تفسير القرطبي
القرطبي ج 19

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء التاسع عشر أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الجن مكية في قول الجميع. وهي ثمان وعشرون آية قوله تعالى: قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا (1) يهدى إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (2) وإنه تعالى جد ربنا ما أتخذ صاحبة ولا ولدا (3) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " قل أوحى إلي " أي قل يا محمد لامتك: أوحى الله إلي على لسان جبريل " أنه استمع " إلي " نفر من الجن " وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه. هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي. وقرأ ابن أبي عبلة " أحى " (1) على الاصل، يقال: أوحى إليه ووحى، فقلبت الواو همزة، ومنه قوله تعالى: " وإذا الرسل أقتت " [ المرسلات: 11 ] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح (2) وإسادة و " إعاء أخيه " ونحوه. الثانية - واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم، لقوله تعالى: " استمع "، وقوله تعالى: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " [ الاحقاف: 29 ]. وفي صحيح مسلم والترمذي (3) عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاصول (وحى)، والصواب ما أثبتناه وهو موافق لما جاء في (تاج العروس: وحى) قال: وقرأ جؤية الاسدي: (قل أحى إلي) ولم ينسب القراءة لابن أبي عبلة. (2) لفظ (إشاح) ساقط من الاصل المطبوع. (3) اللفظ لمسلم وأما الترمذي ففي لفظه زيادة. (*)
[ 2 ]
على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم ؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب ! قالوا: ما ذاك إلا من شئ حدث، فاضربوا مشارق الارض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الارض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة (1) عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا " إنا سمعنا قرآنا عجبا (2). يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن ". رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قول الجن لقومهم " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " قال: لما رأوه يصلى وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال (3): تعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم: " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " [ الجن: 19 ]. قال: هذا حديث حسن صحيح، ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا. وقيل لهم شياطين كما قال: " شياطين الانس والجن " [ الانعام: 112 ] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله. وفي الترمذي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيها (4)، فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لابليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا الامر (5) إلا من (6) أمر قد حدث في الارض ! (1) كذا في ا، ح، ط وهو الصواب. (2) في ح: (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى قرآنا عجبا).. الخ. (3) في ح: (ويسجدون معه..). (4) كلمة (فيها) ساقطة من الاصل المطبوع. (5) كلمة (الامر) ساقطة من الاصل المطبوع. (6) في ط (عن) في موضع (من). (*)
[ 3 ]
فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحدث (1) الذي حدث في الارض. قال: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين. وفي رواية السدي: أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال: ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة. فبعث نفرا من الجن، قيل: كانوا سبعة. وقيل: تسعة منهم زوبعة. وروى عاصم عن زر قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الثمالي: أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وأقواهم شوكة وهم عامة جنود إبليس. وروى أيضا عاصم عن زر: أنهم كانوا سبعة نفر، ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين. وحكى جويبر عن الضحاك: أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين (قرية باليمن غير التي بالعراق) (2). وقيل: إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى. وقد مضى بيان هذا في سورة (الاحقاف) (3). قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرأ باسم ربك " [ العلق: 1 ] وقد مضى في سورة " الاحقاف " التعريف باسم النفر من الجن، فلا معنى لاعادة ذلك. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت، روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الاودية والشعاب، فقلنا استطير (4) أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجئ من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله ! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: [ أتاني داعي الجن فذهبت معه (1) كلمة (الحدث) ساقطة من الاصل المطبوع. (2) لم نجد نصيبين التي ذكرها المؤلف في معجم ما استعجم للبكري ولا في معجم البلدان لياقوت ولا فيما نقله صاحب تاج العروس عن ياقوت. (3) راجع ج 16 ص 211 (4) في التاج: استطير فلان: ذعر. (*)
[ 4 ]
فقرأت عليهم القرآن ] فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم الجن) قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس، لانه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقد قيل: إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين: إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. قال البيهقي: الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعى الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود قال البيهقي: والاحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم. قال: وقد روى من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ، وقد مضى هذا المعنى في سورة " الاحقاف " والحمد لله. روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ " فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب (1) فخط علي خطا فقال: (لا تجاوزه) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون (2) الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالارض حتى ما أراهم، فلما انفتل إلي قال: " أردت أن تأتيني " ؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: " ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر ". (1) شعب أبي دب يقال فيه مدفن آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم. (2) يحدرون الحجارة بضم الدال وكسرها: يحطونها من علو إلى سفل. (*)
[ 5 ]
قال عكرمة: وكانوا اثنى عشر ألفا من جزيرة الموصل. وفي رواية: انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط (1) وكأن وجوههم المكاكي (2)، فقالوا: ما أنت ؟ قال: " أنا نبي الله " قالوا: فمن يشهد لك على ذلك ؟ قال: " هذه الشجرة " فقال: " يا شجرة " فجاءت تجر عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: [ على ماذا تشهدين ] قالت: أشهد أنك رسول الله. فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة، لها قعاقع حتى عادت كما كانت. ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال: [ هل من وضوء ] قال: لا، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ. فقال: [ هل هو إلا تمر وماء ] فتوضأ منه. قد الثالثة - قد مضى الكلام في الماء في سورة " الحجر " (3) وما يستنجى به في سورة " براءة " (4) فلا معنى للاعادة. الرابعة - واختلف أهل العلم، في أصل الجن، فروى إسمعيل عن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والانس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين، وهم يؤمنون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة، على حسب الاختلاف في أصلهم. فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان: أحدهما - وهو قول الحسن يدخلونها. الثاني - وهو رواية مجاهد (1) الزط: جنس من الهنود لونهم ضارب إلى السواد. (2) المكاكي: جمع مكوك وهو طاس يشرب فيه أعلاه ضيق ووسطه واسع ومكيال معروف لاهل العراق بهذه الصفة أيضا. ولعله من باب قول العرب: ضرب مكوك رأسه على التشبيه. (3) راجع ج 10 ص 15 فما. (4) راجع ج 8 ص 259 فما. (*)
[ 6 ]
لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. حكاه الماوردي. وقد مضى في سورة " الرحمن " (1) عند قوله تعالى: " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " [ الرحمن: 56 ] بيان أنهم يدخلونها. الخامسة - قال البيهقي في روايته: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال: [ لكم كل عظم ] دليل على أنهم يأكلون ويطعمون. وقد أنكر جماعة من كفرة الاطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد (2) سبحانه، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله. وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة. وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات، ففي الموطأ: أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله... الحديث، وفيه: فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها. وذكر الحديث. وفي الصحيح أنه عليه السلام قال: " إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ". وقال: " اذهبوا فادفنوا صاحبكم " (3) وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة " (4) وبيان التحريج عليهن. وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة، لقوله في الصحيح: " إن بالمدينة جنا قد أسلموا ". وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها. قلنا: هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها، لانه (5) لم يعلل بحرمة المدينة، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها، وإنما علل بالاسلام، وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقى: [ وكانوا من جن الجزيرة ]، وهذا بين يعضده قوله: [ ونهى عن عوامر البيوت ] وهذا عام. وقد مضى في سورة (البقرة) القول في هذا فلا معنى للاعادة. (1) راجع ج 17 ص 181. (2) الواحد الواحد: كذا في بعض الاصول وفي بعضها بلا تكرار. وفي الشوكاني: - إنما الواحد الله سبحانه). (3) هذا ينبغي أن يكون قبل الحديث السابق له كما في ابن العربي. (4) راجع ج 1 ص 315 (5) في هامش ح: (لا لانه). (*)
[ 7 ]
قوله تعالى: " فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا " أي في فصاحة كلامه. وقيل: عجبا في بلاغة مواعظه. وقيل: عجبا في عظم بركته. وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله. وقيل: يعنون عظيما. " يهدي إلى الرشد " أي إلى مراشد الامور. وقيل: إلى معرفة الله تعالى، و " يهدي " في موضع الصفة أي هاديا. " فآمنا به " أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله " ولن نشرك بربنا أحدا " أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه، لانه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر، ثم رمى الجن بالشهب. وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر، لانه المتفرد بالربوبية. وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن. وقوله تعالى: " استمع نفر من الجن " أي استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله. ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه. والنفر الرهط، قال الخليل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. وقرأ عيسى الثقفي " يهدي إلى الرشد " بفتح الراء والشين. قوله تعالى: " وأنه تعالى جد ربنا " كان علقمة ويحيى والاعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي ينصبون " أن " في جميع السورة في اثنى عشر موضعا، وهو (1): " أنه تعالى جد ربنا "، " وأنه كان يقول "، " وأنا ظننا "، " وأنه كان رجال "، " وأنهم ظنوا "، " وأنا لمسنا السماء "، " وأنا كنا نقعد "، " وأنا لا ندري "، " وأنا منا الصالحون "، " وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض "، " وأنا لما سمعنا الهدى "، " وأنا منا المسلمون " عطفا على قوله: " أنه استمع نفر "، " وأنه استمع " لا يجوز فيه إلا الفتح، لانها في موضع اسم فاعل " أوحى " فما بعده معطوف عليه. وقيل: هو محمول على الهاء في " آمنا به "، أي وب‍ " - أنه تعالى جد ربنا " وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع " أن ". وقيل: المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله: " فقالوا إنا سمعنا " لانه كله (2) من كلام الجن. وأما أبو جعفر (1) كلمة (وهو) موجود في الاصول ح، و، ط، ص وليست موجودة في الاصل ا. والضمير راجع إلى النصب. (2) كلمة (كله) ساقطة من ح. (*)
[ 8 ]
وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع، وهي قوله تعالى: " وأنه تعالى جد ربنا "، " وأنه كان يقول "، " وأنه كان رجال "، قالا: لانه من الوحي، وكسرا ما بقي، لانه من كلام الجن. وأما قوله تعالى: " وأنه لما قام عبد الله " [ الجن: 19 ]. فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة " أنه استمع نفر من الجن "، " وأن لو استقاموا " " وأن المساجد لله "، " وأن قد أبلغوا ". وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول، نحو قوله تعالى: " فقالوا إنا سمعنا " و " قال (1) إنما أدعوا ربي " [ الجن: 20 ] و " قل إن أدري " [ الجن: 25 ]. و " قل إني لا أملك " [ الجن: 21 ]. وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء، نحو قوله تعالى: " فإن له نار جهنم " [ الجن: 23 ] و " فإنه يسلك من بين يديه " [ الجن: 27 ]. لانه موضع ابتداء. قوله تعالى: " وأنه تعالى جد ربنا " (2) الجد في اللغة: العظمة والجلال، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا، أي عظم وجل. فمعنى: " جد ربنا " أي عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة. وعن مجاهد أيضا: ذكره. وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا: غناه. ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود أي محظوظ، وفي الحديث: [ ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] قال أبو عبيدة والخليل: أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرته. الضحاك: فعله. وقال القرظي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والاخفش: ملكه وسلطانه. وقال السدي: أمره. وقال سعيد بن جبير: " وأنه تعالى جد ربنا " أي تعالى ربنا. وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الاب، ويكون هذا من قول الجن. وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد، وإنما قالته الجن للجهالة، فلم يؤاخذوا به. وقال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى، إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة " جد " بكسر الجيم: على ضد الهزل. وكذلك (1) كذا في الاصل على قراءة نافع. وقراءة حفص (قل). (2) كذا في ا، ح، ط. وفي الطبعة الاولى: (جد ربنا). (*)
[ 9 ]
قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الاشهب " جدا ربنا "، وهو الجدوى والمنفعة. وقرأ عكرمة أيضا " جد " بالتنوين " ربنا " بالرفع على أنه مرفوع، ب‍ " - تعالى "، و " جدا " منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضا " جد " بالتنوين والرفع " ربنا " بالرفع على تقدير: تعالى جد جد ربنا، فجد الثاني بدل من الاول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستئناس بهما والحاجة إليهما، والرب يتعالى عن الانداد والنظراء. قوله تعالى: وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا (4) وأنا ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا (5) وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا (7) قوله تعالى: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) الهاء في " أنه " للامر أو الحديث، وفي " كان " اسمها، وما بعدها الخبر. ويجوز أن تكون " كان " زائدة. والسفيه هنا إبليس في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة بن (1) أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المشركون من الجن: قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الانس. والشطط والاشتطاط: الغلو في الكفر. وقال أبو مالك: هو الجور. الكلبي: هو الكذب. وأصله البعد فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق، قال الشاعر: بأية حال حكموا فيك فاشتطوا * وما ذاك إلا حيث يممك (2) الوخط قوله تعالى: (وأنا ظننا) أي حسبنا " أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا "، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق. وقرأ يعقوب (1) في ا، ح: (أبي بردة عن أبي موسى). تحريف. (2) يممك: قصدك. والوخط: الطعن بالرمح ومن معانيه أيضا: الشيب. (*)
[ 10 ]
والجحدري وابن أبي إسحق " أن لن تقول " (1). وقيل: انقطع الاخبار عن الجن ها هنا فقال الله تعالى: " وأنه كان رجال من الانس " فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله: " أنه استمع " [ الجن: 1 ]، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى. والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما. قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الاسلام عاذوا بالله وتركوهم. وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي، [ أنا ] (2) جارك. فنادى مناد يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد (3). وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة: " وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا " أي زاد الجن الانس " رهقا " أي خطيئة وإثما، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرهق: الاثم في كلام العرب وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله تعالى: " وترهقهم ذلة " [ يونس: 27 ] وقال الاعشى: لا شئ ينفعني من دون رؤيتها * هل يشتفى وامق (4) ما لم يصب رهقا يعني إثما. وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها. وقال مجاهد أيضا: " فزادوهم " أي إن الانس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الانس والجن. وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الانس بهذا فرقا وخوفا من الجن. وقال سعيد ابن جبير: كفرا. ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك. وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن، فالمعنى: وأنه كان رجال من الانس يعوذون من شر الجن (1) قال الالوسى: (تقول): أصله تتقول بتاءين فحذفت إحداهما فكذبا مصدر مؤكد لان الكذب هو التقول (2) الزيادة من الدر المنثور للسيوطي. (3) يشتد: يعدو. (4) في ا، ح وفتح القدير للشوكاني: (عاشق). (*)
[ 11 ]
برجال من الانس، وكان الرجل من الانس يقول مثلا: أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن. قوله تعالى: (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) هذا من قول الله تعالى للانس أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم. الكلبي: المعنى: ظنت الجن كما ظنت الانس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه (1) يقيم به الحجة عليهم. وكل هذا توكيد للحجة على قريش، أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك. قوله تعالى: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندرى أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا (10) قوله تعالى: " وأنا لمسنا السماء " هذا من قول الجن، أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا " فوجدناها " قد " ملئت حرسا شديدا " أي حفظة، يعني الملائكة. والحرس: جمع حارس " وشهبا " جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع. وقد مضى القول فيه في سورة " الحجر " (2) " والصافات " (3). و " وجد " يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين، فالاول الهاء والالف، و " ملئت " في موضع المفعول الثاني. ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون " ملئت " في موضع الحال على إضمار قد. و " حرسا " نصب على المفعول الثاني ب‍ " - ملئت ". و " شديدا " من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا. (1) جملة: (إلى خلقه) ساقطة من ح، و. (2) راجع ج 10 ص 10 (3) راجع ج 15 ص 66. (*)
[ 12 ]
ووحد الشديد على لفظ الحرس، وهو كما يقال: السلف الصالح بمعنى الصالحين، وجمع السلف أسلاف (1) وجمع الحرس أحراس، قال: (2) (تجاوزت أحراسا وأهوال معشر) ويجوز أن يكون " حرسا " مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة. قوله تعالى: (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) " منها " أي من السماء، و " مقاعد ": مواضع يقعد في مثلها لاستماع الاخبار من السماء، يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: " فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " يعني بالشهاب: الكوكب المحرق، وقد تقدم بيان ذلك. ويقال: لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته. واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الكلبي وقال (3) قوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه: خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، وحرست بالملائكة والشهب. قلت: ورواه عطية العوفي عن ابن عباس، ذكره البيهقي. وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين، ورموا بالشهب. وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء، ورميت الشياطين بالشهب، (1) كذا في ا، ط، و، ح: في موضع أو. (2) هو امرؤ القيس. ويروى: * تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا * وتمام البيت وهو من معلقته: * على حراصا لو يشرون مقتلي * (3) الفعل (قال) زائد في ط. والصواب إسقاطه كما في ا، ح، و. (*)
[ 13 ]
ومنعت عن الدنو من السماء. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب. ونحوه عن أبي بن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها. وقيل: كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارا بحاله، وهو معنى قوله تعالى: " ملئت " أي زيد في حرسها، وقال أوس بن حجر وهو جاهلي: فانقض كالدري يتبعه * نقع يثور تخاله طنبا وهذا قول الاكثرين. وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال: كل شعر روي فيه فهو مصنوع، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث. والقول بالرمي أصح، لقوله تعالى: " فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ". وهذا إخبار عن الجن، أنه (1) زيد في حرس السماء حتى امتلات منها ومنهم، ولما روى عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم، فقال: [ ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ] ؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه ]. وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث. وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس. وفي آخره قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية ؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله سبحانه: " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. ونحوه قال القتبي. قال ابن قتيبة: كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث، وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الاحوال، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت من ذلك أصلا. وقد تقدم بيان هذا في سورة " الصافات " (2) (1) في ط: (وقد زيد). وفي ا، ح: (لقد زيد). (2) راجع ج 15 ص 65. (*)
[ 14 ]
عند قوله: " ويقذفون من كل جانب. دحورا ولهم عذاب واصب " [ الصافات: 8 - 9 ] قال الحافظ: فلو قال قائل: كيف تتعرض الجن لاحراق نفسها بسبب استماع خبر، بعد أن صار ذلك معلوما لهم ؟ فالجواب: أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة، كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله تعالى قال له: " وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " [ الحجر: 35 ] ولو لا هذا لما تحقق التكليف. والرصد: قيل من الملائكة، أي ورصدا من الملائكة. والرصد: الحافظ للشئ والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس، والواحد: راصد. وقيل: الرصد هو الشهاب، أي شهابا قد أرصد له، ليرجم به، فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض. قوله تعالى: " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الارض " أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء " أم أراد بهم ربهم رشدا " أي خيرا. قال ابن زيد. قال إبليس لا ندري: هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الارض عذابا أو يرسل إليهم رسولا. وقيل: هو من قول الجن فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. أي لا ندري أشر أريد بمن في الارض بإرسال محمد إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الامم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الكفر والايمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: لا، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين، أي لما آمنوا أشفقوا ألا يؤمن كثير من أهل الارض فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الارض بما آمنا به أم (1) يؤمنون ؟ قوله تعالى: وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (11) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا (12) (1) كذا في ط، وهو الصواب. وفي سائر الاصول: أو. (*)
[ 15 ]
قوله تعالى: " وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك " هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون. وقيل: " ومنا دون ذلك " أي ومن دون الصالحين في الصلاح، وهو أشبه من حمله على الايمان والشرك. (كنا طرائق قددا) أي فرقا شتى، قاله السدي. الضحاك: أديانا مختلفة. قتادة: أهواء متباينة، ومنه قول الشاعر: القابض الباسط الهادي بطاعته * في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد والمعنى: أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين: منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. وقال المسيب: كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس. وقال السدي في قوله تعالى: " طرائق قددا " قال: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة، وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية. وقال قوم: أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون: منا المؤمنون ومنا الكافرون. أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح. والاول أحسن، لانه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: " إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه " [ الاحقاف: 30 ] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الايمان. وأيضا لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق: جمع الطريقة وهي مذهب الرجل، أي كنا فرقا مختلفة. ويقال: القوم طرائق أي على مذاهب شتى. والقدد: نحو من الطرائق وهو توكيد لها، واحدها: قدة. يقال: لكل طريق قدة، وأصلها من قد السيور، وهو قطعها، قال لبيد يرثى أخاه أربد (1): لم تبلغ العين كل نهمتها * ليلة تمسى الجياد كالقدد (1) (1) في ز: (مربد). وفي سائر الاصول: (زيدا) وهو تحريف. والتصويب عن شرح القاموس. (2) يقول لبيد: لم تبلغ العين من البكاء على أربد كل ما تريد في هذه الليلة التي فيها الخيل كالقدد من شدة السير والاتعاب. (*)
[ 16 ]
وقال آخر (1): ولقد قلت وزيد حاسر * يوم ولت خيل عمرو قددا والقد بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ، ويقال: ماله قد ولا قحف، فالقد: إناء من جلد، والقحف: من خشب. قوله تعالى: " وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض " الظن هنا بمعنى العلم واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى: " وأنا ظننا أن لن تقول " [ الجن: 5 ]، " وأنهم ظنوا " [ الجن: 7 ] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله، أنا في قبضته وسلطانه، لن نفوته بهرب ولا غيره. و " هربا " مصدر في موضع الحال أي هاربين. قوله تعالى: وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا (13) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا (14) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (15) قوله تعالى: " وأنا لما سمعنا الهدى " يعني القرآن " آمنا به " وبالله، وصدقنا محمدا صلى الله عليه وسلم على رسالته. وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الانس والجن. قال الحسن: بعث الله محمدا صلى عليه وسلم إلى الانس والجن، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن، ولا من أهل البادية، ولا من النساء، وذلك قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم من أهل القرى " [ يوسف: 109 ] وقد تقدم هذا المعنى (2). وفي الصحيح: " وبعثت إلى الاحمر والاسود " أي الانس والجن. (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) قال ابن عباس: لا يخاف (1) هو لبيد صاحب البيت الذى قبله كما في فتح القدير للشوكاني. (2) راجع ج 9 ص 274 (*)
[ 17 ]
أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته، لان البخس النقصان، والرهق: العدوان وغشيان المحارم، قال الاعشى: لا شئ ينفعني من دون رؤيتها * هل يشتفى وامق ما لم يصب رهقا الوامق: المحب، وقد ومقه يمقه بالكسر أي أحبه، فهو وامق. وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن، لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم. وقراءة العامة " فلا يخاف " رفعا على تقدير فإنه لا يخاف. وقرأ الاعمش ويحيى (1) وإبراهيم " فلا يخف " جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء. قوله تعالى: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون) أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر. والقاسط: الجائر، لانه عادل عن الحق، والمقسط: العادل، لانه عادل إلى الحق، [ يقال: ] قسط: أي جار، وأقسط: إذا عدل، قال الشاعر: قوم هم قتلوا ابن هند عنوة * عمرا وهم قسطوا على النعمان (فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تحرى القبلة (وأما القاسطون) أي الجائرون عن طريق الحق والايمان (فكانوا لجهنم حطبا) أي وقودا. وقوله: " فكانوا " أي في علم الله تعالى. قوله تعالى: وألوا استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا (16) لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا (17) قوله تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة " هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي، أي أوحى إلي أن لو استقاموا. ذكر ابن بحر: كل ما في هذه السورة من " إن " المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من (1) في ا، ح: (ويحبى عن إبراهيم). (*)
[ 18 ]
أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الانباري: ومن كسر الحروف وفتح " وأن لو استقاموا " أضمر يمينا تاما، تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام: والله أن قمت لقمت، ووالله لو قمت قمت، قال الشاعر: أما والله أن لو كنت حرا * وما بالحر أنت ولا العتيق ومن فتح ما قبل المخففة نسقها - أعني الخفيفة - على " أوحى إلي أنه "، " وأن لو استقاموا " أو على " آمنا به " وبأن لو استقاموا (1). ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى " أن " المخففة، أن يعطف المخففة على " أوحى إلي " أو على " آمنا به "، ويستغنى عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من " لو " لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن وثاب والاعمش بضم الواو. و " ماء غدقا " أي واسعا كثيرا، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين، يقال: غدقت العين تغدق، فهي غدقة، إذا كثر ماؤها. وقيل: المراد الخلق كلهم أي " لو استقاموا على الطريقة " طريقة الحق والايمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين " لاسقيناهم ماء غدقا " أي كثيرا (لنفتنهم فيه) أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى " لاسقيناهم " لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا، لان الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه، كقوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " [ الاعراف: 96 ] وقوله تعالى: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " [ المائدة: 66 ] أي بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن: كان والله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي، ففتنوا بها، فوثبوا على إمامهم فقتلوه. يعني عثمان بن عفان. وقال الكلبي وغيره: " وأن (1) وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي (قال ابن الانباري: ومن قرأ بالكسر فيما تقدم وفتح (وأن لو استقاموا): أضمر قسما تقديره: والله (أن لو استقاموا على الطريقة، أو عطفه على (أنه استمع) أو على (آمنا به). وعلى هذا يكون جميع ما تقدم معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه). (*)
[ 19 ]
لو استقاموا على الطريقة " التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم حتى يفتتنوا بها، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قاله الربيع ابن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز، واستدلوا بقوله تعالى: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ " [ الانعام: 44 ] الآية. وقوله تعالى: " ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة " [ الزخرف: 33 ] الآية، والاول أشبه، لان الطريقة معرفة بالالف واللام، فالاوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى، ولان الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) قالوا: وما زهرة الدنيا ؟ قال: (بركات الارض..) وذكر الحديث. وقال عليه السلام: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا [ كما بسطت على من (1) قبلكم ] فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم). قوله تعالى: (ومن يعرض عن ذكر ربه) يعني القرآن، قاله ابن زيد. وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل: " ومن يعرض عن ذكر ربه " أي لم يشكر نعمه (يسلكه عذابا صعدا) قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو " يسلكه " بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لذكر اسم الله أولا فقال: " ومن يعرض عن ذكر ربه ". الباقون " نسلكه " بالنون. وروى عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والاعرج وهما لغتان، سلكه وأسلكه بمعنى، أي ندخله. " عذابا صعدا " أي شاقا شديدا. قال ابن عباس: هو جبل، في جهنم. [ الخدري: (2) ] كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصعد: المشقة، تقول: تصعدني الامر: إذا شق عليك، ومنه قول عمر: ما تصعدني شئ ما تصعدتني خطبة النكاح، أي ما شق علي. (1) الزيادة من صحيح الترمذي. (2) زيادة من ا، ح، ل. (*)
[ 20 ]
وعذاب صعد أي شديد. والصعد: مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب، لانه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة: الصعد مصدر، أي عذابا ذا صعد، والمشي في الصعود يشق. والصعود: العقبة الكئود. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء، يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا صعودها، فذلك دأبه أبدا، وهو قوله تعالى: " سأرهقه صعودا " [ المدثر: 17 ]. قوله تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (18) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وأن المساجد لله) " أن " بالفتح، قيل: هو مردود إلى قوله تعالى: " قل أوحى إلي " [ الجن: 1 ] أي قل أوحى إلي أن المساجد لله. وقال الخليل: أي ولان المساجد لله. والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة. وقال سعيد بن جبير: قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك ؟ فنزلت: " وأن المساجد لله " أي بنيت لذكر الله وطاعته. وقال الحسن: أراد بها كل البقاع، لان الارض كلها مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: [ أينما كنتم فصلوا ] [ فأينما صليتم فهو مسجد ] وفي الصحيح: [ وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا ]. وقال سعيد بن المسيب وطلق ابن حبيب: أراد بالمساجد الاعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه، يقول: هذه الاعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد لغيره بها، فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك: أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها. وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين). وقال العباس قال النبي
[ 21 ]
صلى الله عليه وسلم: [ إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب ] (1). وقيل: المساجد هي الصلوات، أي لان السجود لله. قاله الحسن أيضا. فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم، ويقال بالفتح، حكاه الفراء. وإن جعلتها الاعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقيل: هو جمع مسجد وهو السجود، يقال: سجدت سجودا ومسجدا، كما تقول: ضربت في الارض ضربا ومضربا بالفتح: إذا سرت في ابتغاء الرزق. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة المساجد، لان كل أحد يسجد إليها. والقول الاول أظهر هذه الاقوال إن شاء الله، وهو مروى عن ابن عباس رحمه الله. الثانية - قوله تعالى: " لله " إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذكر منها البيت العتيق فقال: " وطهر بيتي " [ الحج: 26 ]. وقال عليه السلام: [ لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ] الحديث خرجه الائمة. وقد مضى الكلام (2) فيه. وقال عليه السلام: [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ]. قال ابن العربي: وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا ] (3) ولو صح هذا لكان نصا. قلت: هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسب ما بيناه في سورة " إبراهيم " (4). الثالثة - المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا، فيقال: مسجد فلان. وفي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء (5) وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد (1) آراب: أعضاء واحدها (إرب) بالكسر ثم السكون. (2) راجع ج 10 ص 211 والرواية المشهورة في الصحاح (لا تشد الرجال) كما مر للقرطبي. (3). كلمة هذا ساقطة من الاصل المطبوع. (4) راجع ج 9 ص 371 (5) في معجم البلدان لياقوت: الحفياء: بالفتح ثم السكون وياء وألف ممدودة: موضع قرب المدينة أجرى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل في السباق. وقال سفيان بين الحفياء إلى الثنية خمسة أميال. (*)
