الكتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى : 538هـ)
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير ]
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك ، وقدّم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شرّه . وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها ، قال عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 547 ) " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهم " ومنه .
( 548 ) " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمارّين به في معتكفه وعنده بعض نسائه - "هي فلانة" اتقاء للتهمة " ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 549 ) " لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره - والله يغفر له - حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني . ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال : ارجع إلى ربك . ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث ، لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر ، إن كان لحليماً ذا أناة " وإنما قال : سل الملك عن حال النسوة ولم يقل سله أن يفتش عن شأنهن ، لأنّ السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه ، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجدّ في التفتيش عن حقيقة القصة وفصّ الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل . وقرىء : "النُسوة" بضم النون ومن كرمه وحسن أدبه : أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب ، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهنّ { إِنَّ رَبّى } إنّ الله تعالى : { بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } أراد أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله ، لبعد غوره . أو استشهد بعلم الله على أنهنّ كدنه ، وأنه بريء مما قرف به ، أو أراد الوعيد لهنّ ، أي : هو عليم بكيدهنّ فمجازيهنّ عليه { مَا خَطْبُكُنَّ } ما شأنكنّ { إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ } هل وجدتنّ منه ميلا إليكنّ { قُلْنَ حاش لِلَّهِ } تعجباً من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها { قَالَتِ امرأت العزيز الأن حصحص الحق } أي ثبت واستقرّ وقرىء : "حُصْحِص" على البناء للمفعول ، وهو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة . قال :
فَحَصْحَصَ في صُمِّ الصَّفَا ثَفَنَاتِه ... وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوْءَةً ثُمَّ صَمَّمَا
ولا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة والنزاهة واعترافهنّ على أنفسهنّ بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به ، لأنهنّ خصومه . وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحق وهو على الباطل ، لم يبق لأحد مقال . وقالت المجبرة والحشوية نحن قد بقي لنا مقال ، ولا بدّ لنا من أن ندق في فروة من ثبتت نزاهته .
(3/180)

ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
{ ذلك لِيَعْلَمَ } من كلام يوسف ، أي ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز { أَنّى لَمْ أَخُنْهُ } بظهر الغيب في حرمته . ومحل { بالغيب } الحال من الفاعل أو المفعول ، على معنى : وأنا غائب عنه خفي عن عينه أو وهو غائب عني خفي عن عيني . ويجوز أن يكون ظرفاً ، أي بمكان الغيب ، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة { و } ليعلم { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين } لا ينفذه ولا يسدّده ، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها ، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه ، ويجوز أن يكون تأكيداً لأمانته ، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده ولا سدّده .
(3/181)

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه ، لئلا يكون لها مزكياً وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( 550 ) " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وليبين أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده ، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } من الزلل ، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها . ولا يخلو ، إمّا أن يريد في هذه الحادثة ، لما ذكرنا من الهمّ الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم . وإمّا أن يريد به عموم الأحوال { إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء } أراد الجنس ، أي إنّ هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة . ويجوز أن يكون { مَا رَحِمَ } في معنى الزمن ، أي : إلا وقت رحمة ربي ، يعني أنها أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان ، إلا وقت العصمة . ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً ، أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة ، كقوله : { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً } [ يس : 43 ] وقيل معناه : ذلك ليعلم أني لم أخنه لأنّ المعصية خيانة . وقيل : هو من كلام امرأة العزيز ، أي ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه وما أبريء نفسي مع ذلك من الخيانة ، فإني قد خنته حين قرفته وقلت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن وأودعته السجن - تريد الاعتذار مما كان منها - إنّ كل نفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي : إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف { إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت . فإن قلت : كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟ قلت : كفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلامه ونحوه قوله : { قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } [ الشعراء : 35 ] ثم قال : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ الشعراء : 35 ] وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم . وعن ابن جريج : هذا من تقديم القرآن وتأخيره ، ذهب إلى أن { ذلك لِيَعْلَمَ } [ يوسف : 52 ] متصل بقوله : { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } [ يوسف : 50 ] ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة ، فزعموا أن يوسف حين قال : { أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] قال له جبريل : ولا حين هممت بها ، وقالت له امرأة العزيز : ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف ، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله .
(3/182)

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
يقال استخلصه واستخصه ، إذا جعله خالصاً لنفسه وخاصاً به { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } وشاهد منه ما لم يحتسب { قَالَ } أيها الصديق { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ } ذو مكانة ومنزلة { أَمِينٌ } مؤتمن على كل شيء . روي أنّ الرسول جاءه فقال : أجب الملك ، فخرج من السجن ودعا لأهله : اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات . وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ، ولبس ثياباً جدداً فلما دخل على الملك قال : اللهمّ إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية ، فقال : ما هذا اللسان؟ قال لسان آبائي ، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً ، فكلمه بها فأجابه بجميعها ، فتعجب منه وقال : أيها الصدّيق ، إني أحب أن أسمع رؤياي منك . فقال : رأيت بقرات فوصف لونهنّ وأحوالهنّ ومكان خروجهنّ ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً ، وقال له : من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء ، فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك .
(3/183)

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{ اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض } ولني خزائن أرضك { إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ } أمين أحفظ ما تستحفظنيه ، عالم بوجوه التصرف ، وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أنّ أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 551 ) " رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، ولكنه أخر ذلك سنة " فإن قلت : كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟ قلت : روى مجاهد أنه كان قد أسلم : وعن قتادة . هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر ، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه . وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق . فله أن يستظهر به . وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع له والمطيع .
(3/184)

وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{ وكذلك } ومثل ذلك التمكين الظاهر { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } في أرض مصر . روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء } قرىء بالنون والياء ، أي : كل مكان أراد أن يتخذه منزلاً ومتبوّأ له ، لم يمنع منه لا ستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه . روي : أنّ الملك توّجه ، وختمه بخاتمه ، ورداه بسيفه . ووضع له سريراً من ذهب مكللا بالدرّ والياقوت . روي أنه قال له : أمّا السرير فأشدّ به ملكك . وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك ، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي . فقال : قد وضعته إجلالا لك وإقراراً بفضلك . فجلس على السرير ودانت له الملوك ، وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعده ، فزوّجه الملك امرأته زليخا ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت؟ فوجدها عذراء ، فولدت له ولدين : إفراثيم وميشا ، وأقام العدل بمصر ، وأحبته الرجال والنساء ، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ، ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً ، فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال الملك كيف رأيت صنع الله بي فيما خوَّلني فما ترى قال الرأي رأيك : قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ، ورددت عليهم أملاكهم ، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير ، تقسيطاً بين الناس . وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر ، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين { بِرَحْمَتِنَا } بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم { مَّن نَّشَاء } من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أن نأجرهم في الدنيا .
(3/185)

وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{ ولأَجْرُ الأخرة خَيْرٌ } لهم . قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ، وتلا هذه الآية .
(3/186)

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
لم يعرفوه لطول العهد ومفارقته إياهم في سنّ الحداثة ، ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر ، مشرياً بدراهم معدودة ، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم ، ولأنّ الملك مما يبدّل الزيّ ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف . وقيل : رأوه على زيّ فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج ، فما خطر ببالهم أنه هو . وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب ، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج ، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك ، ولأنّ همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم ، فكان يتأمّل ويتفطن . وعن الحسن : ما عرفهم حتى تعرّفوا له .
(3/187)

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } أي أصلحهم بعدّتهم وهي عدّة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاؤا له من الميرة . وقرىء : "بجهازهم" بكسر الجيم { قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ } لا بد من مقدمة سبقت له معهم ، حتى اجتر القول هذه المسئلة . روي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : أخبروني من أنتم وما شأنكم؟ فإني أنكركم . قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة ، أصابنا الجهد فجئنا نمتار ، فقال؛ لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟ قالوا : معاذ الله ، نحن إخوة بنو أب واحد ، وهو شيخ صدّيق نبي من الأنبياء ، اسمه يعقوب . قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر ، فهلك منا واحد . قال : فكم أنتم ههنا؟ قالوا : عشرة . قال : فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به من الهالك . قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأنّ الذي تقولون حق؟ قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا . قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم ، وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون - وكان أحسنهم رأيا في يوسف - فخلفوه عنده ، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم { وَلاَ تَقْرَبُونِ } فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون داخلاً في حكم الجزاء مجزوماً ، عطفاً على محل قوله : { فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ } كأنه قيل : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا ، وأن يكون بمعنى النهي .
(3/188)

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
{ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ } سنخادعه عنه ، وسنجتهد ونحتال حتى ننتزعه من يده { وَإِنَّا لفاعلون } وإنا لقادرون على ذلك لا نتعانى به ، أو وإنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى .
(3/189)

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{ لِفِتْيَانِهِ } وقرىء : "لفتيانه" وهما جمع فتى ، كإخوة وإخوان في أخ ، و "فعلة" للقلة . و "فعلان" للكثرة ، أي لغلمانه الكيالين { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } لعلهم يعرفون حق ردّها وحق التكرم بإعطاء البدلين { إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ } وفرغوا ظروفهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا ، وكانت بضاعتهم النعال والأدم . وقيل : تخوّف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به . وقيل : لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً ، وقيل : علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها . وقيل : معنى { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعلهم يردّونها .
(3/190)

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{ مُنِعَ مِنَّا الكيل } يريدون قول يوسف فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ، لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل { نَكْتَلْ } نرفع المانع من الكيل ، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه . وقرىء : "يكتل" بمعنى يكتل أخوناً ، فينضم اكتياله إلى اكتيالنا . أو يكن سبباً للاكتيال فإن امتناعه بسببه .
(3/191)

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ } يريد أنكم قلتم في يوسف { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } [ يوسف : 12 63 ] كما تقولونه في أخيه ، ثم خنتم بضمانكم ، فما يؤمنني من مثل ذلك . ثم قال { فالله خَيْرٌ حافظا } فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم . و { حافظا } تمييز ، كقولك : هو خيرهم رجلاً ، ولله درّه فارساً . ويجوز أن يكون حالاً وقرىء : "حفظاً" وقرأ الأعمش : "فالله خير حافظ" . وقرأ أبو هريرة : "خير الحافظين" { وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين } فأرجو أن ينعم عليّ بحفظه ولا يجمع عليّ مصيبتين .
(3/192)

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وقرىء : "ردت إلينا" بالكسر ، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء ، كما في : قيل وبيع ، وحكى قطرب ضرب زيد . على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد { مَا نَبْغِى } للنفي ، أي : ما نبغي في القول ، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه ، وكانوا قالوا له : إنا قدمنا على خير رجل ، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته . أو ما نبتغي شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان . أو على الاستفهام ، بمعنى أي شيء نطلب وراء هذا؟ وفي قراءة ابن مسعود "ما تبغي" ، بالتاء على مخاطبة يعقوب ، معناه : أي شيء تطلب وراء هذا من الإحسان ، أو من الشاهد على صدقنا؟ وقيل : معناه ما نريد منك بضاعة أخرى . وقوله { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } جملة مستأنفة موضحة لقوله : { مَا نَبْغِى } والجمل بعدها معطوفة عليها ، على معنى : إن بضاعتنا ردّت إلينا ، فنستظهر بها { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } في رجوعنا إلى الملك { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } فما يصيبه شيء مما تخافه ، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أوساق أباعرنا ، فأي شيء نبتغي وراء هذه المباغي التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا : وإنما قالوا : { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط فإن قلت : هذا إذا فسرت البغي بالطلب ، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول ، كانت الجملة الأولى وهي قوله : { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } بياناً لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم ، فما تصنع بالجمل البواقي؟ قلت : أعطفها على قوله : { مَا نَبْغِى } على معنى : لا نبغي فيما نقول { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } ونفعل كيت وكيت . ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ ، كقولك : وينبغي أن نمير أهلنا ، كما تقول : سعيت في حاجة فلان ، واجتهدت في تحصيل غرضه . ويجب أن أسعى ، وينبغي لي أن لا أقصر . ويجوز أن يراد : ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا ، ثم قالوا : هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع . بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه ، وهو وجه حسن واضح { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا ، يعنون : ما يكال لهم . فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم . أو يكون ذلك إشارة إلى كيل بعير ، أي ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه ، أو سهل عليه متيسر لا يتعاظمه . ويجوز أن يكون من كلام يعقوب ، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد ، كقوله { ذلك لِيَعْلَمَ } [ يوسف : 52 ] .
(3/193)

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ } مناف لحالي وقد رأيت منكم ما رأيت - إرساله معكم { حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله } حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله ، أراد أن يحلفو له بالله : وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدّد . وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } جواب اليمين؛ لأن المعنى : حتى تحلفوا لتأتنني به { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به . أو إلا أن تهلكوا . فإن قلت : أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال؟ قلت : { أَن يُحَاطَ بِكُمْ } مفعول له ، والكلام المثبت الذي هو قوله { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } في تأويل النفي . معناه : لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم ، أي : لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة : وهي أن يحاط بكم ، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له ، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده ، فلا بد من تأويله بالنفي . ونظيره من الإثبات المتأوّل بمعنى النفي قولهم : أقسمت بالله لما فعلت وإلا فعلت ، تريد : ما أطلب منك إلا الفعل { على مَا نَقُولُ } من طلب الموثق وإعطائه { وَكِيلٌ } رقيب مطلع .
(3/194)

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد ، لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة ، اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم ، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود ، وأن يشار إليهم بالأصابع . ويقال : هؤلاء أضياف الملك ، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان ، وما أحقهم بالإكرام ، لأمر مّا أكرمهم الملك وقرّبهم وفضلهم على الوافدين عليه ، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة ، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور ، فيصيبهم ما يسوؤهم؛ ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرّة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس . فإن قلت : هل للإصابة بالعين وجه تصحّ عليه؟ قلت : يجوز أن يحدث الله عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به ، نقصاناً فيه وخللا من بعض الوجوه ، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحاناً لعباده ، ليتميز المحققون من أهل الحشو فيقول المحقق : هذا فعل الله ، ويقول الحشوي : هو أثر العين ، كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المدثر : 31 ] الآية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 552 ) " أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامّة ، من كل عين لامّة ، ومن كل شيطان وهّامة " { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَىْء } يعني إن أراد الله بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق ، وهو مصيبكم لا محالة { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } ثم قال : { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } أي متفرقين { مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ } رأي يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً قط ، حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرّقهم ، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك ، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله ، وتضاعف المصيبة على أبيهم { إِلاَّ حَاجَةً } استثناء منقطع . على معنى : ولكن حاجة { فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } يعني قوله : { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ } وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر .
(3/195)

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } ضم إليه بنيامين . وروي أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به ، فقال لهم : أحسنتم وأصبتم ، وستجدون ذلك عندي ، فأنزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه ، فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً ، فأجلسه معه على مائدته وجعل يواكله ، قال : أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتاً ، وهذا لا ثاني له فيكون معي ، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح ، وسأله عن ولده فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك ، فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد أخا مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له { إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ } يوسف { فَلاَ تَبْتَئِسْ } فلا تحزن { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بنا فيما مضى ، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ، ولا تعلمهم بما أعلمتك . وعن ابن عباس : تعرّف إليه وعن وهب : إنما قال له : أنا أخوك بدل أخيك المفقود ، فلا تبتئس بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم . وروي أنه قال له : أنا لا أفارقك . قال : قد علمت اغتمام والدي بي ، فإذا حبستك ازداد غمه ، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل . قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك . قال : فإني أدس صاعي في رحلك ، ثم أنادي عليك بأنك قد سرقته ، ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم . قال : افعل .
(3/196)

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{ السقاية } مشربة يسقى بها وهي الصواع . قيل : كان يسقى بها الملك ، ثم جعلت صاعاً يكال به . وقيل : كانت الدواب تسقي بها ويكال بها . وقيل : كانت إناء مستطيلاً يشبه المكوك وقيل : هي المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه تشرب به الأعاجم . وقيل : كانت من فضة مموّهة بالذهب ، وقيل كانت من ذهب . وقيل : كانت مرصعة بالجواهر { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ } ثم نادى مناد . يقال : آذنه أعلمه . وأذن : أكثر الإعلام . ومنه المؤذن ، لكثرة ذلك منه . روي : أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ، ثم قيل لهم ذلك . والعير : الإبل التي عليها الأحمال ، لأنها تعير : أي تذهب وتجيء . وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير ، كأنها جمع عير ، وأصلها فعل كسقف وسقف ، فعل به ما فعل ببيض وعيد ، والمراد أصحاب العير كقوله :
( 553 ) "يا خيل الله اركبي" . وقرأ ابن مسعود : "وجعل السقاية" ، على حذف جواب لما ، كأنه قيل : فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه ، أمهلهم حتى انطلقوا ، ثم أذن مؤذن . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : "تفقدون" من أفقدته إذا وجدته فقيداً . وقرىء : "صواع" ، "وصاع" ، "وصوع" ، "وصُوع" بفتح الصاد وضمها ، والعين معجمة وغير معجمة { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } يقوله المؤذن ، يريد : وأنا بحمل البعير كفيل ، أُؤدّيه إلى من جاء به؛ وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله .
(3/197)

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
{ تالله } قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم ، وإنما قالوا { لَقَدْ عَلِمْتُمْ } فاستشهدوا بعلمهم . لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرّتي مجيئهم ومداخلتهم للملك ، ولأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مكعومة لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد من أهل السوق . ولأنهم ردّوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم { وَمَا كُنَّا سارقين } وما كنا قط نوصف بالسرقة وهي منافية لحالنا .
(3/198)

قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
{ فَمَا جَزَاؤُهُ } الضمير للصواع ، أي فما جزاء سرقته { إِن كُنتُمْ كاذبين } في جحودكم وادّعائكم البراءة منه { قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ } أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة ، فلذلك استفتوا في جزائه . وقولهم { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } تقرير للحكم ، أي : فأخذ السارق نفسه وهو جزاؤه لا غير ، كقولك : حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه ، فذلك حقه ، أي : فهو حقه لتقرّر ما ذكرته من استحقاقه وتلزمه ويجوز أن يكون { جَزَاؤُهُ } مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره ، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر . والأصل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو فوضع الجزاء موضع هو ، كما تقول لصاحبك : من أخو زيد فيقول لك أخوه من يقعد إلى جنبه فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من والثاني إلى الأخ ، ثم تقول "فهو أخوه" مقيماً للمظهر مقام المضمر . ويحتمل أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف ، أي : المسؤل عنه جزاؤه ، ثم أفتوا بقولهم : من وجد في رحله فهو جزاؤه ، كما يقول : من يستفتى في جزاء صيد المحرم جزاء صيد المحرم ، ثم يقول : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } [ المائدة : 95 ] .
(3/199)

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ } قيل : قال لهم من وكل بهم : لا بدّ من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف ، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال : ما أظنّ هذا أخذ شيئاً ، فقالوا : والله لا نتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ، فاستخرجوه منه وقرأ الحسن : "وُعاء أخيه" ، بضم الواو ، وهي لغة . وقرأ سعيد ابن جبير : "إعاء أخيه" ، بقلب الواو همزة . فإن قلت : لم ذكر ضمير الصواع مرّات ثم أنثه؟ قلت : قالوا رجع بالتأنيث على السقاية ، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث ، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعاً ، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية ، وفيما يتصل بهم منه صواعاً { كذلك كِدْنَا } مثل ذلك الكيد العظيم كدنا { لِيُوسُفَ } يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك } تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر ، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ ، لا أن يلزم ويستعبد { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أي ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه فيه { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه . وقرىء : "يرفع" بالياء . ودرجات بالتنوين { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } فوقه أرفع درجة منه في علمه ، أو [ و ] فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم ، وهو الله عز وعلا . فإن قلت : ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسناً ، فمن أي وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان ، وتسريق لمن لم يسرق ، وتكذيب لمن لم يكذب ، وهو قوله { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] ، { فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين } [ يوسف : 74 ] ؟ قلت : هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة؛ لأنّ قوله : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف . وقيل : كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف ، وقوله : { إِن كُنتُمْ كاذبين } [ يوسف : 74 ] فرض لانتفاء براءتهم . وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً ، على أنه لو صرَّح لهم بالتكذيب ، كما صرّح لهم بالتسريق . لكان له وجه؛ لأنهم كانوا كاذبين في قولهم : { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب } [ يوسف : 17 ] هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية ، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } [ ص : 44 ] ليتخلص من جلدها ولا يحنث ، وكقول إبراهيم عليه السلام : هي أختي ، لتسلم من يد الكافر . وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد ، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها ، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا .
(3/200)

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{ أَخٌ لَّهُ } أرادوا يوسف . روي أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء ، وأقبلوا عليه وقالوا له : ما الذي صنعت؟ فضحتنا وسوّدت وجوهنا ، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء ، متى أخذت هذا الصاع؟ فقال : بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم البلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه ، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم . واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة ، فقيل : كان أخذ في صباه صنماً لجدّه أبي أمّه فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق . وقيل : دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه . وقيل : كان في المنزل عناق أو دجاجة فأعطاها السائل . وقيل كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده ، فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده ، فحضنت يوسف - وهي عمته - بعد وفاة أمّه وكانت لا تصبر عنه ، فلما شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها ، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت : فقدت منطقة إسحاق ، فانظروا من أخذها ، فوجدوها محزومة على يوسف ، فقالت : إنه لي سلم أفعل به ما شئت ، فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت { فَأَسَرَّهَا } إضمار على شريطة التفسير ، تفسيره { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } وإنما أنث لأنّ قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } جملة أو كلمة ، على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة ، كأنه قيل : فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } والمعنى : قال في نفسه : أنتم شر مكاناً؛ لأنّ قوله : { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } بدل من أسرَّها . وفي قراءة ابن مسعود : "فأسرَّه" ، على التذكير ، يريد القول أو الكلام . ومعنى { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } أنتم شر منزلة في السرق؛ لأنكم سارقون بالصحة ، لسرقتكم أخاكم من أبيكم { والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } يعلم أنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة ، وليس الأمر كما تصفون .
(3/201)

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب ، وأنه شيخ كبير السنّ أو كبير القدر ، وأنّ بنيامين أحب إليه منهم ، وكانوا قد أخبروه بأن ولداً له قد هلك وهو عليه ثكلان ، وأنه مستأنس بأخيه { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } إلينا فأتمم إحسانك . أو من عادتك الإحسان فاجْرِ على عادتك ولا تغيرها .
(3/202)

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
{ مَعَاذَ الله } هو كلام موجه ، ظاهره : أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده ، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم ، وباطنه : إنّ الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك ، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي . ومعنى { مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ } نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ ، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من . و { إِذاً } جواب لهم وجزاء؛ لأن المعنى : إن أخذنا بدله ظلمنا .
(3/203)

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{ استيأسوا } يئسوا . وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في استعصم . و النجي على معنيين : يكون بمعنى المناجي ، كالعشير والسمير بمعنى : المعاشر والمسامر ، ومنه قوله تعالى { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] وبمعنى المصدر الذي هو التناجي ، كما قيل النجوى بمعناه . ومنه قيل : قوم نجى ، كما قيل { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف . ويجوز أن يقال : هم نجى ، كما قيل : هم صديق ، لأنه بزنة المصادر وجمع أنجية . قال :
إنِّى إذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنجِيَهْ ... ومعنى { خَلَصُواْ } اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم { نَجِيّاً } ذوي نجوى أو فوجا نجياً ، أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً . وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً؛ لاستجماعهم لذلك ، وإفاضتهم فيه بجدّ واهتمام ، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته ، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم ، على أيّ صفة يذهبون؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب ، فاحتاجوا إلى التشاور { كَبِيرُهُمْ } في السنّ وهو روبيل . وقيل : رئيسهم وهو شمعون : وقيل كبيرهم في العقل والرأي وهو يهوذا { مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } فيه وجوه : أن تكون "ما" صلة ، أي : ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم . وأن تكون مصدرية ، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف ، وهو { مِن قَبْلُ } ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في يوسف . أو النصب عطفاً على مفعول { أَلَمْ تَعْلَمُواْ } وهو { أَنَّ أَبَاكُمْ } كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل في يوسف ، وأن تكون موصولة بمعنى : ومن قبل هذا ما فرطتموه ، أي قدّمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة ، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } فلن أفارق أرض مصر { حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى } في الانصراف إليه { أَوْ يَحْكُمَ الله لِى } بالخروج منها ، أو بالانتصاف ممن أخذ أخي ، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } لأنه لا يحكم أبداً إلا بالعدل والحق .
(3/204)

ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
وقرىء : "سرِّق" أي نسب إلى السرقة { وَمَا شَهِدْنَا } عليه بالسرقة { إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } من سرقته وتيقناه؛ لأنّ الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين } وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق . أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف . ومن قرأ : "سرِّق" فمعناه : وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق ، وما كنا للغيب : للأمر الخفي حافظين ، أسرق بالصحة أم دسّ الصاع في رحله ولم يشعر .
(3/205)

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{ القرية التى كُنَّا فِيهَا } هي مصر ، أي أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة { والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا } وأصحاب العير ، وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب . وقيل من أهل صنعاء ، معناه : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } أردتموه وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم { بِهِمْ جَمِيعًا } بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره { إِنَّهُ هُوَ العليم } بحالي في الحزن والأسف { الحكيم } الذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة ومصلحة .
(3/206)

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{ وتولى عَنْهُمْ } وأعرض عنهم كراهة لما جاؤا به { يا أسفى } أضاف الأسف وهو أشدّ الحزن والحسرة إلى نفسه ، والألف بدل من ياء الإضافة ، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير متعمل فيملح ويبدع ، ونحوه { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُم } [ التوبة : 38 ] ، { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] . { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 104 ] ، { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [ النمل : 22 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 554 ) " لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع . وإنما قال يا أسفى "
فإن قلت : كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث ، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً؟ قلت : هو دليل على تمادي أسفه على يوسف ، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه ، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طريا .
وَلَمْ تُنْسِنِي أَوْفَى الْمُصِيبَاتِ بَعْدَهُ ... ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده ، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به { وابيضت عَيْنَاهُ } إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر . قيل : قد عمي بصره . وقيل : كان يدرك إدراكاً ضعيفاً . قرىء : "من الحزن" ومن الحزن ، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض ، فكأنه حدث من الحزن . قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً ، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 555 ) أنه سأل جبريل عليه السلام : " ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ قال : وجد سبعين ثكلى . قال : "فما كان له من الأجر"؟ قال : أجر مائة شهيد ، وما ساء ظنه بالله ساعة قط "
فإن قلت : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ قلت : الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن ، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن ، ولقد
( 556 ) بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : " القلب يجزع ، والعين تدمع ، ولا نقول ما يسخط الرب ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ، ولطم الصدور والوجوه ، وتمزيق الثياب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 557 ) أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه ، فقيل : يا رسول الله ، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال : " ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين : صوت عند الفرح ، وصوت عند الترح " وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره ، فقيل له في ذلك ، فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب { فَهُوَ كَظِيمٌ } فهو مملوء من الغيط على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم ، فعيل بمعنى مفعول ، بدليل قوله { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه ، والكظم بفتح الظاء : مخرج النفس . يقال : أخذ بأكظامه .
(3/207)

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
{ تفتؤا } أراد : لا تفتؤ ، فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات ، لأنه لو كان إثباتاً لم يكن بدّ من اللام والنون ونحوه :
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... ومعنىلا تفتؤ : لا تزال . وعن مجاهد : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين يقال : ما فتىء يفعل . قال أوس :
فمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِي ... وَيَلْحَقُ مِنهَا لاَحِقٌ وتَقَطَّعُ
{ تَكُونَ حَرَضاً } مشفياً على الهلاك مرضاً ، وأحرضه المرض ، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، لأنه مصدر . والصفة : حَرِض ، بكسر الراء ، ونحوهما : دنف ودنف ، وجاءت القراءة بهما جميعاً . وقرأ الحسن : "حُرُضاً" ، بضمتين ، ونحوه في الصفات : رجل جنب وغرب .
(3/208)

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
البث : أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه ، فيبثه إلى الناس أي ينشره . ومنه : باثه أمره ، وأبثه إياه . ومعنى { إِنَّمَا أَشْكُو } إني لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم ، إنما أشكو إلى ربي داعياً له وملتجئاً إليه ، فخلوني وشكايتي . وهذا معنى توليه عنهم ، أي فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه . وقيل : دخل على يعقوب جارٌ له فقال : يا يعقوب ، قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك! فقال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب ، أتشكوني إلى خلقي؟ قال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي ، فغفر له ، فكان بعد ذلك إذا سئل قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله . وروي أنه أوحي إلى يعقوب : إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه ، وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ، ثم المساكين ، فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين . وقيل : اشترى جارية مع ولدها ، فباع ولدها فبكت حتى عميت { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب . وروي أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف؟ فقال : لا والله هو حيّ فاطلبه . وقرأ الحسن : "وحزني" بفتحتين "وحزني" بضمتين : قتادة .
(3/209)

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
{ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } فتعرّفوا منهما وتطلبوا خبرهما . وقرىء بالجيم ، كما قرىء بهما في الحجرات ، وهما تفعل من الإحساس وهو المعرفة { فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } [ آل عمران : 52 ] ومن الجس ، وهو الطلب . ومنه قالوا لمشاعر الإنسان : الحواس ، والجواس { مِن رَّوْحِ الله } من فرجه وتنفيسه . وقرأ الحسن وقتادة : "من رُوح الله" ، بالضم : أي من رحمته التي يحيا بها العباد .
(3/210)

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{ الضر } الهزال من الشدّة والجوع { مُّزْجَاةٍ } مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها ، من أزجيته إذا دفعته وطردته ، والريح تزجي السحاب ، قيل : كانت من متاع الأعراب صوفاً وسمناً . وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء ، وقيل : سويق المقل والأقط . وقيل : دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة { فَأَوْفِ لَنَا الكيل } الذي هو حقنا { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة ، أو زدنا على حقنا ، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة ، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء ، وقيل كانت تحل لغير نبينا . وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال : ألم تسمع { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } أراد أنها كانت حلالاً لهم . والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم ، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم ، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه . وقوله : { إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين } شاهد لذلك لذكر الله وجزائه ، والصدقة العطية التي تبتغي بها المثوبة من الله ومنه قول : الحسن لمن سمعه يقول اللهم تصدق عليّ : - إن الله تعالى لا يتصدق ، إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب ، قل : اللهم أعطني ، أو تفضل عليّ ، أو ارحمني .
(3/211)

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ } أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً ، فكلمهم مستفهماً عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب ، فقال : هل علمتم قبح { مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون } لا تعلمون قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه ، يعني : هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه ، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح ، والاستقباح يجرّ إلى التوبة ، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين ، لا معاتبة وتثريباً؛ إيثاراً لحق الله على حق نفسه ، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب ، وينفث المصدور ، ويتشفى المغيظ المحنق ، ويدرك ثأره الموتور ، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها ولله حصاً عقولهم ما أرزنها وأرجحها . وقيل لم يرد نفي العلم عنهم ، لأنهم كانوا علماء ، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل ، سماهم جاهلين . وقيل : معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة . روي أنهم لما قالوا : مسنا وأهلنا الضر ، وتضرعوا إليه : ارفضت عيناه ، ثم قال هذا القول . وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ، إلى عزيز مصر . أما بعد ، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء : أما جدّي فشدّت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاماً ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله . وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب ، فذهبت عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به ، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق ، وأنك حبسته لذلك ، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً ، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام . فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره ، فقال لهم ذلك وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا . فإن قلت : ما فعلهم بأخيه؟ قلت : تعريضهم إياه للغم والثكل بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه ، وجفاؤهم به ، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداًمنهم إلا كلام الذليل للعزيز ، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى .
(3/212)

قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قرىء : "أئنك" على الاستفهام . وأنك ، على الإيجاب وفي قراءة أبيّ : "أئنك أو أنت يوسف" ، على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف ، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه ، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرر الاستثبات فإن قلت : كيف عرفوه؟ قلت : رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو ، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم ، لا عن بعض أعزاء مصر . وقيل : تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم . وقيل : ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها ، تشبه الشامة البيضاء . فإن قلت : قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ عن أن أخاه كان معلوماً لهم . قلت : لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه { مَن يَتَّقِ } من يخف الله وعقابه { وَيِصْبِرْ } عن المعاصي وعلى الطاعات { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ } أجرهم ، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين { لَقَدْ ءَاثَرَكَ الله عَلَيْنَا } أي فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين . وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم ، لم نتق ولم نصبر ، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } لا تأنيب عليكم ولا عتب . وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش . ومعناه : إزالة الثرب ، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع ، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده ، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه . فإن قلت بم تعلق اليوم؟ قلت : بالتثريب ، أو بالمقدر في { عَلَيْكُمْ } من معنى الاستقرار . أو بيغفر . والمعنى : لا أثر بكم اليوم ، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب ، فما ظنكم بغيره من الأيام ، ثم ابتدأ فقال { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم . يقال : غفر الله لك ، ويغفر الله لك ، على لفظ الماضي والمضارع جميعاً ، ومنه قول المشمت "يهديكم الله ويصلح بالكم" و { اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } بشارة بعاجل غفران الله ، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم . وروي :
( 558 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح ، فقال لقريش : ما ترونني فاعلاً بكم؟ قالوا : نظن خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم؛ وقد قدرت فقال : أقول ما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم . وروي :
( 559 ) أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس : إذا أتيت الرسول فاتل عليه { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } ففعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(3/213)

" غفر الله لك ولمن علمك " ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه : إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ، ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك ، فقال يوسف : إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم ، فإنهم ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي . وأني من حفدة إبراهيم { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة ، أمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة ، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي { يَأْتِ بَصِيرًا } يصر بصيراً ، كقولك : جاء البناء محكماً ، بمعنى صار . ويشهد له { فارتد بَصِيرًا } [ يوسف : 96 ] أو يأت إليّ وهو بصير . وينصره قوله { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي يأتني أبي ، ويأتني آله جميعاً وقيل : يهوذا هو الحامل ، قال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم إليه ، فأفرّحه كما أحزنته ، وقيل : حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان ، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً .
(3/214)

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{ فَصَلَتِ العير } خرجت من عريش مصر ، يقال : فصل من البلد فصولاً ، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه . وقرأ ابن عباس : "فلما انفصل العير" { قَالَ } لولد ولده ومن حوله من قومه : { إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان . والتفنيد : النسبة إلى الفند ، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم . يقال : شيخ مفند ، ولا يقال عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها . والمعنى : لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني { لَفِى ضلالك القديم } لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف ، ولهجك بذكره ، ورجائك للقائه ، وكان عندهم أنه قد مات { ألقاه } طرح البشير القميص على وجه يعقوب . أو ألقاه يعقوب { فارتد بَصِيرًا } فرجع بصيراً . يقال : ردّه فارتد ، وارتده إذا ارتجعه { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } يعني قوله { إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } أو قوله : { وَلاَ تيأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } [ يوسف : 87 ] وقوله : { إِنِي أَعْلَمُ } كلام مبتدأ لم يقع عليه القول ، ولك أن توقعه عليه وتريد قوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ يوسف : 86 ] وروي : أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال : هو ملك مصر : فقال : ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام . قال : الآن تمت النعمة .
(3/215)

قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ } قيل : أخر الاستغفار إلى وقت السحر . وقيل : إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة . وقيل : ليتعرّف حالهم . في صدق التوبة وإخلاصها . وقيل أراد الدوام على الاستغفار لهم . فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة . وقيل : قام إلى الصلاة في وقت السحر ، فلما فرغ رفع يديه وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه ، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم ، فأوحى إليه : إنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين . وروي أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة : ما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا ، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبداً ، فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو ، وقام يوسف خلفه يؤمّن ، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة . حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك ، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة ، وقد اختلف في استنبائهم .
(3/216)

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه . وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، فتلقوا يعقوب وهو يمشي يتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، أهذا فرعون مصر؟ قال لا ، هذا ولدك ، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام : السلام عليك يا مذهب الأحزان . وقيل : إن يوسف قال له لما التقيا : يا أبت ، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال : بلى ، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك ، وقيل : إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ، ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلاً سوى الذرية والهرمى ، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف { أَوَى إِلَيْه أَبَوَيْهِ } ضمهما إليه واعتنقهما . قال ابن أبي إسحاق : كانت أمّه تحيى ، وقيل : هما أبوه وخالته . ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين؛ لأنّ الرابة تدعى أمّاً ، لقيامها مقام الأمّ ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب . ومنه قوله : { وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] فإن قلت : ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت : كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب أو بيت ثم ، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه ، ثم قال لهم { ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله ءَامِنِينَ } ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستوياً على سريره واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه فرفعهما على السرير { وَخَرُّواْ لَهُ } يعني الإخوة الأحد عشر والأبوين { سُجَّدًا } ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال ، فأمر أن يرفع إليه أبواه ، فدخلا عليه القبة . فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه ، وقال بعد ذلك : ادخلوا مصر . فإن قلت : بم تعلقت المشيئة؟ قلت : بالدخول مكيفاً بالأمن ، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم ، فكأنه قيل لهم : اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله . ونظيره قولك للغازي : ارجع سالماً غانماً إن شاء الله ، فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقاً ، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة ، مكيفاً بهما . والتقدير : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه ، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال . ومن بدع التفاسير أن قوله { إِن شَاء الله } من باب التقديم والتأخير؛ وأن موضعها ما بعد قوله { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى } [ يوسف : 98 ] في كلام يعقوب ، وما أدري ما أقول فيه وفي نظائره . فإن قلت : كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله؟ قلت : كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة ، كالقيام ، والمصافحة وتقبيل اليد .
(3/217)

ونحوها مما جرت عليه عادة الناس ، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير . وقيل : ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه ، وخرورهم سجداً يأباه . وقيل : معناه وخرّوا لأجل يوسف سجداً لله شكراً . وهذا أيضاً فيه نبوة . يقال : أحسن إليه وبه ، وكذلك أساء إليه وبه قال :
أَسِيئِي بَنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَمَلُومَةً ... { مّنَ البدو } من البادية؛ لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع { نَّزغَ } أفسد بيننا وأغرى ، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري . يقال : نزغه ونسغه ، إذا نخسه { لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } لطيف التدبير لأجله ، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب . وروي أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه ، فأدخله خزائن الورق والذهب ، وخزائن الحليّ ، وخزائن الثياب ، وخزائن السلاح وغير ذلك ، فلما أدخله خزانة القراطيس قال : يا بنيّ ، ما أعقك : عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال : أمرني جبريل . قال أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه مني فسله . قال جبريل عليه السلام : الله تعالى أمرني بذلك لقولك { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب } [ يوسف : 13 ] قال : فهلا خفتني؟ وروي أن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات . وأوصى أن يدفه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق فمضى بنفسه ودفنه ثمة ، ثم عاد إلى مصر ، وعاش بعدأبيه ثلاثاً وعشرين سنة ، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له ، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد ، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت ، وقيل : ما تمناه نبي قبله ولا بعده ، فتوفاه الله طيباً طاهراً ، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه : كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقاً من مرمر وجعلوه فيه ، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعاً واحداً ، وولد له : إفراثيم وميشاً ، وولد لإفراثيم نون؛ ولنون يوشع فتى موسى ، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر ، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه . إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم .
(3/218)

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
"من" في { مِنَ الملك } و { مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } للتبعيض ، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا ، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل { أَنتَ وَلِىِّ } أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين ، وبوصل الملك الفاني بالملك الباقي { تَوَفَّنِى مُسْلِمًا } طلب للوفاة على حال الإسلام ، ولأن يختم له بالخير والحسنى ، كما قال يعقوب لولده { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] ويجوز أن يكون تمنياً للموت على ما قيل { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } من آبائي أو على العموم . وعن عمر ابن عبد العزيز : أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت ، فقال له : صنع الله على يديك خيراً كثيراً : أحييت سنناً وأمت بدعا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين ، فقال : أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع له أمره قال : توفني مسلماً وألحقني بالصالحين . فإن قلت : علام انتصب فاطر السموات؟ قلت على أنه وصف لقوله { رَبِّ } كقولك : أخا زيد حسن الوجه . أو على النداء .
(3/219)

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله الابتداء . وقوله : { مِنْ أَنبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ } خبر إنّ . ويجوز أن يكون اسماً موصولاً بمعنى الذي ، و { مِنْ أنبآءالغيب } صلته و { نُوحِيهِ } الخبر . والمعنى : أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي ، لأنك لم تحضر بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر ، كقوله : { وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } [ يوسف : 15 ] ؛ وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه؛ لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه . ولم يكن من علم قومه . فإذا أخبر به وقصَّ هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته ، لم تقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي ، فإذا أنكروه تهكم بهم . وقيل لهم : قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية : ونحوه : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر } [ القصص : 44 ] ، { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } بيوسف ويبغون له الغوائل .
(3/220)

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
{ وَمَآ أَكْثَرُ الناس } يريد العموم ، كقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } [ هود : 17 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما . أراد أهل مكة ، أي وما هم بمؤمنين { وَلَوْ حَرَصْتَ } وتهالكت على إيمانهم لتصميمهم على الكفر وعنادهم { وَمَا تَسْئَلُهُمْ } على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى ، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } عظة من الله { للعالمين } عامة ، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله .
(3/221)

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
{ مِّنْ ءَايَةٍ } من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده { يَمُرُّونَ عَلَيْهَا } ويشاهدونها وهم معرضون عنها لا يعتبرون بها . وقرىء : "والأرضُ" بالرفع على الابتداء ، ويمرون عليها : خبره ، وقرأ السدّي "والأرضَ" بالنصب على : ويطؤن الأرض يمرّون عليها . وفي مصحف عبد الله : والأرض يمشون عليها ، برفع الأرض ، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر .
(3/222)

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم } في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض ، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن ، وعن الحسن : هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هم الذين يشبهون الله بخلقه .
(3/223)

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{ غاشية } نقمة تغشاهم . وقيل : ما يغمرهم من العذاب ويجللهم وقيل : الصواعق .
(3/224)

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{ هذه سبيلى } هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي . والسبيل والطريق : يذكران ويؤنثان ، ثم فسر سبيله بقوله : { ادعوا إِلَى الله على بَصِيرَةٍ } أي أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء . و { أَنَاْ } تأكيد للمستتر في { أدعوا } . { وَمَنِ اتبعنى } عطف عليه . يريد : أدعو إليها أنا ، ويدعو إليها من اتبعني ويجوز أن يكون { أَنَاْ } مبتدأ ، و { على بَصِيرَةٍ } خبراً مقدّماً ، { وَمَنِ اتبعنى } عطفاً على { أَنَاْ } إخباراً مبتدأ بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان ، لا على هوى ، ويجوز أن يكون { على بَصِيرَةٍ } حالاً من { أَدْعُو } عاملة الرفع في { أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى } ، { وسبحان الله } وأنزهه من الشركاء .
(3/225)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{ إِلاَّ رِجَالاً } لا ملائكة؛ لأنهم كانوا يقولون { لَوْ شآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة } [ فصلت : 14 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد ليست فيهم امرأة . وقيل : في سجاح المتنبئة .
وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا ... وقرىء : "نوحي إليهم" ، بالنون . { مّنْ أَهْلِ القرى } لأنهم أعلم وأحلم ، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة { وَلَدَارُ الأخرة } ولدار الساعة ، أو الحال الآخرة { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا } للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه . وقرىء : "أفلا تعقلون" ، بالتاء والياء .
(3/226)

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{ حتى } متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام ، كأنه قيل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } فتراخى نصرهم حتى [ إذا ] استيأسوا عن النصر { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } أي كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون ، أو رجاؤهم لقولهم : رجاء صادق ، ورجاء كاذب . والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر وقال : كانوا بشراً ، وتلا قوله : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله } [ البقرة : 214 ] فإن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظنّ : ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية . وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر ، فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبيح؟ وقيل : وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا ، أي : أخلفوا . أو : وظنّ المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل ، أيّ : كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدّقوهم فيه . وقرىء : "كذبوا" بالتشديد على وظن الرسل أنهم قد كذبتهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم . وقرأ مجاهد "كذبوا" بالتخفيف ، على البناء للفاعل ، على : وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة ، إمّا على تأويل ابن عباس ، وإمّا على أنّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً قالوا لهم : إنكم قد كذبتمونا فيكونون كاذبين عند قومهم . أو وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا . ولو قرىء بهذا مشدّداً لكان معناه؛ وظنّ الرسل أن قومهم كذبوهم في موعدهم . وقرىء : "فننجى" بالتخفيف والتشديد ، من أنجاه ونجاه . وفنجى ، على لفظ الماضي المبني للمفعول ، وقرأ ابن محيصن "فنجا" والمراد ب { مَّن نَّشَاء } المؤمنون ، لأنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم . وقد بين ذلك بقوله { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين } .
(3/227)

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
الضمير في { قَصَصِهِمْ } للرسل ، وينصره قراءة من قرأ : "في قصصهم" بكسر القاف . وقيل : هو راجع إلى يوسف وإخوته . فإن قلت : فالإم يرجع الضمير في { مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى } فيمن قرأ بالكسر؟ قلت : إلى القرآن ، أي : ما كان القرآن حديثاً يفترى { ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } أي قبله من الكتب السماوية { وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء } يحتاج إليه في الدين ، لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل . وانتصاب ما نصب بعد { لَكِنِ } للعطف على خبر كان . وقرىء : ذلك بالرفع على "ولكن هو تصديق الذي بين يديه" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 560 ) " علموا أرقاءكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلماً "
(3/228)

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
{ تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة . والمراد بالكتاب السورة ، أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ، ثم قال : { والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن كله هو { الحق } الذي لا مزيد عليه ، لا هذه السور وحدها ، وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية : هم كالحلقة المفرعة ، لا يدرى أين طرفاها؟ تريد الكملة .
(3/229)

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
{ الله } مبتدأ ، و { الذى } خبره ، بدليل قوله : { وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض } ويجوز أن يكون صفة . وقوله : { يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات } خبر بعد خبر . وينصره ما تقدّمه من ذكر الآيات { رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك . وقيل : هي صفة لعمد . ويعضده قراءة أبي "ترونه" . وقرىء : "عُمُد" ، بضمتين { يُدَبِّرُ الأمر } يدبر أمر ملكوته وربوبيته { يُفَصّلُ } آياته في كتبه المنزلة { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ } بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه . وقرأ الحسن : "ندبر" ، بالنون { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدّها ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت . وقيل : أراد بالزوجين : الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة { يغشى الليل النهار } يلبسه مكانه ، فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً . وقرىء : "يغشّى" بالتشديد .
(3/230)

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{ قِطَعٌ متجاورات } بقاع مختلفة ، مع كونها متجاورة متلاصقة : طيبة إلى سبخة ، وكريمة إلى زهيدة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها ، مع انتظامها جميعاً في جنس الأرضية . وذلك دليل على قادر مريد ، موقع لأفعاله على وجه دون وجه . وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع ، مختلفة الأجناس والأنواع ، وهي تسقى بماء واحد ، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح ، متفاضلة فيها . وفي بعض المصاحف : قطعاً متجاورات على : وجعل وقرىء : "وجناتٍ" ، بالنصب للعطف على زوجين . أو بالجرّ على كل الثمرات . وقرىء : "وزرعٍ ونخيلٍ" ، بالجرّ عطفاً على أعناب أو جنات والصنوان : جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان ، وأصلها واحد . وقرىء بالضم . والكسر : لغة أهل الحجاز ، والضم : لغة بني تميم وقيس { تَسْقِى } بالتاء والياء { وَنُفَضّلُ } بالنون وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً { في الأكل } بضم الكاف وسكونها .
(3/231)

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{ وَإِن تَعْجَبْ } يا محمد من قولهم في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه؛ لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب { أَءِذَا كُنَّا } إلى آخر قولهم : يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم ، وأن يكون منصوباً بالقول . وإذا نصب بما دل عليه قوله : { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } ، { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم { وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِى أعناقهم } وصف بالإصرار ، كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } [ يس : 8 ] ونحوه :
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلاَلٌ وَأَقْيَادُ ... أو هو من جملة الوعيد .
(3/232)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } بالنقمة قبل العافية ، والإحسان إليهم بالإمهال . وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } أي عقوبات أمثالهم من المكذبين ، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا والمثلة : العقوبة ، بوزن السمرة . والمثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ويقال : أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه . والمثال : القصاص . وقرىء : "المُثُلات" بضمتين لإتباع الفاء العين . و "المَثْلات" ، بفتح الميم وسكون الثاء ، كما يقال : السمرة . و "المُثْلات" بضم الميم وسكون الثاء ، تخفيف "المُثُلات" بضمتين . والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات { لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب . ومحله الحال ، بمعنى ظالمين لأنفسهم وفيه أوجه . أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر . أو الكبائر بشرط التوبة . أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال . وروي أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام :
( 561 ) " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد " .
(3/233)

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً ، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى ، من انقلاب العصا حية ، وإحياء الموتى ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل أرسلت منذراً ومخوّفاً لهم من سوء العاقبة . وناصحاً كغيرك من الرسل ، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر ، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت ، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها ، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطي كل نبي آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأنبياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة . ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك ، إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر لا أن تثبت الإيمان في صدورهم ، ولست بقادر عليه ، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء ، وهو الله تعالى . ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره : أمر مدبر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانية ، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً ومصلحة ، لأجابهم إليه . وأما على الوجه الثاني ، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم ، العالم بأي طريق يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره .
(3/234)

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{ الله يَعْلَمُ } يحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً ، وأن يكون المعنى : هو الله ، تفسيراً لهاد على الوجه الأخير ، ثم ابتدىء فقيل : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } "وما" في { مَا تَحْمِلُ } ، { وَمَا تَغِيضُ } ، { وَمَا تَزْدَادُ } إما موصولة ، وإما مصدرية . فإن كانت موصولة ، فالمعنى : أنه يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو . من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخداج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة ، ويعلم ما تغيضه الأرحام : أي تنقصه . يقال : غاض الماء وغضته أنا . ومنه قوله تعالى : { وَغِيضَ الماء } [ هود : 44 ] وما تزداده : أي تأخذه زائداً ، تقول : أخذت منه حقي ، وازددت منه كذا ومنه قوله تعالى : { وازدادوا تِسْعًا } [ الكهف : 25 ] ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد ، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه . ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاما ومخدجاً . ومنه مدة ولادته ، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك ، وقيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين ، ولذلك سمي هرماً . ومنه الدم ، فإنه يقل ويكثر . وإن كانت مصدرية ، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ومن أوقاته وأحواله . ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعلين غير متعدّيين ، ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن تزيد على تسعة أشهر . وعنه الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ما ولد لتمام { بِمِقْدَارٍ } بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كقوله { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] { الكبير } العظيم الشأن الذي كل شيء دونه { المتعال } المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها .
(3/235)

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{ سارب } ذاهب في سربه - بالفتح - أي في طريقه ووجهه . يقال : سرب في الأرض سروباً . والمعنى : سواء عنده من استخفى : أي طلب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته ، ومن يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد . فإن قلت : كان حق العبارة أن يقال : ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار ، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفي والسارب؛ وإلا فقد تناول واحداً هو مستخف وسارب قلت : فيه وجهان : أحدهما أنّ قوله { وَسَارِبٌ } عطف على من هو مستخف ، لا على مستخف ، والثاني أنه عطف على مستخف؛ إلا أن { مِنْ } في معنى الاثنين ، كقوله :
نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَاذِئْبُ يصْطَحِبَانِ ... كأنه قيل : سواء منكم اثنان : مستخف بالليل ، وسارب بالنهار . والضمير في { لَهُ } مردود على { مِنْ } كأنه قيل : لمن أسرّ ومن جهر ، ومن استخفى ومن سرب { معقبات } جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته ، والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، كقوله { وَجَاء المعذرون } [ التوبة : 90 ] بمعنى المعتذرون . ويجوز معقبات ، بكسر العين ولم يقرأ به . أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه ، كما يقال : قفاه ، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } هما صفتان جميعاً وليس { مِنْ أَمْرِ الله } بصلة للحفظ ، كأنه قيل : له معقبات من أمر الله . أو يحفظونه من أجل أمر الله أي من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه . والدليل عليه قراءة علي رضي الله عنه وابن عباس وزيد بن علي وجعفر بن محمد وعكرمة : "يحفظونه بأمر الله" . أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب ، بدعائهم له ومسئلتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب ، كقوله : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن } [ الأنبياء : 42 ] وقيل : المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان ، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أي من قضاياه ونوازله ، أو على التهكم به ، وقرىء : "له معاقيب" جمع معقب أو معقبة . والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ } من العافية والنعمة { حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الحال الجميلة بكثرة المعاصي { مِن وَالٍ } ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم .
(3/236)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ خَوْفًا وَطَمَعًا } لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف ، أي : إرادة خوف وطمع . أو على معنى إخافة وإطماعاً ، ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق ، كأنه في نفسه خوف وطمع . أو على : ذا خوف وذا طمع . أو من المخاطبين ، أي : خائفين وطامعين . ومعنى الخوف والطمع : أنّ وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق ، ويطمع في الغيث . قال أبو الطيب :
فَتَى كالسَّحَابِ الْجُونِ تُخْشَى وَتُرْتَجَى ... يُرْجَى الْحَيَاء مِنْهَا وَيُخْشَى الصَّوَاعِقُ
وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر ، كالمسافر ، ومن له في جرينه التمر والزبيب ، ومن له بيت يكف ، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ، ويطمع فيه من له فيه نفع ، ويحيا به { السحاب } اسم الجنس ، والواحدة سحابة . و { الثقال } جمع ثقيلة؛ لأنك تقول سحابة ثقيلة ، وسحاب ثقال ، كما تقول : امرأة كريمة ونساء كرام ، وهي الثقال بالماء { وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له . أي يضجون بسبحان الله والحمد لله . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :
( 562 ) " سبحان من يسبح الرعد بحمده " وعن علي رضي الله عنه : سبحان من سبحت له .
وإذا اشتدّ الرعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 563 ) " اللهمّ لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " وعن ابن عباس .
( 564 ) أنّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال : " ملك من الملائكة موكل بالسحاب ، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب " وعن الحسن : خلق من خلق الله ليس بملك . ومن بدع المتصوّفة . الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده ، وما دلّ على قدرته الباهرة ووحدانيته ثم قال { وَهُمْ } يعني الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته { يجادلون فِى الله } حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعاد ، الخلائق بقولهم { مِنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] ويردّون الوحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد ، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم { الملائكة * بَنَات الله } فهذا جدالهم بالباطل ، كقولهم { وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } [ غافر : 5 ] وقيل : الواو للحال . أي : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم . وذلك .
( 565 ) أنّ أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم - حين وفد عليه مع عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدّة كغدّة البعير وموت في بيت سلولية ، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته - أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ { المحال } المماحلة ، وهي شدّة المماكرة والمكايدة .
(3/237)

ومنه : تمحل لكذا ، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان . ومنه الحديث :
( 566 ) " ولا تجعله علينا ما حلا مصدّقاً " وقال الأعشى :
فَرْعُ نَبْعٍ يَهَشُّ في غُصُنِ الْمَجْ ... دِ غَزِيرُ النّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ
والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه ، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون . وقرأ الأعرج بفتح الميم ، على أنه مفعل ، من حال يحول محالا إذا احتال . ومنه : أحول من ذئب ، أي أشدّ حيلة . ويجوز أن يكون المعنى : شديد الفقار ، ويكون مثلا في القوة والقدرة كما جاء : فساعد الله أشدّ ، وموساه أحدّ؛ لأن الحيوان إذا اشتدّ محاله ، كان منعوتاً بشدّة القوّة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره . ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه .
(3/238)

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{ دَعْوَةُ الحق } فيه وجهان أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما تضاف الكلمة إليه في قولك : كلمة الحق ، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل . والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، ويعطي الداعي سؤاله إن كان مصلحة له ، فكانت دعوة ملابسة للحق ، لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء ، لما في دعوته من الجدوى والنفع ، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه . والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا ، على معنى : دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب . وعن الحسن : الحق هو الله ، وكلّ دعاء إليه دعوة الحق . فإن قلت : ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله؟ قلت أما على قصة أربد فظاهر؛ لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكرٌ به من حيث لم يشعر . وقد
( 567 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله : ( اللهمّ اخسفهما بما شئت ) ، فأجيب فيهما ، فكانت الدعوة دعوة حق . وأما على الأوّل فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم ، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعا عليهم فيهم { والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِنْ } دون الله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } من طلباتهم { إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ } إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه ، أي كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم . وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه ، فبسطهما ناشراً أصابعه ، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه . وقرىء : "تدعون" بالتاء . كباسط كفيه ، بالتنوين { إِلاَّ فِى ضلال } إلا في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم .
(3/239)

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ } أي ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله ، شاؤا أو أبوا . لا يقدرون أن يمتنعوا عليه ، وتنقاد له { ظلالهم } أيضاً حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال . وقرىء : "بالغدو والإيصال" ، من آصلوا : إذا دخلوا في الأصيل .
(3/240)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{ قُلِ الله } حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم؛ لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض ، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله . كقوله : { قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 86 ] وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك فإذا قال : هذا قولي قال : هذا قولك ، فيحكي إقراره تقريراً له عليه واستيثاقاً منه ، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت . ويجوز أن يكون تلقيناً ، أي : إن كعوا عن الجواب فلقنهم ، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه { أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك { لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا } لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضرراً ، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب ، فما أبين ضلالتكما { أَمْ جَعَلُواْ } بل أجعلوا . ومعنى الهمزة الإنكار و { خَلَقُواْ } صفة لشركاء ، يعني أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله { فَتَشَابَهَ } عليهم خلق الله وخلقهم ، حتى يقولوا : قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه ، فاستحقوا العبادة ، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد ، إذ لا فرق بين خالق وخالق؛ ولكنهم اتخذوا له شركاه عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق { قُلِ الله خالق كُلّ شَىْء } لا خالق غير الله ، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق ، فلا يكون له شريك في العبادة { وَهُوَ الواحد } المتوحد بالربوبية { القهار } لا يغالب ، وما عداه مربوب ومقهور .
(3/241)

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما ، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع ، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفي به ، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً ، يثبت الماء في منافعه . وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب ، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة ، بزبد السيل الذي يرمي به ، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب . فإن قلت : لم نكرت الأودية؟ قلت : لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع ، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض . فإن قلت : فما معنى قوله : { بِقَدَرِهَا } ؟ قلت : بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ . ألا ترى إلى قوله : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } لأنه ضرب المطر مثلا للحق ، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة ، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف . فإن قلت : فما فائدة قوله : { ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع } ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله : { بِقَدَرِهَا } لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } لأنّ المعنى : وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب ، وهو الحلية والمتاع . وقوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع } عبارة جامعة لأنواع الفلز ، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك ، نحو ما جاء في ذكر الآجر { أوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين } [ القصص : 38 ] و "من" لابتداء الغاية . أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء . أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل [ { جُفَآءً } يجفؤه السيل : ] ، أي يرمي به . وجفأت القدر بزبدها ، وأجفأ السيل وأجفل . وفي قراءة رؤبة ابن العجاج : جفالا وعن أبي حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفأر . وقرىء : "يوقدون" ، بالياء : أي يوقد الناس .
(3/242)

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{ لِلَّذِينَ استجابوا } اللام متعلقة بيضرب ، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، أي : هما مثلا الفريقين . و { الحسنى } صفة لمصدر استجابوا ، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى . وقوله { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين . وقيل : قد تم الكلام عند قوله : { كذلك يَضْرِبُ الله الامثال } [ الرعد : 17 ] وما بعده كلام مستأنف . والحسنى : مبتدأ ، خبره { لِلَّذِينَ استجابوا } والمعنى : لهم المثوبة الحسنى ، وهي الجنة { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأ خبره ، "لو" مع ما في حيزه و { سُوء الحِسَابِ } المناقشة فيه . وعن النخعي : أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء .
(3/243)

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله { أَفَمَن يَعْلَمُ } لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم { أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق } فاستجاب ، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب : كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب } أي الذين عملوا على قضيات عقولهم ، فنظروا واستبصروا .
(3/244)

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
{ والذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } مبتدأ . و { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار } خبره كقوله : والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة . ويجوز أن يكون صفة لأولي الألباب ، والأوّل أوجه . وعهد الله : ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه : من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد ، تعميم بعد تخصيص { مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } من الأرحام والقرابات ، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ، ونصرتهم ، والذب عنهم ، والشفقة عليهم ، والنصيحة لهم ، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم ، وإفشاء السلام عليهم ، وعيادة مرضاهم ، وشهود جنائزهم . ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر ، وكل ما تعلق منهم بسبب ، حتى الهرة والدجاجة . وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ قالوا : من أهل خراسان . قال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم ، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي يخشون وعيده كله { وَيَخَافُونَ } خصوصاً { سُوء الحِسَابِ } فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا { صَبَرُواْ } مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف { ابتغاء وَجْهِ } الله ، لا ليقال : ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله :
وَتَجَلُّدِي لِلشّامِتِينَ أُرِيِهمُ ... ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت ، كقوله :
مَا أنْ جَزعْتُ وَلاَ هَلَعْ ... تُ وَلاَ يَرُدُّ بُكاي زَنْدَا
وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان حسناً عند الله ، وإلا لم يستحق به ثواباً ، وكان فعلا كلا فعل { مّمّا رزقناهم } من الحلال؛ لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ولا يسند إلى الله { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } يتناول النوافل ، لأنها في السر أفضل والفرائض ، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } ويدفعونها عن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرهم . وعن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا . وعن ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا . وقيل : إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره { عقبى الدار } عاقبة الدنيا وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها و { جنات عَدْنٍ } بدل من عقبى الدار . وقرىء "فنعم" بفتح النون . والأصل : نعم فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها ، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرىء : "يدخلونها" على البناء للمفعول .
(3/245)

وقرأ ابن أبي عبلة "صلُح" بضم اللام ، والفتح أفصح ، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة . وآباؤهم جمع أبوي كل واحد منهم ، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم { سلام عَلَيْكُمُ } في موضع الحال ، لأنّ المعنى : قائلين سلام عليكم أو مسلمين ، فإن قلت : بم تعلق قوله { بِمَا صَبَرْتُمْ } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : هذا بما صبرتم ، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم ، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم والمعنى : لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة ، كقوله :
بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا ... وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 568 ) أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ويجوز أن يتعلق بسلام ، أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم .
(3/246)

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
{ مِن بَعْدِ ميثاقه } من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول { سُوء الدار } يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا ، لأنه في مقابلة عقبى الدار ، ويجوز أن يراد بالدار جهنم ، وبسوئها عذابها .
(3/247)

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{ الله يَبْسُطُ الرزق } أي الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره ، وهو الذي بسط رزق أهل مكة ووسعه عليهم { وَفَرِحُواْ } بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لافرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة ، وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك .
(3/248)

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
فإن قلت : كيف طابق قولهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } قوله : { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } ؟ قلت : هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبيّ قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط ، كان موضعاً للتعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم : إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر ، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ } كان على خلاف صفتكم { أَنَابَ } أقبل إلى الحق ، وحقيقته دخل في نوبة الخير ، و { الذين ءَامَنُواْ } بدل من { مَنْ أَنَابَ } { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته ، كقوله : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } [ الزمر : 23 ] أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته ، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها { الذين ءَامَنُواْ } مبتدأ ، و { طوبى لَهُمْ } خبره . ويجوز أن يكون بدلاً من القلوب ، على تقدير حذف المضاف ، أي : تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا ، وطوبى مصدر من طاب ، كبشرى وزلفى ، ومعنى "طوبى لك" أصبت خيراً وطيباً ، ومحلها النصب أو الرفع ، كقولك : طيباً لك ، وطيب لك ، وسلاماً لك ، وسلام لك ، والقراءة في قوله "وحسن مآب" بالرفع والنصب ، تدلك على محليها . واللام في { لَهُمْ } للبيان مثلها في سقيا لك ، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها ، كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي : "طيبى لهم" ، فكسر الطاء لتسلم الياء ، كما قيل : بيض ومعيشة .
(3/249)

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ } مثل ذلك الإرسال أرسلناك ، يعني : أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات ، ثم فسر كيف أرسله فقال : { فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ } أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء { لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } وحال هؤلاء أنهم يكفرون { بالرحمن } بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء ، وما بهم من نعمة فمنه ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم { قُلْ هُوَ رَبّى } الواحد المتعالي عن الشركاء { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في نصرتي عليكم { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم .
(3/250)

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا } جوابه محذوف ، كما تقول لغلامك : لو أني قمت إليك ، وتترك الجواب والمعنى : ولو أن قرآنا { سُيّرَتْ بِهِ الجبال } عن مقارّها ، وزعزعت عن مضاجعها { أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض } حتى تتصدع وتتزايل قطعاً { أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى } فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف ، كما قال : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } [ الحشر : 21 ] هذا يعضد ما فسرت به قوله : { لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الرعد : 30 ] من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن . وقيل : معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم ، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة } [ الأنعام : 111 ] الآية . وقيل : إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سيِّر بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع ، كما سخرت لداود عليه السلام إن كنت نبياً كما تزعم ، فلست بأهون على الله من داود . وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا ، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام . أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا : منهم قصي بن كلاب فنزلت ومعنى تقطيع الأرض على هذا : قطعها بالسير ومجاوزتها . وعن الفراء : هو متعلق بما قبله . والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } وما بينهما اعتراض ، وليس ببعيد من السداد . وقيل { قُطّعَتْ بِهِ الارض } شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا } على معنيين ، أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها؛ إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه . والثاني : بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان ، وهو قادر على الالجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار . ويعضده قوله : { أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء الله } يعني مشيئة الإلجاء والقسر { لَهَدَى الناس جَمِيعًا } ومعنى { أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ } أفلم يعلم . قيل : هي لغة قوم من النخع . وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه؛ لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك . قال سحيم بن وثيل الرياحي :
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إذْ يَيْسُرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
ويدل عليه أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرؤا : "أفلم يتبين" وهو تفسير ( أفلم ييئس ) وقيل : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات ، وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام .
(3/251)

وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ، وهذه والله فرية ما فيها مرية . ويجوز أن يتعلق { أَن لَّوْ يَشَاء } بآمنوا ، على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ } من كفرهم وسوء أعمالهم { قَارِعَةٌ } داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم { أَوْ تَحُلُّ } القارعة { قَرِيبًا } منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها ، ويتعدى إليهم شرورها { حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله } وهو موتهم ، أو القيامة . وقيل : ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب قارعة؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم ، وتصيب من مواشيهم . أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك ، كما حل بالحديبية ، حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، وكان الله قد وعده ذلك .
(3/252)

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
الإملاء : الإمهال ، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن ، كالبهيمة يملي لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وتسلية له .
(3/253)

أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ } احتجاج عليهم في إشراكهم بالله ، يعني أفا الله الذي هو قائم رقيب { على كُلّ نَفْسٍ } صالحة أو طالحة { بِمَا كَسَبَتْ } يعلم خيره وشره ، ويعدّ لكل جزاءه ، كمن ليس كذلك . ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدأ ويعطف عليه وجعلوا ، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه { وَجَعَلُواْ } له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده { شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ } أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم ، ثم قال : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } على أم المنقطعة ، كقولك للرجل : قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف ، ومعناه : بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفي أن يكون له شركاء . ونحو : { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } [ يونس : 18 ] ، { أَم بظاهر مّنَ القول } بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ، { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } [ التوبة : 30 ] ، { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } [ يوسف : 40 ] وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق : أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه ، فتبارك الله أحسن الخالقين . وقرىء : "أتنبئونه" بالتخفيف { مَكْرِهِمْ } كيدهم للإسلام بشركهم { وَصُدُّواْ } قرىء بالحركات الثلاث . وقرأ ابن أبي إسحاق : "وصدّ" بالتنوين { وَمَن يُضْلِلِ الله } ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدي { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } فما له من أحد يقدر على هدايته { لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا } وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن ، ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر ، ولذلك سماه عذاباً { وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } وما لهم من حافظ من عذابه . أو ما لهم من جهته واق من رحمته .
(3/254)

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{ مَّثَلُ الجنة } صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه ، أي فيما قصصناه عليكم مثل الجنة . وقال غيره : الخبر { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تقول : صفة زيد أسمر ، وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، على حذف الموصوف تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد . وقرأ علي رضي الله عنه "أمثال الجنة" على الجمع أي صفاتها { أُكُلُهَا دَائِمٌ } كقوله { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] { وِظِلُّهَا } دائم لا ينسخ ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس .
(3/255)

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
{ والذين ءاتيناهم الكتاب } يريد من أسلم من اليهود ، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجران ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وثمانية من أهل اليمن ، هؤلاء { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحزاب } يعني ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه ، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني [ مما ] هو ثابت في كتبهم غير محرف ، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع . فإن قلت : كيف اتصل قوله : { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } بما قبله؟ قلت : هو جواب للمنكرين معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به . فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } [ آل عمران : 64 ] وقرأ نافع في رواية أبي خليد : "ولا أشرك" بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وأنا [ لا ] أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى : أمرت أن أعبد الله غير مشرك به { إِلَيْهِ أَدْعُو } خصوصاً لا أدعو إلى غيره { وَإِلَيْهِ } لا إلى غيره مرجعي ، وأنتم تقولون مثل ذلك ، فلا معنى لإنكاركم .
(3/256)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
{ وكذلك أنزلناه } ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه ، والإنذار بدار الجزاء { حُكْمًا عَرَبِيّا } حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، وانتصابه على الحال . كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها ، فقيل له : لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة ، خذلك الله فلا ينصرك ناصر ، وأهلكك فلا يقيك منه واق ، وهذا من باب الإلهاب والتهييج ، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه ، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة الشكيمة بمكان .
(3/257)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
كانوا يعيبونه بالزواج والولاد ، كما كانوا يقولون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، وكانوا يقترحون عليه الآيات ، وينكرون النسخ فقيل : كان الرسل قبله بشراً مثله ذوي أزواج وذرية . وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم ، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات؛ فلكل وقت حكم يكتب على العباد ، أي : يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم { يَمْحُواْ الله مَا يَشَاء } ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته ، أو يتركه غير منسوخ ، وقيل : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة؛ لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل { وَيُثَبّتْ } غيره . وقيل يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم . وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها ، والكلام في نحو هذا واسع المجال { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه . وقرىء : "ويثبت" .
(3/258)

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ } وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم . أو توفيناك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب ، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم .
(3/259)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض } أرض الكفر { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بما نفتح على المسلمين من بلادهم ، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الأنبياء : 44 ] ، { أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء : 44 ] ، { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق } [ فصلت : 53 ] والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته؛ ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره؛ فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر . وقرىء "ننقصها" بالتشديد { لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } لا رادّ لحكمه . والمعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، وحقيقته : الذي يعقبه أي يقفيه بالردّ والإبطال . ومنه قيل لصاحب الحق : معقب؛ لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب . قال لبيد :
طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقَّهُ الْمَظْلُومُ ... والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا . فإن قلت : ما محل قوله لا معقب لحكمه؟ قلت : هو جملة محلها النصب على الحال ، كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه ، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة ، تريد حاسراً .
(3/260)

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
{ وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } وصفهم بالمكر ، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا } ثم فسر ذلك بقوله : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار } لأنّ من علم ما تكسب كل نفس ، وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون . وهم في غفلة مما يراد بهم . وقرىء : "الكفار" ، و "الكافرون" . و "الذين كفروا" . والكفر : أي أهله . والمراد بالكافر الجنس : وقرأ جناح بن حبيش ، و "سَيُعلم الكافر" ، من أعلمه أي سيخبر .
(3/261)

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ كفى بالله شَهِيدًا } لما أظهر من الأدلة على رسالتي { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } والذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر . وقيل : ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا . لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم : وقيل : هو الله عز وعلا والكتاب : اللوح المحفوظ وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله . والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو ، شهيداً بيني وبينكم . وتعضده قراءة من قرأ : "ومن عنده علم الكتاب" على من الجارّة ، أي ومن لدنه علم الكتاب ، لأن علم من علمه من فضله ولطفه . وقرىء : "ومن عنده علم الكتاب" على من الجارّة ، وعلم ، على البناء للمفعول وقرىء : "وبمن عنده علم الكتاب" . فإن قلت : بم ارتفع علم الكتاب؟ قلت : في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدّر في الظرف ، فيكون فاعلاً؛ لأنّ الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول ، فعمل عمل الفعل ، كقولك ، مررت بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول : بالذي استقرّ في الدار أخوه . وفي القراءة التي لم يقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالإبتداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 569 ) " من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله "
(3/262)

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{ كتاب } هو كتاب ، يعني السورة . وقرىء : "ليخرج الناس" . والظلمات والنور : استعارتان للضلال والهدى { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أي نور؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد . وقوله : { الله } عطف بيان للعزيز الحميد؛ لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا . وقرىء بالرفع على : "هو الله" . الويل : نقيض الوأل ، وهو النجاة اسم معنى ، كالهلاك؛ إلا أنه لا يشتق منه فعل ، إنما يقال : ويلاً له ، فينصب نصب المصادر ، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات ، فيقال : ويل له ، كقوله سلام عليك . ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل . فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بالويل؟ قلت : لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد ، ويضجون منه ، ويقولون : يا ويلاه ، كقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] { الذين يَسْتَحِبُّونَ } مبتدأ خبره : أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين ، ومنصوباً على الذمّ . أو مرفوعاً على أعني الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون ، والاستحباب : الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة؛ لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إِليه وأفضل عندها من الآخر . وقرأ الحسن "ويصِدّون" ، بضم الياء وكسر الصاد . يقال : صدّه عن كذا ، وأصدّه ، قال :
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ ... والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً ، لتنقله من غير التعدّي إلى التعدّي . وأما صدّه ، فموضوع على التعدية كمنعه ، وليست بفصيحة كأوقفه؛ لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً ، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية ، والأصل : ويبغون لها ، فحذف الجار وأوصل الفعل { فِى ضلال بَعِيدٍ } أي ضلوا عن طريق الحق ، ووقفوا دونه بمراحل . فإن قلت : فما معنى وصف الضلال بالبعد . قلت : هو من الإسناد المجازي ، والبعد في الحقيقة للضالّ؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق ، فوصف به فعله ، كما تقول : جدّ جدّه ، ويجوز أن يراد : في ضلال ذي بعد . أو فيه بعد : لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً .
(3/263)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
{ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به ، كما قال : { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } [ فصلت : 44 ] فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعاً { قل يا أَيُّهَا النَّاس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] بل إلى الثقلين ، وهم على ألسنة مختلفة ، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية ، لم تكن للعرب حجة أيضاً . قلت : لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد ، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه ، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر . قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة ، على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها - مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً - لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء . ومعنى { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } بلغة قومه . وقرىء : "بلسن قومه" . واللسن واللسان : كالريش والرياش ، بمعنى اللغة . وقرىء : "بلُسن قومه" بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة ، وهو جمع لسان ، كعماد وعمد وعمد على التخفيف . وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ورووه عن الضحاك . وأن الكتب كلها نزلت بالعربية ، ثم أدّاها كل نبيّ بلغة قومه ، وليس بصحيح؛ لأنّ قوله ليبين لهم ضمير القوم وهم العرب ، فيؤدّي إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب ، وهذا معنى فاسد { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآء } كقوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن . ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن . والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف ، وبالهداية : التوفيق واللطف ، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان { وَهُوَ العزيز } فلا يغلب على مشيئته { الحكيم } فلا يخذل إلا أهل الخذلان ، ولا يلطف إلا بأهل اللطف .
(3/264)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ أَنْ أَخْرِجْ } بمعنى أي أخرج؛ لأنّ الإرسال فيه معنى القول ، كأنه قيل : أرسلناه وقلنا له أخرج . ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل ، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر ، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر ، وغيره سواء في الفعلية . والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل : قولهم أوعز إليه بأن أفعل ، فأدخلوا عليها حرف الجر . وكذلك التقدير بأن أخرج قومك { وَذَكِّرْهُمْ بأيام الله } وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم : قوم نوح وعاد وثمود . ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها ، كيوم ذي قار ، ويوم الفجار ، ويوم قضة وغيرها ، وهو الظاهر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : نعماؤه وبلاؤه . فأمّا نعماؤه ، فإنه ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى . وفلق لهم البحر . وأمّا بلاؤه فإهلاك القرون { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه ، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر وقيل : أراد لكل مؤمن ، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم ، تنبيهاً عليهم .
(3/265)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
{ إِذْ أَنجَاكُمْ } ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي إنعامه عليكم ذلك الوقت . فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت : لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام ، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية ، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه ، ويتبين الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت : نعمة الله عليكم ، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها ، وإلا كان كلاماً ، ويجوز أن يكون "إذ" بدلا من نعمة الله ، أي : اذكروا وقت إنجائكم ، وهو من بدل الاشتمال . فإن قلت : في سورة البقرة { يُذَبّحُونَ } وفي الأعراف { يَقْتُلُونَ } وههنا { وَيُذَبِّحُونَ } مع الواو ، فما الفرق؟ قلت : الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له ، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أوفى على جنس العذاب ، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر . فإن قلت : كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت : تمكينهم وإمهالهم ، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله . ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم ، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً ، قال تعالى { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وقال زهير :
فَأَبْلاَهُمَا خَيرَ البَلاَءِ الذي يَبْلُوا ...
(3/266)

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } من جملة ما قال موسى لقومه ، وانتصابه للعطف على قوله : { نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 231 ] كأنه قيل : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ، واذكروا حين تأذن ربكم . ومعنى تأذن ربكم : أذن ربكم . ونظير تأذن وأذن : توعد وأوعد ، تفضل وأفضل . ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل ، كأنه قيل : وإذ أذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه . والمعنى : وإذ تأذن ربكم فقال : { لَئِن شَكَرْتُمْ } أو أجرى { تَأَذَّنَ } مجرى ، قال : لأنه ضرب من القول . وفي قراءة ابن مسعود : "وإذ قال ربكم لئن شكرتم" ، أي لئن شكرتم يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح { لأَزِيدَنَّكُمْ } نعمة إلى نعمة ، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } وغمطتم ما أنعمت به عليكم { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } لمن كفر نعمتي .
(3/267)

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
{ وَقَالَ موسى } إن كفرتم أنتم يا بني إسرائيل والناس كلهم ، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه وأنتم إليه محاويج ، والله غني عن شكركم { حَمِيدٌ } مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه ، وإن لم يحمده الحامدون .
(3/268)

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } جملة من مبتدأ وخبر ، وقعت اعتراضاً : أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح . و { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراض . والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون ، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون ، يعني أنهم يدّعون علم الأنساب ، وقد نفي الله علمها عن العباد { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل ، كقوله : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] أو ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه . أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره ، إقناطاً لهم من التصديق . ألا ترى إلى قوله : { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } وهذا قول قوي . أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء : أطبقوا أفواهكم واسكتوا . أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت . أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون . وقيل : الأيدي ، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادي ، أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم ، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها ، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها [ إلى حيثُ جاءت ] منه على طريق المثل { مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } من الإيمان بالله . وقرىء : "تدعونا" بإدغام النون { مُرِيبٍ } موقع في الريبة أو ذي ريبة ، من أرابه ، وأراب الرجل ، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر .
(3/269)

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{ أَفِى الله شَكٌّ } أدخلت همزة الإنكار على الظرف ، لأن الكلام ليس في الشك ، إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } أي يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة كقوله : دعوته لينصرني ، ودعوته ليأكل معي ، وقال :
دَعَوْتُ لِمَا نَابنِي مِسْوَرا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
فإن قلت : ما معنى التبعيض في قوله : من ذنوبكم؟ قلت : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين ، كقوله : { واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 3 - 4 ] ، { ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذنوبكم } [ الأحقاف : 31 ] وقال في خطاب المؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] إلى أن قال { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 12 ] وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد ، وقيل : أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله ، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها { وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره ، يبلغكموه إن آمنتم ، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت { إِنْ أَنتُمْ } ما أنتم { إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } لا فضل بيننا وبينكم ، ولا فضل لكم علينا ، فلم تخصون بالنبوّة دوننا ، ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة { بسلطان مُّبِينٍ } بحجة بينة ، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج ، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجاً .
(3/270)

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } تسليم لقولهم ، وأنهم بشر مثلهم ، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها ، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم ، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم ، واقتصروا على قولهم { ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } بالنبوّة ، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها ، لخصائص فيهم قد استؤثروا بها على أبناء جنسهم { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا ، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمروها به ، كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله : { وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } ومعناه : وأيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه { وَقَدْ هَدَانَا } وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين ، فإن قلت : كيف كرّر الأمر بالتوكل؟ قلت : الأول لاستحداث التوكل ، وقوله : { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم .
(3/271)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ لَنُخْرِجَنَّكُمْ } ، { أَوْ لَتَعُودُنَّ } ليكونن أحد الأمرين لا محالة ، إما إخراجكم إما عودكم حالفين على ذلك . فإن قلت : كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها . قلت : معاذ الله ، ولكن العود بمعنى الصيرورة ، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ، ولكن عاد ، ما عدت أراه ، عاد لا يكلمني ، ما عاد لفلان مال . أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به ، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } حكاية تقتضي إضمار القول ، أو إجراء الإيجاء مجرى القول ، لأنه ضرب منه . وقرأ أبو حيوة : "ليهلكنّ" ، "وليسكننكم" بالياء اعتباراً لأوحى ، وأن لفظه لفظ الغيبة ، ونحوه قولك : أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن . والمراد بالأرض . أرض الظالمين وديارهم ، ونحوه { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها } [ الأعراف : 127 ] ، { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم } [ الأحزاب : 27 ] . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 570 ) " من آذى جاره ورثه الله داره " ولقد عاينت هذا في مدة قريبة : كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه ، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته ، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدّثتهم به ، وسجدنا شكراً لله { ذلك } إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم ، أي ذلك الأمر حق { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } موقفي وهو موقف الحساب ، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ، أو على إقحام المقام . وقيل : خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله . والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين ، كقوله : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] .
(3/272)

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{ واستفتحوا } واستنصروا الله على أعدائهم { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] وهو معطوف على { أوحي إليهم } وقرىء : "واستفتحوا" بلفظ الأمر . وعطفه على { لتهلكنّ } أي : أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ وقال لهم استفتحوا { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا ، وخاب كل جبار عنيد ، وهم قومهم . وقيل : واستفتح الكفار على الرسل ، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل ، وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه { مِّن وَرَآئِهِ } من بين يديه . قال :
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ
وهذا وصف حاله وهو في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف ، فإن قلت : علام عطف { ويسقى } ؟ قلت : على محذوف تقديره : من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقي من ماء صديد ، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } . فإن قلت : ما وجه قوله تعالى { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } ؟ قلت : صديد عطف بيان لماء ، قال : { ويسقى مِن مَّآءٍ } فأبهمه إبهاماً ثم بينه بقوله { صَدِيدٍ } وهو ما يسيل من جلود أهل النار { يَتَجَرَّعُهُ } يتكلف جرعه { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } دخل كاد للمبالغة . يعني : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة ، كقوله : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ } كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه وأحاطت به من جميع الجهات ، تفظيعاً لما يصيبه من الآلام . وقيل : { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من جسده حتى من إبهام رجله . وقيل : من أصل كل شعرة { وَمِن وَرَآئِهِ } ومن بين يديه { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله وأغلظ . وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد . ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا - والفتح المطر - في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا ، فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر ، وهو صديد أهل النار . واستفتحوا - على هذا التفسير - : كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم .
(3/273)

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه ، تقديره : وفيما يقص عليك { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله : { أعمالهم كَرَمَادٍ } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم؟ فقيل : أعمالهم كرماد . ويجوز أن يكون المعنى : مثل أعمال الذين كفروا بربهم . أو هذه الجملة خبراً للمبتدأ ، أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك صفة زيد عرضه مصون وما له مبذول ، أو يكون أعمالهم بدلاً من { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ } على تقدير : مثل أعمالهم ، وكرماد : الخبر وقرىء : "الرياح" { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } جعل العصف لليوم ، وهو لما فيه ، وهو الريح أو الرياح ، كقولك : يوم ماطر وليلة ساكرة . وإنما السكور لريحها وقرىء : "في يوم عاصف" ، بالإضافة وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم ، من صلة الأرحام وعتق الرقاب ، وفداء الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وإغاثة الملهوفين ، والإجازة ، وغير ذلك من صنائعهم ، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به ، وكونها لوجهه : برماد طيرته الريح العاصف { لاَّ يَقْدِرُونَ } يوم القيامة { مِمَّا كَسَبُواْ } من أعمالهم { على شَىْءٍ } أي لا يرون له أثراً من ثواب ، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء { ذلك هُوَ الضلال البعيد } إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب { بالحق } بالحكمة والغرض الصحيح والأمر العظيم ، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة .
(3/274)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
وقرىء : "خالق السموات والأرض" { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقاً آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم ، إعلاماً منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم ، يقدر على الشيء وجنس ضده { وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } بمتعذر ، بل هو هين عليه يسير ، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فإذا خلص له الداعي إلى شيء وانتفى الصارف ، تكوّن من غير توقف : كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داع ولم يعترض دونه صارف ، وهذه الآيات بيان لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر بالله ، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد ، ويخاف عقابه ويرجىثوابه في دار الجزاء .
(3/275)

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{ وَبَرَزُواْ للَّهِ } ويبرزون يوم القيامة . وإنما جيء به بلفظ الماضي ، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد ، ونحوه : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] ، { ونادى أصحاب النار } [ الأعراف : 50 ] ونظائر له . ومعنى بروزهم لله - والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له - أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ، ويظنون أن ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا يخفى عليه خافية . أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه . فإن قلت : لما كتب { الضعفؤا } بواو قبل الهمزة؟ قلت : كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو . ونظيره { علمؤا بَنِى إسراءيل } [ الشعراء : 197 ] والضعفاء : الأتباع والعوام والذين استكبروا : ساداتهم وكبراؤهم ، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم { تَبَعًا } تابعين : جمع تابع على تبع ، كقولهم : خادم وخدم وغائب وغيب أو ذوي تبع . والتبع : الأتباع ، يقال : تبعه تبعاً . فإن قلت : أي فرق بين من في { مّنْ عَذَابِ الله } وبينه في { مِن شَىْء } ؟ قلت : الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله . ويجوز أن تكونا للتبعيض معاً ، بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ، أي : بعض بعض عذاب الله فإن قلت : فما معنى قوله : { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } ؟ قلت : الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم وعتاباً على استتباعهم واستغوائهم . وقولهم : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا } من باب التبكيت؛ لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم ، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم : بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم ، إما موركين الذنب في ضلالهم وإضلالهم على الله ، كما حكى الله عنهم وقالوا { لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] ، { لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } [ النحل : 35 ] يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا . ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء } [ المجادلة : 18 ] . وإما أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان . وقيل : معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم ، أي : لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } مستويان علينا الجزع والصبر . والهمزة وأم للتسوية . ونحوه : { فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم } [ الطور : 16 ] وروي أنهم يقولون : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون كذلك ثم يقولون : سواء علينا .
(3/276)

فإن قلت : كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ اتصاله من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعاً مما هم فيه ، فقالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ، يريدون أنفسهم وإياهم ، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها ، يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ . أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم ، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا : { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي منجى ومهرب ، جزعنا أم صبرنا ، ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً ، كأنه قيل : قالوا جميعاً سواء علينا ، كقوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أخنه } [ يوسف : 52 ] والمحيص يكون مصدراً كالمغيب والمشيب . ومكاناً كالمبيت والمصيف . ويقال : حاص عنه وجاض ، بمعنى واحد .
(3/277)

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{ لَمَّا قُضِىَ الأمر } لما قطع الأمر وفرغ منه ، وهو الحساب ، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار . وروي أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً في الأشقياء من الجنّ والإنس فيقول ذلك { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم { وَوَعَدتُّكُمْ } خلاف ذلك { فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني ، وليس الدعاء من جنس السلطان ، ولكنه كقولك : ما تحيتهم إلا الضرب . { فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم ، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم ، وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه ، وليس من الله إلا التمكين ، ولا من الشيطان إلا التزيين . ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم ، فإنّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه . فإن قلت : قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به . قلت : لو كان هذا القول منه باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره ، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام : ألا ترى إلى قوله : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } كيف أتى فيه بالحق والصدق ، وفي قوله : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } وهو مثل قول الله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] ، { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ } لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه . والإصراخ : الإغاثة . وقرىء : "بمصرخي" بكسر الياء وهي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول :
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَاتَا في ... قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِي
وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة ، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة ، حيث قبلها ألف في نحو عصاي ، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام ، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن ، فحرّكت بالكسر على الأصل . قلت : هذا قياس حسن ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات . "ما" في { بِمَا أشركتموني } مصدرية ، و { مِن قَبْلُ } متعلقة بأشركتموني ، يعني : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم ، أي في الدنيا ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] ومعنى كفره بإشراكهم إياه : تبرؤه منه واستنكاره له ، كقوله تعالى : { إِنَّا بُرَءاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ }
(3/278)

[ الممتحنة : 4 ] وقيل : { مِن قَبْلُ } يتعلق بكفرت . وما موصولة ، أي : كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل ، تقول : شركت زيداً ، فإذا نقلت بالهمزة قلت : أشركنيه فلان ، أي : جعلني له شريكاً . ونحو "ما" هذه "ما" في قولهم : سبحان ما سخركنّ لنا . ومعنى إشراكهم الشيطان بالله : طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها ، وهذا آخر قول إبليس ، وقوله : { إِنَّ الظالمين } قول الله عزّ وجلّ ، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس ، وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت ، ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه ، وأن يتصوّروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول ، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجهم . وقرىء : "فلا يلوموني" ، بالياء على طريقة الالتفات ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
(3/279)

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : "وأدخل الذين آمنوا" على فعل المتكلم ، بمعنى : وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله ، لا من قول إبليس { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } متعلق بأدخل ، أي : أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره . فإن قلت : فبم يتعلق في القراءة الأخرى ، وقولك : وأدخلهم أنا بإذن ربهم ، كلام غير ملتئم؟ قلت : الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله : { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } بما بعده ، أي { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } بإذن ربهم ، يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم .
(3/280)

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
قرىء : "ألم تر" ساكنة الراء ، كما قرىء : "من يتق" ، وفيه ضعف { ضَرَبَ الله مَثَلاً } اعتمد مثلاً ووضعه . و { كَلِمَةً طَيّبَةً } نصب بمضمر ، أي : جعل كلمة طيبة { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } وهو تفسير لقوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } كقولك : شرّف الأمير زيداً : كساه حلة ، وحمله على فرس . ويجوز أن ينتصب { مثل الذين } و { كَلِمةًَ } بضرب ، أي : ضرب كلمة طيبة مثلاً ، بمعنى جعلها مثلاً ثم قال : { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } على أنها خبر مبتدأ محذوف ، بمعنى هي كشجرة طيبة { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها { وَفَرْعُهَا } وأعلاها ورأسها { فِى السماء } ويجوز أن يريد : وفروعها ، على الاكتفاء بلفظ الجنس . وقرأ أنس بن مالك "كشجرة طيبة ثابت" أصلها فإن قلت : أيّ فرق بين القراءتين؟ قلت : قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة ، وإذا قلت : مررت برجل أبوه قائم ، فهو أقوى معنى من قولك : مررت برجل قائم أبوه؛ لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل . والكلمة الطيبة : كلمة التوحيد . وقيل : كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة . وعن ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله . وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار ، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :
( 571 ) " إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي " فوقع الناس في شجر البوادي ، وكنت صبياً ، فوقع في قلبي أنها النخلة ، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم . وروي : فمنعني مكان عمر واستحييت ، فقال لي عمر : يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إنها النخلة "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : شجرة في الجنة وقوله : { فِى السماء } معناه في جهة العلوّ والصعود ، ولم يرد المظلة ، كقولك في الجبل : طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } تعطي ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها { بِإِذْنِ رَبّهَا } بتيسير خالقها وتكوينه { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني .
(3/281)

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } كمثل شجرة خبيثة ، أي : صفتها كصفتها . وقرىء : "ومثل كلمة" بالنصب ، عطفاً على كلمة طيبة ، والكلمة الخبيثة : كلمة الشرك . وقيل : كل كلمة قبيحة . وأمّا الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث ونحو ذلك . وقوله : { اجتثت مِن فَوْقِ الأرض } في مقابلة قوله : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } [ إبراهيم : 24 ] ومعنى { اجتثت } استؤصلت ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي استقرار . يقال : قرّ الشيء قراراً ، كقولك : ثبت ثباتاً شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة ، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إنما يضمحل عن قريب لبطلانه ، من قولهم : الباطل لجلج . وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ، ولا في السماء مصعداً ، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة .
(3/282)

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{ القول الثابت } الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه ، وتثبيتهم به في الدنيا : أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا ، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما . وتثبيتهم في الآخرة . أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم ، لم يتلعثموا ولم يبهتوا ، ولم تحيرهم أهوال الحشر . وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر . وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 572 ) ذكر قبض روح المؤمن فقال " ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله : " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " { وَيُضِلُّ الله الظالمين } الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم ، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم ، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا : { إِنَّا وَجَدْنآ ءابآءَنَا } [ الزخرف : 22 - 23 ] وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء ، وهم في الآخرة أضل وأذل { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآء } أي ما توجبه الحكمة؛ لأن مشيئة الله تابعة للحكمة ، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم ، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم ، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم ، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم .
(3/283)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله } أي شكر نعمة الله { كُفْراً } لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً ، ونحوه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] أي شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه . ووجه آخر : وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر ، حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة . وهم أهل مكة : أسكنهم الله حرمه ، وجعلهم قوّام بيته ، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم . أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة ، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم ، وعن عمر رضي الله عنه : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر . وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين . وقيل : هم متنصرة العرب : جبلة بن الأيهم وأصحابه { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ } ممن تابعهم على الكفر { دَارَ البوار } دار الهلاك . وعطف { جَهَنَّمَ } على دار البوار عطف بيان قرىء : "ليضلوا" بفتح الياء وضمها . فإن قلت : الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد فما معنى اللام قلت : لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد ، كما كان الإكرام في قولك : جئتك لتكرمني ، نتيجة المجيء ، دخلته اللام وإن لم يكن غرضاً ، على طريق التشبيه والتقريب { تَمَتَّعُواْ } إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر ، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه ، مأمورون به ، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه ، وهو أمر الشهوة . والمعنى : إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار } [ الزمر : 8 ] .
(3/284)

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
المقول محذوف ، لأن جواب { قُل } يدل عليه ، وتقديره { قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ } أقيموا الصلاة وأنفقوا { يُقِيمُواْ الصلاوة وَيُنْفِقُواْ } وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا ، بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، ويكون هذا هو المقول ، قالوا : وإنما جاز حذف اللام ، لأنّ الأمر الذي هو { قُل } عوض منه ، ولو قيل : يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام ، لم يجز فإن قلت : علام انتصب { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } ؟ قلت : على الحال ، أي : ذوي سرّ وعلانية ، بمعنى : مسرين ومعلنين . أو على الظرف ، أي وقتي سر وعلانية ، أو على المصدر ، أي : إنفاق سر وإنفاق علانية ، [ و ] المعنى : إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب . والخلال : المخالة . فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال } قلت : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيراً منها . وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله تعالى : { وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تَجْزِى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الاعلى } [ الليل : 19-20 ] فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال ، أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة ، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله ، وقرىء : "لا بيع فيه ولا خلالُ" بالرفع .
(3/285)

