فلست كذلك (وما أسألكم عليه من أجر أن أجري إلاّ على ربّ العالمين)... فجميع النِعَم والبركات من قِبَلهِ سبحانه، وإذا أردتُ شيئاً طلبته منه، فهو ربّ العالمين جميعاً...
والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة "هود" في قومه إلى أربعة أُمور على الترتيب...
فالأمر الأوّل: هو محتوى دعوة "هود" الذي يدور حول توحيد الله وتقواه، وقرأنا ذلك بجلاء في ما مضى من الآي...
أمّا الأُمور الثلاثة الأخر فيذكرها القرآن حاكياً عن لسان هود في ثوب الإستفهام الإنكاري، فيقول: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لما كانت "عاد" قبيلةً، وتتألف من جماعة من الناس أُنث الفعل كما يُرى، فجاء (كذبت عاد) لأنّ لفظي القبيلة والجماعة مؤنثان...
[420]
"الريع" في الأصل يُطلقُ على المكان المرتفع، أمّا كلمة (تعبثون) فمأخوذ من "العبث"، ومعناه العمل بلا هدف صحيح، ومع ملاحظة كلمة (آية) التي تدل على العلامة يتّضح معنى العبارة بجلاء... وهو أنّ هؤلاء القوم المثرين، كانوا يبنون على قمم الجبال والمرتفعات الأُخر مبانيَ عالية للظهور والتفاخر على الآخرين، وهذه المباني [كالأبراج وما شاكلها] لم يكن من روائها أي هدف سوى لفت أنظار الآخرين، وإظهار قدرتهم وقوّتهم ـ من خلالها ـ !!
وما قاله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا التعبير هو المباني والمنازل التي كانت تُبنى على المرتفعات، وكانت مركزاً للهو واللعب، كما هو جار في عصرنا بين الطغاة... فيبدو بعيداً، لأن هذا التعبير لا ينسجم مع كلمتي (الآية) و(العبث).
كما أنّ هناك احتمال ثالث ذكره بعض المفسّرين، وهو أنّ عاداً كانت تبني هذه البنايات للاشراف على الشوارع العامّة، ليستهزئوا منها بالمارة، إلاّ أن التّفسير الأوّل يبدو أكثر صحة من سواه...
وأمّا الأمر الثّالث الذي ذكره القرآن حاكياً على لسان هود منتقداً به قومه، فهو قوله: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون).
"المصانع" جمع "مصنع" ومعناه المكان أو البناء المجلّل المحكم، والنّبي هود لا يعترض عليهم لأنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملائِمة، بل يريد أن يقول لهم: إنّكم غارقون في أمواج الدنيا، ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الآخرة!... فلم تتخذوا الدنيا على أنها دار ممر، بل اتخذتموها دار مقر دائم لكم...
أجل، إنّ مثل هذه المباني التي تُذهل أهلها، وتجعلهم غافلين عن اليوم الآخر، هي لا شك مذمومة!
و في بعض الرّوايات عن أنس بن مالك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج فرأى قبة
[421]
فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا الرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه وصنع ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب به وبالاعراض عنه، فشكى ذلك إلى أصحابه وقال: والله إليّ لأنكر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ما أدرى ما حدث فيّ وما صنعت؟
قالوا: خرج رسول الله فرأى قبّتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه، فرجع الى قبّته فسواها بالأرض، فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت ها هنا قالوا: شكى إلينا صاحبها انحراصل عنه فاخبرناه فهدمها فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): "إن كلّ ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلاّ ما لابُدّ منه".(1)
ويعرف من هذه الرّواية وما شابهها من الرّوايات نظر الإسلام بجلاء، فكل بناء "طاغوتي" مشيد بالإسراف والبذخ ومستوجب للغفلة... يمقته الإسلام، ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه الأبنية التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن الله، ولا سيما في محيط يسكن فيه المحرومون والمستضعفون...
إلاّ أن ما ينبغي التنويه به، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا الهدف الإِنساني أبداً، ولم يأمر بتخريب البناء، بل استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف كالإِعراض وعدم الإِهتمام بالبناء مثلا!...
ثمّ ينتقد النّبي "هود" قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين).
فمن الممكن أن يعمل الإنسان عملا يستوجب العقوبة، إلاّ أنّه لا يصح تجاوز الحد والإِنحراف عن جادة الحق والعدل عند محاسبته ومعاقبته، وأن يعامل ذو الجرم الصغير معاملة ذي الجرم الكبير... وأن تسفك الدماء عند الغضب ويقع التماصع بالسيف(2)، فذلك ما كان يلجأ إليه الجبابرة والظلمة والطغاة آنئذ...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان: ذيل الآية محل البحث، نور الثقلين، ج 4، ص 63.
2 ـ التماصع، التطاحن والقتال. (المصحح)
[422]
ويرى الراغب في المفردات أن "البطش" على زنة (نقش) هو أخذ الشيء بقوّة وقسّوة واستعلاء...
وفي الحقيقة أن هوداً يوبخ عبدة الدنيا عن طرق ثلاثة:
الأوّل: علاماتهم التي كانت مظهراً لحبّ الإستعلاء وحب الذات، والتي كانت تبنى على المرتفعات العالية ليفخروا بها على سواهم.
ثمّ يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة، التي تجرهم إلى الغفلة عن الله، وإن الدنيا دار ممر لا مقر.
وأخيراً فإنّه ينتقدهم في تجاوزهم الحدّ والبطش عند الإنتقام...
والقدر الجامع بين هذه الأُمور الثلاثة هو الإِحساس بالإِستعلاء وحبّ البقاء. ويدلّ هذا الأمر على أن عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم، وأغفلهم عن ذكر الله حتى ادعوا الألوهية... فهم باعمالهم هذه يؤكّدون هذه الحقيقة، وهي أن "حب الدنيا رأس كل خطيئة".(1)
والقسم الثّالث من حديث هود ممّا بيّنه لقومه، هو ذكر نعم الله على عباده ليحرك فيهم ـ عن هذا الطريق ـ الإِحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو الله...
وفي هذا الصدد يتبع النّبي هود أسلوبي الإجمال والتفصيل، وهما مؤثران في كثير من الأبحاث، فيلتفت نحوهم أولا فيقول: (واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون).(2)
وبعد هذا التعبير المُجل يذكر تفصيل نعم الله عليهم، فيقول: (أمدكم بأنعام وبنين)...
فمن جهة وفّر لكم الأُمور المادية، وكان القسم المهم منها ـ خاصّة في ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.
2 ـ (أمدّ) مأخوذ من "الإمداد"، ويطلق في الأصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل منظم، وحيث أن الله يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه الكلمة هنا أيضاً...
[423]
العصر ـ الأنعام والمطايا من النياق وغيرها. ومن جهة أخرى وفرّ لكم القوّة الكافية وهي "الأبناء" للحفاظ على الأنعام وتدجينها...
وهذا التعبير تكرر في آيات مختلفة، فعند عدّ النعم المادية تذكر الأموال أولا ثمّ الأبناء ثانياً، وهم الحفظة للأموال ومنمّوها، ويبدو أن هذا ترتيب طبيعي، لا أن الأموال أهم من الأبناء... إذ نقرأ في الآية (6) من سورة الإِسراء... (وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً)...
ثمّ يضيف بعد ذلك: (وجنات وعيون).
وهكذا فقد وفر الله لكم سبل الحياة جميعاً، من حيث الأبناء أو القوّة الإِنسانية، والزراعة والتدجين ووسائل الحمل والنقل، بشكل لا يحس الإِنسان معه بأي نقص أو قلق في حياته!.
لكن ما الذي حدث حتى نسيتم واهب هذه النعم جميعاً، وأنتم تجلسون على مائدته ليل نهار، ولا تعرفون قدره؟!
وأخيراً، فإنّ هوداً في آخر مقطع من حديثه مع قومه ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب الله لهم، فيقول: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)...
ذلك اليوم الذي ترون فيه نتائج أعمالكم وظلمكم وغروركم واستكباركم، وحب الذات وترك عبادة الله... ترون كل ذلك بأم أعينكم.
وعادة ـ يستعمل لفظ (اليوم العظيم) في القرآن، ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه... إلاّ أنّه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش المؤلم على الأُمم...
كما نقرأ في هذه السورة في قصة "شعيب"، أن قومه بعد أن جحدوه ولم يؤمنوا به وعاندوه واستهزؤوا به، أرسل الله عليهم صاعقة "وكانت قطعة من الغيم" فعاقبهم بها، فسّمي ذلك اليوم باليوم العظيم، كما تقول الآية: (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنّه كان عذاب يوم عظيم).
[424]
فبناءً على هذا قد يكون التعبير بـ "يوم عظيم" في الآية محل البحث، إشارة إلى اليوم الذي ابتلي به المعاندون من قوم هود (عاد) بالعذاب الأليم وهو الاعصار المدمر، وسيتجلى الشاهد على هذا المعنى في الآيات المقبلة...
كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه... أو إلى العذابين معاً، فيوم الاعصار يوم عظيم،ويوم القيامة يوم عظيم أيضاً...
* * *
[425]
الآيات
قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعَظِينَ(136) إِنْ هَذَآ إِلاَّ خُلُقُ ا لاَْوَّلِينَ(137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَـهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(140)
التّفسير
لا تتعب نفسك في نصحنا:
رأينا في الآيات المتقدمة أحاديث النّبي هود المحترق القلب شفقةً لقومه المعاندين "عاد" وما حملته هذه الأحاديث من معان غريزة سامية... والآن ينبغي أن نعرف جواب قومه الجارح وغير المنطقي ولا المعقول، يقول القرآن في هذا الصدد (قالوا سواء علينا أوَعظت أمْ لم تكن من الواعظين) فلن يؤثر ذلك فينا، فلا تتعب نفسك.
أمّا اعتراضك علينا بهذه الاُمور فلا محل له من الاعراب (إن هذا إلاّ خُلق الأوّلين).
وليس الأمر كما تقول، فإنّه لا شيء بعد الموت (وما نحن بمعذّبين) لا في هذا
[426]
العالم، ولا في العالم الآخر.
و "الخُلقُ" ـ بضم الخاء واللام ـ معناه العادة والسلوك والأخلاق لأن هذه الكلمة جاءت بصيغة الإفراد بمعنى الطبع والسجّية والعادة الأخلاقية... وهى هنا إشارة إلى الأعمال التي كانت تصدر منهم كعبادة الأصنام، وبناء القصور العالية الجميلة، وحب الذات، والتفاخر عن طريق تشييد الأبراج على النقاط المرتفعة، وكذلك البطش عند الإِنتقام أو الجزاء... أي إن ما نقوم به من أعمال هو ما كان يقوم به السلف فلا مجال للاعتراض والانتقاد!...
وفسّر "الخلقُ" بعضهم بالكذب، أي إنّ ما تقوله في شأن الله والقيامة كلام باطل قيل من قبل (إلاّ أن هذا التّفسير إنّما يُقبل إذا قرىء النص: إن هذا إلاّ خَلْقُ الأولين. فيكون الخلق فيه على وزن (الحلق) إلاّ أن القراءة المشهورة ليست كذلك!).
ويبيّن القرآن عاقبة قوم هود الوبيلة فيقول: (فكذبوه فأهلكناهم).
وفي ختام هذه الاحداث يذكر القرآن تلكما الجملتين المعبرّتين، اللتين تكررتا في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى عليهما السلام... فيقول: (إن في ذلك لآية) على قدرة الله، واستقامة الأنبياء وعاقبة المستكبرين السيئة، ولكن مع ذلك (وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
فيمهلُ إمهالا كافياً، ويمنح الفرصة، ويبيّن الدلائل الواضحة للمضلينَ ليهتدوا... إلاّ أنه عند المجازاة والعقاب، وبعد إتمام الحجة يأخذ أخذاً عسيراً لا مفرّ لأحد منه أبداً...
* * *
[427]
الآيات
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلينَ(141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُم صَـلِحٌ أَلا تَتَّقُونَ(142) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(143) فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ (144)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (145)أتُتْرَكُونَ فِى مَا هَـهُنآءَ امِنِينَ(146) فِى جَنَّـت وَعُيون (147)وَزُرُوع وَنَخْل طَلْعُهَا هَضِيمٌ(148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَـرِهِينَ(149) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(150) وَلا تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ وَلا يُصْلِحُون (152)
التّفسير
لا تطيعوا المسرفين المفسدين:
القسم الخامس من قصص الأنبياء في هذه السورة، هو قصّة "ثمود" الموجزة القصيرة، ونبيّهم "صالح" الذين كانوا يقطنون في "وادي القُرى" بين المدينة والشام، وكانت حياتهم مترفة مرفهة... إلاّ أنّهم لطغيانهم وعنادهم أُبيدوا وأبيروا حتى لم يبق منهم ديّار ولم تترك لهم آثار...
[428]
وبداية القصّة هذه مشابهة لبداية قصة عاد "قوم هود" وبداية قصة نوح وقومه، وهي تكشف كيف يتكرر التاريخ، فتقول: (كذبت ثمود المرسلين)...
لأنّ دعوة المرسلين جميعاً دعوة واحدة، فتكذيب ثمود نبيّهم صالحاً تكذيب للمرسلين أيضاً...
وبعد ذكر هذا الإجمال يفصّل القرآن ما كان بين صلاح وقومه، فيقول: (إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون)...
لقد كان النّبي صالح هادياً ودليلا لقومه مشفقاً عليهم، فهو بمثابه "الأخ" لهم، ولم يكن لديه نظرة استعلائية ولا منافع ماديّة، ولذلك فقد عبّر القرآن عنه بكلمة "أخوهم"... وقد بدأ دعوته إيّاهم كسائر الأنبياء بتقوى الله والإحساس بالمسؤولية!...
ثمّ يقول لهم معرفاً نفسه: (إنّى لكم رسول أمين) وسوابقي معكم شاهد مبين على هذا الامر (فاتقوا الله وأطيعون) إذْ لا أريد إلاّ رضا الله والخير والسعادة لكم...
ولذلك فأنا لا أطلب عوضاً منكم في تبليغي إيّاكم... (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين) فأنا أدعوكم له، وأرجو الثواب منه سبحانه...
كان هذا أوّل قسم من سيرة صالح التي تلخصت في دعوته قومه وبيان رسالته إليهم...
ثمّ يضع "صالح" اصبعه على نقاط حساسة من حياتهم، فيتناولها بالنقد ويحاكمهم محاكمة وجدانية، فيقول: (أتتركون فيما ها هنا آمنين).
وتتصورون أن هذه الحياة المادية التي تستغفل الإنسان دائمة له وهو خالد فيها! فلذلك تأمنون من الجزاء، وأن يد الموت لا تنوشكم؟!