[ 22 ]
بني زريق. وتكون هذه الاضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم، وقد تكون بتحبيسهم، ولا خلاف بين الامة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك. الرابعة - مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للاموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الاسير والنوم فيها، وسكنى المريض فيها، وفتح الباب للجار (1) إليها، وإنشاد الشعر فيها إذا عرى عن الباطل. وقد مضى هذا كله مبينا في سورة " براءة " (2). و " النور " (3) وغيرهما. الخامسة - قوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا) هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام. وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصلوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول: فلا تشركوا فيها صنما وغيره (4) مما يعبد. وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله، ولا تتخذوها هزوا ومتجرا ومجلسا، ولا طرقا، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا. وفى الصحيح: [ من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ] وقد مضى في سورة " النور " ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله. السادسة - روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى. وقال: [ " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا " اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار ] فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى، وقال: [ اللهم صب علي الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدا، واجعل لي في الارض جدا ] (5) أي غنى. (1) كذا في ابن العربي. وفي ط: للمار إليها. (2) راجع ج 8 ص 104 (3) راجع 12 ص 265 (4) كذا في الاصول كلها يريد: ولا غيره. (5) الجد بالفتح: الحظ والغنى كما في اللسان. (*)
[ 23 ]
قوله تعالى: وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا (19) قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا (20) قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا (21) قوله تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) يجوز الفتح، أي أوحى الله إليه أنه. ويجوز الكسر على الاستئناف. و " عبد الله " هنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن (1) نخلة ويقرأ القرآن، حسب ما تقدم أول السورة. " يدعوه " أي يعبده. وقال ابن جريج: " يدعوه " أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى. (كادوا يكونون عليه لبدا) قال الزبير بن العوام: هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون، حرصا على سماع القرآن. وقيل: كادوا يركبونه حرصا، قاله الضحاك. ابن عباس: رغبة في سماع الذكر. وروى برد عن مكحول: أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر. وعن ابن عباس أيضا: إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود. وقيل: المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا، حردا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني " لما قام عبد الله " محمد بالدعوة تلبدت الانس والجن على هذا الامر ليطفئوه، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره. واختار الطبري أن يكون المعنى: كادت العرب يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به. وقال مجاهد: قوله " لبدا " جماعات وهو من تلبد الشئ على الشئ أي تجمع، ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه (2)، وكل شئ ألصقته إلصاقا شديدا (1) في تاج العروس: (نخلة): موضع بين مكة والطائف ويقال له (بطن نخلة). (2) في ا، ح: (صفوفه). وفي ط (صفه). (*)
[ 24 ]
فقد لبدته، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب. ويقال للشعر الذي على ظهر الاسد لبدة وجمعها لبد، قال زهير: لدى أسد شاكي السلاح مقذف * له لبد أظفاره لم تقلم ويقال للجراد الكثير: لبد. وفيه أربع لغات وقراءات، فتح الباء وكسر اللام، وهي قراءة العامة. وضم اللام وفتح الباء، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام، واحدتها لبدة. وبضم اللام والباء، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الاشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن. وبضم اللام وشد الباء وفتحها، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والاعرج والجحدري أيضا (1) واحدها لا بد، مثل راكع وركع، وساجد وسجد. وقيل: اللبد بضم اللام وفتح الباء الشئ الدائم، ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه، قال النابغة: * أخنى عليها الذي أخنى على لبد (2) * القشيري: وقرئ " لبدا " بضم اللام والباء، وهو جمع لبيد، وهو الجولق (3) الصغير. وفي الصحاح: [ وقوله تعالى ] " أهلكت مالا لبدا " أي جما (4). ويقال أيضا: الناس لبد أي مجتمعون، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح [ منزله ] (5). قال الشاعر (6): من امرئ ذي سماح لا تزال له * بزلاء يعيا بها الجثامة اللبد ويروى: اللبد. قال أبو عبيد: وهو أشبه. [ والبزلاء: الرأي الجيد. وفلان نهاض ببزلاء: إذا كان ممن يقوم بالامور العظام، قال الشاعر: إني إذا شغلت قوما فروجهم * رحب المسالك نهاض ببزلاء ] (7) (1) كلمة (أيضا) ساقطة من ا، ز، ح: ط. (2) هذا عجز البيت وسيأتي بتمامه. (3) في الاصول: (الجولق) تحريف. (4) في ا، ح، ل: (جمعا). (5) الزيادة من اللسان مادة (لبد). (6) هو الراعى: والبزلاء أيضا الحاجة التي أحكم أمرها والجثامة الذي لا يبرح من محله وبلدته. وصدره كما في اللسان والتاج: * من أمر ذي بدوات لا تزال له * (7) ما بين المربعين ساقط من ا، ح، و، ط. (*)
[ 25 ]
ولبد: آخر نسور لقمان، وهو ينصرف، لانه ليس بمعدول. وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات (1) سمر، من أظب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، وكان آخر نسوره يسمى لبدا، وقد ذكرته الشعراء، قال النابغة: أضحت خلاء وأمسى أهلها احتملوا * أخنى عليها الذي أخنى على لبد واللبيد: الجوالق الصغير، يقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد. ولبيد: اسم شاعر من بني عامر. قوله تعالى: (قال إنما أدعوا ربي) أي قال صلى الله عليه وسلم: " إنما أدعو ربي " " ولا أشرك به أحدا " وكذا قرأ أكثر القراء " قال " على الخبر. وقرأ حمزة وعاصم " قل " على الامر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك، فنزلت قوله تعالى: " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا. وقيل: " لا أملك لكم ضرا " أي كفرا " ولا رشدا " أي هدى، أي إنما علي التبليغ. وقيل: الضر: العذاب، والرشد النعيم. وهو الاول بعينه. وقيل: الضر الموت، والرشد الحياة. قوله تعالى: قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا (22) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا (23) حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا (24) قل إن أدرى أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا (25) (1) قال شارح القاموس: هو بالعين المهملة، ويوجد في بعض نسخ الصحاح (بقرات) بالقاف. والذي في نسخ القاموس هو الاشبه إذ لا تتولد البقر من الظباء. (*)
[ 26 ]
قوله تعالى: (قل إني لن يجيرني من الله أحد) أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته، وهذا لانهم قالوا أترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك. وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أزجلهم (1) عنك، فقال: (إني لن يجيرني من الله أحد) ذكره الماوردي. قال: ويحتمل معنيين أحدهما لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد. الثاني لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد. (ولن أجد من دونه ملتحدا) أي ملتجأ ألجأ إليه، قال قتادة. وعنه: نصيرا ومولى. السدي: حرزا. الكلبي: مدخلا في الارض مثل السرب. وقيل: وليا ولا مولى. وقيل: مذهبا ولا مسلكا. حكاه ابن شجرة، والمعنى واحد، ومنه قول الشاعر: يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية * عني وما من قضاء الله ملتحد (إلا بلاغا من الله ورسالاته) فإن فيه الامان والنجاة، قال الحسن. وقال قتادة: " إلا بلاغا من الله " فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والايمان فلا أملكهما. فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى: " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم. وقيل: هو استثناء ومنقطع من قوله: " لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " أي إلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به، قاله الفراء. وقال الزجاج: هو منصوب على البدل من قوله: " ملتحدا " أي " ولن أجد من دونه ملتحدا " إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته، أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها. أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته، فآخذ نفسي بما أمر به غيري. وقيل هو مصدر، و " لا " بمعنى لم، و " إن " للشرط. والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا: أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا. قوله تعالى: " ومن يعص الله ورسوله " في التوحيد والعبادة. " فإن له نار جهنم " كسرت إن، لان ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم. " خالدين فيها " نصب على (1) أزجلهم: أي أدفعهم. وفي ز، ط، ل: أزجلهم بالحاء أي أنحيهم. (*)
[ 27 ]
الحال، وجمع " خالدين " لان المعنى لكل من فعل ذلك، فوحد أولا للفظ " من " ثم جمع للمعنى. وقوله " أبدا " دليل على أن العصيان هنا هو الشرك. وقيل: هو المعاصي غير الشرك، ويكون معنى " خالدين فيها أبدا " إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الايمان يلحقهم العفو. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة " النساء " (1) وغيرها. قوله تعالى: " حتى إذا رأوا ما يوعدون " " حتى " هنا مبتدأ، أي " حتى إذا رأوا ما يوعدون " من عذاب الآخرة، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل ببدر " فسيعلمون " حينئذ " من أضعف ناصرا " أهم أم المؤمنون. " وأقل عددا " معطوف. قوله تعالى: (قل إن أدرى أقريب ما توعدون) يعني قيام الساعة. وقيل: عذاب الدنيا، أي لا أدري ف‍ " - إن " بمعنى " ما " أو " لا "، أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله، فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله. و " ما " في قوله: " ما يوعدون ": يجوز [ أن يكون مع الفعل مصدرا، ويجوز (2) ] أن تكون بمعنى الذي ويقدر حرف العائد. (أم يجعل له ربي أمدا) أي غاية وأجلا. وقرأ العامة بإسكان الياء من ربي. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بالفتح. قوله تعالى: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " عالم الغيب " " عالم " رفعا نعتا لقوله: " ربي ". وقيل: أي هو " عالم الغيب " والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدم بيانه في أول سورة (البقرة) (3) (فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول " فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، (1) راجع ج 5 ص 333. (2) ما بين المربعين ساقط من الاصل المطبوع، ط. (3) راجع ج 1 ص 163. (*)
[ 28 ]
لان الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الاخبار عن بعض الغائبات، وفي التنزيل (1): " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " [ آل عمران: 49 ]. وقال ابن جبير: " إلا من ارتضى من رسول " هو جبريل عليه السلام. وفيه بعد، والاولى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه (2): ليكون ذلك دالا على نبوته. الثانية - قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب وأستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسوقة، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال: حكم المنجم أن طالع مولدي * يقضي علي بميتة الغرق قل للمنجم صبحة الطوفان هل * ولد الجميع بكوكب الغرق وقيل لامير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب ؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه (1) راجع ج 4 ص 95. (2) في ح: (من غيبه بطريق الوحى إليهم ليكون..). (*)
[ 29 ]
الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والافحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين ! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم ؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده (1) - من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل - فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يأيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لاخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولاحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقى القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال: يا أيها الناس ! توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفى ممن سواه. (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والالقاء إلى الكهنة. قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربك. وقال ابن عباس وابن زيد: " رصدا " أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة. وقال الفراء: المراد جبريل، كان (1) جملة: (من بعده) ساقطة من ا، ح. (*)
[ 30 ]
إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي، فيلقوه إلى كهنتهم، فيسبقوا الرسول. وقال السدي: " رصدا " أي حفظة يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا: إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان (1). و " رصدا " نصب على المفعول. وفي الصحاح: والرصد القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصادا. والراصد للشئ الراقب له، يقال: رصده يرصده رصدا ورصدا. والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد (2). قوله تعالى: ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا (28) قوله تعالى: " ليعلم " قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة. وفيه حذف يتعلق به اللام، أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه، قاله ابن جبير. قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل: أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه. وقال ابن قتيبة: أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم. وقراءة الجماعة " ليعلم " بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء، كقوله تعالى: " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " [ آل عمران: 142 ] (1) هذا الكلام ينافى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد عصمني من الانس والجن) (الحديث ج 6 ص 244) وأن الشياطين لا يمكن أن ينالوا منه عليه السلام فكيف يلقون إليه حتى لا يفرق بين ما يلقونه وبين الوحى إلى أن تبينه الملائكة. (2) في، ح: (موضع الرقب). (*)
[ 31 ]
المعنى: ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا. (وأحاط بما لديهم) أي أحاط علمه بما عندهم، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة. وقال ابن جبير: المعنى: ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم، فيبلغوا رسالاته. (وأحصى كل شئ عددا) أي أحاط بعدد كل شئ وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شئ. و " عددا " نصب على الحال، أي أحصى كل شئ في حال العدد، وإن شئت على المصدر، أي أحصى وعد كل شئ عددا، فيكون مصدر الفعل المحذوف. فهو سبحانه المحصى المحيط العالم الحافظ لكل شئ وقد بينا جميعه في الكتاب الاسنى، في شرح أسماء الله الحسنى. والحمد (1) لله وحده. سورة المزمل وهي سبع وعشرون آية مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: " واصبر على ما يقولون " [ المزمل: 10 ] والتي تليها، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قوله تعالى: " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى " [ المزمل: 20 ] إلى آخر السورة، فإنه نزل بالمدينة. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو أنقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يأيها المزمل) قال الاخفش سعيد: " المزمل " أصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي وكذلك " المدثر ". وقرأ أبي بن كعب على الاصل " المتزمل " (1) في ط: (تمت السورة بحمد الله وعونه. (*)
[ 32 ]
و " المتدثر ". وسعيد: " المزمل " (1). وفي أصل " المزمل " قولان: أحدهما أنه المحتمل، يقال: زمل الشئ إذا حمله، ومنه الزاملة، لانها تحمل القماش (2). الثاني أن المزمل هو المتلفف، يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى. وزمل غيره إذا غطاه، وكل شئ لفف فقد زمل ودثر، قال أمرؤ القيس: * كبير أناس في بجاد مزمل (3) * الثانية - قوله تعالى: " يا أيها المزمل " هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاثة أقوال: الاول قول عكرمة: " يا أيها المزمل " بالنبوة والملتزم للرسالة. وعنه أيضا: يا أيها الذي زمل هذا الامر أي حمله ثم فتر، وكان يقرأ: " يا أيها المزمل " بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول، وكذلك " المدثر " والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه، أو الذي زمله غيره. الثاني: " يا أيها المزمل " بالقرآن، قاله ابن عباس. الثالث المزمل بثيابه، قاله قتادة وغيره. قال النخعي: كان متزملا بقطيفة. عائشة: بمرط طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة، ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء (4) ولا إبريسما ولا صوفا، كان سداه شعرا، ولحمته وبرا، ذكره الثعلبي. قلت: وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا في المدينة. وما ذكر من أنها مكية لا يصح. والله أعلم. وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه. وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت: " يا أيها المزمل " [ المزمل: 1 ] و " يا أيها المدثر " [ المدثر: 1 ]. وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحى إليه، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال: (زملوني دثروني) روي معناه عن ابن عباس. وقالت الحكماء: إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الامر، لانه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة. قال ابن العربي: واختلف في تأويل: " يا أيها (1) لعل هذا ما أراده بعض المفسرين بقولهم: قرأ بعض السلف (المزمل) بفتح الزاى وتخفيفها وفتح الميم وشدها. (2) القماش: أرد أمتاع البيت ويقال له: سقط المتاع. (3) صدر البيت: * كأن أبانا في أفانين ودقه * (4) المرعزاء (بكسر الميم والعين): الزغب الذي تحت شعر العنز. (*)
[ 33 ]
المزمل " فمنهم من حمله على حقيقته، قيل له: يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم، قاله إبراهيم وقتادة. ومنهم من حمله على المجاز، كأنه قيل له: يا من تزمل بالنبوة، قاله عكرمة. وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل. قلت: وقد بينا أنها على حذف المفعول: وقد قرئ بها، فهي صحيحة المعنى. قال: وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه. الثالثة - قال السهيلي: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدثر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: (قم يا أبا تراب) إشعارا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له. وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة: (قم يا نومان) وكان نائما ملاطفة له، وإشعارا لترك العتب والتأنيب (1). فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: " يا أيها المزمل قم " فيه تأنيس وملاطفة، ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية - التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه، لان الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة. الرابعة - قوله تعالى: (قم الليل) قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف. وحكى الفتح لخفته. قال عثمان بن جني: الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض. وهو من الافعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ (1) في ا، ح، ل: (والتأنيس). (*)
[ 34 ]
فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة، لا تقول: قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار. وقد قيل: إن " قم " هنا معناه صل، عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال. الخامسة - " الليل " حد الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقد تقدم بيانه في سورة " البقرة " (1) واختلف: هل كان قيامه فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا، وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض، لان قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي. واختلف أيضا: هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الانبياء، أو عليه وعلى أمته ؟ ثلاثة أقوال: الاول قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة. الثاني قول ابن عباس، قال: كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الانبياء قبله. الثالث قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح، كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله... الحديث، وفيه: فقلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: ألست تقرأ: " يا أيها المزمل " قلت: بلى ! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثنى عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وذكر الحديث. وذكر وكيع ويعلى قالا: حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول " يا أيها المزمل " [ المزمل: 1 ] كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة. وقال سعيد بن جبير: مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزل بعد عشر سنين: " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل: 20 ] فخفف الله عنهم. (1) راجع ج 2 ص 192 (*)
[ 35 ]
السادسة - قوله تعالى: (إلا قليلا) استثناء من الليل، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه، لان قيام جميعه على الدوام غير ممكن، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد. والقليل من الشئ ما دون النصف، فحكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: الثلث. ثم قال تعالى: (نصفه أو أنقص منه قليلا) فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: " علم أن لن تحصوه " [ المزمل: 20 ]. وقال الاخفش: " نصفه " أي أو نصفه، يقال: أعطه درهما درهمين ثلاثة: يريد: أو درهمين أو ثلاثة. وقال الزجاج: " نصفه " بدل من الليل و " إلا قليلا " استثناء من النصف. والضمير في " منه " و " عليه " للنصف. المعنى: قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقيل: إن " نصفه " بدل من قوله: " قليلا " وكان مخيرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه، كأن تقدير الكلام: قم الليل إلا نصفه، أو أقل من نصفه، أو أكثر من نصفه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الاول، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضئ الفجر). ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله...) الحديث. رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك. وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الاول، ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟) صححه أبو محمد عبد الحق، فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول، وأن ذلك يكون عند نصف الليل. وخرج ابن ماجه من حديث ابن شهاب، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الاغر، عن أبي هريرة:
[ 36 ]
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه ؟ من يدعوني فأستجيب له ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر). فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله. قال علماؤنا: وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة. وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا. وذكر الحديث. السابعة - اختلف العلماء في الناسخ للامر بقيام الليل، فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للامر بقيام الليل قوله تعالى: " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل: 20 ] إلى آخر السورة. وقيل قوله تعالى: " علم أن لن تحصوه " [ المزمل: 20 ]. وعن ابن عباس أيضا: هو منسوخ بقوله تعالى: " علم أن سيكون منكم مرضى " [ المزمل: 20 ]. وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس. وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى: " فاقرءوا ما تيسر منه " [ المزمل: 20 ]. قال أبو عبد الرحمن السلمي: لما نزلت: " يا أيها المزمل " قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، ثم نزل قوله تعالى: " فاقرءوا ما تيسر منه " [ المزمل: 20 ]. قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله، كما قال تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الاسراء: 79 ]. قلت: القول الاول يعم جميع هذه الاقوال، وقد قال تعالى: " وأقيموا الصلاة " [ المزمل: 20 ] فدخل فيها قول من قال إن الناسخ الصلوات الخمس. وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة. وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به، فلما رأى جماعتهم كره ذلك، وخشى أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا
[ 37 ]
يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال: (أيها الناس اكلفوا (1) من الاعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وإن خير العمل أدومه وإن قل). فنزلت: " يا أيها المزمل " فكتب عليهم، فأنزل بمنزلة الفريضة، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهر، فرحمهم الله وأنزل: " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل: 20 ] فردهم الله إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به. قلت: حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله: (وإن قل) وباقيه يدل على أن قوله تعالى: " يا أيها المزمل " نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون. وقد تقدم عنها في صحيح مسلم: حولا. وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا، لم يذكر غيره عنها. وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة، قال: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه. وفي نسخة عنه قولان: أحدهما: أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى. الثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته. وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولا، وقول عائشة ستة عشر شهرا. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف، ليميزه بفعل الرسالة، قاله ابن جبير. قلت: هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى. الثامنة - قوله تعالى: (ورتل القرآن ترتيلا) أي لا تعجل (2) بقراءة القرآن بل أقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. وقال الضحاك: اقرأه حرفا حرفا. وقال مجاهد: أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه. والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام، ومنه ثغر رتل ورتل، بكسر العين وفتحها: إذا كان حسن التنضيد. وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب (3). وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ آية ويبكي، فقال: (ألم تسمعوا (1) أكلفوا: تحملوا: النهاية لابن الاثير. (2) جملة: (لا تعجل) ساقطة من ح. (3) راجع ج 1 ص 17. (*)
[ 38 ]
إلى قول الله عز وجل: " ورتل القرآن ترتيلا " هذا الترتيل). وسمع علقمة رجلا يقرأ قراءة حسنة فقال: لقد رتل القرآن، فداه أبي وأمي، وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالاقبال عليه. وروى عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أول درج الجنة ويقال له أقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها) خرجه أبو داود وقد تقدم في أول الكتاب (1). وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد صوته بالقراءة مدا. قوله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5) قوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) هو متصل بما فرض من قيام الليل، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله، لان الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان، فهو أمر يثقل على العبد. وقيل: إنا سنوحي إليك القرآن، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. مجاهد: حلاله وحرامه. الحسن: العمل به. أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب: ثقيلا على المنافقين. وقيل: على الكفار، لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم، والكشف عما حرفه أهل الكتاب. السدي: ثقيل بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل علي، أي يكرم علي. الفراء: " ثقيلا " رزينا ليس بالخفيف السفساف لانه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل: " ثقيلا " أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله، ويكون معناه أنه ثابت الاعجاز، لا يزول إعجازه أبدا. وقيل: هو القرآن نفسه، كما جاء في الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها (1) راجع ج 1 ص 8. (*)
[ 39 ]
- يعني صدرها - على الارض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى (1) عنه. وفي الموطأ وغيره أنه عليه السلام سئل: كيف يأتيك الوحي ؟ فقال: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول). قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. قال ابن العربي: وهذا أولى، لانه الحقيقة، وقد جاء " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج: 78 ]. وقال عليه السلام: " بعثت بالحنيفية السمحة ". وقيل: القول في هذه السورة: هو قول لا إله إلا الله، إذ في الخبر: خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، ذكره القشيري. قوله تعالى: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا (6) إن لك في النهار سبحا طويلا (7) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إن ناشئة الليل) قال العلماء: ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته، لان أوقاته تنشأ أولا فأولا، يقال: نشأ الشئ ينشأ: إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شئ، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله، فناشئة: فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة، ومنه قوله تعالى: " أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " [ الزخرف: 18 ] والمراد إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم، فالتأنيث للفظ ساعة، لان كل ساعة تحدث. وقيل: الناشئة مصدر بمعنى [ قيام الليل ] (2) كالخاطئة والكاذبة، أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا. وقيل: إن ناشئة الليل قيام الليل. قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي قام، فلعله أراد أن الكلمة عربية (3)، ولكنها شائعة في كلام الحبشة، غالبة عليهم، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب. وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى. (1) أي الوحى. (2) زيادة تقتضيها العبارة، وهي كذلك في كتب التفسير. (3) في ا، ح، ل: (غريبة) راجع ج 1 ص 68 فما بعدها. (*)
[ 40 ]
الثانية - بين تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن، أعظم للاجر، وأجلب للثواب. واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل، فقال ابن عمر وأنس بن مالك: هو ما بين المغرب والعشاء، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالاولية أحق، ومنه قول الشاعر: ولولا أن يقال صبا نصيب * لقلت بنفسي النشأ الصغار وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة: إنه بدء الليل. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله، لانه ينشأ بعد النهار، وهو الذي اختاره مالك بن أنس. قال ابن العربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة. فقال يمان وابن كيسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل. وذلك أن الانسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح: وناشئة الليل أول ساعاته. وقال القتبي: إنه ساعات الليل، لانها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضا: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات، حكاه الجوهري. الثانية - قوله تعالى: (هي أشد وطئا) قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة " وطاء " بكسر الواو وفتح الطاء والمد، واختاره أبو عبيد. الباقون " وطئا " بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، واختاره أبو حاتم، من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم. أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشدد وطأتك على مضر) فالمعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار. وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة. ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته. ابن زيد واطأته على الامر مواطأة: إذا وافقته من الوفاق، وفلان يواطئ اسمه اسمي، وتواطئوا عليه أي توافقوا، فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان، لانقطاع الاصوات
[ 41 ]
والحركات، قاله مجاهد وابن أبي مليكة وغيرهما. وقال ابن عباس بمعناه، أي يواطئ السمع القلب، قال الله تعالى: " ليواطئوا عدة ما حرم الله " [ التوبة: 37 ] أي ليوافقوا. وقيل: المعنى أشد مهادا للتصرف في التفكر والتدبر. والوطاء خلاف الغطاء. وقيل: " أشد وطئا " بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتا من النهار، فإن الليل يخلو فيه الانسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل وأتقى (1) لما يلهى ويشغل القلب. والوطئ الثبات، تقول: وطئت الارض بقدمي. وقال الاخفش: أشد قياما. الفراء: أثبت قراءة وقياما. وعنه: " أشد وطئا " أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت فراغ عن اشتغال المعاش فعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبي: " أشد وطئا " أي أشد نشاطا للمصلي، لانه في زمان راحته. وقال عبادة: " أشد وطأ " أي نشاطا للمصلي وأخف، وأثبت للقراءة. الرابعة - قوله تعالى: (وأقوم قيلا) أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار، أي أشد أستقامة واستمرارا على الصواب، لان الاصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول، لانه زمان التفهم. وقال أبو علي: " أقوم قيلا " أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل. وقيل: أي أعجل إجابة للدعاء. حكاه ابن شجرة. وقال عكرمة: عبادة الليل أتم نشاطا، وأتم إخلاصا، وأكثر بركة. وعن زيد ابن أسلم: أجدر أن يتفقه في القرآن. وعن الاعمش قال: قرأ أنس بن مالك " إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا " فقيل له: " وأقوم قيلا " فقال: أقوم وأصوب وأهيأ: سواء. قال أبو بكر الانباري: وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو مصيب، إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له، واحتجوا بقول أنس هذا. وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله، لانه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها، لجاز أن يقرأ في موضع " الحمد لله رب العالمين " [ الفاتحة: 2 ]: الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الامر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفتريا على الله عز وجل، كاذبا على رسوله صلى (1) في ل: (وأنقي). (*)
[ 42 ]
الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود: نزل القرآن على سبعة أحرف، إنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال وأقبل، لان هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالاسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم، وتعال، وأقبل، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم رضي الله عنهم، فإنه من أورد حرفا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب. قال أبو بكر: والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم، لانه مبني على رواية الاعمش عن أنس، فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ به، من قبل أن الاعمش رأى أنسا ولم يسمع منه. الخامسة - قوله تعالى (1): (إن لك في النهار سبحا طويلا) قراءة العامة بالحاء غير معجمة، أي تصرفا في حوائجك، وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا. والسبح: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء، لتقلبه بيديه ورجليه. وفرس سابح: شديد الجري، قال امرؤ القيس: مسح إذا ما السابحات على الونى * أثرن الغبار بالكديد المركل (2) وقيل: السبح الفراغ، أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار. وقيل: " إن لك في النهار سبحا " أي نوما، والتسبح التمدد، ذكره الخليل. وعن ابن عباس وعطاء: (سبحا طويلا) يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، وقال الزجاج: إن فاتك في الليل شئ فلك في النهار فراغ الاستدراك. وقرا يحيى بن يعمر وأبو وائل " سبخا " بالخاء المعجمة. قال المهدوي: ومعناه النوم روى ذلك عن القارئين بهذه القراءة. وقيل: معناه الخفة والسعة والاستراحة، ومنه قول (1) جملة: (قوله تعالى) ساقطة من ح. (2) مسح: معناه يصب الجري صبا. وهذه الكلمة وردت محرفة في ط وهي ساقطة من سائر الاصول. والتصويب من الديوان واللسان. والونى: الفتور والكلال. والكديد: الموضع الغليظ. والمركل: الذي يركل بالارجل. ومعنى البيت: إن الخيل السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس جريا سهلا كما يسح السحاب المطر. (*)