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{ الله } مبتدأ ، و { الذى خَلَقَ } خبره ، و { مِنَ الثمرات } بيان للرزق ، أي : أخرج به رزقاً هو ثمرات . ويجوز أن يكون { مِنَ الثمرات } مفعول أخرج ، و { رِزْقاً } حالاً من المفعول ، أو نصباً على المصدر من أخرج ، لأنه في معنى رزق { بِأَمْرِهِ } بقوله كن { دآئِبَينَ } يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات ، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات { وَسَخَّر لَكُمُ الَّيْلَ والنَّهَارَ } يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم { وءاتاكم مِّن كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ } من للتبعيض ، أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه ، نظراً في مصالحكم . وقرىء : "من كلّ" بالتنوين ، وما سألتموه نفي ومحله النصب على الحال أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، ويجوز أن تكون { مَا } موصولة ، على : وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال { لاَ تُحْصُوهَا } لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها ، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال . وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله { لَظَلُومٌ } يظلم النعمة بإغفال شكرها { كَفَّارٌ } شديد الكفران لها . وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع . والإنسان للجنس ، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه .
(3/286)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
{ هذا البلد } يعني البلد الحرام ، زاده الله أمناً ، وكفاه كل باغ وظالم ، وأجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام { ءَامِناً } ذا أمن . فإن قلت : أي فرق بين قوله : { اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } [ البقرة : 126 ] وبين قوله : { اجعل هذا البلد ءَامِنًا } ؟ قلت : قد سأل في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف ، فاجعله آمناً { واجنبنى } وقرىء : "وأجنبني" ، وفيه ثلاث لغات : جنبه الشر ، وجنبه ، وأجنبه؛ فأهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد ، وأهل نجد جنبني وأجنبني ، والمعنى : ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها { وَبَنِىَّ } أراد بنيه من صلبه وسئل ابن عيينة : كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال : ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً ، واحتج بقوله : { واجنبني وبني } { أَن نَّعْبُدَ الأصنام } إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم ، قالوا : البيت حجر ، فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت ، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ، فاستحب أن يقال : طاف بالبيت ، ولا يقال : دار بالبيت { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } فأعوذ بك أن تعصمني وبنيَّ من ذلك ، وإنما جعلن مضلات؛ لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ ، فكأنهنّ أضللنهم ، كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرّتهم ، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها { فَمَن تَبِعَنِى } على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي { فَإِنَّهُ مِنِّى } أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي ، وكذلك قوله :
( 573 ) " من غشنا فليس منا " أي ليس بعض المؤمنين ، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم { وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي . وقيل : معناه ومن عصاني فيما دون الشرك .
(3/287)

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ مِن ذُرّيَّتِى } بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه { بِوَادٍ } هو وادي مكة { غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } لا يكون فيه شيء من زرع قط ، كقوله : { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلا الاستقامة لا غير . وقيل للبيت المحرم ، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به ، وجعل ما حوله حرماً لمكانه ، أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار ، كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب ، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها ، أو لأنه حرّم على الطوفان أي منع منه ، كما سُمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه { لِيُقِيمُواْ الصلاة } اللام متعلقة بأسكنت ، أي : ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق ، إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك ، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع ، مستسعدين بجوارك الكريم ، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك ، والطواف به ، والركوع والسجود حوله ، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } أفئدة من أفئدة الناس ، ومن للتبعيض ، ويدل عليه ما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم ، وقيل : لو لم يقل { مِّنَ } لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند ويجوز أن يكون { مِّنَ } للابتداء ، كقولك : القلب مني سقيم ، تريد قلبي ، فكأنه قيل : أفئدة ناس ، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة . وقرىء : "آفدة" ، بوزن عاقدة . وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون من القلب كقولك : آدر ، في أدؤر . والثاني : أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت ، أي جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم . وقرىء : "أفدة" ، وفيه وجهان : أن تطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين . وأن يكون من أفد { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً من قوله :
يَهْوِي مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ ... وقرىء : "تُهْوَى إليهم" ، على البناء للمفعول ، من هوى إليه وأهواه غيره . وتهوى إليهم ، من هوى يهوي إذا أحب ، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته { وارزقهم مّنَ الثمرات } مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها ، بأن تجلب إليهم من البلاد { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرماً آمناً تجبى إليه . ثمرات كل شيء رزقاً من لدنه ، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً ، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع ، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجيب ، متعنا الله بسكنى حرمه ، ووفقنا لشكر نعمه ، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام ، ورزقنا طرفاً من سلامة ذلك القلب السليم .
(3/288)

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى { إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه ، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك . والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا ، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها ، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب ، وإنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك ، وتخشعاً لعظمتك ، وتذللا لعزتك ، وافتقاراً إلى ما عندك ، واستعجالاً لنيل أياديك ، وولهاً إلى رحمتك ، وكما يتملق العبد بين يدي سيده ، رغبة في إصابة معروفه ، مع توفر السيد على حسن الملكة . وعن بعضهم : أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح ، فأراد أن يذكره فقال : مثلك لا يذكر استقصاراً ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين ، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها . وقيل : ما تخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة ، وما نعلن من البكاء والدعاء . وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق ، وما نعلن : يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم . قالت : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم . قالت : إذن لا نخشى ، تركتنا إلى كاف { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْءٍ } من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام ، كقوله : { وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] أو من كلام إبراهيم ، يعني : وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان . "ومن" للاستغراق ، كأنه قيل : وما يخفى عليه شيء ما . { عَلَى } في قوله : { عَلَى الكبر } بمعنى مع كقوله :
إنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ
وهو في موضع الحال ، معناه : وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر . روي أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة ، وقد روي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين . وإسحاق لتسعين . وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم ، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة . والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر ، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم { إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدعاء } كان قد دعا ربه وسأله الولد ، فقال : رب هب لي من الصالحين ، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت : الله تعالى يسمع كل دعاء ، أجابه أو لم يجبه . قلت : هو من قولك : سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه : سمع الله لمن حمده وفي الحديث .
( 574 ) " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن " فإن قلت : ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت : إضافة الصفة إلى مفعولها ، وأصله لسميع الدعاء . وقد ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل ، كقولك : هذا ضروب زيداً ، وضراب أخاه ، ومنحار إبله ، وحذر أموراً ، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله ، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي . والمراد سماع الله .
(3/289)

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
{ وَمِن ذُرّيَّتِى } وبعض ذرّيتي ، عطفاً على المنصوب في اجعلني ، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار ، وذلك قوله : { اَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] . { وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } أي عبادتي { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] في قراءة أبيّ "ولأبويّ" . وقرأ سعيد بن جبير : "ولو الدي" ، على الإفراد ، يعني أباه ، وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما : "ولولديّ" يعني إسماعيل وإسحاق . وقرىء : "لولدي" بضم الواو . والولد بمعنى الولد ، كالعدم والعدم . وقيل : جمع ولد ، كأسد في أسد . وفي بعض المصاحف : ولذرّيتي . فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت : هو من مجوّزات العقل لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف . وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء وقيل : بشرط الإسلام . ويأباه قوله { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحاً لا مقال فيه ، فكيف يستثني الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } أي يثبت ، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل ، والدليل عليه قولهم : قامت الحرب على ساقها . ونحوه قولهم : ترجلت الشمس : إذا أشرقت وثبت ضوؤها ، كأنها قامت على رجل . ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً ، أو يكون مثل { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] وعن مجاهد : قد استجاب الله له فيما سأل ، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته ، وجعل البلد آمناً ، ورزق أهله من الثمرات . وجعله إماماً ، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة ، وأراه مناسكه ، وتاب عليه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت الطائف من أرض فلسطين ، فلما قال إبراهيم { ربنا إني أسكنت } الآية [ إبراهيم : 37 ] ، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم .
(3/290)

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
فإن قلت : يتعالى الله عن السهو والغفلة ، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلاً حتى قيل { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا } ؟ قلت : إن كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان . أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً ، كقوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] ، { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } [ الشعراء : 213 ] ، كما جاء في الأمر { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] والثاني : أنّ المراد بالنهي عن حسبانه غافلاً ، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون ، لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ البقرة : 283 ] يريد الوعيد . ويجوز أن يراد : ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم ، المحاسب على النقير والقطمير ، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلاً ، لجهله بصفاته ، فلا سؤال فيه ، وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، فقيل له من قال هذا؟ فغضب وقال : إنما قاله من علمه وقرىء : "يؤخرهم" بالنون والياء { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } أي أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى { مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي . وقيل : الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف { مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ } رافعيها { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم ، أي : لا يطرفون ، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان . أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم . الهواء : الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ، فوصف به فقيل : قلب فلان هواء إذا كان جباناً لا قوّة في قلبه ولا جرأة . ويقال للأحمق أيضاً : قلبه هواء . قال زهير :
مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ ... لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق . وقال حسان :
فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ ... وعن ابن جريج { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوآءُ } صفر من الخير خاوية منه ، وقال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم .
(3/291)

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
{ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة . ومعنى { أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب ، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك . أو أريد باليوم : يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى ، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب ، كقوله : { لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } [ المنافقون : 10 ] { أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ } على إرادة القول ، وفيه وجهان : أن يقولوا ذلك بطرا وأشراً ، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه ، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً و { مَا لَكُمْ } جواب القسم ، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله { أَقْسَمْتُمْ } ولو حكى لفظ المقسمين لقيل : ما لنا { مّن زَوَالٍ } والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء ، وقيل : لا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرهم بالبعث ، كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] يقال : سكن الدار وسكن فيها . ومنه قوله تعالى : { وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث ، والأصل تعدّيه بفي ، كقولك : قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها ، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل : سكن الدار كما قيل : تبوأها وأوطنها . ويجوز أن يكون : سكنوا من السكون ، أي : قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس ، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد ، لا يحدّثونها بما لقي الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم ، فيعتبروا ويرتدعوا { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } بالإخبار والمشاهدة { كَيْفَ } أهلكناهم وانتقمنا منهم . وقرىء : "ونبين لكم" ، بالنون { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم ، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } لا يخلو إمّا أن يكون مضافاً إلى الفاعل كالأوّل ، على معنى : ومكتوب عند الله مكرهم ، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه ، أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } الذي يمكرهم به ، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال ، معداً لذلك ، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه ، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً .
(3/292)

وتنصره قراءة ابن مسعود : "وما كان مكرهم" . وقرىء : "لتزول" ، بلام الابتداء ، على : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } من الشدّة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها . وقرأ علي وعمر رضي الله عنهما : "وإن كاد مكرهم" { مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] ، { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] ، فإن قلت : هلا قيل : مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المعفول الثاني على الأول؟ قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً ، كقوله : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ثم قال : { رُسُلَهُ } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً - وليس من شأنه إخلاف المواعيد - كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ وقرىء : "مخلف وعدَه رسلهِ" ، بحرّ الرسل ونصب الوعد . وهذه في الضعف كمن قرأ { قَتْلَ أولادهم شُرَكَائِهِمْ } [ الأنعام : 137 ] . { العزيز } غالب لا يماكر { ذُو انتقام } لأوليائه من أعدائه .
(3/293)

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض } انتصابه على البدل من يوم يأتيهم . أو على الظرف للانتقام . والمعنى : يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة ، وكذلك السموات . والتبديل : التغيير ، وقد يكون في الذوات كقولك : بدّلت الدراهم دنانير ومنه { بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا } [ النساء : 56 ] و { بدّلناهم بجنتيهم جنتين } [ سبأ : 16 ] وفي الأوصاف ، كقولك : بذلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وسويتها خاتماً ، فنقلتها من شكل إلى شكل ، ومنه قوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } [ الفرقان : 70 ] واختلف في تبديل الأرض والسموات ، فقيل : تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها . وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وعن ابن عباس : هي تلك الأرض وإنما تغير ، وأنشد :
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ عَهِدْتَهُم ... وَلاَ الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِي كُنْتَ تَعْلَم
وتبدّل السماء بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها ، وكونها أبواباً . وقيل : يخلق بدلها أرض وسموات أخر . وعن ابن مسعود وأنس : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة . وعن علي رضي الله عنه تبدّل أرضاً من فضة ، وسموات من ذهب . وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف . وقرىء : "يوم نبدّل الأرض" ، بالنون . فإن قلت : كيف قال { الواحد القهار } ؟ قلت : هو كقوله { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار ، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة { مُقْرِنِينَ } قرن بعضهم مع بعض . أو مع الشياطين . أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين . وقوله : { فِى الأصفاد } إمّا أن يتعلق بمقرّنين ، أي : يقرنون في الأصفاد . وإمّا أن لا يتعلق به ، فيكون المعنى : مقرّنين مصفدين . والأصفاد : القيود وقيل الأغلال ، وأنشد لسلامة بن جندل :
وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لاَقَى صِفَادا ... يَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ
القطران : فيه ثلاث لغات : قطران ، وقطران وقطران : بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء ، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ، فتهنأ به الإبل الجربى ، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته ، والجلد ، وقد تبلغ حرارته الجوف ، ومن شأنه أن يسرع في اشتغال النار ، وقد يستسرج به ، وهو أسود اللون منتن الريح ، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص ، لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران . وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح . على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة ، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة ، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه ، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه ، وقرىء : "من قطران" والقطر : النحاس أو الصفر المذاب . والآني : المتناهي حرّه { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } كقوله تعالى : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } [ الزمر : 24 ] ، { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه ، كالقلب في باطنه ، ولذلك قال : { تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } [ الهمزة : 7 ] وقرىء : "وتغشى وجوههم" ، بمعنى تتغشى : أي يفعل بالمجرمين ما يفعل { لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ } مجرمة { مَّا كَسَبَتْ } أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم .
(3/294)

هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{ هذا بلاغ لّلنَّاسِ } كفاية في التذكير والموعظة ، يعني بهذا ما وصفه من قوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } إلى قوله : { سَرِيعُ الحساب } [ آل عمران : 169 ] . { وَلِيُنذَرُواْ } معطوف على محذوف ، أي لينصحوا ولينذروا { بِهِ } بهذا البلاغ . وقرىء : "ولينذروا" بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعدّ له { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به ، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد ، لأنّ الخشية أمّ الخير كله . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 575 ) " من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد " .
(3/295)

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
{ تِلْكَ } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات . والكتاب ، والقرآن المبين : السورة وتنكير القرآن للتفخيم . والمعنى : تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأي قرآن مبين؟ كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان .
(3/296)

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قرىء : "ربّما" و "ربّتما" بالتشديد . و "ربما" ، "وربَما" بالضم والفتح مع التخفيف . فإن قلت : لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت : لأن المترقب في إخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه ، فكأنه قيل : ربما ودّ . فإن قلت : متى تكون ودادتهم؟ قلت : عند الموت ، أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين . وقيل : إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار ، وهذا أيضاً باب من الودادة . فإن قلت : فما معنى التقليل؟ قلت : هو وارد على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك ، وربما ندم الإنسان على ما فعل ، ولا يشكون في تندمه ، ولا يقصدون تقليله ، ولكنهم أرادوا : ولو كان الندم مشكوكاً فيه أو كان قليلاً لحق عليك أن لاتفعل هذا الفعل ، لأنّ العقلاء يتحرّزون من التعرّض للغم المظنون ، كما يتحرّزون من المتيقن ومن القليل منه ، كما من الكثير ، وكذلك المعنى في الآية : لو كانوا يودّون الإسلام مرة واحدة ، فبالحري أن يسارعوا إليه ، فكيف وهم يودّونه في كل ساعة { لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } حكاية ودادتهم ، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم ، كقولك : حلف بالله ليفعلنّ . ولو قيل : حلف بالله لأفعلن ولو كنا مسلمين لكان حسناً سديداً وقيل : تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين ، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا ، فلذلك قلل { ذَرْهُمْ } يعني اقطع طمعك من ارعوائهم ، ودعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة ، وخلهم { يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } بدنياهم وتنفيذ شهواتهم ، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال ، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيراً { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } سوء صنيعهم . والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان ، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه ، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته ، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندماً في العاقبة . وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه . وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدّي إليه طول الأمل . وهذه هجيرى أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين ، وعن بعضهم : التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين .
(3/297)

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{ وَلَهَا كتاب } جملة واقعة صفة لقرية ، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُّنذِرِينَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب ، وجاءني وعليه ثوب . كتاب { مَّعْلُومٌ } مكتوب معلوم ، وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين ، ألا ترى إلى قوله { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } في موضع كتابها ، وأنث الأمة أوّلا ثم ذكرها آخراً حملا على اللفظ والمعنى وقال : { وَمَا يَسْتَأخِرُونَ } بحذف "عنه" لأنه معلوم .
(3/298)

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
قرأ الأعمش : "يا أيها الذي ألقي عليه الذكر" ، وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء ، كما قال فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وكيف يقرّون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون . والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع . وقد جاء في كتاب الله في مواضع ، منها { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، { إِنَّك لأَنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] وقد يوجد كثيراً في كلام العجم ، والمعنى : إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أنّ الله نزل عليك الذكر .
(3/299)

لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
{ لَّوْ } ركبت مع "لا" و "لا" لمعنيين : معنى امتناع الشيء لوجود غيره ، ومعنى التحضيض ، وأما "هل" فلم تركب إلا مع "لا" وحدها للتحضيض : قال ابن مقبل :
لَوْمَالْحَيَاءُ وَلَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِى
والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك ، كقوله تعالى { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] أو : هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقاً كما كانت تاتي الأمم المكذبة برسلها؟
(3/300)

مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
قرىء : "تنزل" ، بمعنى تتنزل "وتنزل" على البناء للمفعول من نزل ، و { نُنَزّلُ الملائكة } : بالنون ونصب الملائكة { إِلاَّ بالحق } إلا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنكم حينئذ مصدّقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى { وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق } [ الحجر : 85 ] وقيل : الحق الوحي أو العذاب . و { إِذَا } جواب وجزاء ، لأنه جواب لهم وجزاء لشرط مقدر تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم .
(3/301)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم : { يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] ولذلك قال : إنا نحن ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد ، حتى نزل وبلغ محفوظاً من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبدبل ، بخلاف الكتب المتقدمة؛ فإنه لم يتول حفظها . وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه . فإن قلت : فحين كان قوله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } رداً لإنكارهم واستهزائهم ، فكيف اتصل به قوله { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } ؟ قلت : قد جعل ذلك دليلاً على أنه منزل من عنده آية؛ لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه . وقيل : الضمير في { لَهُ } لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى { والله يَعْصِمُكَ } [ المائدة : 67 ] .
(3/302)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
{ فِى شِيَعِ الأولين } في فرقهم وطوائفهم . والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة . ومعنى أرسلناه فيهم : نبأناه فيهم وجعلناه رسولاً فيما بينهم { وَمَا يَأْتِيهِم } حكاية حال ماضية ، لأنّ "ما" لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال .
(3/303)

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
يقال : سلكت الخيط في الإبرة ، وأسلكته إذا أدخلته فيها ونظمته . وقرىء : "نسلكه" ، [ والضمير ] للذكر ، أي : مثل ذلك السلك ، ونحوه : نسلك الذكر في { قُلُوبِ المجرمين } على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزءاً به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام ، تعني مثل هذا الإنزال أنزلناها بهم مردودة غير مقضية . ومحل قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } النصب على الحال ، أي غير مؤمن به ، أو هو بيان لقوله : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } . { سُنَّةُ الأوّلِينَ } طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم ، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم .
(3/304)

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قرىء : "يعرجون" بالضم والكسر . و { سُكّرَتْ } حيرت أو حبست من الإبصار ، من السكر أو السكر . وقرىء : "سُكِرَت" بالتخفيف أي حبست كما يحبس النهر من الجري . وقرىء : "سَكِرَت" من السكر ، أي حارت كما يحار السكران . والمعنى أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد : أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ، ورأوا من العيان ما رأوا ، لقالوا : هو شيء نتخايله لا حقيقة له ، ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك . وقيل : الضمير للملائكة ، أي : لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك . وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون . وقال : إنما ، ليدل على أنهم يبتون القول بأنّ ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار .
(3/305)

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{ مَنِ استرق } في محل النصب على الاستثناء . وعن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد منعوا من السموات كلها { شِهَابٌ مُّبِينٌ } ظاهر للمبصرين { مَّوْزُونٍ } وزن بميزان الحكمة ، وقدّر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة ، وقيل : ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها { معايش } بياء صريحة ، بخلاف الشمائل والخبائث ونحوهما ، فإن تصريح الياء فيها خطأ ، والصواب الهمزة ، أو إخراج الياء بين بين . وقد قرىء : "معائش" بالهمزة على التشبيه { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } عطف على معايش ، أو على محل لكم ، كأنه قيل : وجعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لكم من لستم له برازقين ، أو : وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين . وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون ، فإنّ الله هو الرزاق ، يرزقهم وإياهم ، ويدخل فيه الأنعام والدواب وكل ما بتلك المثابة ، مما الله رازقه ، وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرزاقون . ولا يجوز أن يكون مجروراً عطفاً على الضمير المجرور في { لَكُمْ } لأنه لا يعطف على الضمير المجرور .
(3/306)

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
ذكر الخزائن تمثيل . والمعنى : وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به ، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له ، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور .
(3/307)

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{ لَوَاقِحَ } فيه قولان ، أحدهما : أنّ الريح لاقح إذا جاءت بخير ، من إنشاء سحاب ماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير : ريح عقيم . والثاني : أن اللواقح بمعنى الملاقح ، كما قال :
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ ... يريد المطاوح جمع مطيحة . وقرىء : "وأرسلنا الريح" ، على تأويل الجنس { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } فجعلناه لكم سقيا { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين } نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } كأنه قال : نحن الخازنون للماء ، على معنى نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها ، وما أنتم عليه بقادرين : دلالة على عظيم قدرته وإظهاراً لعجزهم .
(3/308)

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
{ وَنَحْنُ الوارثون } أي الباقون بعد هلاك الخلق كله . وقيل للباقي "وارث" استعارة من وارث الميت ، لأنه يبقى بعد فنائه . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه :
( 576 ) " اجعله الوارث منا " { وَلَقَدْ عَلِمْنَا } من استقدم ولادة وموتاً ، ومن تأخر من الأوّلين والآخرين . أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد . أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر . وقيل : المستقدمين في صفوف الجماعة والمتسأخرين . وروي
( 577 ) أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها ، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت { هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي هو وحده القادر على حشرهم ، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } باهر الحكمة واسع العلم ، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب ، وقد أحاط علماً بكل شيء .
(3/309)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
الصلصال : الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ ، وإذا طبخ فهو فخار . قالوا : إذا توهمت في صوته مدّا فهو صليل ، وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة . وقيل : هو تضعيف "صل" إذا أنتن . والحمأ : الطين الأسود المتغير . والمسنون : المصوّر ، من سنة الوجه ، وقيل : المصبوب المفرغ ، أي : أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها . وقيل : المنتن ، من سننت الحجرعلى الحجر إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سنين ، ولا يكون إلا منتنا { مّنْ حَمَإٍ } صفة لصلصال ، أي : خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق { مَّسْنُونٍ } بمعنى مصور ، أن يكون صفة لصلصال ، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر { والجآن } للجن كآدم للناس . وقيل : هو إبليس . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : "والجأن" ، بالهمزة { مِن نَّارِ السموم } من نار الحرّ الشديد النافذ في المسام . قيل : هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجانّ .
(3/310)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } واذكر وقت قوله { سَوَّيْتُهُ } عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها . ومعنى { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } وأحييته ، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه . واستثنى إبليس من الملائكة؛ لأنه كان بينهم مأموراً معهم بالسجود ، فغلب اسم الملائكة ، ثم استثنى بعد التغليب كقولك : رأيتهم إلا هنداً . و { أبى } استئناف على تقدير قول قائل بقول : هلا سجد؟ فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه . وقيل : معناه ولكن إبليس أبى . حرف الجر مع "أن" محذوف . وتقديره { مَا لَكَ } في { أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } بمعنى أيّ غرض لك في إبائك السجود . وأي داع لك إليه . اللام في { لأسْجُدَ } لتأكيد النفي . ومعناه : لا يصحّ مني وينافي حالي . ويستحيل أن أسجد لبشر { رَّجِيمٍ } شيطان من الذين يرجمون بالشهب ، أو مطرود من رحمة الله؛ لأن من يطرد يرجم بالحجارة . ومعناه : ملعون؛ لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها . والضمير في { مِنْهَا } راجع إلى الجنة أو السماء ، أو إلى جملة الملائكة . وضرب يوم الدين حداً للعنة ، إما لأنه [ أبعد ] غاية يضربها الناس في كلامهم ، كقوله { مَا دَامَتِ السموات والأرض } [ هود : 107 ] في التأبيد . وإما أن يراد أنك مذموم مدعوّ عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين ، من غير أن تعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما يُنسى اللعن معه . و { يَوْمِ الدين } و { يَوْمِ يُبْعَثُونَ } و { يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 38 ] في معنى واحد ، ولكن خولف بين العبارات سلوكاً بالكلام طريقة البلاغة . وقيل : إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت؛ لأنه لا يموت يوم البعث أحد ، فلم يجب إلى ذلك ، وأُنظر إلى آخر أيام التكليف { بِمَا أغويتني } الباء للقسم . و "ما" مصدرية وجواب القسم { لأُزَيِّنَنَّ } المعنى : أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم . ومعنى إغوائه إياه : تسبيبه لغيه ، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام ، فأفضى ذلك إلى غيه . وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله ، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك ، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به ، ونحو قوله { بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } قوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] في أنه إقسام ، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله ، وقد فرق الفقهاء بينهما . ويجوز أن لا يكون قسماً ، ويقدر قسم محذوف ، ويكون المعنى : بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم ، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم { فِى الأرض } في الدنيا التي هي دار الغرور ، كقوله تعالى
(3/311)

{ أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء ، فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر . أو أراد : لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض ، ولأوقعن تزييني فيها ، أي : لأزيننها في أعينهم ولأحدّثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها ، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها . ونحوه :
يَجْرَحْ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي ... استثنى المخلصين؛ لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه . أي { هذا } طريق حق { عَلَىَّ } أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته : وقرىء : "عليّ" وهو من علو الشرف والفضل { لَمَوْعِدُهُمْ } الضمير للغاوين . وقيل : أبواب النار أطباقها وأدراكها ، فأعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين . وقرىء : "جزء" ، بالتخفيف والتثقيل . وقرأ الزهري : "جزّ" ، بالتشديد؛ كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ، كقولك : خبّ في خبء ، ثم وقف عليه بالتشديد ، كقولهم : الرجل ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف .
(3/312)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
المتقي على الإطلاق : من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اتقوا الكفر والفواحش ، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها { ادخلوها } على إرادة القول . وقرأ الحسن : "أدخلوها" { بِسَلامٍ } سالمين أو مسلماً عليكم : تسلم عليكم الملائكة . الغل : الحقد الكامن في القلب ، من انغل في جوفه وتغلغل ، أي : إن كان لأحدهم في الدنيا غلّ على آخر . نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم . وعن عليّ رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . وعن الحرث الأعور : كنت جالساً عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له عليّ : مرحباً بك يا ابن أخي . أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } فقال له قائل : كلا ، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد ، فقال : فلمن هذه الآية لا أمّ لك؟ وقيل : معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ، ونزع منها كل غل ، وألقى فيها التوادّ والتحاب . و { إِخْوَانًا } نصب على الحال . و { على سُرُرٍ متقابلين } كذلك . وعن مجاهد . تدور بهم الأسرة حيثما داروا ، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين .
(3/313)

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
لما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه { فِى عِبَادِى } تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس . وعن ابن عباس رضي الله عنه : غفور لمن تاب ، وعذابه لمن لم يتب . وعطف { وَنَبّئْهُمْ } على نبىء عبادي ، ليتخذوا ما أحل من العذاب يوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أنّ عذابه هو العذاب الأليم .
(3/314)

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{ سَلاَماً } أي نسلم عليك سلاماً ، أو سلمت سلاماً { وَجِلُونَ } خائفون ، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل . وقيل : لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت . وقرأ الحسن : "لا توجل" بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه . وقرىء : "لا تأجل" . "ولا تواجل" ، من واجله بمعنى أوجله . وقرىء : "نبشرك" بفتح النون والتخفيف { إِنَّا نُبَشّرُكَ } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل : أرادوا أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل . يعني { أَبَشَّرْتُمُونِى } مع مس الكبر ، بأن يولد لي . أي : أن الولادة أمر عجيب مستنكر في العادة مع الكبر { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب ، كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشرونني أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير مقصور في العادة فبأي شيء تبشرون يعني لا تبشرونني في الحقيقة بشيء؛ لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء . ويجوز أن لا يكون صلة لبشر ، ويكون سؤالاً عن الوجه والطريقة يعني : بأي طريقة تبشرونني بالولد ، والبشارة لا طريقة لها في العادة . وقوله { بشرناك بالحق } يحتمل أن تكون الباء فيه صلة ، أي : بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بشرناك بطريقة هي حق وهي قول الله ووعده ، وأنه قادر على أن يوجد ولداً من غير أبوين ، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر . وقرىء : "تبشرونَ" ، بفتح النون وبكسرها على حذف نون الجمع ، والأصل تبشرونن ، "وتبشرونِّ" بإدغام نون الجمع في نون العماد . وقرىء : "من القنطين" من قنط يقنط ، وقرىء : و "من يقنط" ، بالحركات الثلاث في النون ، أراد : ومن يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الصواب ، أو إلا الكافرون ، كقوله : { لا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] يعني : لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله .
(3/315)

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
فإن قلت قوله تعالى : { إِلا ءالَ لُوطٍ } استثناء متصل أو منقطع؟ قلت ، لا يخلو من أن يكون استثناء من قوم ، فيكون منقطعاً؛ لأنّ القوم موصوفون بالإجرام ، فاختلف لذلك الجنسان وأن يكون استثناء من الضمير في مجرمين ، فيكون متصلاً ، كأنه قيل : إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم ، كما قال { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين } [ الذاريات : 36 ] . فإن قلت : فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت : نعم ، وذلك أنّ آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال ، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة ، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً . ومعنى إرسالهم إلى القوم المجرمين ، كإرسال الحجر أو السهم إلى المرميّ . في أنه في معنى التعذيب والإهلاك ، كأنه قيل : إنا أهلكنا قوماً مجرمين ، ولكن آل لوط أنجيناهم . وأمّا في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال ، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء ، فلا يكون الإرسال مخلصاً بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأوّل . فإن قلت : فقوله { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } بم يتعلق على الوجهين؟ قلت : إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر "لكنّ" في الاتصال بآل لوط ، لأنّ المعنى . لكن آل لوط منجون ، وإذا اتصل كان كلاماً مستأنفاً ، كأنّ إبراهيم عليه السلام قال لهم فما حال آل لوط ، فقالوا : إنا لمنجوهم . فإن قلت : فقوله : { إِلاَّ امرأته } ممّ استثني؛ وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت : استثنى من الضمير المجرور في قوله { لَمُنَجُّوهُمْ } وليس من الاستثاء في شيء؛ لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط ، إلا امرأته ، كما اتحد الحكم في قول المطلق : أنت طالق ثلاثاً ، إلا اثنتين ، إلا واحدة . وفي قول المقرّ : لفلان عليّ عشرة دراهم ، إلا ثلاثة ، إلا درهما . فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان ، لأنّ { إِلا ءالَ لُوطٍ } متعلق بأرسلنا ، أو بمجرمين ، و { إِلاَّ امرأته } قد تعلق بمنجوهم ، فأنى يكون استثناء من استثناء . وقرىء : "لمنجوهم" بالتخفيف والتثقيل . فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم ، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم . فإن قلت : فلم أسند الملائكة فعل التقدير- وهو لله وحده - إلى أنفسهم ، ولم يقولوا : قدّر الله؟ قلت : لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا وأمرنا بكذا ، والمدبر والآمر هو الملك لا هم ، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه . وقرىء : "قدرنا" ، بالتخفيف .
(3/316)

فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{ مُنكِرُونَ } أي تنكركم نفسي وتنفر منكم ، فأخاف أن تطرقوني بشرّ ، بدليل قوله : { بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوّك ، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله ، فيمترون فيه ويكذبونك { بالحق } باليقين من عذابهم { وِإِنَّا لصادقون } في الإخبار بنزوله بهم . وقرىء : "فأسر" بقطع الهمزة ووصلها ، من أسرى وسرى . وروى صاحب الإقليد : فسر ، من السير والقطع في آخر الليل . قال :
افْتَحِى الْبَابَ وانْظُرِي في النُّجُوم ... كَمْ عَلَيْنَا من قِطعِ لَيْلٍ بَهِيم
وقيل : هو بعد ما يمضي شيء صالح من الليل . فإن قلت : ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه ، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم ، وخرج مهاجراً فلم يكن له بدّ من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك ، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم ، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به ، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي إليه أخادعه ، كما قال :
تَلَفَّتُّ نَحْوَ حَييِّ حتى وَجَدتُنِي ... وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا
أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف ، لأنّ من يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قيل هو مصر وعدي { وامضوا } الى { حيث } تعديته الى الظرف المبهم لأن { حَيْثُ } مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في { تَأْمُرُونَ } وعدي { قَضَيْنَا } بإلى لأنه ضمن معنى : أوحينا ، كأنه قيل : وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً . وفسر { ذَلِكَ الأمر } بقوله { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ } وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له . وقرأ الأعمش : "إن" ، بالكسر على الاستئناف كأن قائلاً قال : أخبرنا عن ذلك الأمر ، فقال : إنّ دابر هؤلاء . وفي قراءة ابن مسعود : "وقلنا إنّ دابر هؤلاء" . ودابرهم : آخرهم ، يعني : يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد .
(3/317)

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{ أَهْلِ المدينة } أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور ، مستبشرين بالملائكة { فلا تَفْضَحُونِ } بفضيحة ضيفي ، لأنّ من أسيء إلى ضيفه أو جاره فقد أسيء إليه ، كما أن من أُكرم من يتصل به فقد أُكرم { وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تذلونِ بإذلال ضيفي ، من الخزي وهو الهوان . أو ولا تشوّروا بي ، من الخزاية وهي الحياء { عَنِ العالمين } عن أن تجير منهم أحداً ، أو تدفع عنهم ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرّضون لكل أحد ، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر ، والحجر بينهم وبين المتعرّض له ، فأوعدوه وقالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المخرجين . وقيل : عن ضيافة الناس وإنزالهم ، وكانوا نهوه أن يضيف أحداً قط { هؤلاءآء بَنَاتِى } إشارة إلى النساء؛ لأنّ كل أمّة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته ، فكأنه قال لهم : هؤلاء بناتي فانكحوهنّ ، وخلوا بنيّ فلا تتعرضوا لهم { إِن كُنتُمْ فاعلين } شك في قبولهم لقوله ، كأنه قال : إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون . وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرّم { لَعَمْرُكَ } على إرادة القول ، أي قالت الملائكة للوط عليه السلام : لعمرك { إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ } أي غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم ، من ترك البنين إلى البنات { يَعْمَهُونَ } يتحيرون ، فكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك ، وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له ، والعمر والعمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه ، وذلك لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم ، ولذلك حذفوا الخبر ، وتقديره : لعمرك مما أقسم به ، كما حذفوا الفعل في قولك : بالله . وقرىء : "في سكرهم وفي سكراتهم" { الصيحة } صيحة جبريل عليه السلام { مُشْرِقِينَ } داخلين في الشروق وهو بزوع الشمس { مّن سِجّيلٍ } قيل : من طين ، عليه كتاب من السجل ، ودليله قوله تعالى : { حِجَارَةً مّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ } [ الذاريات : 33 - 34 ] أي معلمة بكتاب { لِلْمُتَوَسّمِينَ } للمتفرّسين المتأملين . وحقيقة المتوسمين النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء . يقال : توسمت في فلان كذا ، أي عرفت وسمه فيه . والضمير في { عاليها سَافِلَهَا } لقرى قوم لوط { وَإِنَّهَا } وإنّ هذه القرى يعني آثارها { لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار ، وهو تنبيه لقريش كقوله : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .
(3/318)

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{ أصحاب الأيكة } قوم شعيب { وَإِنَّهُمَا } يعني قرى قوم لوط والأيكة . وقيل : الضمير للأيكة ومدين ، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } لبطريق واضح ، والإمام اسم لما يؤتم به ، فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه ، لأنها مما يؤتم به .
(3/319)

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
{ أصحاب الحجر } ثمود ، والحجر واديهم ، وهو بين المدينة والشأم { المرسلين } يعني بتكذيبهم صالحاً ، لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين كما قيل : الخبيبون في ابن الزبير وأصحابه . وعن جابر :
( 578 ) ( مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا " "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين ، حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء " ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها ) { ءامِنِينَ } لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها ، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر . أو آمنين من عذاب الله يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من بناء البيوت الوثيقة والأموال والعدد .
(3/320)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{ إِلاَّ بالحق } إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمة ، لا باطلا وعبثاً . أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } وإنّ الله ينتقم لك فيها من أعدائك ، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيآتهم؛ فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك { فاصفح } فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء . وقيل : هو منسوخ بآية السيف . ويجوز أن يراد به المخالقة فلا يكون منسوخاً .
(3/321)

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق } الذي خلقك وخلقهم ، وهو { العليم } بحالك وحالهم ، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم وهو يحكم بينكم . أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، وقد علم أنَّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح . وفي مصحف أُبيّ وعثمان : إن ربك هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير ، والخلاق للكثير لا غير ، كقولك : قطع الثياب . وقطع الثوب والثياب .
(3/322)

وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{ سَبْعاً } سبع آيات وهي الفاتحة . أو سبع سور وهي الطوال ، واختلف في السابعة فقيل : الأنفال وبراءة ، لأنهما في حكم سورة واحدة ، ولذلك لم يفصل بينهما بآية التسمية . وقيل سورة يونس . وقيل : هي آل حم ، أو سبع صحائف وهي الأسباع . و { المثاني } من التثنية وهي التكرير؛ لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها ، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله ، الواحدة مثناة أو مثنية صفة للآية . وأمّا السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، ولما فيها من الثناء ، كأنها تثني على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى . و "من" إما للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال ، وللبيان إذا أردت الأسباع . ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني ، لأنها تثني عليه ، ولما فيها من المواعظ المكررة ، ويكون القرآن بعضها ، فإن قلت : كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع ، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت : إذا عنى بالسبع الفاتحة أو الطوال ، فما وراءهنّ ينطلق عليه اسم القرآن ، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل . ألا ترى إلى قوله : { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } يعني سورة يوسف : وإذا عنيت الأسباع فالمعنى : ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم ، أي : الجامع لهذين النعتين ، وهو الثناء أو التثنية والعظم .
(3/323)

لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
أي : لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ } أصنافاً من الكفار . فإن قلت : كيف وصل هذا بما قبله؟ قلت : يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة ، وهي القرآن العظيم؛ فعليك أن تستغني به ، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا . ومنه الحديث :
( 579 ) " ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن " ، وحديث أبي بكر
( 580 ) " من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي ، فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً " وقيل : وافت من بصرى وأذرعات : سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير ، فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ، ولأنفقناها في سبيل الله ، فقال لهم الله عز وعلا : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تتمنّ أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوّى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون ، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم ، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء { وَقُلْ } لهم { إِنّى أَنَا النذير المبين } أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب الله نازل بكم .
(3/324)

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فإن قلت : بم تعلق قوله : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما ، أن يتعلق بقوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك } [ الحجر : 87 ] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون { الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ } حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل ، وعضوه . وقيل : كانوا يستهزؤن به فيقول بعضهم : سورة البقرة لي ، ويقول الآخر : سورة آل عمران لي ، ويجوز أن يراد بالقرآن : ما يقرؤنه من كتبهم ، وقد اقتسموه بتحريفهم ، وبأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة وكذبت ببعض ، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم ، وقولهم سحر وشعر وأساطير ، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم . والثاني أن يتعلق بقوله : { وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين } [ الحجر : 89 ] أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين ، يعني اليهود ، وهو ما جرى على قريظة والنضير ، جعل المتوقع بمنزلة الواقع ، وهو من الإعجاز؛ لأنه إخبار بما سيكون وقد كان . ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير ، أي : أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير ، مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم ، فقعدوا في كل مدخل متفرّقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر . ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات ، كالوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب وغيرهم ، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام ، والاقتسام بمعنى التقاسم . فإن قلت : إذا علقت قوله : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } بقوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك } [ الحجر : 87 ] فما معنى توسط { لاَ تَمُدَّنَّ } [ الحجر : 88 ] إلى آخره بينهما؟ قلت : لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم ، اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ، ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين { عِضِينَ } أجزاء ، جمع عضة ، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء . قال رؤبة :
وَلَيْسَ دينُ اللَّهِ بِالْمَعْضِيِّ ... وقيل : هي فعلة ، من عضهته إذا بهته . وعن عكرمة : العضة السحر ، بلغة قريش ، يقولون للساحر عاضهة .
( 581 ) ولعن النبي صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة ، نقصانها على الأوّل واو ، وعلى الثاني هاء .
(3/325)

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{ لَنَسْئَلَنَّهُمْ } عبارة عن الوعيد . وقيل يسألهم سؤال تقريع . وعن أبي العالية : يسأل العباد عن خلتين : عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين .
(3/326)

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فاجهر به وأظهره . يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً ، كقولك : صرح بها ، من الصديع وهو الفجر ، والصدع في الزجاجة : الإبانة . وقيل : { فاصدع } فافرق بين الحق والباطل بما تؤمر ، والمعنى بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجارّ ، كقوله :
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية ، أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول .
(3/327)

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
عن عروة بن الزبير في المستهزئين : هم خمسة نفر ذوو أسنان وشرف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن الطلاطلة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ماتوا كلهم قبل بدر
( 582 ) قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلق بثوبه سهم ، فلم ينعطف تعظَّماً لأخذه ، فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل ، فدخلت فيها شوكة ، فقال : لدغت لدغت وانتفخت رجله ، حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب ، فعمى وأشار إلى أنف الحرث بن قيس ، فامتخط قيحاً فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات .
(3/328)

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ بِمَا يَقُولُونَ } من أقاويل الطاعنين فيك وفي القرآن { فَسَبّحْ } فافزع فيما نابك إلى الله ، والفزع إلى الله : هو الذكر الدائم وكثرة السجود ، يكفك ويكشف عنك الغم . ودم على عبادة ربك { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي الموت ، أي ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 583 ) " أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 584 ) " من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار ، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم "
(3/329)

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر ، استهزاء وتكذيباً بالوعد ، فقيل لهم { أتى أَمْرُ الله } الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } روي أنه لما نزلت { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت ، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً ، فنزلت { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا وانتظروا قربها ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ، ما نرى شيئاً مما تخوفنا به ، فنزلت { أتى أَمْرُ الله } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم ، فنزلت { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فاطمأنوا وقرىء : "تستعجلوه" بالتاء والياء { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك ، وأن تكون آلهتهم له شركاء ، أو عن إشراكهم . على أنّ "ما" موصولة أو مصدرية ، فإن قلت : كيف اتصل هذا باستعجالهم؟ قلت : لأنّ استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك . وقرىء : "تشركون" ، بالتاء والياء .
(3/330)

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قرىء : "ينزل" بالتخفيف والتشديد وقرىء : "تنزل الملائكة" أي تتنزل { بالروح مِنْ أَمْرِهِ } بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه ، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ، و { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدل من الروح ، أي ينزلهم بأن أنذروا . وتقديره : بأنه أنذروا ، أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا . أو تكون "أن" مفسرة؛ لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول . ومعنى أنذروا { أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ } أعلموا بأنّ الأمر ذلك ، من نذرت بكذا إذا علمته . والمعنى : يقول لهم أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا { فاتقون } .
(3/331)

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
ثم دلّ على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر ، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه ، ومالا بدّ له من خلق البهائم لأكله وركوبه وجرّ أثقاله وسائر حاجاته ، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه ، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره . وقرىء : "تشركون" ، بالتاء والياء { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } فيه معنيان ، أحدهما : فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة ، بعد ما كان نطفة من منيّ جماداً لا حس به ولا حركة ، دلالة على قدرته . والثاني : فإذا هو خصيم لربه ، منكر على خالقه ، قائل : من يحيي العظام وهي رميم ، وصفاً للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل ، والتمادي في كفران النعمة . وقيل نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أترى الله يحيي هذا بعدما قد رمّ؟
(3/332)

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{ الانعام } الأزواج الثمانية ، وأكثر ما تقع على الإبل ، وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر ، كقوله : { والقمر قدرناه } [ يس : 39 ] ويجوز أن يعطف على الإنسان ، أي : خلق الإنسان والأنعام ، ثم قال : { خَلَقَهَا لَكُمْ } أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان والدفء : اسم ما يدفأ به ، كما أنّ الملء اسم ما يملأ به ، وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر . وقرىء : "دفّ" ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء { ومنافع } هي نسلها ودرّها وغير ذلك . فإن قلت : تقديم الظرف في قوله { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها . قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم . وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتدّ به وكالجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أن طعمتكم منها ، لأنكم تحرثون بالبقر فالحبّ والثمار التي تأكلونها منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها .
(3/333)

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
منّ اللَّه بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها ، لأنه من أغراض أصحاب المواشي ، بل هو من معاظمها؛ لأنّ الرعيان إذا روّحوها بالعشي وسرحوها بالغداة - فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء - أنست أهلها وفرحت أربابها ، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس . ونحوه { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] ، { يُواري سَوآتِكُمْ وَرِيشًا } [ الأعراف : 26 ] . فإن قلت : لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ قلت : لأنّ الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها . وقرأ عكرمة : "حينا تريحون وحينا تسرحون" على أن { تُرِيحُونَ وتسرحون } وصف للحين . والمعنى : تريحون فيه وتسرحون فيه ، كقوله تعالى : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ } [ لقمان : 33 ] .
(3/334)

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
قرىء : "بشق الأنفس" ، بكسر الشين وفتحها . وقيل : هما لغتان في معنى المشقة ، وبينهما فرق : وهي أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا ، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع . وأما الشق فالنصف ، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد . فإن قلت : ما معنى قوله : { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه } كأنهم كانوا زماناً يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم . قلت : معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم ، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة . فإن قلت : كيف طابق قوله : { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه } قوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهلا قيل : لم تكونوا حامليها إليه؟ قلت : طباقه من حيث أن معناه : وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة ، فضلاً أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم . ويجوز أن يكون المعنى : لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس . وقيل : أثقالكم أجرامكم . وعن عكرمة البلد مكة { لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح .
(3/335)

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{ والخيل والبغال والحمير } عطف على الأنعام ، أي : وخلق هؤلاء للركوب والزينة ، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة ، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام . فإن قلت : لم انتصب { وَزِينَةً } ؟ قلت : لأنه مفعول له ، وهو معطوف على محل لتركبوها . فإن قلت : فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد؟ قلت : لأنّ الركوب فعل المخاطبين ، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق . وقرىء : "لتركبوها زينة" ، بغير واو ، أي : وخلقها زينة لتركبوها . أو تجعل زينة حالا منها ، أي : وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يجوز أن يريد به : ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته . ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك ، وإن طوى عنا علمه لحكمة له في طيه ، وقد حمل على ما خلق في الجنة والنار ، مما لم يبلغه وهم أحد ، ولا خطر على قلبه .
(3/336)

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
المراد بالسبيل : الجنس ، ولذلك أضاف إليها القصد وقال { وَمِنْهَا جَائِرٌ } والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد . يقال : سبيل قصد وقاصد ، أي : مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . ومعنى قوله { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه ، كقوله : { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } [ الليل : 12 ] . فإن قلت : لم غير أسلوب الكلام في قوله { وَمِنْهَا جَائِرٌ } ؟ قلت : ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز ، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل : وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر . وقرأ عبد الله : "ومنكم جائر" يعني : ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره ، والله بريء منه { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } قسراً وإلجاء .
(3/337)

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{ لَّكُم } متعلق بأنزل ، أو بشراب ، خبراً له . والشراب ما يشرب { شَجَرٌ } يعني الشجر الذي ترعاه المواشي . وفي حديث عكرمة : لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت . يعني الكلأ { تُسِيمُونَ } من سامت الماشية إذا رعت ، فهي سائمة ، وأسامها صاحبها ، وهو من السومة وهي العلامة ، لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض . وقرىء : ""ينبت" ، بالياء والنون . فإن قلت : لم قيل { وَمِن كُلّ الثمرات } ؟ قلت : لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة ، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة { يَتَفَكَّرُونَ } ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته . والآية : الدلالة الواضحة . وعن بعضهم : ينبت بالتشديد . وقرأ أبيّ بن كعب : "ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب" ، بالرفع .
(3/338)

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
قرئت كلها بالنصب على وجعل النجوم مسخرات أو على أن معنى تسخيرها للناس : تصييرها نافعة لهم ، حيث يسكنون بالليل ، ويبتغون من فضله بالنهار ، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر ، ويهتدون بالنجوم . فكأنه قيل : ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره . ويجوز أن يكون المعنى : أنه سخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر ، بمعنى تسخير ، من قولك : سخره الله مسخراً ، كقولك : سرحه مسرحاً ، كأنه قيل : وسخرها لكم تسخيرات بأمره . وقرىء بنصب "الليل والنهار" وحدهما ، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر . وقرىء : "والنجوم مسخرات" ، بالرفع ، وما قبله بالنصب ، وقال { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فجمع الآية . وذكر العقل؛ لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة .
(3/339)

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ } معطوف على الليل والنهار يعني : ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلف الهيآت والمناطر .
(3/340)

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{ لَحْمًا طَرِيّا } هو السمك ، ووصفه بالطراوة؛ لأنّ الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه . فإن قلت : ما بال الفقهاء قالوا : إذا حلف الرجل لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث . والله تعالى سماه لحماً كما ترى؟ قلت : مبنى الأيمان على العادة ، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك ، وإذا قال الرجل لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك ، كان حقيقاً بالإنكار . ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله : إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا ، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث . { حِلْيَةً } هي اللؤلؤ والمرجان . والمراد بلبسهم : لبس نسائهم ، لأنهنّ من جملتهم ، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم . المخر : شق الماء بحيزومها . وعن الفراء : هو صوت جري الفلك بالرياح . وابتغاء الفضل : التجارة .
(3/341)

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهة أن يميل بكم وتضطرب والمائد : الذي يدار به إذا ركب البحر . قيل : خلق الله الأرض فجعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ، لم تدر الملائكة ممّ خلقت { وأنهارا } وجعل فيها أنهاراً ، لأن { وألقى } فيه معنى : جعل ألا ترى إلى قوله { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً } [ النبأ : 6 ] . { وعلامات } هي معالم الطرق وكل ما تستدل به السابلة من جبل ومنهل وغير ذلك . والمراد بالنجم : الجنس ، كقولك : كثر الدرهم في أيدي الناس . وعن السديّ : هو الثريا ، والفرقدان؛ وبنات نعش ، والجدي . وقرأ الحسن : "وبالنجم" ، بضمتين ، وبضمة وسكون ، وهو جمع نجم ، كرهن ورهن ، والسكون تخفيف . وقيل حذف الواو من النجوم تخفيفاً . فإن قلت : قوله { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } مخرج عن سنن الخطاب ، مقدم فيه "النجم" ، مقحم فيه "هم" ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون ، فمن المراد ب { هُمْ } ؟ قلت : كأنه أراد قريشاً : كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم ، والاعتبار ألزم لهم ، فخصصوا .
(3/342)

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
فإن قلت : { مَّن لاَّ يَخْلُقُ } أريد به الأصنام ، فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم؟ قلت : فيه أوجه ، أحدها : أنهم سموها آلهة وعبدوها ، فأجروها مجرى أولي العلم . ألا ترى إلى قوله على أثره { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] والثاني : المشاكلة بينه وبين من يخلق . والثالث : أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم ، فكيف بما لا علم عنده كقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا } [ الأعراف : 195 ] يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب ، لأنّ هؤلاء أَحياء وهم أموات ، فكيف تصح لهم العبادة؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا . فإن قلت : هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فكان حق الإلزام أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه ، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .
(3/343)

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
{ لاَ تُحْصُوهَا } لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر ، أتبع ذلك ما عدّد من نعمه تنبيهاً على أنّ وراءها ما لا ينحصر ولا ينعدّ { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } من أعمالكم ، وهو وعيد .
(3/344)

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
{ والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِن دُونِ الله } وقرىء بالتاء . وقرىء : "يُدْعَون" ، على البناء للمفعول ، نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث ، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب . ومعنى : { أموات غَيْرُ أَحْيَاء } أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات ، أي غير جائز عليها الموت كالحيّ الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك . والضمير في { يُبْعَثُونَ } للداعين ، أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم . وفيه تهكم بالمشركين وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم . وفيه دلالة على أنه لا بدّ من البعث وأنه من لوازم التكليف . ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير ، وهم لا يقدرون على نحو ذلك ، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها ، غير أحياء يعني أنَّ من الأموات ما يعقب موته حياة ، كالنطف التي ينشئها الله حيواناً وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها . وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة ، وذلك أعرق في موتها { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكم بحالها ، لأنّ شعور الجماد محال ، فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحيّ القيوم سبحانه . ووجه ثالث : وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة ، وكان ناس منهم يعبدونهم ، وأنهم أموات : أي لا بدّ لهم من الموت ، غير أحياء : غير باقية حياتهم . وما يشعرون : ولا علم لهم بوقت بعثهم . وقرىء : "إيان" ، بكسر الهمزة .
(3/345)

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
{ إلهكم إله واحد } يعني أنه قد ثبت بما تقدّم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره ، وأنها له وحده لا شريك له فيها ، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها : استمرارهم على شركهم ، وأنّ قلوبهم منكرة للوحدانية ، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها { لاَ جَرَمَ } حقاً { أَنَّ الله يَعْلَمُ } سرّهم وعلانيتهم فيجازيهم ، وهو وعيد { أَنَّهُ لا يُجِبُّ1649;لْمُسْتَكْبِرِينَ } يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعني المشركين . ويجوز أن يعمّ كل مستكبر . ويدخل هؤلاء تحت عمومه .
(3/346)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{ مَّاذَآ } منصوب بأنزل ، بمعنى : أي شيء { أَنزَلَ رَبُّكُمْ } أو مرفوع بالابتداء بمعنى : أي شيء أنزله ربكم ، فإذا نصبت فمعنى { أساطير الأولين } ما يدّعون نزوله أساطير الأوّلين ، وإذا رفعته فالمعنى : المنزل أساطير الأوّلين ، كقوله : { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] فيمن رفع . فإن قلت : هو كلام متناقض ، لأنه لا يكون منزل ربهم وأساطير؟ قلت : هو على السخرية كقوله : { إِنَّ رَسُولَكُمُ } [ الشعراء : 27 ] وهو كلام بعضهم لبعض ، أو قول المسلمين لهم ، وقيل : هو قول المقتسمين : الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } أي قالوا ذلك إضلالا للناس وصدّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحملوا أو زاد ضلالهم { كَامِلَةٌ } وبعض أوزار من ضلّ بضلالهم ، وهو وزر الإضلال ، لأن المضلّ والضال شريكان : هذا يضله ، وهذا يطاوعه على إضلاله ، فيتحاملان الوزر ، ومعنى اللام التعليل من غير أن يكون غرضاً ، كقولك : خرجت من البلد مخافة الشر { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من المعفول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز المحق والمبطل .
(3/347)

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
القواعد : أساطين البناء التي تعمده . وقيل : الأساس وهذا تمثيل ، يعني : أنهم سووا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله ، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات ، كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا . ونحوه : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً . وقيل : هو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع . وقيل فرسخان ، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا . ومعنى إتيان الله : إتيان أمره { مّنَ القواعد } من جهة القواعد { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون . وقرىء : "فأتى الله بيتهم" . "فخرّ عليهم السقُفُ" ، بضمتين { يُخْزِيهِمْ } يذلهم بعذاب الخزي { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] يعني هذا لهم في الدنيا ، ثم العذاب في الآخرة { شُرَكَائِىَ } على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم ، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم { تشاقون فِيهِمْ } تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ومعناهم . وقرىء : "تشاقونِ" ، بكسر النون ، بمعنى : تشاقونني؛ لأنّ مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم ، فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم ، يقولون ذلك شماتة بهم وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفاً لمن سمعه . وقيل : هم الملائكة قرىء : "تتوفاهم" ، بالتاء والياء . وقرىء : "الذين توفاهم" ، بإدغام التاء في التاء { فَأَلْقَوُاْ السلم } فسالموا وأخبتوا ، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر ، وقالوا : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء } وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان ، فردّ عليهم أولو العلم { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهو يجازيكم عليه ، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } .
(3/348)

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{ خَيْرًا } أنزل خيراً فإن قلت : لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت : فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد ، يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال ، فقالوا خيراً : أي أنزل خيراً ، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأوّلين ، وليس من الإنزال في شيء . وروي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا : إن لم تلقه كان خيراً لك ، فيقول : أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه ، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه ، وأنه نبيّ مبعوث ، فهم الذين قالوا خيراً . وقوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } وما بعده بدل من خيراً ، حكاية لقوله : { لّلَّذِينَ اتقوا } أي : قالوا هذا القول ، فقدّم عليه تسميته خيراً ثم حكاه . ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ عدة للقائلين ، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم ويحمدوه عليه { حَسَنَةٌ } مكافأة في الدنيا بإحسانهم ، ولهم في الآخرة ما هو خير منها ، كقوله { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } [ آل عمران : 148 ] { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } دار الآخرة ، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره . و { جنات عَدْنٍ } خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح { طَيّبِينَ } طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي . لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم { يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ } قيل : إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال : السلام عليك يا وليّ الله ، الله يقرأ عليك السلام ، وبشره بالجنة .
(3/349)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
{ تَأْتِيَهُمُ الملائكة } قرىء بالتاء والياء ، يعني : أن تأتيهم لقبض الأرواح . و { أَمْرُ رَبّكَ } العذاب المستأصل ، أو القيامة { كذلك } أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب { فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بتدميرهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير { سَيّئَاتُ مَا عَلِمُواْ } جزاء سيئات أعمالهم . أو هم كقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
(3/350)

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
هذا من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم ، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله ، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول ، وشقاقهم ، واستكبارهم عن قبول الحق ، يعني : أنهم أشركوا بالله وحرّموا ما أحل الله ، من البحيرة والسائبة وغيرهما ، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا : لو شاء لم نفعل ، وهذا مذهب المجبرة بعينه { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم ورّكوه على ربهم { فَهَلْ عَلَى الرسل } إلا أن يبلغوا الحق ، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد ، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له ، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه .
(3/351)

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله ، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله } أي لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف ، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتي منه خير { فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا } ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدّر الشر ولا أشاؤه ، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار .
(3/352)

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم ، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة ، وأنه { لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } أي لا يلطف بمن يخذل ، لأنه عبث ، والله تعالى متعال عن العبث؛ لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه . وقرىء : "لا يُهدَى" أي : لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله . وقوله { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } دليل على أنّ المراد بالإضلال الخذلان الذي هو نقيض النصرة . ويجوز أن يكون { لاَّ يَهِدِّى } بمعنى لا يهتدي . يقال : هداه الله فهدى . وفي قراءة أبيّ "فإنّ الله لا هادي لمن يضل ، ولمن أضلّ" ، وهي معاضدة لمن قرأ "لا يهدي" على البناء للمفعول . وفي قراءة عبد الله : "يهدي" ، بإدغام تاء يهتدي ، وهي معاضدة للأولى . وقرىء "يضل" بالفتح . وقرأ النخعي : "إن تحرص" ، بفتح الراء ، وهي لغية .
(3/353)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
{ وَأَقْسَمُواْ بالله } معطوف على { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ } [ النحل : 35 ] إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان ، حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا : توريك ذنوبهم على مشيئة الله ، وإنكارهم البعث مقسمين عليه . و { بلى } إثبات لما بعد النفي ، أي : بلى يبعثهم . ووعد الله : مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى ، لأن يبعث موعد من الله ، وبين أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب على الله؛ لأنهم يقولون : لا يجب على الله شيء ، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } متعلق بما دل عليه "بلى" أي يبعثهم ليبين لهم . والضمير لمن يموت ، وهو عام للمؤمنين والكافرين ، والذين اختلفوا فيه هو الحق { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ } كذبوا في قولهم : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ، وفي قولهم : لا يبعث الله من يموت . وقيل : يجوز أن يتعلق بقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } [ النحل : 36 ] أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه ، وأنهم كانوا على الضلالة قبله ، مفترين على الله الكذب .
(3/354)

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
{ قَوْلُنَا } مبتدأ ، و { إِن نَّقُولُ } خبره . { كُنْ فَيَكُونُ } من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود ، أي : إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له : احدث ، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف ، وهذا مثل لأنّ مراداً لا يمتنع عليه ، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف ، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل ، ولا قول ثم . والمعنى : أنّ إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات . وقرىء : "فيكون" ، عطفاً على { نَّقُولَ } .
(3/355)

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
{ والذين هاجروا } هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ظلمهم أهل مكة ففرّوا بدينهم إلى الله ، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين . ومنهم من هاجر إلى المدينة . وقيل : هم الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلما خرجوا تبعوهم فردّوهم : منهم بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار . وعن صهيب أنه قال لهم : أنا رجل كبير ، إن كنت معكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضرّكم ، فافتدى منهم بماله وهاجر ، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال له : ربح البيع يا صهيب . وقال له عمر : نعم الرجل صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه ، وهو ثناء عظيم : يريد لو لم يخلق الله ناراً لأطاعه ، فكيف { فِى الله } في حقه ولوجهه { حَسَنَةٌ } صفة للمصدر ، أي لنبوأنهم تبوئة حسنة . وفي قراءة علي رضي الله عنه . "لنثوّينهم" ومعناه : أثوأة حسنة . وقيل : لننزلهم في الدنيا منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب . وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذاً أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك ربك في الدنيا . وما ذخر لك في الآخرة أكثر وقيل : لنبوّأنهم مباءة حسنة وهي المدينة ، حيث آواهم أهلها ونصروهم { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } الضمير للكفار ، أي : لو علموا أنّ الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة ، لرغبوا في دينهم . ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم { الذين صَبَرُواْ } على هم الذين صبروا . أو أعني الذين صبروا ، وكلاهما مدح ، أي : صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب ، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم ، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله .
(3/356)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قالت قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً ، فقيل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } على ألسنة الملائكة { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر } وهم أهل الكتاب ، ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً . فإن قلت : بم تعلق قوله { بالبينات } ؟ قلت : له متعلقات شتى ، فأما أن يتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، كقولك : ما ضربت إلا زيداً بالسوط؛ لأن أصله : ضربت زيداً بالسوط وإما برجالا ، صفة له : أي رجالاً ملتبسين بالبينات . وإما بأرسلنا مضمراً ، كأنما قيل : بما أرسلوا؟ فقلت بالبينات ، فهو على كلامين ، والأوّل على كلام واحد ، وإما بيوحي ، أي : يوحي إليهم بالبينات . وإما بلا تعلمون ، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام ، كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي . وقوله : { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر } اعتراض على الوجوه المتقدّمة ، وأهل الذكر : أهل الكتاب . وقيل للكتاب الذكر؛ لأنه موعظة وتنبيه للغافلين { مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } يعني ما نزل الله إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا .
(3/357)

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{ مَكَرُواْ السيئات } أي المكرات السيئات ، وهم أهل مكة ، وما مكروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم { فِى تَقَلُّبِهِمْ } متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم { على تَخَوُّفٍ } متخوفين ، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون ، وهو خلاف قوله { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } وقيل : هو من قولك : تخوفنه وتخونته ، إذا تنقصته قال زهير :
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِدا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعةِ السَّفَنُ
أي يأخذهم على أن يتنقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا . وعن عمر رضي الله عنه . أنه قال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا : التخوّف التنقص . قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم ، قال شاعرنا . وأنشد البيت . فقال عمر : أيها الناس ، عليكم بديوانكم لا يضل . قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } حيث يحلم عنكم ، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم .
(3/358)

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
قرىء : "أو لم يروا" و "يتفيؤا" بالياء والتاء . و { مَا } موصولة بخلق الله ، وهو مبهم بيانه { مِن شَىْء يَتَفَيَّؤُاْ ظلاله } واليمين ، بمعنى الأيمان . و { سُجَّدًا } حال من الظلال . { وَهُمْ داخرون } حال من الضمير في ظلاله ، لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل ، وجمع بالواو ، لأن الدخور من أوصاف العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب . والمعنى : أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن إيمانها وشمائلها ، أي عن جانبي كل واحد منها . وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء ، أي : ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله ، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً ، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها ، لا تمتنع .
(3/359)

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ مِن دَابَّةٍ } يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً ، على أنّ في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما يدب الأناسي في الأرض ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ، ويراد بما في السموات : الخلق الذي يقال له الروح ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ، ويراد بما في السموات : الملائكة وكرّر ذكرهم على معنى : والملائكة خصوصاً من بين الساجدين؛ لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم . ويجوز أن يراد بما في السموات : ملائكتهنّ . وبقوله والملائكة : ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم ، فإن قلت : سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم ، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ قلت : المراد بسجود المكلفين : طاعتهم وعبادتهم ، وبسجود غيرهم : انقياده لإرادة الله وأنها غير ممتنعة عليها ، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا ، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد . فإن قلت : فهلا جيء بمن دون "ما" تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت : لأنه لوجيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب ، فكان متناولاً للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم ، إرادة العموم { يَخَافُونَ } يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : لا يستكبرون خائفين ، وأن يكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له ، لأنّ من خاف الله لم يستبكر عن عبادته { مّن فَوْقِهِمْ } إن علقته بيخافون ، فمعناه : يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه : يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً ، كقوله { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ، 61 ] ، { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } [ الأعراف : 127 ] وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين ، وأنهم بين الخوف والرجاء .
(3/360)

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
فإن قلت : إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين ، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة؛ لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص . وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان ، فمعدودان فيهما دلالة على العدد ، فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ورجلان اثنان ، فما وجه قوله إلهين اثنين؟ قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين : على الجنسية والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنىّ به منهما ، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده ، فدل به على القصد إليه والعناية به . ألا ترى أنك لو قلت : إنما هو إله ، ولم تؤكده بواحد : لم يحسن ، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية { فإياي فارهبون } نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم ، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم ، وهو من طريقة الالتفات ، وهو أبلغ في الترهيب من قوله : وإياه فارهبوه ، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم .
(3/361)

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{ الدين } الطاعة { وَاصِبًا } حال عمل فيه الظرف . والواصب : الواجب الثابت؛ لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه . ويجوز أن يكون من الوصب ، أي : وله الدين ذا كلفة ومشقة ، ولذلك سمي تكليفاً . أو : وله الجزاء ثابتاً دائماً سرمداً لا يزول ، يعني الثواب والعقاب .
(3/362)

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ } وأيّ شيء حل بكم ، أو اتصل بكم من نعمة ، فهو من الله { فإلَيْهِ تَجْئَرُونَ } فما تتضرعون إلا إليه ، والجؤار : رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة . قال الأعشى يصف راهبا :
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِي ... كِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا
وقرىء : "تجرون" ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم . وقرأ قتادة "كاشف الضر" على : فاعل بمعنى فعل ، وهو أقوى من كشف؛ لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة . فإن قلت : فما معنى قوله : { إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } ؟ قلت : يجوز أن يكون الخطاب في قوله : { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله } عاماً ، ويريد بالفريق : فريق الكفرة وأن يكون الخطاب للمشركين ومنكم للبيان ، لا للتبعيض ، كأنه قال فإذا فريق كافر ، وهم أنتم . ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر ، كقوله { فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } من نعمة الكشف عنهم ، كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تخلية ووعيد . وقرىء : "فيُمَتَّعوا" ، بالياء مبنيا للمفعول ، عطفا على { لِيَكْفُرُواْ } ويجوز أن يكون : ليكفروا فيمتعوا ، من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية ، واللام لام الأمر .
(3/363)

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
{ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي لآلهتهم . ومعنى لا يعلمونها : أنه يسمونها آلهة ، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله ، وليس كذلك . وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع ، فهم إذاً جاهلون بها ، وقيل : الضمير في { لاَّ يَعْلَمُونَ } للآلهة . أي : لأشياء غير موصوفة بالعلم ، ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم { لَتُسْئَلُنَّ } وعيد { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } من الإفك في زعمكم أنها آلهة ، وأنها أهل للتقرب إليها .
(3/364)

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
كانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه . أو تعجب من قولهم { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يعني البنين . ويجوز في { مَّا يَشْتَهُونَ } الرفع على الابتداء ، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات ، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور . و { ظَلَّ } بمعنى صار كما يستعمل بات وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة . ويجوز أن يجيء ظل؛ لأن أكثر الوضع يتفق بالليل ، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه من الكآبة والحياء من الناس { وَهُوَ كَظِيمٌ } مملوء حنقاً على المرأة { يتوارى مِنَ القوم } يستخفي منهم { مِنْ } أجل { سُوء } المبشر به ، ومن أجل تعييرهم ، ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشر به { على هُونٍ } على هوان وذل { أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب } أم يئده . وقرىء : "أيمسكها على هون أم يدسها" ، على التأنيث . وقرىء : "على هوان" { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف .
(3/365)

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
{ مَثَلُ السوء } صفة السوء : وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكرهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق ، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } وهو الغني عن العالمين ، والنزاهة عن صفات المخلوقين وهو الجواد الكريم .
(3/366)

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
{ بِظُلْمِهِمْ } بكفرهم ومعاصيهم { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي على الأرض { مِن دَابَّةٍ } قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين . وعن أبي هريرة : أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه ، فقال : بلى والله ، حتى أنّ الحباري لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . أو من دابة ظالمة . وعن ابن عباس { مِن دَابَّةٍ } من مشرك يدب عليها . وقيل : لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء .
(3/367)

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم . ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ } مع ذلك { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } عند الله كقوله { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] . وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار : كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى : هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم ، فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة . وإذا قال : هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له ، أما تستحي من ذلك الموقف؟ وقرأ هذه الآية وعن مجاهد : "أنّ لهم الحسنى" . هو قول قريش : لنا البنون ، وأن لهم الحسنى : بدل من الكذب . وقرىء "الكذب" جمع كذوب ، صفة للألسنة { مُّفْرَطُونَ } قرىء مفتوح الراء ومكسورها مخففاً ومشدّداً ، فالمفتوح بمعنى مقدّمون إلى النار معجلون إليها ، من أفرطت فلاناً ، وفرّطته في طلب الماء ، إذا قدمته . وقيل منسيون متروكون ، من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته . والمكسور المخفف ، من الإفراط في المعاصي . والمشدّد . من التفريط في الطاعات وما يلزمهم .
(3/368)

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها . أو فهو وليهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا . ومعنى { وَلِيُّهُمُ } قرينهم وبئس القرين . أو يجعل { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } حكاية للحال الآتية ، وهي حال كونهم معذبين في النار ، أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش ، [ و ] أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم ، فهو ولي وهؤلاء : لأنهم منهم . ويجوز أن يكون على حذف المضاف ، أي : فهو ولي أمثالهم اليوم .
(3/369)

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
{ وَهَدَىً و رَحْمَةً } معطوفان على محل { لِتُبَيّنَ } إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب . ودخل اللام على لتبين : لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل . وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعل . والذي اختلفوا فيه : البعث؛ لأنه كان فيهم من يؤمن به ، ومنهم عبد المطلب ، وأشياء من التحريم والإنكار والإقرار { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع إنصاف وتدبر؛ لأنّ من لم يسمع بقلبه ، فكأنه أصم لا يسمع .
(3/370)

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكياش؛ ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً . وأمّا { فِى بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] في سورة المؤمنين : فلأنّ معناه الجمع . ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان ، أحدهما : أن يكون تكسير نعم كأجبال في جبل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم ، فإذا ذكر فكما يذكر "نعم" في قوله :
في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ
وإذا أنث ففيه وجهان : أنه تكسير نعم . وأنه في معنى الجمع . وقرىء : "نَسقيكم" بالفتح والضم ، وهو استئناف ، كأنه قيل : كيف العبرة ، فقيل نسقيكم { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله . قيل : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه لبناً ، وأعلاه دماً . والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها ، فتجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، وتبقى الفرث في الكرش . فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل . وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم { سَآئِغًا } سهل المرور في الحلق ويقال : لم يغص أحد باللبن قط . وقرىء : "سيغاً" ، بالتشديد . و "سيغاً" ، بالتخفيف . كهين ولين . فإن قلت : أي فرق بين "من" الأولى والثانية؟ قلت : الأولى للتبعيض؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها ، كقولك : أخذت من مال زيد ثوباً . والثانية : لابتداء الغاية؛ لأنّ بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ ، فهو صلة لنسقيكم ، كقولك : سقيته من الحوض ، ويجوز أن يكون حالا من قوله { لَّبَنًا } مقدماً عليه ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائناً من بين فرث ودم . ألا ترى أنه لو تأخر فقيل : لبناً من بين فرث ودم كان صفة له ، وإنما قدم لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم . وقد احتج بعض من يرى أن المني طاهر على من جعله نجساً ، لجريه في مسلك البول بهذه الآية ، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر ، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً .
(3/371)

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
فإن قلت : بم تعلق قوله { وَمِن ثمرات النخيل والأعناب } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه ، وقوله : { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } بيان وكشف عن كنه الإسقاء . أو يتعلق بتتخذون ، ومنه من تكرير الظرف للتوكيد ، كقولك : زيد في الدار فيها ، ويجوز أن يكون { تَتَّخِذُونَ } صفة موصوف محذوف ، كقوله :
جادت بِكَفّى كَانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ ... تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً؛ لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر . فإن قلت : فالإم يرجع الضمير في منه إذا جعلته ظرفاً مكرّراً؟ قلت : إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كما رجع في قوله تعالى { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] إلى الأهل المحذوف ، والسكر : الخمر ، سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً . نحو رشد رشداً ورشداً . قال :
وَجَاؤُنَا بهِمْ سَكَرٌ عَلَيْنَا ... فَأَجْلَى اليَوْمُ والسَّكْرَانُ صَاحِى
وفيه وجهان : أحدهما أن تكون منسوخة . وممن قال بنسخها : الشعبي والنخعي . والثاني : أن يجمع بين العتاب والمنة . وقيل : السكر النبيذ . وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتدّ ، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حدّ السكر ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم .
( 586 ) " الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب " وبأخبار جمة . ولقد صنف شيخنا أبو علي الجبائي قدّس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ ، فلما شيخ وأخذت منه السنّ العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوى به ، فأبى . فقيل له : فقد صنفت في تحليله ، فقال : تناولته الدعارة فسمج في المروءة . وقيل : السكر الطُعم وأنشد :
جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرَاً ... أي تنقلت بأعراضهم . وقيل هو من الخمر ، وإنه إذا ابترك في أعراض الناس ، فكأنه تخمر بها . والرزق الحسن : الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك . ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً ، كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن .
(3/372)

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
الإيحاء إلى النحل : إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به ، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه ، وإلا فنيَّقتها في صنعتها ، ولطفها في تدبير أمرها ، وإصابتها فيما يصلحها ، دلائل بينة شاهدة على أنّ الله أودعها علماً بذلك وفطنها ، كما أولى أولي العقول عقولهم . وقرأ يحيى بن وثاب { إلى النحل } بفتحتين . وهو مذكر كالنحل ، وتأنيثه على المعنى { أَنِ اتخذى } هي أن المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول . وقرىء : "بيوتاً" بكسر الباء لأجل الياء . و { يَعْرِشُونَ } بكسر الراء وضمها : يرفعون من سقوف البيوت . وقيل : ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تتعسل فيها . والضمير في { يعرشون } للناس فإن قلت : ما معنى "من" في قوله { أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟ قلت : أريد معنى البعضية ، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها { مِن كُلّ الثمرات } إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل وتعتاد أكلها ، أي ابني البيوت ، ثم كلي من كل ثمرة تشتهينها ، فإذا أكلتها { فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ } أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك . أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك ، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها ، فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة . أو أراد بقوله : { ثُمَّ كُلِى } ثم اقصدي أكل الثمرات فاسلكلي في طلبها في مظانها سبل ربك { ذُلُلاً } جمع ذلول ، وهي حال من السبل؛ لأنّ الله ذللها لها ووطأها وسهلها ، كقوله : { هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] أو من الضمير في { فاسلكى } أي : وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة { شَرَابٌ } يريد العسل ، لأنه مما يشرب { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل ، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض ، كما أن كل دواء كذلك . وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء ، وكلاهما محتمل . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 587 ) أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه ، فقال : " اذهب واسقه العسل " فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع ، فقال : " اذهب واسقه عسلاً" فقد صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فشفاه الله فبرأ ، كأنما أنشط من عقال " وعن عبد الله بن مسعود :
( 588 ) " العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين : القرآن والعسل " ومن بدع التأويلات الرافضة : أن المراد بالنحل علي وقومه : وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم ، يخرج من بطونهم العلم ، فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور ، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم .
(3/373)

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{ إلى أَرْذَلِ العمر } إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة عن عليّ رضي الله عنه وتسعون سنة عن قتادة : لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان ، وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن سئل عنه . وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً : وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه .
(3/374)

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
أي : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تتساووا في الملبس والمطعم ، كما يحكي عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( 589 ) " إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تطعمون " فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } فجعل ذلك من جملة جحود النعمة . وقيل : هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء ، فقال لهم : أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء . وقيل المعنى أنّ الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً ، فهم في رزقي سواء ، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق . فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم . وقرىء : "يجحدون" ، بالتاء والياء .
(3/375)

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{ مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم . وقيل : هو خلق حواء من ضلع آدم . والحفدة : جمع حافد ، وهو الذي يحفد ، أي يسرع في الطاعة والخدمة . ومنه قول القانت . وإليك نسعى ونحفد وقال :
حَفَدَ الْوَلاَئِدَ بَيْنَهُنَّ وَأُسْلِمَت ... بِأَكُفِّهِنَّ أزِمَّةَ الأَجْمَالِ
واختلف فيهم فقيل : هم الأختان على البنات وقيل : أولاد الأولاد ، وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأوّل ، وقيل : المعنى وجعل لكم حفدة ، أي خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم ويجوز أن يراد بالحفدة : البنون أنفسهم؛ كقوله : { سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [ النحل : 67 ] كأنه قيل : وجعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون ، أي جامعون بين الأمرين { مّنَ الطيبات } يريد بعضها؛ لأنّ كل الطيبات في الجنة ، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها . وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، فليس لهم إيمان إلا به ، كأنه شيء معلوم مستيقن . ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز : هم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول . وقيل : الباطل يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما . ونعمة الله : ما أحل لهم .
(3/376)

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
الرزق يكون بمعنى المصدر ، وبمعنى ما يرزق ، فإن أردت المصدر نصبت به { شَيْئاً } كقوله { أَوْ إِطْعَامٌ . . . . يَتِيماً } [ البلد : 14 ] على لا يملك أن يرزق شيئاً . وإن أردت المرزوق كان شيئاً بدلاً منه بمعنى قليلاً ويجوز أن يكون تأكيداً للا يملك : أي لا يملك شيئاً من الملك . و { مّنَ السماوات والأرض } صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى : لا يرزق من السموات مطراً ، ولا من الأرض نباتاً . أو صفة إن كان اسماً لما يرزق . والضمير في { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } لما؛ لأنه في معنى الآلهة ، بعد ما قيل { لاَ يَمْلِكُ } على اللفظ . ويجوز أن يكون للكفار ، يعني : ولا يستطيع هؤلاء - مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب - من ذلك شيئاً ، فكيف بالجماد الذي لا حس به . فإن قلت : ما معنى قوله : ( ولا يستطيعون ) بعد قوله { لاَ يَمْلِكُ } ؟ وهل هما إلا شيء واحد؟ قلت : ليس في { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } تقدير راجع ، وإنما المعنى : لا يملكون أن يرزقوا ، والاستطاعة منفية عنهم أصلا؛ لأنهم موات ، إلا أن يقدر الراجع ويراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة للتوكيد أو يراد : أنهم لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ، ولا يتأتى ذلك منهم ولا يستقيم .
(3/377)

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
{ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به ، لأنّ من يضرب الأمثال مشبه حالا بحال وقصة بقصة { أَنَّ الله يَعْلَمُ } كنه ما تفعلون وعظمه ، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم؛ لأنّ العقاب على مقدار الإثم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } كنهه وكنه عقابه ، فذاك هو الذي جرّكم إليه وجرأكم عليه ، فهو تعليل للنهي عن الشرك . ويجوز أن يراد : فلا تضربوا لله الأمثال ، إنّ الله يعلم كيف يضرب الأمثال ، وأنتم لا تعلمون .
(3/378)

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
ثم علمهم كيف تضرب فقال : مثلكم في إشراككم بالله الأوثان : مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء . فإن قلت : لم قال { مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } وكل عبد مملوك ، وغير قادر على التصرف؟ قلت : أما ذكر المملوك فليميز من الحرّ؛ لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً ، لأنهما من عباد الله . وأما { لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له؛ لأنهما يقدران على التصرف . واختلفوا في العبد هل يصح له ملك؟ والمذهب الظاهر أنه لا يصحّ له . فإن قلت : { من } في قوله { وَمَن رزقناه } ما هي؟ قلت : الظاهر أنها موصوفة ، كأنه قيل : وحراً رزقناه؛ ليطابق عبداً . ولا يمتنع أن تكون موصولة . فإن قلت : لم قيل { يَسْتَوُونَ } على الجمع؟ قلت : معناه : هل يستوي الأحرار والعبيد؟
(3/379)

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
الأبكم الذي ولد أخرس ، فلا يَفهم ولا يُفهم { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله { أَيْنَمَا يُوَجّههُّ } حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم ، لم ينفع ولم يأت بنجح { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن } هو سليم الحواس نفاعاً ذو كفايات ، مع رشد وديانة ، فهو { يَأْمُرُ } الناس { بالعدل } والخير { وَهُوَ } في نفسه { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على سيرة صالحة ودين قويم . وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وقرىء : "أينما يوجه" ، بمعنى أينما يتوجه ، من قولهم : أينما أوجه ألق سعداً : وقرأ ابن مسعود : "أينما يُوَجَّهَ" ، على البناء للمفعول .
(3/380)

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{ وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } أي يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه . أو أراد بغيب السموات والأرض : يوم القيامة ، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم { إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } أي هو عند الله وإن تراخى ، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه : هو كلمح البصر أو هو أقرب ، إذا بالغتم في استقرابه . ونحوه قوله : { ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] أي هو عنده دان وهو عندكم بعيد . وقيل : المعنى أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين ، يكون في أقرب وقت وأوحاه ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق ، لأنه بعض المقدورات . ثم دل على قدرته بما بعده .
(3/381)

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قرىء "أمهاتكم" بضم الهمزة وكسرها ، والهاء مزيدة في أمات ، كما زيدت في أراق ، فقيل : أهراق . وشذت زيادتها في الواحدة قال :
أُمَّهَتِي خِنْدِفٌ وَإلْيَاسُ أبي ... { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } في موضع الحال . ومعناه : غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون ، وسوّاكم وصوّركم ، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة . وقوله : { وَجَعَلَ لَكُمُ } معناه : وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به ، من شكر المنعم ، وعبادته ، والقيام بحقوقه ، والترقي إلى ما يسعدكم . والأفئدة في فؤاد ، كالأغربة في غراب ، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة ، والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها ، كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير ، فجرت ذلك المجرى .
(3/382)

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
قرىء : "ألم يروا" ، بالتاء والياء { مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك . والجوّ : الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ والسكاك أبعد منه ، واللوح مثله { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في قبضهن وبسطهن ووقوفهن { إِلاَّ الله } بقدرته .
(3/383)

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
{ مِن بُيُوتِكُمْ } التي تسكنونها من الحجر والمدر والأخبية وغيرها . والسكن : فعل بمعنى مفعول ، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف { بُيُوتًا } هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع { تَسْتَخِفُّونَهَا } ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقامتكم } أي يوم ترحلون خف عليكم حملها وثقلها ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها . أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جيمعاً ، على أنّ اليوم بمعنى الوقت { ومتاعا } وشيئاً ينتفع به { إلى حِينٍ } إلى أن تقضوا منه أوطاركم . أو إلى أن يبلى ويفنى أو إلى أن تموتوا . وقرىء : "يوم ظعنكم" ، بالسكون .
(3/384)

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{ مّمَّا خَلَقَ } من الشجر وسائر المستظلات { أكنانا } جمع كنّ ، وهو ما يستكنّ به من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف { سَرَابِيلَ } هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن وغيرها { تَقِيكُمُ الحر } لم يذكر البرد؛ لأنّ الوقاية من الحرّ أهمّ عندهم ، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيراً محتملاً . وقيل : ما يقي من الحرّ يقي من البرد فدل ذكر الحرّ على البرد { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } يريد الدروع والجواشن والسربال عامّ يقع على كل ما كان من حديد وغيره { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي تنظرون في نعمه الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له . وقرىء : "تسلمون" ، من السلامة : أي تشكرون فتسلمون من العذاب . أو تسلم قلوبكم من الشرك . وقيل : تسلمون من الجراح بلبس الدروع .
(3/385)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } فلم يقبلوا منك فقد تمهد عذرك بعدما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ ، فذكر سبب العذر وهو البلاغ ليدل على المسبب { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله } التي عددناها حيث يعترفون بها وأنها من الله { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم : هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا . وقيل : إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا . وقيل : قولهم لولا فلان ما أصبت كذا لبعض نعم الله . وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا إذا لم يعتقد أنها من الله وأنه أجراها على يد فلان وجعله سبباً في نيلها { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } أي الجاحدون غير المعترفين . وقيل : "نعمة الله" نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً ، وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم . فإن قلت : ما معنى ثم؟ قلت : الدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة؛ لأنّ حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر .
(3/386)

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{ شَهِيداً } نبيهاً يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق ، والكفر والتكذيب { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } في الاعتذار . والمعنى لا حجة لهم ، فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر ، وكذا عن الحسن { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا هم يسترضون ، أي : لا يقال لهم أرضوا ربكم؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل . فإن قلت : فما معنى ثم هذه؟ قلت : معناها أنهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها ، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة . وانتصاب اليوم بمحذوف تقديره : واذكر يوم نبعث ، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } كقوله { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ] الآية .
(3/387)

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
إن أرادوا بالشركاء آلهتهم ، فمعنى { شُرَكَآؤُنَا } آلهتنا التي دعوناها شركاء . وإن أرادوا الشياطين ، فلأنهم شركاؤهم في الكفر وقرناؤهم في الغيّ : و { ندعو } بمعنى نعبد . فإن قلت : لم قالوا : { إِنَّكُمْ لكاذبون } وكانوا يعبدونهم على الصحة؟ قلت : لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة . والدليل عليه قول الملائكة { كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] يعنون أن الجن كانوا راضين بعبادتهم لا نحن ، فهم المعبودون دوننا . أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها لله من الشريك . وإن أريد بالشركاء الشياطين ، جاز أن يكون "كاذبين" في قولهم { إِنَّكُمْ لكاذبون } كما يقول الشيطان : إني كفرت بما أشركتموني من قبل { وَأَلْقَوْاْ } يعني الذين ظلموا . وإلقاء السلم : الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا { وَضَلَّ عَنْهُم } وبطل عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن لله شركاء ، وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤا منهم .
(3/388)

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{ الذين كَفَرُواْ } في أنفسهم ، وحملوا غيرهم على الكفر : يضاعف الله عقابهم كما ضاعفوا كفرهم . وقيل في زيادة عذابهم حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفاً . وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار { بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل الله .
(3/389)

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ } يعني نبيهم؛ لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { شَهِيدًا على هَؤُلآء } على أمتك { تِبْيَانًا } بياناً بليغاً ونظير "تبيان" "تلقاء" في كسر أوله ، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن . فإن قلت : كيف كان القرآن تبياناً { لّكُلّ شَىْء } ؟ قلت : المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين ، حيث كان نصاً على بعضها وإحالة على السنة ، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته . وقيل : وما ينطق عن الهوى . وحثاً على الإجماع في قوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله صلى الله عليه وسلم :
( 590 ) " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم " وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد ، مستندة إلى تبيان الكتاب ، فمن ثمّ كان تبياناً لكل شيء .
(3/390)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
العدل هو الواجب؛ لأن الله تعالى عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم { والإحسان } الندب؛ وإنما علق أمره بهما جميعاً؛ لأنّ الفرض لا بدّ من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب ، ولذلك
( 591 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمن علمه الفرائض فقال : والله لازدت فيها ولا نقصت - : " أفلح إن صدق " فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط وقال صلى الله عليه وسلم
( 592 ) " استقيموا ولن تحصوا " فما ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل . والفواحش : ما جاوز حدود الله { والمنكر } ما تنكره العقول { والبغى } طلب التطاول بالظلم ، وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ، أقيمت هذه الآية مقامها . ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكراً وبغياً ، ضاعف الله لمن سنها غضباً ونكالاً وخزياً ، إجابة لدعوة نبيه :
( 593 ) "وعاد من عاداه" وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون .
(3/391)

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] . { وَلاَ تَنقُضُواْ } إيمان البيعة { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } أي بعد توثيقها باسم الله . وأكد ووكد : لغتان فصيحتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل { كَفِيلاً } شاهداً ورقيباً؛ لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه { وَلاَ تَكُونُواْ } في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته { أنكاثا } جمع نكث وهو ما ينكث فتله . قيل : هي ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء ، اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهنّ فينقضن ماغزلن { تَتَّخِذُونَ } حال و { دَخَلاً } أحد مفعولي اتخذ . يعني : ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً { بَيْنِكُمْ } أي مفسدة ودغلا { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } بسبب أن تكون أمة يعني جماعة قريش { هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } هي أزيد عدداً وأوفر مالاً . من أمة من جماعة المؤمنين { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } الضمير لقوله : أن تكون أمة؛ لأنه في معنى المصدر ، أي : إنما يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوّتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ } إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام .
(3/392)

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
{ وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار ، وهو قادر على ذلك { ولكن } الحكمة اقتضت أن يضلّ { مَن يَشَآء } وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان . يعني : أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك ، وحققه بقوله : { وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ولو كان هو المضطرّ إلى الضلال والاهتداء ، لما أثبت لهم عملا يسئلون عنه .
(3/393)

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
ثم كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم ، تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم ما يركب منه { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها { وَتَذُوقُواْ السوء } في الدنيا بصدودكم { عَن سَبِيلِ الله } وخروجكم من الدين . أو بصدّكم غيركم؛ لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا ، لا تخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الآخرة .
(3/394)

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
كان قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان - لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين ، وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد - أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله ، { وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا { بِعَهْدِ الله } وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً من الدنيا يسيراً ، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا { إِنَّمَا عِنْدَ الله } من إظهاركم وتغنيمكم ، ومن ثواب الآخرة { خَيْرٌ لَّكُمْ } .
(3/395)

مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
{ مَا عِندَكُمْ } من أعراض الدنيا { يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله } من خزائن رحمته { بَاقٍ } لا ينفد وقرىء : "لنجزين" بالنون والياء { الذين صَبَرُواْ } على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام . فإن قلت : لم وحدت القدم ونكرت؟ قلت : لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة؟
(3/396)

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
فإن قلت : { مِنْ } متناول في نفسه للذكر والأنثى ، فما معنى تبيينه بهما؟ قلت : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور ، فقيل { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } على التبيين ، ليعمّ الموعد النوعين جميعاً { حياوة طَيِّبَةً } يعني في الدنيا وهو الظاهر ، لقوله { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } وعده الله ثواب الدنيا والآخرة ، كقوله { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة } [ آل عمران : 148 ] وذلك أنّ المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً ، فلا مقال فيه . وإن كان معسراً ، فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله . وأمّا الفاجر فأمره على العكس : إن كان معسراً فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحياة الطيبة : الرزق الحلال . وعن الحسن : القناعة . وعن قتادة : يعني في الجنة . وقيل : هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه .
(3/397)

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه ، وصل به قوله { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } إيذاناً بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب . والمعنى : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] وكقولك : إذا أكلت فسمّ الله . فإن قلت : لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل؟ قلت : لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه ، فكان منه بسبب قويّ وملابسة ظاهرة . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
( 594 ) قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال لي : " يا ابن أمّ عبد ، قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ " { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي تسلط وولاية على أولياء الله ، يعني : أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته { إِنَّمَا سلطانه } على من يتولاه ويطيعه { بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير يرجع إلى ربهم . ويجوز أن يرجع إلى الشيطان ، على معنى : بسببه وغروره ووسوسته .
(3/398)

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
تبديل الآية مكان الآية : هو النسخ ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح ، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم ، وخلافه مصلحة . والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد ، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته . وهذا معنى قوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمآ أَنتَ مُفْتَرٍ } وجدوا مدخلاً للطعن فطعنوا ، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ وكانوا يقولون : إن محمداً يسخر من أصحابه : يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ، فيأتيهم بما هو أهون؛ ولقد افتروا ، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون ، والأهون بالأشق ، والأهون بالأهون ، والأشق بالأشق ، لأنّ الغرض المصلحة ، لا الهوان والمشقة . فإن قلت : هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله ، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟ قلت : فيه أن قرآناً ينسخ بمثله وليس فيه نفي نسخه بغيره ، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم ، فنسخه بها كنسخه بمثله ، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها .
(3/399)

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
في { يُنَزّلٍ } و { نَزَّلَهُ } وما فيهما من التنزيل شيئاً على حسب الحوادث والمصالح : إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح كالتنزيل ، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة . و { رُوحُ القدس } جبريل عليه السلام ، أضيف إلى القدس وهو الطهر ، كما يقال : حاتم الجود وزيد الخير ، والمراد الروح المقدّس ، وحاتم الجواد ، وزيد الخير . والمقدّس المطهر من المآثم . وقرىء : بضم الدال وسكونها { بالحق } في موضع الحال ، أي نزله ملتبساً بالحكمة ، يعني أن النسخ من جملة الحق { لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ } ليبلوهم بالنسخ ، حتى إذا قالوا فيه : هو الحق من ربنا والحكمة ، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب ، على أن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب { وَهدىً وبشرى } مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت . والتقدير : تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم . وقرىء : "ليثبت" ، بالتخفيف .
(3/400)

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
أرادوا بالبشر : غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب . وقيل : هو جبر ، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي . وقيل عبدان : جبر ويسار ، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن ، فقالوا : يعلمانه ، فقيل لأحدهما ، فقال : بل هو يعلمني . وقيل : هو سلمان الفارسي . واللسان : اللغة . ويقال : ألحد القبر ولحده ، وهو ملحد وملحود ، إذا أمال حفره عن الاستقامة ، فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن استقامة ، فقالوا : ألحد فلان في قوله ، وألحد في دينه . ومنه الملحد؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها ، لم يمله عن دين إلى دين . والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان { أَعْجَمِىٌّ } غير بين { وهذا } القرآن { لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } ذو بيان وفصاحة ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم وقرىء : "يلحدون" بفتح الياء والحاء . وفي قراءة الحسن : "اللسان الذي يلحدون إليه" بتعريف اللسان . فإن قلت : الجملة التي هي قوله : { لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ } ما محلها؟ قلت : لا محل لها؛ لأنها مستأنفة جواب لقولهم . ومثله قوله { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] بعد قوله { وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله } [ الأنعام : 124 ] .
(3/401)

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
{ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَات الله } أي يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون { لاَ يهابهم الله } لا يلطف بهم؛ لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لا من أهل اللطف والثواب { إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ } ردّ لقولهم { إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] يعني : إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه لا يترقب عقاباً عليه { وَأُوْلئِكَ } إشارة إلى قريش { هُمُ الكاذبون } أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون ، أو إلى الذين لا يؤمنون . أي أولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب؛ لأنّ تكذيب آيات الله أعظم الكذب : أو أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء ، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين . أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : { إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] .
(3/402)

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
{ مَن كَفَرَ } بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله ، على أن يجعل { وَأُوْلئِكَ هُمُ الكاذبون } [ النحل : 105 ] اعتراضاً بين البدل والمبدل منه . والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، ثم قال : { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي طاب به نفساً واعتقده { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله } ويجوز أن يكون بدلاً من المبتدأ الذي هو { أولئك } على : ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون . أو من الخبر الذي هو الكاذبون ، على : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه . ويجوز أن ينتصب على الذمّ . وقد جوّزوا أن يكون { مَن كَفَرَ بالله } شرطاً مبتدأ ، ويحذف جوابه؛ لأن جواب { مَّن شَرَحَ } دال عليه ، كأنه قيل : من كفر بالله فعليهم غضب ، إلا من أكره ، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب ، روي
( 595 ) أنّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمار ، وأبواه - ياسر وسمية - وصهيب ، وبلال ، وخباب ، وسالم : عذبوا ، فأمّا سمية فقد ربطت بين بعيرين ووجىء في قبلها بحربة ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت ، وقتل ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً . فقيل يا رسول الله ، إن عماراً كفر ، فقال : "كلا ، إنّ عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه" فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : "مالكا إن عادوا لك فعد لهم بما قلت" ومنهم جبر مولى الحضرمي . أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه وأسلم ، وحسن إسلامهما ، وهاجرا فإن قلت : أي الأمرين أفضل ، أفعل عمار أم فعل أبويه؟ قلت : بل فعل أبويه؛ لأنّ في ترك التقية والصبر على القتل إعزازاً للإسلام . وقد روي :
( 596 ) أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ؟ قال أنت أيضاً ، فخلاه . وقال للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ؟ قال أنا أصمّ . فأعاد عليه ثلاثاً ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما الأوّل فقد أخذ برخصة الله . وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له " { ذلك } إشارة إلى الوعيد ، وأنّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة ، واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم { وأولئك هُمُ الغافلون } الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم؛ لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها .
(3/403)