وبالأسلوب المتين، اُسلوب الإجمال والتفصيل... يشرح النّبي صالح لقومه تلك الجملة المغلقة والمجملة بقوله: وتحسبون أنّكم مخلّدون (في جنات وعيون
[429]
وزروع ونخل طلعها هضيم).(1)
ثمّ ينتقدهم على بيوتهم المرفهة المُحكمة فيقول: (وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين).
"الفارِهُ" مشتق من (فره على وزن فَرِح) ومعناه في الأصل السرور المقرون باللامبالاة وعبادة الهوى... كما يستعمل في المهارة عند العمل أحياناً... ومع أن المعنيين ينسجمان مع الآية، إلاّ أنّه مع ملاحظة توبيخ نبيّهم صالح إيّاهم وملامته لهم فيبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب...
ومن مجموع هذه الآيات وبمقايستها مع ما تقدم من الآيات في شأن عاد، يستفاد أن عاداً "قوم هود" كان أكثر اهتمامهم في حب الذات والمقام والمفاخرة على سواهم... في حين أن ثمود "قوم صالح" كانوا أسرى بطونهم والحياة المرفهة"... ويهتمون أكبر اهتمامهم بالتنعم، إلاّ أنّ عاقبة الجماعتين كانت واحدة، لأنّهم جعلوا دعوة الأنبياء التي تحررهم من سجن عبادة الذات للوصول إلى عبادة الله، جعلوها تحت أقدامهم، فنال كلٌّ منهم عقابه الصارم الوبيل...
وبعد ذكر هذه الإنتقادات يتحدث النّبي صالح(عليه السلام) في القسم الثّالث من كلامه مع قومه، فيقول: (فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الطلع" مأخوذ من مادة "الطلوع" ويستعمل في ما يكون منه الرطب بعدئذ، وهو معروف وشكله جميل منضوم نضيد، له غلاف ينشقّ عنه العِذقُ أول الربيع. ثمّ يُلقح بيد الإنسان أو بالرياح ليكون الثمر... وقد يستعمل الطلع في الثمرة الأُولى للنخل! و "الهضيم" من مادة "هضم"، وله معان مختلفة، فتارة يراد منه الثمرة الناضجة، وتارة يطلق على الثمر اللين القابل للهضم، وتارة يطلق على المهضوم، وقد يستعمل بمعنى المنضوم المنضد، فإذا كان الطلع في الآية محل البحث بمعنى العذق أوّل طلوعه، فالهضيم معناه المنضود، وإذا كان الطلع أول الثمر فالهضيم معناه الناضج اللين اللطيف...
[430]
ملاحظة:
العلاقة بين الإسرافِ والفساد في الأرض!
نعرف أن "الإسراف" هو التجاوز عن حدّ قانون التكوين وقانون التشريع... وواضح أيضاً أنّ أيّ تجاوز عن الحد موجب للفساد والإختلال وبتعبير آخر: إن مصدر الفساد هو الإسراف، ونتيجة الإسراف هي الفساد أيضاً.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ الإسراف له معنى واسع، فقد يطلق على المسائل المادية كالأكل والشرب، كما في الآية (31) من سورة الأعراف (كلوا واشربوا ولا تسرفوا).
وقد يَرِدُ في الإنتقام والقصاص ـ عند تجاوز الحد ـ كما في الآية (33) من سورة الإسراء...(فلا يسرفْ في القتل إنه كان منصوراً).
وقد يستعمل في الإِنفاق والبذل عند التبذير وعدم التدبير، كما في الآية (67) من سورة الفرقان: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً).
وقد يأتي في الحكم أو القضاء الذي يجرّ إلى الكذب، كما في الآية (28) من سورة غافر: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب)!
وقد يستعمل في الإعتقاد المنتهى إلى الشك والتردد والإرتياب كما في الآية (34) من سورة غافر إذ تقول: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب).
وقد يأتي بمعنى الإستعلاء والإستكبار والإستثمار كما جاء في الآية (31) من سورة الدخان في شأن فرعون (إنّه كان عالياً من المسرفين).
وأخيراً فقد يأتي بمعنى مطلق الذنوب كما هو في الآية (53) من سورة الزمر (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً).
وبملاحظة كل ما بيّناه آنفاً، تتّضح العلاقة بين الإسراف والفساد بجلاء...
يقول العلاّمة الطباطبائي في الميزان: "إن الكون على ما بين أجزائه من
[431]
التضاد والتزاحم، مؤلف تأليفاً خاصاً يتلائم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج والآثار... فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة، وهو بما بين أجزائه من الإرتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصّاً يسير فيها بأعمال خاصّة، من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط، فإنّ في الميل والإِنحراف إفساداً للنظام المرسوم ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل... ومن الضروري أن خروج بعض الأجزاء عن خطه المخطوط له، وإفساد النظم المفروض له ولغيره، يستعقب منازعة بقية الأجزاء له، فإن استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط الإِعتدال فهو وإلاّ أفنته وعفت آثاره، حفظاً لصلاح الكون واستبقاءً لقوامه والإِنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية، فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له، وإن تعدّى حدود فطرته وأفسد في الأرض، أخذه الله سبحانه بالسنين والمثلات وأنواع النكال والنقمة، لعله يرجع إلى الصلاح والسداد، قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البرِّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).(1)
وإن أقاموا مع ذلك على الفساد ـ لرسوخه في نفوسهم ـ أخذهم الله بعذاب الإِستئصال وطهّر الأرض من قذارة فسادهم قال الله تعالى: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(2)(3)
ومن هنا يتّضح بجلاء، لِمَ ذكر الله سبحانه في الآيات المتقدمة الإسراف والفساد في الأرض وعدم الإصلاح، في سياق واحد ومنسجم.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الروم، الآية 41.
2 ـ الأعراف، الآية 96.
3 ـ راجع تفسير الميزان، الجزء 15، الصفحة 333 ـ 334.
[432]
الآيات
قَالواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(153) مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأتِ بِآيَة إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْم مَّعْلُوم(155) وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْم عَظِيم(156) فَعَقَرُوهَا فأَصْبَحُواْ نَـدِمِينَ(157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)
التّفسير
عناد قوم صالح ولجاجتهم:
لقد استمعتم إلى منطق صالح المتين والمحب للخير، مع قومه المضلين ـ في الآيات المتقدمة ـ والآن لنستمع إلى جواب قومه في هذه الآيات.
إنهم واجهوه بكلام خشن و (قالوا إنّما أنت من المسحّرين) فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غير موزونة ولا معقولة.
ثمّ بعد هذا كله (ما أنت إلاّ بشر مثلنا) وكل عاقل لا يبيح لنفسه أن يطيع
[433]
انساناً مثله (فأت بآية إن كنت من الصادقين) لكي نؤمن بك ونتبعك.
كلمة (المسحّر) مشتقّة من (السحر) ومعناها المسحور، أي المصاب بالسحر، إذ كانوا يعتقدون أن السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل، وهذا القول لم يتّهم به النبيّ صالحاً فحسب، بل اتهم به كثير من الأنبياء، حتى أن المشركين اتّهموا نبيَّنا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) به فقالوا: (إن تتبعون إلاّ رجلا مسحوراً)(1). أجَلْ، إنّهم كانوا يرون معيار العقل أن يكون الإنسان متوفقاً مع البيئة والمحيط، فيأكل الخبز ـ مثلا ـ بسعر يومه، ويطبّق نفسه على جميع المفاسد... فلو أن رجلا مصلحاً إلهيّاً دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصلاحها، عَدُّوهُ ـ بحسب منطقهم ـ مجنوناً "مسحّراً".
وهناك احتمالات أُخر في معنى "المسحّرين"، صرفنا النظر عنها لعدم مناسبتها...
وعلى كل حال فإنّ هؤلاء المعاندين من قوم صالح، طلبوا منه معجزةً لا من أجل معرفة الحق، بل تذرعاً بالحُجة الواهية، وعلى نبيّهم أن يُتم الحجة عليهم، فاستجاب لهم ـ وبأمر الله ـ قال: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم).
و "الناقة" معروفة عند العرب، وهي أنثى الجمَلِ، والقرآن لم يذكر خصائص هذه الناقة التي كان لها حالة إعجازية، إلاّ أنه ذكرها بنحو الإجمال... لكننا نعرف أنّها لم تكن ناقة كسائر النياق الطبيعية، فكما يقول جماعة من المفسّرين: كانت هذه الناقة بحالة من الإعجاز بحيث خرجت من قلب الجبل. ومن خصائصها أنّها كانت تشرب ماء الحيّ في يوم، واليوم الآخر لأهل الحي "أو القرية" وهكذا دواليك... كما أشارت الآية آنفة الذكر إلى هذا المعنى، ووردت الإشارة إلى هذا المعنى في الآية (28) من سورة القمر أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الفرقان، الآية 8.
[434]
وقد ذكر المفسّرون لها خصائص أُخر(1).
وعلى كل حال، كان على صالح(عليه السلام) أن يُعلمَهُم أن هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة، وهي آية من آيات عظمة الله المطلقة فعليهم أن يَدَعوها على حالها، وقال: (ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم)...
وبديهي أن المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدي إلى الإضرار بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة: (فعقروها فأصبحوا نادمين)(2) لأنّهم رأوا انفسهم قاب قوسين من العذاب الالهي.
ولما تجاوز طغيانهم الحدّ، وأثبتوا بأعمالهم أنّهم غير مستعدين لقبول الحق، اقتضت إرادة الله ومشيئته أن يطهر الأرض من وجودهم الملوّث (فأخذهم العذاب).
وكما نقرأ في الآية (78) من سورة الأعراف، والآية (67) من سورة هود، ما جاء عن عذاب الله لهم إجمالا... أن الأرض زُلزلت من تحتهم ليلا، فانتبهوا من نومهم وجثوا على الركب فما أمهلهم العذاب وأخذتهم الرجفة والصيحة، فاهتزت حيطانهم وهوت عليهم فأماتتهم جاثمين على حالهم ففارقوا الدنيا بحال موحشة رهيبة!...
ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهيم(عليه السلام)، فيعبّر تعبيراً بليغاً موجزاً يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين: إن في قصة قوم صالح، وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة، وعناد قومه وغرورهم وانكارهم للمعجزة البيّنة، والمصير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإيضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الآية (61) من سورة هود...
2 ـ كلمة (عقروها) مأخوذة من مادة (عُقر) على زنة (قُفل) ومعناها في الأصل أساس الشيء وجذره، وقد تأتي بمعنى حز الرأس، وتأتي بمعنى قطع الأرجل من الحيوان، وما إلى ذلك.
[435]
الأسود الذي آلو إليه دروس وعبر: (إنّ في ذلك لآية وماكان أكثرهم مؤمنين).
أجلْ، ليس لأحد أن يغلب ربّه; فما فوق قوته من قوّة!! وهذه القوّة وهذه القدرة العظيمة لا تمنع أن يرحم أولياءه، بل أعداءه أيضاً: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم)(1)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تقول الروايات إن الذي قتل ناقة صالح كان واحداً لا غير... إلاّ أن القرآن يعبر عن هذا الفعل بصيغة الجمع (فعقروها). وهذا التعبير لأن الآخرين كانوا راضين بعمله ويضمون أصواتهم إلى صوته، ويعتقدون بمعتقده... وتنفتح نافذة من هنا على أصل اسلامي، وهو أنّ العلائق الفكرية والمذهبيّة تجعل المنتمين إليها في صف واحد، وتكون عاقبتهم واحدة. لمزيد الإيضاح يراجع الآية (65) من سورة هود...
[436]
الآيات
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوط الْمُرْسَلِينَ(160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(161) إِنِّى لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ(162) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (164)أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَـلَمِينَ(165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)
التّفسير
السفلة المعتدون:
سادس نبيّ ـ ورد جانبٌ من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة ـ هو "لوط"(عليه السلام)، ومع أنَّه كان يعيش في عصر إبراهيم الخليل، إلاّ أنّ قصته لم تأت بعد قصّة إبراهيم(عليه السلام)، لأن القرآن لم يكن كتاباً تاريخياً ليبيّن الحوادث بترتيب وقوعها... بل يلفت النظر إلى جوانبه التربوية البناءة، والتي تقتضي تناسباً آخر... وقصّة لوط وما جرى لقومه تنسجم في حياة الأنبياء الآخرين الذين ورد ذكرهم في ما بعد...
يقول القرآن أوّلا في هذا الصدد: (كذبت قوم لوط المرسلين).
[437]
ورود "المرسلين" بصيغة الجمع، إمّا لأنّ دعوة الأنبياء(عليهم السلام) واحدة، فتكذيب الواحد منهم تكذيب للجميع، أو أن قوم لوط لم يؤمنوا بأيّ نبي قبل لوط واقعاً وحقيقة...
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة الأنبياء الآخرين الماضين، فيقول: (إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون).
ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم، العميق في تودّه إليهم، يدل على أنّه بمثابة "الأخ" لهم.
ثمّ أضاف لوط قائلا: (إنّي لكم رسول أمين) فلم تعرفوا عنّي خيانة حتى الآن... وسأرعى الأمانة في إيصال رسالة الله إليكم أبداً... (فاتقوا الله وأطيعون)فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة.
ولا تتصوروا أنّ هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش، وأنّ وراءها هدفاً مادّياً، كلاّ: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين).
ثمّ يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة، وقسماً من انحرافاتهم الأخلاقية... وحيث أنّ أهم نقطة في انحرافاتهم... هي مسألة الإِنحراف الجنسي، لذلك فإنّه ركّز عليها وقال: (أتأتون الذكران من العالمين). فتختارون الذكور من بين الناس لاشباع شهواتكم!!
أي، إنّكم على الرغم ممّا خلق الله لكم من الجنس المخالف "النساء" حيث تستطيعون أن تعيشوا معهن بالزواج المشروع عيشاً طاهراً هادئاً، إلاّ أنّكم تركتم نعمة الله هذه وراءكم، ولوّثتم أنفسكم بمثل هذا العمل القبيح المخزي...
كما ويحتمل في تفسير هذه الآية أن "من العالمين" جاء قيداً لقوم لوط أنفسهم، أي إنّكم من دون العالمين وحدكم المنحرفون بهذا الإنحراف والمبتلون به... كما أن هذا الإحتمال ينسجم مع بعض التواريخ إذ يقال أن أوّل أمّة ارتكبت
[438]
الإِنحراف الجنسي "اللواط" بشكل واسع هي قوم لوط،(1) إلاّ أن التّفسير الأوّل مع الآية التالية ـ أكثر إنسجاماً.
ثمّ أضاف قائلا: (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون).