[ 43 ]
النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد دعت على سارق ردائها: (لا تسبخي [ عنه ] (1) بدعائك عليه). أي لا تخففي عنه إثمه، قال الشاعر: فسخ عليك الهم واعلم بأنه * إذا قدر الرحمن شيئا فكائن الاصمعي: يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها. وسبخ الحر (2): فتر وخف. والتسبيخ النوم الشديد. والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف وتنفيشها، يقال للمرأة: سبخي قطنك. والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف، أي يلف لتغزله المرأة، والقطعة منه سبيخة، وكذلك من الصوف والوبر. ويقال لقطع القطن سبائخ، قال الاخطل يصف القناص والكلاب: فأرسلوهن يذرين التراب كما * يذري سبائخ قطن ندف أوتار وقال ثعلب: السبخ بالخاء التردد والاضطراب، والسبخ أيضا السكون، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمى من فيح جهنم، فسبخوها بالماء) أي سكنوها. وقال أبو عمرو: السبخ: النوم والفراغ. قلت: فعلى هذا يكون من الاضداد وتكون بمعنى السبح، بالحاء غير المعجمة. قوله تعالى: واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (واذكر اسم ربك) أي ادعه بأسمائه الحسنى، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة. وقيل: أي اقصد بعملك وجه ربك، وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عما سواه (3). وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. وقال الكلبي: صل لربك أي بالنهار. (1) زيادة من نهاية ابن الاثير. (2) في ا، ح، ل، و: (الجن) بالجيم والنون وهو تحريف. (3) في ا، ح، ز، ط، (تهواه). (*)
[ 44 ]
قلت: وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار، إذ هو قسيمه، وقد قال الله تعالى: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر " [ الفرقان: 62 ] على ما تقدم (1). الثانية - قوله تعالى: (وتبتل إليه تبتيلا) التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال: بتلت الشئ أي قطعته، ومنه قولهم. طلقها بتة بتلة، وهذه صدقة بتة بتلة، أي بائنة منقطعة عن صاحبها،، أي قطع ملكه عنها بالكلية، ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتل، لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال: تضئ الظلام بالعشاء كأنها * منارة ممسى راهب متبتل (2) وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات. وقيل: إن أصله عند العرب التفرد، قاله ابن عرفة. والاول أقوى لما ذكرنا. ويقال: كيف قال: تبتيلا، ولم يقل تبتلا ؟ قيل له: لان معنى تبتل بتل نفسه، فجئ به على معناه مراعاة لحق الفواصل. الثالثة - قد مضى في (المائدة) (3) في تفسير قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " [ المائدة: 87 ] كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. قال ابن العربي: وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام (4)، فالعزلة خير من الخلطة، والعز به أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: انقطع عن الاوثان والاصنام وعن عبادة غير الله، وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الامر غير متعلق النهي، فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم، فالتبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة، كما قال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا (1) راجع ج 13 ص 65. (2) البيت من معلقة امرى القيس ومعناه: إذا ابتسمت بالليل رأيت لثناياها بريقا وضوءا وإذا برزت في الظلام استنار وجهها حتى يغلب ظلمة الليل. وممسى راهب: أي إمساؤه. (3) راجع ج 6 ص 261. (4) حطام الدنيا: كل ما فيها من مال يفنى ولا يبقى. (*)
[ 45 ]
الله مخلصين له الدين " (1) [ البينة: 5 ] والتبتل المنهى عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن. قوله تعالى: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10) وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا (11) قوله تعالى: (رب المشرق والمغرب) قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وأبن أبي إسحاق وحفص " رب " بالرفع على الابتداء والخبر " لا إله إلا هو ". وقيل: على إضمار " هو ". الباقون " رب " بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى: " وأذكر اسم ربك " " رب المشرق " ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. (فاتخذه وكيلا) أي قائما بأمورك. وقيل: كفيلا بما وعدك. قوله تعالى: (واصبر على ما يقولون) أي من الاذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم. (واهجرهم هجرا جميلا) أي لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الامر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك، قاله قتادة وغيره. وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه [ أقوام ] (2) ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم. قوله تعالى: (وذرني والمكذبين) أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين. وقال مقاتل: نزلت في المطعمين (3) يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في " الانفال " (4). وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. (أولى النعمة) أي أولى الغنى والترفه واللذة في الدنيا (1) راجع ج 20 ص 144. (2) الزيادة من نهاية ابن الاثير. (3) في ا، ح، ل: (المهطعين). (4) راجع ج 8 ص 53. (*)
[ 46 ]
(ومهلهم قليلا) يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. وقيل: " ومهلهم قليلا " يعني إلى مدة الدنيا. قوله تعالى: إن لدينا انكالا وجحيما (12) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما (13) يوم ترجف الارض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا (14) قوله تعالى: (إن لدينا أنكالا وجحيما) الانكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل، وهو ما منع (1) الانسان من الحركة. وقيل: سمى نكلا، لانه ينكل به. قال الشعبي: أترون أن الله تعالى جعل الانكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا ؟ لا والله ! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم. وقال الكلبي: الانكال: الاغلال، والاول أعرف في اللغة، ومنه قول الخنساء: دعاك فقطعت أنكاله * وقد كن (2) قبلك لا تقطع وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد، قاله مقاتل. وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب النكل على النكل) بالتحريك، قاله الجوهري. قيل: وما النكل ؟ قال: (الرجل القوي المجرب، على الفرس القوي المجرب) ذكره الماوردي. قال: ومن ذلك سمى القيد نكلا لقوته، وكذلك الغل، وكل عذاب قوي فاشتد، والجحيم النار المؤججة. (وطعاما ذا غصة) أي غير سائغ، يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزقوم والضريع، قاله ابن عباس. وعنه أيضا: انه شوك يدخل الحلق، فلا ينزل ولا يخرج. وقال الزجاج: أي طعامهم الضريع، كما قال: " ليس لهم طعام إلا من ضريع " [ الغاشية: 6 ] وهو شوك كالعوسج. وقال مجاهد: هو الزقوم، كما قال: " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم " [ الدخان: 43 - 44 ]. والمعنى واحد. وقال حمران بن أعين: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (إن لدينا أنكالا وجحيما. وطعاما ذا غصة) (1) في ا، ح، و: (وهو منع). (2) في ديوان الخنساء: ظن. (*)
[ 47 ]
فصعق. وقال خليد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية " إن لدينا أنكالا وجحيما. وطعاما " فقال: أرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوه. ومثله في الثالثة، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم، فجاءوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. والغصة: الشجا، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعها غصص. والغصص بالفتح مصدر قولك: غصصت يا رجل تغص، فأنت غاص بالطعام وغصان، وأغصصته أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم. قوله تعالى: (يوم ترجف الارض والجبال) أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب " يوم " على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون " يوم ترجف الارض ". وقيل: بنزع الخافض، يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الارض والجبال. وقيل: العامل " ذرني " أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الارض والجبال. (وكانت الجبال كثيبا مهيلا) أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع - قال حسان: عرفت ديار زينب بالكثيب * كخط الوحي في الورق (1) القشيب والمهيل: الذي يمر تحت الارجل. قال الضحاك والكلبي: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس: " مهيلا " أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك: هلت عليه التراب أهيله هيلا: إذا صببته. يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول، ومدين ومديون، ومعين ومعيون، قال الشاعر: (2) قد كان قومك يحسبونك سيدا * وإدخال أنك سيد معيون وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شكوا إليه الجدوبة، فقال: (أتكيلون أم تهيلون) قالوا: نهيل. قال: (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه). وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو (1) ويروى (في الرق) والوحى هنا: الكتابة. والقشيب: الجديد. شبه حسان رضى الله عنه آثار الديار بالسطور. (2) هو عباس بن مرداس. وقد ورد في ا، ه‍، و: (والحال أنك) الخ. (*)
[ 48 ]
مهال ومهيل. وإنما حذفت الواو، لان الياء تثقل فيها الضمة، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين قوله تعالى: إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا (16) فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا (18) إن هذه تذكرة فمن شاء أتخذ إلى ربه سبيلا (19) قوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولا) يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا) وهو موسى (فعصى فرعون الرسول) أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكر موسى وفرعون، لان أهل مكة ازدروا محمدا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به، لانه ولد فيهم، كما أن فرعون أزدرى موسى، لانه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: " ألم نربك فينا وليدا " [ الشعراء: 18 ]. قال المهدوي: ودخلت الالف واللام في الرسول لتقدم ذكره، ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. (وبيلا) أي ثقيلا شديدا. وضرب وبيل وعذاب وبيل: أي شديد، قاله ابن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد، قاله الاخفش. وقال الزجاج: أي ثقيلا غليظا. ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مهلكا [ والمعنى عاقبناه عقوبة (1) غليظة ] قال: أكلت بنيك أكل الضب حتى * وجدت مرارة الكلا الوبيل واستوبل فلان كذا: أي لم يحمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مرئ، وكلا مستوبل وطعام وبيل ومستوبل: إذا لم يمرئ ولم يستمرأ، قال زهير: (1) الزيادة من حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ونص بأنها عبارته. (*)
[ 49 ]
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا * إلى كلا مستوبل متوخم وقالت الخنساء: لقد أكلت بجيلة يوم لاقت * فوارس مالك أكلا وبيلا والوبيل أيضا: العصا الضخمة، قال: لو أصبح في يمنى يدي زمامها (1) * وفي كفي الاخرى وبيل تحاذره وكذلك الموبل بكسر الباء، والموبلة أيضا: الحزمة من الحطب، وكذلك الوبيل، قال طرفة: * عقيلة شيخ كالوبيل يلندد (2) * قوله تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا) هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم. وفيه تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم. وكذا قراءة عبد الله وعطية. قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب ؟ بأي صوم تتقون العذاب ؟ وفيه إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر بالله ذلك اليوم بشئ. و " يوما " مفعول ب‍ " - تتقون " على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول (كفرتم). وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: (كفرتم) والابتداء (يوما) يذهب إلى أن اليوم مفعول " يجعل " والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيبا في يوم. قال ابن الانباري، وهذا لا يصلح، لان اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله. المهدوي: والضمير في " يجعل " يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف، كأنه قال: يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا. ابن الانباري: ومنهم من نصب اليوم (1) في ا، ح، و: (رقامها). (2) يلندد: شديد الخصومة. وصدر البيت: * فمرت كهاة ذات خيف جلالة * (*)
[ 50 ]
ب‍ " - كفرتم " وهذا قبيح، لان اليوم إذا علق ب‍ " - كفرتم " أحتاج إلى صفة، أي كفرتم بيوم. فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبد الله " فكيف تتقون يوما ". قلت: هذه القراءة ليست متواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف‍ " - يوما " مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرأ أبو السمال قعنب " فكيف تتقون " بكسر النون على الاضافة. و " الولدان " الصبيان. وقال السدي: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. والعموم أصح، أي يشيب فيه الصغير من غير كبر. وذلك حين يقال: (يا آدم قم فابعث بعث النار). على ما تقدم في أول سورة " الحج " (1). قال القشيري: ثم إن أهل الجنة يغير الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد. وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز، لان يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة. ويقال: هذا وقت الفزع، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق، فالله أعلم. الزمخشري: وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة (2)، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الاطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب. قوله تعالى: (السماء منفطر به) أي متشققة لشدته. ومعنى " به " أي فيه، أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال: مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى: " ثقلت في السموات والارض " [ الاعراف: 187 ]. وقيل: " به " أي له، أي لذلك اليوم، يقال: فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك، والباء واللام (1) راجع ج 11 ص 3 (2) في نسخ الاصل: (كالنعامة) بالنون والعين. والثغامة (بالثاء المفتوحة والعين): شجرة تبيض كأنها الثلج. (*)
[ 51 ]
وفي: متقاربة في مثل هذا الموضع، قال الله تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " [ الانبياء: 47 ] أي في يوم القيامة. وقيل: " به " أي بالامر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا. وقيل: منفطر بالله، أي بأمره، وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة، لان مجازها (1) السقف، تقول: هذا سماء البيت، قال الشاعر: فلو رفع السماء إليه قوما * لحقنا بالسماء وبالسحاب وفي التنزيل: " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " [ الانبياء: 32 ]. وقال الفراء: السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الاخضر، و " أعجاز نخل منقعر " [ القمر: 20 ]. وقال أبو علي أيضا: أي السماء ذات انفطار، كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات إرضاع، فجرى على طريق النسب. " كان وعده " أي بالقيامة والحساب والجزاء " مفعولا " كائنا لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله. قوله تعالى: (إن هذه تذكرة) يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل: آيات القرآن، إذ هو كالسورة الواحدة. (فمن شاء اتخذ إلى ربه) أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه (سبيلا) أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب، فقد أمكن له، لانه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: " فمن شاء ذكره " [ المدثر: 55 ] قال الثعلبي: والاشبه أنه غير منسوخ. قوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم ألن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر (1) مجازها: معناها. (*)
[ 52 ]
منه واقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (20) فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: " إن ربك يعلم أنك تقوم " هذه الآية تفسير لقوله تعالى: " قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه " [ المزمل: 2 - 4 ] كما تقدم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. " تقوم " معناه تصلي و " أدنى " أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام " ثلثي " بإسكان اللام. " ونصفه وثلثه " بالخفض قراءة العامة عطفا على " ثلثي "، المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، كقوله تعالى: " علم أن لن تحصوه " فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون " ونصفه وثلثه " بالنصب عطفا على " أدنى " التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب، لانه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف، لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفى بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم: إنما أفترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.
[ 53 ]
الثانية - قوله تعالى: (والله يقدر الليل والنهار) أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. (علم أن لن تحصوه) أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والاول أصح، فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل (1) وغيره: لما نزلت: " قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه " [ المزمل: 2 - 4 ] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم، فقال تعالى: " علم أن لن تحصوه " و " أن " مخففة من الثقيلة، أي علم أنكم لن تحصوه، لانكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم. الثالثة - قوله تعالى: (فتاب عليكم) أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدم، فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الاوقات على طريق التحري، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل: معنى (والله يقدر الليل والنهار) يخلقهما مقدرين كقوله تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا). ابن العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف. الرابعة - قوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة، أي فاقرءوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي: مائة آية. الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية. قلت: قول كعب أصح، لقوله عليه السلام: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين) (2) خرجه أبو داود (1) في ز: (قال النقاش). (2) أي أعطى من ااجر قنطارا. (*)
[ 54 ]
الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب (1) والحمد لله. القول الثاني: " فاقرءوا ما تيسر منه " أي فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله تعالى: " وقرآن الفجر " أي صلاة الفجر. ابن العربي: وهو الاصح، لانه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول. قلت: الاول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز، فإنه من تسمية الشئ ببعض ما هو من أعماله. الخامسة - قال بعض العلماء: قوله تعالى: " فاقرءوا ما تيسر منه " نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل: " فاقرءوا ما تيسر منه " معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا، لانه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره، وذلك لقوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " [ الاسراء: 79 ] فاحتمل قوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الاسراء: 79 ] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس. السادسة - قال القشيري أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الامة، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب، كقوله تعالى: " فما استيسر من الهدي " [ البقرة: 196 ] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بد من صلاة الليل، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي، وعلى هذا فقد قال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق، وهو مذهب الحسن. وقال قوم: نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا، وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا (1) راجع ج 1 ص 9 (*)
[ 55 ]
فقوله تعالى: " فاقرءوا ما تيسر منه " معناه أقرءوا إن تيسر عليكم ذلك، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله: " نافلة لك " [ الاسراء: 79 ] محمول على حقيقة النفل. ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة، كقوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " [ الاسراء: 78 ]، وقوله: " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون " [ الروم: 17 ]، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الاسراء: 79 ] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللامة، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " يا أيها المزمل. قم الليل " [ المزمل: 1 - 2 ] كانت عامة له ولغيره. وقد قيل: إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة، لقوله تعالى: " علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله "، وإنما فرض القتال بالمدينة، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الاسراء: 79 ]. وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى: " إن ربك يعلم أنك تقوم " وجوب صلاة الليل. السابعة - قوله تعالى: (علم أن سيكون منكم مرضى) الآية، بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لاجل هؤلاء. و " أن " في " أن سيكون " مخففة من الثقيلة، أي علم أنه سيكون. الثامنة - سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والاحسان والافضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد، لانه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت
[ 56 ]
منزلته عند الله منزلة الشهداء) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله " وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ " وآخرون يضربون في الارض " الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من فضل الله ضاربا في الارض. وقال طاوس: الساعي على الارملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر، فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا ! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه، فلقيه فقال له: يا بني ! ما لك وللطعام ؟ فهلا إبلا، فهلا بقرا، فهلا غنما ! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث. التاسعة - قوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر منه) أي صلوا ما أمكن، فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية، قاله البخاري وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث (يعقد الشيطان على قافية (1) رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى أنحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث (1) قافية الرأس مؤخره وقيل: وسطه أراد تثقيله في النوم وإطالته. (*)
[ 57 ]
النفس كسلان) وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا قال: (أما الذي يثلغ (1) رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه (2)، وينام عن الصلاة المكتوبة). وحديث عبد الله بن مسعود قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه) فقال ابن العربي: فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة، فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظ للبخاري: قال عبد الله بن عمرو: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل) ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار. قال: ولقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع (3). فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا، فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك: لم ترع. والله أعلم. العاشرة - إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله: " فاقرءوا ما تيسر من القرآن "، " فاقرءوا ما تيسر منه " محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة، فقال مالك والشافعي: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث (1) الثلغ: وهو ضربك لشئ الرطب بالشئ اليابس حتى ينشدخ. (2) يرفضه: يتركه. (3) لم ترع: لا روع ولا خوف عليك بعد ذلك. (*)
[ 58 ]
آيات، لانها أقل سورة. ذكر القول الاول الماوردي والثاني ابن العربي. والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي، على ما بيناه في سورة " الفاتحة " (1) أول الكتاب والحمد لله. وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة، قال الماوردي: فعلى هذا يكون مطلق هذا الامر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الاكثرين، لانه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب، ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه، لان حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الامر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن، لان الله تعالى يسره على عباده، قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن، حكاة جوبير. الثالث مائتا آية، قاله السدي. الرابع مائة آية، قاله ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة، قاله أبو خالد الكناني. الحادية عشرة - قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. (وآتوا الزكاة) الواجبة في أموالكم، قاله عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر لان زكاة الاموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل أفعال الخير. وقال ابن عباس: طاعة الله والاخلاص له. الثانية عشرة - قوله تعالى: (وأقرضوا الله قرضا حسنا) القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة " الحديد " (2) بيانه. وقال زيد ابن أسلم: القرض الحسن النفقة على الاهل. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله. الثالثة عشرة - قوله (3) تعالى: (وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله) (البقرة) (4). وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا ؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري (1) راجع ج 1 ص 123. (2) راجع ج 17 ص 252 (3) جملة: (قوله تعالى) ساقطة من ا، ح، ط. (4) راجع 2 ص 73. (*)
[ 59 ]
ما هو. وكأنه تأول: " وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا " أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشح والتقصير. (وأعظم أجرا) قال أبو هريرة: الجنة، ويحتمل أن يكون أعظم أجرا، لاعطائه بالحسنة عشرا. ونصب " خيرا وأعظم " على المفعول الثاني ل‍ " - تجدوه " و " هو ": فصل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الاعراب. و " أجرا " تمييز. (وأستغفروا الله) أي سلوه المغفرة لذنوبكم (إن الله غفور) لما كان قبل التوبة (رحيم) لكم بعدها، قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة (1). سورة المدثر مكية في قول الجميع. وهي ست وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يأيها المدثر) أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي " المتدثر " على الاصل. وقال مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه: (فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والارض). (1) في ل: (ختمت السورة والحمد لله). (*)
[ 60 ]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجئثت (1) منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: " يأيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر ") في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الاوثان قال: (ثم تتابع الوحي). خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. قال مسلم: وحدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الاوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل ؟ قال: " يأيها المدثر " فقلت: أو " أقرأ ". فقال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل ؟ قال: " يأيها المدثر " فقلت: أو " أقرأ " فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم - فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني فصبوا علي ماء، فأنزل الله عز وجل: " يأيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر وثيابك فطهر ") خرجه البخاري وقال فيه: (فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت: " يأيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر "). ابن العربي: وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة [ بن ربيعة ] (2) أمر، فرجع إلى منزله مغموما، فقلق واضطجع، فنزلت: " يأيها المدثر " وهذا باطل. وقال القشيري أبو نصر: وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر، فوجد من ذلك غما وحم، فتدثر بثيابه، فقال الله تعالى: " قم فانذر " أي لا تفكر في قولهم، وبلغهم الرسالة. وقيل: اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم في الاخبار عنه، فمن قائل يقول مجنون، (1) جئثت أي ذعرت وخفت. (2) الزيادة من ابن العربي. (*)
[ 61 ]
وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام ابن الابرص، وأمية بن أبي الصلت، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما، فقالوا: كاهن. فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال: مجنون، فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس ! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد: ما لي إلى ذلك حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: ما يكون من الساحر ؟ فقيل: يفرق بين الاب وابنه، وبين الاخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة، ونزلت: " يأيها المدثر ". وقال عكرمة: معنى " يأيها المدثر " أي المدثر بالنبوة وأثقالها. ابن العربي: وهذا مجاز بعيد، لانه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل. الثانية - قوله تعالى: " يأيها المدثر ": ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة " المزمل ". ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد: (قم أبا تراب) وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه، خرجه مسلم. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق: (قم يانومان) وقد تقدم. الثالثة - قوله تعالى: (قم فأنذر) أي خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وقيل: الانذار هنا إعلامهم بنبوته، لانه مقدمة الرسالة. وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد، لانه المقصود بها. وقال الفراء: قم فصل وأمر بالصلاة. الرابعة - قوله تعالى: (وربك فكبر) أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة ؟
[ 62 ]
فنزلت: " وربك فكبر " أي وصفه بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه مراد به التكبير (1) والتقديس والتنزيه، لخلع الانداد والاصنام دونه، ولا تتخذ وليا غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه. وقد روى أن أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ قولوا الله أعلى وأجل ] وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله: " الله أكبر " وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الاطلاق في موارد، منها قوله: [ تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ] والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الاهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك، وإعلانا (2) باسمه في النسك، وإفرادا لما شرع منه لامره بالسفك. قلت: قد تقدم في أول سورة " البقرة " (3) أن هذا اللفظ " الله أكبر " هو المتعبد به في الصلاة، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي التفسير: أنه لما نزل قوله تعالى: " وربك فكبر " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [ الله أكبر ] فكبرت خديجة، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى، ذكره القشيري. الخامسة - الفاء في قوله تعالى: " وربك فكبر " دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في (فأنذر) أي قم فأنذر وقم فكبر ربك، قاله الزجاج. وقال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب، أي زيدا اضرب، فالفاء زائدة. السادسة - قوله تعالى: (وثيابك فطهر) فيه ثمانية أقوال: أحدهما أن المراد بالثياب العمل. الثاني القلب. الثالث النفس. الرابع الجسم. الخامس الاهل. السادس الخلق. السابع الدين. الثامن الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب إلى القول الاول (1) كذا في أحكام القرآن تفسير ابن العربي المطبوع بالقاهرة سنة 1331 ه‍. وفيما نقله المؤلف عن ابن العربي هنا تصرف في اللفظ بزيادة ونقص فليراجع (ج 2 / 287). (2) كذا في أحكام القرآن وفي ح، ز، و: (إعلاما) بالميم. (3) راجع ج 1 ص 175. (*)
[ 63 ]
قال: تأويل الآية وعملك فأصلح، قال مجاهد وابن زيد. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول وعملك فأصلح، قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب، ونحوه عن السدي. ومنه قول الشاعر: لا هم إن عامر بن جهم * أو ذم حجا في ثياب دسم (1) ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ يحشر المرء (2) في ثوبيه اللذين مات عليهما ] يعني عمله الصالح والطالح، ذكره الماوردي. ومن ذهب إلى القول الثاني قال: إن تأويل الآية وقلبك فطهر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، دليله قول امرئ القيس: * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل (3) * أي قلبي من قلبك. قال الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما - معناه وقلبك فطهر من الاثم والمعاصي، قاله ابن عباس وقتادة. الثاني - وقلبك فطهر من الغدر، أي لا تغدر فتكون دنس الثياب. وهذا مروى عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي: فإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست ولا من غدرة أتقنع ومن ذهب إلى القول الثالث قال: تأويل الآية ونفسك فطهر، أي من الذنوب. والعرب تكني عن النفس بالثياب، قاله ابن عباس. ومنه قول عنترة: فشككت بالرمح الطويل ثيابه * ليس الكريم على القنا بمحرم وقال امرؤ القيس: * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل * (1) ثياب دسم: متلطخة بالذنوب. وفي، ح، ز: (أو دم) بالدال المهملة وهو تحريف. ومعنى البيت: أنه حج وهو متدنس بالذنوب. وأوذم الحج: أوجبه. (2) في ا، ح: (المؤمن). (3) صدر البيت: * وإن كنت قد ساءتك منى خليقة * (*)
[ 64 ]
وقال (1): ثياب بني عوف طهارى نقية * وأوجههم بيض المسافر غران أي أنفس بني عوف. ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية وجسمك فطهر، أي عن المعاصي الظاهرة. ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلا: رموها بأثياب خفاف فلا ترى * لها شبها إلا النعام المنفرا أي ركبوها فرموها بأنفسهم. ومن ذهب إلى القول الخامس قال: تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب، والعرب تسمى الاهل ثوبا ولباسا وإزارا، قال الله تعالى: " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " [ البقرة: 187 ]. الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما - معناه ونساءك فطهر، باختيار المؤمنات العفائف. الثاني - الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر، في الطهر لا في الحيض. حكاه ابن بحر. ومن ذهب إلى القول السادس قال: تأويل الآية وخلقك فحسن. قاله الحسن والقرظي، لان خلق الانسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه. وقال الشاعر: ويحيى لا يلام بسوء خلق * ويحيى طاهر الاثواب حر أي حسن الاخلاق. ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية ودينك فطهر. وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال: (ورأيت الناس وعليهم ثياب، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجره). قالوا: يا رسول الله فما أولت ذلك ؟ قال: الدين. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق، قال الله تعالى: " وثيابك فطهر " يريد مالك أنه كنى عن الثياب بالدين. وقد روى عبد الله بن نافع عن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الله (1) نسب المؤلف هذا البيت فيما سيأتي لابن أبي كبشة مرة ولامرئ القيس مرة أخرى وفي (اللسان) و (شرح القاموس) أنه لامرئ القيس ولم نعثر عليه في ديوانه وقد نسبه ابن العربي لابن أبي كبشة. والشطر الاخير في ا، ز، ح، ط: * وأوجههم عند المشاهد غران * (*)
[ 65 ]