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه . ومعنى : إنّ ربك لهم ، أنه لهم لا عليهم ، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوّهم وخاذلهم ، كما يكون الملك للرجل لا عليه ، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بالعذاب والإكراه على الكفر . وقرىء : "فتنوا" على البناء للفاعل ، أي : بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه { مِن بَعْدِهَا } من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر { يَوْمَ تَأْتِى } منصوب برحيم . أو بإضمار اذكر . فإن قلت : ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ قلت : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها ، فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي . ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها كقوله : { هَؤُلاء أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] ، { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ونحو ذلك .
(3/404)

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته . فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلا لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها { مُّطْمَئِنَّةً } لا يزعجها خوف ، لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف { رَغَدًا } واسعاً . والأنعم : جمع نعمة ، على ترك الاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع . أو جمع نعم ، كبؤس وأبؤس . وفي الحديث :
( 597 ) نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى : " إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا " فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ قلت : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب : شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس : ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث . وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما ، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما ، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا . ونحوه قول كثير :
غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكا ... غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ
استعارة الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه . ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظر إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار ، كقوله :
يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرو ... رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرو بْنِ بَكْر
ليَ الشطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِيِني ... وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ
أراد بردائه سيفه ، ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً { وَهُمْ ظالمون } في حال التباسهم بالظلم ، كقوله : ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة . وقرىء : "والخوف" عطفاً على اللباس ، أو على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه . أصله : ولباس الخوف . وقرىء : "لباس الخوف والجوع" .
(3/405)

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها ، وصل بذلك بالفاء في قوله { فَكُلُواْ } صدّهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها ، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب ، وشكر إنعامه بذلك ، وقال : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } يعني تطيعون . أو إن صحّ زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة ، لأنها شفعاؤكم عنده . ثم عدد عليهم محرمات الله ، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم ، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه .
(3/406)

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
وانتصاب { الكذب } بلا تقولوا ، على : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم { مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله أو إلى قياس مستند إليه ، واللام مثلهافي قولك : ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام . وقوله : { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بدل من الكذب . ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، فتقول هذا حلال وهذا حرام . ولك أن تنصب الكذب بتصف ، وتجعل "ما" مصدرية ، وتعلق { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بلا تقولوا : على ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب ، أي : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم ، لا لأجل حجة وبينة ، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة . فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال . وعينها تصف السحر . وقرىء : "الكذب" بالجرّ صفة لما المصدرية ، كأنه قيل : لوصفها الكذب ، بمعنى الكاذب ، كقوله تعالى { بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] والمراد بالوصف : وصفها البهائم بالحل والحرمة . وقرىء : "الكذب" جمع كذوب بالرفع ، صفة للألسنة ، وبالنصب على الشتم . أو بمعنى : الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذاباً ، ذكره ابن جني . واللام في { لّتَفْتَرُواْ } من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض { متاع قَلِيلٌ } خبر مبتدأ محذوف ، أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم .
(3/407)

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
{ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } يعني في سورة الأنعام .
(3/408)

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال ، أي : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم { مِن بَعْدِهَا } من بعد التوبة .
(3/409)

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
{ كَانَ أُمَّةً } فيه وجهان ، أحدهما : أنه كان وحده أمّة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقوله :
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَع الْعَالَمَ في وَاحِدِ
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار . والثاني : أن يكون أمّة بمعنى مأموم ، أي : يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير ، أو بمعنى مؤتم به كالرحلة والنخبة ، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول ، فيكون مثل قوله { قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ البقرة : 124 ] وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي عن ابن مسعود أنه قال : إنّ معاذاً كان أمّة قانتاً لله ، فقلت : غلطت ، إنما هو إبراهيم . فقال : الأمّة الذي يعلم الخير . والقانت المطيع لله ورسوله ، وكان معاذ كذلك . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال - حين قيل له : ألا تستخلف؟- : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته : ولو كان معاذ حياً لاستخلفته . ولو كان سالم حياً لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( 598 ) " أبو عبيدة أمين هذه الأمّة ، ومعاذ أمّة قانت لله ، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون ، وسالم شديد الحب لله ، لو كان لا يخاف الله لم يعصه " وهو ذلك المعنى ، أي : كان إماماً في الدين؛ لأنّ الأئمة معلموا الخير . والقانت : القائم بما أمره الله . والحنيف : المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه . ونفى عنه الشرك تكذيباً لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم { شَاكِراً لأنْعُمِهِ } روي أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفاً ، فأخر غداءه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً؟ فقال : الآن وجبت مواكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم { اجتباه } اختصه واصطفاه للنبوّة { وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } إلى ملة الإسلام { حَسَنَةٌ } عن قتادة : هي تنويه الله بذكره ، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه . وقيل : الأموال والأولاد ، وقيل : قول المصلي منا : كما صليت على إبراهيم { لَمِنَ الصالحين } لمن أهل الجنة .
(3/410)

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } في "ثم" هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم من الكرامة ، وأجلّ ما أولي من النعمة : اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته . من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها .
(3/411)

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{ السبت } مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها . إنما جعل وبال السبت وهو المسخ { على الذين اختلفوا فِيهِ } واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فية تارة وحرّموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه . والمعنى في ذكر ذلك ، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً ، وغير ما ذكر ، وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته . فإن قلت : ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرّمين؟ قلت : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرّمين أخرى ووجه آخر : وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة وأن يكون يوم الجمعة ، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة ، فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختار عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة ، فكانوا لا يصيدون فيه ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك ، وهو يحكم { بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه . ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه . وقرىء : "إنما جعل السبت" ، على البناء للفاعل وقرأ عبد الله : "إنا أنزلنا السبت" .
(3/412)

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ إلى سَبِيلِ رَبّكَ } إلى الإسلام { بالحكمة } بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة { والموعظة الحسنة } وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها . ويجوزأن يريد القرآن ، أي : ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة { وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين ، من غير فظاظة ولا تعنيف { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة ، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ، وكأنك تضرب منه في حديد بارد .
(3/413)

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة . والمعنى : إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه ، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه . وقرىء : "وإن عقبتم فعقبوا" ، أي : وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم . روي
( 599 ) أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد : بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به ، وروي : فرآه مبقور البطن فقال : " أما والذي أحلف به ، لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك " فنزلت ، فكفر عن يمينه وكفّ عما أراده ، ولا خلاف في تحريم المثلة . وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور . إما أن يرجع الضمير في { لَهُوَ } إلى صبرهم وهو مصدر صبرتم . ويراد بالصابرين : المخاطبون ، أي : ولئن صبرتم لصبركم خير لكم ، فوضع الصابرون موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد . أو وصفهم بالصفة التي تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة . وإما أن يرجع إلى جنس الصبر - وقد دل عليه صبرتم - ويراد بالصابرين جنسهم ، كأنه قيل : وللصبر خير وللصابرين ونحوه قوله تعالى { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] . { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { واصبر } أنت فعزم عليه بالصبر { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } أي بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبك { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي على الكافرين ، كقوله { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } [ المائدة : 68 ] أو على المؤمنين وما فعل بهم الكافرون { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ } وقرىء : "ولا تكن في ضيق" أي : ولا يضيقن صدرك من مكرهم والضيق : تخفيف الضيق ، أي في أمر ضيق . ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين ، كالقيل والقول { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } أي هو وليّ الذين اجتنبوا المعاصي { و } ولي { الذين هُمْ مُّحْسِنُونَ } في أعمالهم . وعن هرم ابن حيان أنه قيل له حين احتضر : أوص . فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي ، وأوصيكم بخواتم سورة النحل . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 600 ) " من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته ، كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية " .
(3/414)

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{ سُبْحَانَ } علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره ، تقديره : أسبح الله سبحان ، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه ، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله . و { أسرى } وسرى لغتان . و { لَيْلاً } نصب على الظرف فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل ، فما معنى ذكر الليل؟ قلت : أراد بقوله { لَيْلاً } بلفظ التنكير : تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية . ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة : "من الليل" ، أي بعض الليل ، كقوله { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } [ الإسراء : 79 ] يعني الأمر بالقيام في بعض الليل . واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل : هو المسجد الحرام بعينه ، وهو الظاهر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 601 ) " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " وقيل : أسري به من دار أم هانىء بنت أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام : الحرم ، لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد وروي :
( 602 ) ( أنه كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسرى به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانيء . وقال : مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : مالك؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم ، قال : وإن كذبوني ، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء ، فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي ، هلم فحدّثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً . وارتد ناس ممن كان قد آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك ، فسمي الصدّيق . وفيهم من سافر إلى ماثمّ ، فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أمّا النعت فقد أصاب ، فقالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ، وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية ، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت ، فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ) .
ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلا سحر مبين ، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة ، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة .
(3/415)

وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه" وعن معاوية : إنما عرج بروحه . وعن الحسن . كان في المنام رؤيا رآها . وأكثر الأقاويل بخلاف ذلك . والمسجد الأقصى : بيت المقدس ، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { بَارَكْنَا حَوْلَهُ } يريد بركات الدين والدنيا ، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي ، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة . وقرأ الحسن : "ليريه" بالياء ، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم فقيل : أسرى به ثم باركنا ليريه ، على قراءة الحسن ، ثم من آياتنا ، ثم إنه هو ، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة { إِنَّهُ هُوَ السميع } لأقوال محمد { البصير } بأفعاله ، العالم بتهذبها وخلوصها ، فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك .
(3/416)

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ } قرىء بالياء على : "لئلا يتخذوا" ، وبالتاء على : أي "لا تتخذوا" كقولك : كتبت إليه أن أفعل كذا { وَكِيلاً } ربا تكلون إليه أموركم { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } نصب على الاختصاص . وقيل : على النداء فيمن قرأ "لا تتخذوا" بالتاء على النهي ، يعني : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا { مَعَ نُوحٍ } وقد يجعل { وَكِيلاً ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } مفعولي تتخذوا ، أي لا تجعلوهم أرباباً كقوله { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام وقرىء : "ذرية من حملنا" بالرفع بدلا من واو { تَتَّخِذُواْ } وقرأ زيد بن ثابت : "ذِرية" ، بكسر الذال . وروي عنه أنه قد فسرها بولد الولد ، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق { إِنَّهُ } إن نوحاً { كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } قيل : كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني ، ولو شاء أجاعني . وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ، ولو شاء أظمأني . وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ، ولو شاء أعراني . وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ، ولو شاء أحفاني . وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ، ولو شاء حبسه . وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به ، فإن وجده محتاجاً آثره به . فإن قلت : قوله إنه كان عبداً شكوراً ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت : كأنه قيل : لا تتخذوا من دوني وكيلاً ، ولا تشركوا بي ، لأنّ نوحاً عليه السلام كان عبداً شكوراً ، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه ، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم . ويجوز أن يكون تعليلاً لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح ، فهم متصلون به ، فاستأهلوا لذلك الاختصاص . ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد .
(3/417)

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ وَقَضَيْنآ إلى بنى إسراءيل } وأوحينا إليهم وحياً مقضيا ، أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة ، ويعلون ، أي : يتعظمون ويبغون { فِى الكتاب } في التوراة ، و { لَتُفْسِدُنَّ } جواب قسم محذوف . ويجوز أن يجري القضاء المبتوت مجرى القسم ، فيكون { لَتُفْسِدُنَّ } جواباً له ، كأنه قال : وأقسمنا لتفسدن . وقرىء : "لتفسدّن" ، على البناء للمفعول . "ولتفسدن" بفتح التاء من فسد { مَّرَّتَيْنِ } أولاهما : قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله ، والآخرة : قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم { عِبَادًا لَّنآ } وقرىء : "عبيداً لنا" وأكثر ما يقال : عباد الله وعبيد الناس : سنحاريب وجنوده وقيل بختنصر . وعن ابن عباس : جالوت . قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة ، وخربوا المسجد ، وسبوا منهم سبعين ألفاً . فإن قلت : كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه ، قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم ، على أنّ الله عزّ وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه ، فهو كقوله تعالى { وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] وكقول الداعي . وخالف بين كلمهم . وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم . وقرأ طلحة "فحاسوا" بالحاء . وقرىء : "فجوّسو" ، و "خلل الديار" . فإن قلت : ما معنى { وَعْدُ أولاهما } ؟ قلت : معناه وعد عقاب أولاهما { وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً } يعني : وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة } أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو . قيل : هي قتل بختنصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وقيل : هي قتل داود جالوت { أَكْثَرَ نَفِيرًا } مما كنتم . والنفير ، من ينفر مع الرجل من قومه ، وقيل : جمع نفر كالعبيد والمعيز .
(3/418)

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
أي الإحسان والإساءة : كلاهما مختص بأنفسكم ، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم . وعن عليّ رضي الله عنه : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه ، وتلاها { فَإِذَا جَآء وَعْدُ } المرّة { الأخرة } بعثناهم { ليسائوا وُجُوهَكُمْ } حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه . ومعنى { ليسائوا وُجُوهَكُمْ } ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها ، كقوله : { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] وقرىء : "ليسوء" والضمير لله تعالى ، أو للوعد ، أو للبعث "ولنسوء" بالنون . وفي قراءة عليّ : "لنسوأنّ" "وليسوأنّ" وقرىء : "لنسوأن" ، بالنون الخفيفة . واللام في { ليدخلوا } على هذا متعلق بمحذوف وهو : وبعثناهم ليدخلوا ولنسو أن : جواب إذا جاء { مَا عَلَوْاْ } مفعول ليتبروا ، أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه . أو بمعنى : مدة علوّهم .
(3/419)

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي { وَإِنْ عُدتُّمْ } مرة ثالثة { عُدْنَا } إلى عقوبتكم وقد عادوا ، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم وعن الحسن : عادوا فبعث الله محمداً ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة { حَصِيرًا } محبساً يقال للسجن محصر وحصير . وعن الحسن : بساطاً كما يبسط الحصير المرمول .
(3/420)

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
{ لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها . أو للملة . أو للطريقة . وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه . وقرىء : "ويبشر" ، بالتخفيف ، فإن قلت : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي ، وإما مشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك . فإن قلت : علام عطف { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : على { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } على معنى : أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين : بثوابهم ، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد : ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون .
(3/421)

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
أي : ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله ، كما يدعوه لهم بالخير ، كقوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } [ يونس : 11 ] . { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله ، لا يتأنى فيه تأني المتبصر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 603 ) أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً ، فأقبل يئن بالليل ، فقالت له : مالك تئن؟ فشكا ألم القدّ ، فأرخت من كتافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه ، فقال صلى الله عليه وسلم "اللهم اقطع يديها" فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة ، وأن يقطع الله يديها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلتردّ سودة يديها " ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر ، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به ، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة . { وكان الإنسان عجولاً } : يعني أن العذاب آتيه لا محالة ، فما هذا الاستعجال ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو النضر بن الحرث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ، فأجيب له ، فضربت عنقه صبراً .
(3/422)

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما ، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود ، أي : فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة . والثاني : أن يراد : وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، يريد الشمس والقمر . { فمحونا آية الليل } : أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلماً ، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحوّ ، وجعلنا النهار مبصراً أي تبصر فيه الأشياء وتستبان . أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعاً كشعاع الشمس ، فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبّكُمْ } لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم { وَلِتَعْلَمُواْ } باختلاف الجديدين { عَدَدَ السنين و } جنس { الحساب } وما يحتاجون إليه منه ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات ، ولتعطلت الأمور { وَكُلَّ شىْءٍ } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فصلناه } بيناه بياناً غير ملتبس ، فأزحنا عللكم ، وما تركنا لكم حجة علينا .
(3/423)

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{ طائره } عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل . وعن ابن عيينة : هو من قولك : طار له سهم ، إذا خرج ، يعني : ألزمناه ما طار من عمله . والمعنى أنّ عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه ، ومنه مثل العرب : تقلدها طوق الحمامة . وقولهم : الموت في الرقاب . وهذا وبقة في رقبته . عن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك . وقرىء : "في عنقه" بسكون النون . وقرىء : "نخرج" بالنون . "ويخرج" بالياء ، والضمير لله عز وجل "ويخرج" ، على البناء للمفعول . ويخرج من خرج ، والضمير للطائر . أي : يخرج الطائر كتاباً ، وانتصاب { كتابا } على الحال . وقرىء : "يلقَّاه" ، بالتشديد مبنيا للمفعول . و { يلقاه مَنْشُوراً } صفتان للكتاب . أو { يلقاه } صفة و { مَنْشُوراً } حالٌ من يلقاه { اقرأ } على إرادة القول . وعن قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً . و { بِنَفْسِكَ } فاعل كفى . و { حَسِيباً } تمييز وهو بمعنى حاسب كضريب القداح بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم ذكرهما سيبويه . وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا . ويجوز أن يكون بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد فعدّي بعلى لأنّ الشاهد يكفي المدعي ما أهمه . فإن قلت : لم ذكر حسيباً؟ قلت : لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير؛ لأنّ الغالب أنّ هذه الأمور يتولاها الرجال ، فكأنه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً . ويجوز أن يتأوّل النفس بالشخص ، كما يقال : ثلاثة أنفس . وكان الحسن إذا قرأها قال : يا ابن آدم ، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك .
(3/424)

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
أي : كل نفس حاملة وزراً ، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ } وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوماً إلا بعد أن { نَبْعَثَ } إليهم { رَسُولاً } فتلزمهم الحجة . فإن قلت : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل ، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله ، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ، وكفرهم لذلك ، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف ، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان . قلت : بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة ، لئلا يقولوا : كنا غافلين فلو لا بعث إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل .
(3/425)

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{ وَإِذَا أَرَدْنَا } وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل ، أمرناهم { فَفَسَقُواْ } أي أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز : لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشرّ ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم . فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه ، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه ، وهو كلام مستفيض ، يقال : أمرته فقام؛ وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم على هذا قولهم : أمرته فعصاني ، أو فلم يمتثل أمري . لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي؛ لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به ، وكأنه يقول : كان مني أمر فلم تكن منه طاعة ، كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ، ويأمر وينهى ، غير قاصد إلى مفعول . فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير ، دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت : لا يصحّ ذلك؛ لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه ، ونظير { أَمْرٍ } شاء : في أن مفعوله استفاض فيه الحذف ، لدلالة ما بعده عليه ، تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك . تريد : لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة ، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة - لم تكن على سداد . وقد فسر بعضهم { أَمْرُنَا } بكثرنا ، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته ففعل . كثبرته فثبر . وفي الحديث :
( 604 ) " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة " أي كثيرة النتاج وروي :
( 605 ) أن رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى أمرك هذا حقيراً فقال صلى الله عليه وسلم : إنه سيأمر . أي سيكثر وسيكبر .
(3/426)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
وقرىء : "آمرنا" من أمر وأمره غيره . "وأمّرنا" بمعنى أمرنا . أو من أمر إمارة ، وأمره الله . أي : جعلناهم أمراء وسلطناهم { كَمْ } مفعول { أَهْلَكْنَا } و { مّنَ القرون } بيان لكم وتمييز له ، كما يميز العدد بالجنس . يعني عادا وثموداً وقرونا بين ذلك كثيراً . ونبه بقوله { وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا } على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير ، وأنه عالم بها ومعاقب عليها .
(3/427)

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة ، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد ، فقيد الأمر تقييدين ، أحدهما : تقييد المعجل بمشيئته . والثاني : تقييد المعجل له بإرادته ، وهكذا الحال : ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه ، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة ، وأمّا المؤمن التقي فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة ، فما يبالي : أوتي حظاً من الدنيا أو لم يؤت فإن أوتي فبها وإلا فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده . وقوله { لِمَن نُّرِيدُ } بدل من له ، وهو بدل البعض من الكل : لأن الضمير يرجع إلى "من" وهو في معنى الكثرة . وقرىء : "يشاء" وقيل : الضمير لله تعالى ، فلا فرق إذاً بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد ، على أنّ للعبد ما يشاء من الدنيا . وأن ذلك لواحد من الدهماء يريد به الله ذلك . وقيل : هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة ، كالمنافق ، والمرائي ، والمهاجر للدنيا ، والمجاهد للغنيمة والذكر ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
( 606 ) " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " { مَّدْحُورًا } مطروداً من رحمة الله { سَعْيَهَا } حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة . اشترط ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً : إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور ، والسعي فيما كلف من الفعل والترك . والإيمان الصحيح الثابت . وعن بعض المتقدّمين : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب . وتلا هذه الآية . وشكر الله : الثواب على الطاعة .
(3/428)

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{ كُلاًّ } كل واحد من الفريقين ، والتنوين عوض من المضاف إليه { نُّمِدُّ } هم : نزيدهم من عطائنا ، ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه . فنرزق المطيع والعاصي جميعاً على وجه التفضل { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ } وفضله { مَحْظُورًا } أي ممنوعاً ، لا يمنعه من عاص لعصيانه .
(3/429)

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
{ انظر } بعين الاعتبار { كَيْفَ } جعلناهم متفاوتين في التفضل . وفي الآخرة التفاوت أكبر ، لأنها ثواب وأعواض وتفضل ، وكلها متفاوتة . وروي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه ، فخرج الإذن لبلال وصهيب ، فشق على أبي سفيان ، فقال سهيل بن عمرو : إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة . ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر . وقرىء : "وأكثر تفضيلاً" ، وعن بعضهم : "أيها المباهي" بالرفع منك في مجالس الدنيا "أما ترغب في المباهاة" بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟
(3/430)

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{ فَتَقْعُدَ } من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت ، كأنها حربة بمعنى صارت ، يعني : فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك ، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له .
(3/431)

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{ وقضى رَبُّكَ } وأمر أمراً مقطوعاً به { أَلاَّ تَعْبُدُواْ } أن مفسرة ولا تعبدوا نهي . أو بأن لا تعبدوا { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بالوالدين إحساناً . أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً وقرىء : "وأوصى" وعن ابن عباس رضي الله عنهما : "ووصى" . وعن بعض ولد معاذ بن جبل : وقضاء ربك . ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان : لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته { إِمَّا } هي "إن" الشرطية زيدت عليها "ما" تأكيداً لها ، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ، ولو أفردت "إن" لم يصح دخولها ، لا تقول : إن تكرمن زيداً يكرمك ، ولكن إما تكرمنه . و { أَحَدُهُمَا } فاعل يبلغنّ ، وهو فيمن قرأ "يبلغان" بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين و { كِلاَهُمَا } عطف على أحدهما فاعلاً وبدلاً . فإن قلت : لو قيل إما يبلغان كلاهما ، كان كلاهما توكيداً لا بدلا ، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمه ، فوجب أن يكون مثله . فإن قلت : ما ضرّك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً ، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية لقيل : كلاهما ، فحسب ، فلما قيل : أحدهما أو كلاهما ، علم أنّ التوكيد غير مراد ، فكان بدلاً مثل الأول { أُفٍّ } صوت يدل على تضجر . وقرىء : "أف" بالحركات الثلاث منوناً وغير منون : الكسر على أصل البناء ، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم ، والضم إتباع كمنذ . فإن قلت : ما معنى عندك؟ قلت : هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه ، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالاً وصبراً ، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال ، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما : أف ، فضلاً عما يزيد عليه . ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ، ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً ، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك . والنهي والنهر والنهم : أخوات { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } جميلاً ، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة . وقيل : هو أن يقول : يا أبتاه ، يا أماه ، كما قال إبراهيم لأبيه : ياأبت ، مع كفره ، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفا وسوء الأدب وعادة الدعار . قالوا : ولا بأس به في غير وجهه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : نحلني أبو بكر كذا .
(3/432)

وقرىء : "جناح الذل" ، الذل : بالضم والكسر فإن قلت : ما معنى قوله { جَنَاحَ الذل } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك كما قال { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] فأضافه إلى الذل أو الذلّ ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول . والثاني : أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحاً خفيضاً ، كما جعل لبيد للشمال يداً ، وللقوة زماماً ، مبالغة في التذلل والتواضع لهما { مِنَ الرحمة } من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما ، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ولا تكتف برحمتك عليهم التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية ، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . فإن قلت : الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا مسلمين . قلت : وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الإيمان ، وأن يدعو الله لهما بالهداية والارشاد ، ومن الناس من قال : كان الدعاء للكفار جائزاً ثم نسخ . وسئل ابن عيينة ، عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه ، ولا شيء أنفع له من الاستغفار ، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين . ولقد كرّر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 607 ) " رضا الله في رضا الوالدين ، وسخطه في سخطهما " وروي :
( 608 ) "يفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ، ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة" وروي سعيد بن المسيب : إنّ البارّ لا يموت ميتة سوء .
( 609 ) وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ أبويّ بلغا من الكبر أني ألي منهما ماولياً مني في الصغر ، فهل قضيتهما؟ قال : لا ، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما .
( 610 ) وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله ، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا ، فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قوي ، وفقيراً وأنا غنيّ ، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي ، واليوم أنا ضعيف وهو قوي ، وأنا فقير وهو غنيّ ، ويبخل علي بماله ، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ، ثم قال للولد : أنت ومالك لأبيك ، أنت ومالك لأبيك "
( 611 ) وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال : إنها سيئة الخلق . قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين؟ قال : إنها سيئة الخلق . قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها؟ قال : لقد جازيتها . قال : ما فعلت؟ قال : حججت بها على عاتقي .
(3/433)

قال : ما جزيتها ولو طلقة وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول :
إنِّي لَهَا مَطِيَّةٌ لاَ تُذْعَر ... إذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لاَ تَنْفِر
مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِي أَكْثَر ... اللَّهُ رَبِّي ذُو الْجَلاَلِ الأَكْبَرُ
ثم قال تظنني جازيتها يا ابن عمر؟ قال : لا ولو زفرة واحدة وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 612 ) " إياكم وعقوق الوالدين ، فإنّ الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام ، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء ، إنّ الكبرياء لله رب العالمين "
وقال الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة ، وإذا بعث إليه منها ليحمله فعل ، ولا يناوله الخمر . ويأخذ الإناء منه إذا شربها وعن أبي يوسف : إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد . وعن حذيفة :
( 613 ) أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين ، فقال : دعه يليه غيرك . وسئل الفضيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال : أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل . وسئل بعضهم فقال : أن لا ترفع صوتك عليهما ، ولا تنظر شزراً إليهما ، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن ، وأن تترحم عليهما ما عاشا ، وتدعو لهما إذا ماتا ، وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما . فعن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
( 614 ) " إنّ من أبر البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه " .
(3/434)

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ } بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين واعتقاد ما يجب لهما من التوقير { إِن تَكُونُواْ صالحين } قاصدين الصلاح والبر ، ثم فرطت منكم - في حال الغضب ، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر ، أو لحمية الإسلام - هنة تؤدّي إلى أذاهما ، ثم أنبتم إلى الله واستغفرتم منها ، فإن الله غفور { لِلأَوَّابِينَ } للتوّابين . وعن سعيد بن جبير : هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير . وعن سعيد بن المسيب : الأوّاب الرجل كلما أذنب بادر بالتوبة . ويجوز أن يكون هذا عامّاً لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها ، ويندرج تحته الجاني على أبويه التائب من جنايته ، لوروده على أثره .
(3/435)

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
{ وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } وصى بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما ، وأن يؤتوا حقهم : وحقهم إذا كانوا محارم كالأبوين والولد ، وفقراء عاجزين عن الكسب ، وكان الرجل موسراً : أن ينفق عليهم عند أبي حنيفة . والشافعي لا يرى النفقة إلا على الولد والوالدين فحسب . وإن كانوا مياسير ، أو لم يكونوا محارم : كأبناء العمّ ، فحقهم صلتهم بالمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك { والمساكين وابن السبيل } يعني وآت هؤلاء حقهم من الزكاة ، وهذا دليل على أن المراد بما يؤتي ذوي القرابة من الحق : هو تعهدهم بالمال . وقيل : أراد بذي القربى أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
التبذير تفريق المال فيما لا ينبغي . وإنفاقه على وجه الإسراف . وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك في أشعارها ، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرّب منه ويزلف . وعن عبد الله : هو إنفاق المال في غير حقه . وعن مجاهد : لو أنفق مدّاً في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر ، فقال له صاحبه : لا خير في السرف ، فقال : لاسرف في الخير . وعن عبد الله بن عمرو :
( 615 ) مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال : [ ما هذا السرف يا سعد؟ قال : أوف ] الوضوء سرف؟ قال : نعم وإن كنت على نهر جار ) { إخوان الشياطين } أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمّة؛ لأنه لا شرّ من الشيطان . أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف . أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد { وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا } فما ينبغي أن يطاع ، فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله . وقرأ الحسن "إخوان الشيطان" .
(3/436)

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الردّ { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } فلا تتركهم غير مجابين إذا سألوك .
( 616 ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء . قوله { ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ } إمّا أن يتعلق بجواب الشرط مقدّماً عليه ، أي : فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً ، رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم ، ابتغاء رحمة من ربك ، أي : ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم . وإما أن يتعلق بالشرط ، أي : وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك ، فسمى الرزق رحمة ، فردّهم ردّاً جميلاً ، فوضع الابتغاء موضع الفقد؛ لأنّ فاقد الرزق مبتغ له ، فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسبباً عنه ، فوضع المسبب موضع السبب . ويجوز أن يكون معنى { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } وإن لم تنفعهم ولم ترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة ، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك؛ لأن من أبى أن يعطي : أعرض بوجهه . يقال : يسر الأمر وعسر ، مثل سعد الرجل ونحس فهو مفعول . وقيل معناه : فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله ، على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم ، كأن معناه : قولاً ذا ميسور ، وهو اليسر ، أي : دعاء فيه يسر .
(3/437)

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
هذا تمثيلٌ لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، وأمرٌ بالاقتصاد الذي هو بين الاسراف والتقتير { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } فتصير ملوماً عند الله ، لأنّ المسرف غير مرضي عنده وعند الناس ، يقول المحتاج : أعطى فلاناً وحرمني . ويقول المستغني : ما يحسن تدبير أمر المعيشة . وعند نفسك : إذا احتجت فندمت على ما فعلت { مَّحْسُوراً } منقطعاً بك لا شيء عندك ، من حسره السفر إذا بلغ منه وحسره بالمسألة . وعن جابر :
( 617 ) بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبي فقال : إنّ أمي تستكسيك درعاً ، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر ، فعد إلينا ، فذهب إلى أمّه فقالت له قل له : إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك ، فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً ، وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة . وقيل
( 618 ) أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن ، فجاء عباس بن مرداس ، وأنشأ يقول :
أَتَجْعَلُ نَهْيِبي وَنَهْبَ العَبِيدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِس ... يَفُوقَانِ جَدِّيَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِيءٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْم لاَ يُرْفَعِ
فقال : يا أبا بكر ، اقطع لسانه عني ، أعطه مائة من الإبل فنزلت .
(3/438)

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة ، بأنّ ذلك ليس لهوان منك عليه ، ولا لبخل به عليك ولكن لأنّ مشيئته في بسط الأرزاق وقدرها تابعة للحكمة والمصلحة . ويجوز أن يريد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي الخزائن في يده ، فأما العبيد فعليهم أن يقتصدوا . ويحتمل أنه عزّ وعلا بسط لعباده أو قبض ، فإنه يراعي أوسط الحالين ، لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ، ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه ، فاستنوا بسنته .
(3/439)

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
قتلهم أولادهم : هو وأدهم بناتهم ، كانوا يئدونهنّ خشية الفاقة وهي الاملاق ، فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم . وقرىء "خشية" بكسر الخاء . وقرىء : "خطأ" وهو الإثم . يقال : خطيء خطأ ، كاثم إثماً ، وخطأ وهو ضدّ الصواب ، اسم من أخطأ . وقيل والخطأ كالحذر والحذر ، وخطاء بالكسر والمدّ . وخطاء بالفتح والمد . وخطا بالفتح والسكون . وعن الحسن : خطأ بالفتح وحذف الهمزة كالخب . وعن أبي رجاء : بكسر الخاء غير مهموز .
(3/440)

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
{ فاحشة } قبيحة زائدة على حد القبح { وَسَاء سَبِيلاً } وبئس طريقاً طريقة ، وهو أن تغصب على غيرك امرأته أو أخته أو بنته من غير سبب ، والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله .
(3/441)

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{ إِلاَّ بالحق } إلا بإحدى ثلاث : إلا بأن تكفر ، أو تقتل مؤمناً عمداً ، أو تزني بعد إحصان . { مَظْلُومًا } غير راكب واحدة منهنّ { لِوَلِيّهِ } الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه ، فإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه { سلطانا } تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه . أو حجة يثب بها عليه { فَلاَ يُسْرِف } الضمير للولي . أي : فلا يقتل غير القاتل ، ولا اثنين والقاتل واحد ، كعادة الجاهلية : كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة ، حتى قال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد : بؤبشسع نعل كليب وقال :
كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ ... حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ
وكانوا يقتلون غير القاتل إذا لم يكن بواء . وقيل : الإسراف المثلة . وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة : "فلا يسرف" ، بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر . وفيه مبالغة ليست في الأمر . وعن مجاهد : أنّ الضمير للقاتل الأوّل . وقرىء : "فلا تسرف" على خطاب الولي أو قاتل المظلوم . وفي قراءة أبيّ "فلا تسرفوا" ردّه على : ولا تقتلوا { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } الضمير إمّا للولي ، يعني حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك ، وبأنّ الله قد نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق ، فلا يبغ ما وراء حقه . وإمّا للمظلوم؛ لأنّ الله ناصره وحيث أوجب القصاص بقتله ، وينصره في الآخرة بالثواب . وإما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله ، فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف .
(3/442)

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
{ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالخصلة أو الطريقة التي هي أحسن ، وهي حفظه عليه وتثميره { إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً } أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به ، ويجوز أن يكون تخييلا ، كأنه يقال للعهد : لم نكثت؟ وهلا وفي بك؟ تبكيتاً للناكث ، كما يقال للموؤدة : بأي ذنب قتلت؟ ويجوز أن يراد أنّ صاحب العهد كان مسئولاً .
(3/443)

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
وقرىء "بالقسطاس" بالضم والكسر ، وهو القرسطون . وقيل : كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرها { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } وأحسن عاقبة ، وهو تفعيل ، من آل إذا رجع ، وهو ما يؤول إليه .
(3/444)

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{ وَلاَ تَقْفُ } ولا تتبع . وقرىء "ولا تقف" . يقال : قفا أثره وقافه ، ومنه : القافة ، يعني : ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل ، كمن يتبع مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال . والمراد : النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا يعلم ، ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولاً ظاهراً . لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده . وعن ابن الحنفية : شهادة الزور وعن الحسن : لا تقف أخاك المسلم إذا مرّ بك ، فتقول : هذا يفعل كذا ، ورأيته يفعل ، وسمعته ، ولم تر ولم تسمع . وقيل : القفو شبيه بالعضيهة ومنه الحديث :
( 619 ) " من قفى مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج " وأنشد :
وَمِثْلُ الدُّمَى شم الْعَرَانِينِ سَاكِن ... بَهِنَّ الحَيَاءُ لاَ يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
أي التقاذف . وقال الكميت :
وَلاَ أرْمِي البَرِيَّ بِغَيْرِ ذَنْب ... وَلاَ أقْفُو الحَوَاصِنَ إنْ قُفِينَا
وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح؛ لأنّ ذلك نوع من العلم ، فقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم ، وأمر بالعمل به { أولئك } إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد ، كقوله :
وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُوَلئِكَ الأَيَّامِ ... و { عَنْهُ } في موضع الرفع بالفاعلية ، أي : كل واحد منها كان مسؤلاً عنه ، فمسئول : مسند إلى الجار والمجرور ، كالمغضوب في قوله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] يقال للإنسان : لم سمعت ما لم يحل لك سماعه؛ ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه ، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ وقرىء "والفواد" بفتح الفاء والواو ، قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ، ثم استصحب القلب مع الفتح .
(3/445)

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
{ مَرَحاً } حال ، أي : ذا مرح . وقرىء "مرحا" وفضل الأخفش المصدر على اسم الفاعل لما فيه من التأكيد { لَن تَخْرِقَ الأرض } لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطأتك . وقرىء "لن تخرُق" ، بضم الراء { وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } بتطاولك . وهو تهكم بالمختال . قرىء "سيئة" و "سيئه" على إضافة سيء إلى ضمير كل ، وسيئاً في بعض المصاحف ، وسيئات . وفي قراءة أبي بكر الصديق رضي الله عنه . كان شأنه . فإن قلت : كيف قيل سيئه مع قوله مكروهاً؟ قلت : السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات ، فلا اعتبار بتأنيثه . ولا فرق بين من قرأ سيئة وسيئاً . ألا تراك تقول : الزنا سيئة ، كما تقول : السرقة سيئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث . فإن قلت : فما ذكر من الخصال بعضها سيء وبعضها حسن ، ولذلك قرأ من قرأ "سيئه" بالإضافة ، فما وجه من قرأ سيئة؟ قلت : كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة .
(3/446)

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من قوله { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ } [ الإسراء : 22 ] إلى هذه الغاية . وسماه حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه . وعن ابن عباس : هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى ، أوّلها؛ لا تجعل مع الله إلها آخر ، قال الله تعالى { وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الألواح مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً } [ الأعراف : 145 ] وهي عشر آيات في التوراة ، ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك؛ لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء . وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم ، وهم عن دين الله أضل من النعم .
(3/447)

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{ أفأصفاكم } خطاب للذين قالوا { الملائكة بَنَات الله } والهمزة للإنكار . يعني : أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون ، لم يجعل فيهم نصيباً لنفسه . واتخذ أدونهم وهي البنات؟ وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم ، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ، ويكون أردؤها وأدونها للسادات { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا } بإضافتكم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام ، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون ، ثم بأن تجعلوا الملائكة وهم أعلى خلق الله وأشرفهم أدون خلق الله وهم الإناث .
(3/448)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان } يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات؛ لأنه مما صرفه وكرّر ذكره ، والمعنى : ولقد صرفنا القول في هذا المعنى . أو أوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير . ويجوز أن يشير بهذا القرآن إلى التنزيل ويريد . ولقد صرفناه . يعني "هذا المعنى في مواضع من التنزيل ، فترك الضمير لأنه معلوم . وقرىء : "صرفنا" بالتخفيف وكذلك { لّيَذْكُرُواْ } قرىء "مشدّداً ومخففاً" ، أي : كررناه ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا } عن الحق وقلة طمأنينة إليه . وعن سفيان : كان إذا قرأها قال : زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً .
(3/449)

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
قرىء "كما تقولون" بالتاء والياء . و { إِذَا } دالة على أن ما بعدها وهو { لاَّبْتَغَوْاْ } جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل ( لو ) ومعنى { لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً } لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلاً بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض ، كقوله { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] وقيل : لتقرّبوا إليه ، كقوله { أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } [ الإسراء : 57 ] . { عَلَوْاْ } في معنى تعالياً . والمراد البراءة عن ذلك والنزاهة . ومعنى وصف العلوّ بالكبر : المبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به .
(3/450)

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
والمراد أنها تسبح له بلسان الحال ، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته ، فكأنها تنطق بذلك ، وكأنها تنزه الله عز وجلّ مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها . فإن قلت : فما تصنع بقوله { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وهذا التسبيح مفقوه معلوم؟ قلت : الخطاب للمشركين ، وهم وإن كانوا إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض قالوا : الله؛ إلا أنهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم ، فكأنهم لم ينظروا ولم يقرّوا؛ لأنّ نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه ، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق . فإن قلت : من فيهنّ يسبحون على الحقيقة وهم الملائكة والثقلان ، وقد عطفوا على السموات والأرض ، فما وجهه؟ قلت : التسبيح المجازي حاصل في الجميع فوجب الحمل عليه ، وإلا كانت الكلمة الواحدة في حالة واحدة محمولة عل الحقيقة والمجاز { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم بالتسبيح وشرككم .
(3/451)

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
{ حِجَابًا مَّسْتُورًا } ذا ستر كقولهم . سيل مفعم ذو إفعام . وقيل : هو حجاب لا يرى فهو مستور . ويجوز أن يراد أنه حجاب من دونه حجاب أو حجب ، فهو مستور بغيره . أو حجاب يستر أن يبصر ، فكيف يبصر المحتجب به ، وهذه حكاية لما كانوا يقولونه { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] كأنه قال : وإذا قرأت القرآن جعلنا على زعمهم { أَن يَفْقَهُوهُ } كراهة أن يفقهوه . أو لأنّ قوله { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } فيه معنى المنع من الفقه ، فكأنه قيل : ومنعناهم أن يفقهوه . يقال : وحد يحد وحداً وحدة ، نحو وعد يعد وعداً وعدة ، و { وَحْدَهُ } من باب رجع عوده على بدئه ، وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر سادّ مسدّ الحال ، أصله : يحد وحده بمعنى واحداً ، وحده . والنفور : مصدر بمعنى التولية . أو جمع نافر كقاعد وقعود ، أي : يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون ، فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا { بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } من الهزؤ بك وبالقرآن ، ومن اللغو : كان يقوم عن يمينه إذا قرأ رجلان من عبد الدار ، ورجلان منهم عن يساره ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار . و { بِهِ } في موضع الحال كما تقول يستمعون بالهزؤ أي هازئين . و { إِذْ يَسْتَمِعُونَ } نصب بأعلم ، أي : أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون { وَإِذْ هُمْ نجوى } وبما يتناجون به ، إذ هم ذوو نجوى { إِذْ يَقُولُ } بدل من إذ هم { مَّسْحُورًا } سحر فجنّ . وقيل : هو من السحر وهو الرئة ، أي : هو بشر مثلكم { ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون { فَضَلُّواْ } في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه ، فهو متحير في أمره لا يدري ما يصنع .
(3/452)

وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
لما قالوا : أئذا كنا عظاماً قيل لهم { كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } فردّ قوله : كونوا ، على قولهم : كنا ، كأنه قيل : كونوا حجارة أو حديداً ولا تكونوا عظاماً ، فإنه يقدر على إحيائكم والمعنى : أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ، ويردّه إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحيّ وغضاضته بعدما كنتم عظاماً يابسة ، مع أنّ العظام بعض أجزاء الحي ، بل هي عمود خلقه الذي يبني عليه سائره ، فليس ببدع أن يردّها الله بقدرته إلى حالتها الأولى ، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحيّ ومن جنس ما ركب منه البشر - وهو أن تكونوا حجارة يابسة أو حديداً مع أن طباعها الجسارة والصلابة - لكان قادراً على أن يردّكم إلى حال الحياة { أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } يعني أو خلقاً مما يكبر عندكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنه يحييه . وقيل : ما يكبر في صدورهم الموت . وقيل : السموات والأرض { فَسَيُنْغِضُونَ } فسيحرّكونها نحوك تعجباً واستهزاء .
(3/453)

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
والدعاء والاستجابة كلاهما مجاز . والمعنى : يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون . وقوله { بِحَمْدِهِ } حال منهم ، أي حامدين ، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث ، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشقّ عليه فيتأبى ويتمنع ستركبه وأنت حامد شاكر ، يعني : أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه ، وعن سعيد بن جبير : ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك { وَتَظُنُّونَ } وترون الهول ، فعنده تستقصرون مدّة لبثكم في الدنيا ، وتحسبونها يوماً أو بعض يوم . وعن قتادة : تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة .
(3/454)

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
{ وَقُل لّعِبَادِى } وقل للمؤمنين { يَقُولُواْ } للمشركين الكلمة { التى هِىَ أَحْسَنُ } وألين ولا يخاشنوهم ، كقوله : وجادلهم بالتي هي أحسن . وفسر التي هي أحسن بقوله { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } يعني يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ، ولا يقولوا لهم : إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر . وقوله { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } اعتراض ، يعني يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة { وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أي رباً موكولاً إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه ، وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمكاشفة ، وذلك قبل نزول آية السيف . وقيل : نزلت في عمر رضي الله عنه : شتمه رجل فأمره الله بالعفو . وقيل : أفرط إيذاء المشركين للمسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . وقيل : الكلمة التي هي أحسن : أن يقولوا يهديكم الله ، يرحمكم الله . وقرأ طلحة : "ينزغ" بالكسر وهما لغتان ، نحو يعرشون ويعرشون .
(3/455)

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
هو ردّ على أهل مكة في إنكارهم واستبعادهم أن يكون يتيم أبي طالب نبياً ، وأن تكون العراة الجوّع أصحابه ، كصهيب وبلال وخباب وغيرهم ، دون أن يكون ذلك في بعض أكابرهم وصناديدهم ، يعني : وربك أعلم بمن في السموات والأرض وبأحوالهم ومقاديرهم وبما يستأهل كل واحد منهم ، وقوله { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } دلالة على وجه تفضيله ، وهو أنه خاتم الأنبياء ، وأن أمته خير الأمم؛ لأنّ ذلك مكتوب في زبور داود . قال الله تعالى { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وهم محمد وأمته . فإن قلت : هلا عرّف الزبور كما عرّف في قوله { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور } [ الأنبياء : 105 ] قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس ، والفضل وفضل ، وأن يريد : وآتينا داود بعض الزُبر وهي الكتب ، وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور ، فسمى ذلك زبوراً ، لأنه بعض الزبور كما سمى بعض القرآن قرآناً .
(3/456)

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
[ { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ } ] هم الملائكة ، وقيل : عيسى ابن مريم ، وعزير ، وقيل نفر من الجن ، عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا ، أي : ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب ، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه . و { أولئك } مبتدأ ، و { الذين يَدْعُونَ } صفته ، و { يَبْتَغُونَ } خبره ، يعني : أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى . و { أَيُّهُم } بدل من واو يبتغون ، وأي موصولة ، أي : يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله ، فكيف بغير الأقرب . أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون ، فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله ، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ، ويرجون ، ويخافون ، كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ } حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرّب ونبيّ مرسل ، فضلاً عن غيرهم .
(3/457)

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } بالموت والاستئصال { أَوْ مُعَذّبُوهَا } بالقتل وأنواع العذاب . وقيل : الهلاك للصالحة ، والعذاب للطالحة . وعن مقاتل : وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها : أما مكة فيخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق والرواجف . وأما خراسان فعذابها ضروب ، ثم ذكرها بلداً بلداً { فِى الكتاب } في اللوح المحفوظ .
(3/458)

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
استعير المنع لترك إرسال الآيات من أجل صارف الحكمة . و "أن" الأولى منصوبة والثانية مرفوعة ، تقديره : وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين . والمراد : الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهباً ومن إحياء الموتى وغير ذلك : وعادة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال ، فالمعنى : وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها ، واستوجبوا العذاب المستأصل ، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة ، ثم ذكر من تلك الآيات - التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا - واحدة : وهي ناقة صالح؛ لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم { مُبْصِرَةً } بينة . وقرىء "مبصرة" بفتح الميم { فَظَلَمُواْ بِهَا } فكفروا بها { وَمَا نُرْسِلُ بالأيات } إن أراد بها الآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها { إِلاَّ تَخْوِيفًا } من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدّمة له ، فإن لم يخافوا وقع عليهم وإن أراد غيرها فالمعنى : وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفاً وإنذاراً بعذاب الآخرة .
(3/459)

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش ، يعني : بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم . وذلك قوله { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] ، { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 12 ] وغير ذلك ، فجعله كأن قد كان ووجد ، فقال : أحاط بالناس على عادته في إخباره .
( 620 ) وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر رضي الله عنه كان يدعو ويقول : " اللهم إني أسألك عهدك ووعدك " ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } ولعلّ الله تعالى أراه مصارعهم في منامه .
( 621 ) فقد كان يقول حين ورد ماء بدر " والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم " وهو يوميء إلى الأرض ويقول : هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان ، فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر يوم بدر وما أري" في منامه من مصارعهم ، فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء وحين سمعوا بقوله : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 43 ] جعلوها سخرية وقالوا : إن محمداً يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ، ثم يقول ينبت فيها الشجر . وما قدر الله حق قدره من قال ذلك ، وما أنكروا أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار! فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل ، إذا اتسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار . وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها ، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها ، فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها . والمعنى : أنّ الآيات إنما يرسل بها تخويفاً للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر . فما كان ما { أريناك } منه في منامك بعد الوحي إليك { إِلاَّ فِتْنَةً } لهم حيث اتخذوه سخريا وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم ، ثم قال فيهم { وَنُخَوّفُهُمْ } أي نخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة { فَمَا يَزِيدُهُمْ } التخويف { إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات . وقيل : الرؤيا هي الإسراء ، وبه تعلق من يقول : كان الإسراء في المنام ، ومن قال : كان في اليقظة ، فسر الرؤيا بالرؤية . وقيل : إنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له : لعلها رؤيا رأيتها ، وخيال خيل إليك ، استبعاداً منهم ، كما سمى أشياء بأساميها عند الكفرة ، نحو قوله : { فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ } [ الصافات : 91 ] ، { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } [ النحل : 27 ] ، { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] وقيل : هي رؤياه أنه سيدخل مكة .
(3/460)

وقيل : رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة . فإن قلت : أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن؟ قلت : لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة؛ لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة ، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز . وقيل : وصفها الله باللعن ، لأن اللعن الإبعاد من الرحمة ، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة ، وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار : ملعون ، وسألت بعضهم فقال : نعم الطعام الملعون القشب الممحوق . وعن ابن عباس : هي الكشوث التي تتلوى بالشجر يجعل في الشراب . [ وقيل : هي الشيطان ] وقيل : أبو جهل . وقرىء "والشجرةُ الملعونةُ" بالرفع ، على أنها مبتدأ محذوف الخبر ، كأنه قيل : والشجرة الملعونة في القرآن كذلك .
(3/461)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{ طِينًا } حال إما من الموصول والعامل فيه أسجد ، على : أأسجد له وهو طين ، أي أصله طين . أو من الراجع إليه من الصلة على : أأسجد لمن كان في وقت خلقه طيناً { أَرَءيْتَكَ } الكاف للخطاب ، و { هذا } مفعول به . والمعنى : أخبرني عن هذا { الذى كَرَّمْتَ } ه { عَلَىَّ } أي فضلته ، لم كرمته عليّ وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك ، ثم ابتدأ فقال { لَئِنْ أَخَّرْتَنِى } واللام موطئة للقسم المحذوف { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } لأستأصلنهم بالإغواء ، من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا ، وهو من الحنك . ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم : أحنك الشاتين أي أكلهما . فإن قلت : من أين علم أن ذلك يتسهل له وهو من الغيب؟ قلت : إما أن سمعه من الملائكة وقد أخبرهم الله به ، أو خرجه من قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ، أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه خلق شهواني . وقيل : قال ذلك لما عملت وسوسته في آدم ، والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة { اذهب } ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء ، إنما معناه : امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية ، وعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره في قوله { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } كما قال موسى عليه السلام للسامري { فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } [ طه : 97 ] . فإن قلت : أما كان من حق الضمير في الجزاء أن يكون على لفظ الغيبة ليرجع إلى من تبعك؟ قلت : بلى ، ولكن التقدير : فإنّ جهنم جزاؤهم وجزاؤك ، ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل : جزاؤكم . ويجوز أن يكون للتابعين على طريق الالتفات ، وانتصب { جَزَاءً مَّوفُورًا } بما في { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } من معنى تجازون . أو بإضمار تجازون . أو على الحال؛ لأنّ الجزاء موصوف بالموفور ، والموفور الموفر . يقال : فر لصاحبك عرضه فرة .
استفزّه : استخفه . والفز : الخفيف { وَأَجْلِبْ } من الجلبة وهي الصياح . والخيل : الخيالة . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 622 ) " يا خيل الله اركبي " والرجل اسم جمع للراجل . ونظيره : الركب والصحب . وقرىء : "ورجلك" ، على أن فعلا بمعنى فاعل ، نحو : تعب وتاعب . ومعناه : وجمعك الرجل ، وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدث ، وندس وندس ، وأخوات لهما . يقال : رجل رجل . وقرىء "ورجالك ورجالك" فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت : هو كلام ورد مورد التمثيل ، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم . وقيل : بصوته ، بدعائه إلى الشر .
(3/462)

وخيله ورجله : كلّ راكب وماش من أهل العيث ، وقيل : يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال . وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها في بابهما ، كالربا والمكاسب المحرّمة ، والبحيرة والسائبة ، والإنفاق في الفسوق ، والإسراف . ومنع الزكاة ، والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام ، ودعوى ولد بغير سبب ، والتسمية بعبد العزى وعبد الحرث ، والتهويد والتنصير ، والحمل على الحرف الذميمة والأعمال المحظورة ، وغير ذلك { وَعِدْهُمْ } المواعيد الكاذبة . من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة ، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها ، والاتكال على الرحمة ، وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حمماً ، وإيثار العاجل على الآجل { إِنَّ عِبَادِى } يريد الصالحين { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } أي لا تقدر أن تغويهم { وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً } لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك ، ونحوه قوله : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله إبليس بأن يتسلط على عباده مغوياً مضلاً ، داعياً إلى الشر ، صادّا عن الخير؟ قلت : هو من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان والتخلية ، كما قال للعصاة : اعملوا ما شئتم .
(3/463)

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{ يُزْجِى } يجري ويسير . والضرّ : خوف الغرق { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } ذهب عن أوهامكم وخواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده ، فإنكم لا تذكرون سواه ، ولا تدعونه في ذلك الوقت ولا تعقدون برحمته رجاءكم ، ولا تخطرون ببالكم أنّ غيره يقدر على إغاثتكم ، أو لم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوّين . ويجوز أن يراد : ضلّ من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ، ولكنّ الله وحده هو الذي ترجونه وحده على الاستثناء المنقطع .
(3/464)

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{ أَفَأَمِنتُمْ } الهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنجوتم فأمنتم ، فحملكم ذلك على الإعراض . فإن قلت : بم انتصب { جَانِبَ البر } ؟ قلت : بيخسف مفعولاً به ، كالأرض في قوله { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] . و { بِكُمْ } حال . والمعنى : أن يخسف جانب البر ، أي يقلبه وأنتم عليه . فإن قلت فما معنى ذكر الجانب؟ قلت : معناه أنّ الجوانب والجهات كلها في قدرته سواء ، وله في كل جانب براً كان أو بحراً سبب مرصد من أسباب الهلكة ، ليس جانب البحر وحده مختصاً بذلك ، بل إن كان الغرق في جانب البحر ، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف؛ لأنه تغييب تحت التراب كما أنّ الغرق تغييب تحت الماء ، فالبرّ والبحر عنده سيان يقدر في البر على نحو ما يقدر عليه في البحر ، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } وهي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء ، يعني : أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف ، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها ، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر { وَكِيلاً } من يتوكل بصرف ذلك عنكم { أَمْ أَمِنتُمْ } أن يقوّي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم ، فينتقم منكم بأن يرسل { عَلَيْكُمْ قَاصِفًا } وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد ، كأنها تتقصف أي تتكسر . وقيل : التي لا تمرّ بشيء إلا قصفته { فَيُغْرِقَكُم } وقرىء "بالتاء" أي الريح "وبالنون" وكذلك : نخسف ، ونرسل ، ونعيدكم ، قرئت بالياء والنون . التبيع : المطالب ، من قوله { فاتباع بالمعروف } [ البقرة : 178 ] أي مطالبة . قال الشماخ :
كَمَا لاَذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ ... يقال : فلان على فلان تبيع بحقه ، أي مصيطر عليه مطالب له بحقه . والمعنى : أنا نفعل ما نفعل بهم ، ثم لا تجد أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودركاً للثأر من جهتنا . وهذا نحو قوله { وَلاَ يَخَافُ عقباها } [ الشمس : 15 ] . { بِمَا كَفَرْتُمْ } بكفرانكم النعمة ، يريد : إعراضهم حين نجاهم .
(3/465)

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
قيل في تكرمة ابن آدم : كرّمه الله بالعقل ، والنطق ، والتمييز ، والخط ، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة ، وتدبير أمر المعاش والمعاد . وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم . وقيل : كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم ، وعن الرشيد : أنه أحضر طعاماً فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف ، فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } جعلنا لهم أصابع يأكلون بها ، فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه { على كثير ممن خلقنا } هو ما سوى الملائكة وحسب بني آدم تفضيلاً أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم . والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا ، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك ، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم ، وعلموا أين أسكنهم ، وأنى قربهم ، وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم ، ثم جرّهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالاً وأخباراً منها :
( 623 ) قالت الملائكة : ( ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك ، فأعطناه في الآخرة . فقال : وعزتي وجلالي ، لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان ) . ورووا عن أبي هريرة أنه قال : لمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده . ومن ارتكابهم أنهم فسروا { كثيراً } بمعنى "جميع" في هذه الآية ، وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم : وفضلناهم على جميع ممن خلقنا ، على أن معنى قولهم { على جَمِيعٌ مّمَّنْ خَلَقْنَا } أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم ، ولكنهم لا يشعرون . فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى ، كأنّ جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط ، فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم .
(3/466)

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
قرىء : "يدعو" ، بالياء والنون . ويدعى كل أناس ، على البناء للمفعول . وقرأ الحسن "يدعوا كل أناس" ، على قلب الألف واواً في لغة من يقول : افعوا . والظرف نصب بإضمار اذكر . ويجوز أن يقال : إنها علامة الجمع ، كما في { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] والرفع مقدّر كما في يدعى ، ولم يؤت بالنون قلة مبالاة بها ، لأنها غير ضمير ، ليست إلا علامة { بإمامهم } بمن ائتموا به من نبيّ أو مقدّم في الدين ، أو كتاب ، أو دين ، فيقال : يا أتباع فلان ، يا أهل دين كذا وكتاب كذا ، وقيل : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ، ويا أصحاب كتاب الشرّ . وفي قراءة الحسن "بكتابهم" ومن بدع التفاسير : أن الإمام جمع أمّ ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الاباء رعاية حق عيسى عليه السلام ، وإظهار شرف الحسن والحسين ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا . وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ { فَمَنْ أُوتِىَ } من هؤلاء المدعوّين { كتابه بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم } قيل أولئك ، لأن من أوتي في معنى الجمع . فإن قلت : لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤن كتابهم؟ قلت : بلى ، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم ، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته ، والاعتراف بمساويه ، أمام التنكيل به والانتقام منه ، من الحياء والخجل والانخزال ، وحبسة اللسان ، والتتعتع ، والعجز عن إقامة حروف الكلام ، والذهاب عن تسوية القول؛ فكأن قراءتهم كلا قراءة . وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك ، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها ، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارىء لأهل المحشر : { هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه } [ الحاقة : 19 ] . { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء ، كقوله { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] ، { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] .
(3/467)

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
معناه : ومن كان في الدنيا أعمى ، فهو في الآخرة أعمى كذلك { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } من الأعمى : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته ، لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة : أما في الدنيا فلفقد النظر . وأما في الآخرة ، فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه ، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل . ومن ثم قرأ أبو عمرو الأوّل ممالا ، والثاني مفخماً ، لأن أفعل التفضيل تمامه بمن ، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام ، كقولك : أعمالكم وأما الأوّل فلم يتعلق به شيء ، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة .
(3/468)

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
( 624 ) روي أنّ ثقيفاً قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب : لا نعشر؛ ولا نحشر ، ولا نجبي في صلاتنا ، وكل ربا لنا فهو لنا ، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا ، وأن تمتعنا باللات سنة ، ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول ، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره ، فإذا سألتك العرب : لم فعلت ذلك؟ فقل : إن الله أمرني به ، وجاؤا بكتابهم فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف : لا يعشرون ولا يحشرون ، فقالوا : ولا يجبون . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا للكاتب : اكتب : ولا يجبون ، والكاتب ينظر إلى رسول الله ، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسل سيفه وقال : أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم ناراً ، فقالوا : لسنا نكلم إياك ، إنما نكلم محمداً . فنزلت . وروي أنّ قريشاً قالوا له : اجعل آية رحمة آية عذاب ، وآية عذاب آية رحمة ، حتى نؤمن بك . فنزلت { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } إن مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية . والمعنى : أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين { عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا { لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا } لتقول علينا ما لم نقل ، يعني ما أرادوه عليه من تبديل الوعد وعيداً والوعيد وعداً ، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزله عليه { وَإِذاً لاَّتَّخَذوُكَ } أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك { خَلِيلاً } ولكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك } ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم ، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت ، وفي ذلك لطف للمؤمنين { إِذَا } لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة { لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات } أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين . فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت : أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات ، لأن العذاب عذابان : عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في الحياة الآخرة وهو عذاب النار . والضعف يوصف به ، نحو قوله { فآتهم عذاباً ضعفاًمن النار } [ الأعراف : 38 ] بمعنى مضاعفاً ، فكان أصل الكلام : لأذقناك عذاباً ضعفاً في الحياة ، وعذاباً ضعفاً في الممات . ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل : ضعف الحياة وضعف الممات ، كما لو قيل : لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات . ويجوز أن يراد بضعف الحياة : عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات : ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار ، والمعنى : لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا ، وما نؤخره لما بعد الموت ، وفي ذكر الكيدودة وتقليلها ، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين - دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته ، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله .
(3/469)

فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها ، فهي جديرة بالتدبر ، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت كان يقول :
( 625 ) " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " .
(3/470)

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{ وَإِن كَادُواْ } وإن كاد أهل مكة { لَيَسْتَفِزُّونَكَ } ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم { مّنَ الأرض } من أرض مكة { وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ } لا يبقون بعد إخراجك { إِلا } زماناً { قَلِيلاً } فإن الله مهلكهم وكان كما قال ، فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل . وقيل : معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم . ولم يخرجوه ، بل هاجر بأمر ربه . وقيل : من أرض العرب . وقيل : من أرض المدينة ، وذلك .
( 626 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم ، فاجتمعوا إليه وقالوا : يا أبا القاسم ، إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدّسة وكانت مهاجر إبراهيم ، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك ، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم ، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم ، فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة ، وقيل : بذي الحليفة ، حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله ، فنزلت ، فرجع وقرىء "لا يلبثون" وفي قراءة أبيّ "لا يلبثوا" على إعمال "إذا" . فإن قلت : ما وجه القراءتين؟ قلت : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل . وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد ، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم . وأما قراءة أبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي إذاً لا يلبثوا ، عطف على جملة قوله { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } وقرىء "خلافك" قال :
عَفَتِ الدِّيَارُ خِلاَفَهُمْ فَكأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَاً
أي بعدهم { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ، فسنة الله أن يهلكهم ، ونصبت نصب المصدر المؤكد ، أي : سن الله ذلك سنة .
(3/471)

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
دلكت الشمس : غربت . وقيل : زالت . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 627 ) " أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس . فصلى بي الظهر " واشتقاقه من الدلك ، لأن الإنسان يدلك عينه عند النظر إليها ، فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس ، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر . والغسق : الظلمة ، وهو وقت صلاة العشاء { وَقُرْءَانَ الفجر } صلاة الفجر ، سميت قرآناً وهو القراءة ، لأنها ركن ، كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً . وهي حجة على ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن { مَشْهُودًا } يشهده ملائكة الليل والنهار ، ينزل هؤلاء ، ويصعد هؤلاء؛ فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار ، أو يشهده الكثير من المصلين في العادة . أو من حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة . ويجوز أن يكون { وَقُرْءَانَ الفجر } حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر ، لكونها مكثوراً عليها ، ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب؛ ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة { وَمِنَ اليل } وعليك بعض الليل { فَتَهَجَّدْ بِهِ } والتهجد ترك الهجود للصلاة ، ونحو التأثم والتحرّج . ويقال أيضاً في النوم : تهجد { نَافِلَةً لَّكَ } عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس ، وضع نافلة موضع تهجداً؛ لأن التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد . والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة فريضة عليك خاصة دون غيرك ، لأنه تطوع لهم { مَقَاماً مَّحْمُودًا } نصب على الظرف ، أي : عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاماً محموداً . أو ضمن يبعثك معنى يقيمك . ويجوز أن يكون حالا بمعنى أن يبعثك ذا مقام محمود . ومعنى المقام المحمود : المقام الذي يحمده القائم فيه ، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجب الحمد من أنواع الكرامات ، وقيل : المراد الشفاعة ، وهي نوع واحد مما يتناوله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : مقام يحمدك فيه الأولون والآخرون ، وتشرف فيه على جميع الخلائق : تسأل فتعطى ، وتشفع فتشفع ، ليس أحد إلا تحت لوائك . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 628 ) " هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي " وعن حذيفة
( 629 ) يجمع الناس في صعيد واحد ، فلا تتكلم نفس ، فأوّل مدعوّ محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : " لبيك وسعديك والشرّ ليس إليك ، والمهديّ من هديت ، وعبدك بين يديك وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت " قال : فهذا قوله { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } .
(3/472)

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
قرىء "مدخل ومخرج" بالضم والفتح : بمعنى المصدر . ومعنى الفتح : أدخلني فأدخل مدخل صدق ، أي : أدخلني القبر مدخل صدق : إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيئات ، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ، ملقى بالكرامة ، آمنا من السخط ، يدل عليه ذكره على أثر ذكر البعث . وقيل : نزلت حين أمر بالهجرة ، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة . وقيل : إدخاله مكة ظاهراً عليها بالفتح ، وإخراجه منها آمناً من المشركين ، وقيل : إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً . وقيل إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر - وهو النبوّة - وإخراجه منه مؤدياً لما كلفه من غير تفريط . وقيل : الطاعة . وقيل : هو عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من أمر ومكان { سلطانا } حجة تنصرني على من خالفني . أو ملكاً وعزا قوياً ناصراً للإسلام على الكفر مظهراً له عليه ، فأجيب دعوته بقوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] . { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } [ المائدة : 56 ] ، { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ } [ التوبة : 33 ] ، { ليستخلفنهم فِى الارض } [ النور : 55 ] ووعده لينزعنّ ملك فارس والروم ، فيجعله له . وعنه صلى الله عليه وسلم :
( 630 ) أنه استعمل عتاب بن أُسيد على أهل مكة وقال " انطلق فقد استعملتك على أهل الله " فكان شديداً على المريب ، ليناً على المؤمن وقال : لا والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه ، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق . فقال أهل مكة : يا رسول الله ، لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابياً جافياً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إني رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة ، فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها ، فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم ، فذلك السلطان النصير " .
(3/473)

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ضم كل قوم بحيالهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها ، فشكا البيت إلى الله عز وجل فقال : أي رب ، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك ، فأوحى الله إلى البيت : إني سأحدث لك نوبة جديدة ، فأملأك خدوداً سجداً ، يدفون إليك دفيف النسور ، يحنون إليك حنين الطير إلى بيضها . لهم عجيج حولك بالتلبية . .
( 631 ) ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح قال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ مخصرتك ثم ألقها ، فجعل يأتي صنماً صنماً وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول : جاء الحق وزهق الباطل ، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً ، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال : يا علي ، ارم به ، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره ، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون : ما رأينا رجلاً أسحر من محمد صلى الله عليه وسلم .
وشكاية البيت والوحي إليه : تمثيل وتخييل { وَزَهَقَ الباطل } ذهب وهلك ، من قولهم : زهقت نفسه ، إذا خرجت . والحق : الإسلام . والباطل : الشرك { كَانَ زَهُوقًا } كان مضمحلاً غير ثابت في كل وقت .
(3/474)

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
{ وَنُنَزّلُ } قرىء "بالتخفيف والتشديد" { مِن القرءان } من للتبيين ، كقوله : { مِنَ الأوثان } أو للتبعيض ، أي : كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين ، يزدادون به إيماناً ، ويستصلحون به دينهم ، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 632 ) " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله " ولا يزداد به الكافرون { إَلاَّ خَسَارًا } أي نقصاناً لتكذيبهم به وكفرهم ، كقوله تعالى : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] .
(3/475)

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } بالصحة والسعة { أَعْرَضَ } عن ذكر الله ، كأنه مستغن عنه مستبدّ بنفسه { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } تأكيد للإعراض : لأنّ الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه . والنأي بالجانب : أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره ، وأراد الاستكبار؛ لأنّ ذلك من عادة المستكبرين { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل { كَانَ يَئُوساً } شديد اليأس من روح الله { إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } وقرىء "وناء بجانبه" بتقديم اللام على العين ، كقوله "راء" في "رأى" ويجوز أن يكون من "ناء" بمعنى "نهض" { قُلْ كُلٌّ } أحد { يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة ، من قولهم "طريق ذو شواكل" وهي الطرق التي تتشعب منه ، والدليل عليه قوله : { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } أي أسدّ مذهباً وطريقة .
(3/476)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
الأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان . سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله ، أي مما استأثر بعلمه . وعن عبد الله بن بريدة .
( 633 ) لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح . وقيل : هو خلق عظيم روحاني أعظم من الملك . وقيل : جبريل عليه السلام . وقيل : القرآن و { مِنْ أَمْرِ رَبّى } أي من وحيه وكلامه ، ليس من كلام البشر .
( 634 ) بعثت اليهود إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبيّ ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبيّ ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة ، فندموا على سؤالهم { وَمَا أُوتِيتُم } الخطاب عام .
( 635 ) وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال : بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً ، فقالوا : ما أعجب شأنك : ساعة تقول { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 269 ] وساعة تقول هذا ، فنزلت : { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } [ لقمان : 27 ] وليس ما قالوه بلازم؛ لأنّ القلة والكثرة تدوران مع الإضافة ، فيوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه ، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته ، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها؛ إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة . وقيل : هو خطاب لليهود خاصة؛ لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة ، وقد تلوت { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 269 ] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله .
(3/477)

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
{ لَنَذْهَبَنَّ } جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط . واللام الداخلة على إن موطئة للقسم . والمعنى : إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف فلم نترك له أثراً وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ } بعد الذهاب { بِهِ } من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مستوراً { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك ، كأن رحمته تتوكل عليه بالرد ، أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى : ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به ، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه ، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما ، وهما منة الله عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره ، ومنته عليه في بقاء المحفوظ . وعن ابن مسعود : إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، وليصلين قوم ولا دين لهم ، وإن هذا القرآن تصبحون يوماً وما فيكم منه شيء . فقال رجل : كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم؟ فقال : يسري عليه ليلاً فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب .
(3/478)

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
{ لاَ يَأْتُونَ } جواب قسم محذوف ، ولولا اللام الموطئة ، لجاز أن يكون جواباً للشرط ، كقوله :
يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لِي وَلاَ حَرِمُ ... أن الشرط وقع ماضياً ، أي : لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه ، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان لعجزوا عن الإتيان بمثله ، والعجب من النوابت ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ، وإنما يكون العجز حيث تكون القدرة ، فيقال : الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه . وأما المحال الذي لا مجال فيه للقدرة ، ولا مدخل لها فيه كثاني القديم ، فلا يقال للفاعل . قد عجز عنه ، ولا هو معجز ، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز . لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال ، إلا أن يكابروا فيقولوا هو قادر على المحال ، فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق .
(3/479)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } ردّدنا وكرّرنا { مِن كُلّ مَثَلٍ } من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه . والكفور : الجحود . فإن قلت : كيف جاز { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا } ولم يجز ضربت إلا زيداً؟ قلت : لأن أبى متأوّل بالنفي ، كأنه قيل : فلم يرضوا إلا كفورا .
(3/480)

وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر والبينات ولزمتهم الحجة وغلبوا ، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات : فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى . . . وحتى { تَفْجُرَ } تفتح . وقرىء "تفجر" بالتخفيف { مّنَ الأرض } يعنون أرض مكة { يَنْبُوعًا } عيناً غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع : "يفعول" من نبع الماء ، كيعبوب من عب الماء { كَمَا زَعَمْتَ } يعنون قول الله تعالى { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء } [ سبأ : 9 ] وقرىء ( كسفاً ) ، بسكون السين جمع كسفة ، كسدرة وسدر وبفتحة { قَبِيلاً } كفيلاً بما تقول شاهداً بصحته . والمعنى : أو تأتي بالله قبيلاً ، وبالملائكة قبيلاً ، كقوله :
. . . . . . كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيًّا . . . . . . . . . ...
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ ... أو مقابلاً ، كالعشير بمعنى المعاشر ، ونحوه { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] أو جماعة حالاً من الملائكة { مّن زُخْرُفٍ } من ذهب { فِى السماء } في معارج السماء ، فحذف المضاف . يقال : رقى في السلم وفي الدرجة { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ } ولن نؤمن لأجل رقيك { حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا } من السماء فيه تصديقك . عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال عبد الله بن أبي أمية : لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلماً . ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور ، معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول . وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج ، ولو جاءتهم كل آية لقالوا : هذا سحر ، كما قال عز وجل { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاس } [ الأنعام : 7 ] ، { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون } [ الحجر : 14 ] وحين أنكروا الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات وليست بدون ما اقترحوه - بل هي أعظم - لم يكن إلى تبصرتهم سبيل { قُلْ سبحان رَبّى } وقرىء : "قال سبحان ربي" أي قال الرسول . و "سبحان ربي" تعجب من اقتراحاتهم عليه { هَلْ كُنتُ إَلاَّ } رسولاً كسائر الرسل { بَشَرًا } مثلهم ، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات ، فليس أمر الآيات إليّ ، إنما هو إلى الله فما بالكم تتخيرونها عليّ .
(3/481)

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{ أن } الأولى نصب مفعول ثان لمنع . والثانية رفع فاعل له . و { الهدى } الوحي . أي : وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم ، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر . والهمزة في { أَبَعَثَ الله } للإنكار ، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند الله ، لأن قضية حكمته أن لا يرسل ملك الوحي إلا إلى أمثاله ، أو إلى الأنبياء ، ثم قرر ذلك بأنه { لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ } على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه { مُطْمَئِنّينَ } ساكنين في الأرض قارّين { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } يعلمهم الخير ويهديهم المراشد . فأما الإنس فماهم بهذه المثابة ، إنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة ، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم . فإن قلت : هل يجوز أن يكون بشراً وملكاً ، منصوبين على الحال من رسولاً؟ قلت : وجه حسن والمعنى له أجوب .
(3/482)

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
{ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } على أني بلغت ما أرسلت به إليكم ، وأنكم كذبتم وعاندتم { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ } المنذرين والمنذرين { خَبِيراً } عالماً بأحوالهم ، فهو مجازيهم . وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة . وشهيداً : تمييز أو حال .
(3/483)

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
{ وَمَن يَهْدِ الله } ومن يوفقه ويلطف به { فَهُوَ المهتدى } لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه { وَمَن يُضْلِلِ } ومن يخذل { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء } أنصاراً { على وُجُوهِهِمْ } كقوله : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] .
( 636 ) وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يمشون على وجوههم قال : " إن الذي أمشاهم على أقدامهم ، قادر على أن يمشيهم على وجوههم " { عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } كما كانوا في الدنيا ، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ، ويتصامّون عن استماعه ، فهم في الآخرة كذلك : لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى . ويجوز أن يحشروا مؤقي الحواس من الموقف إلى النار بعد الحساب ، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنهم يقرؤن ويتكلمون { كُلَّمَا خَبَتْ } كما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها ، بدلوا غيرها ، فرجعت ملتهبة مستعرة ، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها ، ولا يزالون على الإفناء والإعادة ، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث؛ ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد ، وقد دل على ذلك بقوله { ذَلِكَ جَزَاؤُهُم } إلى قوله { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ } .
(3/484)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
فإن قلت : علام عطف قوله { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً } ؟ قلت : على قوله { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } لأن المعنى قد علموا بدليل العقل أنّ من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس ، لأنهم ليسوا بأشد خلقاً منهن كما قال : أأنتم أشد خلقاً أم السماء { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } وهو الموت أو القيامة ، فأبوا مع وضوح الدليل إلا جحوداً .
(3/485)

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{ لَوْ } حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء ، فلا بد من فعل بعدها في { لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } وتقديره لو تملكون تملكون ، فأضمر تملك إضماراً على شريطة التفسير ، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل ، وهو أنتم ، لسقوط ما يتصل به من اللفظ ، فأنتم : فاعل الفعل المضمر ، وتملكون : تفسيره! وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب . فأمّا ما يقتضيه علم البيان ، فهو : أنّ أنتم تملكون فيه دلالة على الاختصاص؛ وأنّ الناس هم المختصون بالشح المتبالغ ونحوه قول حاتم :
لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي ... وقول المتلمس :
وَلَوْ غَيْرُ أَخْوَالِي أرَادُوا نَقِيصَتِي ... وذلك لأنّ الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر ، برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر . ورحمة الله : رزقه وسائر نعمه على خلقه ، ولقد بلغ هذا الوصف بالشح الغاية التي لا يبلغها الوهم . وقيل : هو لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها ، وأنهم لو ملكوا ، خزائن الأرزاق لبخلوا بها { قَتُورًا } ضيقاً بخيلاً . فإن قلت : هل يقدر { لأمْسَكْتُمْ } مفعول؟ قلت : لا؛ لأن معناه : لبخلتم ، من قولك للبخيل ممسك .
(3/486)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
عن ابن عباس رضي الله عنهما : هي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والحجر ، والبحر ، والطور الذي نتقه على بني إسرائيل . وعن الحسن : الطوفان ، والسنون ، ونقص الثمرات : مكان الحجر ، والبحر ، والطور . وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب فذكر اللسان والطمس ، فقال له عمر : كيف يكون الفقيه إلا هكذا ، أخرج يا غلام ذلك الجراب ، فأخرجه فنفضه ، فإذا بيض مكسور بنصفين ، وجوز مكسور ، وفوم وحمص وعدس ، كلها حجارة . وعن صفوان بن عسال :
( 637 ) أنّ بعض اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " أوحى الله إلى موسى : أن قل لبني إسرائيل : لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفرّوا من الزحف ، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت " { فَسْئَلْ بَنِى إسراءيل } فقلنا له : سل بني إسرائيل ، أي : سلهم من فرعون وقل له : أرسل معي بني إسرائيل . أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم . أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك . وتدلّ عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : فسال بني إسرائيل ، على لفظ الماضي بغير همز ، وهي لغة قريش وقيل : فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل ، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات ليزدادوا يقيناً وطمأنينة قلب؛ لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت ، كقول إبراهيم { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } . فإن قلت : بم تعلق { إِذْ جَاءهُمُ } ؟ قلت : أمّا على الوجه الأول فبالقول المحذوف ، أي فقلنا لهم سلهم حين جاءهم ، أو ب ( اسأل ) في القراءة الثانية . وأمّا على الأخير فبآتينا . أو بإضمار اذكر ، أو يخبروك . ومعنى { إِذْ جَاءهُمُ } إذ جاء آباءهم { مَّسْحُورًا } سحرت فخولط عقلك .
(3/487)

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{ لَقَدْ عَلِمْتَ } يا فرعون { مَا أَنزَلَ هَؤُلاء } الآيات إلا الله عز وجل { بَصَائِرَ } بينات مكشوفات ، ولكنك معاند ماكبر : ونحوه : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] وقرىء "علمت" بالضم ، على معنى : إني لست بمسحور كما وصفتني ، بل أنا عالم بصحة الأمر . وأنّ هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض . ثم قارع ظنه بظنه ، كأنه قال : إن ظننتني مسحوراً فأنا أظنك { مَثْبُورًا } هالكاً ، وظني أصح من ظنك؛ لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته ، ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها . وأما ظنك فكذب بحت؛ لأن قولك مع علمك بصحة أمري ، إني لأظنك مسحوراً قول كذاب . وقال الفرّاء : { مَثْبُورًا } مصروفاً عن الخير مطبوعاً على قلبك ، من قولهم : ما ثبرك عن هذا؟ أي : ما منعك وصرفك؟ وقرأ أبيّ بن كعب "وإن إخالك يا فرعون لمثبوراً" على إن المخففة واللام الفارقة { فَأَرَادَ } فرعون أن يستخف موسى وقومه من أرض مصر ويخرجهم منها ، أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال ، فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه { اسكنوا الأرض } التي أراد فرعون أن يستفزكم منها { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة } يعني قيام الساعة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } جمعاً مختلطين إياكم وإياهم ، ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم : واللفيف : الجماعات من قبائل شتى .
(3/488)

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
{ وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين { وَمَا أرسلناك } إلا لتبشرهم بالجنة وتنذرهم من النار ، ليس إليك وراء ذلك شيء ، من إكراه على الدين أو نحو ذلك .
(3/489)

وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{ وَقُرْءانًا } منصوب بفعل يفسره { فرقناه } وقرأ أبيّ "فرّقناه" بالتشديد ، أي : جعلنا نزوله مفرّقاً منجماً وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ مشدّداً وقال : لم ينزل في يومين أو ثلاثة ، بل كان بين أوّله وآخره عشرون سنة ، يعني : أن فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب { على مُكْثٍ } بالفتح والضم : على مهل وتؤدة وتثبت { ونزلناه تَنْزِيلاً } على حسب الحوادث .
(3/490)

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{ قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والإزدراء بشأنهم ، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه ، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدّقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيراً منهم وأفضل - وهم العلماء الذين قرؤا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع - قد آمنوا به وصدّقوه ، وثبت عندهم أنه النبي العربيّ الموعود في كتبهم ، فإذا تلي عليهم خرّوا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه ، وهو المراد بالوعد في قوله : { إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً . . . . وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } أي يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين - فإن قلت : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ } تعليل لماذا؟ قلت : يجوز أن يكون تعليلاً لقوله { ءَامِنوُاْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه ، كأنه قيل : تسلَّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء ، وعلى الأوّل : إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم . فإن قلت : ما معنى الخرور للذقن؟ قلت : السقوط على الوجه ، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين ، لأنّ الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن ، فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه ، فما معنى اللام في خرّ لذقنه ولوجهه؟ قال :
فخَرَّ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ ... قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به؛ لأن اللام للاختصاص . فإن قلت : لم كرّر يخرون للأذقان؟ قلت : لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين ، وخرورهم في حال كونهم باكين .
(3/491)

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعه أبو جهل يقول : يا أَلله يا رحمن ، فقال : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر . وقيل : إن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت . والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء ، وهو يتعدّى إلى مفعولين ، تقول : دعوته زيداً ، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال : دعوت زيداً . والله والرحمن ، المراد بهما الاسم لا المسمى . وأو للتخيير ، فمعنى { ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } سموا بهذا الاسم أو بهذا ، واذكروا إما هذا وإما هذا . والتنوين في { أَيّا } عوض من المضاف إليه . و { مَا } صلة للإبهام المؤكد لما في أيّ ، أي : أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم { فَلَهُ الأسماء الحسنى } والضمير في { فَلَهُ } ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين ، ولكن إلى مسماهما وهو ذاته تعالى؛ لأن التسمية للذات لا للاسم . والمعنى : أياما تدعوا فهو حسن ، فوضع موضعه قوله : { فَلَهُ الأسماء الحسنى } لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان : لأنهما منها ، ومعنى كونهما أحسن الأسماء . أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم . بصلاتك بقراءة صلاتك على حذف المضاف؛ لأنه لا يلبس ، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته ، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا ، فأمر بأن يخفض من صوته ، والمعنى : ولا تجهر حتى تسمع المشركين { وَلاَ تُخَافِتْ } حتى لا تسمع من خلفك { وابتغ بَيْنَ } الجهر [ و ] المخافتة { سَبِيلاً } وسطاً .
( 638 ) وروي أنّ أبا بكر رضي الله عنه كان يخفي صوته بالقراءة في صلاته ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي ، وكان عمر رضي الله عنه يرفع صوته ويقول : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان ، فأمر أبا بكر أن يرفع قليلاً وعمر أن يخفض قليلاً . وقيل : معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها ، وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار ، وقيل { بِصَلاتِكَ } بدعائك . وذهب قوم إلى أنّ الآية منسوخة بقوله : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] وابتغاء السبيل : مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة { وَلِىٌّ مَّنَ الذل } ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به ، أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته .
(3/492)

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
فإن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ قلت : لأنّ من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة ، فهو الذي يستحق جنس الحمد .
( 639 ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 640 ) " من قرأ سورة بني إسرائيل فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة ، والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " رزقنا الله بفضله العميم وإحسانه الجسيم .
(3/493)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
لقن الله عباده وفقههم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام ، وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } ولم يجعل له شيئاً من العوج قط ، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه ، وخروج شيء منه من الحكمة والإصابة فيه . فإن قلت : بم انتصب { قَيِّماً } ؟ قلت : الأحسن أن ينتصب بمضمر ولا يجعل حالاً من الكتاب؛ لأنّ قوله { وَلَمْ يَجْعَل } معطوف على أنزل ، فهو داخل في حيز الصلة ، فجاعله حالاً من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وتقديره : ولم يجعل له عوجا جعله قيماً؛ لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة . فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة ، وفي أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت : فائدته التأكيد ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح . وقيل : قيما على سائر الكتب مصدقاً لها ، شاهداً بصحتها . وقيل : قيماً بمصالح العباد وما لا بدّ لهم منه من الشرائع وقرىء "قيماً" "أنذر" متعدّ إلى مفعولين ، كقوله { إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] فاقتصر على أحدهما ، وأصله { لِّيُنذِرَ } الذين كفروا { بَأْسًا شَدِيدًا } والبأس من قوله { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبآسة { مِّن لَّدُنْهُ } صادراً من عنده . وقرىء "من لدنه" بسكون الدال مع إشمام الضمة وكسر النون { وَيُبَشِّرُ } بالتخفيف والتثقيل . فإن قلت : لم اقتصر على أحد مفعولى أنذر؟ قلت : قد جعل المنذر به هو الغرض المسبوق إليه ، فوجب الاقتصار عليه . والدليل عليه تكرير الإنذار في قوله { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا ( 4 ) } متعلقاً بالمنذرين من غير ذكر المنذر به ، كما ذكر المبشر به في قوله : { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } استغناء بتقدّم ذكره . والأجر الحسن : الجنة { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي بالولد أو باتخاذه ، يعني أنّ قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد للآباء ، وقد اشتملته آباؤهم من الشيطان وتسويله . فإن قلت : اتخاذ الله ولداً في نفسه محال ، فكيف قيل : ما لهم به من علم؟ قلت : معناه ما لهم به من علم؛ لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وانتفاء العلم بالشيء إمّا للجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به . قرىء "كبرت كلمة" ، وكلمة : بالنصب على التمييز والرفع على الفاعلية ، والنصب أقوى وأبلغ . وفيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أكبرها كلمة . و { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } صفة للكلمة تفيد استعظاماً لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيراً مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدّثون به أنفسهم من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوّهوا به ويطلقوا به ألسنتهم ، بل يكظمون عليه تشوّرا من إظهاره ، فكيف بمثل هذا المنكر؟ وقرىء "كبْرت" بسكون الباء مع إشمام الضمة . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في كبرت؟ قلت : إلى قولهم { اتخذ الله وَلَدًا } وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها .
(3/494)

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم ، برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفاً على فراقهم . وقرىء "باخع نفسك" ، على الأصل ، وعلى الإضافة : أي قاتلها ومهلكها ، وهو للاستقبال فيمن قرأ "إن لم يؤمنوا" وللمضي فيمن قرأ "أن لم يؤمنوا" بمعنى : لأن لم يؤمنوا { بهذا الحديث } بالقرآن { أَسَفاً } مفعول له ، أي : لفرط الحزن . ويجوز أن يكون حالا والأسف : المبالغة في الحزن والغضب . يقال : رجل أسف وأسيف .
(3/495)

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
{ مَا عَلَى الأرض } يعني ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } وحسن العمل : الزهد فيها وترك الاغترار بها ، ثم زهد في الميل إليها بقوله { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا } من هذه الزينة { صَعِيداً جُرُزاً } يعني مثل أرض بيضاء لانبات فيها ، بعد أن كانت خضراء معشبة ، في إزالة بهجته ، وإماطه حسنه ، وإبطال ما به كان زينة : من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ، ونحو ذلك ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض مما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن ، ثم قال { أَمْ حَسِبْتَ } يعني أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدّة طويلة . والكهف : الغار الواسع في الجبل { والرقيم } اسم كلبهم . قال أمية ابن أبي الصلت :
وَلَيْسَ بِهَا إلاَّ الرَّقِيمُ مُجَاوِراً ... وَصِيدَهُمُ وَالْقَوْمُ في الْكَهْفِ هُمَّدُ
وقيل : هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف . وقيل : إن الناس رقموا حديثهم نقراً في الجبل . وقيل : هو الوادي الذي فيه الكهف . وقيل : الجبل . وقيل : قريتهم . وقيل : مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين { كَانُواْ } آية { عَجَبًا } من آياتنا وصفاً بالمصدر ، أو على : ذات عجب { مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي رحمة من خزائن رحمتك ، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء { وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } الذي نحن عليه من مفارقة الكفار { رَشَدًا } حتى نكون بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا رشداً كله ، كقولك : رأيت منك أسداً { فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ } أي ضربنا عليها حجاباً من أن تسمع ، يعني : أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات ، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه ، فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال : بنى على امرأته ، يريدون : بنى عليها القبة { سِنِينَ عَدَدًا } ذوات عدد ، فيحتمل أن يريد الكثرة وأن يريد القلة؛ لأن الكثير قليل عنده ، كقوله : { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] وقال الزجاج : إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعدّ ، وإذا كثر احتاج إلى أن يعد .
(3/496)

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ أَيُّ } يتضمن معنى الاستفهام ، فعلق عنه { لَنَعْلَمَ } فلم يعمل فيه . وقرىء "ليعلم" وهو معلق عنه أيضاً؛ لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد "يعلم" إليه وفاعل "يعلم" مضمون الجملة كما أنه مفعول "نعلم" { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } المختلفين منهم في مدّة لبثهم؛ لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك ، وذلك قوله { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [ الكهف : 19 ] وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم : هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم ، و { أحصى } فعل ماض أي أيهم ضبط { أَمَدًا } لأوقات لبثهم . فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس . ونحو "أعدى من الجرب" ، و "أفلس من ابن المذلق" شاذ . والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع ، فكيف به؟ ولأن { أَمَدًا } لا يخلو : إما أن ينتصب بأفعل فأفعل لا يعمل . وإما أن ينصب بلبثوا ، فلا يسدّ عليه المعنى . فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى ، كما أضمر في قوله :
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا ... على : نضرب القوانس ، فقد أبعدت المتناول وهو قريب ، حيث أبيت أن يكون أحصى فعلاً ، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره . فإن قلت : كيف جعل الله تعالى العلم بإحصاءهم المدّة غرضاً في الضرب على آذانهم؟ قلت : الله عز وجل لم يزل عالماً بذلك ، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ، ليزدادوا إيماناً واعتباراً ، ويكون لطفاً لمؤمني زمانهم ، وآية بينة لكفاره .
(3/497)

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{ وزدناهم هُدًى } بالتوفيق والتثبيت { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } وقويناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم ، والفرار بالدين إلى بعض الغيران ، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام { إِذْ قَامُواْ } بين يدي الجبار وهو دقيانوس ، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض . . . . . شَطَطًا } قولا ذا شطط ، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه ، من شط : إذا بعد . ومنه أشط في السوم وفي غيره { هَؤُلاء } مبتدأ ، و { قَوْمُنَا } عطف بيان { واتخذوا } خبر وهو إخبار في معنى إنكار { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم } هلا يأتون على عبادتهم ، فحذف المضاف { بسلطان بَيّنٍ } وهو تبكيت؛ لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال ، وهو دليل على فساد التقليد ، وأنه لا بد في الدين من الحجة حتى يصح ويثبت { افترى عَلَى الله كَذِبًا } بنسبة الشريك إليه .
(3/498)

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{ وَإِذِ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض ، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } نصب ، عطف على الضمير ، يعني : وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم { إِلاَّ الله } يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، على ما روي : أنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه كما أهل مكة . وأن يكون منقطعاً . وقيل : هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله { مّرْفَقًا } قرىء "بفتح الميم وكسرها" وهو ما يرتفق به : أي ينتفع ، إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوّة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم . وإما أن يخبرهم به نبي في عصرهم ، وإما أن يكون بعضهم نبياً .
(3/499)

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{ تَّزَاوَرُ } أي تمايل ، أصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها . وقد قرىء "بهما" . وقرىء "تزورّ وتزوارّ" بوزن تحمرّ وتحمارّ ، وكلها من الزور وهو الميل . ومنه زاره إذا مال إليه . والزور : الميل عن الصدق { ذَاتَ اليمين } جهة اليمين وحقيقتها . الجهة المسماة باليمين { تَّقْرِضُهُمْ } تقطعهم لا تقربهم من معنى القطيعة والصرم . قال ذو الرمة :
إلَى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِف ... شَمِالاً وَعَنْ أَيْمَانِهنَّ الْفَوَارِسُ
{ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ } وهم في متسع من الكهف . والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها ، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أنّ الله يحجبها عنهم . وقيل : في متفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسون كرب الغار { ذلك منءايات الله } أي ما صنعه الله بهم - من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة - آية من آياته ، يعني : أنّ ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم ، اختصاصاً لهم بالكرامة . وقيل : باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش ، فهم في مقنأة أبداً ومعنى ( ذلك من آيات الله ) أنّ شأنهم وحديثهم من آيات الله { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم ، فلطف بهم وأعانهم ، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة ، وأن كل من سلك طريقة المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح ، واهتدى إلى السعادة ، ومن تعرّض للخذلان ، فلن يجد من يليه ويرشده بعد خذلان الله .
(3/500)

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{ وَتَحْسَبُهُمْ } بكسر السين وفتحها : خطاب لكل أحد والأيقاظ : جمع يقظ ، كأنكاد في نكد . قيل : عيونهم مفتحة وهم نيام ، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظاً وقيل : لكثرة تقلبهم وقيل : لهم تقلبتان في السنة وقيل : تقلبة واحدة في يوم عاشوراء . وقرىء "ويقلبهم" بالياء والضمير لله تعالى . وقرىء "وتقلبهم" على المصدر منصوباً ، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا } كأنه قيل : وترى وتشاهد تقلبهم . وقرأ جعفر الصادق "وكالبهم" أي وصاحب كلبهم { باسط ذِرَاعَيْهِ } حكاية حال ماضية؛ لأنّ اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ، وإضافته إذا أضيف حقيقية معرفة ، كغلام زيد ، إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية . والوصيد : الفناء ، وقيل : العتبة . وقيل : الباب . وأنشد :
بِأَرْضٍ فَضَاء لاَ يُسَدُّ وَصِيدُهَا ... عَلَىَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ
وقرىء "ولملئت" بتشديد اللام للمبالغة . وقرىء "بتخفيف الهمزة وقلبها ياء" . و { رُعْبًا } بالتخفيف والتثقيل ، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه ، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة . وقيل : لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم . وقيل : لوحشة مكانهم . وعن معاوية أنه غزا الروم فمرّ بالكهف فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال له ابن عباس رضي الله عنه : ليس لك ذلك ، قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال : { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا } فقال معاوية ، لا أنتهي حتى أعلم علمهم ، فبعث ناساً وقال لهم : اذهبوا فانظروا ، ففعلوا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأحرقتهم . وقرىء : "لوُ اطلعت" ، بضم الواو .
(4/1)

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{ وكذلك بعثناهم } وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم ، إدكاراً بقدرته على الإنامة والبعث جميعاً ليسأل بعضهم بعضاً ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيعتبروا ، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ويزدادوا يقيناً ، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } جواب مبني على غالب الظن . وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب ، وأنه لا يكون كذباً وإن جاز أن يكون خطأ { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } إنكار عليهم من بعضهم ، وأن الله أعلم بمدّة لبثهم ، كأنّ هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أنّ المدة متطاولة ، وأنّ مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله . وروي أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال ، فظنوا أنهم في يومهم ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك . فإن قلت : كيف وصلوا قولهم { فابعثوا } بتذاكر حديث المدة؟ قلت : كأنهم قالوا : ربكم أعلم بذلك ، لا طريق لكم إلى علمه ، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم . والورق : الفضة ، مضروبة كانت أو غير مضروبة . ومنه الحديث .
( 641 ) " أنّ عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب " وقرىء : "بورْقكم" بسكون الراء والواو مفتوحة أو مكسورة . وقرأ ابن كثير "بورِقكم" ، بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف . وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم ، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين لا على حده . وقيل : المدينة طرسوس . قالوا : وتزوّدهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم : دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأي المتوكلين على الله ، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات . ومنه قول عائشة رضي الله عنها - لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه - : أوثق عليك نفقتك . وما حكي عن بعض صعاليك العلماء أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت الله ، وتعولم منه ذلك ، فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على حج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به وألحوا عليه ، فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم ، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده : ما لهذا السفر إلا شيئان : شدّ الهميان ، والتوكل على الرحمن { بَيْنَهُمْ } أيّ أهلها ، فحذف الأهل كما في قوله { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] ، { أزكى طَعَامًا } أحلّ وأطيب وأكثر وأرخص { وَلْيَتَلَطَّفْ } وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن . أو في أمر التخفي حتى لا يعرف { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } يعني : ولا يفعلنّ ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بنا ، فسمى ذلك إشعاراً منه بهم؛ لأنه سبب فيه الضمير في { إِنَّهُمْ } راجع إلى الأهل المقدر في { أَيُّهَا } . { يَرْجُمُوكُمْ } يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم ، وكانت عادتهم { أَوْ يُعِيدُوكُمْ } أو يدخلوكم { فِى مِلَّتِهِمْ } بالإكراه العنيف ويصيروكم إليها . والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم ، يقولون : ما عدت أفعل كذا ، يريدون ابتداء الفعل { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا } إذ دخلتم في دينهم .
(4/2)