فالحاجة والغريزة الطبيعية، سواءً كانت روحية أم جسمية لم تجرّكم إلى هذا العمل الإنحرافي الشنيع ابداً، وإنّما جرّكم الطغيان والتجاوز، فتلوثتم وخزيتم به...
إن ما تقومون به يشبه من يترك الثمر الطيب والنافع والسالم، ويمضي نحو الغذاء المسموم الملوّث المميت... فهذا الفعل ليس حاجة طبيعية... بل هو التجاوز والطغيان!
* * *
بحثان
1 ـ الانحراف الجنسي انحراف مخجل
أشار القرآن في سور متعددة منه ـ كالأعراف وهود والحِجر والأنبياء والنمل والعنكبوت، إلى ما كان عليه قوم لوط من الوزر الشنيع... إلاّ أن تعابيره ـ في السور المذكورة آنفاً ـ يختلف بعضها عن بعض... وفي الحقيقة إن كل تعبير من هذه التعابير يشير إلى بُعد من أبعاد عملهم الشنيع:
ففي "الأعراف" نقرأ مخاطبة لوط إيّاهم (بل أنتم قوم مسرفون).(2)
وفي الآية (74) سورة الأنبياء يتحدث القرآن عن لوط فيقول: (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث انهم كانوا قوم سوء فاسقين).
أمّا في الآية ـ محل البحث ـ فقد قرأنا مخاطبة لوط إياهم بقوله: (بل أنتم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في شأن انحراف هؤلاء القوم، يذكر التأريخ قصة يمكن مراجعتها في تفسير الآية (81) من سورة هود...
2 ـ سورة الأعراف، الآية 81.
[439]
قوم عادون).
وجاء في الآية (55) من سورة النمل قوله لهم: (بل أنتم قوم تجهلون) "الآية 55".
كما جاء في الآية (29) من سورة العنكبوت على لسان لوط مخاطباً إيّاهم (إنّكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل).(1)
وهكذا فقد ذُكر هذا العمل القبيح بعناوين "إسراف"، "خبيث"، "فسق"، "تجاوز"، "جهل"، و"قطع السبيل".
"الإسراف" من جهة أنّهم نسوا نظام الخلق في هذا الأمر، وتجاوزوا عن الحد، و"التعديّ" ذكر أيضاً لهذا السبب.
و"الخبيث" هو ما ينفر منه طبع الإنسان السليم، وأيّ عمل أقبح من هذا العمل الذي يُنفَرُ منه؟!
"الفسق" معناه الخروج عن الطاعة ـ طاعة الله ـ والتعري عن الشخصيّة الإنسانية، وهو من لوازم هذا العمل حتماً.
و"الجهل" لعدم معرفتهم بعواقب هذا الفعل الوخيمة على الفرد والمجتمع!...
وأخيراً فإن "قطع السبيل" هو النتيجة السيئة لهذا الفعل، لأنّه سيؤدي إلى انقطاع النسل عند اتساع هذا الفعل، لأنّ العلاقة نحو الجنس المشابه ستحل محل العلاقة نحو الجنس المخالف بالتدريج (كما هي الحال بالنسبة للواط والسحاق).
2 ـ العواقب الوخيمة للإنحراف الجنسي.
بالرغم من بحثنا لهذا الموضوع في ذيل الآيات 81 ـ 83 بحثاً مفصّلا في أضرار هذا العمل القبيح، إلاّ أنه ـ نظراً لأهميته ـ نرى هنا من اللازم أن نذكر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قيل أن المراد من (تقطعون السبيل) أي تقطعون سبيل الفطرة وتداوم النسل، وفسّره آخرون بأنّ المراد هو أن قوم لوط كانوا قطّاع طرق وسرّاقاً!...
[440]
مطالب أُخَر مضافاً إلى ما سبق!
في الحديث عن النبيّ (محمّد)(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "لا يجد ريح الجنّة زنوق وهو المخنث".(1)
وفي حديث آخر عن الإمام علي(عليه السلام) أنه قال: "اللواط هو الكفر".(2)
وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا في فلسفة تحريم اللواط والسحاق أنه قال: "علة تحريم الذكران للذكران، والإِناث للإِناث، لما رُكب في الإِناث وماطبع عليه الذكران، ولما في إتيان الذكران الذكران، والإِناث للإِناث من انقطاع النسل، وفساد التدبير، وخراب الدنيا".(3)
وهذه المسألة قبيحة جدّاً في نظر الإِسلام بحيث جعل ـ في أبواب الحدود ـ حدّة القتل دون شك... حتى الذين يقومون بعمل أدنى من اللواط والسحاق جعل لهم عقاباً صارماً...
ففي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "من قبل غلاماً من شهوة، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".(4)
وعقوبة من يفعل مثل هذا الفعل تتراوح من ثلاثين سوطاً إلى تسعة وتسعين سوطاً...
وعلى كل حال، فلا شك أن الإنحراف الجنسي من أخطر الإنحرافات الاجتماعية... لأنّه يلقي بظله المشؤوم على جميع المسائل الأخلاقية، ويجر الإنسان إلى الإنحراف العاطفي.
"وكان لنا بحث مفصل في هذا الصدد في ذيل الآية 81 من سورة هود".
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الانوار، الطبعة الجديدة، ج 79، ص 67.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق، ص 64.
4 ـ بحار الانوار، ج 79، ص 72.
[441]
الآيات
قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَـلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الُْمخْرَجِينَ(167) قَالَ إِنِّى لَعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ(168) رَبِّ نَجِنِّى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)فَنَجَّيْنَـهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170) إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغَـبِرِينَ(171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الاَْخَرِينَ(172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهُم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(173) إِنَّ فِى ذَلكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (174)وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175)
التّفسير
عاقبة قوم لوط:
إن قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة، بدلا من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد الإلهي، فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك الأمواج الرهيبة، فإنهم نهضوا لمواجهتهِ و (قالوا لئن لم تنتهِ يا لوط لتكونن من المخرجين)...
إن كلامك يُبلبل أفكارنا، ويسلب اطمئناننا وهدوءنا، فنحن غير مستعدين
[442]
حتى للإصغاء إلى كلامك... وإذا واصلت هذا الاُسلوب ولم تنته منه، فإنّ أقل ما تجزى به هو الإبعاد والإخراج من هذه الأرض...
ونقرأ في مكان آخر من القرآن أن قوم لوط سعوا لتنفيذ تهديدهم، وأمروا بإخراج لوط وأهله، فقالوا: (أخرجوهم من قريتكم إنّهم اُناس يتطهّرون).
إن فعل هؤلاء الضالّين ـ بلغ بهم أن يعدوا التقوى والتطهر بينهم أكبر عيب، وأن يفخروا بالرجس وعدم الطهارة، وهذه هي العاقبة المشؤومة للمجتمع المسرع نحو الفساد!
ويستفاد من عبارة (لتكونن من المخرجين) أنّ هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا اُناساً طاهرين من حيّهم فهدّدوا لوطاً بهذا الأمر أيضاً، وهو أنه إذا لم تنته فستنال ما ناله سواك من الإبعاد والإخراج...
وقد صُرّح في بعض التفاسير أنّهم كانوا يُخرجون المتطهرين من القرية بأسوأ الحال(1)...
إلاّ أنّ لوطاً لم يكترث بتهديدهم، وواصل نصحه لهم و (قال إنّي لعملكم من القالين).
إنّه يريد أن يقول: سأواصل انتقادي إيّاكم... فافعلوا ما شئتم... فأنا لا أترك مواجهة هذه الأعمال القبيحة بالإعتراض والنقد!...
والتعبير بـ "من القالين" يدلُّ أيضاً على أن جماعة كانوا مثل النّبي لوط يرفضون هذه الأعمال ويعترضون عليها... رغم أن المنحرفين أخرجوهم من قريتهم آخر الأمر.
كلمة "القالِين" جمع "قال" من مادة (قَلَى) أو (قَلِيَ) "على وزنيْ حَلَقَ وشَرِكَ" ومعناها العداوة الشديدة التي تترك أثرها في قلب الإنسان، وهذا التعبير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح المعاني، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، ذيل الآيات محل البحث.
[443]
يكشف عن شدّة تنفّر لوط من أعمالهم...
والذي يسترعي النظر أن لوطاً يقول: إنّي لعملكم من القالين. أي إنّني لا أعاديكم بأشخاصكم، بل أعادي أعمالكم المخزية، فلو ابتعدتم عن هذا العمل الشنيع فأنا محبّ لكم وغير قال لكم.
وأخيراً لم تؤثر مواعظ لوط ونصائحه في قومه، فبدّل الفساد مجتمعهم كلّه إلى مستنقع عفن... وتمّت الحجة عليهم بمقدار كاف، وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية... فعليه أن يغادر هذه المنطقة العفنة، وأن ينجّي من معه ممن استجاب دعوته، لينزل عذاب الله على القوم الفاسقين فيهلكهم، فسأل لوط ربّه أن يخلّصه من قومه، فقال: (رب نجني وأهلي ممّا كانوا يعملون).
وبالرغم من أنّ بعضهم احتمل أن يكون المراد من الأهل من الآية جميع من آمن به... إلاّ أن الآية (36) من سورة الذاريات تقول: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين).
ولكن كما أشرنا من قبل ـ فإن بعض التعابير الواردة في الآيات محل البحث، تشير إلى أن جماعة من المؤمنين به كانوا قد أُبعدوا وأُخرجوا من القرية...
ويستفاد ممّا قيل ـ ضمناً ـ أن دعاء لوط لأهله لم يكن بسبب العلاقة العاطفية والإرتباط النسبي القرابتي، بل لإيمانهم به...
فاستجاب الله دعاؤه كما تقول الآية التالية: (فنجّيناه وأهله أجمعين إلاّ عجوزاً في الغابرين).(1)
وهذه العجوز لم تكن سوى زوج النّبي لوط التي كانت منسجمة مع أفكار قومه الضالين وعقيدتهم، ولم تؤمن بلوط أبداً، ولذلك ابتليت بما أُبتلي به قومه من العذاب والهلاك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الغابر" من مادة (الغبور) ومعناه الباقي، ومتى ما تحركتْ جماعة وبقي شخص في المكان فإنّه يدعى (غابراً) ولهذا السبب سمي التراب الباقي غباراً... والغبرة: الباقي من اللبن في ثدي الحيوان.
[444]
وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآيات "81 ـ 83 من سورة هود".
أجَلْ، لقد نجّى الله لوطاً والمؤمنين القلّة معه، فأمر أن يخرج بهم ليلا من تلك المدينة ـ أو القرية ـ فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم، فنزل عذاب الله في الغداة، فتزلزلت بهم الأرض وانهارت عليهم الأبنية والقصور الجميلة حتى اصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعاً في ديارهم، وقد عبّر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة، فقال: (ثمّ دمرنا الآخرين) ولم يكف ذلك بل (وأمطرنا عليهم مطراً) وأيّ مطر! إنّه وابل من احجار نزل على تلك الخرائب ليمحو أثرها من الانظار. (فساء مطر المنذرين)!...
والأمطار عادة تمنح الحياة، إلاّ أن هذا المطر كان موحشاً مهلكاً مخرّباً...
ويستفاد من الآية (82) من سورة هود أن قرى قوم لوط ومدنهم قُلب عاليها سافلها أوّلا، ثمّ أمطرت بالحجر النضيد المتراكم، ولعله كان إمطارهم بالحجارة لمحوا آثارهم، فلم يبق منها غير تل كبير من الأحجار والتراب بدل تلك المدن العامرة...
تُرى هل كانت هذه الأحجار قد حملت من الصحارى على أثر اعصار عظيم وسقطت على رؤوسهم؟ أو هي أحجار نزلت من السماء بأمر من الله عليهم؟!
أو كما يقول بعض المفسّرين كان هناك بركان أو جبل نار قد خمد لفترة، ثمّ انفجر بأمر الله فأمطرهم بالحجارة، ليس ذلك معلوماً على نحو الدقّة! إلاّ أن من المسلّم به أنّ هذه الأحجار ـ أو هذا المطر المهلك ـ لم يترك للحياة في تلك الأرض من أثر!
"وتفصيل هذا الموضوع ذكرناه في ذيل الآيات 81 ـ 83 من سورة هود، كما ذكرناه في الجزء الثامن مع "لطائف" مختلفة فلا بأس بمراجعتها"...
ومرّة أُخرى نواجه في نهاية هذه القصّة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في هذه السورة، في شأن خمسة أنبياء كرام آخرين، إذ يقول القرآن:
[445]
(إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين).
وأيّة آية أجلى من هذه الآية التي تعرفكم على هذه المسائل المهمّة والبناءة، دون أن تحتاجوا إلى تجربة شخصية! أجل إن تاريخ الماضين عبرة وآية للآتين، وليس تجربة، لأنّ التجربة ينبغي على الإِنسان أن يتحمل فيها خسائر ليحصل على نتائجها... إلاّ أننّا هنا نحصل على النتائج من خسائر الآخرين!.
(وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
وأية رحمة أعظم من أنّه لا يعاقب أقواماً فاسقين كقوم لوط فوراً، بل يمهلهم إمهالا كافياً لعلهم يهتدون، ويجددوا نظرهم في أعمالهم!...
وأية رحمة أعظم من أن لا يخلط عقابه "الأخضر باليابس" بل لو كان في ألفِ ألفِ(1) أُسرة غير صالحة أسرة واحدة صالحة، فإنه ينجيها منها وينزل العذاب على اُولئك!
وأية عزّة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديار الفاسقين قد دُمرت تدميراً ولم يبق منها أي أثر!
فالأرض التي كانت مهاداً لأمنهم أمرت بإقبارهم، والمطر الذي تحيا به الأرض والناس يكون مميتاً لهم!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكرنا آنفاً أن مصطلح ألف ألف هو التعبير العربي الصحيح وأن كلمة مليون ليست عربيّة بل هى غربية فتأمل.
[446]
الآيات
كَذَّبَ أَصْحـبُ الئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176) إذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(177) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (180)أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونوُاْ مِنَ الُْمخْسِرِينَ(181) وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182) وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ(183) وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاَْوَّلِينَ(184)
التّفسير
شعيب وأصحابُ الأيكة:
هذه هى القصّة السابعة، والحلقة الأخيرة من قصص الأنبياء الواردة في هذه السورة... وهي قصة "شعيب"(عليه السلام) وقومه المعاندين.
كان هذا النّبي يقطن في "مدين"، "وهي مدينة تقع جنوب الشامات".
و "أيكة" على وزن (ليلة) "قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين".
[447]
والآية (79) من سورة الحجر تدل على أن "أيكة" كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام.
تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين).