ابن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى: " وثيابك فطهر " أي لا تلبسها على غدرة، ومنه قول أبي كبشة (1): ثياب بني عوف طهارى نقية * وأوجههم بيض المسافر غران يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم من الدناءات، ويعني بغرة وجوههم تنزيهم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما، قاله ابن العربي. وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم، قاله عكرمة. ومنه قول الشاعر: * أو ذم حجا في ثياب دسم * أي قد دنسها بالمعاصي. وقال النابغة: رقاق النعال طيب حجزاتهم * يحيون بالريحان يوم السباسب (2) ومن ذهب إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدهما - معناه وثيابك فأنق، ومنه قول امرئ القيس: * ثياب بني عوف طهارى نقية * الثاني - وثيابك فشمر وقصر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجرت على الارض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها، قاله الزجاج وطاوس. الثالث - " وثيابك فطهر " من النجاسة بالماء، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع - لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام. وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر. ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين: أحدهما - تقصير الاذيال، لانها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الانصار وقد رأى ذيله مسترخيا: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى. (1) انظر الحاشية رقم 3 ص 62 من هذا الجزء. (2) البيت من قصيدة مدح بها عمرو بن الحارث الغساني. وأراد برقاق النعال أنهم ملوك لا يخصفون نعالهم وبطيب حجزاتهم عفتهم. والسباسب يوم (الشعانين) وهو يوم عيد عند النصارى وكان الممدوح نصرانيا. (*)
[ 66 ]
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إزرة المؤمن (1) إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار " فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الازار الكعب وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أذيالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم، وهذه حالة الكبر، وقائدة العجب، [ وأشد ما في الامر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم ] (2) بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء ] ولفظ الصحيح: " من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ". قال أبو بكر: يا رسول الله ! إن أحد شقى إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لست ممن يصنعه خيلاء) فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي، واستثنى الصديق، فأراد الادنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء (3)، وليس ذلك لهم. والمعنى الثاني - غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها، صحيح فيها. المهدوي: وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب، قال ابن سيرين وابن زيد: لا تصل إلا في ثوب طاهر. واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب. وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض، وكذلك طهارة البدن، ويدل على ذلك الاجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. وقد مضى هذا القول في سورة " براءة " (4) مستوفى. قوله تعالى: الرجز فاهجر (5) قوله تعالى: (والرجز فاهجر) قال مجاهد وعكرمة: يعني الاوثان، دليله قوله تعالى: " فاجتنبوا الرجس من الاوثان " [ الحج: 30 ]. قال ابن عباس وابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: والمأثم فاهجر، أي فاترك. وكذا روى مغيرة عن إبراهيم النخعي قال: الرجز الاثم. وقال قتادة: الرجز: إساف ونائلة، صنمان كانا عند البيت. وقيل: الرجز العذاب، على تقدير حذف (1) الازرة بالكسر: الحالة وهيئة الائتزار. (2) الزيادة من ابن العربي (ج 2 / 288) طبع السعادة بالقاهرة. (3) في ابن العربي: بالاقصياء. (4) راجع ج 8 ص 63. (*)
[ 67 ]
المضاف، المعنى: وعمل الرجز فاهجر، أو العمل المؤدي إلى العذاب. وأصل الرجز العذاب، قال الله تعالى: " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك " [ الاعراف: 134 ]. وقال تعالى: " فأرسلنا عليهم رجزا من السماء " [ الاعراف: 162 ]. فسميت الاوثان رجزا، لانها تؤدي إلى العذاب. وقراءة العامة " الرجز " بكسر الراء. وقرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم " والرجز " بضم الراء وهما لغتان مثل الذكر والذكر. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرجز بالضم: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية. وقال الكسائي أيضا: بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب. وقال السدي: الرجز ينصب الراء: الوعيد (1). قوله تعالى: ولا تمنن تستكثر (6) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ولا تمنن تستكثر " فيه أحد عشر (2) تأويلا، الاول - لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. الثاني - لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانه مأمور بأشرف الآداب وأجل الاخلاق، وأباحه لامته، وقاله مجاهد. الثالث - عن مجاهد أيضا: لا تضعف (3) أن تستكثر من الخير، من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا، ودليله قراءة ابن مسعود " ولا تمنن تستكثر من الخير ". الرابع - عن مجاهد أيضا والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك، إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. الخامس - قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره. السادس - لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. السابع - قال القرظي: لا تعط مالك مصانعة. الثامن - قال زيد بن أسلم: إذا (1) قوله (بنصب الراء...) كذا في نسخ الاصل ولم نظفر به في المراجع التي بأيدينا. (2) ا، ح: (فيه عشر تأويلات). (3) عبارة ابن العربي في أحكام القرآن (2 / 288): ولا تضعف عن الخير أن تستكثر منه. (*)
[ 68 ]
أعطيت عطية فأعطها لربك. التاسع - لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر - لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر - لا تفعل الخير لترائي به الناس. الثانية - هذه الاقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال، يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها، لانه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: [ ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ]. وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين، ولهذا لم يورث، لانه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شئ من الدنيا، ولذلك (1) حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال: [ لو دعيت إلى كراع (2) لاجبت ولو أهدي إلى ذراع لقبلت ] ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالاغنياء أولى بالاجتناب، لانها باب من أبواب المذلة، وكذلك قول من قال: إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالاطماع، وذلك في حيزه بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " [ طه: 131 ]. وذلك جائز لسائر الخلق، لانه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح، فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر. الثالثة - قوله تعالى: " ولا تمنن " قراءة العامة بإظهار التضعيف. وقرأ أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن " ولا تمن " مدغمة مفتوحة. " تستكثر ": قراءة العامة (1) في، ا ح، ز، ط: (ولهذا). (2) الكراع بوزن غراب: وهو مستدق الساق من الرجل. وهو من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير. (*)
[ 69 ]
بالرفع وهو في معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضا، أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه. وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو ردئ، لانه ليس بجواب. ويجوز أن يكون بدلا من " تمنن " كأنه قال: لا تستكثر. وأنكره أبو حاتم وقال: لان المن ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد. أو أن يعتبر حال الوقف. وقرأ الاعمش ويحيى " تستكثر " بالنصب، توهم لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو بإضمار " أن " كقوله: (1) (ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى) ويؤيده قراءة ابن مسعود " ولا تمنن أن تستكثر ". قال الكسائي: فإذا حذف " أن " رفع وكان المعنى واحدا. وقد يكون المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول [ الثاني ] (2)، ويعضده قوله تعالى: " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى " [ البقرة: 264 ] وقد يكون مرادا في هذه الآية. والله أعلم. قوله تعالى: ولربك فاصبر (7) قوله تعالى: (ولربك فاصبر) أي ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد: على ما أوذيت (3). وقال ابن زيد: حملت أمرا عظيما، محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لاجل الله تعالى. وقيل: فاصبر على البلوى، لانه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل: على أوامره ونواهيه. وقيل: على فراق الاهل والاوطان. قوله تعالى: فإذا نقر في الناقور (8) فذلك يومئذ يوم عسير (9) على الكافرين غير يسير (10) (1) البيت لطرفة بن العبد من معلقته وتمامه: * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى * (2) زيادة يقتضيها المعنى. (3) في ا، ح، ل: (ما أديت). (*)
[ 70 ]
قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور) إذا نفخ في الصور. والناقور: فاعول من النقر، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت، ومنه قول امرئ القيس. أخفضه بالنقر لما علوته * ويرفع طرفا غير خاف غضيض وهم يقولون: نقر باسم الرجل إذ دعاه مختصا له بدعائه. وقال مجاهد وغيره: هو كهيئة البوق، ويعني به النفخة الثانية. وقيل: الاولى، لانها أول الشدة الهائلة العامة. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في " النمل " (1) و " الانعام " (2) وفي كتاب " التذكرة "، والحمد لله. وعن أبي حبان قال: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ " فإذا نقر في الناقور " خر ميتا. (فذلك يومئذ يوم عسير) أي فذلك اليوم يوم شديد (على الكافرين) أي على من كفر بالله وبأنبيائه صلى الله عليهم (غير يسير) أي غير سهل ولا هين، وذلك أن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى. و (يومئذ) نصب على تقدير فذلك يوم عسير يومئذ. وقيل: جر بتقدير حرف جر مجازه: فذلك في يومئذ. وقيل: يجوز أن يكون رفعا إلا أنه بنى على الفتح لاضافته إلى غير متمكن. قوله تعالى: ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12) وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن إزيد (15) كلا إنه كان لاياتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17) قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا) (ذرني) أي دعني، وهي كلمة وعيد وتهديد. " ومن خلقت " أي دعني والذي خلقته وحيدا، ف‍ " - وحيدا " على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته. (1) راجع ج 13 ص 339. (2) راجع ج 7 ص 30. (*)
[ 71 ]
والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه. وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمى الوحيد في قومه. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لابي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد، فقال الله تعالى: " ذرني ومن خلقت " بزعمه " وحيدا " لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد. وقال قوم: إن قوله تعالى: " وحيدا " يرجع إلى الرب تعالى على معنين: أحدهما: ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني أنفردت (1) بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه، ف‍ " - وحيدا " على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو التاء في " خلقت " والاول قول مجاهد، أي خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر، فقوله: " وحيدا " على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم يكن له (2) شئ فملكته. وقيل: أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا. وقيل: الوحيد الذي لا يعرف (3) أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، كما ذكرنا في قوله تعالى: " عتل بعد ذلك زنيم " [ القلم: 13 ] وهو في صفة الوليد أيضا. قوله تعالى: (وجعلت له مالا ممدودا) أي خولته وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الابل والحجور (4) والنعم والجنان والعبيد والجواري، كذا كان ابن عباس يقول: وقال مجاهد: غلة ألف دينار، قاله سعيد بن جبير وابن عباس أيضا. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري وقتادة: أربعة آلاف دينار. الثوري أيضا: ألف ألف دينار. مقاتل: كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال عمر رضى الله عنه: " وجعلت له مالا ممدودا " غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم: أرضا يزرع فيها. القشيري: والاظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة. (1) في ا، ح، و: (أفردت). (2) كلمة (له) ساقطة من ا، ح، ل. (3) في ز، ط، ل: (لا يتبين). (4) جمع حجرة وهي الانثى من الخيل. (*)
[ 72 ]
قوله تعالى: (وبنين شهودا) أي حضورا لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقيل: اثنا عشر، قاله السدي والضحاك. قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: شهودا، أي إذا ذكر ذكروا معه، قاله ابن عباس. وقيل: شهودا، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. والاول قول السدي، أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون. قوله تعالى: (ومهدت له تمهيدا) أي بسطت له في العيش بسطا، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة، ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس: " ومهدت له تمهيدا " أي وسعت له ما بين اليمن والشام وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضا في " ومهدت له تمهيدا " أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش. قوله تعالى: (ثم يطمع أن أزيد) أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. (كلا) أي ليس يكون ذلك مع كفره بالنعم. وقال الحسن وغيره: أي ثم يطمع أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي، فقال الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له: " كلا " أي لست أزيده، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك. و " ثم " في قوله تعالى: " ثم يطمع " ليست بثم التي للنسق ولكنها تعجيب، وهي كقوله تعالى: " وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) [ الانعام: 1 ] وذلك كما تقول: أعطيتك ثم أنت تجفوني، كالمتعجب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه، وذلك أنه كان يقول: إن محمدا مبتور، أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظن أن ما رزق لا ينقطع بموته. وقيل: أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. و " كلا " قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة، فيكون متصلا بالكلام الاول. وقيل: " كلا " بمعنى حقا ويكون ابتداء " إنه " يعني الوليد " كان لآياتنا عنيدا " أي معاندا للنبي صلى الله
[ 73 ]
عليه وسلم وما جاء به، يقال: عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس، قاله مجاهد. وعند يعند بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند: البعير الذي يحور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع، وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي: إذا ركبت فاجعلاني وسطا (1) * إني كبير لا أطيق العندا وقال أبو صالح: " عنيدا " معناه مباعدا، قال الشاعر: أرانا على حال تفرق بيننا * نوى غربة (2) إن الفراق عنود قتادة: جاحدا. مقاتل: معرضا. ابن عباس: جحودا. وقيل: إنه المجاهر بعدوانه. وعن مجاهد أيضا قال: مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول: عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الابل: الذي لا يخالط الابل، إنما هو في ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس. والعنيد من التجبر. وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه، كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة " إبراهيم " (3). وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف. قوله تعالى: " سأرهقه " أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول: سألجئه، والارهاق في كلام العرب: أن يحمل الانسان على الشئ. " صعودا " (الصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا) رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الترمذي وقال فيه حديث غريب. وروى عطية عن أبي سعيد قال: صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال: فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها، فذلك دأبه أبدا. وقد مضى هذا المعنى في سورة " قل أوحى " (4) [ الجن: 1 ] وفي التفسير: أنه صخرة ملساء (1) رواية لسان العرب: * إذا رحلت فاجعلوني وسطا * (2) نوى غربة: بعيدة. (3) راجع ج 9 ص 349. (4) راجع ص 28 من هذا الجزء. (*)
[ 74 ]
يكلف صعودها فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيقوم يهوي ألف عام من قبل أن يبلغ قرار جهنم، يحترق في كل يوم سبعين مرة ثم يعاد خلقا جديدا. وقال ابن عباس: المعنى سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه. ونحوه عن الحسن وقتادة. وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت، ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه. قوله تعالى: إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25) قوله تعالى: (إنه فكر وقدر) يعني الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و " قدر " أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: قدرت الشئ إذا هيأته، وذلك أنه لما نزل: " حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " [ غافر: 1 ] إلى قوله: " إليه المصير " سمعه الوليد يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صبا الوليد لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزينا ؟ فقال له: مالي أراك حزينا. فقال له: ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليد وتكبر، وقال: أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه، فأنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق ؟ قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قط ؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط ؟ قالوا: لا والله.
[ 75 ]
قال: فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل (1) رأيتموه كذلك ؟ قالوا: لا والله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى الصادق الامين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد: فما هو ؟ ففكر في نفسه، ثم نظر، ثم عبس، فقال: ما هو إلا ساحر ! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ ! فذلك قوله تعالى: " إنه فكر " أي في أمر محمد والقرآن " وقدر " في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. " فقتل " أي لعن. وكان بعض أهل التأويل يقول: معناها فقهر وغلب، وكل مذلل مقتل، قال الشاعر (2) وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي * بسهميك في أعشار قلب مقتل وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء. " كيف قدر " قال ناس: " كيف " تعجيب، كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه: كيف فعلت هذا ؟ وذلك كقوله: " انظر كيف ضربوا لك الامثال " [ الاسراء: 48 ]. " ثم قتل " أي لعن لعنا بعد لعن. وقيل: فقتل بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة " كيف قدر " أي على أي حال قدر. (ثم نظر) بأي شئ يرد الحق ويدفعه. (ثم عبس) أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما حمل قريشا على ما حملهم عليه من القول في محمد صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، مر على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الاسلام، فعبس في وجوههم.. قيل: عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. والعبس مخففا (3) مصدر عبس يعبس عبسا وعبوسا: إذا قطب. والعبس ما يتعلق بأذناب الابل من أبعارها وأبوالها قال أبو النجم: كأن في أذنابهن الشول * من عبس الصيف قرون الايل (وبسر) أي كلح وجهه وتغير لونه، قاله قتادة والسدي، ومنه قول بشر بن أبي خازم: صبحنا تميما غداة الجفار (4) * بشهباء ملمومة باسره (1) تخلج المجنون في مشيته: تجاذب يمينا وشمالا. (2) هو امرؤ القيس. (3) كلمة: (مخففا) ساقطة من الاصل المطبوع. (4) الجفار: موضع. وقيل هو ماء لبني تميم. (*)
[ 76 ]
وقال آخر (1): وقد رابني منها صدود رأيته * وإعراضها عن حاجتي وبسورها وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. وقال قوم: " بسر " وقف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا: وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجئ ولم يذهب: قد بسر المركب، وأبسر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول: وجه باسر بين البسور: إذا تغير واسود. " ثم أدبر " أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله. " واستكبر " أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر عن الايمان واستكبر حين دعي إليه. " فقال إن هذا " أي ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم " إلا سحر يؤثر " أي يأثره عن غيره. والسحر: الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة (البقرة) (2). وقال قوم: السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والاثره: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره إذا ذكرته عن غيرك، ومنه قيل: حديث مأثور: أي ينقله خلف عن سلف، قال أمرؤ القيس: ولو عن نثا غيره جاءني * وجرح اللسان كجرح اليد لقلت من القول ما لا يزا * ل يؤثر عني يد المسند يريد: آخر الدهر، وقال الاعشى: إن الذي فيه تماريتما (4) * بين للسامع والآثر ويروى: بين. (إن هذا إلا قول البشر) أي ما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر، قال السدي: يعنون أنه من قول سيار (5) عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي (1) هو توبة بن الحمير. وزاد بعض النسخ بعد هذا البيت ما يأتي كحاشية: قوله (بشهباء): أراد بكتيبة شهباء ومنه قول عنترة: وكتيبة لبستها بكتيبة * شهباء باسلة يخاف رداها ويقال: كتيبة ململمة وملمومة أيضا أي مجتمعة مضموم بعضها إلى بعض. وصخرة ملمومة وململمة أي مستديرة صلبة قاله الجوهري. (2) راجع 2 ص 43 (3) يقول: لو أتاني هذا النبأ عن حديث غيره لقلت قولا يشيع في الناس ويؤثر عنى آخر الدهر. والنثا: ما يحدث به من خير وشر. والمسند: الدهر. (4) الذى في ديوان الاعشى طبع أوربا: (تداريتما). (5) في ز: (من قول أبي اليسر سيار). (*)
[ 77 ]
صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. وقيل: أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل: عن مسيلمة. وقيل: عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل: إنما تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير: إن هذا إلا أمر سحر يؤثر، أي يورث. قوله تعالى: سأصليه سقر (26) وما أدراك ما سقر (27) لا تبقى ولا تذر (28) لواحة للبشر (29) قوله تعالى: (سأصليه سقر) أي سأدخله سقر كي يصلى حرها. وإنما سميت سقر من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه. ولا ينصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: هي الطبق السادس من جهنم. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ سأل موسى ربه فقال: أي رب، أي عبادك أفقر ؟ قال صاحب سقر ] ذكره الثعلبي: (وما أدراك ما سقر) هذه مبالغة في وصفها، أي وما أعلمك أي شئ هي ؟ وهي كلمة تعظيم ثم فسر حالها فقال: " لا تبقى ولا تذر " أي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته. وكرر اللفظ تأكيدا. وقيل: لا تبقى منهم شيئا ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تذر أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا. وقال مجاهد: لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا، تحرقهم كلما جددوا. وقال السدي: لا تبقى لهم لحما ولا تذر لهم عظما (لواحة للبشر) أي مغيرة من لاحه إذا غيره. وقراءة العامة " لواحة " بالرفع نعت ل‍ " - سقر. في قوله تعالى: " وما أدراك ما سقر ". وقرأ عطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر " لواحة " بالنصب على الاختصاص، للتهويل. وقال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل، وقاله مجاهد. والعرب تقول: لاحه البرد والحر والسقم والحزن: إذا غيره، ومنه قول الشاعر: تقول ما لاحك يا مسافر * يا بنة عمي لاحني الهواجر (2) (1) كلمة: (أمر) ساقطة من الاصل المطبوع. (2) الهواجر: جمع هاجرة وهي شدة الحر عند منتصف النهار. (*)
[ 78 ]
وقال آخر: وتعجب هند أن رأتني شاحبا * تقول لشئ لوحته السمائم (1) وقال رؤبة بن العجاج: لوح منه بعد بدن وسنق * تلويحك الضامر يطوى للسبق (2) وقيل: إن اللوح شدة العطش، يقال: لاحة العطش ولوحه أي غيره. والمعنى أنها معطشة للبشر أي لاهلها، قاله الاخفش، وأنشد: سقتني على لوح من الماء شربة * سقاها بها الله الرهام الغواديا يعني باللوح شدة العطش، والتاح أي عطش، والرهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة أتت بالرهام. وقال ابن عباس: " لواحة " أي تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام. الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. نظيره: " وبرزت الجحيم للغاوين " [ الشعراء: 91 ] وفي البشر وجهان: أحدهما - أنه الانس من أهل النار، قاله الاخفش والاكثرون. الثاني - أنه جمع بشرة، وهي جلدة الانسان الظاهرة، قاله مجاهد وقتادة، وجمع البشر أبشار، وهذا على التفسير الاول، وأما على تفسير ابن عباس فلا يستقيم فيه إلا الناس لا الجلود، لانه من لاح الشئ يلوح، إذا لمع. قوله تعالى: عليها تسعة عشر (30) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض (1) السمائم: جمع سموم وهي الريح الحارة. (2) لوحه السفر غيره وأضمره. والبدن: السمن واكتناز اللحم. والسنق: الشبع حتى يكون كالتخمة. الضامر: الفرس. يطوى: يجوع لاجل السباق. (*)
[ 79 ]
والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر (31) قوله تعالى: (عليها تسعة عشر) أي على سقر تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل: على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وعلى هذا أكثر المفسرين. الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. وقال ابن جريج: نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم فقال: [ فكأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، يجرون أشعارهم، لاحدهم من القوة مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الامة وعلى رقبته جبل، فيرميهم في النار، ويرمى فوقهم الجبل ]. قلت: وذكر ابن المبارك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الازرق بن قيس، عن رجل من بني تميم قال: كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية: " وما أدراك ما سقر. لا تبقى ولا تذر. لواحة للبشر. عليها تسعة عشر " فقال ما تسعة عشر ؟ تسعة عشر ألف ملك، أو تسعة عشر ملكا ؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكا. فقال: وأنى تعلم ذلك ؟ فقلت: لقول الله عز وجل: " وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا " قال: صدقت هم تسعة عشر ملكا، بيد كل ملك منهم مرزبة (1) لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوى بها في النار سبعين ألفا. وعن عمرو بن دينار: كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. خرج الترمذي عن جابر بن عبد الله. قال: قال ناس من اليهود لاناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا. فجاء رجل (1) المرزبة: عصية من حديد والمطرقة الكبيرة التي للحداد. (*)
[ 80 ]
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم، فقال: (وماذا (1) غلبوا) ؟ قال: سألهم يهود: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قال: (فماذا قالوا) قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا. قال: (أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا أرنا الله جهرة، علي بأعداء الله ! إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك). فلما جاءوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم ؟ قال: (هكذا وهكذا) في مرة عشرة وفي مرة تسعة. قالوا: نعم. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تربة الجنة) قال: فسكتوا هنيهة ثم قالوا: أخبزة يا أبا القاسم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخبز من الدرمك). قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر. وذكر ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: [ ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب ]. وقال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. قلت: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها، كما قال الله تعالى: " وما يعلم جنود ربك إلا هو " وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل: " عليها تسعة عشر " قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم ! أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ! قال السدي: فقال أبو الاسود (2) بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الايمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الايسر التسعة، ثم تمرون (1) كذا في ا، ح، ط، و. وفي نسخة: وبم ؟ (2) كذا في نسخ الاصل: (الاسود). والذى في حاشية الجمل ص 457 ج 4: (أبو الاشد). (*)
[ 81 ]
إلى الجنة، يقولها مستهزئا. في رواية: أن الحرث بن كلدة قال أنا أكفيكم سبعة عشر، وأكفوني أنتم اثنين. وقيل: إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار ؟ فنزل قوله تعالى: " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة لانهم خلاف جنس المعذبين من الجن والانس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم، ولانهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم، ولانهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا. (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة) أي بلية. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: ضلالة للذين كفروا، يريد أبا جهل وذويه. وقيل: إلا عذابا، كما قال تعالى: " يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم " [ الذاريات: 14 ]. أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب. وفي " تسعة عشر " سبع قراءات (1): قراءة العامة " تسعة عشر ". وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان " تسعة عشر " بإسكان العين. وعن ابن عباس " تسعة عشر " بضم الهاء. وعن أنس بن مالك " تسعة وعشر " وعنه أيضا " تسعة وعشر ". وعنه أيضا " تسعة أعشر " ذكرها المهدوي وقال: من قرأ " تسعة عشر " أسكن العين لتوالى الحركات. ومن قرأ " تسعة وعشر " جاء به على الاصل قبل التركيب، وعطف عشرا على تسعة، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها. ومن قرأ " تسعة عشر " فكأنه من التداخل، كأنه أراد العطف وترك التركيب، فرفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء وأسكن. وأما " تسعة أعشر ": فغير معروف، وقد أنكرها أبو حاتم. وكذلك " تسعة وعشر " لانها محمولة على " تسعة أعشر " والواو بدل من الهمزة، وليس لذلك وجه عند النحويين. الزمخشري: وقرئ: " تسعة أعشر " جمع عشير، مثل يمين وأيمن. (1) ورد في الاصول ست قراءات فقط ولعل السابعة قراءة سليمان بن قتة (تسعة أعشر) بضم التاء وهمزء منوحة وسكون العين وضم الشين وجر الراء. وتعقب السمين هذه القراءات فقال: (في هذه الكلمة قراءات شاذة وتوجيهات تشاكلها). (*)
[ 82 ]
قوله تعالى: (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) أي ليوفن الذين أعطوا التوراة والانجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) بذلك، لانهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. " ولا يرتاب " أي ولا يشك " الذين أوتوا الكتاب " أي أعطوا الكتاب " والمؤمنون " أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. (وليقول الذين في قلبوهم مرض) أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل: المعنى، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. " والكافرون " أي اليهود والنصارى (ماذا أراد الله بهذا مثلا) يعني بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية الخلاف و " الكافرون " أي مشركو العرب. وعلى القول الاول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لان أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم: " ماذا أراد الله " أي ما أراد " بهذا " العدد الذي ذكره حديثا، أي ما هذا من الحديث. قال الليث: المثل الحديث، ومنه: " مثل الجنة التي وعد المتقون " أي حديثها والخبر عنها " كذلك " أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم " يضل الله " أي يخزي ويعمي " من يشاء ويهدي " أي ويرشد " من يشاء " كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: " كذلك يضل الله " عن الجنة " من يشاء ويهدي " إليها " من يشاء ". (وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار " إلا هو " أي إلا الله جل ثناؤه. وهذا جواب لابي جهل حين قال: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر ! وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين، فأتاه جبريل فجلس عنده، فأتى ملك فقال: إن ربك يأمرك
[ 83 ]
بكذا وكذا، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا، فقال: (يا جبريل أتعرفه) ؟ فقال: هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف. وقال الاوزاعي: قال موسى: " يا رب من في السماء ؟ قال ملائكتي. قال كم عدتهم يا رب ؟ قال: اثنى (1) عشر سبطا. قال: كم عدة كل سبط ؟ قال: عدد التراب " ذكرهما الثعلبي. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت (2) السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا). قوله تعالى: (وما هي إلا ذكرى للبشر) يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل: " وما هي " أي وما هذه النار التي هي سقر " إلا ذكرى " أي عظة " للبشر " أي للخلق. وقيل: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة. قاله الزجاج. وقيل: أي ما هذه العدة " إلا ذكرى للبشر " أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، فالكناية على هذا في قوله تعالى: " وما هي " ترجع إلى الجنود، لانه أقرب مذكور. قوله تعالى: كلا والقمر (32) ولليل إذ أدبر (33) والصبح إذا أسفر (34) إنها لاحدى الكبر (35) نذيرا للبشر (36) لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (37) كل نفس بما كسبت رهينة (38) إلا أصحاب اليمين (39) في جنات يتساءلون (40) عن المجرمين (41) ما سلككم في سقر (42) قالوا لم نك من المصلين (43) ولم نك نطعم المسكين (44) وكنا نخوض مع الخائضين (45) وكنا نكذب بيوم الدين (46) حتى أتانا اليقين (47) فما تنفعهم شفاعة الشافعين (48) (1) كذا في الاصول. والصواب: اثنا عشر. (2) الاطيط: صوت الاقتاپ (إكاف البعير). وأطيط الابل: أصواتها وحنينها. أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد ثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط. (النهاية). (*)
[ 84 ]
قوله تعالى: (كلا والقمر) قال الفراء: " كلا " صلة للقسم، التقدير أي والقمر. وقيل: المعنى حقا والقمر، فلا يوقف على هذين التقديرين على " كلا " وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم، أي ليس الامر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك عز وجل بالقمر وبما بعده، فقال: " والليل إذا أدبر " أي ولى وكذلك " دبر ". وقرأ نافع وحمزة وحفص " إذ أدبر " الباقون " إذا " بألف و " دبر " بغير ألف وهما لغتان بمعنى، يقال: دبر وأدبر، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا: أمس الدابر والمدبر، قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي: ولقد قتلناكم ثناء وموحدا * وتركت مرة مثل أمس الدابر ويروي المدبر. وهذا قول الفراء والاخفش. وقال بعض أهل اللغة: دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الادبار. وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: " والليل إذا دبر " فسكت حتى إذا دبر قال: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل. وقرأ محمد بن السميقع " والليل إذا أدبر " بألفين، وكذلك في مصحف عبد الله وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ " دبر " فيعني أقبل، من قول العرب دبر فلان: إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو: وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه: الصواب: " أدبر "، إنما يدبر ظهر البعير. واختار أبو عبيد: " إذا أدبر " قال: لانها أكثر موافقة للحروف التي تليه، ألا تراه يقول: " والصبح إذا أسفر "، فكيف يكون أحدهما " إذ " والآخر " إذا " وليس في القرآن قسم تعقبه " إذ " وإنما يتعقبه " إذا ". ومعنى " أسفر ": ضاء. وقراءة العامة " أسفر " بالالف. وقرأ ابن السميقع: " سفر ". وهما لغتان. يقال: سفر وجه فلان وأسفر: إذا أضاء. وفي الحديث: (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للاجر) أي صلوا صلاة الصبح مسفرين، ويقال: طولوها إلى الاسفار، والاسفار: الانارة. وأسفر وجهه حسنا أي أشرق، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر. ويجوز أن يكون [ من ] سفر الظلام أي كنسه، كما يسفر البيت، أي يكنس، ومنه السفير: لما سقط من ورق الشجر وتحات، يقال: إنما سمي سفيرا لان الريح تسفره أي تكنسه. والمسفرة: المكنسة.