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{ وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } وكما أنمناهم وبعثناهم ، لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم ، ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم { أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } وهو البعث؛ لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث . و { إِذْ يتنازعون } متعلق بأعثرنا . أي : أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث ، فكان بعضهم يقول : تبعث الأرواح دون الأجساد . وبعضهم يقول : تبعث الأجساد مع الأرواح ، ليرتفع الخلاف ، وليتبين أنّ الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت { فَقَالُواْ } حين توفى الله أصحاب الكهف { ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا } أي على باب كهفهم . لئلا يتطرّق إليهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم { لَنَتَّخِذَنَّ } على باب الكهف { مَّسْجِدًا } يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم . وقيل : إذ يتنازعون بينهم أمرهم أي : يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ، ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله من الآية فيهم . أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا ، كيف يخفون مكانهم؟ وكيف يسدّون الطريق إليهم ، فقالوا : ابنوا على باب كهفهم بنيانا ، روي أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها ، وممن شدد في ذلك دقيانوس ، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل ، فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه ، ثم هربوا إلى الكهف ومرّوا بكلب فتبعهم فطردوه ، فأنطقه الله فقال : ما تريدون مني ، أنا أحبّ أحباء الله ، فناموا وأنا أحرسكم . وقيل : مرّوا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ، ودخلوا الكهف فكانوا يعبدون الله فيه ، ثم ضرب الله على آذانهم ، وقبل أن يبعثهم الله ملك مدينتهم رجل صالح مؤمن . وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين ، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحاً وجلس على رماد ، وسأل ربه أن يبين لهم الحق ، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ماسدّ به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه ، ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقصّ عليه القصة ، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم ، وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث ، ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شرّ الجنّ والإنس ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم ، فألقى الملك عليهم ثيابه ، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج ، وبنى على باب الكهف مسجداً { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا : ربهم أعلم بهم . أو هو من كلام الله عز وجل ردّ لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ، أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب .
(4/3)

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{ سَيَقُولُونَ } الضمير لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم ، فنزلت إخباراً بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم ، وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم . قال ابن عباس رضي الله عنه : أنا من أولئك القليل . وروي أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيد وكان يعقوبياً : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم . وقال العاقب وكان نسطورياً : كانوا خمسة سادسهم كلبهم . وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، فحقق الله قول المسلمين . وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان جبريل عليه السلام . وعن عليّ رضي الله عنه : هم سبعة نفر أسماؤهم : يمليخاً ، ومكشليتيا ، ومشلينيا : هؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره : مرنوش ، ودبرنوش ، وشادنوش . وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع : الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس . واسم مدينتهم : أفسوس . واسم كلبهم : قطمير . فإن قلت : لم جاء بسين الاستقبال في الأوّل دون الآخرين؟ قلت : فيه وجهان : أن تدخل الآخرين في حكم السين ، كما تقول : قد أكرم وأنعم ، تريد معنى التوقع في الفعلين جميعاً ، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له { رَجْماً بالغيب } رمياً بالخبر الخفي وإتياناً به كقوله { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } [ سبأ : 53 ] أي يأتون به . أو وضع الرجم موضع الظنّ ، فكأنه قيل : ظناً بالغيب؛ لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظنّ مكان قولهم ظنّ ، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين ، ألا ترى إلى قول زهير :
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ المُرَجَّمِ ... أي المظنون . وقرىء "ثلاثّ رابعهم" بإدغام الثاء في تاء التأنيث . و { ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم ثلاثة . وكذلك { خَمْسَةٌ } و { سَبْعَةٌ } و { رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة لثلاثة ، وكذلك { سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } ، { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } . فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ، ولم دخلت عليها دون الأوّلين؟ قلت : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك : جاءني رجل ومعه آخر . ومررت بزيد وفي يده سيف . ومنه قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر ، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا : سبعة وثامنهم كلبهم ، قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم .
(4/4)

والدليل عليه أنّ الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله { رَجْماً بالغيب } وأتبع القول الثالث قوله { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } وقال ابن عباس رضي الله عنه : حين وقعت الواو انقطعت العدّة ، أي : لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها . وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات . وقيل : إلا قليل من أهل الكتاب . والضمير في { سَيَقُولُونَ } على هذا لأهل الكتاب خاصة ، أي : سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ، ولا علم بذلك إلا في قليل منهم ، وأكثرهم على ظنّ وتخمين { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ } فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه ، وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ، ولا تزيد ، من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الردّ عليهم ، كما قال { وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] . { وَلاَ تَسْتَفْتِ } ولا تسأل أحداً منهم عن قصتهم سؤال متعنت له ، حتى يقول شيئاً فتردّه عليه وتزيف ما عنده؛ لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة ، ولا سؤال مسترشد؛ لأن الله قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم .
(4/5)

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىْءٍ } ولا تقولنّ لأجل شيء تعزم عليه { إِنّى فَاعِلٌ ذلك } الشيء { غَداً } أي فيما يستقبل من الزمان . ولم يرد الغد خاصة { إِلاَّ أَن يَشاءَ الله } متعلق بالنهي لا بقوله : إني فاعل لأنه لو قال إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله ، كان معناه : إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك مما لا مدخل فيه للنهي ، وتعلقه بالنهي على وجهين ، أحدهما : ولا تقولنّ ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله ، بأن يأذن لك فيه . والثاني : ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله ، أي : إلا بمشيئة الله ، وهو في موضع الحال . يعني : إلا ملتبساً بمشيئة الله قائلاً : إن شاء الله وفيه وجه ثالث ، وهو : أن يكون { أن يشاء الله } في معنى كلمة تأبيد ، كأنه قيل ولا تقولنه أبداً . ونحوه قوله { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله } [ الأعراف : 89 ] لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاءه الله . وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وذي القرنين . فسألوه فقال : ائتوني غداً أخبركم ولم يستثن ، فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش { واذكر رَّبَّكَ } أي مشيئة ربك وقل : إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك . والمعنى : إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ولو بعد سنة ما لم تحنث . وعن سعيد بن جبير : ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة . وعن طاوس : هو على ثنياه ما دام في مجلسه . وعن الحسن نحوه . وعن عطاء : يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة . وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً . ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة خالف ابن عباس رضي الله عنه في الاستثناء المنفصل ، فاستحضره لينكر عليه : فقال أبو حنيفة : هذا يرجع عليك ، إنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه ورضي عنه . ويجوز أن يكون المعنى : واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء ، تشديداً في البعث على الاهتمام بها . وقيل : واذكر ربك إذا تركت بعض ما أمرك به . وقيل : واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي ، وقد حمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها . و { هذا } إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف . ومعناه : لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني نبيّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبأ أصحاب الكهف ، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدلّ ، والظاهر أن يكون المعنى : إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك . وذكر ربك عند نسيانه أن تقول : عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه { رَشَدًا } وأدنى خيراً ومنفعة . ولعل النسيان كان خيرة ، كقوله { أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا } [ البقرة : 106 ] .
(4/6)

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{ وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلاث مِاْئَةٍ سِنِينَ } يريد لبثهم فيه أحياء مضروباً على آذانهم هذه المدّة ، وهو بيان لما أجمل في قوله { فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف سِنِينَ عَدَدًا } ومعنى قوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدّة لبثهم ، والحق ما أخبرك الله به . وعن قتادة : أنه حكاية لكلام أهل الكتاب . و { قُلِ الله أَعْلَمُ } رد عليهم . وقال في حرف عبد الله : وقالوا لبثوا . وسنين : عطف بيان لثلثمائة . وقرىء "ثلثمائة سنين" ، بالإضافة ، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز ، كقوله { بالاخسرين أعمالا } [ الكهف : 103 ] وفي قراءة أبيّ "ثلثمائة سنة" { تِسْعًا } تسع سنين؛ لأن ما قبله يدل عليه . وقرأ الحسن "تسعاً" بالفتح ، ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ومن غيرها وأنه هو وحده العالم به ، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات ، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر { مَّا لَهُم } الضمير لأهل السموات والأرض { مِن وَلِىٍّ } من متول لأمورهم { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ } في قضائه { أَحَدًا } منهم . وقرأ الحسن : ولا تشرك ، بالتاء والجزم على النهي .
(4/7)

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
كانوا يقولون له : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، فقيل له { واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ } من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل ، فلا مبدل لكمات ربك ، أي : لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها ، وإنما يقدر على ذلك هو وحده { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } [ النحل : 101 ] . { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك .
(4/8)

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
وقال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحِّ هؤلاء الموالي الذين كأن ريحهم ريح الضأن ، وهم : صهيب وعمار وخباب وغيرهم من فقراء المسلمين ، حتى نجالسك كما قال نوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] فنزلت : { واصبر نَفْسَكَ } وأحبسها معهم وثبتها . قال أبو ذؤيب :
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُوا إذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ
{ بالغداة والعشى } دائبين على الدعاء في كل وقت . وقيل : المراد صلاة الفجر والعصر . وقرىء : "بالغدوة" وبالغداة أجود؛ لأن غدوة علم في أكثر الاستعمال . وإدخال اللام على تأويل التنكير كما قال :
. . . . . . وَالزَّيْدُ زَيْدُ المَعَارِكِ ... ونحوه قليل في كلامهم ، يقال : عداه إذا جاوزه ومنه قولهم . عدا طوره . وجاءني القوم عدا زيداً . وإنماعدي بعن ، لتضمين عدا معنى نبا وعلا ، في قولك : نبت عنه عينه وعلت عنه عينه : إذا اقتحمته ولم تعلق به . فإن قلت : أي غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل : ولا تعدهم عيناك ، أو لا تعل عيناك عنهم؟ قلت الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم؟ ونحوه قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي ولا تضموها إليها أكلين لها . وقرىء "ولا تعد عينيك ، ولا تعدّ عينيك" من أعداه نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو . ومنه قوله :
فَعُدْ عَمَّا تَرَى إذْ لاَ ارْتِجَاعَ لَهُ ... لأن معناه : فعد همك عما ترى . نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزدرى بفقراء المؤمنين ، وأن تنبو عينه عن رثاثة زيهم طموحاً إلى زيّ الأغنياء وحسن شارتهم { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } في موضع الحال { مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر بالخذلان . أو وجدناه غافلاً عنه ، كقولك : أجبنته وأفحمته وأبخلته ، إذا وجدته كذلك . أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة ، أي : لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله { واتبع هواه } وقرىء "أغفلنا قلبه" بإسناد الفعل إلى القلب على معنى : حسبنا قلبه غافلين ، من أغفلته إذا وجدته غافلاً { فُرُطًا } متقدّماً للحق والصواب نابذاً له وراء ظهره من قولهم "فرس فرط" متقدّم للخيل .
(4/9)

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{ وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ } الحق خبر مبتدأ محذوف . والمعنى : جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك . وجيء بلفظ الأمر والتخيير ، لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء ، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين . شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق ، وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وبيت مسردق : ذو سرادق وقيل : هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار . وقيل : حائط من نار يطيف بهم { يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل } كقوله :
. . . . . . فَأَعْتَبُوا بِالصَّيْلَمِ ... وفيه تهكم . والمهل : ما أذيب من جواهر الأرض . وقيل : درديّ الزيت { يَشْوِى الوجوه } إذا قدم ليشرب انشوى الوجه من حرارته . عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 642 ) " هو كعكر الزيت ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه " { بِئْسَ الشراب } ذلك { وَسَاءتْ } النار { مُرْتَفَقًا } متكأ من المرفق ، وهذا لمشاكلة قوله { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء ، إلا أن يكون من قوله :
إنِّي أرِقْتُ فَبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقا ... كَأَنَّ عَيْنِي فِيهَا الصَّابُ مَذبُوح
(4/10)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{ أولئك } خبر إن و { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراض ، ولك أن تجعل { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } و { أولئك } خبرين معاً . أو تجعل { أولئك } كلاماً مستأنفاً بياناً للأجر المبهم . فإن قلت : إذا جعلت { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } خبراً ، فأين الضمير الراجع منه إلى المبتدأ؟ قلت : { مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } و { الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ينتظمهما معنى واحد ، فقام : { مَنْ أَحْسَنَ } مقام الضمير . أو أردت : من أحسن عملا منهم ، فكان كقولك : السمن منوان بدرهم . من الأولى للابتداء . والثانية للتبيين وتنكير { أَسَاوِرَ } لإبهام أمرها في الحسن . وجمع بين السندس : وهو مارقّ من الديباج ، وبين الإستبرق : وهو الغليظ منه ، جمعاً بين النوعين وخص الاتكاء ، لأنه هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم .
(4/11)

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{ واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } أي ومثل حال الكافرين والمؤمنين ، بحال رجلين وكانا أخوين في بني إسرائيل : أحدهما كافر اسمه قطروس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا . وقيل : هما المذكوران في سورة الصافات في قوله { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } [ الصافات : 51 ] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فتشاطراها . فاشترى الكافر أرضاً بألف ، فقال المؤمن : اللهم إن أخي اشترى أرضاً بألف دينار ، وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف ، فتصدّق به . ثم بنى أخوه داراً بألف ، فقال : اللهم إني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدّق به . ثم تزوّج أخوه امرأة بألف ، فقال : اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور . ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف ، فقال : اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف ، فتصدّق به ثم أصابته حاجة ، فجلس لأخيه على طريقه فمرّ به في حشمه ، فتعرّض له ، فطرده ووبخه على التصدّق بماله ، وقيل : هما مثل لأخوين من بني مخزوم : مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد ، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد { جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب } بستانين من كروم { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين ، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم : أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة . يقال : حفوه ، إذا أطافوا به : وحففته بهم . أي جعلتهم حافين حوله ، وهو متعدّ إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولاً ثانياً ، كقولك : غشيه ، وغشيته به { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه . ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها ، مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق ، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ، ثم بماء وهو أصل الخير ومادّته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به ، وهو السيح بالنهر الجاري فيها . والأكل : الثمر . وقرىء "بضم الكاف" { وَلَمْ تَظْلِمِ } ولم تنقص . وآتت : حمل على اللفظ ، لأنّ { كِلْتَا } لفظه لفظ مفرد ، ولو قيل : آتتا على المعنى : لجاز وقرىء "وفجرنا" على التخفيف وقرأ عبد الله "كل الجنتين آتى أكله" بردّ الضمير على كل { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أي أنواع من المال ، من ثمر ماله إذا كثر . وعن مجاهد : الذهب والفضة ، أي : كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة من الذهب والفضة وغيرهما ، وكان وافر اليسار من كل وجه ، متمكناً من عمارة الأرض كيف شاء { وَأَعَزُّ نَفَراً } يعني أنصاراً وحشماً . وقيل : أولاداً ذكوراً ، لأنهم ينفرون معه دون الإناث ، يحاوره : يراجعه الكلام ، من حار يحور إذا رجع ، وسألته فما أحار كلمة .
(4/12)

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
يعني قطروس أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويعجبه منهما ويفاخره بما ملك من المال دونه . فإن قلت : فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت : معناه ودخل ما هو جنته ماله جنة غيرها ، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون ، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } وهو معجب بما أوتي مفتخر به كافر لنعمة ربه ، معرّض بذلك نفسه لسخط الله ، وهو أفحش الظلم . إخباره عن نفسه بالشك في بيدودة جنته : لطول أمله واستيلاء الحرص عليه وتمادي غفلته واغتراره بالمهلة وإطراحه النظر في عواقب أمثاله . وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم ، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى } إقسام منه على أنه إن ردَّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وكما يزعم صاحبه ليجدنّ في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا ، تطمعاً وتمنياً على الله ، وادّعاء لكرامته عليه ومكانته عنده ، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله ، وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه ، كقوله { إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] ، { لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] . وقرىء : "خيراً منهما" ردّا على الجنتين { مُنْقَلَباً } مرجعاً وعاقبة . وانتصابه على التمييز ، أي : منقلب تلك ، خير من منقلب هذه ، لأنها فانية وتلك باقية .
(4/13)

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
{ خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } أي خلق أصلك ، لأنّ خلق أصله سبب في خلقه ، فكان خلقه خلقاً له { سَوَّاكَ } عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال . جعله كافراً بالله جاحداً لأنعمه لشكه في البعث ، كما يكون المكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم كافراً .
(4/14)

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
{ لَّكِنَّ هُوَ الله رَبّى } أصله لكن أنا ، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن ، فتلاقت النونان فكان الإدغام . ونحوه قول القائل :
وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذْنِب ... وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إيَّاكِ لاَ أقْلِي
أي : لكن أنا لا أقليك وهو ضمير الشأن ، والشأن الله ربي ، والجملة خبر أنا ، والراجع منها إليه ياء الضمير . وقرأ ابن عامر بإثبات ألف أنا في الوصل والوقف جميعاً ، وحسن ذلك وقوع الألف عوضاً من حذف الهمزة . وغيره لا يثبتها إلا في الوقف . وعن أبي عمرو أنه وقف بالهاء : لكنه . وقرىء "لكن هو الله ربي" ، بسكون النون وطرح أنا . وقرأ أبيّ بن كعب : "لكن أنا" على الأصل . وفي قراءة عبد الله "لكن أنا لا إله إلا هو ربي" . فإن قلت : هو استدراك لماذا؟ قلت : لقوله { أَكَفَرْتَ } قال لأخيه : أنت كافر بالله ، لكني مؤمن موحد ، كما تقول : زيد غائب ، لكن عمراً حاضر .
(4/15)

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{ مَا شَاء الله } يجوز أن تكون { مَا } موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره : الأمر ما شاء الله . أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف ، بمعنى : أي شيء شاء الله كان . ونظيرها في حذف الجواب { لَوْ } في قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } [ الرعد : 31 ] والمعنى : هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله ، اعترافاً بأنها وكلّ خير فيها إنما حصل بمشيئة الله وفضله ، وأن أمرها بيده : إن شاء تركها عامرة وإن شاء خرّبها ، وقلت { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته وتأييده ، إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى . وعن عروة بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب ، فيدخل من شاء . وكان إذا دخله ردّد هذه الآية حتى يخرج . من قرأ { أَقُلْ } بالنصب فقد جعل أنا فصلاً ، ومن رفع جعله مبتدأ وأقلّ خبره ، والجملة مفعولاً ثانياً لترني . وفي قوله { وَوَلَدًا } نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله { وَأَعَزُّ نَفَراً } [ الكهف : 34 ] والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى ، فيرزقني لإيماني جنة { خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ } ويسلبك لكفرك نعمته ويخرّب بستانك . والحسبان : مصدر كالغفران والبطلان ، بمعنى الحساب ، أي : مقداراً قدره الله وحسبه ، وهو الحكم بتخريبها وقال الزجاج : عذاب حسبان ، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك . وقيل حسباناً مرامي الواحدة حسبانة وهي الصواعق { صَعِيدًا زَلَقًا } أرضاً بيضاء يزلق عليها لملاستها زلقاً . و { غَوْرًا } كلاهما وصف بالمصدر .
(4/16)

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
{ وَأُحِيطَ } به عبارة عن إهلاكه . وأصله من أحاط به العدوّ؛ لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ، ثم استعمل في كل إهلاك . ومنه قوله تعالى { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] ومثله قولهم : أتى عليه ، إذا أهلكه ، من أتى عليهم العدوّ : إذا جاءهم مستعلياً عليهم . وتقليب الكفين : كناية عن الندم والتحسر ، لأنّ النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن ، كنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد ، ولأنه في معنى الندم عدّى تعديته بعلى ، كأنه قيل : فأصبح يندم { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي أنفق في عمارتها { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } يعني أنّ كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض ، وسقطت فوقها الكروم . قيل : أرسل الله عليها ناراً فأكلتها { ياويلتا لَيْتَنِى } تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه ، فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه . ويجوز أن يكون توبة من الشرك ، وندماً على ما كان منه ، ودخولاً في الإيمان . وقرىء : "ولم يكن" بالياء والتاء ، وحمل { يَنصُرُونَهُ } على المعنى دون اللفظ ، كقوله { فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ } [ آل عمران : 13 ] . فإن قلت : ما معنى قوله : { يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } ؟ قلت : معناه يقدرون على نصرته من دون الله ، أي : هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لصارف وهو استيجابه أن يخذل { وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } وما كان ممتنعاً بقوّته عن انتقام الله .
(4/17)

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{ الولاية } بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر السلطان والملك ، وقد قرىء بهما . والمعنى هنالك ، أي : في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده ، لا يملكها غيره ، ولا يستطيعها أحد سواه ، تقريراً لقوله : { وَلَم يَكُنْ لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } [ الكهف : 43 ] أو : هنالك السلطان والملك لله لا يغلب ولا يمتنع منه . أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطرّ . يعني أنّ قوله { ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا } [ الكهف : 42 ] كلمة ألجيء إليها فقالها جزعاً مما دهاه من شؤم كفره ، ولولا ذلك لم يقلها . ويجوز أن يكون المعنى : هالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ، ويشفي صدورهم من أعدائهم ، يعني : أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن ، وصدّق قوله : { عسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السماء } [ الكهف : 40 ] ويعضده قوله { خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي لأوليائه وقيل { هُنَالِكَ } إشارة إلى الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله ، كقوله { لّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] وقرىء : "الحق" بالرفع والجرّ صفة للولاية والله . وقرأ عمرو بن عبيد بالنصب على التأكيد ، كقولك : هذا عبد الله الحق لا الباطل ، وهي قراءة حسنة فصيحة ، وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم . وقرىء "عقباً" بضم القاف وسكونها ، وعقبى على فعلى ، وكلها بمعنى العاقبة .
(4/18)

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{ فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } فالتفّ بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً . وقيل : نجع في النبات الماء فاختلط به حتى روي ورف رفيفاً ، وكان حق اللفظ على هذا التفسير : فاختلط بنبات الأرض . ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة صاحبه . والهشيم : ما تهشم وتحطم ، الواحدة هشيمة . وقرىء "تذروه الريح" وعن ابن عباس : تذريه الرياح ، من أذرى : شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء ، بحال النبات يكون أخضر وارفاً ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء } من الإنشاء والإفناء { مُّقْتَدِرًا } .
(4/19)

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{ والباقيات; الصالحات } أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وتفنى عنه كل ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا . وقيل : هي الصلوات الخمس ، وقيل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر . وعن قتادة : كل ما أريد به وجه الله { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا } أي ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل؛ لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ، ويصيبه في الآخرة .
(4/20)

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
قرىء : "تسير" من سيرت ، ونسير من سيرنا "وتسير" من سارت ، أي : تسير في الجو . أو يذهب بها ، بأن تجعل هباء منبثاً . وقرىء : "وترَى الأرض" على البناء للمفعول { بَارِزَةً } ليس عليها ما يسيرها مما كان عليها { وحشرناهم } وجمعناهم إلى الموقف . وقرىء : "فلم نغادر" بالنون والياء ، يقال : غادره وأغدره إذا تركه . ومنه الغدر . ترك الوفاء . والغدير : ما غادره السيل . وشبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان { صَفَّا } مصطفين ظاهرين ، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } أي قلنا لهم : لقد جئتمونا . وهذا المضمر هو عامل النصب في يوم نسير . ويجوز أن ينصب بإضمار اذكر . والمعنى لقد بعثناكم كما أنشأناكم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقيل : جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أوّلاً ، كقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى } [ الأنعام : 94 ] . فإن قلت : لم جيء بحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى؟ قلت : للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ، ليعاينوا تلك الأهوال العظائم ، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك { مَّوْعِدًا } وقتاً لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور .
(4/21)

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{ الكتاب } للجنس وهو صحف الأعمال { ياويلتنا } ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات { صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } هنة صغيرة ولا كبيرة ، وهي عبارة عن الإحاطة ، يعني : لا يترك شيئاً من المعاصي إلاّ أحصاه ، أي : أحصاها كلها كما تقول : ما أعطاني قليلاً ولا كثيراً؛ لأن الأشياء إمّا صغار وإمّا كبار . ويجوز أن يريد : وإمّا كان عندهم صغائر وكبائر . وقيل : لم يجتنبوا الكبائر فكتبت عليهم الصغائر وهي المناقشة . وعن ابن عباس : الصغيرة التبسم ، والكبيرة القهقهة . وعن سعيد بن جبير : الصغيرة المسيس ، والكبيرة الزنا . وعن الفضيل : كان إذا قرأها قال : ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر { إِلاَّ أَحْصَاهَا } إلاّ ضبطها وحصرها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا } في الصحف عتيداً . أو جزاء ما عملوا { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } فيكتب عليه ما لم يعمل . أو يزيد في عقاب المستحق ، أو يعذبه بغير جرم ، كما يزعم من ظُلْم الله في تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم .
(4/22)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{ كَانَ مِنَ الجن } كلام مستأنف جار مجرى التقليل بعد استثناء إبليس من الساجدين ، كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد؟ فقيل : كان من الجن { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } والفاء للتسبيب أيضاً ، جعل كونه من الجن سبباً في فسقه؛ لأنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله ، لأنّ الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس ، كما قال : { اَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] وهذا الكلام المعترض تعمد من الله تعالى لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم . فما أبعد البون بين ما تعمده الله ، وبين قول من ضادّه وزعم أنه كان ملكاً ورئيساً على الملائكة ، فعصى ، فلعن ومسخ شيطاناً ، ثم ورّكه على ابن عباس . ومعنى { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } خرج عما أمره به ربه من السجود . قال :
فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا ... أو صار فاسقاً كافراً بسبب أمر ربه الذي هو قوله : { اسجدوا لآدَمَ } . { أَفَتَتَّخِذُونَهُ } الهمزة للإنكار والتعجيب ، كأنه قيل : أعقيب ما وجد منه تتخذونه { وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى } وتستبدلونهم بي ، بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله ، فأطاعه بدل طاعته { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ } وقرىء : "ما أشهدناهم" ، يعني : أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة ، وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية ، فنفى مشاركتهم في الإلهية بقوله : { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض } لأعتضد بهم في خلقها { وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] . { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين } بمعنى وما كنت متخذهم { عَضُداً } أي أعواناً ، فوضع المضلين موضع الضمير ذمّاً لهم بالإضلال ، فإذا لم يكونوا عضداً لي في الخلق ، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟ وقرىء : "وما كُنْتَ" بالفتح : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : وما صحّ لك الاعتضاد بهم ، وما ينبغي لك أن تعتز بهم . وقرأ علي رضي الله عنه : "وما كنت متخذاً المضلين" بالتنوين على الأصل . وقرأ الحسن : "عضدا" بسكون الضاد ، ونقل ضمتها إلى العين . وقرىء : "عُضْداً" بالفتح وسكون الضاد . و "عُضُدا" بضمتين و "عَضَداً" بفتحتين : جمع عاضد ، كخادم وخدم ، وراصد ورصد ، ومن عضده : إذا قواه وأعانه .
(4/23)

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{ يِقُولُ } بالياء والنون . وإضافة الشركاء إليه على زعمهم : توبيخاً لهم وأراد الجنّ والموبق : المهلك ، من وبق يبق وبوقاً ، ووبق يوبق وبقاً : إذا هلك . وأوبقه غيره . ويجوز أن يكون مصدراً كالمورد والموعد ، يعني : وجعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركاً يهلكون فيه جميعاً . وعن الحسن { مَّوْبِقاً } عداوة . والمعنى : عداوة هي في شدتها هلاك ، كقوله لا يكن حبك كلفاً ، ولا بغضك تلفاً . وقال الفراء : البين الوصل أي : وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة . ويجوز أن يريد الملائكة وعزيراً وعيسى ومريم ، وبالموبق : البرزخ البعيد ، أي : وجعلنا بينهم أمداً بعيداً تهلك فيه الأشواط لفرط بعده؛ لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان { فَظَنُّواْ } فأيقنوا { مُّوَاقِعُوهَا } مخالطوها واقعون فيها { مَصْرِفًا } معدلاً . قال :
أَزُهَيْرَ هَلْ عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ ...
(4/24)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحداً بعد واحد ، خصومة ومماراة بالباطل . وانتصاب { جَدَلاً } على التمييز ، يعني : أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء . ونحوه : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [ النحل : 4 ] .
(4/25)

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{ أن } الأولى نصب . والثانية رفع ، وقبلها مضاف محذوف تقديره { وَمَا مَنَعَ الناس } الإيمان والاستغفار { إِلا } انتظار { أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين } وهي الإهلاك { أَوْ } انتظار أن { يَأْتِيهِمُ العذاب } يعني عذاب الآخرة { قُبُلاً } عياناً . وقرىء : "قِبَلا" أنواعاً : جمع قبيل . و "قَبَلا" ، بفتحتين : مستقبلاً .
(4/26)

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{ لِيُدْحِضُواْ } ليزيلوا ويبطلوا ، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وإزالتها عن موطئها { وَمَا أُنْذِرُواْ } يجوز أن تكون { مَا } موصولة ، ويكون الراجع من الصلة محذوفاً ، أي : وما أنذروه من العذاب . أو مصدرية بمعنى : وإنذارهم . وقرىء : "هزأ" ، بالسكون ، أي : اتخذوها موضع استهزاء . وجدالهم : قولهم للرسل : { مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَلَوْ شَاء الله لأَنزَلَ ملائكة } [ المؤمنون : 24 ] وما أشبه ذلك .
(4/27)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
{ بأيات رَبِّهِ } بالقرآن ، ولذلك رجع إليها الضمير مذكراً في قوله : { أَن يَفْقَهُوهُ } . { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر { وَنَسِىَ } عاقبة { مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من الكفر والمعاصي ، غير متفكر فيها ولا ناظر في أنّ المسيء والمحسن لا بدّ لهما من جزاء . ثم علّل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم ، وجمع بعد الافراد حملاً على لفظ من ومعناه { فَلَنْ يَهْتَدُواْ } فلا يكون منهم اهتداء البتة ، كأنه محال منهم لشدّة تصميمهم { أَبَدًا } مدّة التكليف كلها . و { إِذَا } جزاء وجواب ، فدلّ على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول ، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سبباً في انتفائه ، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله : ما لي لا أدعوهم حرصاً على إسلامهم؟ فقيل : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا .
(4/28)

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{ الغفور } البليغ المغفرة { ذُو الرحمة } الموصوف بالرحمة ، ثم استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } وهو يوم بدر { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } منجى ولا ملجأ . يقال : "وأل" إذا نجا ، و "وأل إليه" إذا لجأ إليه .
(4/29)

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{ وَتِلْكَ القرى } يريد قرى الأوّلين من ثمود وقوم لوط وغيرهم : أشار لهم إليها ليعتبروا . { تِلْكَ } مبتدأ ، و { القرى } صفة : لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس ، و { أهلكناهم } خبر . ويجوز أن يكون { تِلْكَ القرى } نصباً بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير . والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم { لَمَّا ظَلَمُواْ } مثل ظلم أهل مكة { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك ووقته . وقرىء : "لمَهلكهم" بفتح الميم ، واللام مفتوحة أو مكسورة ، أي : لهلاكهم أو وقت هلاكهم . والموعد : وقت ، أو مصدر .
(4/30)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{ لفتاه } لعبده . وفي الحديث :
( 643 ) " ليقل أحدكم فتاي وفتاتي " ، ولا يقل : عبدي وأمتي . وقيل : هو يوشع بن نون . وإنما قيل : فتاه؛ لأنه كان يخدمه ويتبعه . وقيل : كان يأخذ منه العلم . فإن قلت : { لا أَبْرَحُ } إن كان بمعنى لا أزول - من برح المكان - فقد دلّ على الإقامة لا على السفر . وإن كان بمعنى : لا أزال ، فلا بدّ من الخبر ، قلت : هو بمعنى لا أزال ، وقد حذف الخبر؛ لأنّ الحال والكلام معاً يدلان عليه . أمّا الحال فلأنها كانت حال سفر . وأمّا الكلام فلأن قوله : { حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } غاية مضروبة وتستدعي ما هي غاية له ، فلا بدّ أن يكون المعنى : لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين . ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى : لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر ، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم ، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم ، وهو وجه لطيف . ويجوز أن يكون . المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى : ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ ، كما تقول : لا أبرح المكان . ومجمع البحرين : المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام ، وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق . وقيل : طنجة . وقيل : أفريقية . ومن بدع التفاسير : أن البحرين موسى والخضر ، لأنهما كانا بحرين في العلم . وقرىء : "مجمع" بكسر الميم ، وهي في الشذوذ من يفعل ، كالمشرق والمطلع من يفعل { أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً } أو أسير زماناً طويلاً . والحقب ثمانون سنة . وروي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقرّوا بها بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكر قومه النعمة ، فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله وقال : إنه اصطفى نبيكم وكلمه . فقالوا له : قد علمنا هذا ، فأي الناس أعلم؟ قال : أنا . فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إلى الله ، فأوحى إليه : بل أعلم منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخضر ، وكان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام ، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر ، وبقي إلى أيام موسى . وقيل : إنّ موسى سأل ربه : أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني . قال : فأيّ عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال : فأيّ عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى ، أو تردّه عن ردى . فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه . قال : أعلم منك الخضر . قال : أين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة .
(4/31)

قال : يا ربِ ، كيف لي به؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل ، فحيث فقدته فهو هناك . فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان ، فرقد موسى ، فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت ، فأخبره فتاه بوقوعه في البحر ، فأتيا الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوبه ، فسلم عليه موسى ، فقال : وأني بأرضنا السلام ، فعرّفه نفسه ، فقال : يا موسى ، أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا . فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر : ما ينقص علمي وعلمك من علم الله [ إلا ] مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي نسيا تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة . وقيل : نسي يوشع أن يقدّمه ، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء . وقيل : كان الحوت سمكة مملوحة . وقيل : إن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل ، فنزلا ليلة على شاطىء عين تسمى عين الحياة ، ونام موسى ، فلما أصاب السمكة برد الماء وروحه عاشت . وروي : أنهما أكلا منها . وقيل : توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء { سَرَباً } أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق ، وحصل منه في مثل السرب معجزة لموسى أو للخضر { فَلَمَّا جَاوَزَا } الموعد وهو الصخرة لنسيان موسى تفقد أمر الحوت وما كان منه . ونسيان يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من حياته ووقوعه في البحر . وقيل : سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر ، وألقي على موسى النصب والجوع حين جاوز الموعد ، ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك ، فتذكر الحوت وطلبه . وقوله : { مِن سَفَرِنَا هذا } إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة . فإن قلت : كيف نسي يوشع ذلك ، ومثله لا ينسى لكونه أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها لكونه معجزتين ثنتين : وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها - وقيل : ما كانت إلاّ شق سمكة - وقياء الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه؟ ثم كيف استمرّ به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد ، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت؟ قلت : قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب حتى اعتراه النسيان وانضم إلى ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى عليه السلام من العجائب ، واستأنس بإخوانه فأعان الإلف على قلة الاهتمام { أَرَأَيْتَ } بمعنى أخبرني . فإن قلت : ما وجه التئام هذا الكلام ، فإن كل واحد من { أَرَأَيْتَ } و { إِذْ أَوَيْنَا } و { فَإِنّى نَسِيتُ الحوت } لا متعلق له؟ قلت : لما طلب موسى عليه السلام الحوت ، ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية ، فدهش وطفق يسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك ، كأنه قال : أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإني نسيت الحوت ، فحذف ذلك .
(4/32)

وقيل : هي الصخرة التي دون نهر الزيت . و { أَنْ أَذْكُرَهُ } بدل من الهاء في { أَنْسَانِيهُ } أي : وما أنساني ذكره إلاّ الشيطان . وفي قراءة عبد الله : "أن اذكركه" و { عَجَبًا } ثاني مفعولي اتخذ ، مثل { سَرَباً } يعني : واتخذ سبيله سبيلاً عجباً ، وهو كونه شبيه السرب . أو قال : عجباً في آخر كلامه ، تعجباً من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها أو مما رأى من المعجزتين ، وقوله : { أنسانيه إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وقيل : إن { عَجَبًا } حكاية لتعجب موسى عليه السلام ، وليس بذاك { ذلك } إشارة إلى اتخاذه سبيلاً ، أي : ذلك الذي كنا نطلب ، لأنه أمارة الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام . وقرىء : "نبغ" لغير ياء في الوصل ، وإثباتها أحسن ، وهي قراءة أبي عمرو ، وأمّا الوقف ، فالأكثر فيه طرح الياء اتباعاً لخط المصحف { فارتدا } فرجعا في أدراجهما { قَصَصًا } يقصان قصصاً ، أي : يتبعان آثارهما اتباعاً . أو فارتدّا مقتصين { رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } هي الوحي والنبوة { مّن لَّدُنَّا } مما يختص بنا من العلم ، وهو الإخبار عن الغيوب .
(4/33)

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{ رَشَدًا } قرىء : "بفتحتين" و "بضمة وسكون" أي : علما ذا رشد ، أرشد به في ديني . فإن قلت : أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه - كما قيل - موسى بن ميشا ، لا موسى بن عمران لأنّ النبي يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟ قلت : لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبيّ مثله : وإنما يغض منه أن يأخذه ممن دونه . وعن سعيد ابن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى ، وأنّ موسى هو موسى بن ميشا ، فقال : كذب عدوّ الله .
(4/34)

قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
نفي استطاعة الصبر على وجه التأكيد ، كأنهما مما لا يصحّ ولا يستقيم ، وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها مناكير . والرجل الصالح فكيف إذا كان نبياً لا يتمالك أن يشمئز ويمتعض ويجزع إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار . و { خُبْراً } تمييز ، أي : لم يحط به خبرك [ أو لأن لم تحط به ] بمعنى لم تخبره ، فنصبه نصب المصدر .
(4/35)

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
{ وَلاَ أَعْصِى } في محل النصب عطفاً على { صَابِراً } أي : ستجدني صابراً وغير عاص . أو لا في محل ، عطفاً على ستجدني . رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده ، أن يستطيع معه صبراً بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر ، فوعده بالصبر معلقاً بمشيئة الله ، علماً منه بشدّة الأمر وصعوبته ، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق ، هذا مع علمه أن النبيّ المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه ، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين ، وأنه لا بدّ لما يستسمج ظاهره من باطن حسن جميل ، فكيف إذا لم يعلم .
(4/36)

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
قرىء : "فلا تسئلني" بالنون الثقيلة ، يعني : فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت مني شيئاً - وقد علمت أنه صحيح إلاّ أنه غبي عليك وجه صحته فحميت وأنكرت في نفسك - أن لا تفاتحني بالسؤال ، ولا تراجعني فيه ، حتى أكون أنا الفاتح عليك . وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع .
(4/37)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
{ فانطلقا } على ساحل البحر يطلبان السفينة ، فلما ركبا قال أهلها : هما من اللصوص ، وأمروهما بالخروج ، فقال صاحب السفينة : أرى وجوه الأنبياء . وقيل : عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول ، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسدّ الخرق بثيابه ويقول : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } وقرىء : "لتغرّق" بالتشديد و "ليغرق أهلها" من غرق وأهلها مرفوع { جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } أتيت شيئاً عظيماً ، من أَمر الأمر : إذا عظم ، قال :
دَاهِيةً دَهْيَاءَ إدًّا إمْراً ...
(4/38)

قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
{ بِمَا نَسِيتُ } بالذي نسيته ، أو بشيء نسيته ، أو بنسياني : أراد أنه نسي وصيته و لا مؤاخذة على الناسي . أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان يوهمه أنه قد نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب ، مع التوصل إلى الغرض ، كقول إبراهيم : هذه أختي ، وإني سقيم . أو أراد بالنسيان : الترك ، أي : لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرّة . يقال : رهقه إذا غشيه ، وأرهقه إياه . أي : ولا تغشني { عُسْراً } من أمري ، وهو اتباعه إياه ، يعني : ولا تعسر عليَّ متابعتك ، ويسرها عليّ بالإغضاء وترك المناقشة . وقرىء : "عُسُراً" ، بضمتين .
(4/39)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
{ فَقَتَلَهُ } قيل : كان قتله فتل عنقه . وقيل : ضرب برأسه الحائط ، وعن سعيد بن جبير : أضجعه ثم ذبحه بالسكين . فإن قلت : لم قيل { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا } بغير فاء و { حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ } قلت : جعل خرقها جزاء للشرط ، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه ، والجزاء { قَالَ أَقَتَلْتَ } . فإن قلت : فلم خولف بينهما؟ قلت : لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب ، وقد تعقّب القتل لقاء الغلام . وقرىء : "زاكية" و "زكية" ، وهي الطاهرة من الذنوب ، إما لأنها ظاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت ، وإما لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث { بِغَيْرِ نَفْسٍ } يعني لم تقتل نفساً فيقتص منها . وعن ابن عباس :
( 644 ) أن نجدة الحروري كتب إليه : كيف جاز قتله ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه : إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل { نُّكْراً } . وقرىء : "بضمتين" وهو المنكر وقيل النكر أقل من الإمر؛ لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة . وقيل : معناه جئت شيئاً أنكر من الأوّل ، لأن ذلك كان خرقاً يمكن تداركه بالسدّ ، وهذا لا سبيل إلى تداركه . فإن قلت : ما معنى زيادة { لَكَ } ؟ قلت : زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية ، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية .
(4/40)

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{ بَعْدَهَا } بعد هذه الكرة أو المسألة { فَلاَ تُصَاحِبْنِى } فلا تقاربني ، وإن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك . وقرىء : "فلا تصحبني" فلا تكن صاحبي . وقرىء : "فلا تصحبني" أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك { مِن لَّدُنّى عُذْراً } قد أعذرت . وقرىء : "لدني" ، بتخفيف النون "ولدْنِي" بسكون الدال وكسر النون ، كقولهم في عضد : عضد . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 645 ) " رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك " ، وقال :
( 646 ) " رحمة الله علينا وعلى أخي موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب " .
(4/41)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{ أَهْلَ قََرْيَةٍ } هي إنطاكية . وقيل : الأبلة ، وهي أبعد أرض الله من السماء { أَن يُضَيّفُوهُمَا } . وقرىء : "يضيفوهما" يقال : ضافه إذا كان له ضيفاً . وحقيقته : مال إليه ، من ضاف السهم عن الغرض ، ونظيره : زاره من الازورار . وأضافه وضيفه : أنزله وجعله ضيفه وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 647 ) " كانوا أهل قرية لئاماً " وقيل : شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حقه { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة ، كما استعير الهمّ والعزم لذلك . قال الراعي :
فِي مَهْمَهٍ قَلِقَتْ بِهِ هَامَاتُهَا ... قَلَقَ الْفُئُوسِ إذَا أَرَدْنَ نُصُولاَ
وقال :
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاء ... وَيَعْدِلُ عَنْ دِمَارِ بَنِي عَقِيلٍ
وقال حسان :
إنَّ دَهْراً يَلِفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ ... لَزَمَانٌ يَهُمُّ بِالإحْسَانِ
وسمعت من يقول : عزم السراج أن يطفأ ، وطلب أن يطفأ . وإذا كان القول والنطق والشكاية والصدق والكذب والسكوت والتمرد والإباء والعزة والطواعية وغير ذلك مستعار للجماد ولما لا يعقل ، فما بال الإرادة؟ قال :
إذَا قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ ... تَقُولُ سِنِّي لِلنَّوَاةِ طِنِّي ... لاَ يَنْطقُ اللَّهْوُ حَتَّى يَنْطِقَ العُودُ ... وَشَكا إلَيَّ بَعْبرَةٍ وَتَحَمْحُم ... ِ فَإنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقاً وَهْوَ صَادِقِي ... { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } [ الأعراف : 154 ] :
تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الأَبْلَقُ ... ولبعضهم :
يَأْبَى عَلَى أَجْفَانِهِ إغْفَاءَه ... هَمٌّ إذَا انْقَادِ الْهُمُومُ تَمَرَّدَا
أَبَتِ الرَّوَادِفُ وَالثُّدِيُّ لِقُمْصِهَا ... مَسَّ الْبُطُونِ وَأَنْ تَمَسَّ ظُهُورَا
{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم ، كان يجعل الضمير للخضر؛ لأنّ ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم ، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليردّه إلى ما هو عنده أصحّ وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز . وانقض : إذا أسرع سقوطه ، من انقضاض الطائر وهو انفعل ، مطاوع قضضته . وقيل : افعلّ من النقض ، كاحمرّ من الحمرة . وقرىء : "أن ينقض" من النقض ، "وأن ينقاص" من انقاصت السن إذا انشقت طولاً ، قال ذو الرمّة :
. . . . . . . . . مِنْقَاصٌ وَمُنْكَثِبُ ... بالصاد غير معجمة { فَأَقَامَهُ } قيل : أقامه بيده . وقيل : مسحه بيده فقام واستوى . وقيل : أقامه بعمود عمده به . وقيل : نقضه وبناه . وقيل : كان طول الجدار في السماء مائة ذراع ، كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم ، ولقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة ، فلم يجدا مواسياً ، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } وطلبت على عملك جعلاً حتى ننتعش ونستدفع به الضرورة وقرىء : "لتخذت" ، والتاء في تخذ ، أصل كما في تبع ، واتخذ افتعل منه ، كاتبع من تبع ، وليس من الأخذ في شيء .
(4/42)

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
فإن قلت : { هذا } إشارة إلى ماذا؟ قلت : قد تصوّر فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه ، كما تقول : هذا أخوك ، فلا يكون "هذا" إشارة إلى غير الأخ ، ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث ، أي : هذا الاعتراض سبب الفراق ، والأصل : هذا فراق بيني وبينك . وقد قرأ به ابن أبي عبلة ، فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به .
(4/43)

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{ لمساكين } قيل كانت لعشرة إخوة ، خمسة منهم زمنى ، وخمسة يعملون في البحر { وَرَاءهُم } أمامهم ، كقوله تعالى : { مّن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } [ المؤمنون : 100 ] وقيل : خلفهم ، وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره ، فأعلم الله به الخضر وهو "جلندي" . فإن قلت : قوله : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب ، فلم قدّم عليه؟ قلت : النية به التأخير ، وإنما قدم للعناية ، ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها للمساكين ، فكان بمنزلة قولك : زيد ظني مقيم . وقيل في قراءة أبيّ وعبد الله : كل سفينة صالحة .
(4/44)

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
وقرأ الجحدري : "وكان أبواه مؤمنان" على أن "كان" فيه ضمير الشأن { فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْراً } فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغياناً عليهما ، وكفراً لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ، ويلحق بهما شراً وبلاء ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر . أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدّا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان وإنما خشي الخضر منه ذلك؛ لأن الله تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سرّ أمره . وأمره إياه بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته . وفي قراءة أبيّ : "فخاف ربك" والمعنى : فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره . ويجوز أن يكون قوله { فَخَشِينَا } حكاية لقول الله تعالى ، بمعنى : فكرهنا ، كقوله { لأهَبَ لَكِ } [ مريم : 19 ] . وقرىء : "يبدّلهما" بالتشديد . والزكاة : الطهارة والنقاء من الذنوب . والرحم : الرحمة والعطف . وروي أنه ولدت لهما جارية نزوّجها نبيّ ، فولدت نبياً هدى الله على يديه أمّة من الأمم . وقيل ولدت سبعين نبياً . وقيل : أبدلهما ابناً مؤمناً مثلهما . قيل اسما الغلامين : أصرم ، وصريم . والغلام المقتول : اسمه الحسين . واختلف في الكنز ، فقيل : مال مدفون من ذهب وفضة . وقيل : لوح من ذهب مكتوب فيه :
( 648 ) ( عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل . وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها . لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ) . وقيل : صحف فيها علم . والظاهر لإطلاقه : أنه مال . وعن قتادة : أحل الكنز لمن قبلنا وحرّم علينا ، وحرّمت الغنيمة عليهم وأحّلت لنا : أراد قوله تعالى : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] . { وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا } اعتداد بصلاح أبيهما وحفظ لحقه فيهما . وعن جعفر بن محمد الصادق : كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء . وعن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ الله الغلامين؟ قال : بصلاح أبيهما . قال : فأبي وجدّي خير منه . فقال : قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون { رَحْمَةً } مفعول له . أو مصدر منصوب بأراد ربك ، لأنه في معنى رحمهما { وَمَا فَعَلْتُهُ } وما فعلت ما رأيت { عَنْ أَمْرِى } عن اجتهادي ورأيي ، وإنما فعلته بأمر الله .
(4/45)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
ذو القرنين : هو الإسكندر الذي ملك الدنيا . قيل : ملكها مؤمنان : ذو القرنين ، وسليمان . وكافران : نمروذ ، وبختنصر ، وكان بعد نمرود . واختلف فيه فقيل : كان عبداً صالحاً ملكه الله الأرض ، وأعطاه العلم والحكمة ، وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه . وقيل : نبياً . وقيل : ملكاً من الملائكة . وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول : يا ذا القرنين ، فقال : اللَّهم غفراً ما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة ، وعن علي رضي الله عنه . سخر له السحاب ، ومدّت له الأسباب ، وبسط له النور وسئل عنه فقال : أحبه الله فأحبه . وسأله ابن الكوّا : ما ذو القرنين أملك أم نبيّ؟ فقال : ليس بملك ولا نبيّ ، ولكن كان عبداً صالحاً ، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات ، فبعثه الله فسمي ذو القرنين وفيكم مثله . قيل : كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 649 ) " سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها " وقيل : كان له قرنان ، أي ضفيرتان . وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس . وعن وهب : لأنه ملك الروم وفارس . وروي : الروم والترك . وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس . وقيل : كان لتاجه قرنان . وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين . ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً لأنه ينطح أقرانه ، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره . والسائلون : هم اليهود سألوه على جهة الامتحان . وقيل : سأله أبو جهل وأشياعه ، والخطاب في { عَلَيْكُمْ } لأحد الفريقين { مِن كُلّ شَىْء } أي من أسباب كل شيء ، أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه { سَبَباً } طريقاً موصلاً إليه ، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، فأراد بلوغ المغرب { فَأَتْبَعَ سَبَباً } يوصله إليه حتى بلغ ، وكذلك أراد المشرق ، فأتبع سبباً ، وأراد بلوغ السدّين فاتبع سبباً . وقرىء : "فأتبع" قرىء : "حمئة" ، من حمئت البئر إذا صار فيها الحمأة . وحامية بمعنى حارّة . وعن أبي ذرّ :
( 650 ) كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجمل ، فرأى الشمس حين غابت فقال : ( يا أبا ذرّ ، أتدري أين تغرب هذه؟ ) فقلت : الله ورسوله أعلم . قال ( فإنها تغرب في عين حامية ) ، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عمر وابن عمرو والحسن . وقرأ ابن عباس : حمئة . وكان ابن عباس عند معاوية؛ فقرأ معاوية : حامية فقال ابن عباس : حمئة . فقال معاوية لعبد الله بن عمرو : كيف تقرأ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار .
(4/46)

كيف تجد الشمس تغرب؟ قال : في ماء وطين ، كذلك نجده في التوراة . وروي : في ثأط ، فوافق قول ابن عباس ، وكان ثمة رجل فأنشد قول تبع :
فَرَأَى مَغِيبَ الشّمْسِ عِنْدَ مَآبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَاطٍ حَرْمَدِ
أي في عين ماء ذي طين وحمإ أسود ، ولا تنافي بين الحمئة والحامية ، فجائز أن تكون العين جامعه للوصفين جميعاً . كانوا كفرة فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإسلام ، فاختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم فقال : أمّا من دعوته فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم الذي هو الشرك : فذلك هو المعذب في الدارين { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ } ما يقتضيه الإيمان { فَلَهُ جَزآءً
1649;لحسنى } وقيل : خيّره بين القتل والأسر ، وسماه إحساناً في مقابلة القتل { فَلَهُ جَزآءً الحسنى } فله أن يجازي المثوبة الحسنى . أو فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة . وقرىء : "فله جزاء الحسنى" أي : فله الفعلة الحسنى جزاء . وعن قتادة : كان يطبخ من كفر في القدور ، وهو العذاب النكر . ومن آمن أعطاه وكساه { مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } أي لا نأمره بالصعب الشاق ، ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك ، وتقديره : ذا يسر ، كقوله : { قَوْلاً مَّيْسُورًا } [ الإسراء : 28 ] وقرىء : "يُسُراً" ، بضمتين .
(4/47)

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
وقرىء : "مطلع" فتح اللام وهو مصدر . والمعنى : بلغ مكان مطلع الشمس ، كقوله :
كَأَنَّ مَجَرَّ الرَّامِسَاتِ ذُيُولَهَا ... يريد : كأن آثار مجرّ الرامسات { على قَوْمٍ } قيل : هم الزنج . والستر : الأبنية ، وعن كعب : أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب ، فإذا طلعت الشمس دخلوها . فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم ، وعن بعضهم : خرجت حتى جاوزت الصين ، فسألت عن هؤلاء فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة ، فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى ، ومعي صاحب يعرف لسانهم فقالوا له : جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال : فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصة فغشي عليّ ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن ، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت ، فأدخلوها سرباً لهم ، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم . وقيل : الستر اللباس . وعن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض { كذلك } أي أمر ذي القرنين كذلك ، أي كما وصفناه تعظيماً لأمره { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ } من الجنود والآلات وأسباب الملك { خُبْراً } تكثيراً لذلك . وقيل : لم نجعل لهم من دونها ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس ، والثياب من كل صنف . وقيل : بلغ مطلع الشمس مثل ذلك ، أي : كما بلغ مغربها . وقيل : تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم ، يعني أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر ، وإحسانه إلى من آمن منهم .
(4/48)

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } بين الجبلين وهما جبلان سدّ ذو القرنين مما بينهما . قرىء : "بالضم والفتح" . وقيل : ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم ، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح؛ لأنّ السدّ بالضم فعل بمعنى مفعول ، أي : هو مما فعله الله تعالى وخلقه . والسدّ - بالفتح - : مصدر حدث يحدثه الناس . وانتصب { بَيْنَ } على أنه مفعول به مبلوغ ، كما انجر على الإضافة في قوله : { هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] وكما ارتفع في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفاً ، وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق { مِن دُونِهِمَا قَوْماً } هم الترك { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } لا يكادون يفهمونه إلاّ بجهد ومشقّة من إشارة ونحوها كما يفهم إلبكم وقرىء : "يفقهون" أي لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه ، لأنّ لغتهم غريبة مجهولة .
(4/49)

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } اسمان أعجميان بدليل منع الصرف . وقرىء : "مهموزين" . وقرأ رؤبة : "آجوج وماجوج" ، وهما من ولد يافث . وقيل : يأجوج من الترك ، ومأجوج من الجيل والديلم . { مُفْسِدُونَ فِى الأرض } قيل : كانوا يأكلون الناس ، وقيل : كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلاّ أكلوه ، ولا يابساً إلاّ احتملوه ، وكانوا يلقون منهم قتلاً وأذى شديداً .
( 651 ) وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صفتهم : " لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح " وقيل : هم على صنفين ، طوال مفرطو الطول ، وقصار مفرطو القصر . وقرىء : "خرجاً" و "خراجا" ، أي جعلاً نخرجه من أموالنا : ونظيرهما : النول والنوال . وقرىء : "سدا" و "سدا" ، بالفتح والضم .
(4/50)

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ } ما جعلني فيه مكيناً من كثرة المال واليسار ، خير مما تبذلون لي من الخراج ، فلا حاجة بي إليه ، كما قال سليمان صلوات الله عليه : { فَمَا ءاتانى الله خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم } [ النمل : 36 ] . قرىء : بالإدغام وبفكه . { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ } بفعله وصناع يحسنون البناء والعمل ، وبالآلات { رَدْمًا } حاجزاً حصيناً موثقاً . والردم أكبر من السدّ ، من قولهم : ثوب مردم ، رقاع فوق رقاع . وقيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد ، بينهما الحطب والفحم حتى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار ، صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمي فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً . وقيل : بعد ما بين السدّين مائة فرسخ . وقرىء : "سوّى" ، و "سووى" . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 652 ) أنّ رجلاً أخبره به فقال : كيف رأيته؟ قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء . قال : "قد رأيته" والصدفان - بفتحتين - : جانبا الجبلين ، لأنهما يتصادقان أي : يتقابلان ، وقرىء : "الصدفين" بضمتين . و "الصدفين" بضمة وسكون . "الصدفين" بفتحة وضمة . والقطر ، النحاس المذاب لأنه يقطر و { قِطراً } منصوب بأفرغ وتقديره آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه . وقرىء : "قال ائتوني" ، أي جيئوني { فَمَا اسطاعوا } بحذف التاء للخفة؛ لأنّ التاء قريبة المخرج من الطاء . وقرىء : "فما اصطاعوا" ، بقلب السين صادا . وأما من قرأ بإدغام التاء في الطاء ، فملاق بين ساكنين على غير الحدّ { أَن يَظْهَرُوهُ } أي يعلوه ، أي : لا حيلة لهم فيه من صعود . لارتفاعه وانملاسه ، ولا نقب لصلابته وثخانته .
(4/51)

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{ هذا } إشارة إلى السدّ أي : هذا السد نعمة من الله و { رَحْمَةً } على عباده . أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى } يعني فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد { دَكّاً } أي مدكوكاً مبسوطاً مستوي بالأرض ، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك . ومنه : الجمل الأدك : المنبسط السنام . وقرىء : "دكاء" بالمد : أي أرضاً مستوية { وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً } آخر حكاية قول ذي القرنين .
(4/52)

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{ وَتَرَكْنَا } وجعلنا { بَعْضُهُمْ } بعض الخلق { يَمُوجُ فِى بَعْضٍ } أي يضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى . ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج ، وأنهم يموجون حين يخرجون من وراء السدّ مزدحمين في البلاد . وروي : يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر ، ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ، ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ، ثم يبعث الله نغفاً في أقفائهم فيدخل في آذانهم فيموتون .
(4/53)

وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
{ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ } وبرّزناها لهم فرأوها وشاهدوها { عَن ذِكْرِى } عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم . أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها ، ونحوه { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [ البقرة : 18 ] . { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } يعني وكانوا صماً عنه ، إلاّ أنه أبلغ؛ لأنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع .
(4/54)

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء } هم الملائكة ، يعني : أنهم لا يكونون لهم أولياء ، كما حكى عنهم { سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } [ سبأ : 41 ] . وقرأ ابن مسعود : "أفظن الذين كفروا" ، وقراءة علي رضي الله عنه أفحسب الذين كفروا ، أي : أفاكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر . أو على الفعل والفاعل؛ لأنّ اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل ، كقولك : أقائم الزيدان . والمعنى أنّ ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا . وهي قراءة محكمة جيدة النزل : ما يقام للنزيل وهو الضيف ، ونحوه { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] .
(4/55)

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
{ ضَلَّ سَعْيُهُمْ } ضاع وبطل وهم الرهبان . عن علي رضي الله عنه ، كقوله : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَة } [ الغاشية : 3 ] وعن مجاهد : أهل الكتاب . وعن علي رضي الله عنه : أنّ ابن الكوّا سأله عنهم؟ فقال : منهم أهل حروراء . وعن أبي سعيد الخدري : يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئاً { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار . وقيل : لا يقام لهم ميزان؛ لأنّ الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين . وقرىء : "فلا يقيم" ، بالياء . فإن قلت : الذين ضلّ سعيهم في أي محلّ هو؟ قلت : الأوجه أن يكون في محل الرفع ، على : هم الذين ضلّ سعيهم؛ لأنه جواب عن السؤال . ويجوز أن يكون نصباً على الذمّ ، أو جرّ على البدل { جَهَنَّمَ } عطف بيان لقوله : { جَزَآؤُهُمْ } .
(4/56)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
الحول : التحوّل . يقال : حال من مكانه حولاً ، كقولك : عادني حبها عوداً ، يعني : لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم . وهذه غاية الوصف؛ لأن الإنسان في الدنيا في أيّ نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه . ويجوز أن يراد نفي التحوّل وتأكيد الخلود .
(4/57)

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
المداد : اسم ما تمدّ به الدواة من الحبر وما يمدّ به السراج من السليط . ويقال : السماد مداد الأرض . والمعنى : لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها ، والمراد بالبحر الجنس { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ } الكلمات { وَلَوْ جِئْنَا } بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً . والكلمات غير نافدة . و { مِدَاداً } تمييز ، كقولك : لي مثله رجلاً . والمدد مثل المداد ، وهو ما يمدّ به . وعن ابن عباس رضي الله عنه : بمثله مداداً . وقرأ الأعرج : مدداً ، بكسر الميم جمع مدّة ، وهي ما يستمده الكاتب فيكتب به . وقرىء : "ينفد" بالياء . وقيل : قال حييّ بن أخطب : في كتابكم { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 269 ] ثم تقرءون : { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] فنزلت ، يعني : أنّ ذلك خير كثير ، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله .
(4/58)

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } فمن كان يؤمل حسن لقاء ربه ، وأن يلقاه لقاء رضا وقبول . وقد فسرنا اللقاء . أو : أفمن كان يخاف سوء لقائه . والمراد بالنهي عن الإشراك بالعبادة : أن لا يرائي بعمله ، وأن لا يبتغي به إلاّ وجه ربه خالصاً لا يخلط به غيره . وقيل :
( 653 ) نزلت في جندب بن زهير ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أعمل العمل لله ، فإذا اطلع عليه سرّني ، فقال : ( إنّ الله لا يقبل ما شورك فيه ) .
( 654 ) وروي أنه قال : " لك أجران : أجر السر ، وأجر العلانية " وذلك إذا قصد أن يقتدى به . وعنه صلى الله عليه وسلم :
( 655 ) " اتقوا الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : "الرياء" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 656 ) " من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه ، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء " وعنه صلى الله عليه وسلم :
( 657 ) " من قرأ عند مضجعه : { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } كان له من مضجعه نوراً يتلألأ إلى مكة ، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم ، وإن كان مضجعه بمكة كان له نوراً يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ " والله أعلم .
(4/59)

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
{ كهيعص } قرأ بفتح الهاء وكسر الياء حمزة ، وبكسرهما عاصم ، وبضمهما الحسن . وقرأ الحسن "ذَكَّرَ رَحمَةَ رَبِّكَ" أي : هذا المتلوّ من القرآن ذَكَّرَ رحمةَ ربكَ وقرىء : "ذَكَّرْ" على الأمر . راعى سنة الله في إخفاء دعوته ، لأنّ الجهر والإخفاء عند الله سيان ، فكان الإخفاء أولى ، لأنه أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص . وعن الحسن نداء لا رياء فيه ، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في إبَّان الكبرة والشيخوخة . أو أسره من مواليه الذين خافهم . أو خفت صوته لضعفه وهرمه ، كما جاء في صفة الشيخ : صوته خفات ، وسمعه تارات . واختلف في سنّ زكريا عليه السلام ، فقيل : ستون ، وخمس وستون ، وسبعون ، وخمس وسبعون ، وخمس وثمانون .
(4/60)

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
قرىء "وهن" بالحركات الثلاث ، وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن . ووحَّده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية ، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ، ولو جمع لكان قصداً إلى معنى آخر ، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها [ واشتعل الرأس شيبا ] . إدغام السين في الشين عن أبي عمرو . شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ ، باشتعال النار؛ ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس . وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس : اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا ، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة . توسل إلى الله بما سلف له [ معه ] من الاستجابة . وعن بعضهم أن محتاجاً سأله وقال : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا . فقال : مرحباً بمن توسل بنا إلينا ، وقضى حاجته .
(4/61)

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
كان مواليه - وهم عصبته إخوته وبنو عمه - شرار بني إسرائيل ، فخافهم على الدين أن يغيروه ويبدّلوه ، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته ، فطلب عقباً من صلبه صالحاً يقتدى به في إحياء الدين ويرتسم مراسمه فيه : { مِن وَرَائِى } بعد موتي . وقرأ ابن كثير : "من وراي" بالقصر ، وهذا الظرف لا يتعلق ب ( خفت ) لفساد المعنى ، ولكن بمحذوف . أو بمعنى الولاية في الموالي : أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي . أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي . وقرأ عثمان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله عنهم "خَفَّتِ الموالي من ورائي" وهذا على معنيين ، أحدهما : أن يكون { وَرَائِى } بمعنى خلفي وبعدي ، فيتعلق الظرف بالموالي : أي قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين ، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بوليّ يرزقه . والثاني : أن يكون بمعنى قدامي ، فيتعلق بخفت ، ويريد أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد { مِن لَّدُنْكَ } تأكيد لكونه ولياً مرضياً ، بكونه مضافاً إلى الله تعالى وصادرا من عنده ، وإلا - فهب لي ولياً يرثني - كاف ، أو أراد اختراعاً منك بلا سبب لأني وامرأتي لا نصلح للولادة { يَرِثُنِى وَيَرِثُ } الجزم جواب الدعاء ، والرفع صفة . ونحوه : { رِدْءاً يُصَدّقُنِى } [ القصص : 34 ] وعن ابن عباس والجحدري : يرثني وأرث آل يعقوب ، نصب على الحال . وعن الجحدري : أُويرث ، على تصغير وأرث ، وقال غليم صغير . وعن علي رضي الله عنه وجماعة : وارث من آل يعقوب : أي يرثني به وارث ، ويسمى التجريد في علم البيان ، والمراد بالإرث إرث الشرع والعلم ، لأنّ الأنبياء لا تورّث المال . وقيل : يرثني الحبورة وكان حبراً ، ويرث من آل يعقوب الملك . يقال : ورثته وورثت منه لغتان . وقيل "من" للتبعيض لا للتعدية ، لأنّ آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء ، وكان زكريا عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق . وقيل : هو يعقوب بن ماتان أخو زكريا . وقيل : يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود .
(4/62)

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
{ سَمِيّاً } لم يسمّ أحد ب ( يحيى ) قبله ، وهذا شاهد على أنّ الأسامي السنع جديرة بالأثرة ، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز ، حتى قال القائل في مدح قوم :
سُنْعُ الأَسَامِي مُسْبِلِي أُزُرٍ ... حُمْرٍ تَمَسُّ الأَرْضَ بِالْهدْبِ
وقال رؤبة للنسابة البكري - وقد سأله عن نسبه - : أنا ابن العجاج؛ فقال : قصرت وعرفت . وقيل : مثلاً وشبيها عن مجاهد ، كقوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] وإنما قيل للمثل "سَميّ" لأنّ كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير ، فكل واحد منهما سميّ لصاحبه ، ونحو : "يحيى" في أسمائهم "يعمر ، ويعيش" إن كانت التسمية عربية؛ وقد سموا بيموت أيضاً وهو يموت ابن المزرَّع ، قالوا : لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر ، وأنه كان حصوراً .
(4/63)

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
أي كانت على صفة العقر حين أنا شاب وكهل ، فما رزقت الولد لاختلال أحد السببين ، أفحين اختل السببان جميعاً أُرزقه؟ فإن قلت : لم طلب أولاً وهو وامرأته على صفة العتيّ والعقر ، فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت : ليجاب بما أجيب به ، فيزداد المؤمنون إيقاناً ويرتدع المبطلون ، وإلا فمعتقد زكريا أولاً وآخراً كان على منهاج واحد : في أنّ الله غني عن الأسباب ، أي بلغت عتياً : وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل يقال : عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية . أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتياً . وقرأ ابن وثاب وحمزة والكسائي بكسر العين ، وكذلك { صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] وابن مسعود بفتحهما فيهما . وقرأ أبيّ ومجاهد "عُسِيًّا" .
(4/64)

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
{ كذلك } الكاف رفع ، أي الأمر كذلك تصديق له ، ثم ابتدأ { قَالَ رَبُّكَ } أو نصب بقال ، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } ونحوه : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] وقرأ الحسن "وهو علي هين" ، ولا يخرج هذا إلا على الوجه الأول : أي الأمر كما قلت ، وهو على ذلك يهون علي . ووجه آخر : وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله ، لا إلى قول زكريا . و"قال" محذوف في كلتا القراءتين : أي قال هو عليّ هين قال وهو عليّ هين ، وإن شئت لم تنوه ، لأن الله هو المخاطب ، والمعنى : أنه قال ذلك ووعده وقوله الحق { وقد خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } لأن المعدوم ليس بشيء . أو شيئاً يعتد به ، كقولهم : عجبت من لا شيء ، وقوله :
إذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلاً ... وقرأ الأعمش والكسائي وابن وثّاب "خلقناك" .
(4/65)

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
أي اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به . قال : علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه ، وأنت سليم الجوارح سويّ الخلق ما بك خرس ولا بكم . دل ذكر الليالي هنا ، والأيام في آل عمران ، على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن .
(4/66)

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
أوحى : أشار عن مجاهد ، ويشهد له { إِلاَّ رَمْزًا } [ آل عمران : 41 ] وعن ابن عباس : كتب لهم على الأرض { سَبّحُواْ } صلوا ، أو على الظاهر ، وأَنْ : هي المفسرة .
(4/67)

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
أي خذ التوراة بجد واستظهار بالتوفيق والتأييد ( الحكم ) الحكمة . ومنه :
وَآحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ ... يقال حكم حكماً كحلم [ حلماً ] ، وهو الفهم للتوراة والفقه في الدين عن ابن عباس . وقيل : دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي فقال : ما للعب خلقنا ، عن الضحاك . وعن معمر : العقل ، وقيل النبوّة ، لأنّ الله [ تعالى ] أحكم عقله في صباه وأوحى إليه .
(4/68)

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
{ حنانا } رحمة لأبويه وغيرهما ، وتعطفاً وشفقة . أنشد سيبويه :
وَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتَى بِكَ ههُنَا ... أَذُو نَسَبٍ أَمْ أَنْتَ بِالحَيِّ عَارِفُ
وقيل : حنانا من الله عليه . وحنّ : في معنى ارتاح واشتاق ، ثم استعمل في العطف والرأفة ، وقيل لله "حنان" كما قيل : "رحيم" على سبيل الاستعارة . والزكاة : الطهارة ، وقيل الصدقة ، أي : يتعطف على الناس ويتصدّق عليهم .
(4/69)

وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
سلم الله عليه في هذه الأحوال ، قال ابن عيينة : إنها أوحش المواطن .
(4/70)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
{ إِذِ } بدل من { مَرْيَمَ } بدل الاشتمال ، لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها . وفيه أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ، لوقوع هذه القصة العجيبة فيه . والانتباذ : الاعتزال والانفراد ، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس ، أو من دارها معتزلة عن الناس . وقيل : قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها ، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها ، فإذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينا هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سويّ الخلق ، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئاً . أو حسن الصورة مستوي الخلق ، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه . ودلّ على عفافها وورعها أنها تعوّذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن ، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبراً لعفتها . وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب ، فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها ، فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك . وقيل : قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس . وقيل : إنّ النصارى اتخذت المشرق قبله لانتباذ مريم مكاناً شرقياً الروح : جبريل ، لأنّ الدين يحيا به وبوحيه . أو سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريباً ، كما تقول لحبيبك : أنت روحي . وقرأ أبو حيوة : "رَوْحنا" بالفتح؛ لأنه سبب لما فيه رَوح العباد ، وإصابة الرَّوح عند الله الذي هو عدّة المقرّبين في قوله : { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] أو لأنه من المقرّبين وهم الموعودون بالروح ، أي مقرّبنا وذا روحنا .
(4/71)

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
أرادت إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة [ به ] ، فإني عائذة به منك كقوله تعالى : { بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ هود : 86 ] .
(4/72)

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
أي إنما أنا رسول من استعذت به { لأهَبَ لَكِ } لأكون سبباً في هبة الغلام بالنفخ في الدرع . وفي بعض المصاحف : إنما أنا رسول ربك أمرني أن أهب لك . أو هي حكاية لقول الله تعالى .
(4/73)

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
جعل المسّ عبارة عن النكاح الحلال ، لأنه كناية عنه ، كقوله تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] { أَوْ لامستم النساء } [ النساء : 43 ] والزنا ليس كذلك ، إنما يقال فيه : فجربها وخبث بها وما أشبه ذلك ، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب . والبغيّ : الفاجرة التي تبغي الرجال ، وهي فعول عند المبرد "بغوي" فأدغمت الواو في الياء . وقال ابن جني في كتاب التمام : هي فعيل ، ولو كانت فعولاً لقيل : "بغوّ" كما قيل : فلان نهوّ عن المنكر { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً } تعليل معلله محذوف أي : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك . أو هو معطوف على تعليل مضمر ، أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية . ونحوه : { وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الجاثية : 22 ] وقوله : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض وَلِنُعَلّمَهُ } [ يوسف : 21 ] . { مَّقْضِيّاً } مقدراً مسطوراً في اللوح لا بدّ لك من جريه عليه . أو كان أمراً حقيقاً بأن يكون ويقضي لكونه آية ورحمة . والمراد بالآية : العبرة والبرهان على قدرة الله [ تعالى ] . وبالرحمة : الشرائع والألطاف ، وما كان سبباً في قوّة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح ، فهو جدير بالتكوين .
(4/74)

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
عن ابن عباس : فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها ، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت . وقيل : كانت مدّة الحمل ستة أشهر . وعن عطاء وأبي العالية والضحاك : سبعة أشهر . وقيل : ثمانية ، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى عليه الصلاة والسلام . وقيل : ثلاث ساعات . وقيل : حملته في ساعة ، وصوّر في ساعة ، ووضعته في ساعة ، حين زالت الشمس من يومها . وعن ابن عباس : كانت مدة الحمل ساعة واحدة ، كما حملته نبذته . وقيل : حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة . وقيل : بنت عشر ، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل . وقالوا : ما من مولود إلا يستهلّ غيره { فانتبذت بِهِ } أي اعتزلت وهو في بطنها ، كقوله :
تَدُوسُ بِنَا الجْمَاجِمَ وَالتَّرِيبَا ... أي تدوس الجَماجم ونحن على ظهورها ، ونحوه قوله تعالى : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي تنبت ودهنها فيها : الجار والمجرور في موضع الحال { قَصِيّاً } بعيداً من أهلها وراء الجبل . وقيل : أقصى الدار . وقيل : كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف ، فلما قيل : حملت من الزنا ، خاف عليها قتل الملك ، فهرب بها فلما كان ببعض الطريق حدّثته نفسه بأن يقتلها ، فأتاه جبريل فقال [ له ] : إنه من روح القدس فلا تقتلها ، فتركها .
(4/75)

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{ فَأَجَاءهَا } أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه . ونظيره "آتي" حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيت المكان وآتانيه فلان . قرأ ابن كثير في رواية "المِخَاضُ" بالكسر . يقال : مخضت الحامل مخاضا ومِخاضاً ، وهو تمخض الولد في بطنها .
طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة ، وكان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة ، وكان الوقت شتاء ، والتعريف لا يخلو : إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق ، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس ، فإذا قيل : جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل . وإمّا أن يكون تعريف الجنس ، أي : جذع هذه الشجرة خاصة ، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو حرسة النفساء الموافقة لها . ولأن النخلة أقل شيء صبراً على البرد ، وثمارها إنما هي من جمارها ، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها . [ { قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } ] قرىء "مِتُّ" بالضم والكسر ، يقال : مات يموت ومات يمات . النسيّ : ما من حقه أن يطرح وينسى ، كخرقة الطامث ونحوها ، كالذبح : اسم ما من شأنه أن يذبح في قوله تعالى : { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 107 ] وعن يونس : العرب إذا ارتحلوا عن الدار قالوا : انظروا أنساءكم ، أي : الشيء اليسير نحو العصا والقدح والشظاظ ، تمنت لو كانت شيئاً تافها لا يؤبه له ، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة وقد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشوّر من الناس على حكم العادة البشرية ، لا كراهة لحكم الله ، أو لشدّة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة وبضدّ ما قرفت به ، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام : أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم ، ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيباً يعاب به ويعنف بسببه ، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها . وقرأ ابن وَثَّاب والأعمش وحمزة وحفص "نسياً" بالفتح . قال الفراء : هما لغتان كالوتر والوتر ، والجسر والجسر . ويجوز أن يكون مسمى بالمصدر . كالحمل . وقرأ محمد بن كعب القرظي "نسأ" بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ، ينسؤه أهله لقلته ونزارته . وقرأ الأعمش "منسيا" بالكسر على الإتباع ، كالمغيرة والمنخر .
(4/76)

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{ مِن تَحْتِهَا } هو جبريل عليه السلام . قيل : كان يقبل الولد كالقابلة . وقيل : هو عيسى ، وهي قراءة عاصم وأبي عمرو . وقيل : { تَحْتِهَا } أسفل من مكانها ، كقوله : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] وقيل : كان أسفل منها تحت الأكمة ، فصاح بها لا تحزني وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص "مِنْ تحتها" وفي ناداها ضمير الملك أو عيسى . وعن قتادة : الضمير في تحتها للنخلة . وقرأ زرّ وعلقمة : فخاطبها من تحتها .
( 658 ) سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن السريّ فقال : "هُوَ الجدولُ" قال لبيد :
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعَا ... مَسْجُورَةً مُتَجَاوِر قُلاَّمهَا
وقيل : هو من السرو . والمراد : عيسى وعن الحسن : كان والله عبداً سرياً . فإن قلت : ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسري والرطب؟ قلت : لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب ، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة ، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل ، وأن لها أموراً إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا ، حتى يتبين لهم أنّ ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها .
(4/77)

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{ تساقط } فيه تسع قرآت : "تساقط" بإدغام التاء . و"تتساقط" بإظهار التاءين . و"تساقط" بطرح [ التاء ] الثانية . و"يساقط" ، بالياء وإدغام التاء . و"تساقط" و"تسقط" و"يسقط" ، و"تسقط" ، و"يسقط" التاء للنخلة ، والياء للجذع . ورطباً تمييز أو مفعول على حسب القراءة . وعن المبرد : جواز انتصابه ب ( هزّي ) وليس بذاك . والباء في { بِجِذْعِ النخلة } صلة للتأكيد ، كقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] أو على معنى : افعلي الهزّ به ، كقوله :
يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلي ... قالوا : التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت ، وكذلك التحنيك ، وقالوا : كان من العجوة . وقيل : ما للنفساء خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل ، وقيل : إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب . عن طلحة بن سليمان { جَنِيّاً } بكسر الجيم للإتباع ، أي جمعنا لك في السريّ والرطب فائدتين ، إحداهما : الأكل والشرب ، والثانية سلوة الصدر؛ لكونهما معجزتين . وهو معنى قوله : { فَكُلِى واشربى وَقَرّى عَيْناً } أي وطيبي نفساً ولا تغتمي وارفضي عنك ما أحزنك وأَهَمَّكِ . وقرئ و"قِرِّي" : بالكسر لغة نجد { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } بالهمز : ابن الرومي . عن أبي عمرو : وهذا من لغة من يقول : لبأت بالحج ، وحلأت السويق ، وذلك لتآخٍ بين الهمزة وحرف اللين في الإبدال { صَوْماً } صمتاً . وفي مصحف عبد الله : صمتاً . وعن أنس بن مالك مثله . وقيل : صياماً ، إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم ، وقد
( 659 ) "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومِ الصمت" ، لأنه نسخ في أمته ، أمرها الله بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع البشر المتهمين لها في الكلام لمعنيين ، أحدهما : أن عيسى صلوات الله عليه يكفيها الكلام بما يبريء به ساحتها . والثاني : كراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم . وفيه أن السكوت عن السفيه واجب . ومن أذل الناس : سفيه لم يجد مسافها . قيل : أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة . وقيل : سوغ لها ذلك بالنطق { إِنسِيّاً } أي أكلم الملائكة دون الإنس .
(4/78)

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
الفريّ : البديع ، وهو من فري الجلد { يا اأخت هارون } كان أخاها من أبيها من أمثل بني إسرائيل . وقيل : هو أخو موسى صلوات الله عليهما . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 660 ) " إنَّما عنوا هرونَ النبي " وكانت من أعقابه في طبقة الإخوة ، بينها وبينه ألف سنة وأكثر . وعن السدي : كانت من أولاده . وإنما قيل : يا أخت هرون ، كما يقال : يا أخا همدان ، أي : يا واحداً منهم . وقيل : رجل صالح أو طالح في زمانها ، شبهوها به ، أي : كنت عندنا مثله في الصلاح ، أو شتموها به ، ولم ترد إخوة النسب ، ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمي هرون تبركا به وباسمه ، فقالوا : كنا نشبهك بهرون هذا ، وقرأ عمر بن لجأ التيمي "ما كان أباك امرؤ سوء" وقيل احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار ، فلبثوا فيه أربعين يوماً حتى تعلت من نفاسها ، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه ، أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك . وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام . فتركوها .
(4/79)

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه . وقيل : كان المستنطق لعيسى زكريا عليه السلام . وعن السدي : لما أَشارت إليه غضبوا وقالوا : لسخريتها بنا أشدّ علينا من زناها . وروي أنه كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره وأشار بسبابته . وقيل : كلمهم بذلك ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان { كَانَ } لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده ، وهو ههنا لقريبه خاصة ، والدال عليه مبنى الكلام ، وأنه مسوق للتعجب . ووجه آخر : أن يكون { نُكَلّمُ } حكاية حال ماضية ، أي : كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صبياً في المهد فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا .
(4/80)

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
أنطقه الله أوّلاً بأنه عبد الله رداً لقول النصارى و { الكتاب } هو الإنجيل . واختلفوا في نبوّته ، فقيل : أعطيها في طفوليته : أكمل الله عقله ، واستنبأه طفلاً نظراً في ظاهر الآية . وقيل : معناه إنّ ذلك سبق في قضائه . أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 661 ) " نفَّاعَا حيثُ كنتُ " وقيل : معلماً للخير . وقرىء "وَبِرَّاً" عن أبي نهيك ، جعل ذاته برا لفرط بره . أو نصبه بفعل في معنى أوصاني وهو كلفني؛ لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد { والسلام عَلَىَّ } قيل : أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله ، كقولك : جاءنا رجل ، فكان من فعل الرجل كذا ، والمعنى : ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إليّ . والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً باللعنة على متهمي مريم عليها السلام ، وأعدائها من اليهود . وتحقيقه أن اللام للجنس ، فإذا قال : وجنس السلام عليّ خاصة فقد عرض بأن ضدّه عليكم . ونظيره قوله تعالى : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] يعني أنّ العذاب على من كذب وتولى ، وكان المقام مقام مناكرة وعناد ، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض .
(4/81)

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
قرأ عاصم وابن عامر { قَوْلَ الحق } بالنصب . وعن ابن مسعود "قالُ الحق" وقال الله . وعن الحسن : "قُولُ الحق" ، بضم القاف ، وكذلك في الأنعام { قَوْلُهُ الحق } [ الأنعام : 73 ] والقول والقال والقول بمعنى واحد ، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْبِ . وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف . وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله ، وعلى أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق ، كقولك : هو عبد الله حقاً . والحق لا الباطل ، وإنما قيل لعيسى "كلمة الله" و"قول الحق" لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها ، وهي قوله "كن" من غير واسطة أب ، تسمية للمسبب باسم السبب ، كما سمى العشب بالسماء ، والشحم بالندا . ويحتمل إذا أريد بقول الحق [ عيسى ، أن يكون الحق ] اسم الله عز وجل ، وأن يكون بمعنى الثبات والصدق ، ويعضده قوله : { الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ } أي أمره حق يقين وهم فيه شاكون { يَمْتَرُونَ } يشكون . والمرية : الشك . أو يتمارون : يتلاحون ، قالت اليهود : ساحر كذاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "تمترون" ، على الخطاب . وعن أبيّ بن كعب : "قول الحق الذي كان الناس فيه يتمرون" .
(4/82)

مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
كذب النصارى وبكتهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه ، وأنه مما لا يتأتى ولا يتصور في العقول وليس بمقدور عليه ، إذ من المحال غير المستقيم أن تكون ذاته كذات من ينشأ منه الولد ، ثم بيّن إحالة ذلك بأن من إذا أراد شيئاً من الأجناس كلها أوجده ب ( كن ) ، كان منزها من شبه الحيوان الوالد . والقول ههنا مجاز ، ومعناه : أنّ إرادته للشيء يتبعها كونه لا محالة من غير توقف ، فشبه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل .
(4/83)

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح إن ومعناه : ولأنه ربي وربكم فاعبدوه ، كقوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] والاستار وأبو عبيد بالكسر على الابتداء . وفي حرف أبيّ "إن الله" ، بالكسر بغير واو ، و"بأن الله" ، أي : بسبب ذلك فاعبدوه .
(4/84)

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
{ الاحزاب } اليهود والنصارى عن الكلبي . وقيل النصارى لتحزبهم ثلاث فرق : نسطورية ويعقوبية وملكانية . وعن الحسن : الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس { مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف . أو من وقت الشهود ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم ، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال . أو من مكان الشهادة أو وقتها . وقيل : هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه .
(4/85)

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
لا يوصف الله تعالى بالتعجب وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعمياً في الدنيا . وقيل : معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع قلوبهم أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير : إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم ، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ويسعدهم . والمراد بالضلال المبين : إغفال النظر والاستماع { قُضِىَ الأمر } فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار . وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئلُ عنه - أي عن قضاءِ الأمرِ- فقال :
662 ) " حين يُذبحُ الكبشُ والفريقان ينظران " وإذ بدل من يوم الحسرة . أو منصوب بالحسرة { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } متعلق بقوله في ضلال مبين عن الحسن . وأنذرهم : اعتراض . أو هو متعلق بأنذرهم ، أي : وأنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين يحتمل أنه يميتهم ويخرب ديارهم ، وأنه يفني أجسادهم ويفني الأرض ويذهب بها .
(4/86)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
الصدّيق : من أبنية المبالغة . ونظيره الضحيك والنطيق . والمراد ، فرط صدقه وكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله ، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي : كان مصدقاً بجميع الأنبياء وكتبهم ، وكان نبياً في نفسه ، كقوله تعالى : { بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين } [ الصافات : 37 ] أو كان بليغاً في الصدق ، لأن ملاك أمر النبوة الصدق ، ومصدق الله بآياته ومعجزاته حريّ أن يكون كذلك ، وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله ، أعني إبراهيم . و { إِذْ قَالَ } نحو قولك : رأيت زيداً ، ونعم الرجل أخاك . ويجوز أن يتعلق إذ ب ( كان ) أو ب ( صديقاً نبياً ) ، أي : كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات . والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم ، كقوله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] وإلا فالله عز وجل هو ذاكره ومورده في تنزيله . التاء في { يا أبت } عوض من ياء الإضافة ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلا يجمع بي العوض والمعوض منه . وقيل : يا أبتا ، لكون الألف بدلاً من الياء ، وشبه ذلك سيبويه بأينق ، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة . انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورّطاً فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصا فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز ، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة : كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق ، وساقه أرشق مساق ، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن ، منتصحاً في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا ، حدّث أبو هريرة قال :
( 663 ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام : إنك خليلي ، حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار ، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه : أُظله تحت عرشي ، وأُسكنه حظيرة القدس ، وأُدنيه من جَواري " وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه ، موقظ لإفراطه وتناهيه ، لأن المعبود لو كان حياً مميزاً ، سميعاً بصيراً ، مقتدراً على الثواب والعقاب ، نافعاً ضاراً ، إلا أنه بعض الخلق : لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية ، ولسجل عليه بالغيّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين قال الله تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون } [ آل عمران : 80 ] وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم ، فلا تحق ، إلا لمن له غاية الإنعام : وهو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، الذي منه أصول النعم وفروعها . فإذا وجهت إلى غيره - وتعالى علواً كبيراً أن تكون هذه الصفة لغيره - لم يكن إلا ظلماً وعتواً وغياً وكفراً وجحوداً ، وخروجاً عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم ، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع - يا عابده - ذكرك له وثناءك عليه ، ولا يرى هيآت خضوعك وخشوعك له .
(4/87)

فضلاً أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه ، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها . ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً فلم يسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم وشيئاً منه ليس معك ، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف ، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك ، فاتبعني أُنجك من أن تضل وتتيه . ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه : بأن الشيطان - الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده ، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم - هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك ، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان ، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذرّيته كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه . ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجرُّه ما هو فيه من التبعة والوبال ، ولم يخل ذلك من حسن الأدب ، حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق له وأن العذاب لاصق به ، ولكنه قال : أخاف أن يمسك عذاب ، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب ، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب ، وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه ، وسماه الله تعالى المشهود له بالفوز العظيم حيث قال : { ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم } [ التوبة : 72 ] فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله ، أكبر من العذاب نفسه وأعظم ، وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله : { يا أبت } توسلاً إليه واستعطافاً ف { مَا } في { مَا لاَ يَسْمَعُ } و { مَا لَمْ يَأْتِكَ } يجوز أن تكون موصولة وموصوفة ، والمفعول في { لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } منسي غير منوي ، كقولك : ليس به استماع ولا إبصار { شَيْئاً } يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون في موضع المصدر ، أي : شيئاً من الغناء ، ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين . والثاني : أن يكون مفعولاً به من قولهم : أغن عني وجهك { إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ } فيه تجدد العلم عنده .
(4/88)

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
لما أطلعه على سماجة صورة أمره ، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة ، وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات ، أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد ، فناداه باسمه ، ولم يقابل { يا أبت } ب ( يابنيّ ) ، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإبراهيم } لأنه كان أهمّ عنده وهو عنده أعني ، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وأن آلهته ، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد . وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه { لأَرْجُمَنَّكَ } لأرمينك بلساني ، يريد الشتم والذمّ ، ومنه ( الرجيم ) المرميّ باللعن . أو لأقتلنك ، من رجم الزاني . أو لأطردنك رمياً بالحجارة . وأصل الرجم : الرمي بالرجام { مَلِيّاً } زمانا طويلاً من الملاوة : أو ملياً بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب ، حتى لا تقدر أن تبرح . يقال : فلان مليّ بكذا ، إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به . فإن قلت : علام عطف { واهجرنى } ؟ قلت : على معطوف عليه محذوف يدل عليه { لأَرْجُمَنَّكَ } أي فاحذرني واهجرني ، لأن { لأَرْجُمَنَّكَ } تهديد وتقريع .
(4/89)

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
{ قَالَ سلام عَلَيْكَ } سلام توديع ومتاركة ، كقوله تعالى : { لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } [ القصص : 55 ] وقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح [ له ] والحال هذه . ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له . ألا ترى أنه وعده الاستغفار . فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قلت : قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر ، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان ، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب . وقالوا : إنما استغفر له بقوله : { واغفر لأَِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين } [ الشعراء : 86 ] لأنه وعده أن يؤمن . واستشهدوا عليه بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } [ التوبة : 114 ] ولقائل أن يقول : إنّ الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع ، فأمّا القضية العقلية فلا تأباه ، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ، بناء على قضية العقل ، والذي يدل على صحته قوله تعالى : { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَِبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] فلو كان شارطاً للإيمان لم يكن مستنكراً ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة . وأمّا ( عن موعدة وعدها إياه ) فالواعد هو إبراهيم لا آزر ، أي : ما قال : ( واغفر لأبي ) إلا عن قوله : ( لأستغفرنّ لك ) وتشهد له قراءة حماد الراوية : وعدها أباه . والله أعلم { حَفِيّاً } الحفيّ : البليغ في البر والإلطاف ، حفي به وتحفى به { وَأَعْتَزِلُكُمْ } أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام . [ وأدعو ربي ] المراد بالدعاء العبادة ، لأنه منها ومن وسائطها . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 664 ) " الدعاءُ هُوَ العبادةُ " ويدل عليه قولُه تعالى : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء . عرّض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله : { عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا } مع التواضع لله بكلمة { عَسَى } وما فيه من هضم النفس .
(4/90)

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
ما خسر على الله أحد ترك الكفار الفسقة لوجهه ، فعوّضه أولاداً مؤمنين أنبياء . { مِن رَّحْمَتِنَا } هي النبوّة عن الحسن . وعن الكلبي : المال والولد ، وتكون عامّة في كل خير ديني ودنيوي أوتوه . لسان الصدق : الثناء الحسن . وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية . قال :
إنِّي أتَتْنِي لِسَانٌ لاَ أُسَرُّ بِهَا ... يريد الرسالة . ولسان العرب : لغتهم وكلامهم . استجاب الله دعوته { واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين } [ الشعراء : 84 ] فصيره قدوة حتى ادّعاه أهل الأديان كلهم . وقال عز وجل : { مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } [ الحج : 78 ] و { مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً } [ البقرة : 135 ] ، { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا } [ النحل : 123 ] وأعطى ذلك ذرّيته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم ، كما أعلى ذكره وأثنى عليه .
(4/91)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
المخلص - بالكسر - : الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء . أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله . وبالفتح : الذي أخلصه الله . الرسول : الذي معه كتاب من الأنبياء : والنبيّ الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب كيوشع .
(4/92)

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
الأيمن من اليمين : أي من ناحيته اليمنى . أو من اليمن صفة للطور ، أو للجانب . شبهه بمن قربه بعض العظماء للمناجاة ، حيث كلمه بغير واسطة ملك . وعن أبي العالية قرّبه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة .
(4/93)

وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{ مِن رَّحْمَتِنَا } من أجل رحمتنا له وترأفنا عليه : وهبنا له هرون . أو بعض رحمتنا ، كما في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } . و { أَخَاهُ } على هذا الوجه بدل . و { هارون } عطف بيان ، كقولك : رأيت رجلاً أخاك زيداً . وكان هرون أكبر من موسى ، فوقعت الهبة على معاضدته وموازرته كذا عن ابن عباس رضي الله عنه .
(4/94)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان ذلك موجوداً في غيره من الأنبياء ، تشريفاً له وإكراماً ، كالتلقيب بنحو : الحليم ، والأوّاه ، والصدّيق؛ ولأنه المشهور المتواصف من خصاله عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان ، فانتظره سنة . وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى ، حيث قال : { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ، ولأنهم أولى من سائر الناس { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] ، { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } [ طه : 132 ] ، { قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ألا ترى أنهم أحق بالتصدّق عليهم؛ فالإحسان الديني أولى . وقيل : { أَهْلَهُ } أمته كلهم من القرابة وغيرهم؛ لأنّ أمم النبيين في عداد أهاليهم . وفيه أنّ من حق الصالح أن لا يألو نصحاً للأجانب فضلاً عن الأقارب والمتصلين به ، وأن يحظيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في شيء من ذلك .
(4/95)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
قيل : سمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عزّ وجل ، وكان اسمه أخنوخ ، وهو غير صحيح؛ لأنه لو كان أفعيلاً من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية ، فكان منصرفاً؛ فامتناعه من الصرف دليل العجمة . وكذلك إبليس أعجمي . وليس من الإبلاس كما يزعمون ، ولا يعقوب من العقب ، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت ، ومن لم يحقق ولم يتدرّب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات . ويجوز أن يكون معنى { إِدْرِيسَ } في تلك اللغة قريباً من ذلك ، فحسبه الراوي مشتقاً من الدرس { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } . المكان العلي : شرف النبوّة والزلفى عند الله وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة ، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب ، وأوّل من خاط الثياب ولبسها ، وكانوا يلبسون الجلود . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه
( 665 ) " إنه رفع إلى السماء الرابعة " وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إلى السماء السادسة . وعن الحسن رضي الله عنه : إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة . وعن النابغة الجعدي : أنه لما أنشد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر الذي آخره :
بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَسَنَاؤُنَا ... وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 666 ) " إلى أينَ يا أبا لَيلَى " قالَ : إلى الجنةِ .
(4/96)

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{ أولئك } إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام . و"من" في { مّنَ النبيين } للبيان مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] لأن جميع الأنبياء منعم عليهم . ومن الثانية للتبعيض ، وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح . وإبراهيم عليه السلام من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ذرية سام بن نوح ، وإسماعيل من ذرية إبراهيم . وموسى وهارون وزكريا ويحيى من ذرية إسرائيل . وكذلك عيسى؛ لأنّ مريم من ذرّيته { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا } يحتمل العطف على ( من ) الأولى والثانية . إن جعلت الذين خبراً لأولئك كان { إِذَا تتلى } كلاماً مستأنفاً . وإن جعلته صفة له كان خبراً . قرأ شبل بن عباد المكي "يتلى" بالتذكير؛ لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل البكي : جمع باك ، كالسجود والقعود في جمع ساجد وقاعد . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 667 ) " اتْلُوا القرآنَ وابكُوا . فإنْ لمَ تبكُوا فَتَباكَوا " وعن صالح المري رضي الله عنه : قرأتُ القرآنَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي : { هِذِهِ القراءةُ يا صالحُ ، فأينَ البكاءُ } ؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قرأتُم سجدةَ سبحانَ فلا تعجلُوا بالسجودِ حتى تبكُوا ، فإنْ لم تبكِ عينُ أحدكم فليبكِ قلبُهُ . وعن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
( 668 ) " إن القرآنَ أُنْزِلَ بحزنٍ فإذَا قرأتمُوهُ فتحازَنُوا " وقالوا : يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها ، فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك . وإن قرأ سجدة سبحان قال : اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك . وإن قرأ هذه قال : اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين ، الساجدين لك ، الباكين عند تلاوة آياتك .
(4/97)