إنّهم لم يكذبوا نبيّهم شعيباً فحسب، بل كذبوا جميع الأنبياء، لأنّ دعوتهم واحدة... أو لأنّهم لم يصدقوا ويقبلوا بأيّ رسالة سماوية أبداً...
والأيكة معناها في الأصل محل مكتظ بالأشجار، وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من "مدين"، سمّيت بذلك لأن فيها أشجاراً كثيرة وماءً وظلالا!... والقرائن تشير إلى أنّهم كانوا منعّمين مترفين ذوي حياة مرفهة وثروة كثيرة، وربّما كانوا لهذه الأُمور غرقى الغرور والغفلة!...
ثمّ يتحدث القرآن إجمالا عن شعيب(عليه السلام) وعنهم فيقول: (إذ قال لهم شعيب ألا تتقون).
وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب(عليه السلام) انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر الأنبياء، وهي التقوى ومخافة الله التي تعدُّ أساس المناهج الإصلاحية والتغييرات الأخلاقية والإِجتماعية جمعاء...
والجدير بالذكر أن التعبير "أخوهم" الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط(عليهم السلام)، لم يُلاحظ هنا. ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن "شعيباً" كان من أهل مدين أصلا ـ وتربطه باهلها روابط نسبية، وليس كذلك مع اصحاب الأيكة... ولذلك نرى في سورة هود حين يشير القرآن إلى إرسال "شعيب" إلى قومه من أهل مدين يقول: (وإلى مدين أخاهم شعيباً) إلاّ أن الآية محل البحث لما كانت تتحدث عن أصحاب الأيكة، وشعيب(عليه السلام) لا تربطه رابطة نسبية بهم لم تذكر التعبير "أخاهم"...
ثمّ أضاف شعيب قائلا: (إنّي لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون)فطاعتكم
[448]
لي طاعة لله.
واعلموا أنّي أبتغي ثوابه ووجهه (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين).
وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر الأنبياء أُمَمهم، فهي متحدة المآل ومدروسة، إذ تدعو إلى التقوى، وتؤكّد على سابقة أمانة النّبي بين قومه، كما أنّها تؤكّد على أن الهدف من الدعوة إلى الله معنوي فحسب، وليس ورائها هدف مادي، ولا يطمع أيّ من الأنبياء بما في يد الآخرين، ليكون مثاراً للشكوك وذريعةً للمتذرعين!
و "شعيب" كسائر الأنبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامّة للتقوى وطاعة الله، إلى إصلاح انحرافاتهم الأخلاقية والإجتماعية وينتقدهم على هذه الإنحرافات، وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان الإضطراب الإقتصادي، والإستثمار والظلم الفاحش في الأثمان والسلع، والتطفيف في الكيل، لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها، وقال لهم: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس(1)المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
وفي هذه الآيات الأخيرة الثلاث يأمر شعيب هؤلاء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات موجزة، ويتصور بعض المفسّرين أن هذه العبارات بعضها يؤكّد بعضاً، إلاّ أن التدقيق فيها يدلّ على أن هذه الأوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة، أو بتعبير آخر: هي أربعة أوامر ونتيجة كليّة!...
ولكي يتّضح هذه الإختلاف أو التفاوت، فإنه يلزم الإلتفات إلى هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "القسطاس"، "على وزن نِسناس" معناه "ميزان"... قال بعضهم: أصل هذه الكلمة روميّة، وقال بعضهم. بل هي عربية، ويعتقد بعضهم أن القسطاس ميزان كبير، أما الميزان نفسه المستعمل في لغة العرب فهو الصغير، وقالوا: إن للقسطاس مؤشراً ولساناً فهو لذلك دقيق الوزن!...
[449]
الحقيقة... وهي أن قوم شعيب (أهل مدين وأصحاب الأيكة) كانوا مستقرين في منطقة حساسة تجارية، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام، أو العائدة من الشام إلى الحجاز، ومن مناطق أُخَر.
ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى أُمور كثيرة... وطالما يسيءُ أهل المنطقة الإستفادة من هذه الحالة، فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن... ويبيعون عليهم المستلزمات بأعلى ثمن "وينبغي الإلتفات إلى أن أكثر المعاملات في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضة سلعة بسلعة"...
وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرّفوها بأحسن التعاريف، وعندما يزنون لأنفسهم يستوفون الوزن، وإذا كالوا الآخرين أو وزنوا لهم لا يهتمون بالميزان الصحيح والإستيفاء السليم، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه الأُمور على كل حال ومضطر إليها، فلا بد له من أن يقبلها ويسكت عليها!...
وبغض النظر عن القوافل التي تمرّ عليهم، فإنّ أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤلاء المطففين، وليسوا بأحس حظاً من أصحاب القوافل أيضاً.
فقيمة المتاع سواءً كان الجنس يراد بيعهُ أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلاء. والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم، فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله!
ومع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً، نعود الآن إلى تعابير الآيات المختلفة... فتارة يقول شعيب لقومه: أوفوا الكيل، وفي مكان آخر يقول: زنوا بالقسطاس المستقيم، ونعرف أن تقويم الأجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن، فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتماماً خاصاً... لمزيد التأكيد على أن لا يبخسوا الناس
[450]
أشياءهم...
ثمّ إنّ التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى، فتارةً يكون الميزان صحيحاً إلاّ صاحبه لا يؤدي حقه، وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان... فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب، وقد جاءت الإشارات في الآيات الآنفة إلى جميع هذه الأُمور.
وبعد اتضاح هذين التعبيرين (وأوفوا الكيل ... وزنوا القسطاس) نأتي الى معنى (لا تبخسوا) المأخوذة من "البخس"، وهو في الأصل النقص ظلماً من حقوق الناس... وقد يأتي أحياناً بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين... فبناءً على ما تقدم، فإن الجملة الآنفة (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل، والتلاعب في المعاملات، وغمط حقوق الآخرين!
وأمّا جملة (ولا تكونوا من المخسرين) فمع ملاحظة أن "المخسر" هو من يوقع الآخر أو الشيء في الخسران... فمعناه واسع أيضاً، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سبباً للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة!
وهكذا فإنّ جميع ما ذُكر من الإستغلال وسوء الإِستفادة والظلم، والمخالفة في المعاملة والغش والإخسار، سواءاً كان ذلك في الكمية أو الكيفية، كله داخل في التعليمات آنفة الذكر...
وحيث أن الإضطراب الإقتصادي، أو الأزمة الإقتصادية، أساس لا ضطراب المجتمع، فإنّ شعيباً يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). فتجرّوا المجتمع الى هاوية الفساد والانحطاط، فعليكم أن تضعوا حدّاً لأي نوع من الإستثمار والعدوان وتضييع حقوق الآخرين.
وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالم في عصر شعيب فحسب،
[451]
بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان، وداعية إلى العدالة الإقتصادية!...
ثمّ إن "شعيباً" في آخر تعليماته ـ في هذا القسم ـ يدعوهم مرد اُخرى إلى تقوى الله فيقول: (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين).
فلستم أول قوم أو جماعة خُلقوا على هذه الأرض، فآباؤكم والأمم الاُخرى جاءوا وذهبوا، فلا تنسوا ماضيهم وما تقبلون عليه...
(الجبلة" مأخوذة من (الجبل) وهو معروف "ما ارتفع من الأرض كثيراً" ويسمى الطود أحياناً... فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة...
قال بعضهم: الجبلة مقدار عددها عشرة آلاف!
كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة الإنسانية، لأنّها لا تتغير، كما أن الجبل لا يتغيّر عادةً...
والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيباً يقول: إنّما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد، وأداء حقوق الناس ورعاية العدل، لأنّ ذلك موجود في داخل الفطرة الإنسانية منذ الخلق الأوّل، وأنا جئتكم لإحياء هذه الفطرة...
إلاّ أنّه ـ وللأسف ـ لم تؤثر كلمات هذا النّبي المشفق، فأجابوه بمنطق "مُرّ وفظ" سنقرؤه في الآيات المقبلة...
* * *
[452]
الآيات
قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185) وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَـذِبِينَ(186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(187) قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْم عَظِيم(189) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)
التّفسير
عاقبة الحمقى:
لما رأى قوم شعيب الظالمون ـ أنّهم لا يملكون دليلا ليواجهوا به منطقه المتين... ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم، رشقوه بسيل من التُهم والأكاذيب.
فالتهمة الأُولى هي ما يلصقها الجبابرة دائماً والمجرمون بالأنبياء، وهي
[453]
السحر فاتّهموه بها و (قالوا إنّما أنت من المسحّرين)(1) ولايُرى في كلامك ما هو منطقي!! وتظن أنّك بهذا الكلام تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في أموالنا كما نشاء!!
ثمّ ما الفارق بينك وبيننا لنتّبعك؟! ولا مزيّة لك علينا (وما أنت إلاّ بشر مثلنا وإن نظنُّك لمن الكاذبين).
وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض، إذ تارةً يدعونه (من الكاذبين) ورجلا انتهازياً، وتارةً يدعونه مجنوناً أو من المسحّرين، وكان كلامهم الأخير هو: إن كنت نبيّاً (فاسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين) حيث كنت تهددنا دائماً بهذا اللون من العذاب.
و "كِسَف" على وزن (فِرَق) جمع (كِسْفَة) على وزن (قطعة) ومعناها قطعة أيضاً والمراد من هذه "القطع من السماء" هي قطع الأحجار التي تهوي من السماء...
وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة، وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في أسوأ الصور.
إلاّ أن شعيباً(عليه السلام)، وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم عذاب الله، كان جوابه الوحيد لهم أن (قال ربّي أعلم بما تعملون)...
و يشير إلى أنّ الأمر خارج عن يدي، وأن إنزال العذاب وإسقاط الكسف من السماء غيرُ مخول بها ليطلب كل ذلك منّي... فالله يعرف أعمالكم ويعلم بها، وما أنتم أهل له، فمتى لم تنفع المواعظ وتمّت الحجّة اللازمة، فإنّ عذابه لا مرد له وسيقطع دابركم لا محالة!...
وهذا التعبير وأمثاله ممّا يردُ على لسان الأنبياء، وما نلاحظهُ في آيات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "المسحّر" كما أشرنا من قبل إليه، هو المسحور... أو الذي يقع عليه السحر من قبل السَحَرة، لينفذوا في عَقلِه ويبطلوا عمله!!
[454]
القرآن يدل على أنّهم كانوا يوكلون جميع الأُمور إلى الله، وإنّها بإذنه وأمره، ولم يدّعوا أنّهم قادرون على كل شيء، أو أنّهم يفعلون ما يشاءون!.
وعلى كل حال فإن عذاب الله أزف موعده ـ وكما يعبر القرآن عنه في الآية التالية قائلا: (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنه كان عذاب يوم عظيم).
"الظلة" في الأصل معناها القطعة من السحاب المظلّل: أي ذي الظل...
يقول أغلب المفسّرين في ذيل هذه الآية: إن حرّاً شديداً محرقاً حلّ في أرضهم سبعة أيّام، ولم يهب نسيم بارد مطلقاً، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد السبعة أيّام ـ وتحرك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم، واستظلّوا تحت السحاب من شدّة الحرّ.
وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل، واحرقتهم بنارها وزلزلت الأرض وهلكوا جميعاً.
ونعرف أن الصاعقة تنتج عن تلاقح القوى أو "الطاقة" الموجبة والسالبة، أو ما يعبر عنها بالشحنات الكهربائية وحين تتلاقح هذه الشحنات بين السحاب والأرض ينتج عنها صوت مرعب وشعلة موحشة، وقد تهتز الأرض عند وقوعها فيتزلزل محل سقوطها... وهكذا يتّضح أن اختلاف التعابير في آيات القرآن الواردة عن عذاب قوم شعيب، يعود إلى حقيقة واحدة! ففي سورة الأعراف جاء التعبير بالرجفة (الآية (91) وفي سورة هود جاء التعبير بالصيحة (الآية 94) أمّا في الآيات محل البحث فقد جاء التعبير بـ (عذاب يوم الظلة)...
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين "كالقرطبي والفخر الرازي وغيرهم" يحتمل أن أصحاب الأيكة وأهل مدين كانوا جماعتين أو طائفتين، وكل طائفة نزل عليهم عذاب خاص، إلاّ أنه مع ملاحظة هذه الآيات المتعلقة بهذا القسم ـ بدقة ـ يتجلّى أن هذا الإِحتمال غير وارد!...
وتُختتم القصّة هذه بما خُتمت القصص الست السابقة عن أنبياء الله الكرام، إذ
[455]
يقول القرآن: إن في حكاية أصحاب الايكة ودعوة نبيّهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم، وبالتالي نزول العذاب على هؤلاء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر (إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين).
ومع ذلك كله فإن الله رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم، فإذا تمادُوْا في الغي واستوجبوا عذاب الله، أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
أجل (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
* * *
بحوث
1 ـ الإنسجام التام في دَعَوات الأنبياء
في ختام قصص هؤلاء الأنبياء السبعة نجة أن هذه القصص تشكّلُ حلقة كاملة من حيث الدروس التربوية... وينبغي أن نلتفت إلى هذه "اللطيفة"(1) وهي أن قصص هؤلاء الأنبياء جميعاً جاءت في سور أُخَر من القرآن أيضاً. إلاّ أنها لم تُعرَض بهذا العرض بحيث نجد أن بداية دعوتهم منسجمة، كما أنّ نهاياتها منسجمة أيضاً.
ولوحظ في خمسة أقسام من هذه القِصص أن محتوى الدعوة هو تقوى الله، ثمّ الإشارة إلى أمانة النّبي، وعدم مطالبته قومه بالأجر على تبليغه إيّاهم... وبعد هذه المسائل تعالج المسائل الإجتماعية، والإنحرافات الأخلاقية، من قبل الأنبياء بلغة تنمّ عن الإشفاق والمحبة...
ثمّ يبيّن القرآن ردّ فعل الاُمم المنحرفة تجاه أنبيائهم، وأخيراً عاقبتهم الوخيمة، ويذكر عذاب كل منهم وكيفيته...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اللطيفة، ممّا لطف ودقّ وهي الشيء الخفي الذي يحتاج إلى دقة لإدراكه. (المصحح)
[456]
وفي نهاية كل من هذه القصص السبع يشير القرآن إلى أن في ذلك آية وأن أكثرهم لا يؤمنون...
ثمّ يؤكّد القرآن أيضاً في نهاية كل قصّة منها على قدرة الله (وعزته) ورحمته.
وهذا الإنسجام ـ قبل كل شيء ـ يدلُّ على تجلي مفهوم وحدة دعوات الأنبياء، بحيث كانوا ذوي منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة... وجميعهم كانوا معلمي مدارس الإنسانية... وبالرغم من أنّ محتوى هذه المدارس كان ينبغي أن يتغيّر بتقدم الزمن والمجتمع الإنساني، إلاّ أنّ الاُصول والنتائج تبقى على حالها.