[ 85 ]
قوله تعالى: (إنها لاحدى الكبر) جواب القسم، أي إن هذه النار " لاحدى الكبر " أي لاحدى الدواهي. وفي تفسير مقاتل " الكبر ": اسم من أسماء النار. وروي عن ابن عباس " إنها " أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم " لاحدى الكبر " أي لكبيرة من الكبائر. وقيل: أي إن قيام الساعة لاحدى الكبر. والكبر: هي العظائم من العقوبات، قال الراجز: يابن المعلى نزلت إحدى الكبر * داهية الدهر وصماء الغير وواحدة (الكبر)، كبرى مثل الصغرى والصغر، والعظمى والعظم. وقرأ العامة (لاحدى) وهو اسم بني ابتداء للتأنيث، وليس مبنيا على المذكر، نحو عقبى وأخرى، وألفه ألف قطع، لا تذهب في الوصل. وروى جرير بن حازم عن ابن كثير " إنها لحدي الكبر " بحذف الهمزة. (نذيرا للبشر) يريد النار، أي أن هذه النار الموصوفة " نذيرا للبشر " فهو نصب على الحال من المضمر في " إنها " قاله الزجاج. وذكر، لان معناه معنى العذاب، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب، كقولهم: أمرأة طالق وطاهر. وقال الخليل: النذير: مصدر كالنكير، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشئ أدهى منها. وقيل: المراد بالنذير محمد صلى الله عليه وسلم، أي قم نذيرا للبشر، أي مخوفا لهم ف‍ " - نذيرا " حال من " قم " في أول السورة حين قال: " قم فأنذر " [ المدثر: 2 ] قال أبو علي الفارسي وابن زيد، وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الانباري: وقال بعض المفسرين معناه " يأيها المدثر قم نذيرا للبشر ". وهذا قبيح، لان الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل: هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية الضرير: حدثنا إسمعيل بن سميع عن أبي رزين " نذيرا للبشر " قال: يقول الله عز وجل: أنا لكم منها نذير فاتقوها. و (نذيرا) على هذا نصب على الحال، أي " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " منذرا بذلك البشر. وقيل: هو حال من " هو " في قوله تعالى: " وما يعلم جنود ربك إلا هو ". وقيل: هو في موضع المصدر، كأنه قال: إنذار للبشر. قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الانذار، أي أنذر إنذارا فهو كقوله تعالى: " فكيف كان نذير " أي إنذاري، فعلى هذا يكون راجعا إلى
[ 86 ]
أول السورة، أي (قم فأنذر) أي إنذارا. وقيل: هو منصوب بإضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة " نذير " بالرفع على إضمار هو. وقيل: أي إن القرآن نذير للبشر، لما تضمنه من الوعد والوعيد. قوله تعالى: (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) اللام متعلقة ب‍ " - نذيرا "، أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية، نظيره: " ولقد علمنا المستقدمين منكم " [ الحجر: 24 ] أي في الخير " ولقد علمنا المستأخرين " [ الحجر: 24 ] عنه. قال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " [ الكهف: 29 ]. وقال بعض أهل التأويل: معناه لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه، والتقديم الايمان، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع. وقال السدي: " لمن شاء منكم أن يتقدم " إلى النار المتقدم ذكرها، " أو يتأخر " عنها إلى الجنة. قوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) أي مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها. وليست " رهينة " تأنيث رهين في قوله تعالى: " كل امرئ بما كسب رهين " [ الطور: 21 ] لتأنيث النفس، لانه لو قصدت الصفة لقيل رهين، لان فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وإنما هو اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهين، ومنه بيت الحماسة: أبعد الذي بالنعف نعف كويكب * رهينة رمس ذي تراب وجندل (1) كأنه قال رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك (إلا أصحاب اليمين) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. واختلف في تعيينهم، فقال ابن عباس: الملائكة. (1) النعف من الارض: المكان المرتفع في اعتراض. والبيت من قول عبد الرحمن بن زيد العذري وقد قتل أخوه وعرضت عليه الدية فأبى أن يأخذها وأخذ بثأره. (*)
[ 87 ]
علي بن أبي طالب: أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ونحوه عن ابن جريج، قال: كل نفس بعملها محاسبة " إلا أصحاب اليمين " وهم أهل الجنة، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين، لانهم أدوا ما كان عليهم. وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون. وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الايمان. وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم: هم الذين اختارهم الله لخدمته، فلم يدخلوا في الرهن، لانهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة، دون الكسب والخدمة، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به. " في جنات " أي في بساتين " يتساءلون " أي يسألون (عن المجرمين) أي المشركين " ما سلككم " أي أدخلكم " في سقر " كما تقول: سلكت الخيط في كذا أي أدخلته فيه. قال الكلبي: فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان. وفي قراءة عبد الله بن الزبير " يا فلان ما سلكك في سقر " ؟ وعنه قال: قرأ عمر بن الخطاب " يا فلان ما سلككم في سقر " وهي قراءة على التفسير، لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن، قاله أبو بكر بن الانباري. وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم: " ما سلككم في سقر ". قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين الولدان، لانهم لا يعرفون الذنوب. " قالوا " يعني أهل النار " لم نك من المصلين " أي المؤمنين الذين يصلون. (ولم نك نطعم المسكين) أي لم نك نتصدق. (وكنا نخوض مع الخائضين) أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم - لعنهم الله - كاهن، مجنون، شاعر، ساحر.
[ 88 ]
وقال السدي: أي وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه: وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين. (وكنا نكذب بيوم الدين) أي لم نك نصدق بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم. قوله تعالى: (حتى أتانا اليقين) أي جاءنا ونزل بنا الموت، ومنه قوله تعالى: " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " (1) [ الحجر: 99 ]. قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين، وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم، ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة، فأخرجوا من النار، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى أو عيسى (2)، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين " إلى قوله: " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " قال عبد الله بن مسعود: فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم، وقد ذكرنا إسناده في كتاب (التذكرة). قوله تعالى: فما لهم عن التذكرة معرضين (49) كأنهم حمر مستنفرة (50) فرت من قسورة (51) بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة (52) كلا بل لا يخافون الآخرة (53) قوله تعالى: (فما لهم عن التذكرة معرضين) أي فما لاهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل: الاعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما الجحود والانكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و " معرضين " نصب على الحال من الهاء والميم في " لهم " وفي اللام معنى الفعل، فانتصاب الحال على معنى الفعل. " كأنهم " أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم " حمر مستنفرة " قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية. (1) راجع ج 10 ص 64. (2) في ح، ل: (وعيسى). (*)
[ 89 ]
وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي منفرة مذعورة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت بمعنى، مثل عجبت واستعجبت، وسخرت واستسخرت، وأنشد الفراء: أمسك حمارك إنه مستنفر * في إثر أحمرة عمدن لغرب (1) قوله تعالى (2): " فرت " أي نفرت وهربت " من قسورة " أي من رماة يرمونها. وقال بعض أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: القسورة: هم الرماة والصيادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو [ ظبيان ] (3) عن أبي موسى الاشعري. وقيل: إنه الاسد، قاله أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة: من القسر بمعنى القهر أي، إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال: ما أعلم القسورة الاسد في لغة أحد من العرب، ولكنها عصب الرجال، قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد: يا بنت كوني خيرة لخيره * أخوالها الجن وأهل القسوره وعنه: ركز الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا: " فرت من قسورة " أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا: القسورة بلسان العرب: الاسد، وبلسان الحبشة: الرماة، وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقال ابن الاعرابي: القسورة: أول الليل، أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل: هو أول سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة: إذا ما هتفنا هتفة في ندينا * أتانا الرجال العائدون القساور (1) غرب (كسكر): اسم موضع وجبل دون الشام في بلاد بني كلاب. (2) جملة (قوله تعالى) وكلمة (هربت) ساقطتان من ا، ح. (3) في الاصول: (أبو حيان) وهو تحريف. والتصحيح من تفسير الثعلبي (والتهذيب). (*)
[ 90 ]
قوله تعالى: (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) أي يعطى كتبا مفتوحة، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد ! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا، صلى الله عليه وسلم. نظيره: " ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " [ الاسراء: 93 ]. وقال ابن عباس: كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال الكلبي: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك. وقال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلان بن فلان. وقيل: المعنى أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف موضع الذكر مجازا. وقالوا: إذا كانت ذنوب الانسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك ؟ " كلا " أي ليس يكون ذلك. وقيل: حقا. والاول أجود، لانه رد لقولهم. " بل لا يخافون الآخرة " أي لا أعطيهم ما يتمنون لانهم لا يخافون الآخرة، اغترارا بالدنيا. وقرأ سعيد بن جبير " صحفا منشرة " بسكون الحاء والنون، فأما تسكين الحاء فتخفيف، وأما النون فشاذ. إنما يقال: نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت. ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها، فإذا نشرت حييت، فجاء على أنشر الله الميت، كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب، فقيل فيه نشر الله الميت، فهي لغة فيه. قوله تعالى: كلا إنه تذكرة (54) فمن شاء ذكره (55) وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة (56) قوله تعالى: (كلا إنه تذكرة) أي حقا إن القرآن عظة. (فمن شاء ذكره) أي أتعظ به. " وما يذكرون " أي وما يتعظون " إلا أن يشاء الله " أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة " يذكرون " بالياء واختاره أبو عبيد، لقوله تعالى: " كلا بل لا يخافون الآخرة ". وقرأ نافع ويعقوب بالتاء، واختاره أبو حاتم، لانه أعم واتفقوا على تخفيفها. (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) في الترمذي وسنن ابن ماجه عن
[ 91 ]
أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: " هو أهل التقوى وأهل المعفرة " قال: [ قال الله تبارك وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له ] لفظ الترمذي، وقال فيه: حديث حسن غريب. وفي بعض التفسير: هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار، وأهل المغفرة أيضا للذنوب الصغار، باجتناب الذنوب الكبار. وقال محمد بن نصر: أنا أهل أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له [ وأرحمه، وأنا الغفور الرحيم ] (1). سورة القيامة مكية، وهي تسع وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: لا أقسم بيوم القيامة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة (2) أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4) بل يريد الانسان ليفجر أمامه (5) يسئل أيان يوم القيامة (6) قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة) قيل: إن " لا " صلة، وجاز وقوعها في أول السورة، لان القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد، ولهذا قد يذكر الشئ في سورة ويجئ جوابه في سورة أخرى، كقوله تعالى: " وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " (2) [ الحجر: 6 ]. وجوابه في سورة أخرى: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " (3) [ القلم: 2 ]. ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة، ومثله قول الشاعر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة * فكاد صميم القلب لا يتقطع (1) ما بين المربعين زيادة من ط. (2) سورة الحجر ج 10 ص 4. (3) سورة القلم ج 18 ص 253. (*)
[ 92 ]
وحكى أبو الليث السمرقندي: أجمع المفسرون أن معنى " لا أقسم ": أقسم. واختلفوا في تفسير: " لا " قال بعضهم: " لا " زيادة في الكلام للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة (لا) كما قال في آية أخرى: " قال ما منعك أن لا تسجد " [ ص: 75 ]. يعني أن تسجد، وقال بعضهم: " لا ": رد لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الامر كما زعمتم. قلت: وهذا قول الفراء، قال الفراء: وكثير من النحويين يقولون " لا " صلة، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة، لان هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الاقسام بالرد عليهم [ في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدإ ] (1) وذلك كقولهم لا والله لا أفعل ف‍ " - لا " رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروه. وأنشد غير الفراء لامرئ القيس: فلا وأبيك ابنة العامري * لا يدعي القوم أني أفر وقال غوية بن سلمى: ألا نادت أمامة باحتمال * لتحزنني فلا بك ما أبالي وفائدتها توكيد القسم في الرد. قال الفراء: وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ " لاقسم " بغير ألف، كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم، وهو صواب، لان العرب تقول: لاقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز " بيوم القيامة " أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. (ولا أقسم بالنفس اللوامة) لا خلاف في هذا بين القراء، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه [ ولم يقسم بالنفس ] (2). وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالاولى ولم يقسم بالثانية. وقيل: " ولا أقسم بالنفس اللوامة " رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا. ومعنى: " بالنفس اللوامة " أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكذا ؟ فلا تراه (1) الزيادة من تفسير الفراء. (2) الزيادة من تفسير ابن عطية وغيره. (*)
[ 93 ]
إلا وهو يعاتب نفسه، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي ؟ ما أردت بأكلي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه. وقيل: إنها ذات اللوم. وقيل: إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها، فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح، وعلى هذا يجئ القسم بها سائغا حسنا. وفي بعض التفسير: إنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: اللوامة بمعنى الملومة المذمومة - عن ابن عباس أيضا - فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما، إذ ليس للعاصي خطر يقسم به، فهي كثيرة اللوم. وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله. وقال الفراء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها، فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسئ يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته. قوله تعالى: (أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه) فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا. قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم. وقال النحاس: جواب القسم محذوف أي لتبعثن، ودل عليه قوله تعالى: " أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه " للاحياء والبعث. والانسان هنا الكافر المكذب للبعث. الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: حدثني عن يوم القيامة متى تكون، وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به، أو يجمع الله العظام ؟ ! ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة، والاخنس بن شريق). وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وذكر العظام والمراد نفسه كلها، لان العظام قالب الخلق. " بلى " وقف حسن ثم تبتدئ " قادرين ". قال سيبويه: على معنى نجمعها قادرين، ف‍ " - قادرين " حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه
[ 94 ]
من التقدير. وقيل: المعنى بل نقدر قادرين. قال الفراء: " قادرين " نصب على الخروج من " نجمع " أي نقدر ونقوى " قادرين " على أكثر من ذلك. وقال أيضا: يصلح نصبه على التكرير أي " بلى " فليحسبنا قادرين. وقيل: المضمر (كنا) أي كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع " بلى قادرون " بتأويل نحن قادرون. (على أن نسوي بنانه) البنان عند العرب: الاصابع، واحدها بنانة، قال النابغة: بمخضب رخص كأن بنانه * عنم يكاد من اللطافة يعقد (1) وقال عنترة: وأن الموت طوع يدي إذا ما * وصلت بنانها بالهندواني فنبه بالبنان على بقية الاعضاء. وأيضا فإنها أصغر العظام، فخصها بالذكر لذلك. قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام، فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر. وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى " على أن نسوي بنانه " أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء. وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهن، وتقبضهن بهن، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الارض إلا بكفيك. وقيل: أي نقدر أن نعيد الانسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى: " وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون " [ الواقعة: 60 - 61 ]. قلت: والتأويل الاول أشبه بمساق الآية. والله أعلم. قوله تعالى: (بل يريد الانسان ليفجر أمامه) قال ابن عباس: يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب. وقاله عبد الرحمن بن زيد، ودليله: " يسأل أيان يوم القيامة " (1) رواية الشطر الاخير كما في اللسان: * عنم على أغصانه لم يعقد * والعنم: شجر لين الاغصان لطيفها يشبه به البنان. (*)
[ 95 ]
أي يسأل متى يكون ! على وجه الانكار والتكذيب. فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب، ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القتبي وغيره: أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشكا إليه نقب إبله (1) ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله، فقال الاعرابي: أقسم بالله أبو حفص عمر * ما مسها من نقب ولا دبر * فاغفر له اللهم إن كان فجر * يعني إن كان كذبني فيما ذكرت. وعن ابن عباس أيضا: يعجل المعصية ويسوف التوبة. وفي بعض الحديث قال: يقول سوف أتوب ولا يتوب، فهو قد أخلف فكذب. وهذا قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله. وقال الضحاك: هو الامل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت. وقيل: أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة. فالهاء على هذه الاقوال للانسان. وقيل: الهاء ليوم القيامة. والمعنى بل يريد الانسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. والفجور أصله الميل عن الحق. (يسأل أيان يوم القيامة) أي متى يوم القيامة. قوله تعالى: فإذا برق البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع الشمس والقمر (9) يقول الانسان يومئذ أين المفر (10) كلا لا وزر (11) إلى ربك يومئذ المستقر (12) ينبؤا الانسان يومئذ بما قدم وأخر (13) قوله تعالى: (فإذا برق البصر) قرأ نافع وأبان عن عاصم " برق " بفتح الراء، معناه: لمع بصره من شدة شخوصه، فتراه لا يطرف. قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت. وقال الحسن: () النقب: قرحة تخرج في الجنب. والجرب والدبر: قرحة الدابة والبعير. (*)
[ 96 ]
هذا يوم القيامة. وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الانسان كأنه يوم القيامة " إذا برق البصر. وخسف القمر " والباقون بالكسر " برق " ومعناه: تحير فلم يطرف، قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما. قال ذو الرمة: ولو أن لقمان الحكيم تعرضت * لعينيه مي سافرا كاد يبرق الفراء والخليل: " برق " بالكسر: فزع وبهت وتحير (1). والعرب تقول للانسان المتحير المبهوت: قد برق فهو برق، وأنشد الفراء: فنفسك فانع ولا تنعني * وداو الكلوم ولا تبرق (2) أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك. وقيل: برق يبرق بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة، وأنشد قول الكلابي: لما أتاني ابن عمير راغبا * أعطيته عيسا صهابا فبرق (3) أي فتح عينيه. وقيل: إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى. قوله تعالى: (وخسف القمر) أي ذهب ضوءه. والخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة، فإنه لا يعود ضوءه. ويحتمل أن يكون بمعنى غاب، ومنه قوله تعالى: " فخسفنا به وبداره الارض " [ القصص: 81 ]. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والاعرج: " وخسف القمر " بضم الخاء وكسر السين يدل عليه " وجمع الشمس والقمر ". وقال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو الكسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف (وجمع الشمس والقمر) أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه، قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: ولم يقل جمعت، لان المعنى جمع بينهما. وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر. وقال الكسائي: هو محمول على المعنى، كأنه قال الضوءان. المبرد: التأنيث (1) كلمة (تحير) ساقطة من الاصل المطبوع. (2) قائله: طرفة. (3) في غير القرطبي: لما أتاني ابن صبيح. والعيس الصباب هي الابل التي خالط بياضها حمرة وهي تعد عند العرب من أشرفها. (*)
[ 97 ]
غير حقيقي. وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران. وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة " الانعام " (1). وفي قراءة عبد الله " وجمع بين الشمس والقمر " وقال عطاء ابن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقال علي وابن عباس: يجعلان في [ نور ] (2) الحجب. وقد يجمعان في نار جهنم، لانهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لانهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. وفي مسند أبي داود الطيالسي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار) وقيل: هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان، ويقربان من الناس، فيلحقهم العرق لشدة الحر، فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم. وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار. قوله تعالى: (يقول الانسان يومئذ أين المفر) ؟ أي يقول ابن آدم، ويقال: أبو جهل، أي أين المهرب ؟ قال الشاعر: أين المف والكباش تنتطح * وأي كبش حاد عنها يفتضح الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما " أين المفر " من الله استحياء منه. الثاني " أين المفر " من جهنم حذرا منها. ويحتمل هذا القول من الانسان وجهين: أحدهما - أن يكون من الكافر خاصة في عرضة القيامة دون المؤمن، لثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني - أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقراءة العامة " المفر " بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم، لانه مصدر. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم، قال الكسائي: هما لغتان مثل مدب ومدب، ومصح ومصح. وعن الزهري بكسر الميم وفتح الفاء. المهدوي: من فتح الميم والفاء من " المفر " فهو مصدر (1) راجع ج 7 ص 146. (2) الزيادة من كتب التفسير. (*)
[ 98 ]
بمعنى الفرار، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفر إليه. ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الانسان الجيد الفرار، فالمعنى أين الانسان الجيد الفرار ولن ينجو مع ذلك. قلت: ومنه قول امرئ القيس: * مكر مفر مقبل مدبر معا (1) * يريد أنه حسن الكر والفرجيده. (كلا) أي لا مفر ف‍ " - كلا " رد وهو من قول الله تعالى، ثم فسر هذا الرد فقال: " لا وزر " أي لا ملجأ من النار. وكان ابن مسعود يقول: لا حصن. وكان الحسن يقول: لا جبل. وابن عباس يقول: لا ملجأ. وابن جبير: لا محيص ولا منعة. المعنى في ذلك كله واحد. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما، قال الشاعر: لعمري ما للفتى من وزر * من الموت يدركه والكبر قال السدي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذ مني، قال طرفة: ولقد تعلم بكر أننا * فاضلو الرأي وفي الروع وزر أي ملجأ للخائف. ويروى: وقر. (إلى ربك يومئذ المستقر) أي المنتهى قاله قتادة. نظيره: (وأن إلى ربك المنتهى). وقال ابن مسعود إلى ربك المصير والمرجع. قيل: أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى، إذ هو الحاكم بينهم. وقيل: إن " كلا " من قول الانسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه: " كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر ". قوله تعالى: " ينبأ الانسان " أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا " بما قدم وأخر ": أي بما أسلف من عمل سئ أو صالح، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده، قاله ابن عباس وابن مسعود. وروى منصور عن مجاهد قال: ينبأ بأول عمله وآخره. وقاله النخعي. وقال ابن عباس أيضا: أي بما قدم من المعصية، وأخر من الطاعة. وهو قول قتادة. (1) تمام البيت: * كجلمود صخر حطه السيل من عل * (*)
[ 99 ]
وقال ابن زيد: " بما قدم " من أمواله لنفسه " وأخر ": خلف للورثة. وقال الضحاك: ينبأ بما قدم من فرض، وأخر من فرض. قال القشيري: وهذا الانباء يكون في القيامة عند وزن الاعمال. ويجوز أن يكون عند الموت. قلت: والاول أظهر، لما خرجه ابن ماجه في سننه من حديث الزهري، حدثني أبو عبد الله الاغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته) فقوله: (بعد موته وهو في قبره) نص على أن ذلك لا يكون عند الموت، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وإن كان يبشر بذلك في قبره. ودل على هذا أيضا قوله الحق: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع (1) أثقالهم " [ العنكبوت: 13 ] وقوله تعالى: " ومن أوزار الذين يضلونهم بغير (2) علم " [ النحل: 25 ] وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الاعمال. والله أعلم. وفي الصحيح: (من سن في الاسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شئ). قوله تعالى: بل الانسان على نفسه بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره (15) قوله تعالى: (بل الانسان على نفسه بصيرة) قال الاخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس: " بصيرة " أي شاهد، وهو شهود جوارحه (1) راجع ج 13 ص 330. (2) راجع ج 10 ص 96. (*)
[ 100 ]
عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفراء: كأن على ذي العقل عينا بصيرة * بمقعده أو منظر هو ناظره يحاذر حتى يحسب الناس كلهم * من الخوف لا تخفى عليهم سرائره ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " (1) [ النور: 24 ]. وجاء تأنيث البصيرة لان المراد بالانسان ها هنا الجوارح، لانها شاهدة على نفس الانسان، فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الانسان بصيرة، قال معناه القتبي وغيره. وناس يقولون: هذه الهاء في قوله: " بصيرة " هي التي يسميها أهل الاعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهية وعلامة وراوية. وهو قول أبي عبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر، يدل عليه قوله تعالى: " ولو ألقى معاذيره " فيمن جعل المعاذير الستور. وهو قول السدي والضحاك. وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الانسان من نفسه بصيرة، أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون " بصيرة " نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الانسان على نفسه عين بصيرة، وأنشد الفراء: * كأن على ذي العقل عينا بصيرة * وقال الحسن في قوله تعالى: " بل الانسان على نفسه بصيرة " يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه. (ولو ألقى معاذيره) أي ولو أرخى ستوره. والستر بلغة أهل اليمن: معذار، قاله الضحاك وقال الشاعر: ولكنها ضنت بمنزل ساعة * علينا وأطت فوقها بالمعاذر قال الزجاج: المعاذر: الستور، والواحد معذار، أي وإن أرخى ستره، يريد أن يخفى عمله، فنفسه شاهدة عليه. وقيل: أي ولو أعتذر فقال لم أفعل شيئا، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذب (1) راجع ج 12 ص 210. (*)
[ 101 ]
عذره، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى: " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " [ غافر: 52 ] وقوله: " ولا يؤذن لهم فيعتذرون " [ المرسلات: 36 ] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر، قال الشاعر: وإياك والامر الذي إن توسعت * موارده ضاقت عليك المصادر فما حسن أن يعذر المرء نفسه * وليس له من سائر الناس عاذر واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب. وقال ابن عباس: " ولو ألقى معاذيره " أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي. قلت: والاظهر أنه الادلاء بالحجة والاعتذار من الذنب، ومنه قول النابغة: ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت * فإن صاحبها مشارك النكد والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار " والله ربنا ما كنا (1) مشركين " [ الانعام: 23 ] وقوله تعالى في المنافقين: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم " (2) [ المجادلة: 18 ]. وفي الصحيح أنه يقول: (يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع) الحديث. وقد تقدم في " حم السجدة " (3) وغيرها. والمعاذير والمعاذر: جمع معذرة، ويقال: عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا، والاسم المعذرة والعذري، قال الشاعر: (4) * إني حددت ولا عذرى لمحدود * (1) راجع ج 6 ص 401 (2) راجع ج 17 ص 289. (3) راجع ج: 15 ص 35 ففيه معنى ما أشار إليه القرطبي وأما الحديث فقد أورده في سورة الانعام ج 6 ص 402 (4) قائله الجموح الظفري. وقيل: هو راشد بن عبد ربه. وعذرى مقصور. وفي اللسان: صواب إنشاده لولا حددت. على إرادة أن تقديره: لولا أن حددت لان لولا التي معناها امتناع الشئ لوجود غيره هي مخصوصة بالاسماء وقد تقع بعدها الافعال على تقدير أن. (*)
[ 102 ]
وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة، قال النابغة: ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت * فإن صاحبها قد تاه في البلد (1) وتضمنت هذه الآية خمس مسائل: الاولى - قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى: " بل الانسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره ": فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه، لانها بشهادة منه عليها، قال الله سبحانه وتعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " [ النور: 24 ] ولا خلاف فيه، لانه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه، لان العاقل لا يكذب على نفسه، وهي المسألة: وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين " (2) [ آل عمران: 81 ] ثم قال تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر (3) سيئا " [ التوبة: 102 ] وهو في الآثار كثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها). فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك: الامر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم: إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه، يعطى الذي شهد له قدر الدين (4) الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الاخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها (1) تقدم البيت برواية: ها إن ذى - مشارك الكمد. وهما روايتان. (2) راجع ج 4 ص 124. (3) راجع ج 8 ص 240. (4) كلمة (الدين) ساقطة من ز، ط، ل، المتطوع. (*)
[ 103 ]
وينكر ذلك الورثة، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء. الثالثة - لا يصح الاقرار إلا من مكلف، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه، لان الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الاقرار: إحداهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية في انتهائه، وذلك مثل إبهام الاقرار، وله صور كثيرة وأمهاتها ست: الصورة الاولى - أن يقول له عندي شئ، قال الشافعي: لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية - أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة: لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة - أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب، [ فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء ] (1) فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشئ، لان الحكم قد نفذ بإبطاله، وقال بعض أصحاب الشافعي: يلزم الخمر والخنزير، وهو قول باطل. وقال أبو حنيفة: إذا قال له علي شئ لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون، لانه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف، فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة - إذا قال له: عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجئ من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه. الصورة الخامسة - أن يقول له: عندي مال كثير أو عظيم، فقال الشافعي: يقبل في الحبة. وقال أبو حنيفة: لا يقبل إلا في نصاب الزكاة. وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة، (1) ما بين المربعين ساقط من الاصل المطبوع. (*)