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
خلفه : إذا عقبه ، ثم قيل في عقب الخير "خلف" بالفتح ، وفي عقب السوء : خلف ، بالسكون ، كما قالوا "وعد" في ضمان الخير ، و"عيد" في ضمان الشر . عن ابن عباس رضي الله عنه : هم اليهود ، تركوا الصلاة المفروضة ، وشربوا الخمر ، واستحلوا نكاح الأخت من الأب . وعن إبراهيم ومجاهد رضي الله عنهما : أضاعوها بالتأخير . وينصر الأول قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ } يعني الكفار . وعن علي رضي الله عنه في قوله : { واتبعوا الشهوات } من بني الشديد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور . وعن قتادة رضي الله عنه : هو في هذه الأمة . وقرأ ابن مسعود والحسن والضحاك رضي الله عنهم : "الصلوات" بالجمع .
كل شر عند العرب : غيّ ، وكل خير : رشاد . قال المرقش :
فَمَنْ يَلْقَ خَيْراً تَحْمَدِ النَّاسَ أمْرَهُ ... وَمَنْ يَغْوَ لاَ يَعْدَمْ عَلَى الغَيِّ لاَئِمَا
وعن الزجاج : جزاء غيّ ، كقوله تعالى : { يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] أي مجازاة أثام . أو غياً عن طريق الجنة . وقيل : "غيّ" واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها . وقرأ الأخفش "يلقون" .
(4/98)

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
قرىء : "يدخلون" "ويدخلون" أي لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه ، بل يضاعف لهم ، بياناً لأن تقدّم الكفر لا يضرهم إذا تابوا من ذلك ، من قولك : ما ظلمك أن تفعل كذا ، بمعنى : ما منعك ، أو لا يظلمون البتة ، أي شيئاً من الظلم .
(4/99)

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
لما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، كقولك : أبصرت دارك القاعة والعلالي . و"عدن" معرفة علم ، بمعنى العدن وهو الإقامة ، كما جعلوا فينة ، وسحر ، وأمس - فيمن لم يصرفه - أعلاماً لمعاني : الفينة والسحر ، والأمس ، فجرى مجرى العدن لذلك . أو هو علم لأرض الجنة؛ لكونها مكان إقامة ، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال؛ لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ، ولما ساغ وصفها بالتي . وقرىء "جنات عدن" "وجنةُ عدن" بالرفع على الابتداء . أي : وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة . أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها . أو بتصديق الغيب والإيمان به . قيل في { مَأْتِيّاً } مفعول بمعنى فاعل . والوجه أنّ الوعد هو الجنة وهم يأتونها . أو هو من قولك : أتى إليه إحساناً ، أي : كان وعده مفعولاً منجزاً .
(4/100)

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
اللغو : فضول الكلام ومالا طائل تحته . وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه ، حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها . وما أحسن قوله سبحانه { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } [ الفرقان : 72 ] { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } [ القصص : 55 ] نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا ، أي : إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغواً ، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك ، فهو من وادي قوله :
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُم ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أو لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة ، على الاستثناء المنقطع . أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة . ودار السلام : هي دار السلامة ، وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث ، لولا ما فيه من فائدة الإكرام .
من الناس من يأكل الوجبة . ومنهم من يأكل متى وجد - وهي عادة المنهومين . ومنهم من يتغدى ويتعشى - وهي العادة الوسطى المحمودة ، ولا يكون ثم ليل ولا نهار ، ولكن على التقدير؛ ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء . وقيل : أراد دوام الرزق ودروره ، كما تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء وبكرة وعشياً ، يريد : الديمومة ، ولا تقصد الوقتين المعلومين .
(4/101)

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
{ نُورِثُ } وقرىء "نورّث" استعارة ، أي : نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورّث ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة ، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورّث الوارث المال من المتوفي . وقيل : أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا .
(4/102)

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ } حكاية قول جبريل صلوات الله عليه حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم . روي
( 669 ) أنه احتبس أربعين يوماً . وقيل : خمسة عشر يوماً ، وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه ، فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون : ودّعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أبطأت حتى ساء ظني واشتقتُ إليكَ . قال : إنّي كنتُ أشوقَ ولكني عبدُ مأمورٌ ، إذا بُعثتُ نزلتُ ، وإذا حُبْستُ احتبستُ" وأنزل الله سبحانه هذه الآية وسورة الضحى . والتنزل على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق ، كقوله :
فَلَسْتَ لإِنِسي وَلَكِنْ لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
لأنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى أنزل ، وبمعنى التدريج ، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاغب وقت ليس إلا بأمر الله ، وعلى ما يراه صواباً وحكمة ، وله ما قدامنا { وَمَا خَلْفَنَا } من الجهات والأماكن { وَمَا بَيْنَ ذلك } وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته ، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون ، وما يحدث ويتجدد من الأحوال ، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان ، فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة ، وأطلق لنا الإذن فيه . وقيل : ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة ، وما بين ذلك : ما بين النفختين وهو أربعون سنة . وقيل : ما مضى من أعمارنا وما غبر منها ، والحال التي نحن فيها . وقيل : ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا . وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا ، والسماء التي وراءنا ، وما بين السماء والأرض ، والمعنى : أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة ، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادراً عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه . وقيل : معنى { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } وما كان تاركاً لك ، كقوله تعالى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ] أي : ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به . وأما احتباس الوحي فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك ، ولكن لتوقفه على المصلحة ، وقيل : هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة ، أي : وما ننزل الجنة إلا بأن مَنَّ الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها ، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة . والمترقبة والحاضرة ، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازي عليها ، ثم قال الله تعالى - تقريراً لقولهم - : وما كان ربك نسياً لأعمال العاملين غافلاً عما يجب أن يثابوا به ، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السماء والأرض وما بينهما؟ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحين عرفته على هذه الصفة ، فأقبل على العمل واعبده : يثبك كما أثاب غيرك من المتقين . وقرأ الأعرج رضي الله عنه "وما يتنزل" بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحي . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : "إلا بقول ربك" يجب أن يكون الخلاف في النسي مثله في البغي .
(4/103)

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{ رَبُّ السماوات والأرض } بدل من ربك ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو رب السموات والأرض { فاعبده } كقوله :
وَقَاَئِلَةٍ خَوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] من كلام المتقين ، وما بعده من كلام رب العزة . فإن قلت : هلا عدّي { وَاْصْطَبِر } بعلى التي هي صلته ، كقوله تعالى : { واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] ؟ قلت : لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب : اصطبر لقرنك ، أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق ، فاثبت لها ولاتهن ، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط ، وعن احتباس الوحي عليك مدة وشماتة المشركين بك . أي : لم يسم شيء بالله قط ، وكانوا يقولون لأصنامهم آلهة ، والعزى إله وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة ، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يسمى أحد الرحمن غيره . ووجه آخر : هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل ، لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتدّ بها كلا تسمية . وقيل : مثلاً وشبيهاً ، أي : إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده ، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها وتكاليفها .
(4/104)

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
يحتمل أن يراد بالإنسان الجنس بأسره ، وأن يراد بعض الجنس وهم الكفرة . فإن قلت : لم جازت إرادة الأناسي كلهم ، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت : لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم ، صح إسناده إلى جميعهم ، كما يقولون : بنو فلان قتلوا فلاناً ، وإنما القاتل رجل منهم . قال الفرزدق :
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ... نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ
فقد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله : "نبا بيدي ورقاء" وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي . فإن قلت : بم انتصب { إِذَا } وانتصابه ب ( أخرج ) ممتنع لأجل اللام؛ لا تقول : اليوم لزيد قائم؟ قلت : بفعل مضمر يدل عليه المذكور . فإن قلت : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت : لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا أَلله للتعويض واضمحلّ عنها معنى التعريف . و"ما" في { أَءِذَا مَا } للتوكيد أيضاً ، فكأنهم قالوا : أحقاً أنا سنخرج أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك؟ على وجه الاستنكار والاستبعاد . والمراد الخروج من الأرض ، أو من حال الفناء . أو هو من قولهم : خرج فلان عالماً ، وخرج شجاعاً : إذا كان نادراً في ذلك ، يريد : سأخرج حياً نادراً على سبيل الهزؤ . وقرأ الحسن وأبو حيوة : "لسوف أخرج" وعن طلحة بن مصرف رضي الله عنه "لسأخرج" كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه "ولسيعطيك" وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ، ومنه جاء إنكارهم ، فهو كقولك للمسيء إلى المحسن : أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه . الواو عطفت { أَوَلاَ يَذْكُرُ } على { يَقُولُ } ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف ، يعني : أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى فإن تلك أعجب وأغرب وأدلّ على قدرة الخالق؟؟ حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود ، ثم أوقع التأليف مشحوناً بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها ، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف . ولكن اختراعاً وإبداعاً من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته . وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه ، وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها ، ورّدها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق . وقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } دليل على هذا المعنى ، وكذلك قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] على أن رب العزّة سواء عليه النشأتان ، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل ، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال؛ ولا استعانة بحكيم ، ولا نظر في مقياس ، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعاً في بحر معاندته ، وكشفاً عن صفحة جهله . القراء كلهم على { لا يذكر } بالتشديد إلا نافعاً وابن عامر وعاصماً رضي الله عنهم ، فقد خففوا . وفي حرف أبيّ "يتذكر" { مِن قَبْلُ } من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه .
(4/105)

فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
في إقسام الله تعالى باسمه تقدست أسماؤه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : تفخيم لشأن رسول الله ورفع منه ، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى : { فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } [ الذاريات : 23 ] والواو في { والشياطين } يجوز أن تكون للعطف ، وبمعنى مع ، وهي بمعنى "مع" أوقع . والمعنى : أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم ، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة . فإن قلت : هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة ، فإن أريد الأناسيّ على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت : إذا حشر جميع الناس حشراً واحداً وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين . فقد حشروا مع الشياطين كم حشروا الكفرة . فإن قلت : هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت : لم يفرّق بينهم وبينهم في المحشر ، وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم ، وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم ، فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطة وسروراً إلى سرور ، ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم ، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم . فإن قلت : ما معنى إحضارهم جثياً؟ قلت : أما إذا فسر الإنسان بالخصوص ، فالمعنى أنهم يقبلون من المحشر إلى شاطىء جهنم عتلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف ، جثاة على ركبهم ، غير مشاة على أقدامهم ، وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثوّ . قال الله تعالى : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ] على العادة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات ، من تجاثي أهلها على الركب ، لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا وخلاف الطمأنينة . أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم ، فيحبون على ركبهم حبواً . وإن فسر بالعموم ، فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطيء جهنم ، على أن ( جثياً ) حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين؛ لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التوصل إلى الثواب والعقاب والمراد بالشيعة - وهي "فعلة" كفرقة وفتية - الطائفة التي شاعت ، أي تبعت غاوياً من الغواة . قال الله تعالى : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا } [ الأنعام : 159 ] يريد : نمتاز من كل طائفة من طوائف الغيّ والفساد أعصاهم فأعصاهم ، وأعتاهم فأعتاهم . فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب . نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم . أو أراد بالذين هم أولى به صلياً : المنتزعين كما هم ، كأنه قال : ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء ، وهم أولى بالصلي من بين سائر الصالين ، ودركاتهم أسفل ، وعذابهم أشدّ . ويجوز أن يريد بأشدّهم عتياً : رؤساء الشيع وأئمتهم ، لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالاً ومضلين . قال الله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ }
(4/106)

[ النحل : 88 ] ، { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] واختلف في إعراب { أَيُّهُمْ أَشَدُّ } فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية . تقديره : لننزعنّ الذين يقال فيهم أيهم أشد ، وسيبويه على أنه مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته ، حتى لو جيء به لأعرب . وقيل : أيهم هو أشد . ويجوز أن يكون النزع واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } ، كقوله سبحانه : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] أي لننزعن بعض كل شيعة ، فكأنّ قائلاً قال : من هم؟ فقيل : أيهم أشد عتياً . وأيهم أشد : بالنصب عن طلحة بن مصرِّف وعن معاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء . فإن قلت : بم يتعلق على والباء ، فإنّ تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه؟ قلت : هما للبيان لا الصلة . أو يتعلقان بأفعل ، أي : عتوّهم أشدّ على الرحمن ، وصليهم أولى بالنار ، كقولهم : هو أشد على خصمه ، وهو أولى بكذا .
(4/107)

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
{ وَإِن مِّنكُمْ } التفات إلى الإنسان ، يعضده قراءة ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهما : "وإن منهم" أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور ، فإن أريد الجنس كله فمعنى الورود دخولهم فيها وهي خامدة ، فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم . عن ابن عباس رضي الله عنه : يردونها كأنها إهالة . وروي دواية . وعن جابر بن عبد الله .
( 670 ) أنه سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال : " إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ قالَ بعضُهُمْ لبعضٍ : أليسَ قدْ وعدَنَا رَبنا أنْ نردَ النارَ ، فيقالُ لَهُمْ : قدْ وردتمُوها وهي خامدةٌ " وعنه رضي الله عنه أنه سُئِل عن هذه الآية؟ فقال :
( 671 ) سمعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الورودُ الدخولُ ، لا يبقَى بَرٌ ولا فاجرٌ إلاَّ دخلها ، فتكونُ على المؤمنِينَ برَداً وسلامَاً كَما كانَتْ على إبراهيمَ ، حتَّى إنَّ للنارِ ضجيجَاً مِنْ بردهِا " وأما قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] فالمراد عن عذابها . وعن ابن مسعود والحسن وقتادة : هو الجواز على الصراط؛ لأنّ الصراط ممدود عليها . وعن ابن عباس : قد يرد الشيءُ الشيءَ ولا يدخله ، كقوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] ووردت القافلة البلد ، وإن لم تدخله ولكن قربت منه . وعن مجاهد : ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا ، بقوله عليه الصلاة والسلام :
( 672 ) " الحمّى من فيح جهنم " وفي الحديث
( 673 ) " الحمّى حظ كل مؤمن من النار " ويجوز أن يراد بالورود : جثوّهم حولها . وإن أريد الكفار خاصة ، فالمعنى بيِّن .
{ : كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } الحتم : مصدر حتم الأمر إذا أوجبه ، فسمى به الموجب ، كقولهم : خلق الله ، وضرب الأمير ، أي : كان ورودهم واجباً على الله ، أوجبه على نفسه وقضى به ، وعزم على أن لا يكون غيره { ثُمّ نُنَجِّي ا لَّذِينَ ا تَّقَواْ } قرىء { نُنَجِّى } و"ننجى" و"ينجى" و"ينجى" على ما لم يسم فاعله . إن أريد الجنس بأسره فهو ظاهر ، وإن أريد الكفرة وحدهم فمعنى { ثُمَّ نُنَجِّى الذين اتقوا } أنّ المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار ، لا أنهم يواردونهم ثم يتخلصون . وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس والجحدري وابن أبي ليلى "ثَمَّ ننجى" بفتح الثاء ، أي هناك . وقوله : { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } دليل على أنّ المراد بالورود الجثوّ حواليها ، وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد تجاثيهم ، وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين .
(4/108)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{ بينات } مرتلات الألفاظ ، ملخصات المعاني : مبينات المقاصد : إما محكمات أو متشابهات ، قد تبعها البيان بالمحكمات . أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً . أو ظاهرات الإعجاز تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها . أو حججاً وبراهين . والوجه أن تكون حالاً مؤكدة كقوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } [ البقرة : 91 ] لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججاً { لِلَّذِينَ ءامنوا اْ } يحتمل أنهم يناطقون المؤمنين بذلك ويواجهونهم به ، وأنهم يفوهون به لأجلهم وفي معناهم ، كقوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . قرأ ابن كثير "مقاماً" بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل ، والباقون بالفتح وهو موضع القيام ، والمراد المكان والموضع . والندىّ : المجلس ومجتمع القوم ، وحيث ينتدون . والمعنى : أنهم إذا سمعوا الآيات وهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم ، قالوا : أيّ الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين لها أوفر حظاً من الدنيا حتى يجعل ذلك عياراً على الفضل والنقص ، والرفعة والضعة؟ ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة ، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم .
(4/109)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
{ كَمْ } مفعول { أَهْلَكْنَا } و { مِّن } تبيين لإبهامها ، أي : كثيراً من القرون أهلكنا ، وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم . و { هُمْ أَحْسَنُ } في محل النصب صفة ل ( كم ) . ألا ترى أنك لو تركت { هُمْ } لم يكن لك بدّ من نصب { أَحْسَنُ } على الوصفية .
الأثاث : متاع البيت . وقيل : هو ماجدَّ من الفرش . والخرثي : ما لُبسَ منها . وأنشد الحسن بن علي الطوسي :
تَقَادَمَ الْعَهْدُ مِنْ أُمِّ الْوَلِيدِ بَنَا ... دَهْراً وَصَارَ أثَاثُ الْبَيْتِ خُرْثِيَّا
قرىء على خمسة أوجه { رِءْياً } وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول ، من رأيت "وريئاً" على القلب كقولهم : راء في رأي "ورياً" على قلب الهمزة ياء والإدغام ، أو من الريّ الذي هو النعمة والترفه ، من قولهم : ريان من النعيم . "ورياً" على حذف الهمزة رأساً ، ووجهه أن يخفف المقلوب وهو "رئياً" بحذف همزته وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها "وزياً" واشتقاقه من الزيّ وهو الجمع؛ لأن الزيّ محاسن مجموعة ، والمعنى : أحسن من هؤلاء .
(4/110)

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
أي مدّ له الرحمن ، يعني : أمهله وأملى له في العمر ، فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك ، وأنه مفعول لا محالة ، كالمأمور به الممتثل ، لتقطع معاذير الضالّ ، ويقال له يوم القيامة { أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } [ فاطر : 37 ] أو كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] أو { مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدّة حياته . في هذه الآية وجهان ، أحدهما : أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها ، والآيتان اعتراض بينهما ، أي قالوا : أيّ الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً . { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين { إِمَّا العذاب } في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسراً وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم . وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال ، فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه ، وأنهم شر مكاناً وأضعف جنداً ، لا خير مقاماً وأحسن ندياً . وأن المؤمنين على خلاف صفتهم . والثاني : أن تتصل بما يليها . والمعنى : أن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم ، والخذلان لاصق بهم لعلم الله بهم ، وبأن الألطاف لا تنفع فيهم وليسوا من أهلها . والمراد بالضلالة : ما دعاهم من جهلهم وغلوّهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه . ولا ينفكون عن ضلالتهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدّماتها . فإن قلت : ( حتى ) هذه ما هي؟ قلت : هي التي تحكى بعدها الجمل ألا ترى الجملة الشرطية واقعة بعدها وهي قوله : { إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ . . . فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } في مقابلة { خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم . والنديّ : المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم . والجند : هم الأنصار والأعوان .
(4/111)

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{ وَيَزِيدُ } معطوف على موضع ( فليمدد ) ؛ لأنه واقع موقع الخبر ، تقديره : من كان في الضلالة مدّ أو يمدّ له الرحمن . ويزيد : أي يزيد في ضلال الضالّ بخذلانه ، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه { والباقيات الصالحا تُ } أعمال الآخرة كلها . وقيل : الصلوات . وقيل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، أي هي خَيْرٌ ثَوَاباً من مفاخرات الكفار { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } أي مرجعاً وعاقبة ، أو منفعة ، من قولهم : ليس لهذا الأمر مردّ :
وَهَلْ يَرُدُّ بُكاى زَنْدَا ... فإن قلت : كيف قيل خير ثواباً كأنّ لمفاخراتهم ثواباً ، حتى يجعل ثواب الصالحات خيراً منه؟ قلت : كأنه قيل : ثوابهم النار . على طريقة قوله :
فَأَعْتَبُوا بِالصَّيْلَمِ ... وقوله :
شَجْعَاءَ جِرَّتُهَا الذَّمِيلُ تَلُوكُهُ ... أُصُلاً إذَا رَاحَ الْمُطِيُّ عِرَاثَا
وقوله :
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ... ثم بنى عليه خير ثواباً . وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له : عقابك النار . فإن قلت : فما وجه التفضيل في الخير كأن لمفاخرهم شركاً فيه؟ قلت : هذا من وجيز كلامهم ، يقولون : الصيف أحرّ من الشتاء ، أي : أبلغ [ في حَرِّه ] من الشتاء في برده .
(4/112)

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقاً إلى الإحاطة بها علماً وصحة الخبر عنها ، استعملوا "أرأيت" في معنى "أخبر" والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب ، كأنه قال : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر ، واذكر حديثه عقيب حديث أولئك { أَطَّلَعَ الغيب } من قولهم : أطلع الجبل : إذا ارتقى إلى أعلاه وطلع الثنية . قال جرير :
لاَقَيْتُ مُطَّلَعَ الْجِبَالِ وُعُورَا ... ويقولون : مرّ مطلعاً لذلك الأمر ، أي عالياً له مالكاً له ، ولاختيار هذه الكلمة شأن ، يقول : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار . والمعنى : أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين : إما علم الغيب ، وإما عهد من عالم الغيب ، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ قرأ حمزة والكسائي : "ولداً" وهو جمع ولد ، كأسد في أسد . أو بمعنى الولد كالعرب في العرب . وعن يحيى بن يعمر : "ولداً" بالكسر . وقيل في العهد : كلمة الشهادة . وعن قتادة : هل له عمل صالح قدّمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ وعن الكلبي : هل عهد الله إليه أنه يؤتيه ذلك؟ عن الحسن رحمه الله : نزلت في الوليد بن المغيرة ، والمشهور أنها في العاصي بن وائل . قال خباب بن الأرت :
( 674 ) كان لي عليه دين فاقتضيته ، فقال : لا والله حتى تكفر بمحمد . قلت : لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث . قال : فإني إذا مت بعثت؟ قلت : نعم . قال : إذا بعثت جئتني وسيكون لي ثمَّ مال وولد فأعطيك وقيل :
( 675 ) "صاغ له خباب حلياً فاقتضاه الأجر ، فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون ، وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ، فأنا أقضيك ثَمَّ فإني أوتى مالاً وولداً حينئذ { كَلاَّ } ردع وتنبيه على الخطأ أي : هو مخطيء فيما يصوّره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه . فإن قلت : كيف قيل : { سَنَكْتُبُ } بسين التسويف ، وهو كما قاله كتب من غير تأخير ، قال الله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله ، على طريقة قوله :
إذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لِئيمَةٌ ... أي تبين وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة . والثاني : أن المتوعد يقول للجاني : سوف أنتقم منك ، يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر ، فجرد ههنا لمعنى الوعيد . { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } أي نطوّل له من العذاب ما يستأهله ونعذبه بالنوع الذي يعذب به الكفار المستهزؤن . أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد . يقال : مده وأمده بمعنى ، وتدل عليه قراءة عليّ بن أبي طالب : ( ونمد له ) بالضم ، وأكد ذلك بالمصدر ، وذلك من فرط غضب الله ، نعوذ به من التعرّض لما نستوجب به غضبه .
(4/113)

{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه من يستحقه . والمعنى مسمى ما يقول . ومعنى { مَا يَقُولُ } وهو المال والولد . يقول الرجل : أنا أملك كذا ، فتقول له : ولي فوق ما تقول ، ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالاً وولداً ، وبلغت به أشعبيته أن تألىَّ على ذلك في قوله : { لأُوتَيَنَّ } لأنه جواب قسم مضمر ، ومن يتألَّ على الله يكذبه ، فيقول الله عز وجل : هب أنا أعطيناه ما اشتهاه ، إما نرثه منه في العاقبة ويأتينا فرداً غداً بلا مال ولا ولد ، كقوله عز وجل : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى . . . . } الآية [ الأنعام : 94 ] فما يجدي عليه تمنيه وتأليه . ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حياً ، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ، ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه غير قائل له ، أو لا ننسى قوله هذا ولا نلغيه ، بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به { وَيَأْتِينَا } على فقره ومسكنته { فَرْداً } من المال والولد ، لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه ، فيجتمع عليه الخطبان : تبعة قوله ووباله ، وفقد المطموع فيه . فرداً على الوجه الأول : حال مقدرة نحو { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] لأنه وغيره سواء في إتيانه فرداً حين يأتي ، ثم يتفاوتون بعد ذلك .
(4/114)

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
أي ليتعززوا بآلهتهم حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من العذاب { كَلاَّ } ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة . وقرأ ابن نهيك "كلا" { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } أي سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم ، كقولك : زيداً مررت بغلامه . وفي محتسب ابن جني : كلا بفتح الكاف والتنوين ، وزعم أن معناه كل هذا الرأي والاعتقاد كلا . ولقائل أن يقول : إن صحت هذه الرواية فهي ( كلا ) التي هي للردع ، قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريراً . والضمير في { سَيَكْفُرُونَ } للآلهة ، أي : سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون : والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون . قال الله تعالى : { وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا ها ا ؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون } [ النحل : 86 ] أو للمشركين : أي ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا قد عبدوها . قال الله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] { عَلَيْهِمْ ضِدّاً } في مقابلة { لَهُمْ عِزّاً } والمراد ضدّ العز وهو الذل والهوان ، أي : يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه ، كأنه قيل : ويكونون عليهم ذلاً ، لا لهم عزاً أو يكونون عليهم عوناً ، والضدّ : العون . يقال من أضدادكم : أي أعوانكم وكأن العون سمي ضداً لأنه يضادّ عدوّك وينافيه بإعانته لك عليه . فإن قلت : لم وحد؟ قلت : وحد توحيده قوله عليه الصلاة والسلام :
( 676 ) " وهم يدٌ على من سواهم " لاتفاق كلمتهم ، وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عوناً عليهم : أنهم وقود النار وحَصَبُ جهنم ، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها وإن رجعت الواو في سيكفرون ويكونون إلى المشركين ، فإن المعنى : ويكونون عليهم - أي أعداءهم - ضداً ، أي : كفرة بهم ، بعد أن كانوا يعبدونها .
(4/115)

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
الأز ، والهزّ ، والاستفزاز : أخوات ، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ، أي : تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات . والمعنى : خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم قسراً ، والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار ، وأقاويلهم ، وملاحتهم ، ومعاندتهم للرسل ، واستهزاؤهم بالدين : من تماديهم في الغيِّ وإفراطهم في العناد ، وتصميمهم على الكفر ، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه ، وإنهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوِّل لهم .
(4/116)

فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
عجلت عليه بكذا : إذا استعجلته منه ، أي : لا تعجل عليهم بأن يهلكوا ويبيدوا ، حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم ، وتطهر الأرض بقطع دابرهم ، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة ، كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعدّ فيها لو عدّت . ونحوه قوله تعالى : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [ الأحقاف : 35 ] ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك ، آخر العدد فراق أهلك ، آخر العدد دخول قبرك . وعن ابن السَّمَّاك : أنه كان عند المأمون فقرأها ، فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد ، فما أسرع ما تنفد .
(4/117)

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
نصب { يَوْمَ } بمضمر ، أي يوم { نَحْشُرُ } ونسوق : نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف . أو اذكر يوم نحشر . ويجوز أن ينتصب ب ( لايملكون ) . ذكر المتقون بلفظ التبجيل . وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته ، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم ، وعن عليّ رضي الله عنه .
( 677 ) ما يحشرون والله على أرجلهم ، ولكنهم على نوق رحالها ذهب ، وعلى نجائب سروجها ياقوت .
(4/118)

وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
وذكر الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء . والورود : العطاش لأنّ من يرد الماء لايرده إلا لعطش وحقيقة الورد : المسير إلى الماء ، قال :
رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا ... كُدْرِيَّةٍ أعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَا
فسمى به الواردون . وقرأ الحسن "يحشر المتقون" ، و"يساق المجرمون" .
(4/119)

لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
الواو في { لاَّ يَمْلِكُونَ } إن جعل ضميراً فهو للعباد ، ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة . ويجوز أن تكون علامة للجمع ، كالتي في "أكلوني البراغيث" والفاعل { مَنِ اتخذ } لأنه في معنى الجمع ، ومحل { مَنِ اتخذ } رفع على البدل ، أو على الفاعلية . ويجوز أن ينتصب على تقدير حذف المضاف ، أي إلا شفاعة من اتخذ . والمراد : لا يملكون أن يشفع لهم ، واتخاذ العهد : الاستظهار بالإيمان والعمل . وعن ابن مسعود أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم .
( 678 ) " أَيعجزُ أحدُكُمْ أَنْ يتخذَ كلَّ صباحٍ ومساءٍ عندَ اللَّهِ عهداً ، قالوا : وكيفَ ذَلَكَ؟ قالَ : "يقولُ كلَّ صباحٍ ومساءٍ : اللهمَّ فاطرَ السمواتِ والأرضِ عالمَ الغيبِ والشهادةِ إنِّي أعهدُ إليْكَ بأنِّي أشهدُ أَنْ لاَ إله إلاَّ انتَ وحدَكَ لا شريكَ لكَ وأَنَّ محمداً عبدك ورسولُكَ ، وأنَّكَ إِنْ تكلني إلى نفسِي تقرّبُني منَ الشرِّ وتباعدوني منَ الخيرِ ، وأَنِّي لاَ أثِقُ إلاَّ برحمتِكُ فاجعلْ لي عنَدكَ عهَداً توفينيهِ يومَ القيامَةِ إِنِّكَ لا تخلفُ المعيادَ . فإذَا قالَ ذَلَكَ طُبَعَ عليهِ بطابعٍ ووضعَ تحتَ العرشِ ، فإذَا كَانَ يومَ القيامةِ نادَى منادٍ : أينَ الذِينَ لَهمُ عندَ الرحمن عهدٌ ، فيدخلونَ الجنة " وقيل : كلمة الشهادة . أو يكون مِنْ عهد الأمير إلى فلان بكذا . إذا أمره به ، أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها . وتعضده مواضع في التنزيل : { وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السماوات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء ويرضى } [ النجم : 26 ] ، { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، و { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً } [ طه : 109 ] .
(4/120)

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
قرىء "إِدَّا" بالكسر والفتح . قال ابن خالويه : الإدّ والأدّ : العجب . وقيل : العظيم المنكر . والإدّة : الشدّة . وأدنَي الأمر وآدني : أثقلني وعظم عليّ إدّاً "يكادُ" قراءة الكسائي ونافع بالياء . وقرىء "ينفطرن" الأنفطار : مِنْ فطره إذا شقه . والتفطر : من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه . وقرأ ابن مسعود : "ينصدعن" أي تهدّ هدّاً ، أو مهدودة ، أو مفعول له : أي : لأنها تهدّ . فإن قلت : ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن الله سبحانه يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوّه بها ، لولا حلمي ووقاري ، وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ فاطر : 41 ] والثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة ، وتهويلاً من فظاعتها ، وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده ، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات : أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخرّ وفي قوله { لَقَدْ جِئْتُمْ } وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة ، وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله ، والتعرّض لسخطه ، وتنبيه على عظم ما قالوا . في { أَن دَعَوْا } ثلاثة أوجه : أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه ، كقوله :
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِمَاً ... عَلَى جُوِدِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمُ
ومنصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل ، أي : هذا لأن دعوا ، علل الخرور بالهدّ ، والهدّ بِدُعَاءِ الولد للرحمن . ومرفوعاً بأنه فاعل هدّاً ، أي هدها دعاء الولد للرحمن . وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات من الفائدة أنه هو الرحمن وحده ، لا يستحق هذا الاسم غيره . من قبل أنّ أصول النعم وفروعها منه : خلق العالمين ، وخلق لهم جميع ما معهم ، كما قال بعضهم : فلينكشف عن بصرك غطاؤه . فأنت وجميع ما عندك عطاؤه . فمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن . هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين ، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني ، طلباً للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولداً . أو من دعا بمعنى نسب ، الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام .
( 679 ) " مَنْ ادَّعى إلى غيرِ مواليه " وقول الشاعر :
إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لاَ نَدَّعِي لأبٍ ... أي لا ننتسب إليه .
(4/121)

وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
انبغى : مطاوع "بغي" إذا طلب ، أي : ما يتأتى له اتخاذ الولد وما يتطلب لو طلب مثلاً ، لأنه محال غير داخل تحت الصحة . أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها . وأما التبني فلا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى ، وليس للقديم سبحانه جنس ، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
(4/122)

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة ، وقوعها بعد رب في قوله :
رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ
وقرأ ابن مسعود وأبوحيوة "آت الرحمن" على أصله قبل الإضافة . الإحصاء الحصر والضبط يعني : حصرهم بعلمه وأحاط بهم { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } الذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزير أنهم أولاد الله ، كانوا بين كفرين ، أحدهما : القول بأن الرحمن يصح أن يكون والداً . والثاني : إشراك الذين زعموهم لله أولاداً في عبادته ، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم ، فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات؛ ثم عقبه بهدم الكفر الآخر . والمعنى : ما من معبود لهم في السموات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتي الرحمن ، أي : يأوي إليه ويلتجيء إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً خاشعاً خاشياً راجياً ، كما يفعل العبيد وكما يجب عليهم ، لا يدعي لنفسه ما يدعيه له هؤلاء الضلال . ونحوه قوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ } [ الإسراء : 57 ] وكلهم متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره وهو مهيمن عليهم محيط بهم ويجمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم؛ لا يفوته شيء من أحوالهم ، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم .
(4/123)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
قرأ جناح بن حبيش "وِدّاً" بالكسر ، والمعنى : سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب ، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك ، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة ، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالا لمكانهم . والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا دجا الإسلام . وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم [ الله ] إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم . وروي أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه :
( 680 ) " يا عليُّ قلْ : اللهمَّ اجعلْ لِي عندَكَ عهدَاً ، واجعلْ لِي في صدورِ المؤمنينَ مودّة " فأنزل الله هذه الآية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يعني يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 681 ) " يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ يا جبريلُ : قدْ أحببْتُ فلانَاً فأحبُّهُ ، فيحبُّهُ جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء ، إنَّ اللَّهَ قدْ أحبَّ فلانَاً فأحبُّوهُ ، فيحبّهُ أهلُ السماءِ ، ثمَّ يضعُ لَهُ المحبة في أهلِ الأرضِ " وعن قتادة : ما أقبلَ العبدُ إلى اللَّهِ إلاَّ أقبلَ اللَّهُ بقلوبِ العبادِ إليه .
(4/124)

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
هذه خاتمة السورة ومقطعها ، فكأنه قال : بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر ، فإنما أنزلناه { بِلِسَانِكَ } أي بلغتك وهو اللسان العربي المبين ، وسهلناه وفصلناه { لِتُبَشِّرَ بِهِ } وتنذر . واللّد : الشداد الخصومة بالباطل ، الآخذون في كل لديد؛ أي في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم ، يريد أهل مكة .
وقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } تخويف لهم وإنذار . وقرىء "تَحُسُّ" من حسه إذا شعر به . ومنه الحواس والمحسوسات . وقرأ حنظلة "تُسمع" مضارع أسمعت . والركز : الصوت الخفي . ومنه : ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض . والركاز : المال المدفون .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 682 ) " مَنْ قرأَ سورةَ مريم أعطيَ عشرَ حسناتٍ بعددِ مَنْ كذّبَ زكريا وصدق به ، ويحيىَ ومريمَ وعيسَى وإبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ وموسَى وهارون وإسماعيل وإدريسَ ، وعشرَ حسناتٍ بعددِ مَنْ دَعَا اللَّهَ في الدنيا وبعددِ مَنْ لمْ يدع اللَّهَ " .
(4/125)

طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
{ طه ( 1 ) } أبو عمرو فخم الطاء لاستعلائها . وأمال الهاء وفخمها ابن كثير وابن عامر على الأصل ، والباقون أمالوهما وعن الحسن رضي الله عنه : طه ، وفسر بأنه أمر بالوطء ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقوم في تهجدِهِ على إحدى رجليه فأُمِرَ بأَنْ يطأَ الأرضَ بقدمَيْهِ معاً وأن الأصل طأ ، فقلبت همزته هاء أو قلبت ألفا في يطأ فيمن قال :
لاَ هَنَاكَ الْمَرْتَعُ ... ثم بني عليه الأمر ، والهاء للسكت ويجوز أن يكتفي بشطري الاسمين وهما الدالان بلفظهما على المسميين ، والله أعلم بصحة ما يقال : إن "طاها" في لغة عك في معنى يا رجل ، ولعل عكاً تصرفوا في "يا هذا" كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء ، فقالوا في "يا" : "طا" ، واختصروا هذا فاقتصروا على ها ، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به :
إنَّ السَّفَاهَةَ طَاهَا في خَلاَئِقِكُم ... لاَقَدَّسَ اللَّهُ أخلاَقَ الْمَلاَعِينِ
الأقوال الثلاثة في الفواتح : أعني التي قدمتها في أول الكاشف عن حقائق التنزيل ، هي التي يعوّل عليها الألباء المتقنون { مَآ أَنَزَلْنَا } إن جعلت { طه ( 1 ) } تعديداً لأسماء الحروف على الوجه السابق ذكره فهو ابتداء كلام . وإن جعلتها اسماً للسورة احتملت أن تكون خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ ، و { القرءان } ظاهر أوقع موقع الضمير لأنها قرآن ، وأن يكون جواباً لها وهي قسم . وقرىء "ما نزل عليك القرآن" { لتشقى } لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى : { لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } [ الشعراء : 3 ] والشقاء يجيء في معنى التعب . ومنه المثل : أشقى من رائض مهر ، أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة ، بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة . وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له : إنك شقى لأنك تركت دين آبائك ، فأريد ردّ ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز ، والسبب في درك كل سعادة ، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها . وروي .
( 683 ) أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدَتْ قدماهُ ، فقالَ لَهُ جبريلُ عليه السلامُ : أبقِ على نفسِكَ فإنَّ لهَا علَيكَ حَقاً . أي : ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة ، وكل واحد من { لتشقى } و { تَذْكِرَةً } علة للفعل ، إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية ، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط . فإن قلت : أما يجوز أن تقول : ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى ، كقوله تعالى : { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } [ الحجرات : 2 ] ؟ قلت : بلى ، ولكنها نصبة طارئة ، كالنصبة في
(4/126)

{ واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] وأما النصبة في ( تذكرة ) فهي كالتي في ضربت زيداً ، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها . فإن قلت : هل يجوز أن يكون { تَذْكِرَةً } بدلا من محل { لتشقى } ؟ قلت : لا ، لاختلاف الجنسين ، ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي "إلا" فيه بمعنى "لكن" ويحتمل أن يكون المعنى : إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاقّ وتكاليف النبوّة ، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون تذكرة حالاً ومفعول له { لِّمَن يخشى } لمن يؤول أمره إلى الخشية ، ولمن يعلم الله منه أنه يبدل بالكفر إيماناً وبالقسوة خشية . في نصب { تَنزِيلاً } وجوه : أن يكون بدلاً من تذكرة إذا جعل حالاً ، لا إذا كان مفعولاً له؛ لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، وأن ينصب بنزل مضمراً ، وأن ينصب بأنزلنا؛ لأن معنى : ما أنزلناه إلا تذكرة : أنزلنا تذكرة ، وأن ينصب على المدح والاختصاص وأن ينصب ب ( يخشى ) مفعولاً به . أي : أَنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله ، وهو معنى حسن وإعراب بيِّن . وقرىء "تنزيل" بالرفع على خبر مبتدأ محذوف . ما بعد { تَنزِيلاً } إلى قوله : { لَهُ الأسماء الحسنى } تعظيم وتفخيم لشأن المنزل ، لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته ، ولا يخلو من أن يكون متعلقه إما { تَنزِيلاً } نفسه فيقع صلة له ، وإما محذوفاً فيقع صفة له . فإن قلت : ما فائدة النقلة من لفظ المتكلم إلى لفظ الغائب؟ قلت : غير واحدة : منها : عادة الافتنان في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة . ومنها أنّ هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة . ومنها أنه قال أوّلاً : { أَنزَلْنَا } ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع ، ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فضوعفت الفخامة من طريقين : ويجوز أن يكون { أَنزَلْنَا } حكاية لكلام جبريل والملائكة النازلين معه . { والسموات العلى } وصف السموات بالعلى : دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها .
(4/127)

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
قرىء "الرحمن" مجروراً صفة لمن خلق والرفع أحسن ، لأنه إما أن يكون رفعاً على المدح على تقدير : هو الرحمن ، وإما أن يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق . فإن قلت : الجملة التي هي { عَلَى العرش استوى } ما محلها - إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح؟ قلت : إذا جررت فهي خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن تكون كذلك وأن تكون مع الرحمن خبرين للمبتدأ لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك ، جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة ، وقالوه أيضاً لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤدّاه وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر . ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة ، ويد فلان مغلولة ، بمعنى أنه جواد أو بخيل ، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت . حتى أنّ من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم : هو جواد . ومنه قول الله عز وجل : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] أي هو بخيل ، { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان } [ المائدة : 64 ] أي هو جواد ، من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط ، والتفسير بالنعمة والتمحل للتثنية من ضيق الطعن والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام { وَمَا تَحْتَ الثرى } ما تحت سبع الأرضين . عن محمد بن كعب وعن السدي : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة .
(4/128)

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
أي يعلم ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك ، وهو ما أخطرته ببالك ، أو ما أسررته في نفسك { وَأَخْفَى } منه وهو ما ستسره فيها . وعن بعضهم : أن أخفى فعل [ ماضي ، لا أفعل تفضيل ] يعنى : أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه ، هو كقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] وليس بذاك . فإن قلت كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت : معناه وإن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فأعلم أنه غنيّ عن جهرك ، فإماأن يكون نهياً عن الجهر كقوله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول } [ الأعراف : 205 ] وإما تعليماً للعباد أنّ الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر { الحسنى } تأنيث الأحسن ، وصفت بها الأسماء لأنّ حكمها حكم المؤنث كقولك : الجماعة الحسنى ، ومثلها { مآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] ، و { مِنْ ءاياتنا الكبرى } [ طه : 23 ] . والذي فضلت به أسماؤه في الحسن [ على ] سائر الأسماء : دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية ، والأفعال التي هي النهاية في الحسن .
(4/129)

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوّة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود . يجوز أن ينتصب { إِذْ } ظرفاً للحديث ، لأنه حدث أو لمضمر ، أي : حين { رَءَا نَاراً } كان كيت وكيت . أو مفعولاً ل ( ذكر ) استأذن موسى شعيباً عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله ، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة ، وقد ضلّ الطريق وتفرّقت ماشيته ولاماء عنده ، وقدح فصلد زنده فرأى النار عند ذلك . قيل : كانت ليلة جمعة { امكثوا اْ } أقيموا في مكانكم . الإيناس : الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء ، والإنس : لظهورهم ، كما قيل الجنّ لاستتارهم وقيل : هو إبصار ما يؤنس به . لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعاً متيقناً ، حققه لهم بكلمة "إنّ" ليوطن أنفسهم ، ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين ، بني الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال { لعلى } ولم يقطع فيقول : إني { ءَاتِيكُمْ } لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به . القبس : النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما . ومنه قيل : المقبسة ، لما يقتبس فيه من سعفة أو نحوها { هُدًى } أي قوماً يهدونني الطريق أو ينفعونني بهداهم في أبواب الدين ، عن مجاهد وقتادة؛ وذلك لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل . والمعنى : ذوي هدى . و إذا وجد الهداة فقدوجد الهدى . ومعنى الاستعلاء في { عَلَى النار } أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها ، كما قال سيبويه في مررت بزيد : انه لصوق بمكان يقرب من زيد . أو لأنّ المصطلين بها والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها ، ومنه قول الأعشى :
وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلَّقُ ...
(4/130)

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
قرأ أبو عمرو وابن كثير "أَنّي" بالفتح ، أي : نودي بأني { أَنَاْ رَبُّكَ } وكسر الباقون ، أي : نودي فقيل يا موسى ، أو لأنّ النداء ضرب من القول فعومل معاملته . تكرير الضمير في { إنى أَنَاْ رَبُّكَ } لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . روي أنه لما نودي { ياموسى } قال : من المتكلم؟ فقال له الله عز وجل : { إنى أَنَاْ رَبُّكَ } ، وأن إبليس وسوس إليه فقال : لعلك تسمع كلام شيطان . فقال : أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست ، وأسمعه بجميع أعضائي . وروي : أنه حين انتهى رأى شجرة خضراء ، من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد . وسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نوراً عظيماً فخاف وبهت ، فألقيت عليه السكينة ثم نودي ، وكانت الشجرة عوسجة ، وروي : كلما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت . وعن ابن إسحاق : لما دنا استأخرت عنه ، فلما رأى ذلك رجع وأوجس في نفسه خيفة ، فلما أراد الرجعة دنت منه ، ثم كلم . قيل : أُمر بخلع النعلين لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ عن السدي وقتادة . وقيل : ليباشر الوادي بقدميه متبركاً به . وقيل : لأن الحفوة تواضع لله ، ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين ، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه ، وكان إذا ندر منه الدخول منتعلاً تصدق ، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها وتشريف لقدسها . وروي : أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي { طُوًى } بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة . وقيل : مرتين ، نحو ثنى أي نودي نداءين أو قدس الوادي كرة بعد كرة { وَأَنَا اخترتك } اصطفيتك للنبوّة . وقرأ حمزة "وإنا اخترناك" لِمَا يوحى ا للذي يوحى . أو للوحي . تعلق اللام باستمع ، أو باخترتك { لذكرى } لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلى لي . أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد . أو : لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها . أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق . أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري أو لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر . أو لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم ، وأفكارهم به ، قال : { لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } [ النور : 37 ] أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة ، كقوله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } [ النساء : 103 ] واللام مثلها في قولك : جئتك لوقت كذا ، وكان ذلك لست ليال خلون . وقوله تعالى : { ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 684 ) " من نامَ عنْ صلاةِ أو نسيَها فليصلِها إذَا ذكرَهَا " وكان حق العبارة أن يقال : لذكرها ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذَا ذكَرها" ومن يتمحلُ له يقول : إذا ذَكرَ الصلاةَ فقدْ ذكرَ اللَّهَ . أو بتقدير حذف المضاف ، أي : لذكر صلاتي . أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة . وقرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "للذكرى" .
(4/131)

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
أي أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها؛ ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به . وقيل : معناه أكاد أخفيها من نفسي ، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح . والذي غرهم منه أن في مصحف أبيّ : أكاد أخفيها من نفسي . وفي بعض المصاحف : أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها وعن أبي الدرداء وسعيد بن جبير "أخْفيَهَا" بالفتح ، من خفاه إذا أظهره ، أي : قرب إظهارها كقوله تعالى : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] وقد جاء في بعض اللغات : أخفاه بمعنى خفاه . وبه فسر بيت امرىء القيس :
فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لاَنْخفِهِ ... وَإنْ تَبْعَثُوا الْحَرْبَ لا نَقْعُدِ
فأكاد أخفيها محتمل للمعنيين { لتجزى } متعلق بآية { بِمَا تسعى } بسعيها .
(4/132)

فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
أي : لا يصدّنك عن تصديقها والضمير للقيامة ، ويجوز أن يكون للصلاة . فإن قلت : العبارة لنهي من لا يؤمن عن صدّ موسى ، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن صدّ الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب . فذكر السبب ليدل على المسبب . والثاني أن صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبب ليدل على السبب ، كقولهم : لا أرينك ههنا ، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته . وذلك سبب رؤيته إياه ، فكان ذكر المسبب دليلاً على السبب ، كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صليب المعجم حتى لا يتلوّح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدّك عما أنت عليه ، يعني : أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجمّ الغفير إذ لا شيء أطمّ على الكفرة ولا هم أشد له نكيراً من البعث ، فلا يهولنك وفور دهمائهم ولا عظم سوادهم ، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك ، واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه ، لا البرهان وتدبره . وفي هذا حثّ عظيم على العمل بالدليل ، وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله .
(4/133)

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى ( 17 ) } كقوله تعالى : { وهذا بَعْلِى شَيْخًا } [ هود : 72 ] في انتصاب الحال بمعنى الإشارة : ويجوز أن تكون { تِلْكَ } اسماً موصولاً صلته { بِيَمِينِكَ } إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عزّ وعلا في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة . ونظيره أن يريك الزرّاد زبرة من حديد ويقول لك : ما هي؟ فتقول : زبرة حديد ، ثم يريك بعد أيام لبوساً مسرداً فيقول لك : هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد . قرأ ابن أبي إسحاق "عصيّ" على لغة هذيل . ومثله { يا بشرى } [ يوسف : 19 ] أرادوا كسر ما قبل ياء المتكلم فلم يقدروا عليه ، فقبلوا الألف إلى أخت الكسرة وقرأ الحسن "عصاي" بكسر الياء لالتقاء الساكنين ، وهو مثل قراءة حمزة { بِمُصْرِخِىَّ } [ إبراهيم : 22 ] وعن ابن أبي إسحاق : سكون الياء { أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا } أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة . [ ( وأهش بها على غنمي ) ] هشّ الورق : خبطه أي : أخبطه على رؤس غنمي تأكله . وعن لقمان ابن عاد : أكلت حقاً وابن لبون وجذع ، وهشة نخب وسيلاً دفع ، والحمد لله من غير شبع ، سمعته من غير واحد من العرب . ونخب : واد قريب من الطائف كثير السدر . وفي قراءة النخعي : أهشّ ، وكلاهما من هشّ الخبز يهش : إذا كان ينكسر لهشاشته . وعن عكرمة : أهس بالسين ، أي : أنحى عليها زاجراً لها . والهس : زجر الغنم . [ { وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أخرى } ] ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا ، كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال : ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان . ليكون جوابه مطابقاً للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه ، ويجوز أن يريد عزّ وجلّ أن يعدّد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ، ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة ، كأنه يقول له : أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتدّ بها وتحتفل بشأنها؟ وقالوا : إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته . وقالوا : إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه ، وقالوا : انقطع لسانه بالهيبة فأجمل ، وقالوا : اسم العصا نبعة . وقيل في المآرب : كانت ذات شعبتين ومحجن ، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظلّ وإذا قصر رشاؤه وصله بها ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه . وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ، وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ، ويركزها فينبع الماء ، فإذا رفعها نضب ، وكانت تقيه الهوام .
(4/134)

قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
السعي : المشي بسرعة وخفة حركة . فإن قلت : كيف ذكرت بألفاظ مختلفة : بالحية ، والجانّ ، والثعبان؟ قلت : أمّا الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير . وأمّا الثعبان والجانّ فبينهما تناف : لأنّ الثعبان العظيم من الحيات ، والجان الدقيق . وفي ذلك وجهان : أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حيه تنقلب حية صفراء دقيقة ، ثم تتورّم ويتزايد جرمها حتى تصير ثعباناً ، فأريد بالجان ، أوّل حالها ، وبالثعبان مآلها . الثاني : أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان . والدليل عليه قوله تعالى : { فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جآنٌّ } [ النمل : 10 ] . وقيل : كان لها عرف كعرف الفرس . وقيل : كان بين لحييها أربعون ذراعاً .
(4/135)

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
لما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفاز ما يملك البشر عند الأهوال والمخاوف وعن ابن عباس : انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآه يبتلع كل شيء خاف ونفر . وعن بعضهم : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها . وقيل : لما قال له ربه : { لاَ تَخَفْ } بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيها . { سِيرَتَهَا } السيرة : من السير ، كالركبة من الركوب . يقال : سار فلان سيرة حسنة ، ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة ، وقيل : سير الأوّلين ، فيجوز أن ينتصب على الظرف ، أي : سنعيدها في طريقتها الأولى ، أي : في حال ما كانت عصا ، وأن يكون ( أعاد ) منقولاً من "عاده" بمعنى عاد إليه . ومنه بيت زهير :
وَعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيَهَا عِدَاءً ... فيتعدى إلى مفعولين . ووجه ثالث حسن : وهو أن يكون { سَنُعِيدُهَا } مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها ، بمعنى أنها أنشئت أوّل ما أنشئت عصا ، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية ، فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أوّلاً . ونصب سيرتها بفعل مضمر ، أي : تسير سيرتها الأولى : يعني سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها .
(4/136)

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
قيل لكل ناحيتين : جناحان ، كجناحي العسكر لمجنبتيه ، وجناحا الإنسان : جنباه ، والأصل المستعار منه جناحاً الطائر . سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران . والمراد إلى جنبك تحت العضد ، دل على ذلك قوله : { تَخْرُجْ } السوء : الرداءة والقبح في كل شيء ، فكني به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة ، وكان جذيمة صاحب الزباء أبرص فكنوا عنه بالأبرش . والبرص أبغض شيء إلى العرب . وبهم عنه نفرة عظيمة ، وأسماعهم لاسمه مجاجة ، فكان جديراً بأن يكنى عنه ، ولا نرى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه . يروي : أنه كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر . { بَيْضآءَ } و { ءَايَةً } حالان معاً . و { مِنْ غَيْرِ سوا ءٍ } ( من ) صلة ل ( بيضاء ) ، كما تقول : ابيضت من غير سوء ، وفي نصب { ءَايَةً } وجه آخر ، وهو أن يكون بإضمار نحو : خذ ، ودونك ، وما أشبه ذلك . حذف لدلالة الكلام ، وقد تعلق بهذا المحذوف { لِنُرِيَكَ } أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى . أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا . أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك .
(4/137)

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
لما أمره بالذهاب إلى فروعون الطاغي لعنه الله عرف أنه كلف أمراً عظيماً وخطباً جسيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح ، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه ، ويجعله حليماً حمولاً يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات ، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب . فإن قلت : { لِى } في قوله : { اشرح لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لى أَمْرِى ( 26 ) } ما جدواه والكلام بدونه مستتب؟ قلت : قد أبهم الكلام أولاً فقيل : اشرح لي ويسر لي ، فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما ، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره ، من أن يقول : اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج ، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل . عن ابن عباس : كان في لسانه رتة لما روي من حديث الجمرة ويروي : أن يده احترقت ، وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ ، ولما دعاه قال : إلى أي رب تدعوني؟ قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها . وعن بعضهم : إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المواكلة . واختلف في زوال العقدة بكمالها فقيل : ذهب بعضها وبقي بعضها ، لقوله تعالى : { وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً } [ القصص : 34 ] وقوله تعالى : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف : 52 ] وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنهما رتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( 685 ) " ورثَها منْ عمِهِ مِوسَى " وقيل : زالت بكمالها لقوله تعالى : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] وفي تنكير العقدة - وإن لم يقل عقدة لساني - : أنه طلب حلّ بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً ، ولم يطلب الفصاحة الكاملة ، و { مِّن لِّسَانِى } صفة للعقدة كأنه قيل : عقدة من عقد لساني .
{ واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي } الوزير من الوزر ، لأنه يتجمل عن الملك أوزاره ومؤنه . أو من الوزر ، لأن الملك يعتصم برأيه ويلجيء إليه [ في ] أموره . أو من المؤازرة وهي المعاونة . عن الأصمعي قال : وكان القياس أزيراً ، فقلبت الهمزة إلى الواو ، ووجه قلبها أنّ فعيلاً جاء في معنى مفاعل مجيئاً صالحاً ، كقولهم : عشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم ، فلما قلبت في أخيه قلبت فيه وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز ، ونظراً إلى يوازر وأخواته ، وإلى الموازرة . { وَزِيراً } و { هارون } مفعولاً قوله { واجعل } قدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة . أو { لّى وَزِيراً } مفعولاه ، وهارون عطف بيان للوزير .
(4/138)

و { أَخِى } في الوجهين بدل من هارون ، وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن . قرؤوا جميعاً { اشدد } { وَأَشْرِكْهُ } على الدعاء . وابن عامر وحده "اشدُد" و"أُشركه" على الجواب . وفي مصحف ابن مسعود "أخي واشدد" وعن أبيّ بن كعب "أشركه في أمري واشدد به أزري" ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر : أن يجعل { أَخِى } مرفوعاً على الابتداء : و { اشدد بِهِ } خبره ، ويوقف على { هارون } الأزر : القوّة . وأزره : قوّاه ، أي : اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك ، فإن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ( 35 ) } أي عالماً بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا ، وأن هارون نعم المعين والشادّ لعضدي ، بأنه أكبر مني سناً وأفصح لساناً .
(4/139)

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
السؤل : الطِّلبة ، فعل بمعنى مفعول ، كقولك : خبز ، بمعنى مخبوز . وأكل ، بمعنى مأكول .
(4/140)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
الوحي إلى أم موسى : إما أن يكون على لسان نبيّ في وقتها ، كقوله تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } [ المائدة : 111 ] أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة ، كما بعث إلى مريم . أو يريها ذلك في المنام فتتنبه عليه أو يلهمها كقوله تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] أي أوحينا إليها أمراً لا سبيل إلى التوصل إليه ولا إلى العلم به إلا بالوحي ، وفيه مصلحة دينية فوجب أن يوحي ولا يخلّ به ، أي : هو مما يوحى لا محالة وهو أمر عظيم ، مثله يحق بأن يوحي { أَنِ } هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول . القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع . ومنه قوله تعالى : { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] وكذلك الرمي قال :
غُلاَمٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعَا ... أي حصل فيه الحسن ووضعه فيه ، والضمائر كلها راجعة إلى موسى . ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت : فيه هجنة ، لما يؤدي إليه من تنافر النظم . فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت ، وكذلك الملقى إلى الساحل . قلت : ما ضرّك لو قلت : المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت؟ حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدّي ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر . لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته أن لا تخطيء جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وألقاه إليه ، سلك في ذلك سبيل المجاز ، وجعل اليم كأنه ذو تمييز ، أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه ، فقيل { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } روي أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً ، فوضعته فيه وجصصته وقيرته ، ثم ألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت ، فأمر به فأخرج ففتح ، فإذا صبيّ أصبح الناس وجهاً ، فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه . وظاهر اللفظ [ على ] أنّ البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه : لأنّ الماء يسحله أي يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل ، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوّهة نهر فرعون ، ثم أدّاه النهر إلى حيث البركة [ وألقيت عليك محبة مني ] { مِّنِّى } لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت ، فيكون المعنى على : أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب . وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة ، أي : محبة حاصلة أو واقعة مني ، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك . روي : أنه كانت على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة ، لا يكاد يصبر عنه من رآه { وَلِتُصْنَعَ على عينى } لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك ، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به ، وتقول للصانع : اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي . ولتصنع : معطوف على علة مضمرة ، مثل : ليتعطف عليك وترأم ونحوه . أو حذف معلله ، أي : ولتصنع فعلت ذلك . وقريء : "ولتصنع" و ( لتصنع ) ، بكسر اللام وسكونها . والجزم على أنه أمر وقرىء : "ولتصنع" بفتح التاء والنصب ، أي : وليكون عملك وتصرفك على عين مني .
(4/141)

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
العامل في { إِذْ تمشى } ( ألقيت ) أو ( لتصنع ) ويجوز أن يكون بدلاً من { إِذْ أَوْحَيْنَآ } فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت : كما يصح - وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه - أن يقول لك الرجل : لقيت فلاناً سنة كذا ، فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك . وربما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها . يروى أن أخته واسمها مريم جاءت متعرّفة خبره ، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها ، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت : هل أدلكم؟ فجاءت بالأمّ فقبل ثديها . ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته ، وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع .
{ وَقَتَلْتَ نَفْساً } هي نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي . قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة : اغتمّ بسبب القتل خوفاً من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون ، فغفر الله له باستغفاره حين قال { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى } [ القصص : 16 ] ونجاه من فرعون أن ينشب فيه أظفاره حين هاجر به إلى مدين { فُتُوناً } يجوز أن يكون مصدراً على فعول في المتعدّي ، كالثبور والشكور والكفور . وجمع فتن أو فتنة ، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث ، كحجوز وبدور ، في حجزة وبدرة : أي فتناك ضروباً من الفتن . سأل سعيد بن جبير بن عباس رضي الله عنه ، فقال : خلصناك من محنة بعد محنة : ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، فهذه فتنة يا ابن جبير . وألقته أمّه في البحر . وهمّ فرعون بقتله . وقتل قبطياً وأجر نفسه عشر سنين . وضلّ الطريق وتفرّقت غنمه في ليلة مظلمة ، وكان يقول عند كل واحدة : فهذه فتنة يا ابن جبير ، والفتنة : المحنة ، وكل ما يشق على الإنسان وكل ما يبتلي الله به عباده : فتنة قال : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] . { مَدْيَنَ } على ثماني مراحل من مصر . وعن وهب : أنه لبث عند شعيب ثمانياً وعشرين سنة ، منها مهر ابنته ، وقضى أوفى الأجلين { ثَمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى } أي سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك وفي وقت بعينه قد وقته لذلك ، فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر . وقيل : على مقدار من الزمان يوحي فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة { واصطنعتك لِنَفْسِى } . هذا تمثيل لما خوّله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم . مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه وخصائص ، أهلاً لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه ، ولا ألطف محلاً ، فيصطنعه بالكرامة والأثرة ، ويستخلصه لنفسه ، ولا يبصر ولا يسمع إلا بعينه وأذنه ، ولا يأتمن على مكنون سره إلا سواء ضميره .
(4/142)

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
الونى . الفتور والتقصير . وقرىء "تنيا" بكسر حرف المضارعة للإتباع ، أي : لا تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما ، واتخذا ذكري جناحاً تصيران به مستمدين بذلك العون والتأييد مني ، معتقدين أن أَمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري . ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة ، فإن الذكر يقع على سائر العبادات ، وتبليغ الرسالة من أجلِّها وأعظمها ، فكان جديراً بأن يطلق عليه اسم الذكر . روي : أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى . وقيل : سمع بمقبله . وقيل : ألهم ذلك . قرىء "لينا" بالتخفيف والقول اللين . نحو قوله تعالى : { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى } [ النازعات : 18 ] لأنّ ظاهره الاستفهام والمشورة ، وعرض ما فيه من الفوز العظيم . وقيل : عداه شباباً لا يهرم بعده ، وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت ، وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته . وقيل : لا تجبهاه بما يكره ، وألطفاً له في القول ، لما له من حق تربية موسى [ عليه الصلاة والسلام ] ، ولما ثبت له من مثل حق الأبّوة . وقيل : كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العباس ، وأبو الوليد ، وأبو مرّة والترجي لهما ، أي : اذهبا على رجائكما وطمعكما ، وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه . فهو يجتهد بطوقه ، ويحتشد بأقصى وسعه . وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأن لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة { وَلَوْ أَنَّآ أهلكناهم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك } [ طه : 134 ] أي : يتذكر ويتأمّل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق { أَوْ يخشى } أن يكون الأمر كما تصفان ، فيجرّه إنكاره إلى الهلكة .
(4/143)

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
فرط : سبق وتقدّم . ومنه الفارط : الذي يتقدّم الواردة . وفرس فرط : يسبق الخيل ، أي : نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها . وقرىء "يفرط" من أفرطه غيره إذا حمله على العجلة . خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب من شيطان ، أو من جبروته واستكباره وادّعائه بالربوبية . أو من حبه الرياسة ، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين حكى عنهم ربّ العزّة { قَالَ الملا مِن قَوْمِهِ } [ الأعراف : 60 ] { قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ } [ المؤمنون : 33 ] وقرىء "يفرط" من الإفراط في الأذية ، أي : نخاف أن يحول بيننا وبين تبليغ الرسالة بالمعاجلة . أو يجاوز الحدّ في معاقبتنا إن لم يعاجل ، بناء على ما عرفا وجرّبا من شرارته وعتوّه { أَوْ أَن يطغى } بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي ، لجرأته عليك وقسوة قلبه . وفي المجيء به هكذا على الإطلاق وعلى سبيل الرمز : باب من حسن الأدب وتحاش عن التفوّه بالعظيمة .
(4/144)

قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
{ مَعَكُمَا } أي حافظكما وناصركما { أَسْمَعُ وأرى } ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل ، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصرتي لكما ، فجائز أن يقدّر أقوالكم وأفعالكم ، وجائز أن لا يقدّر شيء ، وكأنه قيل : أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر . وإذا كان الحافظ والناصر كذلك ، تمّ الحفظ وصحت النصرة ، وذهبت المبالاة بالعدوّ . كانت بنو إسرائيل في ملكة فرعون والقبط ، يعذبونهم بتكليف الأعمال الصعبة : من الحفر والبناء ونقل الحجارة ، والسخرة في كل شيء ، مع قتل الولدان ، واستخدام النساء { قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبِّكَ } جملة جارية من الجملة الأولى وهي { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } مجرى البيان والتفسير ، لأنّ دعوى الرسالة لاتثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية ، إنما وحد قوله { بآية } ولم يثن ومعه آيتان : لأنّ المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها ، فكأنه قال : قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة ، وكذلك { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ } [ الأعراف : 105 ] ، { فأت بآية إن كنت من الصادقين } [ الشعراء : 154 ] ، { أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ } [ الشعراء : 30 ] [ والسلام على من أتبع الهدى ] يريد : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين ، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين .
(4/145)

قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
خاطب الاثنين ، ووجه النداء إلى أحدهما وهو موسى؛ لأنه الأصل في النبوّة ، وهارون وزيره وتابعه . ويحتمل أن يحمله خبثه ودعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه . لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى . ويدل عليه قوله : { أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين } [ الزخرف : 52 ] { خَلَقَهُ } أول مفعولي أعطى ، أي : أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به . أو ثانيهما ، أي : أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به ، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان : كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة ، غير ناب عنه . أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة ، حيث جعل الحصان والحِجر . زوجين ، والبعير والناقة ، والرجل والمرأة ، فلم يزاوج منها شيئاً غير جنسه وما هو على خلاف خلقه . وقرىء "خَلَقَهُ" صفة للمضاف أو للمضاف إليه ، أي : كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه { ثُمَّ هدى } أي عرف كيف يرتفق بما أعطى ، وكيف يتوصل إليه . ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه ، وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق .
(4/146)

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
سأله عن حال من تقدم وخلا من القرون ، وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ، فأجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب ، وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو ، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب ، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ ، لا يجوز على الله أن يخطيء شيئاً أو ينساه . يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له ، كقولك : ضللت الطريق والمنزل . وقرىء "يضل" من أضله إذا ضيعه . وعن ابن عباس : لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ، ولا يترك من وحده حتى يجازيه . ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم ، فتعنت ، وقال : ما تقول في سوالف القرون ، وتمادي كثرتهم ، وتباعد أطراف عددهم ، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟ فأجاب بأنّ كل كائن محيط به علمه ، وهو مثبت عنده في كتاب ، ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان ، كما يجوزان عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل ، أي : لا يضلّ كما تضل أنت ، ولا ينسى كما تنسى يا مدعي الربوبية بالجهل والوقاحة { الذى جَعَلَ } مرفوع صفة لربي . أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح ، وهذا من مظانه ومجازه { مَهْداً } قراءة أهل الكوفة ، أي : مهدها مهداً . أو يتمهدونها فهي لهم كالمهد وهو ما يمهد للصبي { وَسَلَكَ } من قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] ، { سَلَكْنَاهُ } [ الشعراء : 200 ] ، { نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ المجرمين } [ الحجر : 12 ] أي حصل لكم فيها سبلاً ووسطها بين الجبال والأودية والبراري { فَأَخْرَجْنَا } انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع ، لما ذكرت من الافتنان والإيذان بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ، وتذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته ، لا يمتنع شيء عن إرادته . ومثله قوله تعالى : { وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء } [ الأنعام : 99 ] ، { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } [ فاطر : 27 ] ، { أَمَّنْ خَلَقْنَا السماوات والارض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مآء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } [ النمل : 60 ] وفيه تخصيص أيضاً بأنا نحن نقدر على مثل هذا ، ولا يدخل تحت قدرة أحد { أزواجا } أصنافاً ، سميت بذلك لأنها مزدوجة ومقترنة بعضها مع بعض { شتى } صفة للأزواج ، جمع شتيت ، كمريض ومرضى . ويجوز أن يكون صفة للنبات . والنبات مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت ، فاستوى فيه الواحد والجمع ، يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم . قالوا : من نعمته عزّ وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام . وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله ، أي قائلين : { كُلُواْ وارعوا } حال من الضمير في { فَأَخْرَجْنَا } المعنى : أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها ، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها .
(4/147)

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
أراد بخلقهم من الأرض خلق أصلهم هو آدم عليه السلام منها . وقيل : إنّ الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه فيبدّدها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معاً . وأراد بإخراجهم منها أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب ، ويردّهم كما كانوا أحياء ، ويخرجهم إلى المحشر { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً } [ المعارج : 43 ] عدّد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم ، حيث جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقبلون عليها ، وسوّى لهم فيها مسالك يتردّدون فيها كيف شاؤوا ، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم ، وهي أصلهم الذي منه تفرعوا ، وأمهم التي منها ولدوا ، ثم هي كفاتهم إذا ماتوا ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 686 ) " تمسّحوا بالأرضِ فإنّها بِكُمْ برّةٌ " .
(4/148)

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
{ أريناه } بصرناه أو عرفناه صحتها ويقناه بها . وإنما كذب لظلمه ، كقوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] وقوله تعالى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَائِرَ } [ الإسراء : 102 ] وفي قوله تعالى : { كُلَّهَا فَكَذَّبَ } وجهان ، أحدهما : أن يحذي بهذا التعريف الإضافي حذو التعريف باللام لو قيل الآيات كلها ، أعني أنها كانت لا تعطي إلا تعريف العهد ، والإشارة إلى الآيات المعلومة التي هي تسع الآيات المختصة بموسى عليه السلام : العصا ، واليد ، وفلق البحر ، والحجر ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ونتق الجبل . والثاني : أن يكون موسى قد أراه آياته وعدّد عليه ما أوتيه غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم ، وهو نبيّ صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به ، فكذبها جميعاً { وأبى } أن يقبل شيئاً منها . وقيل : فكذب الآيات وأبى قبول الحق .
(4/149)

قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
يلوح من جيب قوله : { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } أن فرائصه كانت ترعد خوفاً مما جاء به موسى عليه السلام ، لعلمه وإيقانه أنه على الحق ، وأن المحق لو أراد قود الجبال لانقادت وأن مثله لا يخذل ولا يقل ناصره ، وأنه غالبه على ملكه لا محالة . وقوله : { بِسِحْرِكَ } تعلل وتحير وإلا فكيف يخفى عليه أن ساحراً لا يقدر أن يخرج ملكاً مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر؟ .
(4/150)

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
لا يخلو الموعد في قوله : { فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } من أن يجعل زماناً أو مكاناً أو مصدراً . فإن جعلته زماناً نظراً في أن قوله تعالى : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } مطابق له ، لزمك شيئان أن تجعل الزمان مخلفاً ، وأن يعضل عليك ناصب مكاناً : وإن جعلته مكاناً لقوله تعالى : { مَكَاناً سُوًى } لزمك . أيضاً أن توقع الإخلاف على المكان ، وأن لا يطابق قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } وقراءة الحسن غير مطابقة له مكاناً وزمانا جميعاً ، لأنه قرأ { يَوْمُ الزينة } بالنصب ، فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد ، ويقدر مضاف محذوف ، أي : مكان موعد ، ويجعل الضمير في { نُخْلِفُهُ } للموعد و { مَكَاناً } بدل من المكان المحذوف . فإن قلت : فكيف طابقه قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ولا بد من أن تجعله زماناً ، والسؤال واقع عن المكان لاعن الزمان؟ قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً ، لأنهم لا بدّ لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه ، مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم ، فبذكر الزمان علم المكان . وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير . والمعنى : إنجاز وعدكم يوم الزينة . وطباق هذا أيضاً من طريق المعنى . ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف ، ويكون المعنى : اجعل بيننا وبينك وعدا لا نخلفه . فإن قلت : فيم ينتصب مكاناً؟ قلت : بالمصدر . أو بفعل يدل عليه المصدر . فإن قلت : فكيف يطابقه الجواب؟ قلت : أما على قراءة الحسن فظاهر . وأما على قراءة العامة فعلى تقدير : وعدكم وعد يوم الزينة . ويجوز على قراءة الحسن أن يكون "موعدكم" مبتدأ ، بمعنى الوقت . و { ضُحًى } خبره ، على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه . وقيل في يوم الزينة : يوم عاشوراء ، ويوم النّيروز ، ويوم عيد كان لهم في كل عام ، ويوم كانوا يتخذون فيه سوقاً ويتزينون ذلك اليوم . قرىء "نخلفه" بالرفع على الوصف للموعد . وبالجزم على جواب الأمر . وقرىء "سوى" وسوى ، بالكسر والضم ، ومنوّناً وغير منوّن . ومعناه : منصفاً بيننا وبينك عن مجاهد ، وهو من الاستواء؛ لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها . ومن لم ينوّن فوجهه أن يجري الوصل مجرى الوقف . قرىء : "وأن تحشر الناس" بالتاء والياء . يريد : وأن تحشر يا فرعون . وأن يحشر اليوم . ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة إما على العادة التي يخاطب بها الملوك ، أو خاطب القوم بقوله : { مَوْعِدُكُمْ } وجعل { يُحْشَرُ } لفرعون . ومحل { وَأَن يُحْشَرَ } الرفع أو الجرّ ، عطفاً على اليوم أو الزينة : وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علوّ كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر ، وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد وفي المجمع الغاصّ لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكلّ حدّ المبطلين وأشياعهم ، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر .
(4/151)

قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
{ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً } أي لا تدعو آياته ومعجزاته سحراً قرىء ( فَيُسْحِتَكُم ) والسحت لغة أهل الحجاز . والإسحات : لغة أهل نجد وبني تميم . ومنه قول الفرزدق :
. . . . . . إلاَّ مُسْحِتَاً أوْ مُجَلّفُ ... في بيت لا تزال الركب تصطكّ في تسوية إعرابه .
(4/152)

فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
عن ابن عباس : إن نجواهم : إن غلبنا موسى اتبعناه . وعن قتادة : إن كان ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر . وعن وهب لما قال : { وَيْلَكُمْ } الآية قالوا : ما هذا بقول ساحر . والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول ، ثم قالوا : إن هذان لساحران . فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره ، خوفاً من غلبتهما ، وتثبيطاً للناس عن اتباعهما . قرأ أبو عمرو : "إن هذين لساحران" على الجهة الظاهرة المكشوفة . وابن كثير وحفص "إنْ هذان لساحران" على قولك : إنْ زيد لمنطلق . واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة . وقرأ أبيّ "إن ذان إلا ساحران" وقرأ ابن مسعود "أن هذان ساحران" بفتح أن وبغير لام ، بدل من النجوى . وقيل في القراءة المشهورة { إِنْ هاذان لساحران } هي لغة بلحرث بن كعب ، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف ، كعصا وسعدى ، فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب . وقال بعضهم : { إِنْ } بمعنى نعم . و { لسا حرا نِ } خبر مبتدأ محذوف ، واللام داخلة على الجملة تقديره : لهما ساحران . وقد أعجب به أبو إسحاق سموا مذهبهم الطريقة { المثلى } والسنة الفضلى ، وكل حزب بما لديهم فرحون . وقيل : أرادوا أهل طريقتهم المثلى ، وهم بنو إسرائيل ، لقول موسى : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بنى إسرا ءيلَ } وقيل : "الطريقة" اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم . يقال : هم طريقة قومهم . ويقال للواحد أيضاً : هو طريقة قومه : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } يعضده قوله : ( فجمع كيده ) وقرىء { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } أي أزمعوه واجعلوه مجمعاً عليه ، حتى لا تختلفوا ولا يخلف عنه واحد منكم ، كالمسألة المجمع عليها . أمروا بأن يأتوا صفاً لأنه أهيب في صدور الرائين . وروي : أنهم كانوا سبعين ألفاً مع كل واحد منهم حبل وعصا وقد أقبلوا إقبالة واحدة . وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى ، لأن الناس يجتمعون فيه لعيدهم وصلاتهم مصطفين . ووجه صحته أن يقع علماً لمصلى بعينه ، فأمروا بأن يأتوه أو يراد . ائتوا مصلى من المصليات { وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } اعتراض . يعني : وقد فاز من غلب .
(4/153)

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
{ أَن } مع ما بعده إما منصوب بفعل مضمر . أو مرفوع بأنه خبر مبتدإ محذوف . معناه : اختر أحد الأمرين؛ أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا . وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه ، وتواضع له وخفض جناح ، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم ، وكأن الله عزّ وعلا ألهمهم ذلك ، وعلم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم أولاً ، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب ، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر . ويستنفدوا أقصى طوقهم ، ومجهودهم ، فإذا فعلوا : أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه ، وسلط المعجزة على السحر فمحقته ، وكانت آية نيرة للناظرين ، وعبرة بينة للمعتبرين . يقال في { إِذَا } هذه : إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت ، الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها ، خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير ، فتقدير قوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم . وهذا تمثيل . والمعنى : على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي . وقرىء : "عُصيهم" بالضم وهو الأصل بالكسر إتباع ونحوه : دُليّ ودِليّ ، وقُسِيّ وقِسِيّ [ وقرىء ] "تخيل" على إسناده إلى ضمير الحبال والعصي وإبدال قوله : { أَنَّهَا تسعى } من الضمير بدل الاشتمال ، كقولك : أعجبني زيد كرمه ، وتخيل على كون الحبال والعصي مخيلة سعيها . وتخيل . بمعنى تتخيل . وطريقه طريق تخيل . ونخيل : على أنّ الله تعالى هو المخيل للمحنة والابتلاء . يروى : أنهم لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت . فخيلت ذلك .
(4/154)

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
إيجاس الخوف : إضمار شيء منه ، وكذلك توجس الصوت : تسمع نبأة يسيرة منه ، وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية ، وأنه لا يكاد يمكن الخلوّ من مثله . وقيل : خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه { إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } فيه تقرير لغلبته وقهره ، وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التشديد وبتكرير الضمير وبلام التعريف وبلفظ العلوّ وهو الغلبة الظاهرة وبالتفضيل . وقوله { مَا فِى يَمِينِكَ } ولم يقل عصاك : جائز أن يكون تصغيراً لها ، أي : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك ، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها ، وصغره وعظمها ، وجائز أن يكون تعظيماً لها أي : لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة ، فإن في يمينك شيئاًأعظم منها كلها ، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده ، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها . وقرىء { تَلْقَفْ } بالرفع على الاستئناف أو على الحال ، أي : ألقها متلقفة وقرىء "تلقف" بالتخفيف . { صَنَعُواْ } ههنا بمعنى زوّروا وافتعلوا كقوله تعالى : { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ الأعراف : 117 ] قرىء { كَيْدُ سا حِرٍ } بالرفع والنصب . فمن رفع فعلى أنّ ( ما ) موصولة . ومن نصب فعلى أنها كافة . وقرىء : "كيد سحر" بمعنى : ذي سحر ، أو ذوي سحر . أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته . أو بين الكيد ، لأنه يكون سحراً وغير سحر ، كما تبين المائة بدرهم . ونحوه : علم فقه ، وعلم نحو . فإن قلت : لم وحد ساحر ولم يجمع؟ قلت : لأنّ القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العدد ، فلو جمع ، لخيل أنّ المقصود هو العدد . ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر } أي هذا الجنس . فإن قلت : فلم نكر أولاً وعرف ثانياً؟ قلت : إنما نكر من أجل تنكير المضاف ، لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العَجَّاج :
في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتْ ... وفي حديث عمر رضي الله عنه : لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة المراد تنكير الأمر ، كأنه قيل : إن ما صنعوا كيد سحري . وفي سعي دنيوي . وأمر دنيوي وأخروي { حَيْثُ أتى } كقولهم : حيث سير ، وأية سلك ، وأينما كان .
(4/155)

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
سبحان الله ما أعجب أمرهم . قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين وروي : أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأو الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها . وعن عكرمة : لما خرّوا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة .
(4/156)

قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
{ لَكَبِيرُكُمُ } لعظيمكم ، يريد : أنه أسحرهم وأعلاهم درجة في صناعتهم . أو لمعلمكم ، من قول أهل مكة للمعلم : أمرني كبيري ، وقال لي كبيري : كذا يريدون معلمهم وأستاذهم في القرآن وفي كل شيء . قرىء "فلأقطعنّ" "ولأصلبن" بالتخفيف والقطع من خلاف : أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى؛ لأنّ كل واحد من العضوين خالف الآخر ، بأن هذا يد وذاك رجل ، وهذا يمين وذاك شمال . و"من" لابتداء الغاية؛ لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو العضو ، لا من وفاقه إياه . ومحل الجار والمجرور النصب على الحال ، أي : لأقطعنها مختلفات؛ لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف . شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه ، فلذلك قيل : { فِى جُذُوعِ النخل } . { أَيُّنَآ } يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله عليه بدليل قوله : { ءَامَنتُمْ لَهُ } واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى ، كقوله تعالى : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] وفيه نفاجة باقتداره وقهره ، وما ألفه وضرى به : من تعذيب الناس بأنواع العذاب . وتوضيع لموسى عليه السلام ، واستضعاف له مع الهزء به؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء .
(4/157)

قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
{ والذى فَطَرَنَا } عطف على ما جاءنا أو قسم . قرىء { تَقْضِى هذه الحياوة الدنيآ } ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف ، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به ، كقولك في "صمت يوم الجمعة" : "صيم يوم الجمعة" وروي : أن السحرة - يعني رؤوسهم - كانوا اثنين وسبعين : الاثنان من القبط ، والسائر من بني إسرائيل ، وكان فرعون أكرههم على تعلّم السحر . وروي : أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائماً ففعل ، فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر؛ لأن الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى إلا أن يعارضوه { تزكى } تطهر من أدناس الذنوب . وعن ابن عباس : قال لا إله إلا الله . قيل في هذه الآيات الثلاث : هي حكاية قولهم . وقيل : خبر من الله لا على وجه الحكاية .
(4/158)

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
{ فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً } فاجعل لهم ، من قولهم : ضرب له في ماله سهما . وضرب اللبن : عمله . اليبس : مصدر وصف به . يقال : يبس يبساً ويبساً ونحوهما : العدم والعدم . ومن ثم وصف به المؤنث فقيل : شاتنا يبس ، : وناقتنا يبس : إذا جف لبنها . وقرىء : "يبساً" و"يابساً" ولا يخلو اليبس من أن يكون مخففاً عن اليبس . أو صفة على فعلٍ . أو جمع يابس ، كصاحب وصحب ، وصف به الواحد تأكيداً ، كقوله :
. . . . . . وَمِعى جياعاً ... جعله لفرط جوعه كجماعة جياع { لاَ تَخَافَآ } حال من الضمير في ( فاضرب ) وقرىء "لا تخف" على الجواب . وقرأ أبو حيوة "دَرْكاً" بالسكون . والدرك والدرك : اسمان من الإدراك ، أي : لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك . في { وَلاَ تخشى } إذا قرىء : "لا تخف" ثلاثة أوجه : أن يستأنف ، كأنه قيل وأنت لا تخشى ، أي : ومن شأنك أنك آمن لا تخشى ، وأن لا تكون الألف المنقلبة عن الياء هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة ، كقوله : { فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] ، { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] وأن يكون مثله قوله :
كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أسيراً يَمَا نِيَا ... { مَا غَشِيَهُمْ } من باب الاختصار . ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة ، أي : غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله . وقرىء : "فغشاهم من اليم ما غشاهم" والتغشية : التغطية . وفاعل غشاهم : إما الله سبحانه . أو ما غشاهم . أو فرعون؛ لأنه الذي ورّط جنوده وتسبب لهلاكهم . وقوله : { وَمَا هدى } تهكم به في قوله : { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 29 ] .
(4/159)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
{ يابنى إسراءيل } خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك آل فرعون ، وقيل : هو للذين كانوا منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ الله عليهم بما فعل بآبائهم والوجه هو الأوّل ، أي : قلنا يا بني إسرائيل ، وحذف القول كثير في القرآن . وقرىء "أنجيتكم" إلى ( رزقتكم ) ، وعلى لفظ الوعد والمواعدة . وقرىء { الأيمن } بالجر على الجوار ، نحو "جحر ضب خرب" . ذكرهم النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم ، وفيما واعد موسى صلوات الله عليه من المناجاة بجانب الطور ، وكتب التوراة في الألواح . وإنما عدّى المواعدة إليهم لأنها لابستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم ، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم ، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه [ ولا تطغوا فيه ] طغيانهم في النعمة : أن يتعدّوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها ، وأن ينفقوها في المعاصي : وأن يزووا حقوق الفقراء فيها ، وأن يسرفوا في إنفاقها وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا . قرىء { فَيَحِلَّ } وعن عبد الله "لا يحلن" { وَمَن يَحْلِلْ } المكسور في معنى الوجوب ، من حل الدّين يحل إذا وجب أداؤه . ومنه قوله تعالى : { حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ } [ البقرة : 196 ] والمضموم في معنى النزول . وغضب الله : عقوباته ولذلك وصف بالنزول { هوى } هلك . وأصله أن يسقط من جبل فيهلك .
قالت :
هَوَى مِنْ رَأْسِ مَرْقَبَةٍ ... فَفُتِّتَ تَحْتَهَا كَبِدُهْ
ويقولون : هوت أمّه . أو سقط سقوطاً لا نهوض بعده .
(4/160)

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
الاهتداء : هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح ، ونحوه قوله تعالى : { إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 30 ] وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في "جاءني زيد ثم عمرو" أعني أنّ منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه؛ لأنها أعلى منها وأفضل .
(4/161)

وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
{ وَمَا أَعْجَلَكَ } أي شيء عجل بك عنهم على سبيل الإنكار ، وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب . ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به ، بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله تعالى . وزل عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظراً إلى دواعي الحكمة ، وعلماً بالمصالح المتعلقة بكل وقت ، فالمراد بالقوم : النقباء . وليس لقول من جوّز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح ، يأباه قوله : { هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى } وعن أبي عمرو ويعقوب "إثري" بالكسر وعن عيسى بن عمر "أُثرى" بالضم . وعنه أيضاً : "أولى" بالقصر . والإثر أفصح من الأثر . وأما الأثر فمسموع في فرند السيف مدوّن في الأصول يقال : إثر السيف وأثره ، وهو بمعنى الأثر غريب . فإن قلت : { وَمَا أَعْجَلَكَ } سؤال عن سبب العجلة فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك . وقوله : { هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى } كما ترى غير منطبق عليه . قلت : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين ، أحدهما : إنكار العجلة في نفسها . والثاني : السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه ، فكان أهمّ الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتلّ بأنه لم يوجد مني إلا تقدّم يسير ، مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به . وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى } ولقائل أن يقول : حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله ، فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام .
(4/162)

قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
أراد بالقوم المفتونين : الذي خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف مانجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفاً . فإن قلت : في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة ، وحسبوها أربعين مع أيامها ، وقالوا : قد أكملنا العدة ، ثم كان أمر العجل بعد ذلك ، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه { فإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } ؟ قلت : قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة . بلفظ الموجودة الكائنة على عادته . أو افترص السامري غيبته فعزم على إضلالهم غبَّ انطلاقه ، وأخذ في تدبير ذلك . فكان بدء الفتنة موجوداً . قرىء : "وَأَضَلُّهُمُ السَّامِرِيُّ" أي هو أشدّهم ضلالاً : لأنه ضال مضل ، وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة . وقيل : السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم : وقيل كان من أهل باجرما . وقيل : كان علجاً من كرمان . واسمه موسى بن ظفر ، وكان منافقاً قد أظهر الإسلام ، وكان من قوم يعبدون البقر .
(4/163)

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
الأسف : الشديد الغضب . ومنه قوله عليه [ الصلاة و ] السلام في موت الفجأة .
( 686 ) " رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر " وقيل : الحزين . فإن قلت : متى رجع إلى قومه؟ قلت : بعد ما استوفى الأربعين : ذا القعدة وعشر ذي الحجة . وعدهم الله سبحانه أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور ، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل ، حكي لنا أنها كانت ألف سورة كل سورة ألف آية ، يحمل أسفارها سبعون جملاً { العهد } الزمان ، يريد : مدة مفارقته لهم . يقال : طال عهدي بك ، أي : طال زماني بسبب مفارقتك . وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان ، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل { بِمَلْكِنَا } قرىء بالحركات الثلاث ، أي : ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ، أي : لو ملكنا أمرنا وخلينا وراءنا لما أخلفناه ، ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده . أي : حملنا أحمالاً من حليّ القبط التي استعرناها منهم . أو أرادوا بالأوزار : أنها آثام وتبعات ، لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب . وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي ، على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ { فَقَذَفْنَاهَا } في نار السامري ، التي أوقدها من الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلي وقرىء : "حملنا" { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامرى } أراهم أنه يلقي حلياً في يده مثل ما ألقوا . وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطيء حيزوم فرس جبريل . أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتا صار حيواناً { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } السامري من الحفرة عجلاً خلقه الله من الحليّ التي سبكتها النار يخور كما تخور العجاجيل . فإن قلت : كيف أثرت تلك التربة في إحياء الموات؟ قلت : أما يصحّ أن يؤثر الله سبحانه روح القدس بهده الكرامة الخاصة كما آثره بغيرها من الكرامات . وهي أن يباشر فرسه بحافره تربة إذا لاقت تلك التربة جماداً أنشأه الله إن شاء عند مباشرته حيواناً ألا ترى كيف أنشأ المسيح من غير أب عند نفخه في الدرع . فإن قلت : فلم خلق الله العجل من الحليّ حتى صار فتنة لبني إسرائيل وضلالاً؟ قلت : ليس بأوّل محنة محن الله بها عباده ليثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين . ومن عجب من خلق العجل ، فليكن من خلق إبليس أعجب . والمراد بقوله : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } هو خلق العجل للامتحان ، أي : امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال ، وأوقعهم فيه حين قال لهم : { هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِىَ } أي : فنسي موسى أن يطلبه ههنا ، وذهب يطلبه عند الطور . أو فنسي السامري : أي ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر .
(4/164)

أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
{ يَرْجَعُ } من رفعه فعلى أنّ أن مخففة من الثقيلة ومن نصب فعلى أنها الناصبة للأفعال { مِن قَبْلُ } من قبل أن يقول لهم السامري ما قال ، كأنهم أوّل ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه ، فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون عليه السلام بقوله : { إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن } .
(4/165)

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
لا مزيدة . والمعنى ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر والمعاصي؟ وهلا قاتلت من كفر بمن آمن؟ ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً؟ أو مالك لم تلحقني .
(4/166)

قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
قرىء : { بِلِحْيَتِى } بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز ، كان موسى صلوات الله عليه رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء ، شديد الغضب لله ولدينه ، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلاً من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام ، أن ألقى ألواح التوارة لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة ، غضبا لله واستنكافاً وحمية ، وعنف بأخيه وخليفته على قومه ، فأقبل عليه إقبال العدوّ المكاشف قابضاً على شعر رأسه - وكان أفرع - وعلى شعر وجهه يجرّه إليه . أي : لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا ، فاستأنيتك أن تكون أنت المتدارك بنفسك ، المتلافي برأيك؛ وخشيت عتابك على إطراح ما وصيتني به من ضم النشر وحفظ الدهماء ولم يكن لي بد من رقبة وصيتك والعمل على موجبها .
(4/167)

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
الخطب : مصدر خطب الأمر إذا طلبه ، فإذا قيل لمن يفعل شيئاً : ما خطبك؟ فمعناه : ما طلبك له؟ قرىء : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } بالكسر ، والمعنى : علمت ما لم تعلموه ، وفطنت ما لم تفطنوا له . قرأ الحسن { قَبْضَةً } بضم القاف وهي اسم المقبوض ، كالغرفة والمضغة . وأما القبضة فالمرة من القبض ، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر ، كضرب الأمير . وقرأ أيضاً : فقبصت قبصة ، بالصاد المهملة الضاد : بجميع الكف والصاد : بأطراف الأصابع . ونحوهما : الخضم ، والقضم : الخاء بجميع الفم؛ والقاف بمقدمه : قرأ ابن مسعود : "من أثر فرس الرسول" فإن قلت : لم سماه الرسول دون جبريل وروح القدس؟ قلت : حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به ، فأبصره السامريُ فقال : إنّ لهذا شأناً ، فقبض قبضة من تربة موطئه ، فلما سأله موسى عن قصته قال : قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد . ولعله لم يعرف أنه جبريل .
(4/168)

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضاً ، وإذا اتفق أن يماس أحداً رجلاً أو امرأة ، حم الماس والممسوس ، فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح : لا مساس ، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجىء إلى الحرم ، ومن الوحشي النافر في البرية . ويقال : إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم . وقرىء : { لاَ مِسَاسَ } بوزن فجار . ونحوه قولهم في الظباء . إذا وردت الماء فلا عباب ، وإن فقدته فلا أباب : وهي أعلام للمسة والعبة والأبة ، وهي المرة من الأب وهو الطلب { لَّن تُخْلَفَهُ } أي لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض ، ينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا ، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين . وقرىء : "لن تخلفه" وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً قال الأعشى :
أثْوَى وَأقْصَرَ لَيْلَهُ لِيُزَوَّدَا ... فَمَضى وَأخْلَفَ مِنْ قَتِيلَةَ مَوْعِداً
وعن ابن مسعود "نخلفه" بالنون ، أي : لن يخلفه الله ، كأنه حكى قوله عز وجل كما مر في { لاِهَبَ لَكِ } [ مريم : 19 ] . { ظَلْتَ } وظلت ، وظللت والأصل ظللت ، فحذفوا اللام الأولى ونقلوا حركتها إلى الظاء ، ومنهم من لم ينقل { لَّنُحَرّقَنَّهُ } ولنحرقنه ولنحرقنه . وفي حرف ابن مسعود "لنذبحنه" ، و"لنحرقنه" و"لنحرقنه" القراءتان من الإحراق . وذكر أبو علي الفارسي في لنحرِّقنه أنه يجوز أن يكون حرّق مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد . وعليه القراءة الثالثة ، وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه { لَنَنسِفَنَّهُ } بكسر السين وضمها ، وهذه عقوبة ثالثة وهي إبطال ما افتتن به وفتن ، وإهدار سعيه ، وهدم مكره { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .
(4/169)

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
قرأ طلحة : الله الذي لا إله إلا هو الرحمن رب العرش [ الكريم ] { وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً } وعن مجاهد وقتادة : وسع ، ووجهه أن وسع متعدّ إلى مفعول واحد ، وهو ( كل شيء ) . وأمّا { عِلْماً } فانتصابه على التمييز . وهو في المعنى فاعل ، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين ، فنصبهما معاً على المفعولية لأنّ المميز فاعل في المعنى ، كما تقول في "خاف زيد عمراً" خوَّفت زيداً عمراً ، فترد بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً .
(4/170)

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
الكاف في { كذلك } منصوب المحل ، وهذا موعد من الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أي : مثل ذلك الاقتصاص ونحو ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون ، نقصّ عليك من سائر أخبار الأمم وقصصهم وأحوالهم ، تكثيراً لبيناتك ، وزيادة في معجزاتك ، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة . وتتأكد الحجة على من عاند وكابر ، وأن هذا الذكر الذي آتيناك يعني القرآن مشتملاً على هذه الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار ، لذكر عظيم وقرآن كريم ، فيه النجاة والسعادة لمن أقبل عليه ، ومن أعرض عنه فقد هلك وشقي . يريد بالوزر : العقوبة الثقيلة الباهظة ، سماها وزراً تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح الحامل ، وينقض ظهره ، ويلقي عليه بهره : أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم . وقرىء : "يحمل" جمع . { خالدين } على المعنى ، لأنّ من مطلق متناول لغير معرض واحد . وتوحيد الضمير في أعرض وما بعده للحمل على اللفظ . ونحوه قوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } [ الجن : 23 ] { فِيهِ } أي في ذلك الوزر . أو في احتماله { وسَاء } في حكم بئس . والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهماً يفسره { حِمْلاً } والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه ، تقديره : ساء حملا وزرهم ، كما حذف في قوله تعالى : { نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ، 44 ] أيوب هو المخصوص بالمدح . ومنه قوله تعالى : { وَسَاءتْ مَصِيراً } [ النساء 97 ، 115 ] أي وساءت مصيراً جهنم . فإن قلت : اللام في ( لهم ) ما هي؟ وبم تتعلق؟ قلت : هي للبيان ، كما في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] . فإن قلت : ما أنكرت أن يكون في ساء ضمير الوزر؟ قلت : لا يصح أن يكون في ساء وحكمه حكم بئس ضمير شيء بعينه غير مبهم فإن قلت : فلا يكن ساء الذي حكمه حكم بئس ، وليكن ساء الذي منه قوله تعالى : { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] بمعنى أهم وأحزن؟ قلت : كفاك صادّاً عنه أن يؤول كلام الله إلى قولك : وأحزن الوزر لهم يوم القيامة حملاً ، وذلك بعد أن تخرج عن عهدة هذا اللام وعهدة هذا المنصوب .
(4/171)