ثمّ بعد هذا كله، فإن هذه القصص كانت تسرّي عن قلب النّبي والمؤمنين القلّة في ذلك العصر (والمؤمنون في كل عصر) وتسلّي خاطرهم، لئلا يحزنوا وييأسوا من كثرة المشركين والأعداء الضالين، وأن يثقوا ويتوقعوا العاقبة لهم... وأن يكون أملهم بذلك كبيراً...
كما أن ذلك إنذار للجبابرة والمستكبرين والظالين ـ في كل عصر وزمان ـ لئلا يتصوروا بأنّ عذاب الله بعيد عنهم... العذاب بأنواعه كالزلزلة والصاعقة، والطوفان والبركان... وانشقاق الأرض والخسف، والأمطار الغزيرة التي تعقبها السيول المدمّرة، والإنسان المعاصر ضعيف أمامها كضعف الإنسان الغابر... لأن الإنسان المعاصر ـ بالرغم من جميع قواه وتقدمه الصناعي عاجز أمام الطوفان والصاعقة والزلزلة... ويبقى ضعيفاً لا حول له ولا طول!...
كل ذلك من أجل أن الهدف من قصص القرآن هو تكامل الناس وبلوغهم الرشد، والهدف تنوير القلوب ومعالجة الهوى بالتعقّل... وأخيراً فإنّ الهدف هو مواجهة الظلم والإنحراف...
[457]
2 ـ التقوى، بداية دعوة الأنبياء جميعاً:
ممّا يلفت النظر أن قسماً مهماً من قصص هؤلاء الأنبياء ـ الوارد ذكرهم في سورة الشعراء ـ ذكر في سورة هود والأعراف، إلاّ أن في بداية ذكرهم وبيان سيرتهم في اقوامهم الدعوة إلى وحدانية الله ـ عادةً ـ ويُبتدأ في تلك السور عند ذكرهم. بجملة (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره)!
إلاّ أنّه في هذه السورة (الشعراء) ـ كما لاحظنا ـ كانت بداية دعوتهم قومهم (ألا تتقون)... والحق أنّهما تعودان إلى نتيجة واحدة... لأنّه إذا لم تُوجد في الإنسان أدنى مراتب التقوى، وهي طلب الحق، فإنه لا يؤثر فيه شيء، لا الدعوة إلى التوحيد ولا غيرها... لذا فإنّنا نقرأ في بداية سورة البقرة قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).
وبالطبع فإنّ التقوى لها مراحل ـ أو مراتب ـ وكل مرتبة هي درجة للرقي إلى المرحلة التالية أو المرتبة الأُخرى...
كما نلاحظ اختلافاً آخر بين هذه السورة وسورتي الأعراف وهود، ففي سورتي الأعراف وهود كانت دعوة الأنبياء تتركز على نبذ الأصنام، أمّا المسائل الأُخَر فكانت تحت الشعاع، إلاّ أنه في سورة الشعراء هذه تتركز الدعوة على مكافحة الإنحرافات الأخلاقية والإجتماعية، كالمفاخرة وطلب الإستعلاء، والإسراف، والإنحراف الجنسي، والإستثمار والتطفيف. إلخ... وهذا الأمر يكشف بأن تكرار هذه القصص في القرآن له حساب خاص، ولكلٍّ هدف معين يعرف من السياق!
3 ـ الانحرافات الاخلاقية
ممّا يلفت النظر أنّ الاقوام المذكورين في هذه السورة، بالإضافة إلى انحرافهم عن أصل التوحيد نحو الشرك وعبادة الاوثان، الذي يعدّ أصلاً مشتركاً
[458]
بينهم، فإنهم كانوا متورطين بانحرافات أخلاقية واجتماعية خاصّة "وكل قوم لهم انحرافات خاصّة"...
فبعضهم كانوا أهل مفاخرة وتكبر ... كقوم هود(عليه السلام).
وبعضهم كانوا أهل إسراف وترف كقوم صالح(عليه السلام).
وبعضهم كانوا مبتلين بالإنحراف الجنسي كقوم لوط(عليه السلام).
وبعضهم كانوا عبدة المال بحيث كانوا يتلاعبون بالمعاملات كقوم شعيب(عليه السلام).
وبعضهم كانوا مغرورين بالثروة كقوم نوح(عليه السلام).
إلاّ أن عقابهم كان متشابهاً إلى حدٍّ ما، وكانت نهايتهم الهلاك...
فبعضهم أهلكوا بالصاعقة والزلزلة كقوم شعيب وقوم لوط وقوم صالح وقوم هود.
وبعضهم أهلكوا بالطوفان كقوم نوح(عليه السلام)
وفي الحقيقة، فإن الأرض التي هي مهد للدعة والإطمئنان، وكانوا يمرحون عليها، أُمرت بإهلاكهم!...
والماء والهواء الذين هما سببا حياتهم نفذا الامر بإماتتهم!
وما أعجب أن تكون حياة الإنسان في قلب الموت، وموته في قلب الحياة، وهو مع كل ذلك غافل مغرور!
* * *
[459]
الآيات
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الُّروحُ الاَْمِينُ (193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194) بِلِسَان عَرَبِىٍّ مُّبِين (195)وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاَْوَّلِينَ(196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَـؤُاْ بَنِى إِسْرءِيلَ(197)
التّفسير
عظمة القرآن في كُتُبِ "السابقين".(1)
بعد بيان سبع قصص عن الأنبياء السابقين، والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم، يعود القرآن مرة أخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة، بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلام الإلهي المبين، إذ يقول: (وإنّه لتنزيل ربّ العالمين).
وأساساً فإن بيان جوانب مختلفة عن سير الأنبياء السابقين بهذه الدقة والظرافة، والخو من أي نوع من الخرافات والأساطير الكاذبة، وفي محيط مليء بالأساطير والخرافات، ومن قِبَلِ إنسان لا يعرف القراءة والكتابة، أو لم يسبق له
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة "السابقين" نعت ومنعوته محذوف وتقديره الأنبياء (المصحح).
[460]
أن تعلمهما... كل ذلك بنفسه دليل على أن هذا الكتاب تنزيل من ربّ العالمين، وهذا نفسه دليل على إعجاز القرآن!!
لذلك تضيف الآية التالية قائلةً: (نزل به الروح الأمين).
ولو كان القرآن لم يُنزله ملك الوحي "الروح الأمين من قِبَلِ الله" لم يكن بهذا الإشراق والصفاء والخلو من الخرافات والأساطير والأباطيل...
وممّا يلفت النظر أن ملك الوحي وصف بوصفين في الآية: الأوّل أنّه الروح، والوصف الثّاني أنّه الأمين...
فالروح هي أساس الحياة، والأمانة، هي شرط أصيل في الهداية والقيادة!...
أجل، إن هذا الروح الأمين نزل بالقرآن (على قلبك لتكون من المنذرين).(1)
فالهدف هو أن تنذر الناس، وأن تحذرهم من مغبة الإنحراف عن التوحيد، ليحذروا من سوء العاقبة... إن الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجرّد شرفاً فكرياً ولملء الفراغ، بل إيجاد الإحساس بالمسؤولية واليقظة، والهدف هو التربية وبناء شخصية الإنسان!...
ولئلا تبقى حجّة لأحد ولا عذر، فإنّ القرآن أُنزل (بلسان عربيّ مبين)...
فهذا القرآن نازل بلسان عربي فصيح، خال من الإبهام، للإنذار والإيقاظ، ولا سيما أنه نزل في محيط يتذرع أهله بالحجج الواهية، نزل بليغاً واضحاً...
هذا اللسان العربي هو أكمل الألسنة واللغات وأغناها أدباً ومقاماً...
والجدير بالذكر أن أحد معاني "عربي" هو ذو الفصاحة والبلاغة ـ بقطع النظر عن كيفية اللسان، وكما يقول الراغب في المفردات: العربي: الفصيح البيّن من الكلام...
وفي هذه الصورة فإنه ليس المعوّل على لسان العرب، بل الاساس صراحة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ واضح ـ هنا ـ أن المراد من القلب هو روح النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لا القلب الذي يعدّ مضخّة للدم... وانتخاب هذا التعبير إشارة إلى أنّك يا رسول الله استوعبت القرآن بروحك وقلبك، وهذه المعجزة السماوية مقرّها قلبك.
[461]
القرآن ووضوح مفاهيمه، والآيات التالية تؤية هذا المعنى، كما جاء في الآية (44) من سورة فصلت (ولو جعلناه قرءاناً أعجميّاً لقالوا لولا فصلت آياته).
فالمراد من الأعجمي هنا هو االكلام غير الفصيح!...
والآية التالية تشير إلى دليل آخر من دلائل حقانية القرآن فتقول: (وإنه لفي زُبرِ الأولين).(1)
وخاصّة أن أوصاف هذا النّبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد، جاءت في توراة موسى(عليه السلام) بحيث أن علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك، حتى قيل أن إيمان قبيلتي الأوس والخزرج بالنّبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كان على أثر ما كان يتوقعة علماء اليهود عن ظهور هذا النّبي العظيم، ونزول هذا الكتاب السماوي الكريم..
لذا فإنّ القرآن يضيف هنا قائلا: (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).
وواضح أنه مع وجود اُولئك العلماء من بني إسرائيل في ذلك المحيط المليء بالمشركين، لم يكن من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه "جزافاً" واعتباطاً..
لأنّه كان سيردّ عليه من كل حدب وصوب بالإنكار، وهذا بنفسه دليل على أن هذا الموضوع كان جليّاً في ذلك المحيط، بحيث لم يبق مجال للإنكار حين نزول الآيات ـ محل البحث ـ
ونقرأ في الآية (89) من سورة البقرة أيضاً: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به).
وكل هذا شاهد جليّ على صدق آيات القرآن وحقانية دعوته!...
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الزبر" جمع: زبور ومعناه الكتاب، وهو في الأصل من مادة (زبر) على وزن (أسر) اي كتابة...
[462]
الآيات
وَلَوْ نَزَّلْنَـهُ عَلَى بَعْضِ الاَْعْجَمِينَ(198) فَقَرَأَهُ، عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنينَ(199) كَذَلِكَ سَلَكْنَـهُ فِى قُلُوبِ الُْمجْرِمِينَ (200) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ(201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(202) فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ(203)
التّفسير
لو نُزّل القرآن على الاعاجم...
في هذه الآيات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع الإحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها، ويستكمل البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين، فيقول: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين).
قلنا سابقاً أن كلمة "عربي" قد يراد منها من ينتمي إلى العرب، وقد تطلق على الكلام الفصيح أيضاً. و"عجمي" في مقابل العربي كذلك له معنيان، فقد يُراد منه من ينتمي إلى غير العرب، وقد يراد منه الكلام غير الفصيح، وكلا المعنيين في الآية الآنفة محتمل، إلاّ أن الاحتمال الاكثر هو أن المقصود غير العرب، كما يبدو.
بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القومية كانوا متعصبين الى درجة
[463]
بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به ورغم أنّ القرآن نزل على عربي شريف من أسرة كريمة، في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب السماوية السابقة... وشهد بذلك علماء بني إسرائيل، ومع ذلك كلّه لم يؤمن به الكثير من العرب، فكيف إذا كان نبيّهم ليس فيه أية صفة من الصفات المذكورة!...
ثمّ تضيف الآية لمزيد التأكيد: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين).
في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم، وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخلاقة... وبمحتوى بشرت به الكتب السماوية السابقة... والخلاصة... إننا نسلكه بجميع هذه الأوصاف في قلوب المجرمين ليكون مقبولا سهلا مطبوعاً إلاّ أن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله... فمثله كمثل الطعام الطيب النافع الذي تلفظه المعدة السقيمة.
(التعبير "سلكناه" من مادة (سلوك) ومعناه العبور من الطريق، فيرد فيه من طرف ويخرج من آخر)
ولذلك تقول الآية: (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم) أي إن هؤلاء المجرمين المعاندين، يظلون على حالهم حتى نزول العذاب...
واحتمل بعض المفسّرين في تفسير الآية أن المراد من (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) هو أننا أدخلنا العناد واللجاجة والعصبية وعدم التأثير في قلوب المجرمين، بسبب ذنوبهم وجرمهم.
وطبقاً لهذا المعنى فالآية محل البحث تشبه الآية (ختم الله على قلوبهم)(1).
إلاّ أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع الآيات السابقة واللاحقة، لذلك فقد اختاره أغلب المفسّرين.(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة البقرة، الآية 7.
2 ـ في عدد من الآيات المتقدمة وردت خمسة ضمائر مفردة في الجمل التالية: "نزلناه"، "قرأه"، "ما كانوا به"، "سلكناه"، "لا يؤمنون به"، وهي تعود على القرآن طبقاً للتفسير الأوّل، وطبقاً للتفسير الثّاني فإن بعضها يعود على القرآن، وبعضها على العناد من قبل المشركين، وهذا الأمر مع عدم وجود القرينة مشكل!
[464]
أجل، إنّهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب (فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون).(1)
لا شك أن المراد من هذا العذاب الذي يأخذهم بغتةً، هو عذاب الدنيا والبلاء المهلك وعقاب الإستئصال!...
لذا فإنّ القرآن يحكي عن حالهم فيقول: إنّهم في هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم، ويندمون على أفعالهم، ويتملكهم الخوف من المصير المرعب، ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات والايمان بالرسالة الالهية: (فيقولوا هل نحن منظرون)...
* * *
بحوث
1 ـ العصبية القومية والقبلية الشديدة!...
لا شك أن كل إنسان يرتبط بأرض أو قبيلة أو قومية فإنّه يعشقها، وهذه العلاقة بالأرض أو القبيلة، ليست غير معيبة فحسب، بل هي عامل بنّاء لأبناء المجتمع، إلاّ أن لهذا الأمر حدوداً، فلو تجاوز الحدود فإنه سينقلب إلى عامل مخرب، وربّما إلى عامل مفجع.
والمراد من التعصب أو العصبية القومية أو القبلية المذمومة والسلبية، هو الإفراط في التعصب أو العصبية...
"التعصب" و "العصبية" في الأصل من مادة (عصب) ومعناه واضح، وهو الغضروف الذي يربط المفاصل، ثمّ أطلق التعصب والعصبية على كل ارتباط... إلاّ أن هذا اللفظ أو هذين اللفظين يستعملان عادة في المفهوم الإفراطي المذموم.
إن الدفاع المفرط عن القوم أو القبيلة أو الأرض والوطن، كان مصدراً لكثير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أن جملة "فيأتيهم" منصوبة ومعطوفة على "حتى يروا"، وينبغي بيان معناها بهذه العلاقة.