[ 104 ]
لانه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد: إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له: ومن أين تقول ذلك ؟ قال: لان الله تعالى قال: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين " (1) [ التوبة: 25 ] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح، لانه أخرج حنينا منها، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين، وقد قال الله تعالى: " اذكروا الله ذكرا كثيرا " [ الاحزاب: 41 ]، وقال: " لا خير في كثير من نجواهم " [ النساء: 114 ]، وقال: " وألعنهم لعنا كبيرا " [ الاحزاب: 68 ]. الصورة السادسة - إذا قال له: عندي عشرة أو مائة أو ألف، فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا، كقوله: مائة وخمسون درهما، لان الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة. وقال ابن خيران الاصطخري من أصحاب الشافعي: الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء. المسألة الرابعة - قوله تعالى: " ولو ألقى معاذيره " ومعناه لو اعتذر بعد الاقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله، فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة: يقبل رجوعه بعد الاقرار. وقال به مالك في أحد قوليه، وقال في القول الآخر: لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا. والصحيح جواز الرجوع مطلقا، لما روى الائمة منهم البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أبك جنون) قال: لا. قال: (أحصنت) قال: نعم. وفي حديث البخاري: (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت). وفي النسائي وأبي داود: حتى قال له في الخامسة (أجامعتها) (2) قال: نعم. قال: (حتى غاب ذلك منك في ذلك منها) قال: نعم. قال: (كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر). قال: نعم. ثم قال: (هل تدري ما الزنى) قال: نعم، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال: (فما تريد مني) ؟ (1) جملة (ويوم حنين) ساقطة من ز، ط والمطبوع. (2) اللفظ في رواية لابي داود. (*)
[ 105 ]
قال: أريد أن تطهرني. قال: فأمر به فرجم. قال الترمذي وأبو داود: فلما وجد مس الحجارة فريشتد (1)، فضربه رجل بلحى جمل، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه) وقال أبو داود والنسائي: ليتثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله. وفي قوله عليه السلام: (لعلك قبلت أو غمزت) إشارة إلى قول مالك: إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها. الخامسة - وهذا في الحر المالك لامر نفسه، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين: إما أن يقر على بدنه، أو على ما في يده وذمته، فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه. وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه، لان بدنه مستغرق لحق السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد). المعنى: أن محل العقوبة أصل الخلقة، وهي [ الدمية ] (2) في الآدمية، ولا حق للسيد فيها، وإنما حقه في الوصف والتبع، وهي المالية الطارئة عليه، ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل، حتى قال أبو حنيفة: إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له. وقال علماؤنا: السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق، لان مال العبد للسيد إجماعا، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه، لا سيما وأبو حنيفة يقول: إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه. ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله أعلم. قوله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فأتبع قرءآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الاخرة (21) (1) يشتد: يعدو. (2) التصحيح من ابن العربي. وفي الاصول (الذمة). (*)
[ 106 ]
قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) في الترمذي: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به " قال: فكان يحرك به شفتيه. وحرك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: " لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه " قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه، خرجه البخاري أيضا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " [ طه: 114 ] (1) وقد تقدم. وقال عامر الشعبي: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له، وحلاوته في لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع، لان بعضه مرتبط ببعض، وقيل: كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " [ طه: 114 ] ونزل: " سنقرئك فلا تنسى " [ الاعلى: 6 ] ونزل: " لا تحرك به لسانك " قاله ابن عباس: " وقرآنه " أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران. وقال قتادة: " فاتبع قرآنه " أي فاتبع شرائعه وأحكامه. وقوله: (ثم إن علينا بيانه) أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام، قاله قتادة. وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما. وقيل: أي إن علينا أن نبينه بلسانك. قوله تعالى: " كلا " قال ابن عباس: أي إن (1) راجع ج 11 ص 250. (*)
[ 107 ]
أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه. وقيل: أي (كلا) لا يصلون ولا يزكون يريد كفار مكة. " بل تحبون " أي بل تحبون يا كفار أهل مكة " العاجلة " أي الدار الدنيا والحياة فيها " وتذرون " أي تدعون " الآخرة " والعمل لها. وفي بعض التفسير قال: الآخرة الجنة. وقرأ أهل المدينة والكوفيون " بل تحبون " " وتذرون " بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد، قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء، لذكر الانسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر، وهو اختيار أبي حاتم، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى: " ينبأ الانسان " [ القيامة: 13 ] وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع، لان ذلك أبلغ في المقصود، نظيره: " إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا " (1) [ الانسان: 27 ]. قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة (25) قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة) الاول من النضرة التي هي الحسن والنعمة. والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة، يقال: نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الاشراق والعيش والغنى، ومنه الحديث (نضر (2) الله امرأ سمع مقالتي فوعاها). " إلى ربها " إلى خالقها ومالكها (ناظرة) أي تنظر إلى ربها على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في (يونس) عند قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) (3). وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم تلا هذه الآية: " وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة " وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم. (1) راجع ص 148 من هذا الجزء. (2) يروى الحديث بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الاصل حسن الوجه والبريق. (3) راجع ج 8 ص 330 (*)
[ 108 ]
وقيل: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. وروي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة: تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا. وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " [ الانعام: 103 ] وهذا القول ضعيف جدا، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والاخبار. وفي الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة " قال هذا حديث غريب. وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه. وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن). وروى جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا). ثم قرأ " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب " متفق عليه. وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه ؟ قال ابن معاذ: مخليا به يوم القيامة ؟ قال: (نعم يا أبا رزين) قال: وما آية ذلك في خلقه ؟ قال: (يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر) قال ابن معاذ: ليلة البدر مخليا به. قلنا: بلى. قال: (فالله أعظم) [ قال ابن معاذ قال ] (1): (فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم). وفي كتاب النسائي عن صهيب قال: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر، ولا أقر لاعينهم) وفي التفسير لابي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال: (1) الزيادة من مسند أبي داود. (*)
[ 109 ]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه، فيخرون له سجدا، فيقول ارفعوا رءوسكم فليس هذا بيوم عبادة ] قال الثعلبي: وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شئ من خلقه، فتأويل مدخول، لان العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته، كما قال تعالى: " هل ينظرون إلا الساعة " [ الزخرف: 66 ]، " هل ينظرون إلا تأويله " [ الاعراف: 53 ]، و " ما ينظرون إلا صيحة واحدة " [ يس: 49 ] وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان. وقال الازهري: إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ، لانه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب، لانهم يقولون نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، قال: فإنكما إن تنظراني ساعة * من الدهر تنفعني لدى أم جندب لما أراد الانتظار قال تنظراني، ولم يقل تنظران إلي، وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه، قال: نظرت إليها والنجوم كأنها * مصابيح رهبان تشب لقفال (1) وقال آخر: نظرت إليها بالمحصب من منى * ولي نظر (2) لو لا التحرج عارم وقال آخر: إني إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر أي إني أنظر إليك بذل، لان نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسئول، فأما ما استدلوا به من قوله تعالى: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " [ الانعام: 103 ] فإنما ذلك (1) تشب: توقد. والقفال جمع قافل وهو الراجع من السفر. البيت من قصيدة لامرئ القيس. (2) في نسخ الاصل نظرة والصواب ما ذكرنا كما في ديوان قائله وهو عمر بن ربيعة. (*)
[ 110 ]
في الدنيا. وقد مضى القول فيه (1) في موضعه مستوفى. وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ونظره يحيط بها، يدل عليه: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " [ الانعام: 103 ] قال القشيري أبو نصر: وقيل: " إلى " واحد الآلاء: أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل، لان واحد الآلاء يكتب بالالف لا بالياء، ثم الآلاء: نعمه الدفع (2)، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم، والمنتظر للشئ متنغص العيش، فلا يوصف أهل الجنة بذلك. وقيل: أضاف النظر إلى الوجه، وهو كقوله تعالى: " تجري من تحتها الانهار " [ المائدة: 119 ] والماء يجري في النهر لا النهر. ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين، قال الله تعالى: " فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا " [ يوسف: 93 ] أي على عينيه. ثم لا يبعد قلب العادة غدا، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه، وهو كقوله تعالى: " أفمن يمشي مكبا على وجهه " [ الملك: 22 ]، فقيل: يا رسول الله ! كيف يمشون في النار على وجوههم ؟ قال: [ الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ]. (ووجوه يومئذ باسرة) أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة. وفي الصحاح: وبسر الفحل الناقة وابتسرها: إذا ضربها من غير ضبعة (3). وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح، يقال: عبس وبسر. وقال السدي: " باسرة " أي متغيرة والمعنى واحد. (تظن أن يفعل بها فاقرة) أي توقن وتعلم، والفاقرة: الداهية والامر العظيم، يقال: فقرته الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره. وقال قتادة: الفاقرة الشر. السدي: الهلاك. ابن عباس وابن زيد: دخول النار. والمعنى متقارب وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم، قاله الاصمعي. يقال: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير (4) وعليه وتر ملوي، لتذلله بذلك وتروضه، ومنه قولهم: قد عمل به الفاقرة. وقال النابغة: أبى لي قبر لا يزال مقابلي * وضربة فأس فوق رأسي فاقره أي كاسرة. (1) راجع ج 7 ص 54 (2) هكذا في كل الاصول. (3) ضبعت الناقة: اشتهت الفحل. (4) الجرير: حبل من أدم يخطم به البعير. (*)
[ 111 ]
قوله تعالى: كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ المساق (30) قوله تعالى: (كلا أذا بلغت التراق) " كلا " ردع وزجر، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف فقال: " إذا بلغت التراقي " أي بلغت النفس أو الروح التراقي، فأخبر عما لم يجر له ذكر، لعلم المخاطب به، كقوله تعالى: " حتى توارت بالحجاب " [ ص: 32 ] وقوله تعالى: " فلولا إذا بلغت الحلقوم " [ الواقعة: 83 ] وقد تقدم (1). وقيل: " كلا " معناه حقا، أي حقا أن المساق إلى الله " إذا بلغت التراقي " أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي. وكان ابن عباس يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحشرجة، قال دريد بن الصمة (2). ورب عظيمة دافعت عنهم * وقد بلغت نفوسهم التراقي وقد يكنى عن الاشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت. قوله تعالى: (وقيل من راق) اختلف فيه، فقيل: هو من الرقية، عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما. روي سماك عن عكرمة قال: من راق يرقي: أي يشفي. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس: أي هل من طبيب يشفيه، وقاله أبو قلابة وقتادة، وقال الشاعر: هل للفتى من بنات الدهر من واق * أم هل له من حمام الموت من راق (1) راجع ج 15 ص 195 وج 17 ص 230. (2) كذا في الاصل. والبيت لابنته عمرة من قصيدة لها ترثى بها أباها كما في شعراء النصرانية. (*)
[ 112 ]
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس، أي من يقدر أن يرقي من الموت. وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى: إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ وقيل: إن ملك الموت يقول من راق ؟ أي من يرقى بهذه النفس، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، فيقول ملك الموت: يا فلان اصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى: " من راق " واللام في قوله: " بل ران " لئلا يشبه مراق وهو بائع المرقة، وبران في تثنية البر. والصحيح ترك الاظهار، وكسرة القاف في " من راق "، وفتحة النون في " بل ران " تكفى في زوال اللبس. وأمثل مما ذكر: قصد الوقف على " من " و " بل "، فأظهرهما، قاله القشيري. قوله تعالى: " وظن " أي أيقن الانسان " أنه الفراق " أي فراق الدنيا والاهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. قال الشاعر: فراق ليس يشبهه فراق * قد انقطع الرجاء عن التلاق (والتفت الساق بالساق) أي فاتصلت الشدة بالشدة، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره: المعنى التفت ساقا الانسان عند الموت من شدة الكرب. وقال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الاخرى. وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا: هما ساقا الانسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد ابن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضا: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوالا. قال النحاس: القول الاول أحسنها. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " والتفت الساق بالساق " قال: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله، أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع، والدليل على هذا قوله تعالى: " إلى ربك يومئذ المساق " وقال. مجاهد: بلاء ببلاء. يقول: تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وابن زيد: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن
[ 113 ]
والشدائد العظام، ومنه قولهم: قامت الدنيا على ساق، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر: * وقامت الحرب بنا على ساق (1) * وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة " ن (2) والقلم ". وقال قوم: الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه، فهذه الساق الاولى، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده " إلى ربك " أي إلى خالقك " يومئذ " أي يوم القيامة " المساق " أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال: يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمساق: المصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول. قوله تعالى: فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32) ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى (35) قوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى) أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل: يرجع هذا إلى الانسان في أول السورة، وهو اسم جنس. والاول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة " ولا صلى " ودعا لربه، وصلى على رسوله. وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله، ولا صلى لله. وقيل: ولا صدق بمال له، ذخرا له عند الله، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي: " لا " بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره، تقول العرب: لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله تعالى: " فلا اقتحم العقبة " [ البلد: 11 ] ليس من هذا القبيل، لان معناه أفلا أقتحم، أي فهلا اقتحم، فحذف ألف الاستفهام. وقال الاخفش: " فلا صدق " أي لم يصدق، كقوله: " فلا اقتحم " أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه (1) صدر البيت: * صبرا أمام إنه شر باق * (2) راجع ج 18 ص 248. (*)
[ 114 ]
بشئ آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفى الماضي كما ينفي المستقبل، ومنه قول زهير: * فلا هو أبداها ولم يتقدم (1) * قوله تعالى: (ولكن كذب وتولى) أي كذب بالقرآن وتولى عن الايمان (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) أي يتبختر، افتخارا بذلك، قاله مجاهد وغيره. مجاهد: المراد به أبو جهل. وقيل: " يتمطى " من المطا وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه. وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدد من التكسل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق، فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدد، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض، لانه يتمطى أي يتمدد، وفي الخبر: (إذا مشت أمتي المطيطاء (2) وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم ". والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي. قوله تعالى: (أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى): تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لاربعة، كما روى أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال: " فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى " أي لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن كذب رسولي، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، وترك الصلاة خصلة، والتولي عن الله تعالى خصلة، فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الاربعة. والله أعلم. لا يقال: فإن قوله: " ثم ذهب إلى أهله يتمطى " خصلة خامسة، فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، (3) فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) صدر البيت: * وكان طوى كشحا على مستكنة * (2) المطيطاء يمد ويقصر قال ابن الاثير: وهي من المصغرات التي لم يستعمل لها مكبر. (3) في ز، ط، ل: (ذات ليلة). (*)
[ 115 ]
بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال: (أولى لك فأولى) فقال له أبو جهل: أتهددني ؟ فو الله إني لاعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لابي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر: فأولى ثم أولى ثم أولى * وهل للدر يحلب من مرد قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال: [ أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى ]. فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لاعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه، وقتله شر قتلة. وقيل: معناه: الويل لك، ومنه قول الخنساء: هممت بنفسي كل الهموم * فأولى لنفسي أولى لها سأحمل نفسي على آلة (1) * فإما عليها وإما لها الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت، وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب، كأنه قيل: أويل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار، وهذا التكرير كما قال (2): * لك الويلات إنك مرجلي * أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول. وقيل: معناه الذم لك، أولى من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الاصمعي " أولى " في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك، وأصله من الولي، وهو القرب، (1) في ا (على ألة) بفتح فشد وهي الحربة. وصوابه آلة أي حالة. (2) هو امرؤ القيس والبيت بتمه: ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة * فقالت لك الويلات إنك مرجلى (*)
[ 116 ]
قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " [ التوبة: 123 ] أي يقربون منكم، وأنشد الاصمعي: * وأولى أن يكون له الولاء * أي قارب أن يكون له، وأنشد أيضا: * أولى لمن هاجت له أن يكمدا * أي قد دنا صاحبها [ من ] (1) الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الاصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الاصمعي. النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت، وكأن تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال: ولا تكون أولى (أفعل منك)، وتكون خبر مبتدإ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره، لان أبا زيد (2) قد حكى: أولاة الآن: إذا أو عدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و " لك " خبر عن " أولى ". ولم ينصرف " أولى " لانه صار علما للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد. وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السئ الاول، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدم. قوله تعالى: أيحسب الانسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من منى يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والانثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى (40) قوله تعالى: (أيحسب الانسان) أي يظن ابن آدم " أن يترك سدى " أي أن يخلى مهملا، فلا يؤمر ولا ينهى، قاله ابن زيد ومجاهد، ومنه إبل سدى: ترعى بلا راع. وقيل: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وقال الشاعر: فأقسم بالله جهد اليم‍ * - يين ما ترك الله شيئا سدى (1) من: ساقطة من الاصول. (2) في (اللسان: ولى) وأسند الحكاية إلى ابن جنى. قال: وحكى ابن جنى: أولاة الآن فأنت أولى. قال: وهذا يدل على أنه اسم لا فعل. (*)
[ 117 ]
قوله تعالى: (ألم يك نطفة من منى يمنى) أي من قطرة ماء تمنى في الرحم، أي تراق فيه، ولذلك سميت (مني) لاراقة الدماء. وقد تقدم (1). والنطفة: الماء القليل، يقال: نطف الماء: إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة. وقرأ حفص " من مني يمنى " بالياء، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو، واختاره أبو عبيد لاجل المني. الباقون بالتاء لاجل النطفة، واختاره أبو حاتم. " ثم كان علقة " أي دما بعد النطفة، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال: " فخلق " أي فقدر " فسوى " أي فسواه تسوية، وعدله تعديلا، بجعل الروح فيه " فجعل منه " أي من الانسان. وقيل: من المني. " الزوجين الذكر والانثى " أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة " الشورى " (2) أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة " النساء " (3) أيضا القول فيه، وذكرنا في آية المواريث حكمه، فلا معنى لاعادته " أليس ذلك بقادر " أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة (4) من قطرة من ماء " بقادر على أن يحيي الموتى " أي على أن يعيد هذه الاجسام كهيئتها للبعث بعد البلى. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: [ سبحانك اللهم، بلى ] وقال ابن عباس. من قرأ " سبح اسم ربك الاعلى " [ الاعلى: 1 ] إماما كان أو غيره فليقل: " سبحان ربي الاعلى " ومن قرأ " لا أقسم بيوم القيامة " [ القيامة: 1 ] إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل: " سبحانك اللهم بلى " (5) ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد (6) لله. (1) راجع ج 17 ص 118 وص 216 (2) راجع ج 16 ص 48 (3) راجع ج 5 ص 3 (4) في ح: (المضفة). (5) في ا، ح: (سبحانك اللهم وبحمدك). (6) في ح: (والحمد لله على كل حال). (*)
[ 118 ]
سورة الانسان وهي إحدى وثلاثون آية مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور: مدنية. وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا " (1) [ الانسان: 23 ] إلى آخر السورة، وما تقدمه مدني. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ " هل أتى على الانسان حين من الدهر " وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (دعه يابن الخطاب) قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق إلى الجنة) وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ، وسيأتي. وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1) إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3) قوله تعالى: (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) " هل ": بمعنى (2) قد، قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكى عن سيبويه " هل " بمعنى قد. (1) الآية 23. (2) في ح: (تقديره). (*)
[ 119 ]
قال الفراء: هل تكون جحدا، وتكون خبرا، فهذا من الخبر، لانك تقول: هل أعطيتك ؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا ؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى. والانسان هنا آدم عليه السلام، قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي. وروى عن ابن عباس. " حين من الدهر " قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يعرف مقداره، عن ابن عباس أيضا، حكاه الماوردي. " لم يكن شيئا مذكورا " قال الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الارض. وقيل: أي كان جسدا مصورا ترابا وطينا، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح، فصار مذكورا، قال الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا. وقيل: ليس هذا الذكر بمعنى الاخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر، تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك " [ الزخرف: 44 ]. أي قد أتى على الانسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمله الامانة التي عجز عنها السموات والارض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكورا. قال القشيري: وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء: " لم يكن شيئا " قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم: النفي يرجع إلى الشئ، أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة، لانه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشئ حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لاحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الانسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة
[ 120 ]
كانت بعد الانسان. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الانسان شيئا مذكورا، لانه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوانا. وقد قيل: " الانسان " في قوله تعالى " هل أتى على الانسان حين " عني به الجنس من ذرية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدة حمل الانسان في بطن أمه " لم يكن شيئا مذكورا ": إذ كان علقة ومضغة، لانه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " فقال ليتها تمت. قوله تعالى: " إنا خلقنا الانسان " أي ابن آدم من غير خلاف " من نطفة " أي من ماء يقطر وهو المني، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه: مالي أراك تكرهين الجنة * هل أنت إلا نطفة في شنه (1) وجمعها: نطف ونطاف. (أمشاج): أخلاط. واحدها: مشج ومشيج، مثل خدن وخدين، قال: رؤبة: يطرحن كل معجل نشاج * لم يكس جلدا في دم أمشاج ويقال: مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج، مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد: واحد الامشاج: مشيج، يقال: مشج يمشج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم، قال الشماخ: طوت أحشاء مرتجة لوقت * على مشج سلالته مهين وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة. ويقال للشئ من هذا إذا خلط: مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وروى عن ابن عباس رضي الله عنه (1) الشنة: القربة. (*)
[ 121 ]
قال: الامشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة، قال الهذلي (1): كأن الريش والفوقين منه * خلاف النصل سيط به مشيج وعن (2) ابن عباس أيضا قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روى هذا مرفوعا، ذكره البزار. وروى عن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس: خلق من ألوان، خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما، كما قال في سورة " المؤمنون " " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " [ المؤمنون: 12 ] الآية. وقال ابن السكيت: الامشاج الاخلاط، لانها ممتزجة من أنواع فخلق الانسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني: الامشاج ما جمع وهو في معنى الواحد، لانه نعت للنطفة، كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الانصاري: قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال: [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة " البقرة ". (نبتليه) أي نختبره. وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما - (1) هو عمرو بن الداخل الهذلي. وفي (اللسان: مشج) زهير بن حرام الهذلي. سيط به: أي خرج قذذ من الريش مختلط من الدم والماء. (2) وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ما يأتي: والمعنى: (من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الاجزاء متباين الاوصاف في الرقة والثخن والقوام، والخواص تجتمع من الاخلاط وهي العناصر الاربعة ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الشبه له). (*)
[ 122 ]
نختبره بالخير والشر، قال الكلبي. الثاني - نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء، قاله الحسن. وقيل: " نبتليه " نكلفه. وفيه أيضا وجهان: أحدهما - بالعمل بعد الخلق، قاله مقاتل. الثاني - بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي. وروى عن ابن عباس: " نبتليه ": نصرفه خلقا بعد خلق، لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم (فجعلناه سميعا بصيرا) لنبتليه، وهي مقدمة معناها التأخير. قلت: لان الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل: " جعلناه سميعا بصيرا ": يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى، وبصرا يبصر به الهدى. قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل) أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر، كقوله تعالى: " وهديناه النجدين " [ البلد: 10 ]. وقال مجاهد: أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. (إما شاكرا وإما كفورا) أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون: " إن " ها هنا تكون جزاء و " ما " زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون، إذ لا تدخل " إن " للجزاء على الاسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الادلة عليه، ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك، أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا " إما شاكرا " والله أعلم. ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في " الفاتحة " (1) وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة، نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر، لان شكر الله تعالى لا يؤدى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره، لكثرة النعم عليه (2) وكثرة كفره وإن قل مع الاحسان إليه. حكاه الماوردي. (1) راجع ج 1 ص 147 وص 160 (2) في ا، ح، و: (وكثرة كفره). (*)
[ 123 ]