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
أسند النفخ إلى الآمربه فيمن قرأ : "ننفخ" بالنون . أو لأن الملائكة المقرّبين وإسرافيل منهم بالمنزلة التي هم بها من رب العزة ، فصح لكرامتهم عليه وقربهم منه أن يسند ما يتولونه إلى ذاته تعالى . وقرىء : "ينفخ" بلفظ ما لم يسم فاعله . وينفخ . ويحشر ، بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام . وأما يحشر المجرمون فلم يقرأ به إلا الحسن . وقرىء : ( في الصور ) بفتح الواو جمع صورة ، وفي الصور : قولان ، أحدهما : أنه بمعنى الصور وهذه القراءة تدل عليه . والثاني : أنه القرن . قيل : في الزرق قولان ، أحدهما : أن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب لأنّ الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ولذلك قالوا في صفة العدوّ : أسود الكبد ، أصهب السبال ، أزرق العين . والثاني : أنّ المراد العمى؛ لأنّ حدقة من يذهب نور بصره تزراقّ [ يتخافتون ] تخافتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول ، يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا : إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر لأنّ أيام السرور قصار ، وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت ، والذاهب وإن طالت مدّته قصير بالانتهاء ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت "أطال الله بقاءك" "كفى بالانتهاء قصراً" وإما لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا ، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة . وقد استرجح الله قول من يكون أشدّ تقاولاً منهم في قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } ونحوه قوله تعالى : { قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين } [ المؤمنون : 112 - 113 ] وقيل : المراد لبثهم في القبور . ويعضده قوله عز وجل : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } [ الروم : 55 ] ، { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله إلى يَوْمِ البعث } [ الروم : 56 ] .
(4/172)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
{ يَنسِفُهَا } يجعلها كالرمل ، ثم يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما يذرّى الطعام { فَيَذَرُهَا } أي فيذر مقارّها ومراكزها . أو يجعل الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر ، كقوله تعالى : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] . فإن قلت : قد فرّقوا بين العوج والعوج ، فقالوا : العوج بالكسر في المعاني . والعوج بالفتح في الأعيان ، والأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين؟قلت : اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون ، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية ، لعثر فيها على عوج في غير موضع ، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي ، فنفى الله عزّ وعلا ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك ، اللهمَّ إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني ، فقيل فيه : عوج بالكسر . الأمت النتوّ اليسير ، يقال : مدّ حبله حتى ما فيه أمت .
(4/173)

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال في قوله : { يَوْمَئِذٍ } أي يوم إذ نسفت ، ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل من يوم القيامة . والمراد : الداعي إلى المحشر . قالوا : هو إسرافيل قائماً على صخرة بيت المقدس يدعو الناس ، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون { لاَ عِوَجَ لَهُ } أي لا يعوجّ له مدعوّ ، بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته . أي : خفضت الأصوات من شدة الفزع وخفتت { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } وهو الركز الخفي . ومنه الحروف المهموسة . وقيل : هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت ، أي : لا يسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر { مَنْ } يصلح أن يكون مرفوعاً ومنصوباً ، فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف ، أي : لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من { أَذِنَ لَهُ الرحمن } والنصب على المفعولية . ومعنى أذن له { وَرَضِىَ لَهُ } لأجله . أي : أذن للشافع ورضي قوله لأجله . ونحو هذه اللام اللام في قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَاسَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] .
(4/174)

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
أي يعلم ما تقدّمهم من الأحوال وما يستقبلونه ، ولا يحيطون بمعلوماته علماً .
(4/175)

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
المراد بالوجوه وجوه العصاة ، وأنهم إذا عاينوا - يوم القيامة - الخيبة والشقوة وسوء الحساب ، صارت ، وجوههم عانية ، أي ذليلة خاشعة ، مثل وجوه العناة وهم الأسارى . ونحوه قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيَّئَتْ وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] ، { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [ القيامة : 24 ] . وقوله تعالى : { وَقَدْ خَابَ } وما بعده اعتراض ، كقولك : خابوا وخسروا . وكلّ من ظلم فهو خائب خاسر .
(4/176)

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
الظلم : أن يأخذ من صاحبه فوق حقه . والهضم : أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له ، كصفة المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ويسترجحون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . أي : فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم ، لأنه لم يظلم ولم يهضم . وقرىء : "فلا يخف" على النهي .
(4/177)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
{ وكذلك } عطف على ( كذلك نقص ) أي : ومثل ذلك الإنزال ، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة . مكرّرين فيه آيات الوعيد ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة . والذكر - كما ذكرنا - يطلق على الطاعة والعبادة . وقرىء "نحدث" و"تحدث" بالنون والتاء ، أي : تحدث أنت . وسكن بعضهم الثاء للتخفيف ، كما في :
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُستَحْقِبٍ ... إثماً مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ
(4/178)

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{ فتعالى الله الملك الحق } استعظام له ولما يصرِّف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم ، وغير ذلك مما يجري عليه أمر ملكوته ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد : وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن ، فتأنّ عليك ريثما يسمعك ويفهمك . ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك . ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته . ونحوه قوله تعالى : { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [ القيامة : 16 ] وقيل معناه : لا تبلغ ما كان منه مجملاً حتى يأتيك البيان . وقرىء : "حتى تقضى إليك وحيه" . وقوله تعالى : { رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له عندماعلم من ترتيب التعلم ، أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي . فزدني علماً إلى علم ، فإنّ لك في كل شيء ، حكمة وعلماً . وقيل : ما أمر الله رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم .
(4/179)

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
يقال في أوامر الملوك ووصاياهم : تقدّم الملك إلى فلان وأوعز إليه ، وعزم عليه ، وعهد إليه عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله : { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ طه : 113 ] والمعنى : وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة ، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها ، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم ، فخالف إلى ما نهي عنه ، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم ، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون ، كأنه يقول : إنّ أساس أمر بني آدم على ذلك ، وعرقهم راسخ فيه . فإن قلت : ما المراد بالنسيان؟ قلت يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر ، وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس ، حتى تولد من ذلك النسيان . وأن يراد الترك وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها . وقرىء "فنسى" أي : نساه الشيطان . العزم : التصميم والمضيّ على ترك الأكل ، وأن يتصلب في ذلك تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل له . والوجود : يجوز أن يكون بمعنى العلم ، ومفعولاه { لَهُ عَزْماً } وأن يكون نقيض العدم كأنه قال : وعدمنا له عزماً .
(4/180)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
{ إِذْ } منصوب بمضمر ، أي : واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه وتزيينه له الأكل من الشجرة ، وطاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة والموعظة البليغة والتحذير من كيده ، حتى يتبين لك أنه لم يكن من أولي العزم والثبات . فإن قلت : إبليس كان جنياً بدليل قوله تعالى : { كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } [ الكهف : 50 ] فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؟ قلت كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله تعالى عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له ، كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع ، كما لو قام لمقبل على المجلس علية أهله وسراتهم ، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة أوجب ، حتى إن لم يقم عنف . وقيل له : قد قام فلان وفلان ، فمن أنت حتى تترفع عن القيام؟ فإن قلت : فكيف صحّ استثناؤه وهو جني عن الملائكة؟ قلت : عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه ، فأخرج الاستثناء على ذلك ، كقولك : خرجوا إلا فلانة ، لامرأة بين الرجال { أبى } جملة مستأنفة ، كأنه جواب قائل قال : لم لم يسجد؟ والوجه أن لا يقدّر له مفعول ، وهو السجود المدلول عليه بقوله : { فَسَجَدُواْ } وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط .
(4/181)

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
{ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } فلا يكونن سبباً لإخراجكما . وإنما أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حوّاء بعد إشراكهما في الخروج؛ لأنّ في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم ، كما أنّ في ضمن سعادته سعادتهم ، فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها . مع المحافظة على الفاصلة . أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت ، وذلك معصوب برأس الرجل وهو راجع إليه . وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه .
(4/182)

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
قرىء "وإنك" بالكسر والفتح . ووجه الفتح العطف على "أن لا تجوع" . فإن قلت : إنّ لا تدخل على أن ، فلا يقال : إنّ أن زيداً منطلق ، والواو نائبة عن إنّ وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها؟ قلت : الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن إنّ ، إنما هي نائبة عن كل عامل ، فلما لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة - كإن - لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إنّ وأن .
الشبع والريّ والكسوة والكنّ : هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان ، فذكره استجماعها له في الجنة ، وأنه مكفيّ لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا ، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحو ، ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها ، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها .
(4/183)

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
فإن قلت : كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } [ الأعراف : 20 ] وأخرى بإلى قلت : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ووعوعة الذئب ووقوقة الدجاجة ، في أنها حكايات للأصوات وحكمها حكم صوت وأجرس . ومنه : وسوس المبرسم ، وهو موسوس بالكسر . والفتح لحن . وأنشد ابن الأعرابي :
وَسْوَسَ يَدعُو مُخْلِصاً رَبَّ الْفَلَقْ ... فإذا قلت : وسوس له ، فمعناه لأجله ، كقوله :
أَجرِسْ لَهَا يَا ابْنَ أَبي كِبَاشِ ... ومعنى "وسوس إليه" أنهى إليه الوسوسة ، كقولك . حدّث إليه وأسرّ إليه . أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود ، لأن من أكل منها خلد بزعمه ، كما قيل لحيزوم : فرس الحياة ، لأنّ من باشر أثره حيي { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } دليل عى قراءة الحسن بن علي وابن عباس رضي الله عنهم : { إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] بالكسر .
(4/184)

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
"طفق يفعل كذا" مثل : جعل يفعل ، وأخذ ، وأنشأ . وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً ، وبينها وبينه مسافة قصيرة هي للشروع في أوّل الأمر . وكاد لمشارفته والدنوّ منه . قرىء { يَخْصِفَانِ } للتكثير والتكرير ، من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف ، أي : يلزقان الورق بسوآتهما للتستر وهو ورق التين . وقيل كان مدوراً فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما . وقيل كان لباسهما الظفر ، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع ، عن ابن عباس : لا شبهة في أنّ آدم لم يمتثل ما رسم الله له ، وتخطى فيه ساحة الطاعة ، وذلك هو العصيان . ولما عصى خرج فعله من أن يكون [ فعلاً ] رشداً وخيراً ، فكان غيا لا محالة؛ لأنّ الغي خلاف الرشد ، ولكن قوله : { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } بهذا الإطلاق وبهذا التصريح ، وحيث لم يقل : وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك ، مما يعبر به عن الزلات والفرطات : فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة ، وكأنه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلطة و بهذا اللفظ الشنيع ، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيآت والصغائر ، فضلاً أن تجسروا على التورّط في الكبائر . وعن بعضهم ( فغوى ) فبشم من كثرة الأكل ، وهذا - وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفاً فيقول في "فني ، وبقي" : "فنا ، وبقا" وهم بنوطي - تفسير خبيث .
(4/185)

ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
فإن قلت : ما معنى { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ } ؟ قلت : ثم قبله بعد التوبة وقرّبه إليه ، من جبى إليّ كذا فاجتبيته . ونظيره : جليت عليّ العروس فاجتليتها . ومنه قوله عز وجل { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بآية قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } [ الأعراف : 203 ] أي هلا جبيت إليك فاجتبيتها . وأصل الكلمة الجمع . ويقولون : اجتبت الفرس نفسها إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار . و { هُدًى } أي وفقه لحفظ التوبة وغيره . من أسباب العصمة والتقوى .
(4/186)

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر ، والسببين اللذين منها نشؤا وتفرعوا : جعلا كأنهما البشر في أنفسهما ، فخوطبا مخاطبتهم ، فقيل : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } على لفظ الجماعة . ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب ، وهو في الحقيقة للمسبب { هُدًى } كتاب وشريعة . وعن ابن عباس : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم تلا قوله : { فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه .
(4/187)

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
الضنك : مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث . وقرىء : "ضنكى" على فعلى . ومعنى ذلك : أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته؛ فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح ، وسهولة ، فيعيش عيشاً رافعاً؛ كما قال عز وجل : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً } [ النحل : 97 ] والمعرض عن الدين ، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا ، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك وحاله مظلمة ، كما قال بعض المتصوّفة : لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوّش عليه رزقه . ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره . قال الله تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله } [ البقرة : 61 ] وقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] وقال : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] وقال : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } [ نوح : 11 ] وقال : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقةلأسقيناهم مَّاء غَدَقاً } [ الجن : 16 ] وعن الحسن : هو الضريع والزقوم في النار . وعن أبي سعيد الخدري :
( 687 ) "عذاب القبر" وقرىء { وَنَحْشُرُهُ } بالجزم عطفاً على محل { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } لأنه جواب الشرط . وقرىء : "ونحشره" بسكون الهاء على لفظ الوقف ، وهذا مثل قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } [ الإسراء : 97 ] وكما فسر الزرق بالعمى { كذلك } أي مثل ذلك فعلت أنت ، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة ، فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تتبصر . وتركتها وعميت عنها ، فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك .
(4/188)

وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين : المعيشة الضنك في الدنيا ، وحشره أعمى في الآخرة - ختم آيات الوعيد بقوله : { وَلَعَذَابُ الأخرة أَشَدُّ وأبقى } كأنه قال : وللحشر على العمى الذي لا يزول أبداً أشدّ من ضيق العيش المنقضي . أو أراد : ولتركنا إياه في العمى أشدّ وأبقى من تركه لآياتنا .
(4/189)

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
فاعل { لَّمْ يَهْدِ } الجملة بعده يريد : ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ونظيره قوله تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على نُوحٍ فِى العالمين } [ الصافات : 79 ] أي تركنا عليه هذا الكلام . ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون . وقرىء : { يَمْشُونَ } يريد أنّ قريشاً يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون { فِى مساكنهم } ويعاينون آثار هلاكهم .
(4/190)

وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
الكلمة السابقة : هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة ، يقول : لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً لهؤلاء الكفرة . واللزام : إما مصدر لازم وصف به ، وإما فعال بمعنى مفعل ، أي ملزم ، كأنه آلة اللزوم لفرط لزومه ، كما قالوا : لزاز خصم { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } لا يخلو من أن يكون معطوفاً على { كَلِمَةٌ } أو على الضمير في { كَانَ } أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كم كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل .
(4/191)

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{ بِحَمْدِ رَبّكَ } في موضع الحال ، أي : وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه والمراد بالتسبيح الصلاة . أو على ظاهره قدم الفعل على الأوقات أوّلاً ، والأوقات على الفعل آخراً فكأنه قال : صل لله قبل طلوع الشمس يعني الفجر ، وقبل غروبها يعني الظهر والعصر ، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها ، وتعمد آناء الليل وأطراف النهار مختصاً لهما بصلاتك ، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل ، لاجتماع القلب وهدّو الرجل والخلوّ بالرب . وقال الله عز وجل : { إِنَّ نَاشِئَةَ اليل هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ المزمل : 6 ] وقال : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل ساجدا وَقَائِماً } [ الزمر : 9 ] ولأنّ الليل وقت السكون والراحة ، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق؛ وللبدن أتعب وأنصب ، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله . وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العتمة ، وفي أطراف النهار صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار ، إرادة الاختصاص ، كما اختصت في قوله : { حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] عند بعض المفسرين . فإن قلت : ما وجه قوله : { وَأَطْرَافَ النهار } على الجمع ، وإنما هما طرفان كما قال : { أَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار } [ هود : 114 ] ؟ قلت : الوجه أمن الإلباس ، وفي التثنية زيادة بيان . ونظير مجيء الأمرين في الآيتين : مجيئهما في قوله :
ظَهْرَاهُمَا مِثْلَ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ ... وقرىء : "وأطراف النهار" عطفاً على آناء الليل [ لعلك ترضى ] . ولعل للمخاطب ، أي : اذكر الله في هذه الأوقات ، طمعاً ورجاء أن تنال عند الله ما به ترضي نفسك ويسر قلبك . وقرىء : "ترضى" أي يرضيك ربك .
(4/192)

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي نظر عينيك : ومدّ النظر : تطويله ، وأن لا يكاد يرده ، استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به ، وتمنياً أن يكون له ، كما فعل نظارة قارون حين قالوا : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ } [ القصص : 79 ] حتى واجههم أولو العلم والإيمان ب { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صالحا } [ القصص : 80 ] وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه ، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف ، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع ، وأنّ من أبصر منها شيئاً أحب أن يمدّ إليه نظره ويملأ منه عينيه قيل : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي لا تفعل ما أنت معتاد له وضار به ، ولقد شدّد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك ، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة؛ فالناظر إليها محصل لغرضهم ، وكالمغري لهم على اتخاذها { أزواجا مّنْهُمْ } أصنافاً من الكفرة ويجوز أن ينتصب حالاً من هاء الضمير ، والفعل واقع على { مِنْهُمْ } كأنه قال : إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناساً منهم . فإن قلت : علام انتصب { زَهْرَةَ } ؟ قلت : على أحد أربعة أوجه : على الذم وهو النصب على الاختصاص . وعلى تضمين { مَتَّعْنَا } معنى أعطينا وخوّلنا ، وكونه مفعولاً ثانياً له . وعلى إبداله من محل الجار والمجرور . وعلى إبداله من أزواجاً ، على تقدير ذوي زهرة . فإن قلت : ما معنى الزهرة فيمن حرّك؟ قلت : معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة ، كما جاء في الْجَهْرَة الْجَهَرَة . وقرىء : { أَرِنَا الله } [ النساء : 153 ] . وأن تكون جمع زاهر ، وصفاً لهم بأنهم زاهرو هذه الدنيا ، لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون؛ وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء : من شحوب الألوان والتقشف في الثياب { لِنَفْتِنَهُمْ } لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب ، لوجود الكفران منهم . أو لنعذبهم في الآخرة بسببه { وَرِزْقُ رَبّكَ } هو ما ادّخر له من ثواب الآخرة الذي هو خير منه في نفسه وأدوم . وأو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوّة . أو لأن أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه ، والحلال { خَيْرٌ وأبقى } لأن الله لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث ، والحرام لا يسمى رزقاً أصلاً وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن [ أبي ] رافع قال :
( 688 ) بعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودي وقال : " قلْ لَهُ يقولُ لَكَ رسولُ اللَّهِ أقرضْني إلى رجب " ، فقالَ : واللَّهِ لا أقرضتُه إلاّ بَرْهَنَ ، فقالَ رسولُ اللَّهِ [ صلى الله عليه وسلم ] " إنِّي لأمينُ في السماءِ وإنِّي لأمين في الأرضِ ، احملْ إليهِ درعِي الحديدِ " فنزلَتْ ولا تمدّنَ عينيك .
(4/193)

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } أي وأقبل أنت مع أهلك على عبادة الله والصلاة؛ واستعينوا بها على خصاصتكم؛ ولا تهتم بأمر الرزق والمعيشة ، فإنّ رزقك مكفى من عندنا ، ونحن رازقوك ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ففرّغ بالك لأمر الآخرة . وفي معناه قول الناس : من كان في عمل الله كان الله في عمله . وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله . وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصابت أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا ، بهذا أمر الله رسوله ، ثم يتلو هذه الآية .
(4/194)

وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوّة ، فقيل لهم : أو لم تأتكم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن ، من قبل أنّ القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة ، وتلك ليست بمعجزات ، فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها ، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة . وقرىء : "الصحف" بالتخفيف . ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل .
(4/195)

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
قرىء { نَّذِلَّ ونخزى } على لفظ ما لم يسم فاعله .
(4/196)

قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{ كُلٌّ } أي كل واحد منا ومنكم { مُّتَرَبّصٌ } للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم . وقرىء : "السواء" بمعنى الوسط والجيد . أو المستوى والسوء والسوأي والسوي تصغير السوء . وقرىء : "فتمتعوا فسوف تعلمون" قال أبو رافع : حفظْتهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 689 ) " مَنْ قرأ سورةَ طهَ أُعطيَ يومَ القيامةِ ثوابَ المهاجرينَ والأنصار . " وقالَ :
( 690 ) " لا يقرأُ أهلُ الجنةِ مِنَ القرآنِ إلاَّ طهَ ويسَ " .
(4/197)

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
هذه اللام : لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب ، أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم ، كقولهم : "أزف للحيّ رحيلهم" الأصل أزف رحيل الحيّ ثم أزف للحيّ الرحيل ، ثم أزف للحيّ رحيلهم . ونحوه ما أورده سيبويه في "باب ما يثني فيه المستقرّ توكيداً" عليك زيد حريص عليك . وفيك زيد راغب فيك . ومنه قولهم : لا أبالك لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة ، وهذا الوجه أغرب من الأوّل . والمراد اقتراب الساعة ، وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك . ونحوه : { واقترب الوعد الحق } [ الأنبياء : 97 ] فإن قلت : كيف وصف بالاقتراب وقد عدّت دون هذا القول أكثر من خمسمائة عام؟ قلت : هو مقترب عند الله والدليل عليه قوله عزّ وجلّ : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] ولأنّ كلّ آت - وإن طالت أوقات استقباله وترقبه - قريب ، إنما البعيد هو الذي وجد وانقرض ، ولأنّ ما بقي في الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها ، بدليل انبعاث خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان . وقال عليه الصلاة والسلام : حذاء ، ولم تبق إلا صبابة كصبابة الإناء . وإذا كانت بقية الشيء وإن كثرت في نفسها قليلة بالإضافة إلى معظمه ، كانت خليقة بأن توصف بالقلة وقصر الذرع . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنّ المراد بالناس : المشركون . وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم . وهو ما يتلوه من صفات المشركين . وصفهم بالغفلة مع الإعراض ، على معنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون ، لا يتفكرون في عاقبتهم ، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم ، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء للمحسن والمسيء . وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر . أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا .
(4/198)

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ : بأنّ الله يجدّد لهم الذكر وقتاً فوقتاً ، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ، ليكرّر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون ، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر - التي هي أحق الحق وأجدّ الجدّ - إلا لعباً وتلهياً واستسخاراً والذكر : هو الطائفة النازلة من القرآن . وقرأ ابن أبي عبلة { مُّحْدَثٍ } بالرفع صفة على المحل . قوله : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } حالان مترادفتان أو متداخلتان ومن قرأ : { لاَهِيَةً } بالرفع فالحال واحدة ، لأن { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } خبر بعد خبر ، لقوله : { وَهُمْ } واللاهية : من لها عنه إذا ذهل وغفل ، يعني أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلاً ، وثبتوا على رأس غفلتهم ، وذهولهم عن التأمّل والتبصر بقلوبهم [ ( وأسروا النجوى ) ] فإن قلت : النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية ، فما معنى قوله : { وَأَسَرُّواْ } ؟ قلت : معناه وبالغوا في إخفائها . أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون ، أبدل { الذين ظَلَمُواْ } من واو وأسرّوا ، إشعاراً بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به . أو جاء على لغة من قال "أكلوني البراغيث" أو هو منصوب المحل على الذم . أو هو مبتدأ خبره { وَأَسَرُّواْ النجوى } قدّم عليه . والمعنى : وهؤلاء أسروا النجوى . فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من النجوى ، أي : وأسروا هذا الحديث . ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمراً : اعتقدوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ملكاً ، وأن كل من ادّعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر ، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار : أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر . فإن قلت : لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت : كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم ، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره ، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم ، ويتجاهدوا في طيّ سرّهم عنهم ما أمكن واستطيع . ومنه قول الناس :
( 692 ) " استعينوا على حوائجكم بالكتمان " وَيُرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن يسرّوا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين : إن كان ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررنا .
(4/199)

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
فإن قلت : هلا قيل : يعلم السر لقوله : { وَأَسَرُّواْ النجوى } [ الأنبياء : 3 ] قلت : القول عام يشمل السرّ والجهر؟ فكان في العلم به العلم بالسرّ وزيادة ، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السرّ ، كما أنّ قوله : يعلم السرّ ، آكد من أن يقول : يعلم سرهم . ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية . فإن قلت : فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله : { قُلْ أَنزَلَهُ الذى يَعْلَمُ السر فِى السماوات والارض } [ الفرقان : 6 ] ؟ قلت : ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع . ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى ، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتنّ الكلام افتناناً ، وتجمع الغاية وما دونها ، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه ، من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى . فكأنه أراد أن يقول : إن ربي يعلم ما أسروه ، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة ، وثم قصد وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض ، فهو كقوله علام الغيوب { عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } [ سبأ : 3 ] وقرىء { قَالَ رَبّى } حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم .
(4/200)

بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وهكذا الباطل لجلج ، والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد . ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد : وأن قولهم الثاني أفسد من الأول ، والثالث أفسد من الثاني ، وكذلك الرابع من الثالث ، صحة التشبيه في قوله : { كَمَا أُرْسِلَ الأولون } من حيث أنه في معنى : كما أتى الأوّلون بالآيات ، لأنّ إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول : أرسل محمد صلى الله عليه وسلم ، وبين قولك : أتى محمد بالمعجزة .
(4/201)

مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
{ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها ، فلما جاءتهم نكثوا و خالفوا ، فأهلكهم الله . فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث .
(4/202)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب ، حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا ، وإنما أحالهم على أولئك لأنهم كانوا يشايعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] فلا يكاذبونهم فيما هم فيه ردء لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
(4/203)

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{ لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } صفة لجسداً والمعنى : وما جعلنا الأنبياء عليهم السلام قبله ذوي جسد غير طاعمين . ووحد الجسد لإرادة الجنس ، كأنه قال : ذوي ضرب من الأجساد وهذا ردّ لقولهم { مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام } [ الفرقان : 7 ] . فإن قلت : نعم قد ردّ إنكارهم أن يكون الرسول بشراً يأكل ويشرب بما ذكرت ، فماذا ردّ من قولهم بقوله : { وَمَا كَانُواْ خالدين } ؟ قلت : يحتمل أن يقولوا إنه بشر مثلنا يعيش كما نعيش ويموت كما نموت . أو يقولوا هلا كان ملكاً لا يطعم ويخلد : إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون . أو مسمين حياتهم المتطاولة وبقاءهم الممتدّ خلوداً .
(4/204)

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{ صدقناهم الوعد } مثل واختار موسى قومه . والأصل في الوعد : ومن قومه . ومنه : صدقوهم القتال . وصدقني سنّ بكره { وَمَن نَّشَاء } هم المؤمنون ومن في بقائه مصلحة .
(4/205)

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
{ ذِكْرُكُمْ } شرفكم وصيتكم ، كما قال : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] أو موعظتكم . أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء أو حسن الذكر كحسن الجوار ، والوفاء بالعهد ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والسخاء؛ وما أشبه ذلك
(4/206)

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ } واردة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم؛ لأنّ القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، بخلاف الفصم . وأراد بالقرية : أهلها ، ولذلك وصفها بالظلم ، وقال : { قَوْماً ءاخَرِينَ } لأن المعنى : أهلكنا قوماً وأنشأنا قوماً آخرين . وعن ابن عباس : أنها "حضور" وهي و"سحول" قريتان باليمن ، تنسب إليهما الثياب . وفي الحديث .
( 693 ) " كُفنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثوبَيْنِ سحوليَيْن " وروي "حضورَيْين" . بعث الله إليهم نبياً فقتلوه ، فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم . وروي : أنهم لما أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء ندموا واعترفوا بالخطأ . وذلك حين لم ينفعهم الندم . وظاهر الآية على الكثرة . ولعل ابن عباس ذكر "حضور" بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية . فلما علموا شدّة عذابنا وبطشتنا علم حس ومشاهدة ، لم يشكوا فيها ، ركضوا من ديارهم ، والركض : ضرب الدابة بالرجل . ومنه قوله تعالى : { اركض بِرِجْلِكَ } [ ص : 42 ] فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب . ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم ، فقيل لهم ، { لاَ تَرْكُضُواْ } والقول محذوف . فإن قلت : من القائل؟ قلت يحتمل أن يكون بعض الملائكة أو من ثم من المؤمنين أو يجعلوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل . أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم . أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم { وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } من العيش الرافه والحال الناعمة . والإتراف : إبطار النعمة وهي الترفة { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } تهكم بهم وتوبيخ ، أي : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسئلون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة . أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم . وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم : بم تأمرون؟ وبماذا ترسمون؟ وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدَّمين؟ أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم ، ويستضيئون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحائب أكفكم ، ويمترون أخلاف معروفكم وأياديكم : إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء . أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم ، وتوبيخاً إلى توبيخ { تِلْكَ } إشارة إلى يا ولينا ، لأنها دعوى ، كأنه قيل : فما زالت تلك الدعوى { دَعْوَاهُمْ } والدعوى بمعنى الدعوة . قال تعالى : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] . فإن قلت : لم سميت دعوى؟ قلت : لأن المولول كأنه يدعو الويل ، فيقول تعالى : يا ويل فهذا وقتك . و { تِلْكَ } مرفوع أو منصوب اسماً أو خبراً وكذلك دعواهم . [ حصيداً ] الحصيد : الزرع المحصود . أي : جعلناهم مثل الحصيد ، شبههم به في استئصالهم واصطلامهم كما تقول : جعلناهم رماداً ، أي مثل الرماد . والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له ، فلما دخل عليها جعل نصبها جميعاً على المفعولية . فإن قلت كيف ينصب "جعل" ثلاثة مفاعيل؟ قلت : حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد؛ لأنّ معنى قولك "جعلته حلواً حامضاً" جعلته جامعاً للطعمين . وكذلك معنى ذلك : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود .
(4/207)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
أي : وما سوّينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب ، كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم ، للهو واللعب ، وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية ، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا ، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعدّ والمرافق التي لا تحصى . ثم بين أنّ السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالي : هو أن الحكمة صارفة عنه ، وإلا فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلاً لأني على كل شيء قدير . وقوله : { لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } ، كقوله : { رّزْقاً مّن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] أي من جهة قدرتنا وقيل : اللهو الولد بلغة اليمن . وقيل المرأة . وقيل من لدنا ، أي من الملائكة لا من الإنس ، ردّاً لولادة المسيح وعزير .
(4/208)

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
{ بَلْ } إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب ، وتنزيه منه لذاته ، كأنه قال : سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب ، بل من عادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نغلب اللعب بالجد ، وندحض الباطل بالحق . واستعار لذلك القذف والدمغ ، تصويراً لإبطاله وإهداره ومحقه فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً ، قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه ، ثم قال : { وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } ه به مما لا يجوز عليه وعلى حكمته . وقرىء : "فيدمغه" بالنصب ، وهو في ضعف قوله :
سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ ... وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
(4/209)

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
{ وَمَنْ عِندَهُ } هم الملائكة . والمراد أنهم مكرمون ، منزلون - لكرامتهم عليه - منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه . فإن قلت : الاستحسار مبالغة في الحسور ، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور . قلت : في الاستحسار بيان أنّ ما هم فيه يوجب غاية لحسور وأقصاه ، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون . [ { يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لا يَفْتُرُونَ } ] أي : تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم ، لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر .
(4/210)

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
هذه أم المنقطة الكائنة بمعنى بل والهمزة ، قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها ، والمنكر : هو اتخاذهم { ءَالِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ } الموتى ، ولعمري أن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات . فإن قلت : كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ وكيف وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى وذلك أنهم كانوا - مع إقرارهم لله عزّ وجل بأنه خالق السموات والأرض { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى - منكرين البعث ويقولون : من يحيى العظام وهي رميم ، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثاني القديم ، فكيف يدّعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأساً؟ قلت : الأمر كما ذكرت ، ولكنهم بادّعائهم لها الإلهية ، يلزمهم أن يدّعوا لها الإنشار ، لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور ، والإنشار من جملة المقدورات . وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل ، وإشعار بأنّ ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده؛ لأنّ الإلهية لما صحت صحّ معها الاقتدار على الإبداء والإعادة . ونحو قوله : { مِّنَ الأرض } قولك : فلان من مكة أو من المدينة ، تريد : مكي أو مدني . ومعنى نسبتها إلى الأرض : الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض : لأنّ الآلهة على ضربين : أرضية وسماوية . ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 694 ) " أين ربك " ؟ فأشارت إلى السماء ، فقال : " إنها مؤمنة " لأنه فهم منها أنّ مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام ، لا إثبات السماء مكاناً لله عزّ وجلَ . ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض؛ لأنها إمّا أن تنحت من بعض الحجارة ، أو تعمل من بعض جواهر الأرض . فإن قلت : لا بدّ من نكتة في قوله : { هُمْ } قلت : النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية ، كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم . وقرأ الحسن { يُنشِرُونَ } وهما لغتان : أنشر الله الموتى ، ونشرها . [ ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) ] وصفت آلهة بالإ كما توصف بغير ، لو قيل آلهة غير الله .
(4/211)

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
فإن قلت : ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت : لأنّ "لو" بمنزلة "إن" في أنّ الكلام معه موجب ، والبدل لا يسوّغ إلا في الكلام غير الموجب ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك } [ هود : 81 ] وذلك لأنّ أعمّ العامّ يصح نفيه ولا يصح إيجابه . والمعنى : لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا . وفيه دلالة على أمرين ، أحدهما : وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحداً . والثاني : أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده ، لقوله : { إِلاَّ الله } فإن قلت : لم وجب الأمران؟ قلت : لعلمنا أنّ الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف . وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو ابن سعيد الأشدق : كان والله أعزّ عليّ من دم ناظري ، ولكن لا يجتمع فحلان في شول وهذا ظاهر وأمّا طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجاول وطراد ، ولأنّ هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقرّ .
(4/212)

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم ، تهيباً وإجلالاً ، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم - كان ملك الملوك وربّ الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسئل عن أفعاله ، مع ما علم واستقرّ في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة ، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح { وَهُمْ يُسْئَلُونَ } أي هم مملوكون مستعبدون خطاؤن ، فما خلقهم بأن يقال لهم : لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه .
(4/213)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
كرّر { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم ، أي : وصفتم الله تعالى بأنّ له شريكاً ، فهاتوا برهانكم على ذلك : إمّا من جهة العقل ، وإمّا من جهة الوحي ، فإنكم لا تجدون كتاباً من كتب الأوّلين إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعوّ إليه ، والإشراك به منهي عنه متوعد عليه . أي { هذا } الوحي الوارد في معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، كما ورد عليّ فقد ورد على جميع الأنبياء ، فهو ذكر : أي عظة للذين معي : يعني أمّته ، وذكر للذين من قبلي : يريد أمم الأنبياء عليهم السلام . وقرىء : { ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } بالتنوين ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 15 ] وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله : { غُلِبَتِ الروم فِى أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [ الروم : 3 ] وقرىء : "من معي" و"من قبلي" على من الإضافية في هذه القراءة . وإدخال الجار على "مع" غريب ، والعذر فيه أنه اسم هو ظرف ، نحو : قبل ، وبعد ، وعند ، ولدن ، وما أشبه ذلك ، فدخل عليه "من" كما يدخل على أخواته . وقرىء "ذكر معي وذكر قبلي" كأنه قيل : بل عندهم ما هو أصل الشرّ والفساد كله وهو الجهل وفقد العلم ، وعدم التمييز بين الحق والباطل ، فمن ثم جاء هذا الإعراض ، ومن هناك ورد هذا الإنكار . وقرىء : { الحق } بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب . والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل . ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على هذا المعنى ، كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل .
(4/214)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
{ يُوحَى } ونوحي : مشهورتان . وهذه الآية مقرّرة لما سبقها من آي التوحيد .
(4/215)

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله . نزه ذاته عن ذلك ، ثم أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة ، إلا أنهم { مُّكْرَمُونَ } مقرّبون عندي مفضلون على سائر العباد ، لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم ، فذلك هو الذي غرّ منهم من زعم أنهم أولادي ، تعاليت عن ذلك علواً كبيراً . وقريء "مكرّمون" و { لاَ يَسْبِقُونَهُ } بالضم ، من : سابقته فسبقته أسبقه . والمعنى : أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله ، فلا يسبق قولهم قوله . والمراد : بقولهم ، فأنيب اللام مناب الإضافة ، أي لا يتقدّمون قوله بقولهم ، كما تقول : سبقت بفرسي فرسه ، وكما أنّ قولهم تابع لقوله ، فعملهم أيضاً كذلك مبني على أمره : لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به . وجميع ما يأتون ويذرون مما قدّموا وأخروا بعين الله ، وهو مجازيهم عليه ، فلإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم ، ويراعون أحوالهم ، ويعمرون أوقاتهم . ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم ، ثم أنهم مع هذا كله من خشية الله { مُشْفِقُونَ } أي متوقعون من أمارة ضعيفة ، كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 695 ) أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله . وبعد أن وصف كرامتهم عليه ، وقرب منزلتهم عنده ، وأثنى عليهم ، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية .
فاجأ بالوعيد الشديد ، وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل ، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون ، كما قال : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد .
(4/216)

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
قرىء : { أَلَمْ يَرَوْاْ } بغير واو . و { رَتْقاً } بفتح التاء ، وكلاهما في معنى المفعول ، كالخلق والنقض ، أي : كانتا مرتوقتين . فإن قلت : الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر ، فما بال الرتق؟ قلت : هو على تقرير موصوف ، أي : كانتا شيئاً رتقاً ومعنى ذلك : أن السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما . أو كانت السموات متلاصقات ، وكذلك الأرضون لا فرج بينها ففتقها الله وفرّج بينها . وقيل : ففتقناها بالمطر والنبات بعد ما كانت مصمتة ، وإنما قيل : كانتا دون كنّ ، لأنّ المراد جماعة السموات وجماعة الأرض ، ونحوه قولهم : لقاحان سوداوان ، أي : جماعتان ، فعل في المضمر نحو ما فعل في المظهر . فإن قلت : متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه ، فقام مقام المرئيِّ المشاهد . والثاني : أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل ، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه { وَجَعَلْنَا } لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين ، فإن تعدّى إلى واحد ، فالمعنى : خلقنا من الماء كل حيوان ، كقوله : { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء } [ النور : 45 ] أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه ، كقوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى : صيرنا كل شيء حيّ بسبب من الماء لا بدّ له منه . و"من" هذا نحو "من" في قوله عليه السلام :
( 696 ) " مَا أنَا مِنْ ددٍ ولا الددُ مِنْي " وقرىء "حيا" وهو المفعول الثاني . والظرف لغو .
(4/217)

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
أي كراهة { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } وتضطرب . أو لئلا تميد بهم ، فحذف "لا" واللام . وإنما جاز حذف "لا" لعدم الالتباس ، كما تزاد لذلك في نحو قوله : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] وهذا مذهب الكوفيين . [ فجاجاً ] الفج : الطريق الواسع . فإن قلت : في الفجاج معنى الوصف ، فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى : { لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] قلت : لم تقدّم وهي صفة ، ولكن جعلت حالاً كقوله :
لِعَزَّةَ مُوحِشاً طَلَلٌ قَدِيم ... فإن قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت : أحدهما الإعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة . والثاني : بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة ، فهو بيان لما أبهم ثمة ، محفوظاً حفظه بالإمساك بقدرته من أن يقع على الأرض ويتزلزل ، أو بالشهب عن تسمع الشياطين على سكانه من الملائكة { عَنْ ءاياتها } أي عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر النيرات ، ومسايرها وطلوعها وغروبها؛ على الحساب القويم والترتيب العجيب ، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة ، وأيّ جهل أعظم من جهل من أعرض عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها؛ والاعتبار بها ، والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم ، ودبرها ونصبها هذه النصبة ، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو عزت قدرته ولطف علمه . وقرىء "عن آيتها" على التوحيد ، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس أي : هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية ، كالاستضاءة بقمريها ، والاهتداء بكواكبها ، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها ، وهم عن كونها آية بينة على الخالق { مُّعْرِضُونَ } .
(4/218)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{ كُلٌّ } التنوين فيه عوض من المضاف إليه ، أي : كلهم { فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } والضمير للشمس والقمر ، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة ، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعهما بالشموس والأقمار ، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد ، وإنما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة . فإن قلت : الجملة ما محلها؟ قلت : محلها النصب على الحال من الشمس والقمر . فإن قلت : كيف استبدّ بهما دون الليل والنهار بنصب الحال عنهما؟ قلت : كما تقول : رأيت زيداً وهنداً متبرجة ونحو ذلك؛ إذا جئت بصفة يختص بها بعض ما تعلق به العامل . ومنه قوله تعالى في هذه السورة { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] أو لا محل لها لاستئنافها . فإن قلت : لكل واحد من القمرين فلك على حدة ، فكيف قيل : جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت : هذا كقولهم "كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً" أي كل واحد منهم ، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين ، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصاراً ، ولأنّ الغرض الدلالة على الجنس .
(4/219)

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
كانوا يقدّرون أنه سيموت فيشمتون بموته ، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا ، أي : قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشراً ، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت ، فإذا كان الأمر كذلك فإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول القائل :
فَقُلْ لِلَّشامِتِينَ بِنَا أفِيقُوا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
{ وَنَبْلُوكُمْ } أي نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا ، وبما يجب فيه الشكر من النعم ، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر ، وإنما سمى ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم ، لأنه في صورة الاختبار . و { فِتْنَةً } مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه .
(4/220)

وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
الذكر يكون بخير وبخلافه ، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد ، كقولك للرجل : سمعت فلاناً يذكرك ، فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء ، وإن كان عدوّاً فذم . ومنه قوله تعالى : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء : 60 ] وقوله : { أهذا الذى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ } والمعنى أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم وما يجب أن لا تذكر به ، من كونهم شفعاء وشهداء . ويسوءهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك . وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، فهم به كافرون لا يصدّقون به أصلاً فهم أحق بأن يتخذوا هزؤا منك ، فإنك محق وهم مبطلون . وقيل معنى { بِذِكْرِ الرحمن } قولهم : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة . وقولهم { وَمَا الرحمن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } [ الفرقان : 60 ] وقيل : { بِذِكْرِ الرحمن } بما أنزل عليك من القرآن . والجملة في موضع الحال ، أي يتخذونك هزؤا . وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله .
(4/221)

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
كانوا يستعجلون عذاب الله و [ نزول ] آياته الملجئة إلى العلم والإقرار { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم ، فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة ، وأنه مطبوع عليها ، ثم نهاهم وزجرهم ، كأنه قال : ليس ببدع منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلام ، وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم . وروي : أنه لما دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنة ، ولما دخل جوفه اشتهى الطعام . وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس ، فأسرع في خلقه قبل مغيبها . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه النضر بن الحارث . والظاهر أن المراد الجنس . وقيل : "العجل" : الطين ، بلغة حِمْيَر . وقال شاعرهم :
وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ ... والله أعلم بصحته . فإن قلت : لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } وقوله : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت : هذا كما ركب في الشهوة وأمره أن يغلبها . لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة . وقرىء : "خلق الإنسان" .
(4/222)

لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
جواب { لَوْ } محذوف . و { حِينَ } مفعول به ليعلم ، أي لو يعلمون الوقت الذي يستعلمون عنه بقولهم { متى هذا الوعد } وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدّام ، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ، ولا يجدون ناصراً ينصرهم : لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم . ويجوز أن يكون { يَعْلَمْ } متروكاً بلا تعدية ، بمعنى : لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين . وحين : منصوب بمضمر ، أي حين { لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار } يعلمون أنهم كانوا على الباطل وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم ، أي : لا يكفونها ، بل تفجؤهم فتغلبهم يقال للمغلوب في المحاجة : مبهوت ومنه : { فبهت الذي كفر } [ البقرة : 253 ] ، أي : غلب إبراهيم عليه السلام الكافر . وقرأ الأعمش : يأتيهم . فيبهتهم ، على التذكير . والضمير للوعد أو للحين . فإن قلت : فإلام يرجع الضمير المؤنث في هذه القراءة؟ قلت : إلى النار أو إلى الوعد ، لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها أو على تأويل العدة أو الموعدة . أو إلى الحين ، لأنه في معنى الساعة . أو إلى البغتة . وقيل في القراءة الأولى : الضمير للساعة . وقرأ الأعمش : بغتة ، بفتح الغين { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } تذكير بإنظاره إياهم وإمهاله ، وتفسيح وقت التذكر عليهم ، أي : لا يمهلون بعد طول الإمهال .
(4/223)

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم ، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام ما فعلوا .
(4/224)

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
{ مّنَ الرحمن } أي من بأسه وعذابه { بَلْ هُمْ } معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم ، فضلاً أن يخافوا بأسه ، حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكاليء وصلحوا للسؤال عنه . والمراد أنه أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بسؤالهم عن الكاليء ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم .
(4/225)

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
ثم أضرب عن ذلك بما في "أم" من معنى "بل" وقال : { أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ } من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا . ثم استأنف فبين أنّ ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد ، كيف يمنع غيره وينصره؟
(4/226)

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
ثم قال : بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا ، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعاً لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً ، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم { حتى طَالَ عَلَيْهِمُ } الأمد ، وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة ، فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم ، وذلك طمع فارغ وأمد كاذب { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا } ننقص أرض الكفر ودار الحرب ، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردّها دار إسلام . فإن قلت : أي فائدة في قوله : { نَأْتِى الأرض } ؟ قلت فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ، ناقصة من أطرافها .
(4/227)

قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
قرىء : { وَلاَ يَسْمَعُ الصم } ولا تسمع الصم ، بالتاء والياء ، أي : لا تسمع أنت الصم ، ولا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا يسمع الصم ، من أسمع . فإن قلت : الصم لا يسمعون دعاء المبشر كما لا يسمعون دعاء المنذر . فكيف قيل : { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } ؟ قلت : اللام في الصم إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، كائنة للعهد لا للجنس . والأصل : ولا يسمعون إذا ما ينذرون ، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا . أي : هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامّ من آيات الأنذار { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ } من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء ، لأذعنوا وذلوا ، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا . وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات ، لأنّ النفح في معنى القلة والنزارة . يقال : نفحته الدابة وهو رمح يسير ، ونفحه بعطية : رضخه . ولبناء المرة .
(4/228)

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
وصفت { الموازين } بالقسط وهو العدل ، مبالغة ، كأنها في أنفسها قسط . أو على حذف المضاف ، أي : ذوات القسط . واللام في { لِيَوْمِ القيامة } مثلها في قولك : جئته لخمس ليال خلون من الشهر . ومنه بيت النابغة :
تَرَسَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أعْوَامِ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وقيل : لأهل يوم القيامة ، أي لأجلهم . فإن قلت : ما المراد بوضع الموازين؟ قلت : فيه قولان ، أحدهما : إرصاد الحساب السويّ ، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة ، من غير أن يظلم عباده مثقال ذرّة ، فمثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات . والثاني : أنه يضع الموازين الحقيقية ويزن بها الأعمال . عن الحسن : هو ميزان له كفتان ولسان . ويروى : أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان ، فلما رآه غشي عليه ، ثم أفاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ، فقال : يا داود ، إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة . فإن قلت : كيف توزن الأعمال وإنما هي أعراض؟ قلت : فيه قولان ، أحدهما : توزن صحائف الأعمال . والثاني : تجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة ، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة . وقرىء : ( مِثْقَالُ حَبَّةٍ ) على "كان" التامة ، كقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] وقرأ ابن عباس ومجاهد : { أَتَيْنَا بِهَا } وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة ، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وقرأ حميد "أثبنا بها" من الثواب . وفي حرف أُبيّ "جئنا بها" . وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة ، كقولهم : ذهبت بعض أصابعه ، أي : آتيناهما .
(4/229)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
أي : آتيناهما { ا لْفُرْقَانَ } وهو التوراة وأتينا به { ضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ } والمعنى : أنه في نفسه ضياء وذكر . أو آتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكراً . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الفرقان : الفتح ، كقوله : { يَوْمَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] وعن الضحاك : فلق البحر . وعن محمد بن كعب : المخرج من الشبهات . وقرأ ابن عباس : "ضياء" بغير واو : وهو حال عن الفرقان . والذكر : الموعظة ، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم ، أو الشرف .
(4/230)

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
محل { الذين } جرّ على الوصفية . أو نصب على المدح . أو رفع عليه .
(4/231)

وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
{ وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } هو القرآن . وبركته : كثرة منافعه ، وغزارة خيره .
(4/232)

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
الرشد : الاهتداء لوجوه الصلاح . قال الله تعالى : { فَإِنْ آنستم منهم رشداً فادفغوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] وقرىء : "رشده" والرشد والرشد ، كالعدم والعدم . ومعنى إضافته إليه : أنه رشد مثله . وأنه رشد له شأن { مِن قَبْلُ } أي من قبل موسى وهارون عليهما السلام . ومعنى علمه به : أنه علم منه أحوالاً بديعة وأسراراً عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها ، حتى أهله لمخالته ومخالصته ، وهذا كقولك في خير من الناس : أنا عالم بفلان ، فكلامك هذامن الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل { إِذْ } إما أن يتعلق بآتينا ، أو برشده ، أو بمحذوف ، أي : اذكر من أوقات رشده هذا الوقت . قوله : { مَا هذه التماثيل } تجاهل لهم وتغاب ، ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها ، مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها . لم ينو للعاكفين مفعولاً ، وأجراه مجرى ما لا يتعدى ، كقولك : فاعلون العكوف لها أو واقفون لها . فإن قلت : هلا قيل : عليها عاكفون ، كقوله تعالى : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [ الأعراف : 138 ] ؟ قلت : لو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي "على" .
ما أقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان ، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم ، وهم معتقدون أنهم على شيء ، وجادّون في نصرة مذهبهم ، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم ، وكفى أهل التقليد سبة أنّ عبدة الأصنام منهم { أَنتُمْ } من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به ، لأنّ العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع . ونحوه : اسكن أنت وزوجك الجنة ، أراد أن المقلدين والمقلدين جميعاً ، منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة ، لاستناد الفريقين إلى غير دليل ، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع ، لاستبعادهم أن يكون ما هم عليه ضلالاً .
(4/233)

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
بقوا متعجبين من تضليله إياهم ، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة ، لا على طريق الجدّ . فقالوا له : هذا الذي جئتنا به ، أهو جدّ وحق ، أم لعب وهزل؟
(4/234)

قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
الضمير في { فطَرَهُنَّ } للسموات والأرض . أو للتماثيل ، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم ، وأثبت للاحتجاج عليهم . وشهادته على ذلك : إدلاؤه بالحجة عليه . وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة ، كأنه قال : وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات ، لأني لست مثلكم ، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة . كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم .
(4/235)

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قرأ معاذ بن جبل "بالله" وقرىء "تولوا" بمعنى تتولوا . ويقويها قوله : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [ الصافات : 90 ] . فإن قلت : ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت : أن الباء هي الأصل ، والتاء بدل من الواو المبدلة منها ، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب ، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه ، لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره . ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان . خصوصاً في زمن نمروذ مع عتوّه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه ولكن :
إذَا اللَّهُ سَنَّى عِقْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرا ... روي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم ، فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا : إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا ، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفة ، وثم صنم عظيم مستقبل الباب ، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسرها ، كلها بفأس في يده ، حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه ، عن قتادة : قال ذلك سرا من قومه ، وروي : سمعه رجل واحد { جُذَاذاً } قطاعاً ، من الجذ وهو القطع . وقرىء بالكسر والفتح . وقرىء : "جَذَذَاً" جمع جَذيذ ، و"جذذاً" جمع جذة . وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه ، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم ، فيبكتهم بما أجاب به من قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْئَلُوهُمْ } وعن الكلبي { إِلَيْهِ } إلى كبيرهم . ومعنى هذا : لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات ، فيقولون له : ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك؟ قال هذا بناء على ظنه بهم ، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها . أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالاً ، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل . فإن قلت : فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم ، فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضاً؟ قلت : إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم .
(4/236)

قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
أي أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم ، معدود في الظلمة : إمّا لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والإعظام ، وإمّا لأنهم رأوا إفراطاً في حطمها وتمادياً في الاستهانة بها .
(4/237)

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
فإن قلت : ما حكم الفعلين بعد { سَمِعْنَا فَتًى } وأي فرق بينهما؟ قلت : هما صفتان لفتى ، إلا أن الأوّل وهو { يَذْكُرُهُمْ } لا بد منه لسمع ، لأنك لا تقول : سمعت زيداً وتسكت ، حتى تذكر شيئاً مما يسمع . وأمّا الثاني فليس كذلك . فإن قلت : { إِبْرَاهِيمَ } ما هو؟ قلت : قيل هو خبر مبتدأ محذوف ، أو منادى . والصحيح أنه فاعل يقال ، لأن المراد الاسم لا المسمى { على أَعْيُنِ الناس } في محل الحال ، بمعنى معايناً مشاهداً ، أي : بمرأى منهم ومنظر . فإن قلت : فما معنى الاستعلاء في على؟ قلت : هو وارد على طريق المثل ، أي : يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } عليه بما سمع منه . وبما فعله أو يحضرون عقوبتنا له . روي أنّ الخبر بلغ نمروذ وأشراف قومه ، فأمروا بإحضاره .
(4/238)

قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني . والقول فيه أنّ قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم ، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط : أأنت كتبت هذا وصاحبك أمّيّ لا يحسن الخطّ ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة؟! فقلت له : بل كتبته أنت ، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به ، لا نفيه عنك وإثباته للأمّيّ أو المخرمش ، لأنّ إثباته - والأمر دائر بينكما للعاجز منكما - استهزاء به وإثبات للقادر ، ولقائل أن يقول : غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة ، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ لم رأى من زيادة تعظيمهم له . فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه . ويجوز أن يكون حكاية لما يقول إلى تجويزه مذهبهم ، كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم . فإنّ من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه . ويحكى أنه قال : فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها . وقرأ محمد بن السُّمَيْقَع "فعله كبيرهم" ، يعني : فلعله ، أي فلعلّ الفاعل كبيرهم .
(4/239)

فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم ، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا : أنتم الظالمون على الحقيقة ، لا من ظلمتموه حين قلتم : من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين .
(4/240)

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
نكسته : قلبته فجعلت أسفله أعلاه ، وانتكس : انقلب ، أي : استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة ، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة ، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة ، وأنّ هؤلاء - مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق - آلهة معبودة ، مضارّة منهم . أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه ، حين نفوا عنها القدرة على النطق . أو قلبوا على رؤسهم حقيقة ، لفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخزالاً مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام ، فما أحاروا جواباً ما هو حجة عليهم . وقرىء : "نكسوا" بالتشديد ونكسوا ، على لفظ ما سمي فاعله ، أي : نكسوا أنفسهم على رؤوسهم . قرأ به رضوان ابن عبد المعبود .
(4/241)

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
{ أُفٍّ } صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجر ، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل ، فتأفف بهم . واللام لبيان المتأفف به . أي : لكم ولآلهتكم هذا التأفف .
(4/242)

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
أجمعوا رأيهم - لما غلبوا - بإهلاكه؛ وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح ، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق . ولم يبق له مفزع إلا مناصبته ، كما فعلت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة والذي أشار بإحراقه نمروذ . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : رجل من أعراب العجم يريد الأكراد . وروي : أنهم حين هموا بإحراقه ، حبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى ، وجمعوا شهراً أصناف الخشب الصلاب ، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : إن عافاني الله لأجمعنّ خطباً لإبراهيم عليه السلام ، ثم أشعلوا ناراً عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها . ثم وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فرموا به فيها ، فناداها جبريل عليه السلام { قُلْنَا يانار كُونِى بَرْداً وسلاما } ويحكى . ما أحرقت منه إلا وثاقه . وقال له جبريل عليه السلام حين رمي به : هل لك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا . قال : فسل ربك . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنما نجا بقوله : حسبي الله ونعم الوكيل ، وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة ، فقال : إني مقرّب إلى إلهك ، فذبح أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم ، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إذ ذاك ابن ست عشرة سنة . واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ، ولذلك جاء :
( 697 ) " لا يعذب بالنار إلا خالقها " ومن ثم قالوا : { إِن كُنتُمْ فاعلين } أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً ، فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراق بالنار ، وإلا فرّطتم في نصرتها . ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها ، ولم يألوا جهداً في ذلك . جعلت النار لمطاوعتها فعل الله وإرادته كمأمور أمر بشيء فامتثله . والمعنى : ذات برد وسلام ، فبولغ في ذلك ، كأن ذاتها برد وسلام . والمراد : ابردي فيسلم منك إبراهيم . أو ابردي برداً غير ضارّ . وعن ابن عباس رضي الله عنه : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها . فإن قلت : كيف بردت النار وهي نار؟ قلت : نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحرّ والإحراق ، وأبقاها على الإضاءة [ والإشراق ] والاشتعال كما كانت ، والله على كل شيء قدير . ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرّها ويذيقه فيها عكس ذلك ، كما يفعل بخزنة جهنم ، ويدل عليه قوله : { على إبراهيم } وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به ، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت ، وفزعوا إلى القوّة والجبروت ، فنصره وقوّاه .
(4/243)

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
نجيا من العراق إلى الشام . وبركاته الواصلة إلى العالمين : أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية . وقيل : بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب عيش الغنيّ والفقير . وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له : إلى أين؟ فقال : إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم . وقيل : ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس وروي : أنه نزل بفلسطين ، ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة .
(4/244)

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
النافلة : ولد الولد . وقيل : سأل إسحاق فأعطيه ، وأعطي يعقوب نافلة ، أي : زيادة وفضلاً من غير سؤال .
(4/245)

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
{ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله ، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها ، وأول ذلك أن يهتدي بنفسه؛ لأن الانتفاع بهداه أعم ، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل { فِعْلَ الخيرات } أصله أن تفعل الخيرات ، ثم فعلا الخيرات ، ثم فعل الخيرات . وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
(4/246)

وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{ حُكْمًا } حكمة وهو ما يجب فعله . أو فصلاً بين الخصوم . وقيل : هو النبوّة . والقرية : سدوم ، أي : في أهل رحمتنا . أو في الجنة . ومنه الحديث :
( 698 ) " هذه رحمتي أرحم بها من أشاء . "
(4/247)

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
{ مِن قَبْلُ } من قبل هؤلاء المذكورين .
هو "نصر" الذي مطاوعه "انتصر" وسمعت هذليا يدعو على سارق : اللهم انصرهم منه ، أي : اجعلهم منتصرين منه . والكرب : الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه .
(4/248)

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
أي : واذكرهما . وإذ : بدل منهما . والنفش : الانتشار بالليل . وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما . وقرىء : "لحكمهما" والضمير في { ففهمناها } للحكومة أو الفتوى . وقرىء : "فأفهمناها" حكم داود بالغنم لصاحب الحارث فقال سليمان عليه السلام وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا أرفق بالفريقين ، فعزم عليه ليحكمنّ ، فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها ، والحرث إلى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد ، ثم يترادّان . فقال : القضاء ما قضيت ، وأمضى الحكم بذلك . فإن قلت : أحكما بوحي أم باجتهاد؟ قلت : حكما جميعاً بالوحي ، إلا أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان . وقيل : اجتهدا جميعاً ، فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب . فإن قلت : ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ قلت : أمّا وجه حكومة داود عليه السلام ، فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه ، كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في العبد إذ جنى على النفس : يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي رضي الله عنه : يبيعه في ذلك أو يفديه . ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث . ووجه حكومة سليمان عليه السلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث ، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم ، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحارث حتى يزول الضرر والنقصان ، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبداً فأبق من يده : أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع العبد ، فإذا ظهر ترادّا ، فإن قلت : فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم لا يرون فيه ضماناً بالليل أو بالنهار؛ إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد والشافعي رضي الله عنه يوجب الضمان بالليل . وفي قوله : { ففهمناها سليمان } دليل على أنّ الأصوب كان مع سليمان عليه السلام . وفي قوله { وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } دليل على أنهما جميعاً كانا على الصواب { يُسَبّحْنَ } حال بمعنى مسبحات . أو استئناف . كأن قائلاً قال : كيف سخرهنّ؟ فقال : يسبحن { والطير } إمّا معطوف على الجبال ، أو مفعول معه ، فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت : لأنّ تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد والطير حيوان ، إلا أنه غير ناطق . روي : أنه كان يمرّ بالجبال مسبحاً وهي تجاوبه . وقيل : كانت تسير معه حيث سار . فإن قلت : كيف تنطق الجبال وتسبح؟ قلت : بأن يخلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى وجواب آخر : وهو أن يسبح من رآها تسير بتسيير الله ، فلما حملت على التسبيح وصفت به { وَكُنَّا فاعلين } أي قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم وقيل : وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك .
اللبوس : الباس . قال :
سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ ... وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
والمراد الدرع قال قتادة : كانت صفائح فأوّل من سردها وحلقها داود ، فجمعت الخفة والتحصين { لِتُحْصِنَكُمْ } قرىء بالنون والياء والتاء ، وتخفيف الصاد وتشديدها؛ فالنون لله عز وجل ، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع ، والياء لداود أو للبوس .
(4/249)

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
قرىء : "الريح" و"الرياح" بالرفع والنصب فيهما؛ فالرفع على الابتداء ، والنصب على العطف على الجبال . فإن قلت : وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى ، فما التوفيق بينهما؟ قلت : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة ، على ما قال : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم : آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة . وقيل كانت في وقت رخاء ، وفي وقت عاصفاً؛ لهبوبها على حكم إرادته [ ( وكنا بكل شيء عالمين ) ] ، وقد أحاط علمنا بكل شيء فنجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا .
أي : يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ، ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدائن والقصور واختراع الصنائع العجيبة ، كما قال : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب وتماثيل } [ سبأ : 13 ] والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره ، أو يبدلوا أو يغيروا ، أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه .
(4/250)

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
أي : ناداه بأني مسني الضر . وقرىء : "إني" بالكسر على إضمار القول أو لتضمن النداء معناه والضر - بالفتح - : الضرر في كل شيء ، وبالضم : الضرر في النفس من مرض وهزال ، فرق بين البناءين لافتراق المعنيين . ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب . ويحكى أنّ عجوزاً تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين ، مشت جرذان بيتي على العصي ! فقال لها : ألطفت في السؤال ، لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حباً . كان أيوب عليه السلام رومياً من ولد إسحاق بن يعقوب عليهم السلام ، وقد استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله : كان له سبعة بنين وسبع بنات ، وله أصناف البهائم ، وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ونخيل ، فابتلاه الله بذهاب ولده - انهدم عليهم البيت فهلكوا - وبذهاب ماله ، وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة . وعن قتادة : ثلاث عشرة سنة . وعن مقاتل : سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات ، وقالت له امرأته يوماً : لو دعوت الله ، فقال لها : كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة ، فقال : أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم . وروي : أن امرأته ولدت بعدُ ستة وعشرين ابنا أي : لرحمتنا العابدين وأنا نذكرهم بالإحسان لا ننساهم أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة .
(4/251)

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
قيل في ذي الكفل : هو إلياس . وقيل : زكريا . وقيل : يوشع بن نون ، وكأنه سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود على الحقيقة . وقيل : كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم . وقيل : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين : إسرائيل ويعقوب . إلياس وذو الكفل . عيسى والمسيح . يونس وذو النون . محمد وأحمد : صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
(4/252)

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{ النون } الحوت ، فأضيف إليه . برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم ، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله ، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم ، فابتلي ببطن الحوت . ومعنى مغاضبته لقومه : أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها . وقرأ أبو شرف "مغضباً" قريء : "نقدر" و"نقدّر" مخففاً ومثقلاً ويقدر ، بالياء بالتخفيف . ويقدر . ويقدّر ، على البناء للمفعول مخففاً ومثقلاً . وفسرت بالتضييق عليه ، وبتقدير الله عليه عقوبة . وعن ابن عباس : أنه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك . قال : وما هي يا معاوية ، فقرأ هذه الآية وقال : أو يظن نبيّ الله أن لا يقدر عليه؟ قال : هذا من القدر لامن القدرة . والمخفف يصح أن يفسر بالقدرة ، على معنى : أن لن نعمل فيه قدرتنا ، وأن يكون من باب التمثيل ، بمعنى : فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه ، من غير انتظار لأمر الله . ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ، ثم يردعه ويرده بالبرهان ، كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت . ومنه قوله تعالى : { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] والخطاب للمؤمنين { فِى الظلمات } أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت ، كقوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } [ البقرة : 17 ] وقوله : { يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات } [ البقرة : 257 ] وقيل : ظلمات بطن الحوت والبحر والليل . وقيل : ابتلع حوتَهُ حوتٌ أكبر منه ، فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمة البحر . { أَنْ } أي بأنه { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ } أو بمعنى "أي" عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 699 ) " ما مِنْ مكروبٍ يدعَو بهذا الدعاءِ إلا استجيبَ له " وعن الحسن : ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم .
(4/253)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{ نُنَجّى } "وننجي" "ونجي" والنون لا تدغم في الجيم ، ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال نجى النجاء المؤمنين - فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ونصب المؤمنين بالنجاء - فمتعسف بارد التعسف .
(4/254)

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
سأل ربه أن يرزقه ولداً يرثه ولا يدعه وحيداً بلا وارث ، ثم ردّ أمره إلى الله مستسلماً فقال : { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } أي إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي ، فإنك خير وارث . إصلاح زوجه : أن جعلها صالحة للولادة بعد عقرها . وقيل : تحسين خلقها وكانت سيئة الخلق [ إنهم ] الضمير للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها كما يفعل الراغبون في الأمور الجادون . وقرىء { رَغَباً وَرَهَباً } بالإسكان ، وهو كقوله تعالى : { يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَّحْمَةِ رَبّهِ } [ الزمر : 9 ] . { خاشعين } قال الحسن : ذللا لأمر الله . وعن مجاهد : الخشوع الخوف الدائم في القلب . وقيل : متواضعين . وسئل الأعمش فقال : أما إني سألت إبراهيم فقال : ألا تدري؟ قلت : أفدني . قال : بينه وبين الله إذا أرخى ستره وأغلق بابه ، فلير الله منه خيراً ، لعلك ترى أنه أن يأكل خشناً ويلبس خشناً ويطأطيء رأسه .
(4/255)

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] . فإن قلت : نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه . قال الله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [ الحجر : 29 ] أي أحييته . وإذا ثبت ذلك كان قوله : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } ظاهر الإشكال؛ لأنه يدل على إحياء مريم قلت : معناه نفخنا الروح في عيسى فيها ، أي : أحييناه في جوفها . ونحو ذلك أن يقول الزمار : نفخت في بيت فلان ، أي : نفخت في المزمار في بيته . ويجوز أن يراد : وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام؛ لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها . فإن قلت : هلا قيل آيتين كما قال : { وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ } [ الإسراء : 12 ] ؟ قلت : لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة ، وهي ولادتها إياه من غير فحل .
(4/256)

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
الأمّة : الملة ، و { هذه } إشارة إلى ملة الإسلام ، أي : إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها ، يشارإليها ملة واحدة غير مختلفة { وَأَنَا } إلهكم إله واحد { فاعبدون } ونصب الحسن أمّتكم على البدل من هذه ، ورفع أمّة خبراً . وعنه رفعهما جميعاً خبرين لهذه . أو نوى للثاني مبتدأ ، والخطاب للناس كافة .
(4/257)

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
والأصل : وتقطعتم ، إلا أن الكلام حرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات ، كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم ، ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله . والمعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً ، كما يتوزع الجماعة الشيء ويتقسمونه ، فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب ، تمثيلاً لاختلافهم فيه ، وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى . ثم توعدهم بأنّ هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون ، فهو محاسبهم ومجازيهم .
(4/258)

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
الكفران : مثل في حرمان الثواب ، كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله : شكور . وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ من أن يقول : فلا نكفر سعيه { وَإِنَّا لَهُ كاتبون } أي نحن كاتبو ذلك السعي ومثبتوه في صحيفة عمله ، وما نحن مثبتوه فهو غير ضائع ومثاب عليه صاحبه .
(4/259)

وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
استعير الحرام للممتنع وجوده . ومنه قوله عز وجلّ : { إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } [ الأعراف : 50 ] أي منعهما منهم ، وأبى أن يكونا لهم . وقرىء : "حرم" و"حرم" ، بالفتح والكسر . وحرّم وحرّم . ومعنى { أهلكناها } عزمنا على إهلاكها . أو قدّرنا إهلاكها . ومعنى الرجوع : الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة ومجاز الآية : أن قوماً عزم الله على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا وينيبوا ، إلى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويقولون : { ياويلنا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالمين } [ الأنبياء : 97 ] يعني : أنهم مطبوع على قلوبهم فلا يزالون على كفرهم ويموتون عليه حتى يروا العذاب . وقرىء : "إنهم" بالكسر . وحق هذا أن يتمّ الكلام قبله ، فلا بدّ من تقدير محذوف ، كأنه قيل : وحرام على قرية أهلكناها ذاك . وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ، ثم علل فقيل : إنهم لا يرجعون عن الكفر ، فكيف لا يمتنع ذلك . والقراءة بالفتح يصح حملها على هذا؟ أي : لأنهم لا يرجعون ولا صلة على الوجه الأوّل . فإن قلت : بم تعلقت { حتى } واقعة غاية له ، وآية الثلاث هي؟ قلت : هي متعلقة بحرام ، وهي غاية له لأنّ امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة ، وهي { حتى } التي يحكى بعدها الكلام ، والكلام المحكيّ : الجملة من الشرط والجزاء ، أعني : "إذا" وما في حيزها حذف المضاف إلى { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } وهو سدّهما ، كما حذف المضاف إلى القرية وهو أهلها . وقيل : فتحت كما قيل : { أهلكناها } وقرىء "آجوج" وهما قبيلتان من جنس الإنس ، يقال : الناس عشرة أجزاء ، تسعة منها يأجوج ومأجوج { وَهُمْ } راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر وقيل : هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السدّ . الحدب : النشز من الأرض . وقرأ ابن عباس رضي الله عنه "من كل جدث" وهو القبر ، الثاء : حجازية ، والفاء : تميمية . وقرىء : { يَنسِلُونَ } بضم السين ونسل وعسل : أسرع .
(4/260)

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
و { إِذَا } هي إذا المفاجأة ، وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء ، كقوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [ الروم : 36 ] فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ولو قيل : إذا هي شاخصة . أو فهي شاخصة ، كان سديداً { هِىَ } ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره ، كما فسر الذين ظلموا وأسروا { ياويلنآ } متعلق بمحذوف تقديره : يقولون يا ويلنا ، ويقولون : في موضع الحال من الذين كفروا .
(4/261)

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يحتمل الأصنام وإبليس وأعوانه ، لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم . ويصدّقه ما روي :
( 700 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية ، فأقبل عبد الله بن الزبعرى فرآهم يتهامسون ، فقال : فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته ، فدعوه . فقال ابن الزبعرى : أأنت قلت ذلك؟ قال : نعم . قال : قد خصمتك ورب الكعبة . أليس اليهود عبدوا عزيراً ، والنصارى عبدوا المسيح ، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك " فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] يعني عزيراً والمسيح والملائكة عليهم السلام . فإن قلت : لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت : لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ وحسرة ، حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم . والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب ، ولأنهم قدّروا ، أنهم يستشفعون بهم في الآخرة ويستنفعون بشفاعتهم ، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم . فإن قلت إذا عنيت بما تعبدون الأصنام ، فما معنى { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } ؟ قلت : إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن واحد ، جاز أن يقال : لهم زفير ، وإن لم يكن الزافرين إلا هم دون الأصنام للتغليب ولعدم الإلباس . والحصب : المحصوب ، أي يحصب بهم في النار . والحصب : الرمي . وقرىء بسكون الصاد ، وصفاً بالمصدر . وقرىء "حطب" و"حضب" بالضاد متحركاً وساكناً وعن ابن مسعود : يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون . ويجوز أن يصمهم الله كما يعميهم .
(4/262)

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{ الحسنى } الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن : إمّا السعادة ، وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة ، يروى أنّ علياً رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم ، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف ، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } والحسيس : الصوت يحس ، والشهوة : طلب النفس اللذة . وقرىء : { لاَ يَحْزُنُهُمُ } من أحزن . و { الفزع الأكبر } قيل : النفخة الأخيرة ، لقوله تعالى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض } [ النمل : 87 ] وعن الحسن : الانصراف إلى النار . وعن الضحاك : حين يطبق على النار . وقيل : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح ، أي [ وتتلقاهم ] تستقبلهم { الملائكة } مهنئين على أبواب الجنة . ويقولون : هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم قد حلّ .
(4/263)

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
العامل في { يَوْمَ نَطْوِى } لا يحزنهم . أو الفزع . أو تتلقاهم . وقرىء "تطوى السماء" على البناء للمفعول و { السجل } بوزن العتلّ والسجل بلفظ الدلو . وروي فيه الكسر : وهو الصحيفة ، أي : كما يطوى الطومار للكتابة ، أي : ليكتب فيه ، أو : لما يكتب فيه؛ لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء؛ ثم يوقع على المكتوب ، ومن جمع فمعناه : للمكتوبات ، أي : لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة . وقيل { السجل } : ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه . وقيل : كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والكتاب - على هذا - اسم الصحيفة المكتوب فيها { أَوَّلَ خَلْقٍ } مفعول نعيد الذي يفسره { نُّعِيدُهُ } والكاف مكفوفة بما . والمعنى : نعيد أوّل الخلق كما بدأناه ، تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء : فإن قلت : وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت : أوّله إيجاده عن العدم ، فكما أوجده أولا عن عدم ، يعيده ثانياً عن عدم فإن قلت : ما بال { خَلْقٍ } منكراً؟ قلت : هو كقولك : هو أوّل رجل جاءني ، تريد أوّل الرجال ، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً ، فكذلك معنى { أَوَّلَ خَلْقٍ } : أوّل الخلق ، بمعنى : أوّل الخلائق ، لأن الخلق مصدر لا يجمع . ووجه آخر ، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره { نُّعِيدُهُ } وما موصولة ، أي : نعيد مثل الذي بدأناه نعيده . وأول خلق : ظرف لبدأنا ، أي : أوّل ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ ، الثابت في المعنى { وَعْداً } مصدر مؤكد ، لأنّ قوله : { نُّعِيدُهُ } عدة للإعادة { إِنَّا كُنَّا فاعلين } أي قادرين على أن نفعل ذلك .
(4/264)

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
عن الشعبي رحمة الله عليه : زبور داود عليه السلام ، والذكر : التوراة . وقيل اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب . والذكر : أم الكتاب ، يعني اللوح ، أي : يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار ، كقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها } [ الأعراف : 137 ] ، { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] وعن ابن عباس رضي الله عنه : هي أرض الجنة . وقيل : الأرض المقدّسة ، ترثها أمّة محمد صلى الله عليه وسلم .
(4/265)

إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
الإشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة . والبلاغ : الكفاية وما تبلغ به البغية .
(4/266)

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
أرسل صلى الله عليه وسلم { رَحْمَةً للعالمين } لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه . ومن خالف ولم يتبع . فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها . ومثاله : أن يفجر الله عينا غديقة ، فيسقي ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا ، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا ، فالعين المفجرة في نفسها ، نعمة من الله ورحمة للفريقين ، ولكن الكسلان محنة على نفسه؛ حيث حرمها ما ينفعها . وقيل : كونه رحمة للفجار ، من حيث أنّ عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال .
(4/267)

قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
إنما لقصر الحكم على شيء ، أو لقصر الشيء على حكم ، كقولك : إنما زيد قائم ، وإنما يقوم زيد . وقد اجتمع المثالان في هذه الآية ، لأن { إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ } مع فاعله ، بمنزلة : إنما يقوم زيد . و { أَنَّمَا إلهكم إله واحد } بمنزلة : إنما زيد قائم . وفائدة اجتماعهما : الدلالة على أن الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية : وفي قوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أن الوحي الوارد على هذا السنن موجب أن تخلصوا التوحيد لله ، وأن تخلعوا الأنداد . وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن تكون طريقها السمع . ويجوز أن يكون المعنى : أن الذي يوحي إلي ، فتكون "ما" موصولة .
(4/268)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
آذن منقول من أذن إذا علم ، ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار . ومنه قوله تعالى : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] وقول ابن حلزة :
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... والمعنى : أني بعد توليكم وإعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء ، كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة فنبذ إليهم العهد ، وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعاً بذلك { على سَوَاء } أي مستوين في الإعلام به ، لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم ، وقشر العصا عن لحائها و { مَّا تُوعَدُونَ } من غلبة المسلمين عليكم كائن لا محالة ، ولا بد من أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار ، وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك لأن الله لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه ، والله عالم لا يخفى عليه ما تجاهرون به من كلام الطعانين في الإسلام ، و { مَا تَكْتُمُونَ } في صدوركم من الإحن والأحقاد للمسلمين ، وهو يجازيكم عليه . وما أدري لعلّ تأخير هذا الموعد امتحان لكم لينظر كيف تعلمون . أو تمتيع لكم { إلى حِينٍ } ليكون ذلك حجة عليكم؛ وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة .
(4/269)

قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
قرىء "قل" وقال ، على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . و { رَبِّ احكم } على الاكتفاء بالكسرة "ورب احكم" على الضم "وربي أحكم" ، على أفعل التفضيل "وربي أحكم" من الإحكام ، أمر باستعجال العذاب لقومه فعذبوا ببدر . ومعنى { بالحق } لاتحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم ، كما قال :
( 701 ) " اشدد وطأتك على مضر " قرىء { تَصِفُونَ } بالتاء والياء . كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه ، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة ، فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وخذلهم .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 702 ) " من قرأ اقترب للناس حسابهم حاسبه الله حساباً يسيراً ، وصافحه وسلم عليه كل نبيّ ذكر اسمه في القرآن " .
(4/270)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
الزلزلة : شدّة التحريك والإزعاج ، وأن يضاعف زليل الأشياء عن مقارّها ومراكزها ولا تخلو { الساعة } من أن تكون على تقدير الفاعلة لها ، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي ، فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله ، أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] وهي الزلزلة المذكورة في قوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] واختلف في وقتها ، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة وعن علقمة والشعبي : عند طلوع الشمس من مغربها . أمر بني آدم بالتقوى ، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة ، لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوّروها بعقولهم ، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم ، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى ، الذي لا يؤمنهم من تلك الأفزاع إلا أن يتردوا به وروي :
( 703 ) أنّ هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق ، فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ، ولم يضربوا الخيام وقت النزول ، ولم يطبخوا قدراً ، وكانوا ما بين حزين وباك ومفكر .
(4/271)

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا } منصوب بتذهل . والضمير للزلزلة . وقرىء "تذهل كل مرضعة" على البناء للمفعول : وتذهل كل مرضعة أي : تذهلها الزلزلة . والذهول : الذهاب عن الأمر مع دهشة فإن قلت : لم قيل : { مُرْضِعَةٍ } دون مرضع؟ قلت : المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي . والمرضع : التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل : مرضعة؛ ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة { عَمَّا أَرْضَعَتْ } عن إرضاعها ، أو عن الذي أرضعته وهو الطفل وعن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام . قرىء { وَتُرَى } بالضم من أريتك قائماً . أو رؤيتك قائماً . و { الناس } منصوب ومرفوع ، والنصب ظاهر . ومن رفع جعل الناس اسم ترى ، وأنثه على تأويل الجماعة . وقرىء "سكرى" و"بسكرى" وهو نظير : جوعى وعطشى ، في جوعان وعطشان . وسكارى وبسكارى ، نحو كسالى وعجالى . وعن الأعمش "سكرى" و"بسكرى" بالضم ، وهو غريب . والمعنى : وتراهم سكارى على التشبيه ، وما هم بسكارى على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردّهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . وقيل : وتراهم سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب . فإن قلت : لم قيل أوّلا : ترون ، ثم قيل : ترى ، على الإفراد؟ قلت لأنّ الرؤية أوّلاً علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعاً رائين لها ، وهي معلقة أخيراً بكون الناس على حال السكر ، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم .
(4/272)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
قيل : نزلت في النضر بن الحارث ، وكان جدلاً يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار تراباً . وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال ، ولا يرجع إلى علم ولا يعضّ فيه بضرس قاطع ، وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة ، فهو يخبط خبط عشواء ، غير فارق بين الحق والباطل { وَيَتَّبِعُ } في ذلك خطوات { كُلّ شيطان } عات ، علم من حاله وظهر وتبين أنه من جعله ولياً له لم تثمر له ولايته إلا الإضلال عن طريق الجنة والهداية إلى النار . وما أرى رؤساء أهل الأهواء والبدع والحشوية المتلقبين بالإمامة في دين الله إلا داخلين تحت كل هذا دخولاً أوّلياً ، بل هم أشدّ الشياطين إضلالاً وأقطعهم لطريق الحق ، حيث دوّنوا الضلال تدوينا ولقنوه أشياعهم تلقينا ، وكأنهم ساطوه بلحومهم ودمائهم ، وإياهم عنى من قال :
وَيَا رُبَّ مَقْفُوِّ الْخُطَا بَيْنَ قَوْمِهِ ... طَرِيقُ نَجَاةٍ عِنْدَهُمْ مُسْتَوٍ نَهْجُ
وَلَوْ قَرَؤا في اللَّوْحِ مَا خُطَّ فِيهِ مِنْ ... بَيَانِ اعْوِجَاجٍ في طَرِيقَتِهِ عَجُّوا
اللهم ثبتنا على المعتقد الصحيح الذي رضيته لملائكتك في سمواتك ، وأنبيائك في أرضك ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . والكتبة عليه مثل ، أي : كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله . وقرىء "أنه" فأنه بالفتح والكسر فمن فتح فلأن الأول فاعل كتب ، والثاني عطف عليه . ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو ، كأنما كتب عليه هذا الكلام ، كما تقول : كتبت : إنّ الله هو الغني الحميد . أو على تقدير : قيل أو على أن كتب فيه معنى القول .
(4/273)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
قرأ الحسن { مّنَ البعث } بالتحريك ونظيره : الجلب والطرد ، في الجلب والطرد ، كأنه قيل : إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم . والعلقة : قطعة الدم الجامدة . والمضغة : اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ . والمخلقة : المسواة الملساء من النقصان والعيب . يقال : خلق السواك والعود ، إذا سواه وملسه ، من قولهم : صخرة خلقاء ، وإذا كانت ملساء ، كأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة : منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم ، وتمامهم ونقصانهم . وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة { لّنُبَيّنَ لَكُمْ } بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً ، ثم من نطفة ثانياً ولا تناسب بين الماء والتراب وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر ، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً : قدر على إعادة ما أبدأه ، بل هذا أدخل في القدرة من تلك ، وأهون في القياس . وورود الفعل غير معدي إلى المبين : إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الذكر ولا يحيط به الوصف وقرأ ابن أبي عبلة : ليبين لكم . ويقرّ ، بالياء وقرىء "ونقرّ" ونخرجكم ، بالنون والنصب ويقرّ ، ويخرجكم ، ويقرّ ، ويخرجكم : بالنصب والرفع . وعن يعقوب : ( نَقُرُّ ) بالنون وضم القاف ، من قرّ الماء إذا صبه؛ فالقراءة بالرفع إخبار بأنه يقُرّ { فِى الأرحام مَا يَشَاء } أن يقرّه من ذلك { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت الوضع آخر ستة أشهر ، أو تسعة ، أو سنتين ، أو أربع ، أو كما شاء وقدّر . وما لم يشأ إقراره محته الأرحام أو أسقطته . والقراءة بالنصب : تعليل معطوف على تعليل . ومعناه : خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغرضين ، أحدهما : أن نبين قدرتنا . والثاني : أن نقرّ في الأرحام من نقرّ ، حتى يولدوا وينشؤا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم . ويعضد هذه القراءة قوله : { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } وحده لأن الغرض الدلالة عل الجنس . ويحتمل : نخرج كل واحد منكم طفلاً . الأشد : كمال القوة والعقل والتمييز ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسدّة والقتود والأباطيل وغير ذلك ، وكأنها شدّة في غير شيء واحد ، فبنيت لذلك على لفظ الجمع . وقرىء "ومنكم من يتوفى" أي يتوفاه الله { أَرْذَلِ العمر } الهرم والخرف ، حتى يعود كهيئته الأولى في أوان طفولته : ضعيف البنية ، سخيف العقل ، قليل الفهم ، بين أنه كما قدر على أن يرقيه في درجات الزيادة حتى يبلغه حد التمام ، فهو قادر على أن يحطه حتى ينتهي به إلى الحالة السفلى { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } أي : ليصير نسَّاء بحيث إذ كسب علماً في شيء لم ينشب إن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته ، يقول لك : من هذا؟ فتقول : فلان ، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه . وقرأ أبو عمرو : العمر ، بسكون الميم . الهامدة : الميتة اليابسة . وهذه دلالة ثانية على البعث ، ولظهورها وكونها مشاهدة معاينة ، كررها الله في كتابه { اهتزت وَرَبَتْ } تحرّكت بالنبات وانتفخت ، وقرىء "ربأت" ، أي ارتفعت . البهيج : الحسن السارّ للناظر إليه .
(4/274)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
أي : ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض ، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم واللطائف ، حاصل بهذا وهو السبب في حصوله ، ولولاه لم يتصور كونه ، وهو { أَنَّ الله هُوَ الحق } أي الثابت الموجود ، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور ، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده ، وقد وعد الساعة والبعث ، فلا بدّ أن يفي بما وعد .
(4/275)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
عن ابن عباس أنه أبو جهل بن هشام . وقيل : كرر كما كررت سائر الأقاصيص . وقيل : الأوّل في المقلدين ، وهذا في المقلدين . والمراد بالعلم : العلم الضروري . وبالهدى : الاستدلال والنظر؛ لأنه يهدي إلى المعرفة . وبالكتاب المنير : الوحي ، أي يجادل بظن وتخمين ، لا بأحد هذه الثلاثة . وثنى العطف : عبارة عن الكبر والخيلاء ، كتصعير الخدّ وليّ الجيد . وقيل : عن الإعراض عن الذكر . وعن الحسن : ثاني عطفه ، بفتح العين ، أي : مانع تعطفه { لِيُضِلَّ } تعليل للمجادلة . قرىء بضم الياء وفتحها . فإن قلت : ما كان غرضه من جداله الضلال { عَن سَبِيلِ الله } فكيف علل به؟ وما كان أيضاً مهتدياً حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟ قلت : لما أدّى جداله إلى الضلال ، جعل كأنه غرضه ، ولما كان الهدى معرضاً له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال بالباطل ، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال . وخزيه : ما أصابه يوم بدر من الصغار والقتل ، والسبب فيما مني به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة : هو ما قدمت يداه ، وعدل الله في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين .
(4/276)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم ، لا على سكون وطمأنينة ، كالذي يكون على طرف من العسكر ، فإن أحسّ بظفر وغنيمة قرّ واطمأن ، وإلا فرّ وطار على وجهه . قالوا : نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سرياً ، وولدت امرأته غلاماً سوياً ، وكثر ماله وما شيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً ، واطمأن . وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شراً ، وانقلب وعن أبي سعيد الخدري؛
( 704 ) أن رجلاً من اليهود أسلم فأصابته مصائب ، فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني ، فقال "إنّ الإسلام لا يقال : فنزلت . المصاب بالمحنة بترك التسليم لقضاء الله والخروج إلى ما يسخط الله : جامع على نفسه محنتين ، إحداهما : ذهاب ما أصيب به . والثانية : ذهاب ثواب الصابرين ، فهو خسران الدارين . وقرىء "خاسر الدنيا والآخرة" بالنصب والرفع ، فالنصب على الحال ، والرفع على الفاعلية . ووضع الظاهر موضع الضمير ، وهو وجه حسن . أو على أنه خبر مبتدأ محذوف استعير { الضلال البعيد } من ضلال من أبعد في التيه ضالاً ، فطالت وبعدت مسافة ضلالته . فإن قلت : الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين ، وهذا تناقض قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم ، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً ، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به ، ثم قال : يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ ، حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } و كرّر يدعو ، كأنه قال : يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ، ثم قال : لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً لبئس المولى . وفي حرف عبد الله "من ضره" بغير لام . المولى : الناصر . والعشير : الصاحب ، كقوله : { فَبِئْسَ القرين } [ الزخرف : 38 ] .
(4/277)

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
هذا كلام قد دخله اختصار . والمعنى إن الله ناصر رسوله في الدنيا والأخرة؛ فمن كان يظنّ من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ، ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه ، فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه ، بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيط كل مبلغ حتى مدّ حبلاً إلى سماء بيته فاختنق ، فلينظر وليصوّر في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ وسمي الاختناق قطعاً؛ لأنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه . ومنه قيل للبهر : القطع وسمي فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد ، حيث لم يقدر على غيره . أو على سبيل الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه . والمراد : ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه . وقيل : فليمدد بحبل إلى السماء المظلة ، وليصعد عليه فليقطع الوحي أو ينزل عليه . وقيل : كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطؤن ما وعد الله رسوله من النصر ، وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يثبت أمره . فنزلت . وقد فسر النصر : بالرزق ، وقيل : معناه أن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته ولا بد للعبد من الرضا بقسمته ، فمن ظنّ أن الله غير رازقه وليس به صبر واستسلام ، فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق ، فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يردّه مرزوقاً .
(4/278)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
أي : ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله { آيات بينات و } ل { أنّ الله يهدي } به الذين يعلم أنهم يؤمنون . أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى ، أنزله كذلك مبيناً .
(4/279)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً ، فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت ، ولا يجمعهم في موطن واحد . وقيل : الأديان خمسة : أربعة للشيطان وواحد للرحمن جعل الصابئون مع النصارى لأنهم نوع منهم . وقيل : { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } يقضي بينهم ، أي بين المؤمنين والكافرين . وأدخلت { إِنَّ } على كل واحد من جزأي الجملة لزيادة التوكيد . ونحوه قول جرير :
إنَّ الْخَلِيفَةَ إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَه ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ
(4/280)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
سميت مطاوعتها له فيما يحدث فيها من أفعاله ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها : سجوداً له ، تشبيهاً لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلف في باب الطاعة والانقياد ، وهو السجود الذي كل خضوع دونه ، فإن قلت : فما تصنع بقوله : { وَكَثِيرٌ مّنَ الناس } وبما فيه من الاعتراضين ، أحدهما : أنّ السجود على المعنى الذي فسرته به ، لا يسجده بعض الناس دون بعض . والثاني : أنّ السجود قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجن أولاً ، فإسناده إلى كثير منهم آخراً مناقضة؟ قلت : لا أنظم كثيراً في المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل ، وإنما أرفعه بفعل مضمر يدل عليه قوله : { يَسْجُدُ } أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة . ولم أقل : أفسر يسجد الذي هو ظاهر بمعنى الطاعة والعبادة في حق هؤلاء؛ لأنّ اللفظ الواحد لا يصحّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين ، أو أرفعه على الابتداء والخبر محذوف وهو مثاب ، لأنّ خبر مقابله يدل عليه ، وهو قوله : { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } ويجوز أن يجعل ( من الناس ) خبراً له ، أي : من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون . ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب ، فيعطف كثير على كثير ، ثم يخبر عنهم بحقّ عليهم العذاب ، كأنه قيل : وكثير وكثير من الناس حق عليهم العذاب ، وقرىء "حق" بالضم . وقرىء : "حقاً" أي حقّ عليهم العذاب حقاً . ومن أهانه الله - بأن كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه - فقد بقي مهانا لن تجد له مكرماً . وقرىء : "مكرم" بفتح الراء بمعنى الإكرام . إنه { يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الإكرام والإهانة ولا يشاء من ذلك إلا ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين .
(4/281)

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
الخصم : صفة وصف بها الفوج أو الفريق ، فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان مختصمان وقوله : { هذان } للفظ . و { اختصموا } للمعنى ، كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ } [ محمد : 16 ] ولو قيل : هؤلاء خصمان . أو اختصما : جاز يراد المؤمنون والكافرون . قال ابن عباس رجع إلى أهل الأديان الستة { فِى رَبّهِمْ } أي في دينه وصفاته . وروي : أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين : نحن أحق بالله ، وأقدم منكم كتاباً ، ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحق بالله ، آمنا بمحمد ، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً ، فهذه خصومتهم في ربهم { فالذين كَفَرُواْ } هو فصل الخصومة المعنيّ بقوله تعالى : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } [ الحج : 17 ] وفي رواية عن الكسائي : "خصمان" بالكسر ، وقرىء : "قطعت" بالتخفيف ، كأنّ الله تعالى يقدّر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة . ويجوز أن تظاهر على كل واحد منهم تلك النيران كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض . ونحوه { سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ } [ إبراهيم : 50 ] . { الحميم } الماء الحار عن ابن عباس رضي الله عنه : لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها { يُصْهَرُ } يذاب وعن الحسن بتشديد الهاء للمبالغة ، أي : إذا صبّ الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر ، فيذيب أحشاءهم وأمعاءهم كما يذيب جلودهم ، وهو أبلغ من قوله : { وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } [ محمد : 15 ] والمقامع : السياط . في الحديث :
( 705 ) " لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها " ، وقرأ الأعمش : "ردوا فيها" والإعادة والرد لا يكون إلا بعد الخروج . فالمعنى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها . ومعنى الخروج : ما يروى عن الحسن أنّ النار تضربهم بلهبها فترفعهم ، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً وقيل لهم { ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } والحريق : الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك .
(4/282)

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{ يُحَلَّوْنَ } عن ابن عباس : من حِلَيت المرأَةُ فهي حال { وَلُؤْلُؤاً } بالنصب على : ويؤتون لؤلؤاً ، كقوله : وحوراً عيناً . ولؤلؤاً بقلب الهمزة الثانية واواً . ولولياً؛ بقلبهما واوين ، ثم بقلب الثانية ياء كأدل . ولول كأدل فيمن جرّ . ولولؤ ، وليلياً ، بقلبهما ياءين ، عن ابن عباس : وهداهم الله وألهمهم أن يقولوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وهداهم إلى طريق الجنة . يقال : فلان يحسن إلى الفقراء وينعش المضطهدين ، لا يراد حال ولا استقبال ، وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه والنعشة في جميع أزمنته وأوقاته . ومنه قوله تعالى : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي الصدود منهم مستمرّ دائم { لِلنَّاسِ } أي الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد وتانيء وطاريء ومكي وآفاقي . وقد استشهد به أصحاب أبي حنيفة قائلين : إنّ المراد بالمسجد الحرام : مكة ، على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها . وعند الشافعي : لا يمتنع ذلك . وقد حاور إسحاق بن راهويه فاحتجّ بقوله : { الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم } [ الحج : 40 ] ، [ الحشر : 8 ] وقال : أنسب الديار إلى مالكيها ، أو غير مالكيها؟ واشترى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه دار السجن من مالكيه أو غير مالكيه؟ { سَوَآء } بالنصب : قراءة حفص . والباقون على الرفع . ووجه النصب أنه ثاني مفعولي جعلناه ، أَي : جعلناه مستوياً { العاكف فِيهِ والباد } وفي القراءة بالرفع . الجملة مفعول ثان . الإلحاد : العدول عن القصد ، وأصله إلحاد الحافر . وقوله : { بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } حالان مترادفتان . ومفعول { يُرِدْ } متروك ليتناول كل متناول ، كأنه قال : ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يعني أَنّ الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده . وقيل : الإلحاد في الحرم : منع الناس عن عمارته . وعن سعيد بن جبير : الاحتكار . وعن عطاء : قول الرجل في المبايعة : "لا والله ، وبلى والله ، وعن عبد الله بن عمر [ و ] أنه كان له فسطاطان ، أحدهما : في الحل ، والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، فقيل له ، فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : لا والله وبلى والله" . وقرىء : "يرد" بفتح الياء من الورود ، ومعناه من أتى فيه بإلحاد ظالماً . وعن الحسن : ومن يرد إلحاده بظلم . أراد : إلحاداً فيه ، فأضافه على الاتساع في الظرف ، كمكر الليل : ومعناه من يرد أن يلحد فيه ظالماً . وخبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه ، تقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم؛ وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك . عن ابن مسعود : الهمة في الحرم تكتب ذنباً .
(4/283)

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
واذكر حين جعلنا { لإبراهيم مَكَانَ البيت } مباءة ، أي : مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة . رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء ، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها يقال لها : الخجوج ، كنست ما حوله ، فبناه على أسه القديم . وأن هي المفسرة . فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟ قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، فكأنه قيل : تعبدنا إبراهيم قلنا له : { لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ } من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله . وقرىء : "يشرك" بالياء على الغيبة .
(4/284)

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{ وَأذّن فِى الناس } ناد فيهم . وقرأ ابن محيصن : "وآذن" والنداء بالحج : أن يقول : حجوا ، أو عليكم بالحج . وروي أنه صعد أَبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم . وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع { رِجَالاً } مشاة جمع راجل ، كقائم وقيام . وقرىء : "رجالاً" بضم الراء مخفف الجيم ومثقلة ، ورجالي كعجالي عن ابن عباس { وعلى كُلّ ضَامِرٍ } حال معطوفة على حال ، كأنه قال : رجالاً وركباناً { يَأْتِينَ } صفة لكل ضامر ، لأنه في معنى الجمع . وقرىء : "يأتون" صفة للرجال والركبان . والعميق : البعيد ، وقرأ ابن مسعود : "معيق" . يقال : بئر بعيدة العمق والمعق .
(4/285)