[465]
من الحروب على طول التاريخ، وعاملا على انتقال الخرافات والتقاليد السيئة على أنها آداب وسنن في قبيلة ما أو اُمّة ما! إلى اُمم أُخَر!
هذا الدفاع أو الإنتماء المتطرف، قد يبلغ حداً بحيث يرى أسوأ أفراد قبيلته في نظره جميلا، وأحسن أفراد القبيلة الأُخرى في نظره سيئاً... وكذلك الحال بالنسبة إلى السنن والآداب السيئة والحسنة... وبتعبير آخر: إنّ التعصب القومي يلقي ستاراً من الجهل والأنانية على أفكار الإنسان وعقله، ويلغي التقييم الصحيح!
هذه الحالة من العصبية كانت لها صورة أكثر حدة بين بعض الاُمم، ومنهم العرب المعروفون بالتعصب.
وقد قرأنا في الآيات الآنفة أنّه لو أنزل الله القرآن على غير العرب لما كانوا به مؤمنين.
وقد ورد في الرّوايات الإسلامية التحذير من التعصب، على أنّه خُلق مذموم، حتى أنّنا نقرأ حديثاً عن رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: "من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية".(1)
ونقرأ حديثاً آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: "من تعصب أو تُعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه".(2)
ويستفاد من الرّوايات الإسلامية أيضاً، أن إبليس أوّل من تعصب...
يقول الإمام علي(عليه السلام) في بعض خطبه ـ المعروفة بالقاصعة ـ في مجال التعصب كلاماً بليغاً مؤثراً، ننقل جانباً منه هنا:
"أمّا إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، الجزء الثّاني (باب العصبية ص 32).
2 ـ المصدر السابق.
[466]
وأنت طيني).(1)
ثمّ يضيف الإمام علي في خطبته هذه قائلا: "فإن كان لا بدّ من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأُمور".(2)
ويتّضح من هذا الحديث ـ بجلاء أن التعصب والدفاع المستميت عن بعض الحقائق والايجابيات ليس غير مذموماً فحسب، بل بامكانه أن يسدّ فراغاً روحياً قد ينشأ من ترك بعض العادات الجاهلية المقيتة.
لذلك نقرأ عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) حين سئل عن التعصب قوله: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم".(3)
والتعبير الآخر عن العصبية الوارد في بعض الروايات أو الآيات هو الحمية (حمية الجاهلية).
وبالرغم من أن الأحاديث في هذا المجال كثيرة، إلاّ أننا نختم بحثنا بحديثين منها:
يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) "إنّ الله يعذب ستةً بست ـ العرب بالعصبية، والدهاقنة بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهل).(4)
وكان رسول الله يتعوذ في كل يوم من ست "من الشكِّ والشرك والحميّة والغضب والبغي والحسد".(5)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغه، الخطبة القاصعة، رقمها 192.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ اُصول الكافى، ج 2، باب العصبية، ص 233.
4 ـ البحار، ج 73، ص 289.
5 ـ المصدر نفسه.
[467]
2 ـ طلب الرجوع إلى الدنيا...
من لحظة الموت تبدأ حسرات المجرمين وآهاتهم، وتشتعل في قلوبهم رغبة الرجوع إلى الدنيا، ويصرخون ويدعون ولات حين مناص...
وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة في هذا الصدد، أكثرها بساطة هذه الآية محل البحث (هل نحن مُنظرون).
أمّا في الآية (27) من سورة الأنعام فنقرأ: (يا ليتنا نُردّ ولا نكذب بآيات ربّنا).
أمّا في الآية (66) سورة الأحزاب فتقول منها: (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا).
ونقرأ في الآيتين 99 ـ 100 من سورة المؤمنون: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت).
وهذه الحالة تستمر حتى في صوره وقوف المجرمين على حافة النار، كما في الآية 27 من سورة الأنعام، إذ تقول: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نُردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)...
إلاّ أن هذه العودة لن تتحقق، لأنّها سنة الله سبحانه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، فلو قطعت ثمرة غير ناضجة من الشجرة ثمّ عادت، ولو سقط الجنين من بطن اُمّه قبل اكتماله، ثمّ عاد الى الرحم... لا مكن أن يعود هؤلاء...
فبناءً على ذلك فإن الطريق الوحيد المعقول، هو التوقّي من حسرة ما بعد الموت بالتوبة من الذنب، والأعمال الصالحة، ما دامت الفرصة سانحة وإلاّ فلا ينفع الندم بعد فوات الأوان!...
3 ـ فضل العجم:
جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الإِمام الصادق ذيل الآيات محل البحث
[468]
أنه قال: "لو نزل القرآن على العجم ما آمنت به العرب... وقد نزل على العرب فآمنت به العجم، فهذه فضيلة العجم".(1)
"وفي هذا الصدد كانت لنا إشارات ذيل الآية 54 من سورة المائدة".
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الجزء الرّابع من تفسير نور الثقلين، ص 165.
[469]
الآيات
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(204) أَفَرَءَيْتُ إِن مَّتَّعْنَـهُمْ سِنِينَ(205) ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ(206) مَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ(207) وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ(208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَـلِمِينَ(209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيـطِينُ(210) وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)
التّفسير
تهمة اُخرى للقرآن:
حيث أن الآيات المتقدمة ختمت بجملة (هل نحن منظرون) التي يقولُها المجرمون عندما يأتيهم العذاب بغتة وهم علا أبواب الهلاك، طالبين الإِمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من الأعمال. فالآيات محل البحث تردُّ عليهم عن طريقين:
الأوّل قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون).
إشارة إلى أنّه طالما استهزأتم أيّها المجرمون، وسخرتم من أنبيائكم، وطلبتم منهم نزول العذاب بسرعة... لكن حين أصبحتم في قبضة العذاب تطلبون الإمهال
[470]
لتعوضوا عمّا فات من الأعمال، وكنتم ترون الأمر لهواً ولعباً في يوم، لكن في اليوم الآخر وجدتموه جديّاً ـ
وعلى كل حال فإنّ سنة الله أن لا يعذب قوماً حتى يُتمّ عليهم الحجّة البالغة... لكن اذا تمّت الحجة، وفسح لهم المجال، ولم يثوبوا الى رشدهم أنزل عذابه فلا ينفع الإبتهال، والرجوع نحو ساحة ذي الجلال.
والآخر أنّه (أفرأيت إن متّعناهم سنين ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كان يمتّعون).
فعلى فرض أنّهم أُمهلوا ثانية (ولن يُمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم) وعلى فرض أن يُعمَّروا سنين طوالا في هذه الدنيا ويغرقوا في بحر الغفلة والغرور، الا يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب الماديّة فحسب. وهل يعوضون عما فاتهم؟! كلاّ أبداً.. فمن المسلّم أنّهم لا يعوضون عمّا فاتهم. وهل تغني المواهب المادية عنهم شيئاً عند نزول العذاب؟ وهل تحلَّ مشكلتهم أو تحدث تغييراً في عاقبتهم؟!
كما يَرِدُ هذا الإحتمال في تفسير الآيات الآنفة، وهو أنّهم لا يطلبون الإمهال للرجوع نحو الحق والتعويض عما فات، بل يطلبون الإمهال لمزيد التمتع من النعم الزائلة في هذه الدنيا، إلاّ أن هذا التمتع لا يغني عنهم شيئاً، ولا بد أن يرحلوا ـ إن عاجلا وإن آجلا ـ من هذه الدار الفانية إلى تلك الدار الباقية، وأن يواجهوا أعمالهم هناك...
وهنا يثار سؤالٌ ـ وهو أنّه مع الإلتفات إلى أن الله بمستقبل كل قوم وجماعة، فما الحاجة إلى الإمهال؟
ثمّ أن الاُمم السالفة كذبت أنبياءها واحداً بعد الآخر، وبمقتضى قوله تعالى: (وما كان أكثرهم مؤمنين) الوارد في نهاية تلك القصص إن أكثرهم لم يؤمنوا، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين؟!
فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك سنة الله (وما أهلكنا من قرية إلاّ
[471]
لها منذرون) فنرسل الأنبياء لهم لإتمام الحجّة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من غفلتهم (ذكرى).(1)
ولو كنا نأخذهم بدون إتمام الحجة، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين ـ من قِبَلِ الله ـ لكان ظلماً منّا (وما كنّا ظالمين).
فمن الظلم أن نُهلك غير الظالمين، أو نهلك الظالمين دون إتمام الحجّة عليهم...
وما ورد في هذه الآيات هو في الحقيقة بيان للقاعدة العقلية المعروفة بـ "قاعدة قبح العقاب بلا بيان" وشبيه لهذه الآية ما جاء في الآية (15) من سورة الإسراء: (وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا).
أجل.. إنّ العقاب بدون البيان الكافي قبيح، كما أنه ظلم، والله العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك أبداً، وهذا ما يعبر عنه في علم الأصول بـ (أصل البراءة) ومعناه أن كل حكم لم يقم عليه الدليل، فإنّه يُنفى بواسطة هذا الأصل "لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية 57 من سورة الإسراء"..
ثمّ يرد القرآن على إحدى الذرائع أو التُهم الباطلة من قِبَلِ اعداء القرآن وهي أن النّبي مرتبط ببعض الجن، وهو يعلمه هذه الآيات، والحال أن القرآن يؤكّد أن هذه الآيات هي من "تنزيل ربّ العالمين".
فيضيف هنا قائلا: (وما تنزلت به الشياطين).
ثمّ يبيّن جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها الأعداء فيقول: (وما ينبغي لهم).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ للمفسرين في محل (ذكرى) من الإعراب أربعة إحتمالات ... الأوّل: أنه مفعول لأجله والعامل "منذرون" والتّفسير المذكور آنفاً في المتن هو على هذا الأساس.
الثّاني: أنّه مفعول مطلق لكلمة "منذرون" لأنّ معناهما واحد أو هما متقاربان في المعنى.
الثّالث: أنّه حال من الضمير في منذرون.
الرّابع: أنّها خبر لمبتداء محذوف تقديره (هذه ذكرى).
[472]
أي أن محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو الى الحق والطهارة والعدل والتقوى، ونفي كل أنواع الشرك، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه. فالشياطين لا يصدر منهم إلاّ الشر والفساد، وهذا كتاب خير وصلاح، فالدقّة في محتواه تكشف عن أصالته.
ثمّ إن الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك (وما يستطيعون).
فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين بالشياطين (أو على الأقل كان المشركون يُدّعون بأنّهم مرتبطون بالشياطين) أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله، وهذا العجز أثبت أن القرآن فوق قدرتهم ومستوى بلاغتهم وأفكارهم!...
ومضافاً إلى كل ذلك، فإن الكهنة أنفسهم كانوا يعترفون أنّهم بعد ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انقطعت علاقتهم بالشياطين الذين كانوا يأتونهم بأخبار السماء و (إنهم عن السمع لمعزوُلون).
ويستفاد من سائر آيات القرآن أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من الملائكة، فينقلون ما يدور بين الملائكة من مطالب إلى أوليائهم، إلاّ أنّه بظهور نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وولادته انقطع استراق السمع تماماً، وزال الإرتباط الخبري بين الشياطين وأوليائهم...
وهذا الأمر كان يعلم به المشركون أنفسهم، وعلى فرض أن المشركين كانوا لا يعلمون، فإن القرآن أخبرهم بذلك.(1)
ولذا فقد جعله القرآن دليلا في الآيات الأنفة لدحض ما يتقوله الأعداء...
وهكذا فقد أجاب القرآن على هذا الإِتهام من ثلاثة طرق:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإيضاح في منع الشياطين عن استراق السمع يراجع الجزء الأوّل من سيرة ابن هشام، ص 217 فما بعد.
[473]
1 ـ عدم التناسب بين محتوى القرآن وإلقاء الشياطين.
2 ـ عدم قدرة الشياطين على ذلك.
3 ـ منع الشياطين من إستراق السمع.
* * *
[474]
الآيات
فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217) الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـجِدِينَ(219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(220)
التّفسير
وأنذر عشيرتك الأقربين...
تعقيباً على الأبحاث الواردة في الآيات السابقة في شأن مواقف المشركين من الإسلام والقرآن... فإن الله سبحانه يبيّن لنبيّهِ ـ في الآيات محل البحث ـ منهجه وخطّته في خمسة أوامر، في مواجهة المشركين...
وقبل كل شيء فإن الله يدعو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإعتقاد التام بالتوحيد; التوحيد الذي هو أساس دعوات الأنبياء جميعاً... يقول سبحانه: (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين)...
ومع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المقطوع به أنّه ينادي إلى التوحيد ولا يمكن أن
[475]
يُتصور انحرافه عن هذا الأصل... إلاّ أنّ أهمية هذه المسألة كانت بحيث أن يكون شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قبل كل شيء ـ مخاطباً بها. ليعرف الآخرون موقفهم... ثمّ إن بناء الآخرين يبدأ من بناء شخصية الإنسان نفسهِ...
ثمّ يأمره الله في مرحلة اُخرى أن ينطلق إلى مدى أرحب في دعوته قائلا: (وأنذر عشيرتك الأقربين).(1)
ولا شكَّ أنّه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع، لابدّ من الإبتداء من الحلقات الأدنى والأصغر، فما أحسن أن يبدأ النّبي دعوته من أقربائه وأرحامه، لأنّهم يعرفون سوابقه النزيهة أكثر من سواهم كما أن علائق القربى والمودّة تستدعي الاصغاء إلى كلامه أكثر من غيرهم، وأن يكونوا أبعد من سواهم من حيثُ الحسدُ والحقدُ والمخاصمة!
إضافة إلى ذلك فإنّ هذا الأمر يدلّ على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس لديه أية مداهنة ولا مساومة مع أحد، ليستثني أقرباءه المشركين عن دعوته إلى التوحيد والحق والعدل!...
وعندما نزلت هذه الآية، قام النّبي بما ينبغي عليه من أجل تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وسيأتي تفصيل ذلك كله في حقل البحوث بإذن الله...
أمّا المرحلة الثّالثة، فإنّ الله يوصي النّبي في دائرة أوسع فيقول: عليك أن تعامل اتباعك باللطف والمحبة: (واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين).
وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف، كما أن الطيور تخفض أجنحتها لأفراخها محبّة منها لها، وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانةً من الحوادث المحتملة، ولتحفظها من التشتت والتفرّق! فكذلك الأمر بالنسبة للنّبي إذ أُمرَ أن يخفض جناحه للمؤمنين الصادقين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ العشيرة مشتقّة من "العشرة" العدد المعروف [10] وحيث أن العشرة تعتبر في نفسها عدداً كاملا، فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة، ولعل المعاشرة مأخوذة من هذا المعنى، لأنّها تجعل الناس بصورة مجموعة كاملة.