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات . وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج ، فلما حجّ فضل الحج على العبادات كلها ، لما شاهد من تلك الخصائص ، وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله ، لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا . وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه ، وقد حسن الكلام تحسيناً بيناً أن جمع بين قوله : { وَيَذْكُرُواْ اسم الله } ، وقوله : { على مَا رَزَقَهُمْ } ولو قيل : لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام ، لم تر شيئاً من ذلك الحسن والروعة . الأيام المعلومات : الأيام العشر عند أبي حنيفة ، وهو قول الحسن وقتادة . وعند صاحبيه : أيام النحر . البهيمة : مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، فبينت بالأنعام : وهي الإبل والبقر والضأن والمعز . [ فكلوا ] الأمر بالأكل منها أمر إباحة ، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم ، ويجوز أن يكون ندباً لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم ومن استعمال التواضع . ومن ثمة استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث . وعن ابن مسعود أنه بعث بهدي وقال فيه : إذا نحرته فكل وتصدّق وابعث منه إلى عتبة ، يعني ابنه . وفي الحديث :
( 706 ) " كلوا وادخروا وائتجروا "
{ البائس } الذي أصابه بؤس أي شدة : و { الفقير } الذي أضعفه الإعسار .
(4/286)

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قضاء التفث : قصّ الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد ، والتفث : الوسخ ، فالمراد قضاء إزالة التفث . [ ( وليوفوا ) ] وقرىء : "وليوفوا" بتشديد الفاء { نُذُورَهُمْ } مواجب حجهم ، أو ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجهم { وَلْيَطَّوَّفُواْ } طواف الإفاضة ، وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج ، ويقع به تمام التحلل . وقيل : طواف الصدر ، وهو طواف الوداع { العتيق } القديم ، لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن . وعن قتادة : أعتق من الجبابرة ، كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله . وعن مجاهد : لم يملك قط . وعنه : أعتق من الغرق . وقيل : بيت كريم ، من قولهم : عتاق الخيل والطير . فإن قلت : قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع . قلت : ما قصد التسلط على البيت ، وإنما تحصن به ابن الزبير ، فاحتال لإخراجه ثم بناه . ولما قصد التسلط عليه أبرهة ، فعل به ما فعل .
(4/287)

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{ ذلك } خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر والشأن ذلك ، كما يقدّم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال : هذا وقد كان كذا . [ ( ومن يعظم حرمات الله ) ] والحرمة : ما لا يحل هتكه . وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج . وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم حتى يحلّ . { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } أي فالتعظيم خير له . ومعنى التعظيم : العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها . المتلوّ لا يستثنى من الأنعام ، ولكن المعنى { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } آية تحريمه ، وذلك قوله في سورة المائدة : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } [ المائدة : 3 ] والمعنى : أن الله قد أحلّ لكم الأنعام كلها إلاّ ما استثناه في كتابه ، فحافظوا عل حدوده ، وإياكم أن تحرّموا مما أحلّ شيئاً ، كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك ، وأن تحلوا مما حرم الله ، كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك .
[ ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ) ] لما حثّ على تعظيم حرماته وأحمد من يعظمها أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور؛ لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات وأسبقها خطواً . وجمع الشرك وقول الزور في قران واحد ، وذلك أن الشرك من باب الزور لأن المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة ، فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور ، واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا شيئاً منه لتماديه في القبح والسماجة . وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان . وسمى الأوثان رجساً وكذلك الخمر والميسر والأزلام ، على طريق التشبيه . يعني : أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه ، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة . ونبه على هذا المعنى بقوله : { رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ] جعل العلة في اجتنابه أنه رجس ، والرجس مجتنب { مِنَ الأوثان } بيان للرجس وتمييز له ، كقولك : عندي عشرون من الدراهم؛ لأنّ الرجس مبهم يتناول غير شيء ، كأنه قيل : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان . والزور [ من الزور ] والأزورار وهو الانحراف ، كما أنّ الإفك من أفكه إذا صرفه . وقيل : { قَوْلَ الزور } [ الحج : 30 ] قولهم : هذا حلال وهذا حرام ، وما أشبه ذلك من افترائهم . وقيل : شهادة الزور . عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 707 ) أنه صلى الصبحَ فلمّا سلّم قامَ قائماً واستقبلَ الناسَ بوجهه وقالَ : " عدلَتْ شهادةُ الزورِ الإشراك باللَّهِ ، عدلَتْ شهادةُ الزورِ الإشراك باللَّهِ ، عدلَتْ شهادةُ الزورِ الإشراك باللَّهِ "
(4/288)

، وتلا هذه الآية . وقيل : الكذب والبهتان . وقيل : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك . ويجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق . فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده نهاية ، بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير ، فتفرق مزعاً في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة . وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء ، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوّح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة . وقرىء : "فتخطفه" بكسر الخاء والطاء . وبكسر التاء مع كسرهما ، وهي قراءة الحسن . وأصلها : تختطفه . وقرىء : "الرياح" .
(4/289)

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
تعظيم الشعائر - وهي الهدايا ، لأنها من معالم الحجّ - : أن يختارها عظام الأجرام حساناً سماتاً غالية الأثمان ، ويترك المكاس في شرائها ، فقدكانوا يغالون في ثلاث - ويكرهون المكاس فيهنّ - : الهدي ، والأضحية ، والرقبة . وروى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما :
( 708 ) أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً ، فنهاهُ عنْ ذَلك وقالَ : " بلْ أَهدِها "
( 709 ) وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة ، فيها جمل لأبي جهل في أنفه برّة من ذهب . وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدّق بلحومها وبجلالها ، ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بدّ أن يقام به ويسارع فيه { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحدفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلاّ بتقديرها ، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى { مِن } ليرتبط به ، وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء . { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى أن تنحر ويتصدّق بلحومها ويؤكل منها . و { ثُمَّ } للتراخي في الوقت . فاستعيرت للتراخي في الأحوال . والمعنى : أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم ، وإنما يعتدّ الله بالمنافع الدينية ، قال سبحانه : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الأخرة } [ الأنفال : 67 ] وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطاً في النفع : { محلها إلى البيت } أي وجوب نحرها . أو وقت وجوب نحرها في الحرم منتهية إلى البيت ، كقوله : { هَدْياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت؛ لأن الحرم هو حريم البيت . ومثل هذا في الاتساع قولك : بلغنا البلد ، وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده . وقيل : المراد بالشعائر : المناسك كلها ، و { مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق } يأباه .
(4/290)

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
شرع الله لكل أمّة أن ينسكوا له : أي يذبحوا لوجهه على وجه التقرّب ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك : قرىء { مَنسَكًا } بفتح السين وكسرها ، وهو مصدر بمعنى النسك ، والمكسور يكون بمعنى الموضع { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } أي أخلصوا له الذكر خاصة ، واجعلوه لوجهه سالماً ، أي : خالصاً لا تشوبوه بإشراك .
[ ( وبشر المخبتين ) ] المخبتون : المتواضعون الخاشعون ، من الخبث وهو المطمئن من الأرض . وقيل : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا . وقرأ الحسن : ( والمقيمي الصلاة ) بالنصب على تقدير النون . وقرأ ابن مسعود : "والمقيمين الصلاة" على الأصل .
(4/291)

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{ والبدن } جمع بدنة ، سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحقَ البقرَ بالإبلِ حين قال :
( 710 ) " البدنةُ عن سبعةٍ ، والبقرةُ عنْ سبعةٍ " ؛ فجعل البقر في حكم الإبل ، صارت البدنة في الشريعة متناولة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه ، وإلا فالبدن هي الإبل وعليه تدل الآية ، وقرأ الحسن : "والبدن" ، بضمتين ، كثمر في جمع ثمرة . وابن أبي إسحاق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف . وقرىء بالنصب والرفع كقوله : { والقمر قدرناه } [ يس : 39 ] . { مِن شَعَائِرِ الله } أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله . وإضافتها إلى اسمه : تعظيم لها { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } كقوله : { لَكُمْ فِيهَا منافع } ومن شأن الحاج أن يحرص على شيء فيه خير ومنافع بشهادة الله [ تعالى ] . عن بعض السلف أنه لم يملك إلاّ تسعة دنانير ، فاشترى بها بدنة ، فقيل له في ذلك ، فقال : [ إني ] سمعت ربي يقول : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } وعن ابن عباس : دنيا وآخرة . وعن إبراهيم : من احتاج إلى ظهرها ركب ، ومن احتاج إلى لبنها شرب . وذكر اسم الله : أن يقول عند النحر : الله أكبر لا إله إلاّ الله والله أكبر ، اللَّهم منك وإليك { صَوَافَّ } قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهنّ . وقرىء : "صوافن" من صفون الفرس ، وهو أن يقوم على ثلاث وينصب الرابعة على طرف سنبكه؛ لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث . وقرىء : "صوافي" أي : خوالص لوجه الله . وعن عمرو بن عبيد : صوافنا ، بالتنوين عوضاً من حرف الإطلاق عند الوقف . وعن بعضهم : صواف نحو مثل العرب . أعط القوس باريها ، بسكون الياء .
[ ( فإذا وجبت جنوبها ) ] وجوب الجنوب : وقوعها على الأرض ، ومن وجب الحائط وجبة إذا سقط . ووجبت الشمس جبة : غربت . والمعنى : فإذا وجبت جنوبها وسكنت نسائسها حلّ لكم الأكل منها والإطعام { القانع } السائل ، من قنعت إليه وكنعت : إذا خضعت له وسألته قنوعاً { والمعتر } المعترض بغير سؤال ، أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال ، من قنعت قنعاً وقناعة . والمعتر : المعترض بسؤال . وقرأ الحسن : والمعتري . وعرّه وعراه واعتراه واعتره : بمعنى . وقرأ أبو رجاء : القنع ، وهو الراضي لا غير . يقال : قنع فهو قنع وقانع .
[ ( كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ) ] من الله على عبادة واستحمد إليهم بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذي رأوا وعلموا ، ويأخذونها منقادة للأخذ طيعة فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها ، ثم يطعنون في لبانها . ولولا تسخير الله لم تطق ، ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقلّ قوّة ، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهداً وعبرة .
(4/292)

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
أي : لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر ، والمراد أصحاب اللحوم والدماء ، والمعنى : لن يرضي المضحون والمقرّبون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتفاظ بشروط التقوى في حلّ ما قرب به ، وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع . فإذا لم يراعوا ذلك ، لم تغن عنهم التضحية والتقريب وإن كثر ذلك منهم . وقرىء : "لن تنال الله ، ولكن تناله" بالتاء والياء . وقيل : كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم ، فلما حجّ المسلمون أرادوا مثل ذلك ، فنزلت .
كرّر تذكير النعمة بالتسخير ثم قال : لتشكروا الله على هدايته إياكم لأعلام دينه ومناسك حجّه ، بأن تكبروا وتهللوا ، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر ، وعدى تعديته .
(4/293)

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
خصّ المؤمنين بدفعه عنهم ونصرته لهم ، كما قال : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ } [ غافر : 51 ] وقال : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 172 ] و قال : { وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } [ الصف : 13 ] وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم : وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها . ومن قرأ : { يُدَافِعُ } فمعناه يبالغ في الدفع عنهم ، كما يبالغ من يغالب فيه؛ لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ .
(4/294)

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{ أَذِنَ } و { يقاتلون } قرئا على لفظ المبني للفاعل والمفعول جميعاً : والمعنى : أذن لهم في القتال ، فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } أي بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 711 ) كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً ، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه ، فيقول لهم : " اصبروا فإني لم أومر بالقتال " ، حتى هاجر فأنزلت هذه الآية ، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية . وقيل : نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم . والإخبار بكونه قادراً على نصرهم عدة منه بالنصر واردة على سنن كلام الجبابرة ، وما مرّ من دفعه عن الذين آمنوا مؤذن بمثل هذه العدة أيضاً : { أَن يَقُولُواْ } في محل الجرّ على الإبدال من { حَقٍّ } أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير . ومثله : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله } [ المائدة : 59 ] .
دفع الله بعض الناس ببعض : إظهاره وتسليطه المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة ، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم ، وعلى متعبداتهم فهدموها ، ولم يتركوا للنصارى بيعاً ، ولا لرهبانهم صوامع ، ولا لليهود صلوات ، ولا للمسلمين مساجد . أو لغلب المشركون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين . وقرىء : "دفاع" ولهدمت : بالتخفيف . وسميت الكنيسة "صلاة" لأنه يصلى فيها . وقيل : هي كلمة معرّبة ، أصلها بالعبرانية : صلوثا { مَن يَنصُرُهُ } أي ينصر دينه وأولياءه : هو إخبار من الله عزّ وجلّ بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضي الله عنهم إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا ، وكيف يقومون بأمر الدين . وعن عثمان رضي الله عنه : هذا والله ثناء قبل بلاء . يريد : أنّ الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا . وقالوا : فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين؛ لأنّ الله لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين ، لاحظ في ذلك للأنصار والطلقاء . وعن الحسن : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : { الذين } منصوب بدل من قوله من ينصره . والظاهر أنه مجرور ، تابع للذين أخرجوا { وَلِلَّهِ عاقبة الأمور } أي مرجعها إلى حكمه وتقديره . وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم .
(4/295)

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له : لست بأوحدي في التكذيب ، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم ، وكفاك بهم أسوة . فإن قلت : لم قيل : { وَكُذّبَ موسى } ولم يقل : قوم موسى؟ قلت : لأنّ موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط . وفيه شيء آخر ، كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم : وكُذِّبَ موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته ، فما ظنك بغيره .
{ نَكِيرِ } التنكير : بمعنى الإنكار والتغيير ، حيث أبدلهم بالنعمة محنة ، وبالحياة هلاكاً ، وبالعمارة خراباً .
(4/296)

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو "عرش" والخاوي : الساقط ، من خوى النجم إذا سقط . أو الخالي ، من خوى المنزل إذا خلا من أهله . وخوى بطن الحامل وقوله : { على عُرُوشِهَا } لا يخلو من أن يتعلق بخاوية ، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي خرّت سقوفها على الأرض ، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف . أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها . وإما أن يكون خبراً بعد خبر ، كأنه قيل : هي خالية ، وهي على عروشها أي قائمة مطلة على عروشها ، على معنى أنّ السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة . فإت قلت : ما محلّ الجملتين من الإعراب أعني : { وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ } ؟ قلت : الأولى في محل النصب على الحال ، والثانية لا محلّ لها لأنها معطوفة على أهلكناها ، وهذا الفعل ليس له محلّ [ ( وبئر معطلة ) ] وقرأ الحسن : معطلة ، من أعطله بمعنى عطله . ومعنى المعطلة : أنها عامرة فيها الماء ، ومعها آلات الاستقاء؛ إلا أنها عطلت ، أي : تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ( وقصر مشيد ) والمشيد : المجصص أو المرفوع البنيان . والمعنى : كم قرية أهلكنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة معطلة عليه . وفي هذا دليل على أنّ { على عُرُوشِهَا } بمعنى "مع" أوجه . روي : أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به . ونجاهم الله من العذاب ، وهي بحضرموت . وإنما سميت بذلك لأنّ صالحاً حين حضرها مات ، وثمة بلدة عند البئر اسمها "حاضوراء" بناها قوم صالح ، وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس ، وأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً ، وأرسل الله إِليهم حنظلة ابن صفوان نبياً فقتلوه ، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرّب قصورهم .
(4/297)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
يحتمل أنهم لم يسافروا فحثّوا على السفر؛ ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا . وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا ، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا . وقرىء : "فيكون لهم قلوب" بالياء ، أي : يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي { فَإِنَّهَا } الضمير ضمير الشأن والقصة ، يجيء مذكراً ومؤنثاً ، وفي قراءة ابن مسعود : فإنه . ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره { الأبصار } وفي تعمى ضمير راجع إليه . والمعنى : أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها . وإنما العمى بقلوبهم . أولا يعتدّ بعمى الأبصار ، فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب . فإن قلت : أي فائدة في ذكر الصدور؟ قلت : الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها . واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ، ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار ، كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك ، فقولك : "الذي بين فكيك" تقرير لمّا ادّعيته للسانه وتثبيت لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً .
(4/298)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل أو الآجل ، كأنه قال : ولم يستعجلون به؟ كأنهم يجوّزون الفوت ، وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف ، والله عزّ وعلا لا يخلف الميعاد وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين ، وهو سبحانه حليم لا يعجل ، ومن حلمه ووقاره واستقصاره المدد الطوال أنّ يوماً واحداً عنده كألف سنة عندكم . قيل : معناه كيف يستعجلون بعذاب من يومٌ واحد من أيام عذابه في طول أَلف سنة من سنيكم؛ لأن أيام الشدائد مستطالة . أو كأن ذلك اليوم الواحد لشدة عذابه كألف سنة من سني العذاب . وقيل : ولن يخلف الله وعده في النظرة والإمهال . وقرىء : "تعدون" بالتاء والياء ، ثم قال : وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع إليّ وإلى حكمي . فإن قلت : لم كانت الأولى معطوفة بالفاء ، وهذه بالواو؟ قلت : الأولى وقعت بدلاً عن قوله : { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ الحج : 44 ] ، [ سبأ : 45 ] ، [ فاطر : 26 ] ، [ الملك : 18 ] وأمّا هذه فحكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو ، أعني قوله : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ } .
(4/299)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
يقال : سعيت في أمر فلان ، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه . وعاجزه : سابقه؛ لأنّ كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل : أعجزه وعجزه . والمعنى : سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها ، حيث سموها : سحراً وشعراً وأساطير ، ومن تثبيط الناس عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم ، وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتمّ لهم . فإن قلت : كأن القياس أن يقال : إنما أنا لكن بشير ونذير ، لذكر الفريقين بعده . قلت : الحديث مسوق إلى المشركين . و { ياأيها الناس } : نداء لهم ، وهم الذين قيل فيهم : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض } [ يوسف : 109 ] ، [ الحج : 46 ] ، [ غافر : 82 ] ، [ محمد : 10 ] ووصفوا بالاستعجال . وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا .
(4/300)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ } دليل بيّن على تغاير الرسول والنبي . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال :
( 712 ) " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً " قيل : فكم الرسل منهم؟ قال : " ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً " والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء : من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه . والنبي غير الرسول : من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله . والسبب في نزول هذه الآية :
( 713 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعرض عنه قومٌ وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به : تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقاً إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم ، فاستمرّ به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة "والنجم" وهو في نادي قومه ، وذلك التمني في نفسه ، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله : { ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 20 ] : { أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } التي تمناها ، أي : وسوس إليه بما شيعها به ، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهنّ لترتجى . وروي : الغرانقة ، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه ، وقيل : نبهه جبريل عليه السلام . أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس قيل فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم ، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء ، زاد المنافقون به شكاً وظلمة ، والمؤمنون نوراً وإيقاناً . والمعنى : أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت ، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقى في أمنيتك ، إرادة امتحان من حولهم ، والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ، ليضاعف ثواب الثابتين ، ويزيد في عقاب المذبذبين . وقيل : { تمنى } : قرأ . وأنشد :
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... تَمَنِّي دَاوُدَ الرَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وأمنيته : قراءته . وقيل : تلك الغرانيق : إشارة إلى الملائكة ، أي : هم الشفعاء لا الأصنام { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } أي يذهب به ويبطله { ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته } أي يثبتها .
(4/301)

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
والذين { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } المنافقون والشاكون { والقاسية قُلُوبُهُمْ } المشركون المكذبون { وَإِنَّ الظالمين } يريد : وإن هؤلاء المنافقين والمشركين . وأصله : وإنهم ، فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم { أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ } أي ليعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء : هو الحق من ربك والحكمة { وإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءامنوا إلى } أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ، ويطلبوا لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول والمحكمة والقوانين الممهدة ، حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ولا تزل أقدامهم . وقرىء : "لهادٍ الذين آمنوا" بالتنوين .
(4/302)

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
الضمير في { مِرْيَةٍ مّنْهُ } للقرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم . اليوم العقيم : يوم بدر ، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه ، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب ، فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز . وقيل : هو الذي لا خير فيه ، يقال : ريح عقيم إذا لم تنشيء مطراً ولم تلقح شجراً . وقيل : لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة عليهم السلام فيه . وعن الضحاك أنه يوم القيامة ، وأن المراد بالساعة مقدّماته ، ويجوز أن يراد بالساعة وبيوم عقيم : يوم القيامة ، كأنه قيل : حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها ، فوضع { يَوْمٍ عَقِيمٍ } موضع الضمير .
(4/303)

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
فإن قلت : التنوين في { يَوْمَئِذٍ } عن أي جملة ينوب؟ قلت : تقديره : الملك يوم يؤمنون . أو يوم تزول مريتهم ، لقوله : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة } [ الحج : 55 ] .
(4/304)

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
لما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوّى بينهم في الموعد ، وأن يعطى من مات منهم مثل ما يعطي من قتل تفضلاً منه وإحساناً . والله عليم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم { حَلِيمٌ } عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه ، روي أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم قالوا : يا نبي الله ، هؤلاء الذي قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين .
(4/305)

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذاك مسبب عنه كما يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة . فإن قلت : كيف طابق ذكر العفوّ الغفور هذا الموضع؟ قلت : المعاقب مبعوث من جهة الله عزّ وجلّ على الإخلال بالعقاب ، والعفو عن الجاني - على طريق التنزيه لا التحريم - ومندوب إليه ، ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وسلك سبيل التنزيه ، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب ، ولم ينظر في قوله تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] ، { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ، { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] : إنَّ الله لعفو غفور ، أي : لا يلومه على ترك ما بعثه عليه ، وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه . ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي ، ويعرّض مع ذلك بما كان أولى به من العفو ، ويلوّح به بذكر هاتين الصفتين . أو دلّ بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة ، لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه .
(4/306)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{ ذلك } أي ذلك النصر بسبب أنه قادر . ومن آيات قدرته البالغة أنه { يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشرّ والبغي والإنصاف ، وأنه { سَمِيعُ } لما يقولون { بَصِيرٌ } بما يفعلون . فإن قلت : ما معنى إيلاج أحد الملوين في الآخر؟ قلت : تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ، ذاك بغيبوبة الشمس . وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها ، كما يضيء السرب بالسراج ويظلم بفقده . وقيل : هو زيادته في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات .
(4/307)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
وقرىء : { تَدْعُونَ } بالتاء والياء . وقرأ اليماني . وأن ما تُدعون . بلفظ المبني للمفعول ، والواو راجعة إلى "ما" لأنه في معنى الآلهة ، أي : ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجري فيهما وإدراك كل قول وفعل ، بسبب أنه الله الحق الثابت إلهيته ، وأن كل ما يدعي إلهاً دونه باطل الدعوة ، وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً .
(4/308)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
قرىء : { مُخْضَرَّةً } أي ذات خضر ، على مفعلة ، كمقبلة ومسبعة . فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان ، كما تقول : أنعم عليَّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدوا شاكراً له . ولو قلت : فرحت وغدوت؛ ولم يقع ذلك الموقع ، فإن قلت : فما له رفع لم ينصب جواباً للاستفهام؟ قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأنّ معناه إثبات الاخضرار ، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر : إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر . وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله { لَطِيفٌ } وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء { خَبِيرٌ } بمصالح الخلق ومنافعهم .
(4/309)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{ مَّا فِى الأرض } من البهائم مذللة للركوب في البر ، ومن المراكب جارية في البحر ، وغير ذلك من سائر المسخرات . وقرىء : { والفلك } بالرفع على الابتداء { أَن تَقَعَ } كراهة أن تقع { إِلا } بمشيئته { أَحْيَاكُمْ } بعد أن كنتم جماداً تراباً ، ونطفة ، وعلقة ، ومضغة { لَكَفُورٌ } لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم .
(4/310)

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
هو نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك . أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في الدين وهم جهال لا علم عندهم وهم كفار خزاعة . روى : أن بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما قالوا للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتله الله! يعنون الميتة . وقال الزجاج : هو نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعته ، كما تقول : لا يضاربنك فلان ، أي : لا تضاربه . وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين { فِى الأمر } في أمر الدين . وقيل : في أمر النسائك ، وقرىء : "فلا ينزعنك" أي اثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه . والمراد : زيادة التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله ولدينه . ومنه قوله : { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله } [ القصص : 87 ] ، { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] ، [ يونس : 105 ] ، [ القصص : 87 ] ، { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } [ القصص : 86 ] . وهيهات أن ترتع همة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ذلك الحمى ، ولكنه وارد على ما قلت لك من إرادة التهييج والإلهاب . وقال الزجاج : هو من نازعته فنزعته أنزعه ، أي : غلبته ، أي : لا يغلبنك في المنازعة . فإن قلت : لم جاءت نظيرة هذه الآية معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ قلت : لأنّ تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك ، فعطفت على أخواتها . وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً .
(4/311)

وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
أي : وإن أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع ، فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به . وهذا وعيد وإنذار ، ولكن برفق ولين .
(4/312)

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
{ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } خطاب من الله للمؤمنين والكافرين ، أي : يفصل بينكم بالثواب والعقاب ومسلاة للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم ، وكيف يخفى عليه ما يعملون ، ومعلوم عند العلماء بأن الله يعلم كل ما يحدث في السموات والأرض ، وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه . والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه { يَسِيرٌ } لأن العالم بالذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم .
(4/313)

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ } ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي من جهة الوحي والسمع ، ولا ألجأهم إليها علم ضروري ، ولا حملهم عليها دليل عقلي { وَمَا } للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوّب مذهبهم .
(4/314)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
{ المنكر } الفظيع من التجهم والبسور . أو الإنكار ، كالمكرم بمعنى الإكرام . وقرىء : "يعرف" والمنكر . والسطو : الوثب والبطش . وقرىء : { النار } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنّ قائلاً قال : ما هو؟ فقيل : النار ، أي : هو النار . وبالنصب على الاختصاص . وبالجرّ على البدل من { بِشَرٍّ مّن ذلكم } من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم . أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم { وَعَدَهَا الله } استئناف كلام . ويحتمل أن تكون { النار } مبتدأ و { وَعَدَهَا } خبراً ، وأن يكون حالاً عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار "قد" .
(4/315)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل ، فكيف سماه مثلاً؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب : مثلاً ، تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة ، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم . قرىء : "تدعون" بالتاء والياء ويدعون : مبنياً للمفعول { لَن } أخت "لا" في نفي المستقبل ، إلا أن "لن" تنفيه نفياً مؤكداً ، وتأكيده ههنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم ، كأنه قال : محال أن يخلقوا ، فإن قلت : ما محل . { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } ؟ قلت : النصب على الحال ، كأنه قال : مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه وتعاونهم عليه ، وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش واستركاك عقولهم ، والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه حيث وصفوا بالإلهية - التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها ، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها - صوراً وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقلّ ما خلقه [ الله ] وأذله وأصغره وأحقره ، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا . وأدلّ من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم : أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا . وقوله : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف . ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف ، لأن الذباب حيوان ، وهو جماد ، وهو غالب وذاك مغلوب . وعن ابن عباس : أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ، ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذباب من الكوي فيأكله .
(4/316)

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{ مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عرفوه حق معرفته ، حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها ، ولا يؤهلوه للعبادة ، ولا يتخذوه شريكاً له : إن الله قادر غالب ، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به؟
(4/317)

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
هذا ردّ لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر ، وبيان أن رسل الله على ضربين : ملائكة وبشر ، ثم ذكر أنه تعالى درّاك للمدركات ، عالم بأحوال المكلفين ما مضي منها وما غبر ، لا تخفى عليه منهم خافية . وإليه مرجع الأمور كلها ، والذي هو بهذه الصفات ، لا يسأل عما يفعل ، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله .
(4/318)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات . وفي هذه السورة دلالات على ذلك ، فمن ثمة دعا المؤمنين أولاً إلى الصلاة التي هي ذكر خالص ، ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحجّ والغزو ، ثم عمّ بالحثّ على سائر الخيرات . وقيل : كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود . وقيل : معنى : { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله . وعن ابن عباس في قوله : { وافعلوا الخير } صلة الأرحام ومكارم الأخلاق { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح طامعون فيه ، غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم ، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال :
( 714 ) قلت : يا رسول الله في سورة الحجّ سجدتان؟ قال : " نعم ، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما " وعن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما فضلت سورة الحج بسجدتين . وبذلك احتجّ الشافعي رضي الله عنه ، فرأى سجدتين في سورة الحجّ ، وأبو حنيفة وأصحابه رضي لله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة ، لأنهم يقولون : قرن السجود بالركوع ، فدلّ ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة .
(4/319)

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{ وجاهدوا } أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع من بعض غزواته فقال :
( 715 ) " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " { فِى الله } أي في ذات الله ومن أجله . يقال : هو حق عالم ، وجدّ عالم ، أي : عالم حقاً وجداً . ومنه { حَقَّ جهاده } . فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة ، وكان القياس : حق الجهاد فيه ، أو حق جهادكم فيه ، كما قال : { وجاهدوا فِى الله } ؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث أنه مفعول لوجهه ومن أجله ، صحت إضافته إليه . ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :
وَيَوْماً شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً ... { اجتباكم } اختاركم لدينه ولنصرته { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } فتح باب التوبة للمجرمين ، وفسح بأَنواع الرخص والكفارات والديات والأروش . ونحوه قوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] وأمّة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة المرحومة الموسومة بذلك في الكتب المتقدّمة .
نصب الملة بمضمون ما تقدّمها ، كأنه قيل : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . أو على الاختصاص ، أي : أعني بالدين ملة أبيكم كقولك : الحمد الله الحميد . فإن قلت : لم يكن { إبراهيم } أباً للأمّة كلها . قلت : هو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أباً لأمته ، لأنّ أمة الرسول في حكم أولاده { هُوَ } يرجع إلى الله تعالى . وقيل : إلى إبراهيم . ويشهد للقول الأوّل قراءة أبيّ بن كعب : "الله سماكم" { مِن قَبْلُ وَفِى هذا } أي من قبل القرآن في سائر الكتب وفي القرآن ، أي : فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ } أنه قد بلغكم { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } بأنّ الرسل قد بلغتهم وإذ خصّكم بهذه الكرامة والأثرة . فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه ، فهو خير مولى وناصر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 716 ) " من قرأ سورة الحجّ أعطي من الأجر كحجّة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حجّ واعتمر فيما مضى وفيما بقي " .
(4/320)

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
{ قَدْ } نقيضه "لما" هي تثبت المتوقع و"لما" تنفيه ، ولا شكّ أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دلّ على ثبات ما توقعوه . والفلاح : الظفر بالمراد ، وقيل : البقاء في الخير . و { أَفْلَحَ } دخل في الفلاح ، كأبشر : دخل في البشارة . ويقال : أفلحه : أصاره إلى الفلاح . وعليه قراءة طلحة بن مصرِّف : أفلح ، على البناء للمفعول . وعنه : "أفلحوا" على : أكلوني البراغيث . أو على الإبهام والتفسير . وعنه : "أفلح" بضمة بغير واو ، اجتزاء بها عنها ، كقوله :
فَلَوْ أَنَّ الاطِبَّا كَانَ حَوْلِي ... فإن قلت : ما المؤمن؟ قلت : هو في اللغة المصدق . وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين ، أحدهما : أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئاً قلبه لسانه فهو مؤمن . والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلاّ البرّ التقيّ دون الفاسق الشقيّ .
{ خاشعون } الخشوع في الصلاة : خشية القلب وإلباد البصر عن قتادة : وهو إلزامه موضع السجود . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 717 ) أنه كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده ، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء ، أو يحدث نفسه بشأن من شأن الدنيا . وقيل : هو جمع الهمة لها ، والإعراض عما سواها . ومن الخشوع : أن يستعمل الآداب ، فيتوقى كفّ الثوب ، والعبث بجسده وثيابه والالتفات ، والتمطي ، والتثاؤب ، والتغميض ، وتغطية الفم ، والسدل ، والفرقعة ، والتشبيك ، والاختصار ، وتقليب الحصا . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 718 ) أنه أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : " لو خشع قلبه خشعت جوارحه " ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصا وهو يقول : اللَّهم زوّجني الحور العين ، فقال : بئس الخاطب أنت! تخطب وأنت تعبث . فإن قلت : لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت : لأنّ الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له ، فالمصلي هو المنتفع بها وحده ، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته : وأمّا المصلى له ، فغنيّ متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها .
(4/321)

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
اللغو : ما لا يعنيك من قول أو فعل ، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه وإطراحه يعني أنّ بهم من الجدّ ما يشغلهم عن الهزل .
لما وصفهم بالخشوع في الصلاة ، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف .
(4/322)

وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى ، فالعين : القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير والمعنى : فهل المزكي الذي هو التزكية ، وهو الذي أراده الله ، فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره ، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل ، تقول للضارب : فاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل ، وللمزكي : فاعل التزكية . وعلى هذا الكلام كله والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث : من فاعل هذا؟ فيقال لك : فاعله الله أو بعض الخلق . ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون ، لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل ، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها . وقد أنشد لأمية ابن أبي الصلت :
الْمُطْمِعُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ ... الأَزْمَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ
ويجوز أن يراد بالزكاة : العين ، ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء ، وحمل البيت على هذا أصحّ ، لأنها فيه مجموعة .
(4/323)

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{ على أزواجهم } في موضع الحال ، أي الأوّالين على أزواجهم : أو قوّامين عليهنّ ، من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان . ونظيره : كان زياد على البصرة ، أي : والياً عليها . ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ، ومن ثمة سميت المرأة فراشاً : والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال ، إلا في حال تزوّجهم أو تسريهم ، أو تعلق { على } بمحذوف يدلّ عليه { غَيْرُ مَلُومِينَ } [ المعارج : 30 ] كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم ، فإنهم غير ملومين عليه . أو تجعله صلة لحافظين ، من قولك : احفظ عليّ عنان فرسي ، على تضمينه معنى النفي ، كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك . فإن قلت : هلاقيل : من ملكت؟ قلت : لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث جعل المستثنى حداً أوجب الوقوف عنده ، ثم قال : فمن أحدث ابتغاء وراء هذا الحدّ مع فسحته واتساعه ، وهو إباحة أربع من الحرائر ، ومن الإماء ما شئت { فَأُوْلَئِكَ هُمُ } الكاملون في العدوان المتناهون فيه . فإن قلت : هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ قلت : لا؛ لأنّ المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صحّ النكاح .
(4/324)

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
وقرىء : "لأمانتهم" سمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] وقال : { وَتَخُونُواْ أماناتكم } [ الأنفال : 27 ] وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ، ويخان المؤتمن عليه ، لا الأمانة في نفسها . والراعي : القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية . ويقال : من راعي هذا الشيء؟ أي متوليه وصاحبه : ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق ، والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم .
(4/325)

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
وقرىء : "على صلاتهم" . فإن قلت : كيف كرّر ذكر الصلاة أوّلاً وآخراً؟ قلت : هما ذكران مختلفان فليس بتكرير . وصفوا أَوّلاً بالخشوع في صلاتهم ، وآخراً بالمحافظة عليها . وذلك أن لا يسهوا عنها ، ويؤدّوها في أوقاتها ، ويقيموا أركنها ، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتمّ به أوصافها . وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت ، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها : وهي الصلوات الخمس ، والوتر ، والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة ، والعيدين ، والجنازة ، والاستسقاء ، والكسوف والخسوف ، وصلاة الضحى ، والتهجد وصلاة التسبيح ، وصلاة الحاجة . وغيرها من النوافل .
(4/326)

أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
أي { أولئك } الجامعون لهذه الأوصاف { هُمُ الوارثون } الأحقاء بأن يسمّوا ورّاثاً دون من عداهم ، ثم ترجم الوارثين بقوله : { الذين يَرِثُونَ الفردوس } فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر . ومعنى الإرث : ما مرّ في سورة مريم . أنث الفردوس على تأويل الجنة ، وهو : البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر . روي أنّ الله عزّ وجلّ بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل خلالها المسك والأذفر . وفي رواية : ولبنة من مسك مذرّي وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان .
(4/327)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
السلالة : الخلاصة؛ لأنها تسلّ من بين الكدر ، وفعالة ، بناء للقلة كالقلامة والقمامة . وعن الحسن : ماء بين ظهراني الطين . فإن قلت : ما الفرق بين من ومن؟ قلت : الأوّل للابتداء ، والثاني للبيان ، كقوله : { مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] . فإن قلت : ما معنى : { جَعَلْنَا } الإنسان نطفة؟ قلت : معناه أنه خلق جوهر الإنسان أوّلاً طيناً ، ثم جعل جوهره بعذ ذلك نطفة . القرار : المستقرّ ، والمراد الرحم . وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقرّ فيها ، كقولك . طريق سائر . أو بمكانتها في نفسها؛ لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت . قرىء : "عظماً فكسونا العظم" و "عظاماً فكسونا العظام" و "عظماً فكسونا العظم" وضع الواحد مكان الجمع لزوال اللبس؛ لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة { خَلْقاً ءاخَرَ } أي خلقاً مبايناً للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها ، حيث جعله حيواناً وكان جماداً ، وناطقاً وكان أبكم ، وسميعاً وكان أصمّ ، وبصيراً وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح : وقد احتجّ به أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده قال : يضمن البيضة ولا يرد الفرخ : لأنه خلق أخر سوى البيضة { فَتَبَارَكَ الله } فتعالى أمره في قدرته وعلمه { أَحْسَنُ الخالقين } أي : أحسن المقدّرين تقديراً ، فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه . ونحوه : طرح المأذون فيه في قوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون } [ الحج : 39 ] لدلالة الصلة . وروي عن عمر رضي الله عنه :
( 719 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله خلقاً آخر ، قال : " فتبارك الله أحسن الخالقين " وروي :
( 720 ) أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنطق بذلك قبل إملائه ، فقال : له النبي صلى الله عليه وسلم : "اكتب ، هكذا نزلت" فقال : عبد الله : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبيّ يوحى إليّ ، فلحق بمكة كافراً ، ثم أسلم يوم الفتح .
(4/328)

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن : لمائتون . والفرق بين الميت والمائت : أنّ الميت كالحيّ صفة ثابتة . وأمّا المائت ، فيدلّ على الحدوث . تقول : زيد مائت الآن ، ومائت غداً ، كقولك يموت . ونحوهما : ضيق وضائق ، وفي قوله تعالى : { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } [ هود : 12 ] { لَمَيِّتُونَ } جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة ، والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه : دليلين أيضاً على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع . فإن قلت : فإذاً لا حياة إلا حياة الإنشاء وحياة البعث . قلت : ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر ، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلاً على أن الثلث ليس عندك . وأيضاً فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة : الإنشاء والإماتة والإعادة ، والمطوي ذكرها من جنس الإعادة .
(4/329)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
الطرائق : السموات ، لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل ، وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة : أو لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم : وقيل : الأفلاك؛ لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها : أراد بالخلق السموات ، كأنه قال : خلقناهم فوقهم { وَمَا كُنَّا } عنها { غافلين } وعن حفظها وإمساكها أن تقع فوقهم بقدرتنا : أو أراد به الناس وأنه أنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها ، وينفعهم بأنواع منافعها ، وما كان غافلاً عنهم وما يصلحهم .
(4/330)

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{ بِقَدَرٍ } بتقدير يسلمون معه من المضرة ، ويصلون إلى المنفعة . أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم . { فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض } كقوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } [ الزمر : 21 ] وقيل : جعلناه ثابتاً في الأرض . وقيل : إنها خمسة أنهار : سيحون نهر الهند . وجيحون : نهر بلخ ، ودجلة والفرات : نهرا العراق . والنيل : نهر مصر ، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة ، فاستودعها الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معيشهم . وكما قدر على أنزاله فهو قادر على رفعه وإزالته . وقوله : { على ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع النكرات وأحزها للمفصل . والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه . وفيه إيذان باقتدار المذهب ، وأنه لا يتعايى عليه شيء إذا أراده ، وهو أبلغ في الإيعاد ، من قوله : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر .
(4/331)

فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
خصّ هذه الأنواع الثلاثة ، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع . ووصف النخل والعنب بأن ثمرهما جامع بين أمرين : بأنه فاكهة يتفكه بها ، وطعام يؤكل رطباً ويابساً ، رطباً وعنباً ، وتمراً وزبيباً . والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعاً ، ويجوز أن يكون قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } من قولهم : يأكل فلان من حرفة يحترفها ، ومن ضيعة يغتلها ومن تجارة يتربح بها : يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه ، كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم ، منها ترتزقون وتتعيشون { وَشَجَرَةً } عطف على جنات . وقرئت مرفوعة على الابتداء ، أي : ومما أنشيء لكم شجرة و { طُورِ سَيْنَآءَ } وطور سنين ، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه ، كامريء القيس ، وكبعلبك ، فيمن أضاف . فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث؛ لأنها بقعة ، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء . ومن فتح فلم يصرف؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء . وقيل : هو جبل فلسطين . وقيل : بين مصر وإيلة . ومنه نودي موسى عليه السلام . وقرأ الأعمش : "سينا" على القصر { بالدهن } في موضع الحال ، أي : تنبت وفيها الدهن . وقرىء : "تنبت" وفيه وجهان ، أحدهما : أن أنبت بمعنى نبت . وأنشد لزهير :
رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِم ... قَطِيناً لَهُمْ حَتَّى إذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ
والثاني : أنّ مفعوله محذوف ، أي : تنبت زيتونها وفيه الزيت . وقرىء : "تنبت" بضم التاء وفتح الباء ، وحكمه حكم تنبت . وقرأ ابن مسعود : تخرج الدهن وصبع الآكلين . وغيره : تخرج بالدهن : وفي حرف أبيّ : "تثمر الدهن" وعن بعضهم : تنبت بالدهان . وقرأ الأعمش : "وصبغاً" وقرىء : "وصباغ " ونحوهما : دبغ ودباغ . والصبغ : الغمس للائتدام . وقيل : هي أوّل شجرة نبتت بعد الطوفان ، ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة } [ النور : 35 ] .
(4/332)

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
قرىء : "تسقيكم" بتاء مفتوحة ، أي : تسقيكم الأنعام { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي تتعلق بها منافع من الركوب والحمل وغير ذلك ، كما تتعلق بما لا يؤكل لحمه من الخيل والبغال والحمير . وفيها منفعة زائدة ، وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها ، والقصد بالأنعام إلى الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة ، وقرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفائن البرّ . قال ذو الرمّة :
سَفِينَةُ بَرٍّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا ... يريد صيدحه .
(4/333)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{ غَيْرُهُ } بالرفع على المحل ، وبالجرّ على اللفظ ، والجملة استئناف تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم ، وشكر نعمته التي لا تحصونها واجب عليكم ، ثم تذهبوا فتعبدوا غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء { أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم ، كقوله تعالى : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء فِى الأرض } [ يونس : 78 ] . { بهذا } إشارة إلى نوح عليه السلام ، أو إلى ما كلمهم به من الحثّ على عبادة الله ، أي : ما سمعنا بمثل هذا الكلام ، أو بمثل هذا الذي يدعي وهو بشر أنه رسول الله ، وما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر : وقولهم : { مَّا سَمِعْنَا بهذا } يدلّ على أنهم وآباؤهم كانوا في فترة متطاولة . أو تكذبوا في ذلك لأنهماكهم في الغي ، وتشمرهم لأن يدفعوا الحق بما أمكنهم وبما عنّ لهم ، من غير تمييز منهم بين صدق وكذب . ألا تراهم : كيف جننوه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً وأوزنهم قولاً . والجِنة : الجنون أو الجنّ ، أي : به جنّ يخبلونه { حتى حِينٍ } أي احتملوه واصبروا عليه إلى زمان ، حتى ينجلي أمره عن عاقبة ، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه .
(4/334)

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
في نصرته إهلاكهم ، فكأنه قال : أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ، أو انصرني بدل ما كذبوني ، كما تقول : هذا بذاك ، أي بدل ذاك ومكانه . والمعنى : أبدلني من غمّ تكذيبهم ، سلوة النصرة عليهم ، أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم : { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ] ، [ الشعراء : 135 ] ، [ الأحقاف : 21 ] . { بِأَعْيُنِنَا } بحفظنا وكلاءتنا ، كأن معه من الله حفاظاً يكلؤونه بعيونهم ، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله . ومنه قولهم : عليه من الله عين كالئة { وَوَحْيِنَا } أي نأمرك كيف تصنع ونعلمك . روي أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر . روي أنه قيل لنوح عليه السلام : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب . وقيل : كان تنور آدم عليه السلام ، وكان من حجارة ، فصار إلى نوح . واختلف في مكانه ، فعن الشعبي : في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة ، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد . وقيل : بالشام بموضع يقال له : عين وردة . وقيل : بالهند . وعن ابن عباس رضي الله عنه : التنور وجه الأرض . وعن قتادة : أشرف موضع في الأرض ، أي أعلاه . وعن علي رضي الله عنه : فار التنور : طلع الفجر . وقيل : معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر . وقيل : هو مثل كقولهم : حمي الوطيس . والقول هو الأوّل . يقال : سلك فيه : دخله . وسلك غيره ، وأسلكه . قال :
حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدِهِ ... { مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ } من كلّ أمتي زوجين ، وهما أَمة الذكر وأمّة الأنثى ، كالجمال ، والنوق ، والحصن والرماك { اثنين } واحدين مزدوجين ، كالجمل والناقة ، والحصان والرمكة : روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض . وقرىء : "من كل" بالتنوين ، أي : من كل أمّة زوجين . واثنين : تأكيد وزيادة بيان .
جيء بعلى مع سبق الضارّ ، كما جيء باللام مع سبق النافع . قال الله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] ، { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } [ الصافات : 171 ] ، ونحو قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] وقول عمر رضي الله عنه : ليتها كانت كفافاً ، لا عليَّ ولا لي . فإن قلت : لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت : لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين ، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة ، لما عرف من المصلحة في إغراقهم ، والمفسدة في استبقائهم ، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً ، ولزمتهم الحجّة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين . ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهي عنه ، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم ، كقوله :
(4/335)

{ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } [ الأنعام : 45 ] ، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أهم وأنفع له ، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها ، منزلاً يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين ، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته ، وهو قوله : { وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } . فإن قلت : هلا قيل : فقولوا : لقوله : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } لأنه في معنى : فإذا استويتم؟ قلت : لأنه نبيهم وإمامهم ، فكان قوله قولهم ، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية ، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبيّ . وقرىء : "منزلاً" بمعنى إنزالاً ، أو موضع إنزال ، كقوله : { ليدخلهم مدخلاً يرضونه } . { إِن } هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى ، وإن الشأن والقصة { كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد . أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذّكر ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ تركناها ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 15 ]
(4/336)

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
{ قَرْناً ءَاخَرِينَ } هم عاد قوم هود : عن ابن عباس رضي الله عنهما . وتشهد له حكاية الله تعالى قول هود : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [ الأعراف : 69 ] ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء . فإن قلت : حق أرسل أن يعدّى بإلى ، كأخواته التي هي : وجه ، وأنفذ ، وبعث . فما باله عدّي في القرآن بإلى تارة ، وبقي أخرى ، كقوله : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ } [ الرعد : 30 ] ، و { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ } [ سبأ : 34 ] . { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً } أي في عاد . وفي موضع آخر { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } [ الأعراف : 65 ] ، [ هود : 50 ] ؟ قلت : لم يعدّ بفي كما عدّي بإلى ، ولم يجعل صلة مثله ، ولكن الأمّة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال ، كما قال رؤبة :
أَرْسَلْتُ فِيهَا مُصْعَباً ذَا إقْحَامْ ... وقد جاء "بعث" على ذلك في قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } [ الفرقان : 51 ] . { أَنِ } مفسرة لأرسلنا ، أي : قلنا لهم على لسان الرسول : { اعبدوا الله } .
(4/337)

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
فإن قلت : ذكر مقال قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو : { قَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } [ الأعراف : 66 ] ، { قَالُواْ يا هُودٍ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ } [ هود : 53 ] وههنا مع الواو ، فأي فرق بينهما؟ قلت : الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال : فما قال قومه؟ فقيل له : قالوا كيت وكيت . وأما الذي مع الواو ، فعطف لما قالوه على ما قاله . ومعناه : أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل ، وشتان بينهما { بِلِقَاء الأخرة } بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب ، كقولك : يا حبذا جوار مكة : أي جوار الله في مكة .
حذف الضمير ، والمعنى : من مشروبكم ، أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه { إِذاً } واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم ، أي : تخسرون عقولكم وتغبنون في آرائكم .
(4/338)

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
ثنى { أَنَّكُمْ } للتوكيد ، وحسن ذلك لفصل ما بين الأوّل والثاني بالظرف . ومخرجون : خبر عن الأول . أو جعل { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } مبتدأ ، و { إِذَا مِتٌّمْ } خبراً ، على معنى : إخراجكم إذا متم ، ثم أخبر بالجملة عن إنكم ، أو رفع { أنكم مخرجون } بفعل هو جزاء للشرط ، كأنه قيل : إذا متم وقع إخراجكم . ثم أوقعت الجملة الشرطية خبراً عن إنكم . وفي قراءة ابن مسعود : "أيعدكم إذا متم" .
قرىء : "هيهات" بالفتح والكسر والضم ، كلها بتنوين وبلا تنوين ، وبالسكون على لفظ الوقف فإن قلت : ما توعدون هو المستبعد ، ومن حقه أن يرتفع بهيهات ، كما ارتفع في قوله :
فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ وَأَهْلُهُ ... فما هذه اللام : قلت قال الزجاج في تفسيره : البعدُ لما توعدون ، أو بعدٌ لما توعدون فيمن نوّن فنزله منزلة المصدر . وفيه وجه آخر : وهو أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد ، كما جاءت اللام في { هيت لك } [ يوسف : 23 ] لبيان المهيت به .
{ إِنْ هِىَ } هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه . وأصله إن الحياة { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } ثم وضع { هِىَ } موضع الحياة ، لأنّ الخبر يدلّ عليها ويبينها . ومنه : هي النفس تتحمل ما حملت ، وهي العرب تقول ما شاءت . والمعنى : لا حياة إلا هذه الحياة؛ لأن "إن" النافية دخلت على "هي" التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها ، فوازنت "لا" التي نفت ما بعدها نفي الجنس { نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي يموت بعض ويولد بعض ، ينقرض قرن ويأتي قرن آخر ، ثم قالوا : ما هو إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه له ، وفيما بعدنا من البعث ، وما نحن بمصدقين .
(4/339)

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{ قَلِيلٌ } صفة للزمان ، كقديم وحديث ، في قولك : ما رأيته قديماً ولا حديثاً . وفي معناه : عن قريب . و { مَا } توكيد قلة المدّة وقصرها { الصيحة } صيحة جبريل عليه السلام : صاح عليهم فدمّرهم { بالحق } بالوجوب؛ لأنهم قد استوجبوا الهلاك . أو بالعدل من الله ، من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه : { فجعلناهم غُثَآءً } شبههم في دمارهم بالغثاء : وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من العيدان والورق . ومنه قوله تعالى : { فَجَعَلَهُ غُثَاء أحوى } [ الأعلى : 5 ] وقد جاء مشدّداً في قول امريء القيس :
مِنَ السَّيْلِ وَالْغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ ... بعداً ، وسحقاً ، ودفراً ونحوها؛ مصادر موضوعة مواضع أفعالها ، وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه : نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها . ومعنى { فَبُعْدًا } : بعدوا ، أي : هلكوا يقال : بعد بعداً وبعداً ، نحو رشد رشداً ورشداً . و { لّلْقَوْمِ الظالمين } بيان لمن دعي عليه بالبعد ، نحو : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] . و { لِمَا تُوعَدُونَ } [ المؤمنون : 36 ] .
(4/340)

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
{ قُرُوناً } قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بني إسرائيل { أَجَلَهَا } الوقت الذي حدّ لهلاكها وكتب .
(4/341)

ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ تترى } فعلى : الألف للتأنيث؛ لأن الرسل جماعة . وقرىء : "تترىً" ، بالتنوين ، والتاء بدل من الواو ، كما في : تولج ، وتيقور ، أي : متواترين واحداً بعد واحد ، من الوتر وهو الفرد : أضاف الرسل إليه تعالى وإلى أممهم { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات } [ المائدة : 32 ] { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } [ الأعراف : 101 ] لأنّ الإضافة تكون الملابسة ، والرسول ملابس المرسل والمرسل إليه جميعاً بالملابسة { فَأَتْبَعْنَا } الأمم أو القرون { بَعْضُهُم بَعْضاً } في الإهلاك { وجعلناهم } أخباراً يسمر بها ويتعجب منها . الأحاديث : تكون اسم جمع للحديث . ومنه : أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتكون جمعاً للأحدوثة : التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة . وهي : مما يتحدّث به الناس تلهياً وتعجباً ، وهو المراد ههنا .
(4/342)

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
فإن قلت : ما المراد بالسلطان المبين؟ قلت : يجوز أن تراد العصا ، لأنها كانت أمّ آيات موسى وأُولاها ، وقد تعلقت بها معجزات شتى : من انقلابها حية ، وتلقفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها ، وكونها حارساً ، وشمعة ، وشجرة خضراء مثمرة ، ودلوا ورشاء . وجعلت كأنها ليست بعضها لما استبدت به من الفضل ، فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى : { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] ويجوز أن تراد الآيات أنفسها ، أي : هي آيات وحجّة بيّنة { عالين } متكبرين { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض } [ القصص : 4 ] ، { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض } [ القصص : 83 ] أو متطاولين على الناس قاهرين بالبغي والظلم .
(4/343)

فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
البشر يكون واحداً وجمعاً : { بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] ، { لِبَشَرَيْنِ } ، { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر } [ مريم : 26 ] و"مثل" و"غير" يوصف بهما : الاثنان ، والجمع ، والمذكر ، والمؤنث : { إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] ، { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] ويقال أيضاً : هما مثلاه ، وهم أمثاله : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأعراف : 194 ] . { وَقَوْمُهُمَا } يعني بني إسرائيل ، كأنهم يعبدوننا خضوعاً وتذللاً . أو لأنه كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة ، وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة .
(4/344)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{ مُوسَى الكتاب } أي قوم موسى التوراة { لَعَلَّهُمْ } يعملون بشرائعها ومواعظها ، كما قال : { على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } [ يونس : 83 ] يريد آل فرعون ، وكما يقولون : هاشم ، وثقيف ، وتميم ، ويراد قومهم . ولا يجوز أن يرجع الضمير في { لَعَلَّهُمْ } إلى فرعون وملئه ، لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] .
(4/345)

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
فإن قلت : لو قيل آيتين هل كان يكون له وجه؟ قلت : نعم ، لأنّ مريم ولدت من غير مسيس ، وعيسى روح من الله ألقي إليها ، وقد تكلم في المهد وكان يحيي الموتى مع معجزات أخر ، فكان آية من غير وجه ، واللفظ محتمل للتثنية على تقدير { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ } آية { وَأُمَّهُ ءَايَةً } ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها . الربوة والرباوة في رائهما الحركات . وقرىء : "ربوة ورباوة" بالضم . و "رباوة" بالكسر وهي الأرض المرتفعة . قيل : هي إيليا أرض بيت المقدس ، وأنها كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا ً [ عن كعب ] . وقيل : دمشق وغوطتها . وعن الحسن : فلسطين والرملة . وعن أبي هريرة : الزموا هذه الرملة رملة فلسطين ، فإنها الربوة التي ذكرها الله . وقيل : مصر . والقرار : المستقرّ من أرض مستوية منبسطة . وعن قتادة : ذات ثمار وماء ، يعني أنه لأجل الثمار : يستقرّ فيها ساكنوها . والمعين : الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض . وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته ، فوجه من جعله مفعولاً أنه مدرك بالعين لظهوره ، من عانه : إذا أدركه بعينه ، نحو : ركبه ، إذا ضربته بركبته . ووجه من جعله فعيلاً : أنه نفاع بظهوره وجريه ، من الماعون : وهو المنفعة .
(4/346)

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما ، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرّقين في أزمنة مختلفة . وإنما المعنى : الإعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه نودي لذلك ووصى به ، ليعتقد السامع أنّ أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به ، حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه . والمراد بالطيبات : ما حلّ وطاب . وقيل : طيبات الرزق حلال وصاف وقوام ، فالحلال : الذي لا يعصى الله فيه ، والصافي : الذي لا ينسى الله فيه ، والقوام : ما يمسك النفس ويحفظ العقل . أو أريد ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه . ويشهد له مجيئه على عقب قوله : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } [ المؤمنون : 50 ] ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة ، فذكر على سبيل الحكاية ، أي : أويناهما وقلنا لهما هذا ، أي : أعلمناهما أنّ الرسل كلهم خوطبوا بهذا ، فكلا مما رزقناكما واعملا صالحاً اقتداء بالرسل .
(4/347)

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
قرىء : "وإنّ" بالكسر على الاستئناف . وأَنّ بمعنى ولأنّ . وأن مخففة من الثقيلة ، و { أُمَّتُكُمْ } مرفوعة معها .
(4/348)

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
وقرىء : { زُبُراً } جمع زبور ، أي : كتباً مختلفة ، يعني : جعلوا دينهم أدياناً ، وزبراً قطعاً : استعيرت من زبر الفضة والحديد ، وزبراً : مخففة الباء ، كرسل في رسل ، أي : كلّ فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم ، فرح بباطله ، مطمئنّ النفس ، معتقد أنه على الحق .
(4/349)

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
الغمرة . الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم . أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل . قال :
كَأَنَّنِي ضَارِبٌ فِي غَمْرَةٍ لَعِبُ ... وعن علي رضي الله عنه : في غمراتهم { حتى حِينٍ } إلى أن يقتلوا أو يموتوا .
(4/350)

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بذلك ، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره . وقرىء : "يمدّهم" ويسارع ، ويسرع ، بالياء ، والفاعل الله سبحانه وتعالى . ويجوز في : يسارع ، ويسرع : أن يتضمن ضمير الممدّ به . ويسارع ، مبنياً للمفعول . والمعنى : أنّ هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي ، واستجراراً إلى زيادة الإثم ، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ، وفيما لهم فيه نفع وإكرام ، ومعاجلة بالثواب قبل وقته . ويجوز أن يراد في جزاء الخيرات كما يفعل بأهل الخير من المسلمين . و { بَل } استدراك لقوله : { أَيَحْسَبُونَ } يعني : بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور ، حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك : أهو استدراج ، أم مسارعة في الخير؟ فإن قلت : أين الراجع من خبر أنّ لها اسمها إذا لم يستكن فيه ضميره؟ قلت : هو محذوف تقديره : نسارع به ، ويسارع به ، ويسارع الله به ، كقوله : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي إن ذلك منه ، وذلك لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس .
(4/351)

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ } يعطون ما أعطوا ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة :
( 721 ) "يأتون ما أتوا" ، أي يفعلون ما فعلوا . وعنها أنها قالت :
( 722 ) قلت : يا رسول الله ، هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال : "لا يا ابنة الصدّيق ، ولكن هُوَ الَّذِي يصلي ويصومُ ويتصدّقُ ، وهو على ذَلك يخافُ اللَّه؟ قال : لا يا ابنة الصدّيق ، ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبلَ مِنْهُ . { يسارعون فِى الخيرات } يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يراد يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرونها . والثاني : أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام ، كما قال : { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة } [ آل عمران : 148 ] ، { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ العنكبوت : 27 ] لأنهم إذا سورع بها لهم ، فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها ، وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة ، لأنّ فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين . وقرىء : "يسرعون في الخيرات" { لَهَا سابقون } أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها ، أو إياها سابقون ، أي : ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا . ويجوز أن يكون { لَهَا سابقون } خبراً بعد خبر . ومعنى { وَهُمْ لَهَا } كمعنى قوله :
أَنْتَ لَهَا أَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ ...
(4/352)

وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
يعني أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من حدّ الوسع والطاقة ، وكذلك كل ما كلفه عباده وما عملوه من الأعمال فغير ضائع عنده ، بل هو مثبت لديه في كتاب ، يريد اللوح ، أو صحيفة الأعمال ناطق بالحق لا يقرؤون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل ، لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد . أو أراد أن الله لا يكلف إلا الوسع ، فإن لم يبلغ المكلف أن يكون على صفة هؤلاء السابقين بعد أن يستفرغ وسعه ويبذل طاقته فلا عليه ، ولدينا كتاب فيه عمل السابق والمقتصد ، ولا نظلم أحداً ولا نحطه دون درجته ، بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها { مِنْ هذا } أي مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين { وَلَهُمْ أعمال } متجاوزة متخطية لذلك ، أي : لما وصف به المؤمنون { هُمْ لَهَا عاملون } معتادون وبها ضارون ، لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب .
(4/353)

حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام : الجملة الشرطية ، والعذاب . قتلهم يوم بدر . أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
( 723 ) " اللَّهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ والأولاد . الجؤار : الصراخ باستغاثة قال :
جَئَّارُ سَاعَاتِ النِّيَامِ لِرَبِّهِ ... أي يقال لهم حينئذ { لاَ تَجْئَرُواْ } فإن الجؤار غير نافع لكم ، { مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } لا تغاثون ولا تمنعون منا أو من جهتنا ، لا يلحقكم نصر ومغوثة . قالوا : الضمير في { بِهِ } للبيت العتيق أو للحرم ، كانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم . والذي سوّغ هذا الأضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت ، وأنه لم تكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به . ويجوز أن يرجع إلى آياتي ، إلا أنه ذكر لأنها في معنى كتابي ، ومعنى استكبارهم بالقرآن : تكذيبهم به استكباراً . ضمن مستكبرين معنى مكذبين ، فعدّي تعديته . أو يحدث لكم استماعه استكباراً وعتوّاً ، فأنتم مستكبرون بسببه ، أو تتعلق الباء بسامراً ، أي : يسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون . وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . أو يتهجرون . والسامر : نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع . وقرىء : "سمراً" و "سماراً" وتهجرون وتهجرون ، من أهجر في منطقه إذا أفحش . والهجر - بالضم - : الفحش ، ومن هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذي . والهجر - بالفتح - : الهذيان .
(4/354)

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
{ القول } القرآن ، يقول : أفلم يتدبروه ليعلموا أنه الحق المبين فيصدّقوا به وبمن جاء به ، بل { جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ } فلذلك أنكروه واستبدعوه ، كقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غافلون } [ يس : 6 ] أو ليخافوا عنه تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين ، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت أباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ وآباؤهم : إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 724 ) " لا تسبُّوا مضرَ ولا ربيعةَ فإنّهمَا كانَا مسلمينَ ، ولا تسبُّوا قساً فإنّه كان مسلمَاً ، ولا تسبُّوا الحارثَ بنَ كعبٍ ولا أَسدَ بنَ خُزيمةَ ولا تميمَ بنَ مرَّ . فإنهم كانُوا على الإسلامِ ، وما شككْتُم فيه من شيء فلا تشكُّوا في أن تبَعاً كان مسلماً " وروي في أنّ ضبة كان مسلماً ، وكان على شرطة سليمان بن داود { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ } محمداً وصحة نسبه ، وحلوله في سطة هاشم ، وأمانته ، وصدقه ، وشهامته ، وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش ، والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد ، كفى برغائها منادياً .
الجنة : الجنون وكانوا يعلمون أنه بريء منها وأنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ، ولكنه جاءهم بما خالف شهواتهم وأهواءهم ، ولم يوافق ما نشأوا عليه ، وسيط بلحومهم ودمائهم من اتباع الباطل ، ولم يجدوا له مردّاً ولا مدفعاً لأنه الحق الأبلج والصراط المستقيم ، فأَخلدوا إلى البهت وعوّلوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر . فإن قلت : قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ } فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق . قلت : كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه ، لا كراهة للحق ، كما يحكى عن أبي طالب . فإن قلت : يزعم بعض الناس أنّ أبا طالب صحّ إسلامه . قلت : يا سبحان الله ، كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس رضي الله عنهما ، ويخفى إسلام أبي طالب .
(4/355)

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
دلّ بهذا على عظم شأن الحق ، وأنّ السموات والأرض ما قامت ولا من فيهنّ إلا به ، فلو اتبع أهواءهم لانقلب باطلاً ، ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام . أو أراد أنّ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام ، لو اتبع أهواءهم وانقلب شركاً ، لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر . وعن قتادة : أنّ الحق هو الله . ومعناه : لو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي ، لما كان إلها ولكان شيطاناً ، ولما قدر أن يمسك السموات والأرض { بِذِكْرِهِمْ } أي بالكتاب الذي هو ذكرهم ، أي : وعظهم أو وصيتهم وفخرهم : أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون : لو أنّ عندنا ذكراً من الأوّلين لكنا عباد الله المخلصين . وقرىء : "بذكراهم" .
(4/356)

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
قرىء : "خراجا فخراج" و"خرجاً فخرج" و"خرجا فخراج" وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك . وإلى كل عامل من أجرته وجُعله . وقيل : الخرج : ما تبرعت به . والخراج : ما لزمك أداؤه . والوجه أنّ الخرج أخصّ من الخراج ، كقولك : خراج القرية ، وخرج الكردة ، زيادة اللفظ لزيادة المعنى؛ ولذلك حسنت قراءة من قرأ : خرجاً فخراج ربك ، يعني : أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء الخالق خير .
(4/357)

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
قد ألزمهم الحجّة في هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أُرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله ، مخبور سرّه وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أَموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم ، مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل ، واستهتارهم بدين الآباء الضُّلاَّل من غير براهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة ، وكراهتهم للحق ، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر ، يحتمل أنّ هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة { لناكبون } أي عادلون عن هذا الصراط المذكور ، وهو قوله : { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } وأن كل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب .
( 725 ) لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال : بلى ، فقال : قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع .
(4/358)

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
والمعنى : لو كشف الله عنهم هذا الضرّ وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب؛ لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها ، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه ، واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم أوّلاً بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم ، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرّع ، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشدّ من الأسر والقتل وهو أطمّ العذاب ، فأبسلوا الساعة وخضعت رقابهم ، وجاء أعتاهم وأشدّهم شكيمة في العناد يستعطفك . أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم لين مقادة وهم كذلك ، حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون ، كقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } [ الروم : 12 ] ، { لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [ الزخرف : 75 ] . والإبلاس : اليأس من كل خير . وقيل : السكوت مع التحير . فإن قلت : ما وزن استكان؟ قلت : استفعل من الكون ، أي : انتقل من كون إلى كون ، كما قيل : استحال ، إذا انتقل من حال إلى حال . ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه ، كما جاء : بمنتزاح . فإن قلت : هلا قيل : وما تضرّعوا . أو : فما يستكينون؟ قلت : لأنّ المعنى : محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة . وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرّعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد . وقرىء : "فتحنا" .
(4/359)

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
إنما خصّ السمع والأبصار والأفئدة ، لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها . ومقدمة منافعها أن يعملوا أسماعهم وأبصارهم في آيات الله وأفعاله ، ثم ينظروا ويستدلوا بقلوبهم . ومن لم يعملها فيما خلفت له فهو بمنزلة عادمها ، كما قال الله تعالى : { فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء } [ الأحقاف : 26 ] إذ كانوا يجحدون بآيات الله ، ومقدمة شكر النعمة فيها الإقرار بالمنعم بها ، وأن لا يجعل له ندّ ولا شريك ، ( قليلاً ما تشكرون ) أي : تشكرون شكراً قليلاً ، و { مَّا } مزيدة للتأكيد بمعنى حقاً { ذَرَأَكُمْ } خلقكم وبثكم بالتناسل { وَإِلَيْهِ } تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم { وَلَهُ اختلاف اليل والنهار } أي هو مختص به وهو متوليه ، ولا يقدر على تصريفهما غيره . وقرىء : "يعقلون" بالياء عن أبي عمرو .
(4/360)

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
أي : قال أهل مكة كما قال الكفار قبلهم . الأساطير : جمع أسطار : جمع سطر . قال رؤبة :
إنِّي وَأَسْطَارٌ سُطِرْنَ سَطْرَاً ... وهي ما كتبه الأوّلون مما لا حقيقة له . وجمع أسطورة أوفق .
(4/361)

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
أي : أجيبوني عما استعلمتكم منه إن كان عندكم فيه علم ، وفي استهانة بهم وتجويز لفرط جهالتهم بالديانات : أن يجهلوا مثل هذا الظاهر البين . وقرىء : "تذكرون" بحذف التاء الثانية ومعناه : أفلا تتذكرون فتعلموا أنّ من فطر الأرض ، ومن فيها اختراعاً ، كان قارداً على إعادة الخلق ، وكان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية . قرىء : الأوّل باللام لا غير . والأخيران باللام ، وهو هكذا في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام ، وبغير اللام وهو هكذا في مصاحف أهل البصرة ، فباللام على المعنى؛ لأن قولك من ربه ، ولمن هو في معنى واحد ، وبغير اللام على اللفظ . ويجوز قراءة الأوّل بغير لام ، ولكنها لم تثبت في الرواية { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أفلا تخافونه فلا تشركوا به وتعصوا رسله . أجرت فلاناً على فلان : إذا أغثته منه ومنعته ، يعني : وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ، ولا يغيث أحد منه أحداً { تُسْحَرُونَ } تخدعون عن توحيده وطاعته . والخادع : هو الشيطان والهوى .
(4/362)

بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
وقرىء : "أتيتهم" و "أُتيتهم" بالفتح والضم { بالحق } بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } حيث يدعون له ولداً ومعه شريكاً { لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبدّ به ، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزاً من ملك الآخرين ، ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون ، وحين لن تروا أثراً لتمايز الممالك وللتغالب ، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء . فإن قلت : إذاً لا تدخل إلاّ على كلام هو جزاء وجواب ، فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؟ قلت : الشرط محذوف تقديره : ولو كان معه آلهة . وإنما حذف لدلالة قوله : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله } عليه . وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين { عَمَّا يَصِفُونَ } من الأنداد والأولاد { عالم الغيب } بالجرّ صفة لله . وبالرفع : خبر مبتدأ محذوف .
(4/363)

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
ما والنون : مؤكدتان ، أي : إن كان لا بدّ من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة { فَلاَ تَجْعَلْنِى } قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم . عن الحسن : أخبره الله أن له في أمته نقمة ولم يخبره أفي حياته أم بعد موته ، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء . فإن قلت : كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين ، حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلت : يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله ، إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه ، وإخباتاً له . واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك ، وما أحسن قول الحسن في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنهما : "وليتكم ولست بخيركم" : كان يعلم أنه خيرهم ، ولكن المؤمن يهضم نفسه . وقرىء : "إما ترئنهم" بالهمز مكان تريني؛ كما قرىء : "فإما ترئن" ، و "لترؤن الجحيم" وهي ضعيفة . وقوله : { رَّبِّ } مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء حثّ على فضل تضرع وجؤار . وكانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه واستعجالهم له لذلك ، فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم ، فما وجه هذا الإنكار؟ .
(4/364)

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
هو أبلغ من أن يقال : بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل ، كأنه قال : ادفع بالحسنى السيئة . والمعنى : الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان ، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه : كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة . وهذه قضية قوله : { بالتى هِىَ أَحْسَنُ } . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي شهادة إن لا إله إلاّ الله . والسيئة : الشرك . وعن مجاهد : السلام : يسلم عليه إذا لقيه . وعن الحسن : الإغضاء والصفح . وقيل : هي منسوخة بآية السيف . وقيل : محكمة؛ لأنّ المداراة محثوث عليها ما لم تؤدّ إلى ثلم دين وإزراء بمروءة { بِمَا يَصِفُونَ } بما يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها . أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم ، والله أعلم بذلك منكم وأقدر على جزائهم .
(4/365)

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
الهمز : النخس . والهمزات : جمع المرّة منه . ومنه : مهماز الرائض . والمعنى : أنّ الشياطين يحثّون الناس على المعاصي ويغرونهم عليها ، كما تهمز الراضة الدواب حثاً لها على المشي . ونحو الهمز الأزّ في قوله تعالى : { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [ مريم : 83 ] أمر بالتعوّذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه ، المكرّر لندائه ، وبالتعوّذ من أن يحضروه أصلاً ويحوموا حوله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : عند تلاوة القرآن . وعن عكرمة : عند النزع .
(4/366)

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
{ حتى } يتعلق بيصفون ، أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقف . والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم ، مستعيناً بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم . أو على قوله : وإنهم لكاذبون . [ قال رب ارحبون ] خطاب الله بلفظ الجمع للتعظيم ، كقوله :
فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وقوله :
أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ ... إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر ، أدركته الحسرة على ما فرّط فيه من الإيمان والعمل الصالح فيه ، فسأل ربه الرجعة وقال : { لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا } في الإيمان الذي تركته ، والمعنى : لعلي آتي بما تركته من الإيمان ، وأعمل فيه صالحاً ، كما تقول : لعلي أبني على أُس ، تريد : أُأسس أُساً وأبني عليه . وقيل : فيما تركت من المال . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا عاينَ المُؤمنَ الملائكةُ قالُوا : نرجعُك إلى الدُّنيا ، فيقولُ : إلى دارِ الهمومِ والأحزان! بل قدوماً إلى اللَّهِ . وأَمّا الكافرُ فيقولُ : ربِّ ارجعون " { كَلاَّ } ردعٌ عن طلب الرجعة ، وإنكار واستبعاد . { إِنَّهَا كَلِمَةٌ } والمراد بالكلمة : الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض ، وهي قوله : { لَعَلِّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ } . { هُوَ قَائِلُهَا } لا محالة ، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم . أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه { وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } والضمير للجماعة . أي : أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث ، وليس المعنى : أنهم يرجعون يوم البعث ، وإنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلاّ إلى الآخرة .
(4/367)

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
الصور بفتح الواو عن الحسن . والصور بالكسر والفتح عن أبي رزين . وهذا دليل لمن فسر الصور بجمع الصورة ، ونفي الأنساب : يحتمل أن التقاطع يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين ومثابين ، ولا يكون التواصل بينهم والتآلف إلاّ بالأعمال ، فتلغوا الأنساب وتبطل ، وأنه لا يعتد بالأنساب لزوال التعاطف والتراحم بين الأقارب ، إذ يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه . وعن ابن مسعود : "لا يسَّاءلون" بإدغام التاء في السين . فإن قلت : قد ناقض هذا ونحو قوله : { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] قوله : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [ الصافات : 27 ] ، [ الطور : 25 ] ، وقوله : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } [ يونس : 45 ] فكيف التوفيق بينهما؟ قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها ، وفي بعضها لا يفطنون لذلك لشدّة الهول والفزع ، والثاني : أنّ التناكر يكون عند النفخة الأولى ، فإذا كانت الثانية قاموا فتعارفوا وتساءلوا .
(4/368)

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
عن ابن عباس : الموازين : جمع موزون؟ وهي الموزونات من الأعمال : أي الصالحات ، التي لها وزن وقدر عند الله ، من قوله تعالى : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] . { فِى جَهَنَّمَ خالدون } بدل من خسروا أنفسهم ، ولا محلّ للبدل والمبدل منه؛ لأنّ الصلة لا محلّ لها . أو خبر بعد خبر لأولئك . أو خبر مبتدأ محذوف { تَلْفَحُ } تسفع . وقال الزجاج : اللفح والنفح واحد ، إلاّ أنّ اللفح أشدّ تأثيراً . والكلوح : أن تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان ، كما ترى الرؤوس المشوية . وعن مالك بن دينار : كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام وليالهنّ . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 726 ) " تشويهِ النارُ فتقلصُ شفتُه العُليا حتَّى تبلغَ وسطَ رأسِهِ ، وتسترخِي شفتُه السفَلى حتى تبلغَ سرّتَه " وقرىء : "كلحون" .
(4/369)

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{ غَلَبَتْ عَلَيْنَا } ملكتنا ، من قولك : غلبني فلان على كذا ، إذا أخذه منك وامتلكه . والشقاوة سوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم . قرىء : { شِقْوَتُنَا } وشقاوتنا بفتح الشين وكسرها فيهما { اخسئوا فِيهَا } ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت . يقال : خسأ الكلب وخسأ بنفسه . { وَلاَ تُكَلّمُونِ } في رفع العذاب ، فإنه لا يرفع ولا يخفف . قيل : هو آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يُفهمون . وعن ابن عباس : إنّ لهم ست دعوات : إذا دخلوا النار قالوا : ألف سنة : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [ السجدة : 12 ] فيجابون : { حَقَّ القول مِنْى } [ السجدة : 12 ] ، فينادُون ألفاً { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] ، فيجابون : { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ } [ غافر : 12 ] ، فينادون ألفاً : { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] ، فيجابون : { إِنَّكُمْ ماكثون } [ الزخرف : 77 ] : فينادون ألفاً : { رَبَّنَا أَخّرْنَا } [ إبراهيم : 44 ] ، فيجابون : { أَوَ لَمْ تَكُونُواْ } ، فينادون ألفاً : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا } [ فاطر : 37 ] ، فيجابون : { أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ } [ فاطر : 37 ] ، فينادون : { رَبّ ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] ، فيجابون : { اخسئوا فِيهَا } [ المؤمنون : 108 ] .
(4/370)

إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
في حرف أبيّ : "أنه كان فريق" بالفتح ، بمعنى : لأنه .
السخريّ - بالضم والكسر - : مصدر سخر كالسخر ، إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل ، كما قيل الخصوصية في الخصوص . وعن الكسائي والفراء : أنّ المكسور من الهزء ، والمضموم من السخرة والعبودية ، أي : تسخروهم واستعبدوهم ، والأوّل مذهب الخليل وسيبويه . قيل : هم الصحابة وقيل : أهل الصفة خاصة . ومعناه : اتخذتموهم هزؤاً وتشاغلتم بهم ساخرين { حتى أَنسَوْكُمْ } بتشاغلكم بهم على تلك الصفة { ذِكْرِى } فتركتموه ، أي : تركتم أن تذكروني فتخافوني في أوليائي . وقرىء : { أَنَّهُمْ } بالفتح ، والكسر استئناف ، أي : قد فازوا حيث صبروا ، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء . وبالفتح على أنه مفعول جزيتهم ، كقولك جزيتهم فوزهم .
(4/371)

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
{ قال } في مصاحف أهل الكوفة . وقل : في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام؛ ففي { قَالَ } ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة ، وفي { قَل } ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار .
استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها ، لأنّ الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مرّ عليه من أيام الدعة إليها . أو لأنهم كانوا في سرور ، وأيام السرور قصار ، أو لأنّ المنقضي في حكم ما لم يكن ، وصدقهم الله في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها . وقرىء : "فسل العادّين" والمعنى : لا نعرف من عدد تلك السنين إلاّ أنا نستقله ونحسبه يوماً أو بعض يوم؛ لما نحن فيه من العذاب ، وما فينا أن نعدّها [ كم هي ] ، فسل من فيه أن يعدّ ، ومن يقدر أن يلقي إليه فكره . وقيل : فسل الملائكة الذين يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم . وقرىء : "العادين" بالتخفيف ، أي : الظلمة ، فإنهم يقولون كما نقول . وقرىء : "العاديين" أي : القدماء المعمرين ، فإنهم يستقصرونها ، فكيف بمن دونهم؟ وعن ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين .
(4/372)

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{ عَبَثاً } حال ، أي : عابثين ، كقوله : { لاَعِبِينَ } أو مفعول له ، أي : ما خلقناكم للعبث ، ولم يدعنا إلى خلقكم إلاّ حكمة اقتضت ذلك ، وهي : أن نتعبكم ونكلفكم المشاقّ من الطاعات وترك المعاصي ، ثم نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء ، فنثيب المحسن ونعاقب المسيء { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } معطوف على { أَنَّمَا خلقناكم } ويجوز أن يكون معطوفاً على { عَبَثاً } أي : للعبث ، ولترككم غير مرجوعين . وقرىء : "ترجعون" بفتح التاء { الحق } الذي يحق له الملك؛ لأنّ كل شيء منه وإليه . أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه . وصف العرش بالكرم لأنّ الرحمة تنزل منه والخير والبركة . أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين ، كما يقال : بيت كريم ، إذا كان ساكنوه كراماً . وقرىء : الكريم ، بالرفع . ونحوه : { ذُو العرش المجيد } [ البروج : 15 ] . { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } كقوله : { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } [ آل عمران : 115 ] وهي صفة لازمة ، نحو قوله : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان . ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء؛ كقولك : من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه ، فالله مثيبه . وقرىء : أنه لا يفلح بفتح الهمزة . ومعناه : حسابه عدم الفلاح ، والأصل : حسابه أنه لا يفلح هو ، فوضع الكافرون موضع الضمير لأنّ { مِنْ يَدُعُّ } في معنى الجمع ، وكذلك ( حِسَابُهُ . . . . إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ) في معنى : "حسابهم أنهم لا يفلحون" .
جعل فاتحة السورة { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } وأورد في خاتمتها : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 727 ) " مَنْ قَرَأَ سورةَ المؤمنونَ بشّرتْهُ الملائكةُ بالروحِ والريحانِ وما تقرُّ به عينُه عند نزولِ ملكِ الموتِ "
وروي :
( 728 ) أنّ أوّل سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش ، من عمل بثلاث آيات من أوّلها ، واتعظ بأربع آيات من آخرها : فقد نجا وأفلح .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
( 729 ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عنده دويّ كدويّ النحل ، فمكثنا ساعة ، فاستقبل القبلة ورفع يده وقال : " اللَّهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا " ثم قال : " لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة " ، ثم قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } حتى ختم العشر .
(4/373)

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
{ سُورَةٌ } خبر مبتدأ محذوف . و { أنزلناها } صفة . أو هي مبتدأ موصوف والخبر محذوف ، أي : فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها . وقرىء بالنصب على : زيداً ضربته ، ولا محلّ لأنزلناها ، لأنها مفسرة للمضمر فكانت في حكمه . أو على : دونك سورة أو اتل سورة وأنزلناها : صفة . ومعنى : { وفرضناها } فرضنا أحكامها التي فيها . وأصل الفرض : القطع ، أي : جعلناها واجبة مقطوعاً بها ، والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده . أو لأنّ فيها فرائض شتى ، وأنك تقول : فرضت الفريضة ، وفرضت الفرائض . أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم { تَذَكَّرُونَ } بتشديد الذال وتخفيفها ، رفعهما على الابتداء ، والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه ، على معنى : فيما فرض عليكم .
(4/374)

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
{ الزانية والزانى } أي جلدهما . ويجوز أن يكون الخبر : { فاجلدوا } ، وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط ، تقديره : التي زنت ، والذي زنى فاجلدوهما ، كما تقول : من زنى فاجلدوه ، وكقوله : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم } [ النور : 4 ] . وقرىء بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ، وهو أحسن من سورة أنزلناها لأجل الأمر . وقرىء : "والزان" بلا ياء . والجلد : ضرب الجلد ، يقال : جلده ، كقولك : ظهره وبطنه ورأسه . فإن قلت : أهذا حكم جميع الزناة والزواني ، أم حكم بعضهم؟ قلت : بل هو حكم من ليس بمحصن منهم ، فإنّ المحصن حكمه الرجم . وشرائط الإحصان عند أبي حنيفة ست : الإسلام ، والحرية ، والعقل ، والبلوغ ، والتزوج بنكاح صحيح ، والدخول . إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان . وعند الشافعي : الإسلام ليس بشرط ، لما روي :
( 730 ) أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجَم يهودِيّين زَنياً . وحجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم :
( 731 ) " مَنْ أَشرَكَ باللَّهِ فليسَ بمحصنٍ " فإن قلت : اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني ، لأن قوله : { الزانية والزانى } عام في الجميع ، يتناول المحصن وغير المحصن . قلت : الزانية والزاني يدلاّن على الجنسين المنافيين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة والجنسية قائمة في الكلّ والبعض جميعاً ، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه ، كما يفعل بالاسم المشترك [ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ] . وقرىء : "ولا يأخذكم" بالياء . ورأفة ، بفتح الهمزة . ورآفة على فعالة . والمعنى : أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجدّ والمتانة فيه ، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده . وكفى برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة في ذلك حيث قال :
( 732 ) " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " وقوله : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر } من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه وقيل : لا تترحموا عليهما حتى لا تعطلوا الحدود أو حتى لا توجعوهما ضرباً . وفي الحديث :
( 733 ) " يُؤتى بوالٍ نقصَ مِنَ الحدّ سوطاً ، فيقولُ : رحمةٌ لعبادِك ، فيقالُ لَهُ : أأنتَ أرحمُ بهم مِنِّي ، فيؤمرُ به إلى النار . ويؤتى بمن زاد سوطاً فيقولُ لينتهوا عَنْ معاصِيك فيؤمرُ به إلى النار " ، وعن أبي هريرة :
( 734 ) " إقامة حدّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة " وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلاً عالماً بصيراً يعقل كيف يضرب . والرجل يجلد قائماً على مجرّده ليس عليه إلاّ إزاره؛ ضرباً وسطاً لا مبرحاً ولا هيناً ، مفرّقاً على الأعضاء كلها لا يستثنى منها إلاّ ثلاثاً : الوجه والرأس ، والفرج ، وفي لفظ الجلد : إشارة إلى أنه ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم . والمرأة تجلد قاعدة ، ولا ينزع من ثيابها إلاّ الحشو والفرو ، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة على أن الجلد حدّ غير المحصن بلا تغريب .
(4/375)

وما احتج به الشافعي على وجوب التغريب من قوله صلى الله عليه وسلم :
( 735 ) " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " وما يروى عن الصحابة : أنهم جلدوا ونفوا؛ منسوخ عنده وعند أصحابه بالآية ، أو محمول على وجه التعزيز ، والتأديب من غير وجوب . وقول الشافعي في تغريب الحرّ واحد ، وله في العبد ثلاثة أقاويل : يغرب سنة كالحرّ ، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة ، ولا يغرب كما قال أبو حنيفة . وبهذه الآية نسخ الحبس والأذى في قوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت } [ النساء : 15 ] ، وقوله تعالى : { فَآذوهما } . قيل : تسميته عذاباً دليل على أنه عقوبة . ويجوز أن يسمى عذاباً ، لأنه يمنع من المعاودة كما سمي نكالاً .
الطائفة : الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة ، وأقلها ثلاثة أو أربعة؛ وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء . وعن ابن عباس في تفسيرها : أربعة إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله . وعن الحسن : عشرة . وعن قتادة : ثلاثة فصاعداً . وعن عكرمة : رجلان فصاعداً . وعن مجاهد : الواحد فما فوقه . وفضل قول ابن عباس ، لأنّ الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحدّ والصحيح أن هذه الكبيرة من أمّهات الكبائر ، ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله : { وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ، وقال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 736 ) " يا معشرَ الناسِ اتقُوا الزنَى فإنَّ فيهِ ستُّ خصالٍ : ثلاثٌ في الدُّنيا ، وثلاثٌ في الآخرة . فأمّا اللاَّتي في الدُنيا : فيَذهبُ البهاء : ويورثُ الفقرَ ، وينقصُ العمرَ ، وأما اللاتي في الآخرة : فيُوجبُ السخطةَ ، وسوءَ الحسابِ ، والخلودَ في النار " ولذلك وفّى الله فيه عقد المائة بكماله ، بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر . وشرع فيه القتلة الهولة وهي الرجم ، ونهى المؤمنين عن الرأفة على المجلود فيه . وأمر بشهادة الطائفة للتشهير ، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير ، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة ، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح ، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل . ويشهد له قول ابن عباس رضي الله عنهما : إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله .
(4/376)

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب ، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته ، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله ، أو في مشركة ، والفاسقة الخبيثة المسافحة ، كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها ، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين . ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى : محرّم عليه محظور؛ لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور موقع التهمة ، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد . ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرّض لاقتراف الآثام ، فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب؛ وقد نبه على ذلك بقوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } [ النور : 32 ] وقيل : كان بالمدينة موسرات من بغايا المشركين ، فرغب فقراء المهاجرين في نكاحهنّ ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة ، ليس له أن يتزوجها لهذه الآية ، وإذا باشرها كان زانياً . وقد أجازه ابن عباس رضي الله عنهما وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه .
( 737 ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك؟ فقالَ : " أولُهُ سِفَاحٌ وآخِرُهُ نكاحٌ ، والحرامُ لا يحرمُ الحلال " ، وقيل : المراد بالنكاح الوطء ، وليس بقول لأمرين ، أحدهما : أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلاّ في معنى العقد . والثاني : فساد المعنى وأداؤه إلى قولك : الزاني لا يزني إلاّ بزانية والزانية لا يزني بها إلاّ زان . وقيل : كان نكاح الزانية محرّماً في أول الإسلام ثم نسخ ، والناسخ قوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] . وقيل : الإجماع ، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه . فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت : معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر . ومعنى الثانية : صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة ، وهما معنيان مختلفان . فإن قلت : كيف قدمت الزانية على الزاني أولاً ، ثم قدم عليها ثانياً؟ قلت : سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا ، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن . فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بديء بذكرها . وأمّا الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه ، لأنه هو الراغب والخاطب ، ومنه يبدأ الطلب . وعن عمرو بن عبيد رضي الله عنه : لا ينكح ، بالجزم على النهي . والمرفوع فيه أيضاً معنى النهي ، ولكن أبلغ وآكد ، كما أن "رحمك الله" و "يرحمك" أبلغ من "ليرحمك" ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى : أن عادتهم جارية على ذلك ، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصوّن عنها . وقرىء : "وحَرم" بفتح الحاء .
(4/377)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
القذف يكون بالزنى وبغيره ، والذي دلّ على أن المراد قذفهنّ بالزنى شيئان ، أحدهما : ذكر المحصنات عقيب الزواني . والثاني : اشتراط أربعة شهداء؛ لأنّ القذف بغير الزنى يكفي فيه شاهدان ، والقذف بالزنى أن يقول الحرّ العاقل البالغ لمحصنة : يا زانية ، أو لمحصن : يا زاني ، يا ابن الزاني ، يا ابن الزانية ، يا ولد الزنا ، لست لأبيك ، لست لرشدة . والقذف بغير الزنا أن يقول : يا آكل الربا ، يا شارب الخمر ، يا يهودي ، يا مجوسي ، يا فاسق ، يا خبيث ، يا ماص بظر أمّه . فعليه التعزير ، ولا يبلغ به أدنى حدّ العبيد وهو أربعون ، بل ينقص منه . وقال أبو يوسف : يجوز أن يبلغ به تسعة وسبعون . وقال : للإمام أن يعزر إلى المائة . وشروط إحصان القذف خمسة : الحرية ، والبلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والعفة . وقرىء : "بأربعة شهداء" بالتنوين . وشهداء صفة . فإن قلت : كيف يشهدون مجتمعين أو متفرّقين؟ قلت : الواجب عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن يحضروا في مجلس واحد ، وإن جاءوا متفرقين كانوا قذفة . وعند الشافعي رضي الله عنه : يجوز أن يحضروا متفرقين . فإن قلت : هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحداً منهم؟ قلت : يجوز عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي . فإن قلت : كيف يجلد القاذف؟ قلت : كما جلد الزاني ، إلاّ أنه لا ينزع عنه من ثيابه إلاّ ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو . والقاذفة أيضاً كالزانية ، وأشدّ الضرب ضرب التعزير ، ثم ضرب الزنا ، ثم ضرب شرب الخمر ، ثم ضرب القاذف . قالوا : لأنّ سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلاّ أنه عوقب صيانة للأعراض وردعاً عن هتكها . فإن قلت : فإذا لم يكن المقذوف محصناً؟ قلت : يعزر القاذف ولا يحدّ ، إلاّ أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حدّ ولا تعزير . ردّ شهادة القاذف معلق عند أبي حنيفة رضي الله عنه باستيفاء الحدّ ، فإذا شهد قبل الحدّ أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته ، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبداً وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء . وعند الشافعي رضي الله عنه : يتعلق ردّ شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه ، عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما متمسك بالآية ، فأبو حنيفة رضي الله عنه جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد ، وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأبيد ، فكانوا مردودي الشهادة عنده في أبدهم وهو مدّة حياتهم ، وجعل قوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } كلاماً مستأنفاً غير داخل في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية . و { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من الفاسقين . ويدلّ عليه قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والشافعي رضي الله عنه جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً ، غير أنه صرف الأبد إلى مدّة كونه قاذفاً ، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف وجعل الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية .
(4/378)

وحق المستثنى عنده أن يكون مجروراً بدلاً من "هم" في { لَهُمْ } وحقه عند أبي حنيفة رضي الله عنه أن يكون منصوباً لأنه عن موجب ، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردّوا شهادتهم وفسقوهم أي : فاجمعوا لهم الجلد والردّ والتفسيق ، إلاّ الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإنّ الله يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين . فإن قلت : الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع ، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبي حنيفة رضي الله عنه . كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام؟ قلت : المسلمون لا يعبئون بسبِّ الكفار؛ لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل ، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله ، فشدّد على القاذف من المسلمين ردعاً وكفاً عن إلحاق الشنار . فإن قلت : هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حدّ القاذف؟ قلت : لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحدّ ، والمقذوف مندوب إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحدّ . ويحسن من الأمام أن يحمل المقدوف على كظم الغيظ ويقول له : أعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبات الحدّ : فإذا ثبت لم يكن لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق الله ، ولهذا لم يصحّ أن يصالح عنه بمال . فإن قلت : هل يورث الحدّ؟ قلت : عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يورث ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
( 738 ) " الحدّ لا يورث " ، وعند الشافعي رضي الله عنه يورث ، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحدّ سقط . وقيل : نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت رضي الله عنه حين تاب مما قال في عائشة رضي الله عنها .
(4/379)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
قاذف امرأته إذا كان مسلماً حراً بالغاً عاقلاً ، غير محدود في القذف ، والمرأة بهذه الصفة مع العفة : صحّ اللعان بينهما ، إذا قذفها بصريح الزنى ، وهو أن يقول لها : يا زانية ، أو زنيت ، أو رأيتك تزنين . وإذا كان الزوج عبداً ، أو محدوداً في قذف ، والمرأة محصنة : حدّ كما في قذف الأجنبيات ، وما لم ترافعه إلى الإمام لم يجب اللعان . واللعان : أن يبدأ الرجل فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى ، ويقول في الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى . وتقول المرأة أربع مرات : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى ، ثم تقول في الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنى . وعند الشافعي رضي الله عنه : يقام الرجل قائماً حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه ويقول له : إني أخاف إن لم تكن صادقاً أن تبوء بلعنة الله ، وقال : اللعان بمكة بين المقام والبيت ، وبالمدينة على المنبر ، وبيت المقدس في مسجده ، ولعان المشرك في الكنيسة وحيث يعظم ، وإذا لم يكن له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } [ التوبة : 28 ] ثم يفرق القاضي بينهما ، ولا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريقه عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم ، إلا عند زفر؛ فإن الفرقة تقع باللعان . وعن عثمان البتي : لا فرقة أصلاً . وعند الشافعي رضي الله عنه تقع بلعان الزوج ، وتكون هذه الفرقة في حكم التطليقة البائنة عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما ولا يتأبد حكمها ، فإذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحدّ جاز أن يتزوجها . وعند أبي يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي رضي الله عنهم : هي فرقة بغير طلاق توجب تحريماً مؤبداً ، ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه . وروي :
( 739 ) أن آية القذف لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فقام عاصم بن عدي الأنصاري رضي الله عنه فقال : جعلني الله فداك ، إن وجد رجل مع امرأته رجلاً فأخبر جلد ثمانين وردّت شهادته أبداً وفسق ، وإن ضربه بالسيف قتل ، وإن سكت سكت على غيظ ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى : اللَّهم افتح . وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر فقال : ما وراءك؟ قال : شرّ وجدت على بطن امرأتي خولة - وهي بنت عاصم - شريكَ ابن سحماء ، فقال : هذا والله سؤالي ، ما أسرع ما ابتليت به فرجعا ، فأخبر عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلم خولة فقالت : لا أدري ، ألغيرة أدركته؟ أم بخلاً على الطعام - وكان شريك نزيلهم - وقال هلال : لقد رأيته على بطنها .
(4/380)

فنزلت ، ولاعن بينهما . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله وقولها : أنّ لعنةَ اللَّهِ عليهِ ، إنّ غضبَ اللَّهَ عليها : آمين ، وقال القوم : آمين ، وقالَ لهَا : " إنْ كنتِ ألممْتِ بِذَنْبٍ فاعترفِي بِهِ ، فالرجمُ أَهونُ عليك مِنْ غضبِ اللَّهِ ، إن غضبَه هوَ النارُ . وقال : تحينُوا بها الولادةُ فإن جاءَتْ به أصيهبَ أثيبجَ يضربُ إلى السوادِ فهو لشريكٍ ، وإنْ جاءَتْ بِهِ أَورقَ جعداً جمالياً خدلجَ الساقَيْنِ فهو لغيرِ الذي رميت بهِ " قال ابن عباس رضي الله عنهما : فجاءت بأشبهِ خلقِ اللَّهِ لشريكِ . فقال صلى الله عليه وسلم : " لَولاَ الأيمانُ لكان لِي ولها شأن " وقرىء : "ولم تكن" بالتاء؛ لأنّ الشهداء جماعة ، أو لأنهم في معنى الأنفس التي هي بدل . ووجه من قرأ أربع أن ينتصب؛ لأنه في حكم المصدر والعامل فيه المصدر الذي هو { فشهادة أَحَدِهِمْ } وهي مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات بالله . وقرىء أن لعنة الله ، وأن غضب الله : على تخفيف أن ورفع ما بعدها . وقرىء : "أن غضب الله" على فعل الغضب . وقرىء : بنصب الخامستين ، على معنى : وتشهد الخامسة . فإن قلت : لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت : تغليظاً عليها؛ لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ، ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد . ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخولة " فالرجمُ أهونُ عليكِ من غضبِ اللَّهِ " .
(4/381)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
الفضل : التفضل ، وجواب "لولا" متروك ، وتركه دال على أمر عظيم لا يكتنه ، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به .
(4/382)

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء . وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك . وأصله : الأفك ، وهو القلب؛ لأنه قول مأفوك عن وجهه . والمراد : ما أُفك به على عائشة رضي الله عنها . والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وكذلك العصابة . واعصو صبوا : اجتمعوا ، وهم عبد الله بن أبيّ رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ابن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم . وقرىء : "كبره" بالضم والكسر ، وهو عِظَمه . والذي تولاه عبد الله ، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتهازه الفرص ، وطلبه سبيلاً إلى الغميزة .
أي يصيب كل خائض في حديث الإفك من تلك العصبة نصيبه من الإثم على مقدار خوضه . والعذاب العظيم لعبد الله ، لأنّ معظم الشرّ كان منه . يحكى أن صفوان رضي الله عنه مرّ بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة رضي الله عنها ، فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها . والخطاب في قوله : { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لمن ساءه ذلك من المؤمنين ، وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعائشة ، وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم . ومعنى كونه خيراً لهم : أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاء مبيناً ومحنة ظاهرة ، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها ، وتطهير لأهل البيت ، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه ، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة ، وفوائد دينية ، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها .
(4/383)

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{ بِأَنفُسِهِمْ } أي بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات ، كقوله : { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] وذلك نحو ما يروى أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : ألا ترين ما يقال؟ فقال : لو كنت بدل صفوان أكنت تظنّ بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً؟ قال : لا . قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة خير مني ، وصفوان خير منك . فإن قلت : هلا قيل : لولا إذ سمعتموه ظننتم بإنفسكم خيراً وقلتم؟ ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان ، دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن . وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه ، أن يبني الأمر فيها على الظنّ لا على الشك . وأن يقول بملء فيه بناء على ظنّه بالمؤمن الخير : { هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ } هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته ، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال . وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات .
(4/384)

لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب : ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها والذين رموا عائشة رضي الله عنها لم تكن لهم بينة على قولهم ، فقامت عليهم الحجة وكانوا { عَندَ الله } أي في حكمه وشريعته كاذبين . وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره ، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع : من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة ، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين ، فكيف بأمّ المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبة حبيب الله؟ .
(4/385)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
لولا الأولى للتحضيض ، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره . والمعنى : ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك ، يقال : أفاض في الحديث ، واندفع ، وهضب ، وخاض { إِذْ } ظرف لمسكم ، أو لأفضتم { تَلَقَّوْنَهُ } يأخذه بعضكم من بعض . يقال : تلقى القول وتلقنه وتلقفه . ومنه قوله تعالى : { فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [ البقرة : 37 ] وقرىء على الأصل : "تتلقونه" [ إذ تلقونه ] بإدغام الذال في التاء . و "تلقونه" من لقيه بمعنى لقفه ، و"تلقونه" ، من إلقائه بعضهم على بعض . و "تلقونه" و "تأْلِقُونه" ، من الولق والألق : وهو الكذب ، و "تلقونه" : محكية عن عائشة رضي الله عنها ، وعن سفيان : سمعت أمي تقرأ : إذ تثقفونه ، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . فإن قلت : ما معنى قوله : { بأفواهكم } والقول لا يكون إلاّ بالفم؟ قلت : معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه اللسان . وهذا الإفك ليس إلاّ قولاً يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب ، كقوله تعالى : { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] ، [ وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم ] أي : تحسبونه صغيرة وهو عند الله كبيرة وموجبة . وعن بعضهم أنه جزع عند الموت ، فقيل له : فقال : أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم . وفي كلام بعضهم : لا تقولنّ لشيء من سيئاتك حقير ، فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير . وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مسّ العذاب العظيم بها ، أحدها : تلقى الإفك بألسنتهم ، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له : ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع وانتشر؛ فلم يبق بيت ولا نادٍ إلاّ طارَ فيه . والثاني : التكلم مما لا علم لهم به . والثالث : استصغارهم لذلك وهو عظيمة من العظائم .
(4/386)

وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
فإن قلت : كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم؟ قلت : للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها ، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها . فإن قلت : فأيّ فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً؟ قلت : الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أوّل ما سمعوا بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهمّ وجب التقديم . فإن قلت : فما معنى يكون ، والكلام بدونه متلئب لو قيل : ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت : معناه معنى ينبغي ويصحّ ، أي : ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا ، وما يصحّ لنا . ونحوه : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق . و { سبحانك } للتعحب من عظم الأمر . فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت : الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه ، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيه عليه السلام فاجرة . فإن قلت : كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط [ عليهما الصلاة والسلام ] ، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ قلت : لأنّ الأنبياء [ عليهم الصلاة والسلام ] مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم ، فيجب أن لا يكون معهم ما ينفرهم عنهم ، ولم يكن الكفر عندهم مما ينفر . وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات .
(4/387)

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
أي كراهة { أَن تَعُودُواْ } أو في أن تعودوا ، من قولك : وعظت فلاناً في كذا فتركه . وأبدهم ما داموا أحياء مكلفين . و { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فيه تهييج لهم ليتعظوا ، وتذكير بما يوجب ترك العود ، وهو اتصافهم بالإيمان الصادّ عن كلّ مقبح ، ويبين الله لكم الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ، ويعلمكم من الآداب الجميلة ، ويعظكم به من المواعظ الشافية ، والله عالم بكل شيء ، فاعل لما يفعله بدواعي الحكمة .
(4/388)

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
المعنى : يشيعون الفاحشة عن قصد إلى الإشاعة ، وإرادة ومحبة لها ، وعذاب الدنيا الحدّ ، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ وحساناً ومسطحاً ، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف ، وكفّ بصره . وقيل : هو المراد بقوله : { والذى تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ } [ النور : 11 ] { والله يَعْلَمُ } ما في القلوب من الأسرار والضمائر { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } يعني أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة ، وهو معاقبه عليها .
(4/389)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
وكرّر المنة بترك المعاجلة بالعقاب ، حاذفاً جواب لولا كما حذفه ثمة . وفي هذا التكرير مع حذف الجواب مبالغة عظيمة ، وكذلك في التوّاب والرءوف والرحيم .
(4/390)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
الفحشاء والفاحشة : ما أفرط قبحه . قال أبو ذؤيب :
ضَرَائِرُ حِرْمِيٍّ تَفَاحَشَ غَارُهَا ... أي : أفرطت غيرتها . والمنكر : ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه . وقرىء : "خطوات" بفتح الطاء وسكونها . وزكّى بالتشديد ، والضمير لله تعالى ، ولولا أنّ الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة ، لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك ، ولكن الله يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها ، وهو { سَمِيعُ } لقولهم { عَلِيمٌ } بضمائرهم وإخلاصهم .
(4/391)

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
وهو من ائتلى إذا حلف : افتعال من الألية . وقيل : من قولهم : ما ألوت جهداً ، إذا لم تدخر منه شيئاً . ويشهد للأول قراءة الحسن : ولا يتأل . والمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان . أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها ، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح ، وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم ، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم ، نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، وكان فقيراً من فقراء المهاجرين ، وكان أبو بكر ينفق عليه ، فلما فرط منه ما فرط : آلى أن لا ينفق عليه ، وكفى به داعياً إلى المجاملة وترك الاشتغال بالمكافأة للمسىء . ويروى :
( 740 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على أبي بكر ، فقال : بلى أحب أن يغفر الله لي ، ورجع إلى مسطح نفقته وقال : والله لا أنزعها أبداً . وقرأ أَبو حيوة وابن قطيب : "أن تؤتوا" ، بالتاء على الالتفات . ويعضده قوله : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } .
(4/392)

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
{ الغافلات } السليمات الصدور ، النقيات القلوب ، اللاتي ليس فيهن دهاء ، ولا مكر ، لأنهنّ لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال ، فلا يفطنّ لما تفطن له المجربات العرافات . قال :
وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطَفْلَةٍ مَيَّالَة ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا
وكذلك البله من الرجال في قوله عليه الصلاة والسلام :
( 741 ) " أكثر أهل الجنة البله " .
(4/393)

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
وقرىء : "يشهد" بالياء . والحق : بالنصب صفة للدين وهو الجزاء ، وبالرفع صفة لله ، ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع ، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك ، واستفظاع ما أقدم عليه ، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة . كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها ، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً ، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا ، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك { أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } فأوجز في ذلك وأشبع ، وفصل وأجمل ، وأكد وكرّر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة ، وما ذاك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يُسأل عن تفسير القرآن ، حتى سئل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلاّ من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك . ولقد برَّأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } [ يوسف : 26 ] . وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه . وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها : إني عبد الله . وبرَّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات . فانظر ، كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محلّ سيد ولد آدم ، وخيرة الأوّلين والآخرين ، وحجة الله على العالمين . ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدّم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق ، فليتلق ذلك من آيات الإفك ، وليتأمّل كيف غضب الله في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه . فإن قلت : إن كانت عائشة هي المرادة فكيف قيل المحصنات؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يخصصن بأن من قذفهنّ فهذا الوعيد لاحق به ، وإذا أردن عائشة كبراهنّ منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت المرادة أوّلاً ، والثاني : أنها أمّ المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمّة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان ، كما قال :
قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الْخُبَيْبَيْنِ قَدِي ... أراد عبد الله بن الزبير وأشياعه ، وكان أعداؤه يكنونه بخبيب ابنه ، وكان مضعوفاً ، وكنيته المشهورة أبو بكر ، إلاّ أن هذا في الاسم وذاك في الصفة ، فإن قلت : ما معنى قوله : { هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] ؟ قلت : معناه : ذو الحق البين ، أي : العادل الظاهر العدل ، الذي لا ظلم في حكمه ، والمحقّ الذي لا يوصف بباطل . ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ، ولا إحسان محسن ، فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه .
(4/394)

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
أي { الخبيثات } من القول تقال أو تعدّ { لِلْخَبِيثِينَ } من الرجال والنساء { والخبيثون } منهم يتعرضون { للخبيثات } من القول ، وكذلك الطيبات والطيبون . و { أولئك } إشارة إلى الطيبين ، وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم ، وهو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب . ويجوز أن يكون { أولئك } إشارة إلى أهل البيت ، وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك ، وأن يراد بالخبيثات والطيبات : النساء ، أي : الخبائث يتزوّجن الخباث ، والخباث الخبائث . وكذلك أهل الطيب . وذكر الرزق الكريم ها هنا مثله في قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [ الأحزاب : 31 ] وعن عائشة : لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهنّ امرأة : لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجني ، ولقد تزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري ، ولقد توفي وإنّ رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي ، ولقد حفته الملائكة في بيني ، وإنّ الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه ، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ، وإني لابنة خليفته وصدّيقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً .
(4/395)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
{ تَسْتَأْنِسُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له استأنس ، فالمعنى : حتى يؤذن لكم كقوله : { لا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } [ الأحزاب : 53 ] وهذا من باب الكناية والإرداف؛ لأنّ هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن . فوضع موضع الإذن .
والثاني : أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف : استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً . والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال ، هل يراد دخولكم أم لا؟ ومنه قولهم : استأنس هل ترى أحداً ، واستأنست فلم أر أحداً ، أي : تعرفت واستعلمت . ومنه بيت النابغة :
عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ ... ويجوز أن يكون من الإنس ، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه : قلنا : يا رسول الله ، ما الاستئناس؟ قال : " يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح : يؤذن أهل البيت . والتسليم أن يقول : السلام عليكم ، أأدخل؟ ثلاث مرات؛ فإن أذن له وإلاّ رجع "
( 742 ) وعن أبي موسى الأشعري أنه أتى باب عمر رضي الله عنهما فقال : السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثاً ثم رجع وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الاستئذان ثلاثا "
( 743 ) واستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لامرأة يقالُ لها روضةٌ : " قومي إلى هذا فعلِّميه ، فإنه لا يحسنُ أن يستأذنَ . قولي له يقولُ : السلامُ عليكم أأدخلُ " ، فسمعَها الرجلُ فقالَها ، فقالَ : "ادخلْ" . وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً ، وحييتم مساء ، ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد ، فصدّ الله عن ذلك ، وعلم الأحسن والأجمل ، وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به ، وباب الاستئذان من ذلك : بينا أنت في بيتك ، إذا رعف عليك الباب . بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايى إسلام ولا جاهلية ، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه ، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أين الأذن الواعية؟ وفي قراءة عبد الله : "حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا" . وعن ابن عباس وسعيد بن جبير : إنما هو حتى تستأذنوا ، فأخطأ الكاتب . ولا يعوّل على هذه الرواية . وفي قراءة أبيّ : "حتى تستأذنوا" { ذلكم } الاستئذان والتسليم { خَيْرٌ لَّكُمْ } من تحية الجاهلية والدمور - وهو الدخول بغير إذن - واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك ، كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب . وفي الحديث :
( 744 ) " من سبقت عينه استئذانه فقد دمر " وروي :
( 745 ) أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأستأذن على أمي؟ قالَ : "نعم" ، قالَ : إنها ليس لها خادمٌ غيري ، أأستأذن عليها كلما دخلْتُ؟ قالَ : "أتحبُّ أن تَراها عريانةً" قالَ الرجل : لاَ . قال : "فاستأذن" . { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي أنزل عليكم . أو قيل : لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتتعلموا بما أمرتم به في باب الاستئذان .
(4/396)

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
يحتمل { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً } من الآذنين { فَلاَ تَدْخُلُوهَا } واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم . ويحتمل : فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلاّ بإذن أهلها ، وذلك أنّ الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ، ولأنّه تصرف في ملك غيرك فلا بدّ من أن يكون برضاه ، وإلاّ أشبه الغصب والتغلب { فارجعوا } أي لا تلحوا في إطلاق الإذن ، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب ، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين؛ لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصاً إذا كانوا ذوي مروءة ومرتاضين بالآداب الحسنة وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها : من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذّب من أكثر الناس ، وعن أبي عبيد : [ والله ] ما قرعت باباً على عالم قط . وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] . فإن قلت : هل يصحّ أن يكون المعنى : وإن لم يؤذن لكم وأمرتم بالرجوع فامتثلوا ، ولا تدخلوا مع كراهتهم؟ قلت : بعد أن جزم النهي عن الدخول مع فقد الإذن وحده من أهل الدار حاضرين وغائبين ، لم تبق شبهة في كونه منهياً عنه مع انضمام الأمر بالرجوع إلى فقد الإذن ، فإن قلت : فإذا عرض أمر في دار : من حريق ، أو هجوم سارق ، أو ظهور منكر يجب إنكاره؟ قلت : ذاك مستثنى بالدليل [ هو أزكى لكم ] أي : الرجوع أطيب لكم وأطهر ، لما فيه من سلامة الصدور والبعد من الريبة ، أو أنفع وأنمى خيراً . ثم أوعد المخاطبين بذلك بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه .
(4/397)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها : ما ليس بمسكون منها ، وذلك نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين . والمتاع : المنفعة ، كالاستكنان من الحرّ والبرد ، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع . ويروى :
( 746 ) أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، إنّ الله تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان ، وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلاّ بإذن؟ فنزلت ، وقيل : الخربات يتبرز فيها . والمتاع : التبرز { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة .
(4/398)

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
من للتبعيض ، والمراد غضّ البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحلّ وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة ، وأباه سيبويه . فإن قلت : كيف دخلت في غضّ البصر دون حفظ الفروج؟ قلت : دلالة على أن أمر النظر أوسع . ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهنّ وصدورهنّ وثديهنّ وأعضادهنّ وأسوقهنّ وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات ، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين . وأما أمر الفرج فمضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلاّ ما استثنى منه ، وحظر الجماع إلاّ ما استثنى منه ، ويجوز أن يراد - مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحلّ - حفظها عن الإبداء . وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا ، إلاّ هذا فإنه أراد به الاستتار . ثم أخبر أنه { خَبِيرٌ } بأفعالهم وأحوالهم ، وكيف يجيلون أبصارهم؟ وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم؟ فعليهم - إذا عرفوا ذلك - أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون .
(4/399)

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
النساء مأمورات أيضاً بغضّ الأبصار ، ولا يحلّ للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته ، وإن اشتهت غضّت بصرها رأساً ، ولا تنظر من المرأة إلاّ إلى مثل ذلك . وغضها بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها وأحسن . ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :
( 747 ) كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم - وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب - فدخل علينا فقال : احتجبا ، فقلنا : يا رسول الله ، أليس أعمى لا يبصر؟ قال : " أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ " فإن قلت : لم قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت : لأنّ النظر بريد الزنى ورائد الفجور ، والبلوى فيه أشدّ وأكثر ، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه ، الزينة : ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس بإبدائه للأجانب ، وما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط ، فلا تبديه إلاّ لهؤلاء المذكورين . وذكر الزينة دون مواقعها : للمبالغة في الأمر بالتصوّن والتستر ، لأنّ هذا الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء ، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن ، فنهى عن إبداء الزين نفسها . ليعلم أنّ النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع - بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله - كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر ، ثابت القدم في الحرمة ، شاهداً على أن النساء حقهنّ أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها . فإن قلت : ما تقول في القراميل ، هل يحلّ نظر هؤلاء إليها؟ قلت : نعم . فإن قلت : أليس موقعها الظهر ولا يحل لهم النظر إلى ظهرها وبطنها ، وربما ورد الشعر فوقعت القراميل على ما يحاذي ما تحت السرة؟ قلت : الأمر كما قلت ، ولكن أمر القراميل خلاف أمر سائر الحلي ، لأنه لا يقع إلاّ فوق اللباس ، ويجوز النظر إلى الثوب الواقع على الظهر والبطن للأجانب فضلاً عن هؤلاء . إلاّ إذا كان يصف لرقته فلا يحل النظر إليه ، فلا يحلّ النظر إلى القراميل واقعة عليه . فإن قلت : ما المراد بموقع الزينة؟ ذلك العضو كله ، أم المقدار الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت : الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية ، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة : الوجه موقع الكحل في عينيه ، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه ، والغمرة في خديه ، والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحناء . فإن قلت : لم سومح مطلقاً في الزينة الظاهرة؟ قلت : لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجد بدّاً من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها ، وخاصة الفقيرات منهنّ ، وهذا معنى قوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } يعني إلاّ ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور ، وإنما سومح في الزينة الخفية ، أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك .
(4/400)

كانت جيوبهنّ واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها ، وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة ، فأمرن بأن يسدلنها من قدامهنّ حتى يغطينها ، ويجوز أن يراد بالجيوب : الصدور تسمية بما يليها ويلابسها . ومنه قولهم : ناصح الجيب وقولك : ضربت بخمارها على جيبها ، كقولك : ضربت بيدي على الحائط ، إذا وضعتها عليه ، وعن عائشة رضي الله عنها : ما رأيت نساءاً خيراً من نساء الأنصار ، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها المرحل فصدعت منه صدعة ، فاختمرن ، فأصبحن كأن على رؤوسهنّ الغربان . وقرىء : "جيوبهن" بكسر الجيم لأجل الياء ، وكذلك { بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } قيل في نسائهنّ : هنّ المؤمنات ، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرّد بين يدي مشركة أو كتابية . عن ابن عباس رضي الله عنهما . والظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن : من في صحبتهن وخدمتهنّ من الحرائر والإماء والنساء ، كلهنّ سواء في حلّ نظر بعضهن إلى بعض . وقيل : ما ملكت أيمانهنّ هم الذكور والإناث جميعاً . وعن عائشة رضي الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها ، وقالت لذكوان : إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حرّ . وعن سعيد بن المسيب مثله ، ثم رجع وقال : لا تغرنّكم آية النور ، فإن المراد بها الإماء . وهذا هو الصحيح ، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها ، خصياً كان أو فحلاً . وعن ميسون بنت بحدل الكَلبية : أن معاوية دخل عليها ومعه خصيّ ، فتقنعت منه ، فقال : هو خصيّ فقالت : يا معاوية ، أترى أن المثلة به تحلل ما حرّم الله؟ وعند أبي حنيفة : لا يحلّ استخدام الخصيان وإمساكهم وبيعهم وشراؤهم ، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم . فإن قلت : روي :
( 748 ) أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصيّ فقبله ، قلت : لا يقبل فيما تعمّ به البلوى إلاّ حديث مكشوف ، فإن صحّ فلعله قبله ليعتقه ، أو لسبب من الأسباب . { الإربة } الحاجة قيل : هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ، ولا حاجة لهم في النساء ، لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهنّ . أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهنّ غضّوا أبصارهم ، أو بهم عنانة . وقرىء : { غَيْرُ } بالنصب على الاستثناء أو الحال ، والجرّ على الوصفية .
(4/401)

وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ، ويبين ما بعده أن المراد به الجمع . ونحوه { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] { لَمْ يَظْهَرُواْ } إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه ، أي : لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها ، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه ، وظهر على القرآن : أخذه وأطاقه ، أي : لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء . وقرىء : "عورات" وهي لغة هذيل . فإن قلت : لم لم يذكر الله الأعمام والأخوال؟ قلت : سئل الشعبي عن ذلك؟ فقال : لئلا يصفها العم عند ابنه ، والخال كذلك . ومعناه : أن سائر القرابات يشترك الأب والابن في المحرمية إلا العمّ والخال وأبناءهما . فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم ، فيداني تصوّره لها بالوصف نظره إليها؛ وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر . كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها ، فيعلم أنها ذات خلخال . وقيل : كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ، ليعلم أنها ذات خلخالين . وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي ، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ . [ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ] أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها . وإن ضبط نفسه واجتهد ، ولا يخلو من تقصير يقع منه ، فلذلك وصّى المؤمنين جميعاً بالتوبة والاستغفار ، وبتأميل الفلاح ، إذا تابوا واستغفروا . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية؛ لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة فإن قلت : قد صحت التوبة بالإسلام ، والإسلام يجبّ ما قبله ، فما معنى هذه التوبة؟ قلت : أراد بها ما يقوله العلماء : إن من أذنب ذنباً ثم تاب عنه ، يلزمه كلما تذكره أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه . وقرىء : "أيه المؤمنون" ، بضم الهاء ، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها .
(4/402)

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{ الأيامى } واليتامى : أصلهما أيائم ويتائم ، فقلبا ، والأيم : للرجل والمرأة ، وقد آم وآمت وتأيماً : إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين . قال :
فَإنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإنْ كُنْتُ أَفتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّمُ
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهم إنّا نعوذُ بِكَ مِنَ العيمةِ والغيمةِ والأيمةِ والكزمِ والقرمِ " ، والمراد : أنكحوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر ، ومن كان فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم . وقرىء : "من عبيدكم" وهذا الأمر للندب لما علم من أنّ النكاح أمر مندوب إليه ، وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك ، وعند أصحاب الظواهر : النكاح واجب . ومما يدلّ على كونه مندوباً إليه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 750 ) " من أحب فطرتي فليستنّ بسنتي وهي النكاح " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 751 ) " من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس منا " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 752 ) " إذا تزوج أحدكم عجّ شيطانه : يا ويله ، عصم ابن آدم مني ثلثي دينه " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 753 ) " يا عياض لا تزوجنّ عجوزاً ولا عاقراً ، فإني مكاثر " والأحاديث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم والآثار كثيرة . وربما كان واجب الترك إذا أدّى إلى معصية أو مفسدة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 754 ) " إذا أَتَى عَلَى أُمَّتي مائةَ وثمانون سنةً فقدْ حلّت لهُمْ العزوبةُ والعزلةُ والترهبُ علَى رؤوسِ الجبالِ " وفي الحديث :
( 755 ) " يأتي على الناسِ زمانُ لا تنالُ فيه المعيشةُ إلاّ بالمعصيةِ ، فإذا كانَ ذلكَ الزمانُ حلّت العزوبة " فإن قلت : لم خصّ الصالحين؟ قلت : ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ولأنّ الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة ، فكانوا مظنّة للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم . وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك . أو أريد بالصلاح : القيام بحقوق النكاح . [ إن يكونوا فقراء يُغنيهم الله من فضله ] ينبغي أن تكون شريطة الله غير منسية في هذا الموعد ونظائره ، وهي مشيئته ، ولا يشاء الحكيم إلاّ ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة ، ونحوه : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] . وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 28 ] ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضاً بعزب كان غنياً فأفقره النكاح ، وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء ففني وأصبح مسكيناً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 756 ) " التمسُوا الرزقَ بالنكاحِ "
( 757 ) وشكا إليه رجلٌ الحاجة فقالَ : " عليكَ بالباءةِ " وعن عمر رضي اللَّهُ عنه : عجبت لمن لا يطلب الغنى بالباءة . ولقد كان عندنا رجل رازح الحال ، ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت ، فسألته؟ فقال : كنت في أول أمري على ما علمت ، وذلك قبل أن أُرزق ولداً ، فلما رزقت بكر ولدي تراخيت عن الفقر ، فلما ولد لي الثاني زدت خيراً ، فلما تتاموا ثلاثة صبّ الله عليّ الخير صباً ، فأصبحت إلى ما ترى { والله واسع } أي غنيّ ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق ، ولكنه { عَلِيمٌ } يبسط الرزق ولمن يشاء ويقدر .
(4/403)

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ } وليجتهد في العفة وظلف النفس ، كأن المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي استطاعة تزوج . ويجوز أن يراد بالنكاح : ما ينكح به من المال { حتى يُغْنِيَهُمُ الله } ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى ، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً لهم في استعفافهم ، وربطاً على قلوبهم ، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالأعفاء وأدنى من الصلحاء ، وما أحسن ما رتب هذه الأوامر : حيث أمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد [ من ] مواقعة المعصية وهو غضّ البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه { والذين يَبْتَغُونَ } مرفوع على الابتداء . أو منصوب بفعل مضمر يفسره { فكاتبوهم } كقولك : زيداً فاضربه ، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط . والكتاب والمكاتبة ، كالعتاب والمعاتبة : وهو أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على ألف درهم ، فإن أداها عتق . ومعناه : كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال ، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك . أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق . ويجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه حالاً ومؤجلاً ، ومنجماً وغير منجم؛ لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم ، وقياساً على سائر العقود . وعند الشافعي رضي الله عنه : لا يجوز إلاّ مؤجلاً منجماً . لا يجوز عنده بنجم واحد؛ لأنّ العبد لا يملك شيئاً ، فعقده حالاً منع من حصول الغرض ، لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلاً ، ويجوز عقده على مال قليل وكثير ، وعلى خدمة في مدة معلومة ، وعلى عمل معلوم مؤقت : مثل حفر بئر في مكان بعينه معلومة الطول والعرض وبناء دار قد أراه آجرها وجصها وما تبنى به . وإن كاتبه على قيمته لم يجز . فإن أداها عتق ، وإن كاتبه على وصيف ، جاز ، لقلة الجهالة ووجب الوسط ، وليس له أن يطأ المكاتبة ، وإذا أدّى عتق ، وكان ولاؤه لمولاه؛ لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له ، وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء . وعن الحسن رضي الله عنه : ليس ذلك بعزم ، إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب . وعن عمر رضي الله عنه : هي عزمة من عزمات الله . وعن ابن سيرين مثله وهو مذهب داود { خَيْرًا } قدرة على أداء ما يفارقون عليه . وقيل : أمانة وتكسباً . وعن سلمان رضي الله عنه أن مملوكاً له ابتغى أن يكاتبه فقال : أعندك مال؟ قال : لا ، قال : أفتأمرني أن آكل غسالة أيدي الناس { وَءاتُوهُم } أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال ، كقوله تعالى :
(4/404)

{ وَفِي الرقاب } [ البقرة : 177 ] ، [ التوبة : 60 ] عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم . فإن قلت : هل يحلّ لمولاه إذا كان غنياً أن يأخذ ما تصدّق به عليه؟ قلت : نعم . وكذلك إذا لم تف الصدقة بجميع البدل وعجز عن أداء الباقي طاب للمولى ما أخذه؛ لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة ، ولكن بسبب عقد المكاتبة كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها أو وهبت له ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة :
( 758 ) : " هُوَ لَهَا صدقةٌ ولنا هديةٌ " ، وعند الشافعي رضي الله عنه : هو إيجاب على الموالي أن يحطوا لهم من مال الكتابة . وإن لم يفعلوا أُجبروا . وعن علي رضي الله عنه : يحط له الربع . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يرضخ له من كتابته شيئاً ، وعن عمر رضي الله عنه أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية ، وهو أوّل عبد كوتب في الإسلام ، فأَتاه بأوّل نجم فدفعه إليه عمر رضي الله عنه وقال : استعن به على مكاتبتك فقال : لو أخرته إلى آخر نجم؟ قال : أخاف أن لا أدرك ذلك . وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه على وجه الندب وقال : إنه عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع . وقيل : معنى { وَءاتُوهُم } : أسلفوهم . وقيل : أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا . وهذا كله مستحب . وروي أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح : سأل مولاه أن يكاتبه فأبى ، فنزلت . [ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ] كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن ، /
( 759 ) وكان لعبد الله بن أبيّ رأس النفاق ست جوار ، معاذة ، ومسيكة ، وأميمة ، وعمرة ، وأروى ، وقتيلة : يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت ، ويكنى بالفتى والفتاة : عن العبد والأمة . وفي الحديث :
( 760 ) " ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ، ولا يقل عبدي وأمتي " والبغاء : مصدر البغي . فإن قلت : لم أقحم قوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } قلت : لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن ، وآمر الطيعة المواتية للبغاء لا يسمى مكرهاً ولا أمره إكراهاً . وكلمة { إِنْ } وإيثارها على "إذا" إيذان بأن المساعيات كنّ يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لهم أو لهنّ ، أو لهم ولهنّ إن تابوا وأصلحوا . وفي قراءة ابن عباس : "لهن غفور رحيم" فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهنّ ، لأن المكرهة على الزنى بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة . قلت : لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل ، أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو ، من ضرب عنيف أو غيره حتى تسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحدّ الذي تعذر فيه فتكون آثمة .
(4/405)

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{ مبينات } هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود . ويجوز أن يكون الأصل مبيناً فيها فاتسع في الظرف . وقرىء بالكسر ، أي : بينت هي الأحكام والحدود ، جعل الفعل لها على المجاز ، أو من "بين" بمعنى تبين . ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين . { وَمَثَلاً مّنَ } أمثال من { قَبْلِكُمْ } أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم ، يعني : قصة عائشة رضي الله عنها . { وَمَوْعِظَةً } ما وعظ به في الآيات والمثل ، من نحو قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله } [ النور : 2 ] ، { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } [ النور : 12 ] ، { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } [ النور : 16 ] ، { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } [ النور : 17 ] .
(4/406)

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
نظير قوله : { الله نُورُ السماوات والأرض } مع قوله : { مَثَلُ نُورِهِ } ، و { يَهْدِى الله لِنُورِهِ } : قولك : زيد كرم وجود ، ثم تقول : ينعش الناس بكرمه وجوده . والمعنى : ذو نور السموات . وصاحب نور السموات ، ونور السموات والأرض الحق ، شبهه بالنور في ظهوره وبيانه ، كقوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] : أي من الباطل إلى الحق . وأضاف النور إلى السموات والأرض لأحد معنيين : إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض . وإما أن يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به { مَثَلُ نُورِهِ } أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة { كَمِشْكَاةٍ } كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } سراج ضخم ثاقب { فِى زُجَاجَةٍ } أراد قنديلاً من زجاج شامي أزهر . شبهه في زهرته بأحد الدراري من الكواكب وهي المشاهير ، كالمشتري والزهرة والمرّيخ وسهيل ونحوها { يُوقُدُ } هذا المصباح { مِن شَجَرَةٍ } أي ابتدأ ثقوبه من شجرة الزيتون ، يعني : زويت ذبالته بزيتها { مباركة } كثيرة المنافع . أو : لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين . وقيل : بارك فيها سبعون نبياً ، منهم إبراهيم عليه السلام . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 761 ) " عليكمُ بهذِهِ الشجرةِ زيتُ الزيتونِ فتداوَوا بهِ ، فإنه مصحةٌ منَ الباسورِ " { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي منبتها الشام . وأجود الزيتون : زيتون الشام . وقيل : لا [ في ] مضحى ولا [ في ] مقنأة . ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 762 ) " لا خيرَ في شجرةٍ في مقنأة ، ولا نباتٍ في مقنأةٍ ، ولا خيرَ فيهما في مضحَى " وقيل : ليست مما تطلع عليه الشمس وفي وقت شروقها أو غروبها فقط ، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً ، فهي شرقية وغربية ، ثم وصف الزيت بالصفاء والوبيص وأنه لتلألئه { يَكَادُ } يضيء من غير نار { نُّورٌ على نُورٍ } أي هذا الذي شبهت به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ، حتى لم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقاً ويمدّه بإضاءة : بقية ، وذلك أن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره ، بخلاف المكان الواسع فإنّ الضوء ينبث فيه ، وينتشر ، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة ، وكذلك الزيت وصفاؤه { يَهْدِى الله } لهذا النور الثاقب { مَن يَشَآء } من عباده ، أي : يوفق لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله والإنصاف من نفسه ، ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً . ومن لم يتدبر فهو كالأعمى الذي سواء عليه جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس . وعن عليّ رضي الله عنه : "الله نور السموات والأرض" أي نشر فيها الحق وبثه فأضاءت بنوره ، أو نور قلوب أهلها به ، وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه : مثل نور من آمن به . وقرىء : "زجاجة الزجاجة" بالفتح والكسر : ودرّيّ : منسوب إلى الدرّ أي : أبيض متلألىء . ودرّىء : بوزن سكيت : يدرأ الظلام بضوئه . ودرىء كمريق . ودري كالسكينة ، عن أبي زيد . وتوقد : بمعنى تتوقد . والفعل للزجاجة . ويوقد ، وتوقد ، بالتخفيف . ويوقد ، بالتشديد . ويوقد بحذف التاء وفتح الياء ، لاجتماع حرفين زائدين وهو غريب . ويمسه بالياء ، لأن التأنيث ليس بحقيقي ، والضمير فاصل .
(4/407)

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
{ فِى بُيُوتٍ } يتعلق بما قبله . أي : كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد ، كأنه قيل : مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت . أو بما بعده ، وهو يسبح ، أي : يسبح له رجال في بيوت . وفيها تكرير ، كقولك : زيد في الدار جالس فيها ، أو بمحذوف كقوله : { في تسع آيات } [ النمل : 27 ] أي سبحوا في بيوت . والمراد بالإذن : الأمر . ورفعها : بناؤها ، كقوله : { بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } [ النازعات : 27- 28 ] ، { وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد } [ البقرة : 127 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي المساجد ، أمر الله أن تبنى ، أو تعظيمها والرفع من قدرها . وعن الحسن رضي الله عنه : ما أمر الله أن ترفع بالبناء ، ولكن بالتعظيم { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } أوفق له ، وهو عام في كل ذكر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وأن يتلى فيها كتابه . وقرىء : "يسبح" على البناء للمفعول ، ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة ، أعني : { لَهُ فِيهَا بالغدو } ، و { رِجَالٌ } مرفوع بما دلّ عليه { يُسَبّحُ } وهو يسبح له ، وتسبح ، بالتاء وكسر الباء . وعن أبي جعفر رضي الله عنه بالتاء وفتح الباء . ووجهها أن يسند إلى أوقات الغدوّ والآصال على زيادة الباء ، وتجعل الأوقات مسبحة . والمراد ربها ، كصيد عليه يومان . والمراد وحشهما . والآصال : جمع أصل وهو العشي . والمعنى : بأوقات الغدوّ ، أي : بالغدوات . وقرىء : "والإيصال" وهو الدخول في الأصيل . يقال : آصل ، كأظهر وأعتم . التجارة : صناعة التاجر ، وهو الذي يبيع ويشتري للربح ، فإما أن يريد : لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة ، ثم خصّ البيع لأنه في الإلهاء أدخل . من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته : ألهته ما لا يلهيه شراء شيء يتوقع فيه الربح في الوقت الثاني ، لأن هذا يقين وذاك مظنون ، وإمّا أن يسمى الشراء تجارة ، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع ، كما تقول : رزق فلان تجارة رابحة ، إذا اتجه له بيع صالح أو شراء . وقيل : التجارة لأهل الجلب ، اتجر فلان في كذا : إذا جلبه . التاء في إقامة ، عوض من العين الساقطة للإعلال ، والأصل : "إقوام" فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض ، فأسقطت ، ونحوه :
وِأَخْلَفُوكَ عِدَ الأمرِ الَّذِي وَعَدُوا ... وتقلب القلوب والأبصار : إما أن تتقلب وتتغير في أنفسها : وهو أن تضطرب من الهول والفزع وتشخص ، كقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] . وإما أن تتقلب أحوالها وتتغير فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه ، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً لا تبصر { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي أحسن جزاء أعمالهم ، كقوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] والمعنى يسبحون ويخافون ، ليجزيهم ثوابهم مضاعفاً ويزيدهم على الثواب تفضلاً . وكذلك معنى قوله : { الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] المثوبة وزيادة عليها من التفضل . وعطاء الله تعالى : إما تفضل وإما ثواب ، وإما عوض { والله يَرْزُقُ } ما يتفضل به { بِغَيْرِ حِسَابٍ } فأما الثواب فله حساب لكونه على حسب الاستحقاق .
(4/408)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
السراب : ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري . والقيعة : بمعنى القاع أو جمع قاع ، وهو المنبسط المستوي من الأرض ، كجيرة في جار . وقرىء : "بقيعات" : بتاء ممطوطة ، كديمات وقيمات ، في ديمة وقيمة . وقد جعل بعضهم بقيعاة بتاء مدورة ، كرجل عزهاة ، شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم تخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدّر ، بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه العطش يوم القيامة فيحسبه ماء ، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق ، وهم الذين قال الله فيهم : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [ الغاشية : 3 ] ، { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 104 ] ، { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية ، وقد كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ، ثم كفر في الإسلام .
(4/409)

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
اللجيّ : العميق الكثير الماء . منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر . وفي { أَخْرَجَ } ضمير الواقع فيه { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } مبالغة في لم يرها؛ أي : لم يقرب أن يراها؛ فضلاً عن أن يراها . ومثله قول ذي الرمة :
إذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحَبِّينَ لَمْ يَكَد ... رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ
أي لم يقرب من البراح فما باله يبرح؟ شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجده من خدعه من بعيد شيئاً ، ولم يكفه خيبة وكمداً أن لم يجد شيئاً كغيره من السراب ، حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار ، ولا يقتل ظمأه بالماء . وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة ، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجّ البحر والأمواج والسحاب ، ثم قال : ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه ، فهو في ظلمة الباطل لا نور له . وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات؛ لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل [ الصالح ] . أو كونهما مترقبين ، ألا ترى إلى قوله : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقوله : { وَيُضِلُّ الله الظالمين } [ إبراهيم : 27 ] وقرىء : "سحاب ظلمات" على الإضافة . وسحاب ظلمات ، برفع { سَحَابٌ } وتنوينه وجرّ { ظلمات } بدلاً من { ظلمات } الأولى .
(4/410)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
{ صافات } يصففن أجنحتهن في الهواء . والضمير في { عِلْمٍ } لكل أو لله . وكذلك في { صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } والصلاة : الدعاء . ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها .
(4/411)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
{ يُزْجِى } يسوق . ومنه : البضاعة المزجاة : التي يزجيها كل أحد لا يرضاها . والسحاب يكون واحداً كالعماء ، وجمعاً كالرباب . ومعنى تأليف الواحد : أنه يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض . وجاز بينه وهو واحد؛ لأن المعنى بين أجزائه ، كما قيل في قوله :
. . . بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ... والركام : المتراكم بعضه فوق بعض . والودق : المطر { مِنْ خلاله } من فتوقه ومخارجه : جمع خلل ، كجبال في جبل . وقرىء : "من خلله" { وَيُنَزّلُ } بالتشديد ، ويكاد سنا : على الإدغام . وبرقه : جمع برقة ، وهي المقدار من البرق ، كالغرفة واللقمة . وبرقه : بضمتين للإتباع ، كما قيل : في جمع فعلة : فعلات كظلمات . و "سناء برقة" على المدّ المقصور ، بمعنى الضوء ، والممدود : بمعنى العلو والارتفاع ، من قولك : سنيّ ، مرتفع . و { يَذْهَبُ بالأبصار } على زيادة الباء ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] عن أبي جعفر المدني : وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته وظهور أمره ، حيث ذكر تسبيح من في السموات والأرض وكل ما يطير بين السماء والأرض ودعاءهم له وابتهالهم إليه ، وأنه سخر السحاب التسخير الذي وصفه وما يحدث فيه من أفعاله حتى ينزل المطر منه ، وأنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها على ما تقتضيه حكمته ، ويريهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف أبصارهم ، ليعتبروا ويحذروا . ويعاقب بين الليل والنهار ، ويخالف بينهما بالطول والقصر . وما هذه إلاّ براهين في غاية الوضوح على وجوده وثباته . ودلائل منادية على صفاته ، لمن نظر وفكر وتبصر وتدبر . فإن قلت : متى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح من في السموات ودعاءهم ، وتسبيح الطير ودعاءه ، وتنزيل المطر من جبال برد في السماء ، حتى قيل له : ألم تر؟ قلت : علمه من جهة إخبار الله إياه بذلك على طريق الوحي . فإن قلت : ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة في قوله : { مِنَ السماء مِن جِبَالٍ } ، { مِن بَرَدٍ } ؟ قلت : الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض . والثالثة للبيان . أو الأوليان للابتداء : والآخرة للتبعيض . ومعناه : أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها ، وعلى الأوّل مفعول "ينزل" : "من جبال" . فإن قلت : ما معنى { مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } ؟ قلت : فيه معنيان . أحدهما : أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأَرض جبال حجر . والثاني : أن يريد الكثرة بذكر الجبال ، كما يقال : فلان يملك جبالاً من ذهب .
(4/412)

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
وقرىء : "خالق كل دابة" . ولما كان اسم الدابة موقعاً على المميز وغير المميز ، غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه ، كأن الدواب كلهم مميزون ، فمن ثمة قيل : فمنهم ، وقيل : من يمشي في الماشي على بطن والماشي على أربع قوائم . فإن قلت : لم نكر الماء في قوله : { مِّن مَّآء } ؟ قلت : لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء مختصّ بتلك الدابة ، أو خلقها من ماء مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة ، فمنها هوام ومنها بهائم ومنها ناس . ونحوه قوله تعالى : { يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل } [ الرعد : 4 ] . فإن قلت : فما باله معرّفاً في قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ } [ الأنبياء : 30 ] ؟ قلت : قصد ثمة معنى آخر : وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء ، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط ، قالوا : خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجنّ من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه . فإن قلت : لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت : قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم ، ثم الماشي على رجلين ، ثم الماشي على أربع : فإن قلت : لم سمي الزحف على البطن مشياً؟ قلت؛ على سبيل الاستعارة كما قالوا في الأمر المستمرّ : قد مشى هذا الأمر ، ويقال : فلان لا يتمشى له أمر . ونحوه استعارة الشقة مكان الجحفلة ، والمشفر مكان الشفة . ونحو ذلك . أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين .
(4/413)

لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
{ وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين } إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا . أو إلى الفريق المتولي ، فمعناه على الأوّل : إعلام من الله بأنّ جميعهم منتف عنهم الإيمان لا الفريق المتولي وحده . وعلى الثاني : إعلام بأن الفريق المتولي لم يكن ما سبق لهم من الإيمان إيماناً ، إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة القلب؛ لأنه لو كان صادراً عن صحة معتقد وطمأنينة نفس لم يتعقبه التولي والإعراض . والتعريف في قوله : { بالمؤمنين } دلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفت : وهم الثابتون المستقيمون على الإيمان ، والموصوفون في قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } [ الحجرات : 15 ] .
(4/414)

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
معنى { إِلَى الله وَرَسُولِهِ } إلى رسول الله كقولك : أعجبني زيد وكرمه ، تريد : كرم زيد . ومنه قوله :
غَلَّسْنَهُ قَبْلَ الْقَطَا وَفُرَّطِهْ ... أراد : قبل فرط القطا . روي :
( 763 ) أنها نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض ، فجعل اليهوديّ يجرّه إلى رسول الله ، والمنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف ويقول : إن محمداً يحيف علينا . وروي أنّ المغيرة بن وائل كان بينه وبين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة في ماء وأرض ، فقال المغيرة : أمّا محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ { إِلَيْهِ } صلة يأتوا ، لأن "أتى" و"جاء" قد جاءا معدّيين بإلى ، أو يتصل بمذعنين لأنه في معنى مسرعين في الطاعة . وهذا أحسن لتقدّم صلته ودلالته على الاختصاص . والمعنى : أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المرّ والعدل البحت . يزورّون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق ، لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك ، لتأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمّة الخصم .
(4/415)

أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين ، أو مرتابين في أمر نبوّته ، أو خائفين الحيف في قضائه . ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله : { بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } أي لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله ، وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ويتمّ لهم جحوده ، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن ثمة يأبون المحاكمة إليه .
(4/416)

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وعن الحسن : " قول المؤمنين" ، بالرفع والنصب أقوى ، لأنّ أولى الإسمين بكونه اسماً لكان . أو غلهما في التعريف؛ وأن يقولوا : أوغل ، لأنه لا سبيل عليه للتنكير ، بخلاف قول المؤمنين ، وكان هذا من قبيل كان في قوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] ، { مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا } [ النور : 16 ] وقرىء : "ليحكم" على البناء للمفعول . فإن قلت : إلام أسند يحكم؟ ولا بدّ له من فاعل . قلت : هو مسند إلى مصدره ، لأن معناه : ليفعل الحكم بينهم ، ومثله : جمع بينهما؛ وألف بينهما . ومثله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] فيمن قرأ "بينكم" منصوباً : أي وقع التقطع بينكم . وهذه القراءة مجاوبة لقوله : { دعوا } .
(4/417)

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
قرىء : "ويتقه" ، بكسر القاف والهاء مع الوصل وبغير وصل . وبسكون الهاء ، وبسكون القاف وكسر الهاء : شبه تقه بكتف فخفف ، كقوله :
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... ولقد جمع الله في هذه الآية أسباب الفوز . وعن ابن عباس في تفسيرها { وَمَن يُطِعِ الله } في فرائضه { وَرَسُولُهُ } في سننه { وَيَخْشَ الله } على ما مضى من ذنوبه { وَيَتَّقْهِ } فيما يستقبل . وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية .
(4/418)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
جهد يمينه : مستعار من جهد نفسه : إذا بلغ أقصى وسعها ، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدّتها ووكادتها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : من قال بالله ، [ فقد ] جهد يمينه . وأصل : أقسم جهد اليمين : أقسم يجهد اليمين جهداً ، فحذف الفعل وقدّم المصدر فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول كقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قال : جاهدين أيمانهم . و { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : أمركم والذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشكّ فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره ، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها ، أو طاعتكم طاعة معروفة ، بأنها القول دون الفعل . أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأَيمان الكاذبة . وقرأ اليزيدي : "طاعة معروفة" بالنصب على معنى : أطيعوا طاعة { إِنَّ الله خَبِيرٌ } يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم ، وأنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم .
(4/419)

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم . يريد : فإن تتولوا فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم فإنّ الرسول ليس عليه إلاّ ما حمله الله وكلفه من أداء الرسالة ، فإذا أدّى فقد خرج عن عهدة تكليفه ، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان ، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرَّضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه ، وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى ، فالنفع والضرر عائدان إليكم ، وما الرسول إلاّ ناصح وهاد ، وما عليه إلاّ أن يبلغ ما له نفع في قبولكم ، ولا عليه ضرر في توليكم ، والبلاغ : بمعنى التبليغ ، كالأداء : بمعنى التأدية . ومعنى المبين : كونه مقروناً بالآيات والمعجزات .
(4/420)

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه . ومنكم : للبيان ، كالتي في آخر سورة الفتح : وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ، ويورّثهم الأرض ، ويجعلهم فيها خلفاء ، كما فعل ببني إسرائيل ، حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة ، وأن يمكن الدين المرتضى وهو دين الإسلام . وتمكينه : تثبيته وتوطيده ، وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه ، وذلك :
( 764 ) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه ، حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تغبرون إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة " ، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا ، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
( 765 ) " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم يملك الله من يشاء فتصير ملكاً ، ثم تصير بزيزي قطع سبيل ، وسفك دماء ، وأخذ أموال بغير حقها " وقرىء : "كما استخلف" على البناء للمفعول "وليبدلنهم" بالتشديد . فإن قلت : أين القسم الملتقى باللام والنون في { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } ؟ قلت : هو محذوف تقديره : وعدهم الله ، وأقسم ليستخلفنهم ، أو نزّل وعد الله في تحققه منزلة القسم ، فتلقى بما يتلقى به القسم ، كأنه قيل : أقسم الله ليستخلفنهم . فإن قلت : ما محل { يَعْبُدُونَنِى } ؟ قلت : إن جعلته استئنافاً لم يكن له محل ، كأن قائلاً قال : ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال : يعبدونني . وإن جعلته حالاً عن وعدهم ، أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم ، فمحله النصب { وَمَن كَفَرَ } يريد كفران النعمة؛ كقوله : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله } [ النحل : 112 ] . { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } أي : هم الكاملون في فسقهم ، حيث كفروا تلك النعمة العظيمة وجسروا على غمطها . فإن قلت : هل في هذه الآية دليل على أمر الخلفاء الراشدين؟ قلت : أوضح دليل وأبينه؛ لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم .
(4/421)

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
{ وَأقيمُواْ الصلاة } معطوف على { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال : لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه . وكرّرت طاعة الرسول : تأكيداً لوجوبها .
(4/422)

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
وقرىء : "لا يحسبن" بالياء . وفيه أوجه : أن يكون { مُعْجِزِينَ فِى الأرض } هما المفعولان . والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك . وهذا معنى قوي جيد . وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله : { وَأَطِيعُواْ الرسول } وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأوّل ، وكان الذي سوّغ ذلك أنّ الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد ، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث؛ وعطف قوله : { وَمَأْوَاهُمُ النار } على لا يحسبنّ الذين كفروا معجزين؛ كأنه قيل : الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار . والمراد بهم : المقسمون جهد أيمانهم .
(4/423)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
أمر بأن يستأذن العبيد . وقيل : العبيد والإماء والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار { ثلاث مَرَّاتٍ } في اليوم والليلة : قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت قيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة . وبالظهيرة : لأنها وقت وضع الثياب للقائلة . وبعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت التجرّد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم . وسمى كل واحدة من هذه الأحوال عورة؛ لأن الناس يختلّ تسترهم وتحفظهم فيها . والعورة : الخلل . ومنها : أعور الفارس ، وأعور المكان ، والأعور : المختل العين . ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات ، وبين وجه العذر في قوله : { طَوفُونَ عَلَيْكُمْ } يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة : يطوفون عليكم بالخدمة ، وتطوفون عليهم للاستخدام؛ فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت ، لأدّى إلى الحرج . وروي :
( 766 ) أن مدلج بن عمرو : وكان غلاماً أنصارياً : أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهر إلى عمر ليدعوه ، فدخل عليه وهو نائم ، وقد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر : لوددت أنّ الله عزّ وجلّ نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلاّ بإذن ، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية .
وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر رضي الله تعالى عنه .
وقيل :
( 767 ) نزلت في أسماء بنت أبي مرثد ، قالت : إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد . وقيل : دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها . وعن أبي عمرو : { الحلم } بالسكون وقرىء : { ثلاث عَوْرَاتٍ } بالنصب بدلاً عن ثلاث مرات ، أي : أوقات ثلاث عورات . وعن الأعمش : عورات على لغة هذيل . فإن قلت : ما محلّ ليس عليكم؟ قلت : إذا رفعت ثلاث عورات كان ذلك في محل الرفع على الوصف . والمعنى : هنّ ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت : لم يكن له محلّ وكان كلاماً مقرّراً للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة : فإن قلت : بم ارتفع { بَعْضُكُمْ } ؟ قلت : بالابتداء وخبره { على بَعْضٍ } على معنى : طائف على بعض ، وحذف لأنَّ طوافون يدل عليه . ويجوز أن يرتفع بيطوف مضمراً لتلك الدلالة .
(4/424)

وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
{ الأطفال مِنكُمُ } أي من الأحرار دون المماليك { الذين مِن قَبْلِهِمْ } يريد : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال . أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } الآية [ النور : 27 ] : والمعنى أنّ الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم خرجوا عن حدّ الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كما الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلاّ بإذن : وهذا مما الناس منه في غفلة ، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة ، وعن ابن عباس : آية لا يؤمن بها أكثر الناس : آية الإذن ، وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليَّ . وسأله عطاء : أأستأذن على أختي؟ قال : نعم وإن كانت في حجرك تمونها ، وتلا هذه الآية . وعنه : ثلاث آيات جحدهنّ الناس : الإذن كله . وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] فقال ناس : أعظمكم بيتاً . وقوله : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } [ النساء : 8 ] . وعن ابن مسعود : عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم . وعن الشعبي : ليست منسوخة ، فقيل له : إن الناس لا يعملون بها ، فقال : الله المستعان . وعن سعيد بن جبير يقول : هي منسوخة لا والله ما هي منسوخة ولكن الناس تهاونوا بها . فإن قلت : ما السنّ التي يحكم فيها بالبلوغ؟ قلت : قال أبو حنيفة ثماني عشرة سنة في الغلام ، وسبع عشرة في الجارية . وعامة العلماء على خمس عشرة فيهما . وعن علي رضي الله عنه أنه كان يعتبر القامة ويقدره بخمسة أشبار ، وبه أخذ الفرزدق في قوله :
مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إزَارَه ... فَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الأَشْبَارِ
واعتبر غيره الإنبات . وعن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن غلام ، فقال : هل اخضر إزاره؟ .
(4/425)

وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
القاعد : التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها { لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } لا يطمعن فيه : والمراد بالثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار { غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ } غير مظهرات زينة ، يريد : الزينة الخفيفة التي أرادها في قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } [ النور : 31 ] أو غير قاصدات بالوضع التبرج ، ولكن التخفف إذا احتجن إليه . والاستعفاف من الوضع خير لهنّ لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب ، بعثاً منه عن اختيار أفضل الأعمال وأحسنها ، كقوله : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ، { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 280 ] . فإن قلت : ما حقيقة التبرج؟ قلت : تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم : سفينة بارج ، لا غطاء عليها . والبرج : سعة العين ، يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء ، إلاّ أنه اختصّ بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها . وبدأ ، وبرز بمعنى : ظهر ، من أخوات : تبرج وتبلج ، كذلك .
(4/426)

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها ، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك ، وخافوا أن يلحقهم فيه حرج؛ وكرهوا أن يكون أكلاً بغير حق؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل } [ البقرة : 188 ] فقيل لهم : ليس على الضعفاء ولا على أنفسكم؛ يعني : عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك . وعن عكرمة : كانت الأنصار في أنفسها قزازة . فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا ، وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومؤاكلتهم لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم ، ولأنّ الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله وهو لا يشعر ، والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه ، والمريض لا يخلو من رائحة تؤذي أو جرح يبض أو أنف يذن ونحو ذلك . وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرّجون . حكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازياً وخلف مالك بن زيد في بيته وماله ، فلما رجع رآه مجهوداً فقال : ما أصابك؟ قال : لم يكن عندي شيء ، ولم يحلّ لي أن آكل من مالك ، فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت ، وهذا كلام صحيح ، وكذلك إذا فسر بأن هؤلاء ليس عليهم حرج في القعود عن الغزو ، ولا عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة ، لالتقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج . ومثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان . وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر ، فقلت : ليس على المسافر حرج أن يفطر ، ولا عليك يا حاج أن تقدّم الحلق على النحر ، فإن قلت : هلا ذكر الأولاد؛ قلت : دخل ذكرهم تحت قوله : { مِن بُيُوتِكُمْ } لأن ولد الرجل بعضه ، وحكمه حكم نفسه . وفي الحديث :
( 768 ) " إنّ أطيبَ ما يأكلُ المرء مِنْ كَسبهِ " ومعنى { مِن بُيُوتِكُمْ } من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم؛ ولأنّ الولدَ أقرب ممن عدّد من القرابات ، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة : كان الذي هو أقرب منهم أولى . فإن قلت : ما معنى { أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ } ؟ قلت : أموال الرجل إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له : أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته . وملك المفاتح : كونها في يده وحفظه . وقيل : بيوت المماليك؛ لأن مال العبد لمولاه . وقرىء : "مفتاحه" ، فإن قلت : فما معنى { أَوْ صَدِيقِكُمْ } ؟ قلت : معناه : أو بيوت أصدقائكم . والصديق يكون واحداً وجمعاً ، وكذلك الخليط والقطين والعدوّ ، يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون ، فتهللت أسارير وجهه [ سروراً ] وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم .
(4/427)

يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم . وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ منه ما شاء ، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك . وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والإنبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصديق أكبر من الوالدين ، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمّهات ، فقالوا : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم . وقالوا : إذا دلّ ظاهر الحال على رضا المالك ، قام ذلك مقام الإذن الصريح ، وربما سمج الاستئذان وثقل ، كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه { جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } أي مجتمعين أو متفرّقين . نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل ، فإن لم يجد من يواكله أكل ضرورة . وقيل : في قوم من الأنصار : إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلاّ مع ضيفهم وقيل : تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لا ختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } من هذه البيوت لتأكلوا فبدّئوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة { تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله } أي ثابتة بأمره ، مشروعة من لدنه . أو لأنّ التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله [ مباركة طيبة ] ووصفها بالبركة والطيب : لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق . وعن أنس رضي الله عنه قال :
( 769 ) خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين - وروي : تسع سنين - فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته لم كسرته؟ وكنت واقفاً على رأسه أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال : " ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها " ؟ قلت : بلى بأبي وأمي يا رسول الله . قال : " متى لقيت من أمّتي أحداً فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار والأوّابين " وقالوا : إن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله . وعن ابن عباس : إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تحية من عند الله ، وانتصب تحية بسلموا ، لأنها في معنى تسليماً ، كقولك : قعدت جلوساً .
(4/428)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
أراد عزّ وجلّ أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله بغير إذنه { وإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الأيمان بالله والإيمان برسوله ، وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره ، وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً ، حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله : { إِنَّ الذين يَسْتَئذنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } وضمنه شيئاً آخر ، وهو : أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرّض بحال المنافقين وتسللهم لواذاً . ومعنى قوله : { لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَئذِنُوهُ } لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له . والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس ، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز ، وذلك نحو مقاتلة عدوّ ، أو تشاور في خطب مهمّ ، أو تضام لإرهاب مخالف ، أو تماسح في حلف وغير ذلك . أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه . وقرىء : "أمر جميع" وفي قوله : { وإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } أنه خطب جليل لا بدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوّة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته ، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه ، فمن ثمة غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان ، ومع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه ، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم ، وذلك قوله : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } . وذكر الاستغفار للمستأذنين : دليل على أنّ الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه . وقيل : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن . وقالوا : كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ولا يتفرقون عنهم . والأمر في الإذن مفوّض إلى الإمام : إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن ، على حسب ما اقتضاه رأيه .
(4/429)

لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلاّ بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضاً ، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه ، ولا تقولوا : يا محمد ، ولكن : يا نبي الله ، ويا رسول الله ، مع التوقير [ و ] التعظيم والصوت المخفوض والتواضع . ويحتمل : لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم وكبيركم وفقيركم وغنيكم ، يسأله حاجة فربما أجابه وربما ردّه ، فإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة { يَتَسَلَّلُونَ } ينسلون قليلاً قليلاً . ونظير "تسلل" : "تدرّج وتدخل" : واللواذ : الملاوذة ، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا ، يعني : ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض . و { لِوَاذاً } حال ، أي : ملاوذين ، وقيل : كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيأذن له ، فينطلق الذي لم يؤذن له معه . وقرىء : "لواذاً" بالفتح [ فَلْيَحْذَرِ الذن يخالفون عَنْ أَمْرِهِ ] . يقال : خالفه إلى الأمر ، إذا ذهب إليه دونه ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } [ هود : 88 ] وخالفه عن الأمر : إذا صد عنه دونه . ومعنى { الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ } الذين يصدّون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون ، فحذف المفعول لأنّ الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه . الضمير في أمره لله سبحانه أو للرسول صلى الله عليه وسلم . والمعنى : عن طاعته ودينه { فِتْنَةً } محنة في الدنيا { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : فتنة قتل . وعن عطاء : زلازل وأهوال . وعن جعفر بن محمد : يسلط عليهم سلطان جائر .
(4/430)

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
أدخل { قَدْ } ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، وذلك أن { قَدْ } إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى "ربما" فوافقت "ربما" في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله :
فَإنْ تُمْسِ مَهْجُورَ الفِنَاءِ فَرُبَّمَا ... أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الْوُفُودِ وُفُودُ
ونحوه قول زهير :
أَخِي ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَه ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهْ
والمعنى : أنّ جميع ما في السموات والأرض مختصّة به خلقاً وملكاً وعلماً ، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها ، وسينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم وسيجازيهم حق جزائهم . والخطاب والغيبة في قوله : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات . ويجوز أن يكون { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } عاماً؛ و { يَرْجِعُونَ } للمنافقين ، والله أعلم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 770 ) " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النورِ أَعطِي من الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ فيما مضَى وفيما بقى " .
(4/431)

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
البركة : كثرة الخير وزيادته . ومنها : { تَبَارَكَ الله } [ الأعراف : 54 ] وفيه معنيان : تزايد خيره ، وتكاثر . أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله . والفرقان : مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل . أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ، ولكن مفروقاً ، مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال . ألا ترى إلى قوله : { وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ ونزلناه تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] وقد جاء الفرق بمعناه . قال :
وَمُشْرِكَيّ كَافِرٌ بِالْفَرْقِ ... وعن ابن الزبير رضي الله عنه : على عباده ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته ، كما قال : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] ، { قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } [ البقرة : 136 ] . والضمير في { لِيَكُونَ } لعبده أو للفرقان . ويعضد رجوعه إلى الفرقان قراءة ابن الزبير { للعالمين } للجنّ والإنس { نَذِيراً } منذراً أي مخوّفاً أو إنذاراً ، كالنكير بمعنى الإنكار . ومنه قوله تعالى : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } [ القمر : 16 ، 18 ، 21 ، 30 ] { الذى لَهُ } رفع على الإبدال من الذي نزل أو رفع على المدح ، أو نصب عليه . فإن قلت : كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت : ما فصل بينهما بشيء؛ لأنّ المبدل منه صلته نزل . و "ليكون" تعليل له ، فكأنّ المبدل منه لم يتمّ إلاّ به . فإن قلت : في الخلق معنى التقدير ، فما معنى قوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } كأنه قال : وقدّر كل شيء فقدّره؟ قلت : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعي فيه التقدير والتسوية ، فقدّره وهيأه لما يصلح له ، مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المسوّى الذي تراه ، فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير ، فقدّره لأمر مّا ومصلحة مطابقاً لما قدر له غير متجاف عنه ، أو سمي إحداث الله خلقاً لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت ، فإذا قيل : خلق الله كذا فهو بمنزلة قولك : أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدّره في إيجاده لم يوجده متفاوتاً . وقيل : فجعل له غاية ومنتهى . ومعناه : فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم .
(4/432)

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
الخلق بمعنى الافتعال ، كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } [ العنكبوت : 17 ] والمعنى : أنهم آثروا على عبادة الله سبحانه عبادة آلهة لا عجز أبين من عجزهم ، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا من أفعال العباد ، حيث لا يفتعلون شيئاً وهم يفتعلون ، لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحث والتصوير ، { وَلاَ يَمْلِكُونَ } أي : لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها أو جلب نفع إليها وهم يستطيعون ، وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع التي يقدر عليها العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلاّ الله أعجز .
(4/433)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{ قَوْمٌ ءاخَرُونَ } قيل : هم اليهود . وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وأبو فكيهة الرومي : قال ذلك النضر بن الحرث بن عبد الدار . "جاء" و "أتى" يستعملان في معنى فعل ، فيعديان تعديته ، وقد يكون على معنى : وردوا ظلماً ، كما تقول : جئت المكان . ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل . وظلمهم : أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب . والزور : أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه .
(4/434)

وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
{ أساطير الاولين } ما سطَّره المتقدمون من نحو أحاديث رستم واسفنديار ، جمع : أسطار أو أسطورة كأحدوثة { اكتتبها } كتبها لنفسه وأخذها ، كما تقول : استكب الماء واصطبه : إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه . وقرىء : "اكتُتبها" على البناء للمفعول . والمعنى : اكتتبها كاتب له ، لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده ، وذلك من تمام إعجازه ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار { اكتتبها } كما ترى . فإن قلت : كيف قيل : اكتتبها { فَهِىَ تملى عَلَيْهِ } وإنما يقال : أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أراد اكتتابها أو طلبه فهي تملى عليه . أو كتبت له وهو أمّي فهي تملى عليه : أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها : لأنّ صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب . وعن الحسن : أنه قول الله سبحانه يكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار . ووجهه أن يكون نحو قوله :
أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الْكِرَامَ وَأَن ... أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصَاً نَبَلاَ
وحق الحسن أن يقف على الأولين ، { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي دائماً ، أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس ، وحين يأوون إلى مساكنهم .
(4/435)

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
أي يعلم كل سرّ خفيّ في السموات والأرض ، ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم مع علمكم أنّ ما تقولونه باطل وزور ، وكذلك باطن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما تبهتونه به ، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه . فإن قلت : كيف طابق قوله : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } هذا المعنى؟ قلت : لما كان ما تقدّمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه ، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلاّ القادر على العقوبة ، أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبّاً ، ولكن صرف ذلك عنهم إنه غفور رحيم : يمهل ولا يعاجل .
(4/436)

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
وقعت اللام في المصحف مفصولة عن هذا خارجة عن أوضاع الخط العربي ، وخط المصحف سنة لا تغير . وفي هذا استهانة وتصغير لشأنه وتسميته بالرسول سخرية منهم وطنز ، كأنهم قالوا : ما لهذا الزاعم أنه رسول . ونحوه قول فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] أي : إن صحّ أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا { يَأْكُلُ الطعام } كما نأكل؛ ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد ، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش . ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك ، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا أيضاً فقالوا : وإن لم يكن مرفوداً بملك فليكن مرفوداً بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش . ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلاً له بستان يأكل منه ويرتزق كما الدهاقين والمياسير ، أو يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم . وأراد بالظالمين : إياهم بأعيانهم : وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا : وقرىء : "فيكون" بالرفع ، أو يكون له جنة ، بالياء ، ونأكل ، بالنون . فإن قلت : ما وجها الرفع والنصب في فيكون؟ قلت : النصب لأنه جواب "لولا" بمعنى "هلا" وحكمه حكم الاستفهام . والرفع على أنه معطوف على أنزل ، ومحله الرفع ، ألا تراك تقول : لولا ينزل بالرفع ، وقد عطف عليه : يلقى ، وتكون مرفوعين ، ولا يجوز النصب فيهما لأنهما في حكم الواقع بعد لولا ، ولا يكون إلاّ مرفوعاً . والقائلون هم كفار قريش النضر بن الحرث ، وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد ومن ضامهم { مَّسْحُورًا } سحر فغلب على عقله . أو ذا سحر ، وهو الرئة : عنوا أنه بشر لا ملك .
(4/437)

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال } أي : قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة . من نبوّة مشتركة بين إنسان وملك . وإلقاء كنز عليك من السماء وغير ذلك ، فبقوا متحيرين ضلالاً ، لا يجدون قولاً يستقرّون عليه . أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقاً إليه .
(4/438)

تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
تكاثر خير { الذى إِن شَاءَ } وهب لك في الدنيا { خَيْرًا } مما قالوا ، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور . وقرىء : "ويجعل" بالرفع عطفاً على جعل؛ لأن الشرط إذا وقع ماضياً ، جاز في جزائه الجزم ، والرفع ، كقوله :
وَإنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْئَلَةٍ ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
ويجوز في { وَيَجْعَل لَّكَ } إذا أدغمت : أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعاً . وقرىء بالنصب ، على أنه جواب الشرط بالواو .
(4/439)

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
{ بَلْ كَذَّبُواْ } عطف على ما حكي عنهم : يقول : بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة . ويجوز أن يتصل بما يليه ، كأنه قال : بل كذبوا بالساعة ، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة . السعير : النار الشديدة الاستعار . وعن الحسن رضي الله عنه : أنه اسم من أسماء جهنم { رَأَتْهُمْ } من قولهم : دورهم تترا ، أي : وتتناظر . ومن قوله صلى الله عليه وسلم :
( 771 ) " لا تراءى ناراهُمَا " كأن بعضها يرى بعضاً على سبيل المجاز . والمعنى : إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها . وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر . ويجوز أن يراد : إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم . الكرب مع الضيق ، كما أن الروح مع السعة ، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض . وجاء في الأحاديث : أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا . ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق ، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصاً ، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح ، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل ، قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع . وقيل : يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد . والثبور : الهلاك ، ودعاؤه أن يقال : واثبوراه ، أي : تعال يا ثبور فهذا حينك وزمانك { لاَّ تَدْعُواْ } أي يقال لهم ذلك : أو هم أحقاء بأن يقال لهم ، وإن لم يكن ثمة قول ومعنى { وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً ، إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدّته وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لهلاكهم .
(4/440)

قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
الراجح إلى الموصولين محذوف ، يعني : وعدها المتقون وما يشاؤونه . وإنما قيل : كانت ، لأن ما وعده الله وحده فهو في تحققه كأنه قد كان . أو كان مكتوباً في اللوح قبل أن برأهم بأزمنة متطاولة : أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم . فإن قلت : ما معنى قوله : { كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً } ؟ قلت : هو كقوله : { نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] فمدح الثواب ومكانه ، كما قال : { بِئْسَ الشراب وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا } [ الكهف : 29 ] قدّم العقاب ومكانه لأنّ النعيم لا يتمّ للمتنعم إلاّ بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة ، وأن لا تنغص ، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء والكراهة ، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء . والضمير في { كَانَ } لما يشاؤون . والوعد : الموعود ، أي : كان ذلك موعوداً واجباً على ربك إنجازه ، حقيقاً أن يسئل ويطلب ، لأنه جزاء وأجر مستحق . وقيل : قد سأله الناس والملائكة في دعواتهم : { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] ، { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ، { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ } [ غافر : 8 ] .
(4/441)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
يحشرهم . فيقول : كلاهما بالنون والياء ، وقرىء : "يحشرهم" ، بكسر الشين ، { وَمَا يَعْبُدُونَ } يريد : المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير . وعن الكلبي : الأصنام ينطقها الله . ويجوز أن يكون عاماً لهم جميعاً . فإن قلت : كيف صحّ استعمال { مَاْ } في العقلاء؟ قلت : هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم ، بدليل قولك - إذا رأيت شبحاً من بعيد - : ما هو؟ فإذا قيل لك : إنسان ، قلت حينئذٍ : من هو؟ ويدلك قولهم "من" لما يعقل . أو أريد به الوصف ، كأنه قيل : ومعبوديهم ، ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد؟ ما زيد : تعني : أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟ فإن قلت : ما فائدة أنتم وهم؟ وهلا قيل أضللتم عبادي هؤلاء ، أم هم ضلّوا السبيل؟ قلت : ليس السؤال عن الفعل ووجوده ، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب ، وإنما هو عن متوليه ، فلا بدّ من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام ، حتى يعلم أنه المسؤول عنه ، فإن قلت : فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه ، فما فائدة هذا السؤال؟ قلت : فائدته أن يجيبوا بما أجابوا به ، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم ، فيبهتوا وينخذلوا وتزيد حسرتهم ، ويكون ذلك نوعاً مما يلحقهم من غضب الله وعذابه ، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفاً للمكلفين . وفيه كسر بيّن لقول من يزعم أن الله يضلّ عباده على الحقيقة ، حيث يقول للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتموهم ، أم هم ضلوا بإنفسهم؟ فيتبرؤون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ، ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر ، سبب الكفر ونسيان الذكر ، وكان ذلك سبب هلاكهم ، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه ، فهم لربهم الغنيّ العدل أشدّ تبرئة وتنزيهاً منه ، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها . وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة ، فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله : { يُضِلُّ مَن يَشَاء } [ الرعد : 27 ] ، [ النحل : 93 ] ، [ فاطر : 8 ] ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم . والمعنى : أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق؟ أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وضل : مطاوع "أضله" وكان القياس : ضلّ عن السبيل ، إلاّ أنهم تركوا الجار كما تركوه في هذه الطريق . والأصل : إلى الطريق وللطريق . وقولهم : أضلَّ البعير ، في معنى : جعله ضالاً ، أي ضائعاً ، لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه ، قيل : أضله ، سواء كان منه فعل أو لم يكن { سبحانك } تعجب منهم ، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون ، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه .
(4/442)

أو نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدّسون الموسومون بذلك . فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد ، وأن يكون له نبيّ أو ملك أو غيرهما ندّاً ، ثم قالوا : ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك ، فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك . أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار . قال الله تعالى : { فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان } [ النساء : 76 ] يريد الكفرة وقال : { والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } [ البقرة : 257 ] وقرأ أبو جعفر المدني : نتخذ ، على البناء للمفعول . وهذا الفعل أعني "اتخذ" يتعدى إلى مفعول واحد ، كقولك : اتخذ ولياً وإلى مفعولين كقولك : اتخذ فلاناً ولياً . قال الله تعالى : { أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض } [ الأنبياء : 1 ] وقال : { واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] فالقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو { مِنْ أَوْلِيَاءَ } والأصل : أن نتخذ أولياء ، فزيدت { مِن } لتأكيد معنى النفي ، والثانية : من المتعدي إلى مفعولين . فالأول ما بني له الفعل . والثاني : { مِنْ أَوْلِيَاءَ } . ومن للتبعيض ، أي : لا نتخذ بعض أولياء . وتنكير { أَوْلِيَاءَ } من حيث أنهم أولياء مخصوصون وهم الجنّ والأصنام . والذكر : ذكر الله والإيمان به ، أو القرآن والشرائع . والبور : الهلاك . يوصف به الواحد والجمع : ويجوز أن يكون جمع بائر ، كعائذ وعوذ .
(4/443)

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة ، وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ونحوها قوله تعالى : { يََأَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جاءكم بشير ونذير } [ المائدة : 19 ] وقول القائل :
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
وقرىء : "يقولون" بالتاء والياء . فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم أنهم آلهة . ومعنى من قرأ بالياء : فقد كذبوكم بقولهم : { سبحانك مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء } [ الفرقان : 18 ] . فإن قلت : هل يختلف حكم الباء مع التاء والياء؟ قلت : إي والله ، وهي مع التاء كقوله : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق } [ ق : 5 ] والجار والمجرور بدل من الضمير ، كأنه قيل : فقد كذبوا بما تقولون : وهي مع الياء كقولك : كتبت بالقلم . وقرىء : "يستطيعون" بالتاء والياء أيضاً . يعني : فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم . وقيل : الصرف : التوبة وقيل : الحيلة ، من قولهم : إنه ليتصرف ، أي : يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ، أو أن يحتالوا لكم . [ { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ ، نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } ] الخطاب على العموم للمكلفين ، والعذاب الكبير لاحقٌ بكل من ظلم ، والكافر ظالم : لقوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والفاسق ظالم . لقوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } [ الحجرات : 11 ] . وقرىء : "يذقه" بالياء . وفيه ضمير الله ، أو ضمير مصدر يظلم .
(4/444)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
الجملة بعد "إلاّ" صفة لموصوف محذوف . والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلاّ آكلين وماشين . وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور . أعني من المرسلين ونحوه قوله عزّ من قائل : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] على معنى : وما منا أحد . وقرىء : "ويمشون" على البناء للمفعول ، أي : تمشيهم حوائجهم أو الناس . ولو قرىء : "يمشون" ، لكان أوجه لولا الرواية . وقيل : هو احتجاج على من قال : { مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق } [ الفرقان : 7 ] . { فِتْنَةً } أي محنة وابتلاء . وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه ، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل ، يقول : وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض . والمعنى : أنه أبتلى المرسلين [ منهم ] بالمرسل إليهم ، وبمناصبتهم لهم العداوة ، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف ، وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل ، ونحوه { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } [ آل عمران : 186 ] وموقع { أَتَصْبِرُونَ } بعد ذكر الفتنة موقع { أَيُّكُمْ } بعد الابتلاء في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 27 ] ، [ الملك : 2 ] { بَصِيراً } عالماً بالصواب فيما يبتلي به وغيره فلا يضيقنّ صدرك ، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين . وقيل : هو تسلية له [ عليه الصلاة والسلام ] عما عيروه به من الفقر ، حين قالوا : أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة ، وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء؛ لينظر : هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته : يغني من يشاء ويفقر من يشاء . وقيل : جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا ، أو ممزوجة بالدنيا؛ فإنما بعثناك فقيراً ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي . وقيل : كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون : إن إسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب ، وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالاً بالسابقة ، فهو افتتان بعضهم ببعض .
(4/445)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
أي لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة . أو لا يخافون لقاءنا بالشر . والرجاء في لغة تهامة : الخوف ، وبه فسر قوله تعالى : { لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقياً . . اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمداً صادقاً حتى يصدقوه . أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه . ولا يخلو : إما أن يكونوا عالمين بأن الله لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء ، وأن الله لا يصحّ أن يرى . وإنما علقوا إيمانهم عالمين بأن الله لا يكون . وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم ، كما فعل قوم موسى حين قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة . فإن قلت : ما معنى { فِى أَنفُسِهِمْ } ؟ قلت : معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه . كما قال : { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه } [ غافر : 56 ] . { وَعَتَوْا } وتجاوزوا الحدّ في الظلم . يقال : عتا علينا فلان . وقد وصف العتوّ بالكبير ، فبالغ في إفراطه يعني أنهم لم يَجْسروا على هذا القول العظيم ، إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتوّ ، واللام جواب قسم محذوف . وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية . وفي أسلوبها قول القائل :
وَجَارَةُ جَسَّاسٍ أَبَأَنَا بِنَابِهَا ... كُلَيْباً غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَوَاؤُهَا
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب . ألا ترى أن المعنى : ما أشدّ استكبارهم ، وما أكبر عتوّهم ، وما أغلى ناباً بواؤها كليب .
(4/446)

يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
{ يَوْمَ يَرَوْنَ } منصوب بأحد شيئين : إما بما دلّ عليه { لاَ بشرى } أي : يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها . ويومئذ للتكرير وإما بإضمار "اذكر" أي : اذكر يوم يرون الملائكة ثم قال : { لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ } . وقوله ( للمجرمين ) : إما ظاهر في موضع ضمير وإما لأنه عام فقدتنا ولهم بعمومه وقوله : { حِجْراً مَّحْجُوراً } ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو : معاذ الله ، وقعدك الله ، وعمرك الله . وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة ، أو نحو ذلك . يضعونها موضع الاستعاذة . قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل : أتفعل كذا وكذا ، فيقول : حجراً ، وهي من حجره إذا منعه؛ لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى : أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً . ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن ، تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد ، كما كان قعدك وعمرك كذلك ، وأنشدت لبعض الرّجاز :
قالَتْ وَفِيهَا حَيْدَةٌ وَذُعْرٌ ... عُوذٌ بِرَبِّي مِنْكُمُ وَحِجْرُ
فإن قلت : فإذ قد ثبت أنه من باب المصادر ، فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت : جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر ، كما قالوا . ذيل ذائل ، والذيل : الهوان . وموت مائت . والمعنى في الآية : أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه ، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم ، لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون ، قالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدوّ الموتور وشدّة النازلة . وقيل : هو من قول الملائكة ومعناه : حراماً محرماً عليكم الغفران والجنة والبشرى ، أي : جعل الله ذلك حراماً عليكم .
(4/447)

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
ليس ههنا قدوم ولا ما يشبه القدوم ، ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، وقرى ضيف ، ومنّ على أسير ، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه ، فقدم إلى أشيائهم ، وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق ، ولم يترك لها أثراً ولا عثيراً ، والهباء : ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيه الغبار . وفي أمثالهم : أقل من الهباء { مَّنثُوراً } صفة للهباء ، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده ، وأنه لا ينتفع به ، ثم بالمنثور منه ، لأنك تراه منتظماً مع الضوء ، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب . ونحوه قوله : { كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } [ الفيل : 5 ] لم يكف أن شبههم بالعصف حتى جعله مؤوفاً بالأكال ولا أن شبه عملهم بالهباء حتى جعله متناثراً ، أو مفعول ثالث لجعلناه جامعاً لحقارة الهباء والتناثر ، كقوله : { كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } [ البقرة : 65 ] ، [ الأعراف : 166 ] أي جامعين للمسخ والخسء . ولام الهباء واو ، بدليل الهبوة .
(4/448)

أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
المستقرّ : المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرّين يتجالسون ويتحادثون . والمقيل : المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهنّ وملامستهنّ ، كما أنّ المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب . وروي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار . وفي معناه قوله تعالى : { إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ } [ يس : 55 - 56 ] قيل في تفسير الشغل : افتضاض الأبكار ، ولا نوم في الجنة . وإنما سمي مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلاً على طريق التشبيه . وفي لفظ الأحسن : رمز إلى ما يتزين له مقيلهم . من حسن الوجوه وملاحة الصور ، إلى غير ذلك من التحاسين والزين .
(4/449)

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
وقرىء : { تَشَقَّقُ } والأصل : تتشقق ، فحذف بعضهم التاء ، وغيره أدغمها . ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها ، جعل الغمام كأنه الذي تشقّق به السماء ، كما تقول : شقّ السنام بالشفرة وانشق بها . ونظيره قوله تعالى : { السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] . فإن قلت : أي فرق بين قولك : انشقت الأرض بالنبات ، وانشقت عن النبات؟ قلت : معنى انشقت به : أن الله شقها بطلوعه فانشقت به . ومعنى : انشقت عنه : أن التربة ارتفعت عنه عند طلوعه . والمعنى : أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها ، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد ، وروي : تنشق سماء سماء ، وتنزل الملائكة إلى الأرض . وقيل : هو غمام أبيض رقيق ، مثل الضبابة ، ولم يكن إلاّ لبني إسرائيل في تيههم . وفي معناه قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة } [ البقرة : 210 ] . وقرىء : وننزل الملائكة ، وتنزل الملائكة ، ونزل الملائكة ، ونزلت الملائكة ، وأنزل الملائكة ، وَنُزِلَ الملائكة ، ونزّلَ الملائكة ، على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل : قراءة أهل مكة .
(4/450)

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
الحق : الثابت؛ لأن كل ملك يزول يومئذ ويبطل ، ولا يبقى إلاّ ملكه .
(4/451)

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
عضّ اليدين والأنامل ، والسقوط في اليد ، وأكل البنان ، وحرق الأسنان والأرم ، وقرعها : كنايات عن الغيظ والحسرة ، لأنها من روادفها ، فيذكر الرادفة ويدلّ بها على المردوف ، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ، ما لا يجده عند لفظ المكنى عنه . وقيل :
( 772 ) نزلت في عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس ، وكان يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين . ففعل وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال : صبأت يا عقبة؟ قال : لا ، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي ، فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي ، فقال : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه ، فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا ألقاك خارجاً مِنْ مكة إلاّ علوتُ رأَسَك بالسيفِ" ، فقتلَ يومَ بدرٍ : أمرَ علياً رضي الله عنه بقتله . وقيل : قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصاري وقال : يا محمد ، إلى من السبية قال : إلى النار . وطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياً بأحد ، فرجع إلى مكة فمات . واللام في { الظالم } يجوز أن تكون للعهد ، يراد به عقبة خاصة . ويجوز أن تكون للجنس فيتناول عقبة وغيره . تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقاً واحداً وهو طريق الحق ولم يتشعب به طرق الضلالة والهوى . أو أراد أني كنت ضالاً لم يكن لي سبيل قط ، فليتني حصلت بنفسي في صحبة الرسول سبيلاً ، وقرىء : "يا ويلتي" بالياء ، وهو الأصل؛ لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته ، ويقول لها : تعالي فهذا أوانك . وإنما قلبت الياء ألفاً كما في صحارى ، ومدارى . فلان : كناية عن الأعلام ، كما أن الهن كناية عن الأجناس فإن أريد بالظالم عقبة ، فالمعنى : ليتني لم أتخذ أبياً خليلاً ، فكنى عن اسمه . وإن أريد به الجنس ، فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم لا محالة ، فجعله كناية عنه { عَنِ الذكر } عن ذكر الله ، أو القرآن ، أو موعظة الرسول . ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق ، وعزمه على الإسلام . والشيطان : إشارة إلى خليله ، سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضلّ الشيطان ، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة ، أو أراد إبليس ، وأنه هو الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول ، ثم خذله . أو أراد الجنس . وكل من تشيطن من الجنّ والإنس . ويحتمل أن يكون { وَكَانَ الشيطان } حكاية كلام الظالم ، وأن يكون كلام الله . اتخذت : يقرأ على الإدغام والإظهار والإدغام أكثر .
(4/452)

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
الرسول : محمد صلى الله عليه وسلم وقومه قريش ، حكى الله عنه شكواه قومه إليه . وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية وتخويف لقومه؛ لأن الأنبياء كانوا إذا التجئوا إليه وشكوا إليه قومهم : حلّ بهم العذاب ولم ينظروا .
(4/453)

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
ثم أقبل عليه مسلياً ومواسياً وواعداً النصرة عليهم ، فقال : { وكذلك } كان كل نبيّ قبلك مبتلى بعداوة قومه . وكفاك بي هادياً إلى طريق قهرهم والانتصار منهم . وناصراً لك عليهم مهجوراً : تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 773 ) " من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفاً لم يتعاهده ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول : يا رب العالمين ، عبدك هذا اتخذني مهجوراً ، اقضي بيني وبينه " ، وقيل : هو من هجر ، إذا هذي ، أي : جعلوه مهجوراً فيه . فحذف الجار وهو على وجهين ، أحدهما : زعمهم أنه هذيان وباطل وأساطير الأوّلين . والثاني : أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه ، كقوله تعالى : { اَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر ، كالمجلود والمعقول . والمعنى : اتخذوه هجراً والعدوّ : يجوز أن يكون واحداً وجمعاً . كقوله : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى } [ الشعراء : 77 ] وقيل المعنى : وقال الرسول يوم القيامة .
(4/454)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{ نَزَّلَ } ههنا بمعنى أنزل لا غير ، كخبر بمعنى أخبر ، وإلاّ كان متدفعاً . وهذا أيضاً من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه . قالوا : هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وما له أنزل على التفاريق . والقائلون : قريش . وقيل : اليهود . وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته؛ لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقاً . وقوله : { كذلك } جواب لهم ، أي : كذلك أنزل مفرّقاً . والحكمة فيه : أن نقوّي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه؛ لأنّ المتلقن إنما يقوى قبله على حفظ العلم شيئاً بعد شيء ، وجزأ عقيب جزء . ولو ألقى عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا بحفظه ، والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام ، حيث كان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بدّ من التلقن والتحفظ ، فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة . وقيل : في ثلاث وعشرين . وأيضاً : فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين ، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرّقاً . فإن قلت : ذلك في" كذلك" يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه ، والذي تقدّم هو إنزاله جملة واحدة ، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقاً؟ قلت : لأنّ قولهم : لولا أنزل عليه جملة : معناه : لم أنزل مفرّقاً؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض : أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه ، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور ، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة ، ثم قالوا : هلا نزل [ عليه ] جملة واحدة ، كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته { وَرَتَّلْنَاهُ } معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك ، كأنه قال : كذلك فرّقناه ورتلناه . ومعنى ترتيله : أن قدره آية بعد آية ، ووقفه عقيب وقفه ، ويجوز أن يكون المعنى : وأمرنا بترتيل قراءته ، وذلك قوله : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] أي اقرأه بترسل وتثبت . ومنه حديث عائشة رضي الله عنها في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم :
( 774 ) " لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها " وأصله : الترتيل في الأسنان : وهو تفليجها . يقال : ثغر رتل ومرتل ، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه . وقيل : هو أن نزله مع كونه متفرقاً على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة . ولم يفرقه في مدة متقاربة { وَلاَ يَأْتُونَكَ } بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ، ومأدّى من سؤالهم .
(4/455)

ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدلّ عليه الكلام ، وضع موضع معناه فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت ، كما قيل : معناه كذا وكذا . أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون : هلا كانت هذه صفتك وحالك ، نحو : أن يقرن بك ملك ينذر معك ، أو يلقى إليك كنز ، أو تكون لك جنة ، أو ينزل عليك القرآن جملة ، إلاّ أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه ، وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته ، يعني : أن تنزيله مفرقاً وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كما نزل شيء منها : أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة ويقال لهم جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه ، كأنه قيل لهم : إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته ، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم ، لعلمتم أن مكانكم شرّ من مكانه وسبيلكم أضلّ من سبيله . وفي طريقته قوله : { قل هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } الآية [ المائدة : 60 ] . ويجوز أن يراد بالمكان : الشرف والمنزلة ، وأن يراد الدار والمسكن ، كقوله : { أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 775 ) " يُحشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ على ثلاثِ أثلاثٍ : ثلثٌ على الدوابِ وثلثٌ على وجوههِم ، وثلثٌ على أقدامِهِم ينسلونَ نسلاً " .
(4/456)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
الوزارة : لا تنافي النبوّة ، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء يؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضاً . والمعنى : فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم ، كقوله : { اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي فضرب فانفلق . أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أوّلها وآخرها ، لأنهما المقصود بطولها أعني : إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم . وعن عليّ رضي الله عنه فدمّرتهم . وعنه فدمّراهم . وقرىء : "فدمّرانهم" ، على التأكيد بالنون الثقيلة .
(4/457)

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
كأنهم كذبوا نوحاً ومن قبله من الرسل صريحاً . أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيب للجميع أو لم يروا بعثة الرسل أصلاً كالبراهمة { وجعلناهم } وجعلنا إغراقهم أو قصتهم { للظالمين } إمّا أن يعني بهم قوم نوح ، وأصله : وأعتدنا لهم ، إلاّ أنه قصد تظليمهم فأظهر . وإمّا إن يتناولهم بعمومه .
(4/458)

وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
عطف عاداً على { هُمْ } في جعلناهم أو على الظالمين ، لأن المعنى : ووعدنا الظالمين . وقرىء : "وثمود" على تأويله القبلة . وأما المنصرف فعلى تأويل الحيّ أو لأنه اسم الأب الأكبر . قيل : في أصحاب الرس : كانوا قوماً من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش ، فبعث الله إليهم شعيباً فدعاهم إلى الإسلام . فتمادوا في طغيانهم وفي إيذانه ، فبيناهم حول الرس وهو البئر غير المطوية . عن أبي عبيدة : انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم . وقيل : الرس قرية بفلج اليمامة ، قتلوا نبيهم فهلكوا ، وهم بقية ثمود قوم صالح . وقيل : هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ، كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير ، سميت لطول عنقها ، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح ، وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم ، إن أعوزها الصيد ، فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا ، وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس : هو الأخدود ، وقيل : الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار . وقيل : كذبوا نبيهم ورسوه في بئر ، أي : دسوه فيها { بَيْنَ ذلك } أي بين ذلك المذكور ، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها ب ( ذلك ) ، ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ثم يقول : فذلك كيت وكيت على معنى : فذلك المحسوب أو المعدود { ضَرَبْنَا لَهُ الامثال } بينا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين ، ووصفنا لهم ما أجروا إليه من تكذيب الأنبياء وجرى عليهم من عذاب الله وتدميره . والتتبير : التفتيت والتكسير . ومنه : التبر ، وهو كسار الذهب والفضة والزجاج . و { وَكُلاًّ } الأوّل منصوب بما دلّ عليه { ضَرَبْنَا لَهُ الامثال } وهو : أنذرنا . أو : حذرنا . والثاني : بتبرنا ، لأنه فارغ له .
(4/459)

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
أراد بالقرية "سدوم" من قرى قوم لوط ، وكانت خمساً : أهلك الله تعالى أربعاً بأهلها وبقيت واحدة . ومطر السوء : الحجارة ، يعني أن قريشاً مرّوا مراراً كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء { أَفَلَمْ يَكُونُواْ } في مرار مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ويذكرون { بَلْ كَانُواْ } قوماً كفرة بالبعث لا يتوقعون { نُشُوراً } وعاقبة ، فوضع الرجاء موضع التوقع ، لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن فمن ثم لم ينظروا ولم يذكروا ، ومرّوا بها كما مرّت ركابهم . أو لا يأملون نشوراً كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم ، أو لا يخافون ، على اللغة التهامية .
(4/460)

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
{ إِن } الأولى نافية ، والثانية مخففة من الثقيلة . واللام هي الفارقة بينهما . واتخذه هزواً : في معنى استهزأ به ، والأصل : اتخذه موضع هزؤ ، أو مهزوءاً به { أهذا } محكى بعد القول المضمر . وهذا استصغار ، و { بَعَثَ الله رَسُولاً } وإخراجه في معرض التسليم والإقرار ، وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء ، ولو لم يستهزؤا لقالوا : أهذا الذي زعم أو ادّعى أنه مبعوث من عند الله رسولاً ، . وقولهم : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم ، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم ، و { لَوْلاَ } في مثل هذالكلام جار من حيث المعنى - لا من حيث الصنعة - مجرى التقييد للحكم المطلق { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدّة الإمهال ، ولا بدّ للوعيد أن يلحقهم فلا يغرّنهم التأخير . وقوله : { مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } كالجواب عن قولهم { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } لأنه نسبة لرسول الله إلى الضلال من حيث لا يضلّ غيره إلاّ من هو ضال في نفسه . ويروي أنه من قول أبي جهل لعنه الله .
(4/461)

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
من كان في طاعة الهوى في دينه يتبعه في كل ما يأتي ويذر لا يتبصر دليلاً ولا يصغي إلى برهان . فهو عابد هواه وجاعله آلهة ، فيقول لرسوله هذا الذي لا يرى معبوداً إلاّ هواه كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام وتقول لا بدّ أن تسلم شئت أو أبيت - ولا إكراه في الدين؟ وهذا كقوله : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] ، { لَّسْتَ عَلَيْهِم بمسيطر } [ الغاشية : 22 ] ويروى أنّ الرجل منهم كن يعبد الحجر ، فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر . ومنهم الحارث بن قيس السهمي .
(4/462)

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
أم هذه منقطعة ، معناه : بل أتحسب كأن هذه المذمة أشدّ من التي تقدّمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول ، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذناً ولا إلى تدبره عقلاً ، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلال ، ثم أرجح ضلالة منها . فإن قلت : لم أخر هواه والأصل قولك : اتخذ الهوى إلها؟ قلت : ما هو إلاّ تقديم المفعول الثاني على الأوّل للعناية ، كما تقول : علمت منطلقاً زيداً؛ لفضل عنايتك بالمنطلق . فإن قلت : ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت : كان فيهم من لم يصدّه عن الإسلام إلاّ داء واحد : وهو حب الرياسة ، وكفى به داء عضالاً . فإن قلت : كيف جُعلوا أضلّ من الإنعام؟ قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرّها "وتهتدي لمراعيها ومشاربها" . وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشدّ المضارّ والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنيّ والعذب الروي .
(4/463)

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{ أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ } ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته ، ومعنى مدّ الظل : أن جعله يمتدّ وينبسط فينتفع به الناس { وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } أي لاصقاً بأصل كل مظلّ من جبل وبناء وشجرة . غير منبسط فلم ينتفع به أحد : سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً ، ومعنى كون الشمس دليلاً : أنّ الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل ، من كونه ثابتاً في مكان [ و ] زائلاً ، ومتسعاً ومتقلصاً ، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك . وقبضه إليه : أنه ينسخه بضح الشمس { يَسِيراً } أي على مهل . وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر ، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً . فإن قلت : ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت : موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة : كان الثاني أعظم من الأوّل ، والثالث أعظم منهما ، تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت . ووجه آخر : وهو أنه مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ، ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فيناناً ما في أديمه جوب لعدم النير ، ولو شاء لجعله ساكناً مستقرّاً على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل ، أي : سلطها عليه ونصبها دليلاً متبوعاً له كما يتبع الدليل في الطريق ، فهو يزيد بها وينقص ، ويمتدّ ويتقلص ، ثم نسخه بها فقبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسير . ويحتمل أن يريد : قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تبقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء إسبابه ، وقوله : قبضناه إلينا : يدلّ عليه ، وكذلك قوله يسيراً ، كما قال : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ ق : 44 ] .
(4/464)