[476]
وهذا التعبير الرائع ذو المعنى الغزير يبيّن دقائق مختلفة في شأن محبة المؤمنين، ويمكن إدراكها بأدنى التفاتة!...
وذكر هذه الجملة ـ ضمناً ـ بعد مسألة الإنذار يكشف عن هذه الحقيقة، وهي إذا كان التعويل على الخشونة في بعض الموارد بمقتضى الضرورات التربوية، فإنّه وبلا فاصلة يأتي التعويل على المحبّة والعاطفة ليتوفر منهما نمط مناسب...
ثمّ تأتي المرحلة الرّابعة وهي أن الاعداء لم يقبلو دعوتك وعصوا أوامرك. فلا تبتئس ولا تحزن: (فإن عصوك فقل إنّي بريء ممّا تعملون)... ليعرفوا موقفك منهم!
والظاهر أنّ الضمير في عصوك ـ يعود على عشيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الأقربين... أيْ إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق، وواصلوا شركهم وعنادهم، فعليك أن تبيّن موقفك منهم، وهذا التوقع الذي احتمله القرآن حدث فعلا، كما سنذكر ذلك في البحوث القادمة، إذ امتنع الجميع عن قبول دعوة النّبي ما عدا علياً(عليه السلام)... فبعضهم لاذ بالصمت، وبعضهم أبدى مخالفته عن طريق الإستهزاء والسخرية...
وأخيراً فالأمر الالهي الخامس للنّبي لإكمال مناهجه السابقة، هو: (وتوكّل على العزيز الرحيم).
فلا تدع لعنادهم مجالا للتأثير على عزيمتك... ولا لقلّة الأعوان والانصار طريقاً لتوهين ارادتك، فلست وحدك... وسندك وملاذك هو الله القادر العزيز الذي لا يقهر، والرحيم الذي لاحدّ لرحمته...
الله الذي سمعت وصفه في ختام قصص الأنبياء بالعزيز الرحيم!...
الله الذي بقدرته أحبط ظلم فرعون وغرور نمرود، وتمرّد قوم نوح، وأنانية قوم هود، واتباع الشهوات لقوم لوط. وكذلك انقذ أنبياءه ورسله الذين كانوا قلّة، وشملهم برحمته الواسعة.
ذلك الله (الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين).
[477]
أجل (إنه هو السميع العليم)...
وهكذا تذكر الآيات ثلاث صفات لله بعد وصفه بالعزيز الرحيم وكلّ منها يمنح الأمل ويشدّ من عزم النّبي على مواصلة طريقةِ، إذ أن الله يرى جهوده وأتعابه وحركاته وسكناتهِ، وقيامه وسجوده وركعاته!...
ذلك الله الذي يسمع صوته.
الله الذي يعلم حاجاته وطلباته حاجته...
أجل، فعلى هذا الإله توكل، وأركن إليه أبداً.
* * *
بحثان
1 ـ تفسير (وتقلبك في الساجدين).
بين المفسّرين أقوال مختلفة في معنى قوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين).
وظاهر الآية هو ما ذكرناه آنفاً، أن الله يرى قيامك وانتقالك وحركتك بين الساجدين.
وهذا القيام يمكن أن يكون قياماً للصلاة، أو القيام للعبادة من النوم، أو القيام للصلاة فرادى، وفي مقام تقلبك في الساجدين... الذي يشير إلى صلاة الجماعة.
"التقلب" معناه الحركة والإنتقال من حال إلى حال، وهذا التعبير لعله إشارة إلى سجود النبيِّ بين الساجدين في أثناء الصلاة، أو إلى حركة النّبي وتنقله بين أصحابه وهم مشغولون بالعبادة، وكان يتابع أحوالهم ويسأل عنهم...
وفي المجموع فإنّ هذا التعبير إشارة إلى أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيءٌ من حالاتك وسعيك، سواءً كانت شخصيّة فردية، أم كانت مع المؤمنين في صورة جماعية، لتدبير اُمور العباد ولنشر مبدأ الحق مع الالتفات الى اَن الأفعال الواردة
[478]
في الآية مضارعة وفيها معنى الحال والإستقبال".
وهنا تفسيران آخران ذكرا في معنى الآية، إلاّ أنّهما لا ينسجمان مع ظاهرها، ولعلهما من بطون الآية:
الأوّل: أنّ المراد من الآية رؤية النّبي ونظره إلى المصلين والساجدين خلفه، لأنّه كما يرى من أمامه يرى من خلفه كما ورد في الحديث: "لا ترفعوا قبلي ولا تضعوا قبلي، فإنّي أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي"(1) ثمّ تلا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الآية آنفة الذكر.
الثّاني: أنّ المراد منه أنّ انتقال في أصلاب النبيّين من لدن آدم حتى أبيه عبد الله، كلّه تحت نظر الله سبحانه، أي حين تنتقل نطفتك المباركة من نبيّ موحد ساجد إلى ساجد آخر فإن الله عليم بذلك...
وقد جاء في تفسير علي بن ابراهيم عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير (وتقلبك في الساجدين) ما يشير إلى هذا المعنى، قال(عليه السلام): "في أصلاب النبيين صلوات الله عليهم".(2)
وفي تفسير مجمع البيان في توضيح هذه الجملة جاء عن الإِمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) ما يلي: "في أصلاب النبيين نبيّ بعد نبيّ، حتى أخرجه من صلب أبيه، عن نكاح غير سفاح من لدن آدم".(3)
وبالطبع فإنّه بقطع النظر عن الآيات آنفة الذكر وتفسيراتها، فإن الدلائل المتوفرة تدلّ على أن والد النّبي وأجداده لم يكونوا مشركين أبداً، وولدوا في محيط منزّه عن الشرك والدنس "لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية، 74 من سورة الأنعام" إلاّ أن التفاسير الآنفة هي من بطون الآية...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 69.
3 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.
[479]
2 ـ إنذار الأقربين "حديث يوم الدار"
وفقاً لما ورد في التواريخ الإسلامية، أُمر النّبي في السنة الثّالثة بدعوته الأقربين من عشيرته، لأنّ دعوته حتى ذلك الحين كانت مخفية "سريّة"، وكان الذين دخلوا في الإِسلام عدداً قليلا، لذلك حين نزلت الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) والآية (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين)(1) أمر النّبي أن يجعل دعوته علنية، وبدأ ذلك بدعوة أهله وأقربائه(2).
وأمّا كيفية إبلاغه وإنذاره إيّاهم، فهو بإجمال أنّه دعا النبيّ "عشيرته" إلى بيت عمّه أبي طالب، وكانوا في ذلك اليوم حوالي أربعين رجلا، وكان ممن حضر هذه الدعوة بعض أعمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي طالب والحمزة وأبو لهب والعباس، وبعد أن تناولوا الطعام، وأراد النّبي أن يؤدي ما عليه، تكلم أبولهب كلمات أحبط بها خطة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا فقد دعاهم النّبي في اليوم التالي أيضاً.
وبعد أن تناولوا الطعام، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): "يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم بخير الدنيا والآخرة... وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟" فأحجم القوم عنها غير علي، وكان أصغرهم (سناً)، فقال: "يا نبيّ الله، أنا أكون وزيرك عليه"، فأخذ رسول الله برقبته، وقال: "إنّ هذا وصييّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا" فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لإبنك وتطيع.(3)
وقد نقل هذا الحديث كثير من أهل السنة كابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، والثعلبي، كما نقله "ابن الأثير" في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الحج، الآية 94.
2 ـ راجع سيرة ابن هشام، ج 1، ص 280.
3 ـ المراجعات، ص 130.
[480]
الجزء الثّاني من كتابه "الكامل"، وأبو الفداء في الجزء الأوّل من تأريخه، وجماعة آخرون.(1)
وهذا الحديث يوضع لنا كيف كان النّبي وحيداً حينذاك، وكيف ردّوا عليه دعوته بالسخرية والإستهزاء، وكيف وقف علي(عليه السلام) إلى جانب النّبي في وحدته ناصراً ومعيناً...
وفي حديث آخر أن النّبي دعا قريشاً واحداً واحداً وحذرهم من النار فقال: "يا بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار".
وكان يدعو أحياناً بهذا الخطاب بني عبد شمس، وبني عبد مناف، وبني عبد المطلب، وبني هاشم فيقول: "انقذوا أنفسكم من النار".(2) فلست قادراً على الدفاع عنكم في حال كفركم.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإيضاح يراجع كتاب المراجعات، ص 130 فما بعد وكتاب إحقاق الحق، ج 4، ص 62.
2 ـ تفسير القرطبي، ج 7، ص 4859 ذيل الآيات محل البحث مع شيء من الإختصار.
[481]
الآيات
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَيَـطِينُ(221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاك أَثِيم(222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـذِبوُنَ(223) وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ(224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَيَفْعَلُونَ(226) إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ وَ ذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ(227)
التّفسير
النّبي ليس شاعراً:
هذه الآيات ـ محل البحث ـ هي آخر الآيات من سورة الشعراء، تعود ثانية لتردّ على الإتهام السابق ـ من قبل الأعداء ـ بأن القرآن من إلقاء الشياطين، تردهم ببيان أخاذ بليغ مفحم، فتقول: (هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم) أي الكاذب المذنب، حيث يلقون اليهم مايسمعونه مع اضافة
[482]
أكاذيب كثيرة عليه (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون).(1)
وملخص الكلام أن ما تلقيه الشياطين له علائم واضحة، ويمكن معرفته بعلائمه أيضاً. فالشيطان موجود مؤذ ومخرب، وما يلقيه يجري في مسير الفساد والتخريب، وأتباعه هم الكذابون المجرمون، وليس شيء من هذه الأُمور ينطبق على القرآن، ولا على مبلّغه، وليس فيها أي شبه بهما.
والناس في ذلك العصر ـ وذلك المحيط ـ كانوا يعرفون النّبي محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)واُسلوبه وطريقته، في صدقه وأمانته وصلاحه في جميع المجالات... ومحتوى القرآن ليس فيه سوى العدل والحق والإصلاح، فكيف يمكن أن تتهموه بأنّه من إلقاء الشياطين؟!
والمراد من (الأفاك الأثيم) هو الكاهن المرتبط بالشياطين فتارةً يقوم الشياطين باستراق السمع لأحاديث الملائكة، ثمّ بعد مزجه بأباطيل كثيرة ينقلونه الى الكهنة. وهم بدورهم يضيفون عليه عشرات الأكاذيب وينقلونها إلى الناس...
وبعد نزول الوحي خاصّة، ومنع الشياطين من الصعود إلى السماء واستراق السمع. كان ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة خفنَةً من الأكاذيب والأراجيف...
فمع هذه الحال كيف يمكن أن يقاس محتوى القرآن بما تلقيه الشياطين... وأن يقاس النّبي الصادق الأمين بحفنة من الكهنة الأفاكين الكاذبين!...
وهناك تفاسير مختلفة لجملة (يلقون السمع):
فمنها: أن الضمير في (يلقون) عائد على الشياطين و "السمع" المراد منه المسموعات، أي أن الشياطين يلقون مسموعاتهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون "ويضيفون على ما يلقيه الشياطين أكاذيب كثيرة!"...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "أفّاك" من: "الإفك". والإفك هو الكذب الكبير. فمعنى الأفلاك من يكذب كثيراً أكاذيب كبيرة... و "أثيم" من مادة "إثم" على وزن (إسم) ومعناه في الأصل: العمل الذي يؤخر صاحبه عن الثواب، ويطلق عادة على الذنب، فالأثيم هو المذنب...
[483]
ومنها: إن الضمير في الفعل يعود على الأفاكين، إذ أنّهم كانوا يلقون ـ ما يسمعون من الشياطين ـ إلى عامّة الناس، إلاّ أن التّفسير الأوّل أصح ظاهراً(1)!
وفي الآية الرّابعة ـ من الآيات محل البحث ـ يردّ القرآن على اتهام آخر كان الكفار يرمون به النّبي فيدعونه شاعراً، كما في الآية (5) من سورة الأنبياء (بل هو شاعر) وربما دعوه بالشاعر المجنون، كما جاء في الآية (36) من سورة الصافات (ويقولون أإنا لتاركوا ألهتنا لشاعر مجنون).
فالقرآن يردهم هنا ببيان بليغ منطقي، بأن منهج النّبي يختلف عن منهج الشعراء. فالشعراء يتحركون في عالم من الخيال، وهو يتحرك على أرض الواقع والواقعيات، لتنظيم العالم الإنساني...
والشعراء يبحثون عن العيش واللذة والغزل (كما هي الحال بالنسبة لشعراء ذلك العصر في الحجاز خاصّة حيث يظهر ذلك من أشعارهم بوضوح).
ولذا فإن أتباعهم هم الضالون: (والشعراء يتبعهم الغاوون).
ثمّ يضيف القرآن على الجملة آنفة الذكر معقّباً (ألم تر أنّهم في كل واد يهيمون).(2)
فهم غارقون في أخيلتهم وتشبيهاتهم الشعرية، حتى أن القوافي تجرهم إلى هذا الإتجاه أو ذاك، ويهيمون معها في كل واد...
وهم غالباً ليسوا أصحاب منطق واستدلال، وأشعارهم تنبع ممّا تهيج به عواطفهم وقرائحهم... وهذه العواطف تسوقهم في كل آن من واد لآخر!...
فحين يرضون عن أحد يمدحونه ويرفعونه إلى أوج السماء، وإن كان حقه أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لأن (يلقون) في مثل هذه الموارد معناها نقل الأخبار والمطالب، كما جاء في الآية (53) من سورة الحج (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) وجملة (أكثرهم كاذبون) تتناسب مع الشياطين، لأن الأفّاكين كلهم كاذبون لا أكثرهم (فلاحظوا بدقة).
2 ـ "يهيمون" فعل مضارع من "الهيام"، ومعناه المشي بلا هدف...
[484]
يكون في اسفل السافلين، ويُلبسونه ثوب الملاك الجميل وإن كان شيطاناً لعيناً...
ومتى سخطوا على أحد هجوه هجواً مراً وأنزلوه في شعرهم الى أسفل السافلين، وإن كان موجوداً سماوّياً.
تُرى هل يُشبه محتوى القرآن الدقيق المنطلقات الشعرية أو الفكرية للشعراء وخاصّة شعراء ذلك العصر، الذين لم تكن منطلقاتهم إلاّ وصف الخمر والجمال والعشق والمدح لقبائلهم وهجو أعدائهم...
ثمّ إن الشعراء عادةً هم رجال خطابة وجماهير لا أبطال قتال، وكذلك أصحاب أقوال لا أعمال، لذلك فإنّ الآية التالية تضيف فتقول عنهم: (وأنّهم يقولون ما لا يفعلون).
غير أن النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) رجل عمل من قرنه إلى قدمه، وقد اعترف بعزمه الراسخ واستقامته العجيبة حتى أعداؤه، فأين الشاعر من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وممّا تقدم من الأوصاف التي ذكرها القرآن عن الشعراء، يمكن أن يقال بأن القرآن وصفهم بثلاث علامات:
الأُولى: أنّهم يتبعهم الغاوون الضالون، ويفرّون من الواقع، ويلجاؤون إلى الخيال.
والثّانية: أنّهم رجال لا هدف لهم، ومتقلّبون فكريّاً، وواقعون تحت تأثير العواطف!
والثّالثة: أنّهم يقولون مالا يفعلون... وحتى في المجال الواقعي لا يطبقون كلامهم على أنفسهم...
إلاّ أنه لا شيء من هذه الأوصاف يصدق على النّبي، فهو في الطرف المقابل لها تماماً!
و لمّا كان بين الشعراء أناس مخلصون هادفون وأهل أعمال لا أقوال، ودعاة نحو الحق والصدق "وإن كان مثل هؤلاء الشعراء قليلا يومئذ". فالقرآن من أجل
[485]
ألاّ يضيع حق هؤلاء الشعراء المؤمنين المخلصين الصادقين، استثناهم عن بقية الشعراء، فقال عنهم: (إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
هؤلاء المستثنون من الشعراء لم يكن هدفهم الشعر فحسب، بل يهدفون في شعرهم أهدافاً الهية وانسانية، ولا يغرقون في الأشعار فيغفلون عن ذكر الله، بل كما يقول القرآن: (وذكروا الله كثيراً).
وأشعارهم تذكر الناس بالله أيضاً... وإذا ما ظُلموا كان شعرهم انتصاراً للحق (وانتصروا من بعدما ظلموا).
فإذا هجوا جماعة هجوهم من أجل الحق ودفاعاً عن الحق الذي يهجوه اُولئك فيذبون عنه...
وهكذا فقد بيّن القرآن أربع صفات للشعراء الهادفين، وهي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر الله كثيراً، والإنتصار للحق من بعدما ظلموا، مستعينين بشعرهم في الذب عنه...
وحيث أن معظم آيات هذه السورة هو للتسلية عن قلب النّبي، والتسرية عنه، وعن المؤمنين القلّة في ذلك اليوم في قبال كثرة الأعداء، وحيث أن كثيراً من آيات هذه السورة في مقام الدفاع عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ضد التهم الموجهة إليه من قبل أعدائه، وغير اللائقة به ـ فإن السورة تُختتم بجملة ذات معنى غزير، وفيها تهديد لأولئك الأعداء الألدّاء، إذ تقول: (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون).
وبالرغم من أن بعض المفسّرين أرادوا أن يحصروا هذا الإنقلاب والعاقبة المرة للظالمين بنار جهنمَّ... إلاّ أنه لا دليل على تقييد ذلك وتحديده بها... بل لعله إشارة إلى هزائمهم المتتابعة والمتلاحقة في المعارك الإسلامية، كمعركة بدر وغيرها، وما أصابهم من ضعف وذلة في دنياهم، فمفهوم هذه الآية عام، بالإضافة إلى ذلك عذابهم وانقلابهم إلى النار في آخر المطاف.
* * *
[486]
بحوث
1 ـ لِمَ كانوا يتهمون النّبي بالشعر
إن واحدةً من التهم التي كانت توجه للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي الشعر، وأنّه شاعر، فالآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت رداً على هذا الإتهام أيضاً...
لقد كانوا يعرفون جيداً أن القرآن ليس له أقل شَبَه بالشعر، لا من حيث الشكل والظاهر ولا من حيث المحتوى، فالشعر فيه وزن وقافية وأبيات مشطرة، وليس كذلك القرآن. والشعر فيه تخيّل وتشبيهات كثيرة وغزل ممّا ليس في القرآن أيضاً.
إلاّ أنّهم حيث كانوا يرون أثر القرآن الكبير في جذب أفكار الناس وإيقاعه الخاص في قلوبهم، فلإلقاء الستار على هذا النور الإلهي، سموه "سحراً" تارةً، لأنّه كان ذا نفوذ وتأثير "خفي" في الأفكار. ودعوة "شعراً" تارة أُخرى لأنّه كان يهزّ القلوب ويأخذها معه!
لقد أرادوا أن يذموا القرآن فمدحوه بهذا الكلام، وكان كلامهم سنداً ودليلا حياً على نفوذ القرآن الخارق للعادة في أفكار الناس وفي قلوبهم.
يقول القران في تنزيه النّبي عن الشعر: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيّاً وبحق القول على الكافرين)(1).
2 ـ الشعر والشاعرية في الإِسلام
لا شك أن الذوق الشعري والفن الشاعري كسائر رؤوس الأموال، له قيمته في صورة ما لو استعمل استعمالا صحيحاً وله أثر إيجابي... إلاّ أنّه اذا صار وسيلة تخريب وهدم للبناء العقائدي والأخلاقي في المجتمع، فلا قيمة له، بل يعتبر وسيلة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يس، الآية 69.
[487]
ضارة عندئذ...
فالشعر ينبغي أن يؤدي دورة في وجود الإنسان ليكون ذا قيمة كبرى، وأن لا يسوق الناس نحو الخيال أو الضياع أو الإشغال دون جدوى، لأنّه سيكون وسيلة للضرر والإِضرار.
ويتّضح بهذا الجواب على السؤال التالي:
ماذا يفهم من الآيات المتقدمة، هل الشاعريّة أمرٌ حسن أو غير حسن، وهل يوافق الإسلام الشعر أو يخالفه؟!
فالجواب على ذلك أن تقويم(1) الإسلام في هذا المجال قائم على الأهداف والوجوه والنتائج... وكما قال الإمام علي(عليه السلام) حين كان بعض أصحابه يتكلمون على مائدة الإفطار في إحدى ليالي شهر رمضان، وجرى كلامهم في الشعر والشعراء، فخاطبهم أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قائلا: "اعلموا أن ملاك أمركم الدين، وعصمتكم التقوى، وزينتكم الأدب وحصون أعراضكم الحلم".(2)
فكلام الإمام علي(عليه السلام) إشارة إلى أن الشعر وسيلة... ومعيار تقويمه الهدف الذي قيل من أجله!...
إلاّ أنّه ـ وللأسف ـ استغلّ الشعر على امتداد تاريخ آداب الاُمم والملل لأغراض سيئة، وتلوّث هذا الذوق الإلهي اللطيف، فسقط في الوحل بسبب البيئة الفاسدة، وبلغ الشعر أحياناً درجة من الإنحطاط بحيث صار من أهم عوامل الفساد والتخريب، ولا سيما في العصر الجاهلي الذي كان عصر انحطاط الفكر العربي وأخلاقِه!. فكان الشعر والشراب والغارات بعضها إلى جنب بعض ممّا مميزات ذلك العصر!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "التقويم" له معان متعددة منها تقويم الأود أي إقامة الإعوجاج، وتقويم الشيء إعطاء قيمته أو معرفتها، وهو هنا بهذا المعنى. وما يجري على السنة الكتاب وأقلامهم بلفظ (تقييم) خطأ مشهور وغير صحيح (المصحح).
2 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ج 20، ص 461.
[488]
ولكن من يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة، وهي أن الأشعار البنّاءة والهادفة على امتداد التاريخ، خلقت طاقات كثيرة وحماسة قصوى، وربّما عبأت اُمة مغلوبة بوجه أعدائها، فشدتها على العدوّ فهزمته وانتصرت "بهذه الأشعار".
وفي فترة نضوج الثورة الإسلامية رأينا بأم أعيننا كيف أثرت الأشعار الحماسية في نفوس الناس، فحركتهم وأثارتهم حتى جرت دماء الثورة في مفاصلهم، وجعلتهم صفاً واحداً وزلزلت قصور الأعداء وهزمتهم...
كما نسأل: من يستطيع أن ينكر أن شعراً أخلاقياً ينفذ في أعماق الإنسان ويغيّر محتواه لدرجةً لا يبلغها كتاب علمي غزيز المحتوى...
أجل، إن الشعر كما قال عنه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) "إن من الشعر لحكمة وإنّ من البيان لسحراً".(1)
وللكلمات الموزونة وإيقاعها ـ أحياناً ـ مضاء السيف ونفوذ السهم في قلب العدو...
ففي بعض أحاديث الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في مثل هذه الأشعار ـ أنه قال: "... والذي نفس محمد بيده فكأنّما تنضحونهم بالنبل".(2)
أجل... قال النّبي ذلك حين كان العدو يهجو المسلمين ليضعف معنوياتهم وروحيّاتهم، فأمر النّبي شعراء المسلمين أن يردّوا عليهم بالهجاء المقذع، لذمهم وتقوية روحيّة المسلمين.
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن أحد الشعراء المدافعين عن الإسلام "أهجُهُمْ فإنّ جبرئيل مَعَكَ".(3)
وخاصّة حين سأل كعب بن مالك "الشاعر المؤمنُ" الذي كان ينشد قصائد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل حديث الرّسول هذا جماعة كثيرة من علماء الشيعة والسنة في كتبهم "يراجع كتاب الغدير، ج 2، ص 9".
2 ـ مسند أحمد، ج 2، ص 260.
3 ـ مسند أحمد، ج 4،: ص 299 .
[489]
في تقوية الإِسلام ـ وكانت الأيات قد نزلت في ذم الشعراء ـ فقال يا رسول الله: ما أصنع؟! فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) "إنّ المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه".(1)
وقد ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وصف كثير في الشعر والشعراء الهادفين والدعاء لهم وإيصال الجوائز إليهم، بحيث يطول الكلام في ذلك "إن أردنا نقل الروايات عنهم".
إلاّ أنّه من المؤسف أنه على طول التاريخ أسقط جماعة هذه المنحة الإلهية والذوق اللطيف، الذي هو من أجمل مظاهر الخلق، فأنزلوه من أوْجُه إلى الحضيض، وكذبوا فيه كثيراً حتى قيل في المثل المعروف: "أعذبه أكذبه".
وربّما سخّروه في خدمة الجبابرة والظالمين وتملّقوا لهم، رجاء صلة محتقرة رخيصة...
أو أنّهم أفرطوا في وصف الشراب والفجور والفسق أحياناً، إلى درجة يخجل القلم عن ذكرها!
وربّما أشعلوا الحروب بنيران أشعارهم، وجروا الناس إلى القتل والغارات، ولطخوا الأرض بدماء الأبرياء.
إلاّ أن في الطرف الآخر ـ وفي قبالهم ـ الشعراء الذين آمنوا بمبدئهم، واشتدت همتهم، فسخّروا هذه القريحة الملكوتية في سبيل حرية الناس والتقوى، ومواجهة اللصوص والمستكبرين والجبابرة، فبلغوا أوج الفخر!
وربّما دافعوا عن الحق فاشتروا بكل بيت من أبيات شعرهم بيتاً في الجنّة.(2)
ربما وقفوا في وجوه حكام الظلم والجور كبني أمية وبني العباس الذين كانوا يحبسون الأنفاس في الصدور، فتُجلى القلوب بقصيدة كقصيدة دعبل "مدارس
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي، ج 7، ص 869.
2 ـ جاء عن الإمام الصادق أنّه قال: "من قال فينا بيْتَ شعر بنى الله له بيتاً في الجنة"، "الغدير، ج 2، ص 3".
[490]
آيات خلت من تلاوة" وأماطوا عن الحقّ لثام الباطل، فكأنّما كان يجري على لسانهم روح القدس.(1)
وربّما أنشدوا الأشعار لإنهاض المضطهدين الذين كانوا يحسّون في أنفسهم الإحتقار والإزدراء من قبل الظلمة... فهاجوهم وأثاروهم بتلك الأشعار...
والقرآن يقول في شأن هؤلاء: (إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله وانتصروا من بعدما ظُلموا).
ممّا يلفت النظر أن هؤلاء الشعراء قد يتركون شعراً خالداً مؤثراً بليغاً... حتى أن أئمّة الإسلام الكرام ـ كما تقول بعض الرّوايات ـ أوصوا شيعتهم وأصحابهم بحفظ أشعارهم كما ورد ذلك في شأن "أشعار العبدي". إذ ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "يا معشر الشيعة، علموا أولادكم شعر العبدي، فإنّه على دين الله".(2)
ونختتم هذا البحث بقصيدة للعبدي، وهي من قصائده المعروفة، في شأن خلافة الإمام علي(عليه السلام) وصيّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال:
وقالوا رسول الله ما اختار بعده إماماً ولكنّا لأنفسنا اخترنا
أقمنا إماماً إن أقام على الهدى أطعنا وإن ضل الهداية قوّمنا
فقلنا: إذاً أنتم إمام إمامكم بحمد من الرحمن تهتم ولا تهنا
ولكننا اخترنا الذي اختار ربّنا لنا يوم خم ما اعتدينا ولا حلنا
ونحن على نور من الله واضح فيا ربّ زدنا منك نوراً وثبتنا(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: "ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد بروح القدس" "عيون أخبار الرضا"...
2 ـ نور الثقلين، ج 4، ص 71.
3 ـ الكنى والألقاب، ج 2، ص 455.
[491]
3 ـ ذِكْرُ الله:
قرأنا في الآيات ـ آنفة الذكر ـ أن من خصائص الشعراء الهادفين هو أنّهم يذكرون الله كثيراً...
ونقرأ في بعض الأحاديث المرويّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه يقول: قول الله عزوجل: (وذكروا الله كثيراً) ما هذا الذكر الكثير؟ قال: "من سبح تسبيح فاطمة الزهراء(عليها السلام) فقد ذكر الله الذكر الكثير".(1)
كما جاء عنه(عليه السلام) أنه قال: من أشدّ ماقرض الله على خلقه ذكر الله كثيراً... ثمّ قال(عليه السلام): "لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، وإن كان منه، ولكن ذكر الله عِنْدَما أحلّ وحرّم! فإن كان طاعةً عمل بها، وإن كان معصيةً تركها!".(2)
ربّنا، أملأ قلوبنا بذكرك، لنختار ما يرضيك، ونترك ما يسخطك...
ربّنا، اجعل ألسنتنا بليغة، وأقلامنا سيّالة، وقلوبنا مليئة بالإخلاص، لنستعمل ذلك في سبيلك وابتغاء رضوانك، آمين ربّ العالمين.
* * *
إنتهاء سورة الشعراء
ونهاية المجلد الحادي عشر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 73.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 73، نقلا عن اصول الكافي.
[492]