قوله تعالى: إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا (4) قوله تعالى: (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا) بين حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم، فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في " الحاقة " (1). وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر " سلاسلا " منونا. الباقون بغير تنوين. ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالالف. فأما " قوارير " الاول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالالف. وأما " قوارير " الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالالف، ومن لم ينون أسقط منها الالف، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالالف اتباعا لخط المصحف، قال: رأيت في مصحف عثمان " سلاسلا " بالالف و " وقواريرا " الاول بالالف، وكان الثاني مكتوبا بالالف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج: أحدها - أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية - أن الاخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك، وكذا قال الكسائي والفراء: هو على لغة من يجر الاسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه، وأنشد ابن الانباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم: كأن سيوفنا فينا وفيهم * مخاريق بأيدي لاعبينا وقال لبيد: وجزور أيسار دعوت لحتفها * بمغالق متشابه أجسامها وقال لبيد أيضا: فضلا وذو كرم يعين على الندى * سمح كسوب رغائب غنامها (1) راجع ج 18 ص 272. (*)
[ 124 ]
فصرف مخاريق ومغالق ورغائب، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة - أن يقول نونت قوارير الاول لانه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالنون، كقوله عز وجل: " مذكورا ". " سميعا بصيرا " فنونا الاول ليوقف بين رءوس الآي، ونونا الثاني على الجوار للاول. والحجة الرابعة - اتباع المصاحف، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالالف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال: إن كل جمع بعد الالف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة، فالذي بعد الالف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الالف منه حرفان قول الله عز وجل: " لهدمت صوامع " [ الحج: 40 ] لان بعد الالف منه حرفين، وكذلك قوله: " ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " [ الحج: 40 ]. والذي بعد الالف منه حرف مشدد شواب ودواب. وقال خلف: سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال: في المصاحف الاول الحرف الاول بالالف والثاني بغير ألف، فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف: رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الاول بالالف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا، لان من تقوم مقام الاضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف، لانهما دليلان من دلائل الاسماء ولا يجمع بين دليلين، قاله الفراء وغيره. قوله تعالى: " وأغلالا " جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول: ارفعوا هذه الايدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالاغلال. قال الحسن: إن الاغلال لم تجعل في أعناق أهل النار، لانهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. " وسعيرا " تقدم القول فيه. قوله تعالى: إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6)
[ 125 ]
قوله تعالى: (إن الابرار يشربون من كأس) الابرار: أهل الصدق واحدهم بر، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل: البر الموحد والابرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بر مثل نهر وأنهار، وفي الصحاح: وجمع البر الابرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه، والام برة بولدها. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إنما سماهم الله جل ثناؤه الابرار لانهم بروا الآباء والابناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا ]. وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة: الابرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث: [ الابرار الذين لا يؤذون أحدا ]. " يشربون من كأس " أي من إناء فيه الشراب. قال ابن عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الاناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم: صبنت (1) الكأس عنا أم عمرو * وكان الكأس مجراها اليمينا وقال الاصمعي: يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا: بمعنى كففت، قاله الجوهري. " كان مزاجها " أي شوبها (2) وخلطها، قال حسان: كأن (3) سبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. " كافورا " قال ابن عباس: هو اسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد عن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقاله مجاهد. وقال عكرمة: مزاجها طعمها. وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لان الكافور لا يشرب، كقوله تعالى: " حتى إذا جعله نارا " [ الكهف: 96 ] أي كنار. وقال ابن كيسان: طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال (1) الرواية المشهورة في المعلقات: صددت الكأس. (2) في ا، ح: (شرابها). (3) السبيئة: الخمر. وسميت بذلك لانها تسبأ أي تشترى لتشرب وفي: (كأن خبيئة) وهي المصونة المضنون بها لنفاستها. وبيت رأس: موضع بالاردن مشهور بالخمر. (*)
[ 126 ]
مقاتل: ليس بكافور الدنيا. ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله: " كان مزاجها " " كان " زائدة أي من كأس مزاجها كافور. (عينا يشرب بها عباد الله) قال الفراء: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة، ف‍ " - عينا " بدل من كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في " مزاجها ". وقيل: (نصب على المدح، كما يذكر الرجل فتقول: العاقل اللبيب، أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضا: وعاء طلع النخل وكذلك الكفرى، قاله الاصمعي. وأما قول الراعي: تكسو المفارق واللبات ذا أرج * من قصب معتلف الكافور دراج فإن الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. " يشرب بها " قال الفراء: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها يروى بها وينقع، وأنشد: شربن بماء البحر ثم ترفعت * متى لجج خضر لهن نئيج (1) قال: ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاما حسنا. وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة. وقيل: الباء بدل " من " تقديره يشرب منها، قاله القتبي. (يفجرونها تفجيرا) فيقال: إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجرى معه حيثما دار في منازله على مستوى الارض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره، وذلك قوله تعالى: " عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا " أي يشققونها شقا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد " يفجرونها تفجيرا " يقودونها حيث شاءوا وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى (1) قائله أبو ذؤيب يصف السحابات والباء في (بماء) بمعنى (من) و (متى) معناها (في) في لغة هذيل ونئيج: أي مر سريع مع صوت. (*)
[ 127 ]
أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل (1) عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله " يفجرونها تفجيرا " [ والاخرى الزنجبيل ] (2) والاخريان نضاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله [ عينا فيها تسمى ] (3) " سلسبيلا " والاخرى التسنيم) ذكره الترمذي الحكيم في " نوادر الاصول ". وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للابرار شربا لهم، يمزج للابرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللابرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للابرار مزاج فهو للمقربين صرف، وما كان للابرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والابرار هم الصادقون، والمقربون: هم الصديقون. قوله تعالى: يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا (9) قوله تعالى: (يوفون بالنذر) أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات. وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه. وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار، أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة " كان " وتحذف أخرى. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شئ يفعله. وإن شئت قلت في حده: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقال الكلبي: " يوفون بالنذر " أي يتممون العهود والمعنى واحد، وقد قال الله تعالى: (1) هذا السند في الاصول: أبو مقاتل عن صالح بن سعيد عن أبي سهل الخ وصوبناه من التذكرة للقرطبي. (2) الزيادة من الدر المنثور. (3) الزيادة من التذكرة والدر المنثور. (*)
[ 128 ]
" ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم " [ الحج: 29 ] أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة. وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله، قاله القشيري. وروى أشهب عن مالك أنه قال: " يوفون بالنذر " هو نذر العتق والصيام والصلاة. وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال مالك. " يوفون بالنذر " قال: النذر: هو اليمين. قوله تعالى: " ويخافون " أي يحذرون " يوما " أي يوم القيامة. " كان شره مستطيرا " أي عاليا داهيا فاشيا (1) وهو في اللغة ممتدا، والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال: إذا امتد، قال الاعشى: وبانت وقد أسأرت (2) في الفؤا * د صدعا على نأيها مستطيرا ويقال: استطار الحريق: إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء. وقال حسان: وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير (3) وكان قتادة يقول: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملا السموات والارض. وقال مقاتل: كان شره فاشيا في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفي الارض نسفت الجبال وغارت المياه. قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه) قال ابن عباس ومجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني: على حب الله. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال: أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. " مسكينا " أي ذا مسكنة. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو الطواف يسألك مالك " ويتيما " أي من يتامى المسلمين. وروى منصور عن الحسن: أن (1) في ا، ح، ل، و: (قاسيا) وهو تحريف. (2) ويروى: أورثت. (2) سراة بني لؤي أي خيارهم. والبويرة: موضع ببني قريظة يشير إلى ما فعله المسلمون ببني قريظة. (*)
[ 129 ]
يتيما كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق وعسل، فقال: دونك هذا، فوالله ما غبنت، قال الحسن وابن عمر: والله ما غبن. " وأسيرا " أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: الاسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقاله قتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الاسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد ابن جبير وعطاء: هو المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة: لقد أمر الله بالاسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لاهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وقال عكرمة: الاسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي: الاسير المرأة، يدل عليه قوله عليه السلام: [ استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ] أي أسيرات. وقال أبو سعيد الخدري: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " فقال: (المسكين الفقير، واليتيم الذي لا أب له، والاسير المملوك والمسجون) ذكره الثعلبي. وقيل: نسخ إطعام المسكين آية الصدقات، وإطعام الاسير [ آية ] السيف، قاله سعيد بن جبير. وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الاسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الامام. الماوردي: ويحتمل أن يريد بالاسير الناقص العقل، لانه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الامام، وهذا بر وإحسان. وعن عطاء قال: الاسير من أهل القبلة وغيرهم. قلت: وكأن هذا القول عام يجمع جميع الاقوال، ويكون إطعام الاسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا. والله أعلم. ومضى القول في المسكين واليتيم والاسير واشتقاق ذلك من اللغة في " البقرة " (1) مستوفى والحمد لله. (1) راجع ج 2 ص 14 فما بعدها وص 21. (*)
[ 130 ]
قوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله) أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والاسير " إنما نطعمكم " في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. " لا نريد منكم جزاء " أي مكافأة. " ولا شكورا " أي ولا أن تثنوا علينا بذلك، قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال: أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم، ليرغب في ذلك راغب. وقاله سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري. وقيل: إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الانصاري نذر نذرا فوفى به. وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم، ذكره الماوردي. وقال مقاتل: نزلت في رجل من الانصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أبو حمزة الثمالي: بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود، فقال: [ والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ] فأتى رجلا من الانصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله، وأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتيم فقال: يا رسول الله ! أطعمني فإني مجهود. فقال: [ ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ] فاستطعم ذلك الانصاري فقالت المرأة: أطعمه واسقه، فأطعمه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم أسير فقال: يا رسول الله ! أطعمني فإني مجهود. فقال: [ والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب ] فجاء الانصاري فطلب، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. فنزلت: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " ذكره الثعلبي. وقال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة. قلت: والصحيح أنها نزلت في جميع الابرار، ومن فعل فعلا حسنا، فهي عامة. وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل: " يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " قال:
[ 131 ]
مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعادهما عامة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن - ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا الحسن - رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم - لو نذرت عن ولديك شيئا، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشئ. فقال رضي الله عنه: إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت جارية لهم نوبية: إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة مثل ذلك. وفي حديث الجعفي فقال الحسن والحسين: علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري، وكان يهوديا، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه. وفي حديث الجعفي: فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، فلما مضى صيامهم الاول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش، إذ أتاهم مسكين، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد - في حديث الجعفي - أنا مسكين من مساكين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا والله جائع، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي رضي الله عنه، فأنشأ (1) يقول: فاطم ذات الفضل اليقين * يا بنت خير الناس أجمعين أما ترين البائس المسكين * قد قام بالباب له حنين يشكو إلى الله ويستكين * يشكو إلينا جائع حزين كل امرئ بكسبه رهين * وفاعل الخيرات يستبين (1) هذه الابيات والتي بعدها كل النسخ مجمعة على تحريفها ولقد أحسن أبو حيان إذ يقول فيها: وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جدا ظاهرة الاختلاق وفيها أشعار للمسكين واليتيم والاسير يخاطبون بها بيت النبوة وأشعار لفاطمة رضى الله عنها تخاطب كل واحد منهم ظاهرها الاختلاق لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسخافة معانيها. وسيأتي للمؤلف رحمه الله ما يضعف هذا لحديث ويزيفه. (*)
[ 132 ]
موعدنا جنة عليين * حرمها الله على الضنين وللبخيل موقف مهين * تهوى به النار إلى سجين شرابه الحميم والغسلين * من يفعل الخير يقم سمين * ويدخل الجنة أي حين * فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول: أمرك عندي يا ابن عم طاعه * ما بي من لؤم ولا وضاعه غديت في الخبز له صناعه * أطعمه ولا أبالي الساعه أرجو إذا أشبعت ذا المجاعه * أن ألحق الاخيار والجماعه * وأدخل الجنة لي شفاعه * فأطعموه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم، فوقف بالباب يتيم فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين أستشهد والدي يوم العقبة (1). أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي فأنشأ يقول: فاطم بنت السيد الكريم * بنت نبي ليس بالزنيم لقد أتى الله بذي اليتيم * من يرحم اليوم يكن رحيم ويدخل الجنة أي سليم * قد حرم الخلد على اللئيم ألا يجوز الصراط المستقيم * يزل في النار إلى الجحيم * شرابه الصديد والحميم * فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول: أطعمه اليوم ولا أبالي * وأوثر الله على عيالي أمسوا جياعا وهم أشبالي * أصغرهم يقتل في القتال (1) كذا في الاصل. (*)
[ 133 ]
بكر بلا يقتل باغتيال * يا ويل للقاتل مع وبال تهوي به النار إلى سفال * وفي يديه الغل والاغلال * كبولة زادت على الاكبال * فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم، إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا ! أطعموني فإني أسير محمد. فسمعه علي فأنشأ يقول: فاطم يا بنت النبي أحمد * بنت نبي سيد مسود وسماه الله فهو محمد * قد زانه الله بحسن أغيد هذا أسير للنبي المهتد * مثقل في غله مقيد يشكو إلينا الجوع قد تمدد * من يطعم اليوم يجده في غد عند العلي الواحد الموحد * ما يزرع الزارع سوف يحصد * أعطيه لا لا تجعليه أقعد * فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول: لم يبق مما جاء غير صاع * قد ذهبت كفي مع الذراع ابناي والله هما جياع * يا رب لا تتركهما ضياع أبوهما للخير ذو اصطناع * يصطنع المعروف بابتداع عبل الذراعين شديد الباع * وما على رأسي من قناع * إلا قناعا نسجه أنساع (1) * فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الرابع، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو (1) النسع - بالكسر -: سير يضفر على هيئة أعنة النعال تشد به الرحال. (*)
[ 134 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فلما أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة ] فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وقد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: [ واغوثاه يا الله، أهل بيت محمد يموتون جوعا ] فهبط جبريل عليه السلام وقال: السلام عليك، ربك يقرئك السلام يا محمد، خذه هنيئا في أهل بيتك. قال: (وما آخذ يا جبريل) فأقرأه " هل أتى على الانسان حين من الدهر " إلى قوله: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الاصول: فهذا حديث مزوق مزيف، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم، وقد قال الله تعالى في تنزيله: " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " [ البقرة: 219 ] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك، وجرت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن [ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ]. [ وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وافترض الله على الازواج نفقة أهاليهم وأولادهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ] أفيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الامر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن ؟ حتى تضوروا من الجوع، وغارت العيون منهم، لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك ؟ ! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن ؟ ! ما يروج مثل هذا إلا على حمقى جهال، أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه الابيات كل ليلة عن علي وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة ؟ فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى. بلغني أن قوما
[ 135 ]
يخلدون في السجون فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الاحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيفوها، وما من شئ إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيده أكثر. قوله تعالى: إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا (10) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا (11) قوله تعالى: (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) " عبوسا " من صفة اليوم، أي يوما تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس. وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل، قال الشاعر: * شديدا عبوسا قمطريرا * وقيل: القمطرير الشديد، تقول العرب: يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى، وأنشد الفراء: بني عمنا هل تذكرون بلاءنا * عليكم إذا ما كان يوم قماطر بضم القاف. واقمطر إذا اشتد. وقال الاخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الايام وأطوله في البلاء، قال الشاعر: ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها * ولج بها اليوم العبوس القماطر وقال الكسائي: يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا، وهو القمطرير والزمهرير، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا، قال الهذلي (1): بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة * ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب (1) البيت لحذيفة بن أنس الهذلي والذي في ديوان الهذليين: بنو الحرب أرضعنا بها مقمطرة * ومن يلق منا يلق سيد مدرب أرضعنا مبنى للمجهول. مقمطرة: من أقمطرت الناقة إذا لقحت. ويلق بني للمجهول في اللفظين. والسيد عند هذيل: الاسد. والمدرب: الضارى. (*)
[ 136 ]
وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين، فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم، وأنشد ابن الاعرابي: يغدو على الصيد يعود منكسر * ويقمطر ساعة ويكفهر وقال أبو عبيدة: يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين. وقال الزجاج: يقال أقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها، وزمت بأنفها، فاشتقه من القطر، وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة: واصطليت الحروب في كل يوم * باسل الشر قمطرير الصباح قوله تعالى: " فوفاهم الله " أي دفع عنهم " شر ذلك اليوم " أي بأسه وشدته وعذابه " ولقاهم " أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي رأوه " نضرة " أي حسنا " وسرورا " أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: " نضرة " في وجوههم " وسرورا " في قلوبهم. وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها أنها البياض والنقاء، قاله الضحاك. الثاني الحسن والبهاء، قاله ابن جبير. الثالث أنها أثر النعمة، قاله ابن زيد. قوله تعالى: وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (12) متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13) ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا (14) قوله تعالى: (وجزاهم بما صبروا) على الفقر. وقال القرظي: على الصوم. وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر. وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. و " ما ": مصدرية، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الابرار ومن فعل فعلا حسنا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر فقال: (الصبر أربعة: أولها الصبر عند الصدمة الاولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب). (جنة وحريرا) أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى (1) في ا، ح: (وروى). (*)
[ 137 ]
بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [ وفيه ] ما شاء الله عز وجل من الفضل. وقد تقدم (1): أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها. قوله تعالى: (متكئين فيها) أي في الجنة، ونصب " متكئين " على الحال من الهاء والميم في " جزاهم " والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها " صبروا "، لان الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفراء. وإن شئت جعلت " متكئين " تابعا، كأنه قال جزاهم جنة " متكئين فيها ". (على الارائك) السرر في الحجال وقد تقدم (2). وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الاريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير، ومنها السجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلا، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملا، والكأس لا تسمى كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان، قال ذو الرمة: خدود جفت في السير حتى كأنما * يباشرن بالمعزاء مس الارائك (3) أي الفرش على السرر. (لا يرون فيها شمسا) أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس " ولا زمهريرا " أي ولا بردا مفرطا، قال الاعشى: منعمة طفلة كالمها * ة لم تر شمسا ولا زمهريرا (4) وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف (1) راجع ج 12 ص 19. (2) راجع ج 10 ص 398. (3) المعزاء: الارض الصلبة. يقول: من شدة الحاجة إلى النوم يرون الارض الصلبة ذات الحجارة مثل الفرش على الارائك وهي السرر. يروى: (خدودا) على أنه مفعول لفعل في البيت قبله. (4) الذى في ديوان الاعشى طبع أوربا. مبتلة الخلق مثل المهاة... الخ. (*)
[ 138 ]
من سمومها). وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هواء الجنة سجسج: لا حر ولا برد) والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان: هو شئ مثل رءوس الابر ينزل من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم: * أو كنت ريحا كنت زمهريرا * وقال ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيئ، قال شاعرهم: وليلة ظلامها قد أعتكر * قطعتها والزمهرير ما زهر ويروى: ما ظهر، أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا، أي إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار، لان ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة " مريم " (1) عند قوله تعالى: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " [ مريم: 62 ]. وقال ابن عباس: بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة، فيقولون: قال ربنا: " لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا " فما هذا النور ؟ فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس ولا قمر، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله تعالى: " هل أتى على الانسان " وأنشد: أنا مولى لفتى * أنزل فيه هل أتى ذاك علي المرتضى * وابن عم المصطفى قوله تعالى: (ودانية عليهم ظلالها) أي ظل الاشجار في الجنة قريبة من الابرار، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم، كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، (1) راجع ج 11 ص 127 (*)
[ 139 ]
وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال: إن ارتفاع الاشجار في الجنة مقدار مائة عام، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها. وانتصبت " دانية " على الحال عطفا على " متكئين " كما تقول: في الدار عبد الله متكئا ومرسلة عليه الحجال. وقيل: انتصبت نعتا للجنة، أي وجزاهم جنة دانية، فهي صفة لموصوف محذوف. وقيل: على موضع " لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا " ويرون دانية، وقيل: على المدح أي دنت دانية. قاله الفراء. " ظلالها " الظلال مرفوعة بدانية، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في " وجزاهم " وقد قرئ بذلك. وفي قراءة عبد الله " ودانيا عليهم " لتقدم الفعل. وفي حرف أبي " ودان " رفع على الاستئناف " وذللت " أي سخرت لهم " قطوفها " أي ثمارها " تذليلا " أي تسخيرا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، قاله قتادة. وقال مجاهد: إن قام أحدا ارتفعت له، وإن جلس تدلت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا: أرض الجنة من ورق، وترابها الزعفران، وطيبها مسك أذفر، وأصول شجرها ذهب وورق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، والثمر تحت ذلك كله، فمن أكل منها قائما لم تؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه. وقال ابن عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد، وتذليل القطوف تسهيل التناول. والقطوف: الثمار، الواحد قطف بكسر القاف، سمي به لانه يقطف، كما سمي الجنى لانه يجنى. " تدليلا " تأكيد لما وصف به من الذل، كقوله: " ونزلناه تنزيلا " [ الاسراء: 106 ] " وكلم الله موسى تكليما " [ النساء: 164 ]. الماوردي: ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها. قلت: وفي هذا بعد، فقد روى ابن المباك، قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة: جذوعها زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لاهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد
[ 140 ]
بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس فيه عجم. قال أبو جعفر النحاس: ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال المذلل المسوى، لان أهل الحجاز يقولون: ذلل نخلك أي سوه، ويقال المذلل القريب المتناول، من قولهم: حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر (1): وهذه الاقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس: * وساق كأنبوب السقي المذلل (2) * قوله تعالى: ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا (15) قواريرا من فضة قدروها تقديرا (16) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا (17) عينا فيها تسمى سلسبيلا (18) قوله تعالى: " ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب " أي يدور على هؤلاء الابرار الخدم إذا أرادوا الشراب " بآنية من فضة " قال ابن عباس: ليس في الدنيا شئ مما في الجنة إلا الاسماء، أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى. ثم لم تنف الاواني الذهبية بل المعنى يسقون في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب. وقد قال تعالى: " يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب " [ الزخرف: 71 ]. وقيل: نبه بذكر الفضة على الذهب، كقوله: " سرابيل تقيكم الحر " [ النحل: 81 ] أي والبرد، فنبه بذكر أحدهما على الثاني. والاكواب: الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب، وقال عدي: متكئا تقرع (3) أبوابه * يسعى عليه العبد بالكوب وقد مضى في " الزخرف " (4). (كانت قوارير. قوارير من فضة) أي في صفاء القوارير وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة. وقيل: أرض الجنة (1) كذا في نسخ الاصل. والذي في المطبوع: (أبو حنيفة). (2) الانبوب: البردي. والسقى: النخل المسقى. شبه ساق المرأة ببردى قد نبت تحت نخل فالنخل يظله من الشمس وذلك أحسن ما يكون منه. وصدر البيت: وكشح لطيف كالجديل مخصر. (3) يروى: تخفق. بدل تقرع. (4) راجع ج 16 ص 111 (*)
[ 141 ]
من فضة، والاواني تتخذ من تربة الارض التي هي منها. ذكره ابن عباس وقال: ليس في الجنة شئ إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه، إلا القوارير من فضة. وقال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة (1) في صفاء القوارير. (قدروها تقديرا) قراءة العامة بفتح القاف والدال، أي قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر ريهم، بغير زيادة ولا نقصان. الكلبى: وذلك ألذ وأشهى، والمعنى: قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم. وعن ابن عباس أيضا: قدروها على مل ء الكف لا تزيد ولا تنقص، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر. وقيل: إن الشاربين قدروا لها مقادير في أنفسهم على ما اشتهوا وقدروا. وقرأ عبيد بن عمير والشعبي وابن سيرين " قدروها " بضم القاف وكسر الدال، أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. وذكر هذه القراءة المهدوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما، وقال: ومن قرأ " قدروها " فهو راجع إلى معنى القراءة الاخرى، وكأن الاصل قدروا عليها فحذف الجر، والمعنى قدرت عليهم، وأنشد سيبويه: (2) آليت حب العراق الدهر آكله * والحب يأكله في القرية السوس وذهب إلى أن المعنى على حب العراق. وقيل: هذا التقدير هو أن الاقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشارب، وذلك قوله تعالى: " قدروها تقديرا " أي لا يفضل عن الري لا ينقص منه، فقد ألهمت الاقداح معرفة مقدار ري المشتهى حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر هذا القول الترمذي الحكيم في " نوادر الاصول ". قوله تعالى: (ويسقون فيها كأسا) وهي الخمر في الاناء. " كان مزاجها زنجبيلا " " كان " صلة، أي مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من (1) أي في بياضها. (2) قائله المتلمس. ويروى: أطعمه. والرواية الصحيحة في (آليت) بالفتح لانه يخاطب عمرو بن هند الملك وكان قد أقسم ألا يطعم المتلمس حب العراق. فقال له المتلمس مستهزئا آليت على حب العراق لا أطعمه وقد وجدت منه بالشام ما يغنى عما عندك فمنه هناك كثير بحيث يأكله السوس. وأراد بالقرية الشام. (*)
[ 142 ]
الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته، لانه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. وقال المسيب بن علس يصف ثغر المرأة: وكأن طعم الزنجبيل به * إذ ذقته وسلافة الخمر ويروى. الكرم. وقال آخر (1): كأن جنيا من الزنجبي‍ * - ل بات بفيها وأريا مشورا ونحوه قول الاعشى: كأن القرنفل والزنجبي‍ * - ل باتا بفيها وأريا مشورا وقال مجاهد: الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الابرار. وكذا قال قتادة: والزنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة. وقيل: هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل. وقيل: إن فيه معنى الشراب الممزوج بالزنجبيل. والمعنى كأن فيها زنجبيلا. " عينا " بدل من كأس. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عينا. ويجوز نصبه بإسقاط الخافض أي من عين على ما تقدم في قوله تعالى: " عينا يشرب بها عباد الله " [ الانسان: 6 ]. " فيها " أي في الجنة " تسمى سلسبيلا " السلسبيل الشراب اللذيذ، وهو فعلليل من السلالة، تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل بمعنى، أي طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح: وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسلسلته أنا صببته فيه، وماء سلسل وسلسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، والسلاسل بالضم مثله. وقال الزجاج: السلسبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السلاسة، فكأن العين سميت بصفتها. وعن مجاهد قال: سلسبيلا: حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا. ونحوه عن ابن عباس: إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: (1) الذى في ديوان الاعشى هذا البيت لا الذى بعده وفيه: خالط فاها... الخ والظاهر أن البيتين واحد واختلفت الرواية. والارى: العسل. (*)
[ 143 ]
يسقون من ورد البريص عليهم * بردى يصفق بالرحيق السلسل (1) وقال أبو العالية ومقاتل: إنما سميت سلسبيلا، لانها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة: سلسة منقاد ماؤها حيث شاءوا. ونحوه عن عكرمة. وقال القفال: أي تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروى هذا عن علي رضي الله عنه. وقوله: " تسمى " أي إنها مذكورة عند الملائكة وعند الابرار وأهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل، لانه رأس آية، كقوله تعالى: " الظنونا " [ الاحزاب: 10 ] و " السبيلا " [ الاحزاب: 67 ]. قوله تعالى: ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا (19) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا (20) عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21) إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا (22) قوله تعالى: (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) بين من الذي يطوف عليهم بالآنية، أي ويخدمهم ولدان مخلدون، فإنهم أخف في الخدمة. ثم قال: " مخلدون " أي باقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مر الازمنة. وقيل: مخلدون لا يموتون. وقيل: مسورون مقرطون، أي محلون والتخليد التحلية. وقد تقدم (2) هذا. (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم: لؤلؤا مفرقا في عرصة المجلس، واللؤلؤ إذا نثر على بساط (3) كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو (1) البريص: نهر بدمشق. وبردى نهر آخر بدمشق أيضا أي ماء بردى. ويصفق: يمزج. والرحيق: الخمر البيضاء. (2) راجع ج 17 ص 202 (3) في ل، و: (واللؤلؤ إذ نثر كان أحسن...). (*)
[ 144 ]
على بساط منسوج من ذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخليفة اللؤلؤ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول: كأن صغري وكبرى من فقاقعها * حصباء در على أرض من الذهب وقيل: إنما شبههم بالمنثور، لانهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون، لانهن لا يمتهن بالخدمة. قوله تعالى: (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) " ثم ": ظرف مكان أي هناك في الجنة، والعامل في " ثم " معنى " رأيت " أي وإذا رأيت ببصرك " ثم ". وقال الفراء: في الكلام " ما " مضمرة، أي وإذا رأيت ما ثم، كقوله تعالى: " لقد تقطع بينكم " [ الانعام: 94 ] أي ما بينكم. وقال الزجاج: " ما " موصولة ب‍ " - ثم " على ما ذكره الفراء، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن " رأيت " يتعدى في المعنى إلى " ثم " والمعنى: إذا رأيت ببصرك " ثم " ويعني ب‍ " - ثم " الجنة، وقد ذكر الفراء هذا أيضا. والنعيم: سائر ما يتنعم به. والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم، قاله السدي وغيره. قال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله، فيستأذن عليه، فذلك الملك العظيم. وقاله مقاتل بن سليمان. وقيل: الملك الكبير: هو أن يكون لاحدهم سبعون حاجبا، حاجبا دون حاجب، فبينما ولي الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه ملك من عند الله، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفة من رب العالمين لم يرها ذلك الولي في الجنة قط، فيقول للحاجب الخارج: استأذن على ولي الله فإن معي كتابا وهدية من رب العالمين. فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه: هذا رسول من رب العالمين، معه كتاب وهدية يستأذن على ولي الله، فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي ولي الله فيقول له: يا ولي الله ! هذا رسول من رب العالمين يستأذن عليك، معه كتاب وتحفة من رب العالمين أفيؤذن له ؟ فيقول: نعم ! فأذنوا له. فيقول ذلك الحاجب الذي يليه: نعم فأذنوا له (1). فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ (1) في ا، ح، ل: (فقاربوا له). (*)
[ 145 ]
الحاجب الآخر. فيقول له: نعم أيها الملك، قد أذن لك، فيدخل فيسلم عليه ويقول: السلام يقرئك السلام، وهذه تحفة، وهذا كتاب من رب العالمين إليك. فإذا هو مكتوب عليه: من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي يموت. فيفتحه فإذا فيه: سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي، يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربك ؟ فيستخفه الشوق فيركب البراق فيطير به البراق شوقا إلى زيادة علام الغيوب، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم، دليله قوله تعالى: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " [ الرعد: 23 - 24 ]. وقيل: الملك الكبير كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك. وقال الترمذي الحكيم: يعني ملك التكوين، فإذا أرادوا شيئا قالوا له كن. وقال أبو بكر الوراق: ملك لا يتعقبه هلك. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملك الكبير هو [ أن ] (1) أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه) قال: [ وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين ] سبحان المنعم (2). قوله تعالى: (عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق) قرأ نافع وحمزة وابن محيصن " عاليهم " ساكنة الياء، واختاره أبو عبيد أعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما " عاليتهم " وبتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها. الفراء: وهو مرفوع بالابتداء وخبره " ثياب سندس " واسم الفاعل يراد به الجمع. ويجوز في قول الاخفش أن يكون (3) إفراده على أنه اسم فاعل متقدم و " ثياب " مرتفعة به وسدت مسد الخبر، والاضافة فيه في تقدير الانفصال لانه لم يخص، وابتدئ به لانه أختص بالاضافة. وقرأ الباقون " عاليهم " بالنصب. وقال الفراء: هو كقولك فوقهم، والعرب تقول: قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف، لانه محل. وأنكر الزجاج هذا وقال: هو مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء. ولكنه بالنصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله: (1) زيادة يقتضيها المعنى. (2) جملة: (سبحان المنعم): في الاصل المطبوع. (3) جملة:: (أن يكون) ساقطة من الاصل. (*)
[ 146 ]
" يطوف عليهم " أي على الابرار " ولدان " عاليا الابرار ثياب سندس، أي يطوف عليهم في هذه الحال، والثاني: أن يكون حالا من الولدان، أي " إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا " في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي: العامل في الحال إما " لقاهم نضرة وسرورا " وإما " جزاهم بما صبروا " قال: ويجوز أن يكون ظرفا فصرف. المهدوي: ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا، كقولك هو ناحية من الدار، وعلى أن عاليا لما كان بمعنى فوق أجرى مجراه فجعل ظرفا. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم " خضر " بالجر على نعت السندس " وإستبرق " بالرفع نسقا على الثياب، ومعناه عاليهم [ ثياب ] (1) سندس وإستبرق. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب " خضر " رفعا نعتا للثياب " وإستبرق " بالخفض نعتا للسندس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه، لان الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة، وأحسن ما عطف الاستبرق على السندس عطف جنس على جنس، والمعنى: عاليهم ثياب خضر من سندس وإستبرق، أي من هذين النوعين. وقرأ نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون " خضر " نعتا للثياب، لانهما جميعا بلفظ الجمع " وإستبرق " عطفا على الثياب. وقرأ الاعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله: " خضر " نعتا للسندس، والسندس اسم جنس، وأجاز الاخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له، وتقول: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، ولكنه مستبعد في الكلام. والمعنى على هذه القراءة: عاليهم ثياب سندس خضر وثياب إستبرق. وكلهم صرف الاستبرق إلا ابن محيصن، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ " وإستبرق " نصبا في موضع الجر، على منع الصرف، لانه أعجمي، وهو غلط، لانه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول الاستبرق إلا أن يزعم [ ابن محيصن ] (2) أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ " واستبرق " بوصل الهمزة والفتح على أنه سمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لانه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبرك (3) والسندس: ما رق من الديباج. والاستبرق: ما غلظ منه. وقد تقدم (4). (1) زيادة تقتضيها العبارة. (2) زيادة من ا، ح. (3) في الاصل إستبرق وهو تحريف والتصويب من القاموس الفارسى. وفي الالفاظ الفارسية وشرح القاموس أصله: (استبره). (4) راجع ج 10 ص 397 وج 17 ص 179 (*)
[ 147 ]
قوله تعالى: " وحلوا " عطف على " ويطوف ". " أساور من فضة " وفي سورة فاطر " يحلون فيها من أساور من ذهب " وفي سورة الحج " يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا " [ الحج: 23 ]، فقيل: حلي الرجل الفضة وحلي المرأة الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ، ليجتمع لهم محاسن الجنة، قاله سعيد بن المسيب. وقيل: أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبدا، ثم يشربون من الاخرى، فيخرج ما في بطونهم من الاذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم: " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " [ الزمر: 73 ]. وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك، وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة، تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من أذى وقذر. وهذا معنى ما روى عن علي، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. وقد مضى بيانه في سورة " الفرقان " (1) والحمد لله. وقال طيب الجمال: صليت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " وجعل يحرك شفتيه وفمه، كأنه يمص شيئا، فلما فرغ قيل له: أتشرب أم تقرأ ؟ فقال: والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته. قوله تعالى: (إن هذا كان لكم جزاء) أي يقال لهم: إنما هذا جزاء لكم أي ثواب. " وكان سعيكم " أي عملكم " مشكورا " أي من قبل الله، وشكره للعبد قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه. وروى سعيد عن قتادة قال: غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى. وقال (1) راجع ج 13 ص 39 (*)
[ 148 ]
مجاهد: " مشكورا " أي مقبولا والمعنى متقارب، فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل، إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم. روي عن ابن عمر: أن رجلا حبشيا قال: يا رسول الله ! فضلتم علينا بالصور والالوان والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت بما عملت، أكائن أنا معك في الجنة ؟ قال: [ نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الاسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام ] ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عهد، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ]، فقال الرجل: كيف نهلك بعدها (1) يا رسول الله ؟ فقال: [ إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لاثقله. فتجئ النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يلطف (2) الله برحمته ]. قال: ثم نزلت " هل أتى على الانسان حين من الدهر " إلى قوله: " وملكا كبيرا " قال الحبشي: يا رسول الله ! وإن عيني لترى ما ترى، عيناك في الجنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم) فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته ويقول: " إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " قلنا: يا رسول الله وما هو ؟ قال: [ والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لابيضن وجهك ولابوئنك من الجنة حيث شئت، فنعم أجر العاملين ]. قوله تعالى: إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا (23) فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم أثما أو كفورا (24) واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا (25) ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا (26) قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) ما افتريته ولا جئت به من عندك، ولا من تلقاء نفسك، كما يدعيه المشركون. ووجه اتصال هذه الآية بنا قبل أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد، بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه، فليس بسحر (1) في ا، ح، و: (بعد هذا). (2) في ز، ط، ل: يتعطف. (*)
[ 149 ]
ولا كهانة، ولا شعر، وأنه حق. وقال ابن عباس: أنزل القرآن متفرقا: آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة، فلذلك قال " نزلنا " وقد مضى القول في هذا مبينا (1) والحمد لله. قوله تعالى: (فاصبر لحكم ربك) أي لقضاء ربك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اصبر على أذى المشركين، هكذا قضيت. ثم نسخ بآية القتال. وقيل: أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة. " ولا تطع منهم آثما " أي ذا إثم " أو كفورا " أي لا تطع الكفار. فروى معمر عن قتادة قال: قال أبو جهل: إن رأيت محمدا يصلي لاطأن على عنقه. فأنزل الله عز وجل: " ولا تطع منهم آثما أو كفورا ". ويقال: نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد ابن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الاموال والتزويج، على أن يترك ذكر النبوة، ففيهما نزلت: " ولا تطع منهم آثما أو كفورا ". قال مقاتل: الذي عرض التزويج عتبة بن ربيعة، قال: إن بناتي من أجمل نساء قريش، فأنا أزوجك أبنتي من غير مهر وأرجع عن هذا الامر. وقال الوليد: إن كنت صنعت ما صنعت لاجل المال، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الامر، فنزلت. ثم قيل: " أو " في قوله تعالى: " آثما أو كفورا " أوكد من الواو، لان الواو إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص، لانه أمره ألا يطيع الاثنين، فإذا قال: " لا تطع منهم آثما أو كفورا " ف‍ " - أو " قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت: هذان أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل لان يتبع، قاله الزجاج. وقال الفراء: " أو " هنا بمنزلة " لا " كأنه قال: ولا كفورا، قال الشاعر: لا وجد ثكلى كما وجدت ولا * وجد عجول أضلها ربع (2) أو وجد شيخ أضل ناقته * يوم توافي الحجيج فاندفعوا (1) راجع ج 13 ص 29 (2) العجول من النساء والابل: الواله التي فقدت ولدها سميت بذلك لعجلتها في جيئتها وذهابها جزعا وهي هنا الناقة. والربع: كمضر: الفصيل ينتج في الربيع. (*)
[ 150 ]
أراد ولا وجد شيخ. وقيل: الآثم المنافق، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر، أي لا تطع منهم آثما ولا كفورا. وهو قريب من قول الفراء. قوله تعالى: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) أي صل لربك أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر (ومن الليل فاسجد له) يعني صلاة المغرب والعشاة الآخرة (وسبحه ليلا طويلا) يعني التطوع في الليل، قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها. وقال ابن زيد وغيره: إن قوله: " وسبحه ليلا طويلا " منسوخ بالصلوات الخمس وقيل: هو ندب. وقيل: هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم القول في مثله في سورة " المزمل " (1) وقول ابن حبيب حسن. وجمع الاصيل: الاصائل والاصل كقولك سفائن وسفن قال: * ولا بأحسن منها إذا دنا الاصل * وقال (2) في الاصائل وهو جمع الجمع: لعمري لانت البيت أكرم أهله * وأقعد في أفيائه بالاصائل وقد مضى هذا في آخر (الاعراف) (3) مستوفى. ودخلت (من) على الظرف للتبعيض كما دخلت على المفعول في قوله تعالى: (يغفر لكم من ذنوبكم). قوله تعالى: إن هؤلاء يحبون العاجلة وذرون وراءهم يوما ثقيلا (27) نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا (28) قوله تعالى: (إن هؤلاء يحبون العاجلة): توبيخ وتقريع، والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا " ويذرون " أي ويدعون " وراءهم " أي بين أيديهم " يوما ثقيلا " (1) راجع ص 38 من هذا الجزء. (2) قاله أبو ذؤيب الهذلى. (3) راجع ج 7 ص 355. (*)
[ 151 ]
أي عسيرا شديدا كما قال: " ثقلت في السموات والارض " [ الاعراف: 187 ]. أي يتركون الايمان بيوم القيامة. وقيل: " وراءهم " أي خلفهم، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم، فلا يعملون لها. وقيل: " نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته. وحبهم العاجلة: أخذهم الرشا على ما كتموه. وقيل: أراد المنافقين، لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم. واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل: للقضاء فيه بين عباده. قوله تعالى: " نحن خلقناهم " أي من طين. " وشددنا أسرهم " أي خلقهم، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والاسر الخلق، قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الاسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه، قال لبيد: ساهم الوجه شديد أسره * مشرف الحارك محبوك الكتد (1) وقال الاخطل: من كل مجتنب شديد أسره * سلس القياد تخاله مختالا (2) وقال أبو هريرة والحسن والربيع: شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال مجاهد في تفسير الاسر: هو الشرج، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا: يمشي بأوظفة شداد أسرها * صم السنابك لا تقي بالجدجد (3) واشتقاقه من الاسار وهو القد الذي يشد به الاقتاب، يقال: أسرت القتب أسرا أي شددته وربطته، ويقال: ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه، ومنه قولهم: خذه (1) ورد في اللسان مادة (حبك) أنشد بيت لبيد على هذه الصورة: مشرف الحارك محبوك الكفل (وكذلك هو في ديوانه) ومحبوك الكفل: مدمجه. وفي مادة حرك أنشد الشطر: * مغبط الحارك محبوك الكفل * أما الشطر الذي في التفسير هنا فهو لابي دواد وقد مر في ج 17 ص 32. (2) مجتنب: مفتعل من الجنيبة وهي الفرس تقاد ولا تركب وكانوا يركبون الابل ويجنبون الخيل فإذا صاروا إلى الحرب ركبوا الخيل. (3) الجدجد: الارض الصلبة. ولا تقي: لا تتوقى ولا تتهيب. (*)
[ 152 ]
بأسره إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله، كأنهم أرادوا تعكيمه (1) وشده لم يفتح ولم ينقص منه شئ. ومنه الاسير، لانه كان يكتف بالاسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. (وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا) قال ابن عباس: يقول لو نشاء لاهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا: لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والاول رواه عنه أبو صالح. قوله تعالى: إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا (29) وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما (30) يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما (31) قوله تعالى: " إن هذه " أي السورة " تذكرة " أي موعظة " فمن شاء أتخذ إلى ربه سبيلا " أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل: " سبيلا " أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى الجنة (2). والمعنى واحد. " وما تشاءون " أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله " إلا أن يشاء الله " فأخبر أن الامر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " وما يشاءون " بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه. وقيل: إن الآية الاولى منسوخة بالثانية. والاشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء: " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " جواب لقوله: " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " ثم أخبرهم أن الامر ليس إليهم فقال: " وما تشاءون " ذلك السبيل " إلا أن يشاء الله " لكم. " إن الله كان عليما " بأعمالكم " حكيما " في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع. (1) عكمت المتاع شددته والعكام الخيط الذى يعكم به وعكمت البعير شددت عليه العكم. (2) في ب، ز، ط: إلى الخير. (*)
[ 153 ]
" يدخل من يشاء في رحمته " أي يدخله الجنة راحما له " والظالمين " أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج: نصب الظالمين لان قبله منصوب، أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون " أعد لهم " تفسيرا لهذا المضمر، كما قال الشاعر: أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به * وحدي وأخشى الرياح والمطرا أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع، تقول: أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا، فيختار النصب، أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في " حم عسق ": " يدخل من يشاء في رحمته والظالمون " [ الشورى: 8 ] ارتفع لانه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله: " أعد لهم عذابا " يدل على ويعذب، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان " والظالمون " رفعا بالابتداء والخبر " أعد لهم ". " عذابا أليما " أي مؤلما موجعا. وقد تقدم هذا في سورة " البقرة " (1) وغيرها والحمد لله. ختمت السورة. سورة المرسلات مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون " [ المرسلات: 48 ] مدنية. وقال ابن مسعود: نزلت " والمرسلات عرفا " على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن معه نسير، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقيتم شرها كما وقيت شركم). وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة " والمرسلات عرفا " فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. والله أعلم. وهي خمسون آية. (1) راجع ج 1 ص 198 (*)
[ 154 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والمرسلات عرفا (1) فالعاصفات عصفا (2) والناشرات نشرا (3) فالفارقات فرقا (4) فالملقيات ذكرا (5) عذرا أو نذرا (6) إنما توعدون لواقع (7) فإذا النجوم طمست (8) وإذا السماء فرجت (9) وإذا الجبال نسفت (10) وإذا الرسل أقتت (11) لاى يوم أجلت (12) ليوم الفصل (13) وما أدراك ما يوم الفصل (14) ويل يومئذ للمكذبين (15) قوله تعالى: " والمرسلات عرفا " جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي. وقيل: هم الانبياء أرسلوا بلا إله إلا الله، قاله ابن عباس. وقال أبو صالح: إنهم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وعن ابن عباس وابن مسعود: إنها الرياح، كما قال تعالى: " وأرسلنا الرياح " [ الحجر: 22 ]. وقال: " وهو الذي يرسل الرياح " [ الاعراف: 57 ]. ومعنى " عرفا " يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس، تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من " والمرسلات " أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدرا أي تباعا. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر، كأنه قال: والمرسلات بالعرف، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب، لما فيها من نعمة ونقمة، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل: إنها الزواجر والمواعظ. و " عرفا " على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس، قاله ابن مسعود. وقيل: جاريات، قاله الحسن، يعني في القلوب. وقيل: معروفات في العقول.
[ 155 ]
(فالعاصفات عصفا) الرياح بغير اختلاف، قاله المهدوي. وعن ابن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه، كما قال تعالى: " فيرسل عليكم (1) قاصفا " [ الاسراء: 69 ]. وقيل: العاصفات الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها. وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر، يقال: عصف بالشئ أي أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي تعصف براكبها، فتمضى كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. (والناشرات نشرا) الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته، أي تنشر السحاب للغيث. وروى ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضا: الامطار، لانها تنشر النبات، فالنشر بمعنى الاحياء، يقال: نشر الله الميت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السدي: أنها الملائكة تنشر كتب الله عز وجل. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد. وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الارواح. قال: " والناشرات " بالواو، لانه استئناف قسم آخر. (فالفارقات فرقا) الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الاقوات والارزاق والآجال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدده. وعن سعيد عن قتادة قال: " الفارقات فرقا " الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقاله الحسن وابن كيسان. وقيل: يعني الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بينوا ذلك. وقيل: السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتند في الارض حين تضع، ونوق (1) كذا في الاصول ولعل المناسب الاستشهاد بقوله تعالى: (جاءتها ريح عاصف) كما أشار إليه أبو حيان بقوله: وأن العصف من صفات الريح... الخ. (*)
[ 156 ]
فوارق وفرق. [ وربما ] (1) شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة، قال ذو الرمة: أو مزنة فارق يجلو غواربها * تبوج البرق والظلماء علجوم (2) (فالملقيات ذكرا) الملائكة بإجماع، أي تلقي كتب الله عز وجل إلى الانبياء عليهم السلام، قاله المهدوي. وقيل: هو جبريل وسمي باسم الجمع، لانه كان ينزل بها. وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم، قاله قطرب. وقرأ ابن عباس " فالملقيات " بالتشديد مع فتح القاف، وهو كقوله تعالى: " وإنك لتلقى القرآن " [ النمل: 6 ] (عذرا أو نذرا): أي تلقى الوحي إعذارا من الله أو إنذارا إلى خلقه من عذابه، قاله الفراء. وروى عن أبي صالح قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون. وروى سعيد عن قتادة " عذرا " قال: عذرا لله جل ثناؤه إلى خلقه، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ابن عباس. " عذرا " أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة " أو نذرا " ينذر أعداءه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص " أو نذرا " بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال " عذرا " سوى ما رواه الجعفي والاعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروى ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة " عذرا ونذرا " بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفا. وهما منصوبان على الفاعل له أي للاعذار أو للانذار. وقيل: على المفعول به، قيل: على البدل من " ذكرا " أي فالملقيات عذرا أو نذرا. وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل على جمع عاذر وناذر، كقوله تعالى: " هذا نذير من النذر الاولى " [ النجم: 56 ] فيكون نصبا على الحال من الالقاء، أي يلقون الذكر في حال العذر والانذار. أو يكون مفعولا ل‍ " - ذكرا " أي " فالملقيات " أي تذكر " عذرا أو نذرا ". وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير. (إنما توعدون لواقع) هذا جواب ما تقدم من القسم، أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم. (1) الزيادة من اللسان عن الجوهري مادة (فرق). (2) تبوج البرق: تفتحه وتكشفه. علجوم: شديد السواد. (*)
[ 157 ]
ثم بين وقت وقوعه فقال: " فإذا النجوم طمست " أي ذهب ضوءها ومحي نورها كطمس الكتاب، يقال: طمس الشئ إذا درس وطمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار فتكون الريح طامسة والاثر طامسا بمعنى مطموس. (وإذا السماء فرجت) أي فتحت وشقت، ومنه قوله تعالى: " وفتحت السماء فكانت أبوابا " [ النبأ: 19 ]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فرجت للطي. (وإذا الجبال نسفت) أي ذهب بها كلها بسرعة، يقال: نسفت الشئ وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة. وكان ابن عباس والكلبي يقول: سويت بالارض، والعرب تقول: فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه، قال بشر: * نسوف للحزام بمرفقيها * ونسفت الناقة الكلا: إذا رعته. وقال المبرد: نسفت قلعت من موضعها، يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الارض: أنسفت رجلاه. وقيل: النسف تفريق الاجزاء حتى تذروها للرياح. ومنه نسف الطعام، لانه يحرك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن. (وإذا الرسل أقتت) أي جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت الاجل الذي يكون عنده الشئ المؤخر إليه، فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الامم، كما قال تعالى: " يوم يجمع الله الرسل " [ المائدة: 109 ]. وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والاول أحسن، لان التوقيت معناه شئ يقع يوم القيامة، كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا. وقيل: أقتت وعدت وأجلت. وقيل: " أقتت " أي أرسلت لاوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة (1) في " أقتت " بدل من الواو، قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة، تقول: صلى القوم إحدانا تريد وحدانا، ويقولون هذه وجوه حسان و [ أجوه ] (2). وهذا (1) وضح المؤلف هذا البدل عند قوله تعالى: (قل أوحى) في أول هذا الجزء. (2) زيادة يقتضيها المقام. (*)
[ 158 ]
لان ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله: " ولا تنسوا الفضل بينكم " [ البقرة: 237 ] لان الضمة غير لازمة. وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد " وقتت " بالواو وتشديد القاف على الاصل. وقال أبو عمرو: وإنما يقرأ " أقتت " من قال في وجوه أجوه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والاعرج " وقتت " بالواو وتخفيف القاف. وهو فعلت من الوقت ومنه " كتابا موقوتا ". وعن الحسن أيضا: " ووقتت " بواوين، وهو فوعلت من الوقت أيضا مثل عوهدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفا لجاز. وقرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام " أقتت " بالهمزة والتخفيف، لانها مكتوبة في المصحف بالالف. (لاى يوم أجلت) ؟ أي أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم. أي " ليوم الفصل " أجلت. وروى سعيد عن قتادة قال: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث: [ إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاما على رؤوسهم الشمس شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل ]. (وما أدراك ما يوم الفصل) أتبع التعظيم تعظيما، أي وما أعلمك ما يوم الفصل ؟ (ويل يومئذ للمكذبين) أي عذاب وخزي لمن كذب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب، لانه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشئ عذابا سوى تكذيبه بشئ آخر، ورب شئ كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره، لانه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وعلى قدر وفاقه وهو قوله: " جزاء وفاقا ". [ النبأ: 26 ]. وروى عن النعمان بن بشير قال: ويل: واد في جهنم فيه ألوان العذاب. وقاله ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: إذا خبت جهنم أخذ من جمره فألقى عليها فيأكل بعضها بعضا. وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ عرضت علي جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل ] وروى أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشئ فيما سفل من الارض وانفطر، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الادناس والاقذار والغسالات من الجيف وماء الحمامات، فذكر أن ذلك
[ 159 ]
الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك، ليعلم ذوو العقول أنه لا شئ أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتنا، ولا أشد منه مرارة، ولا أشد سوادا منه، ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمن من العذاب، وأنه أعظم واد في جهنم، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة. قوله تعالى: ألم نهلك الاولين (16) ثم نتبعهم الاخرين (17) كذلك نفعل بالمجرمين (18) ويل يومئذ للمكذبين (19) قوله تعالى: (ألم نهلك الاولين) أخبر عن إهلاك الكفار من الامم الماضين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. (ثم نتبعهم الآخرين) أي نلحق الآخرين بالاولين. (كذلك نفعل بالمجرمين) أي مثل ما فعلناه بمن تقدم نفعل بمشركي قريش إما بالسيف، وإما بالهلاك. وقرأ العامة " ثم نتبعهم " بالرفع على الاستئناف، وقرأ الاعرج " نتبعهم " بالجزم عطفا على " نهلك الاولين " كما تقول: ألم تزرني ثم أكرمك. والمراد أنه أهلك قوما بعد قوم على اختلاف أوقات المرسلين. ثم استأنف بقوله: " كذلك نفعل بالمجرمين " يريد من يهلك فيما بعد. ويجوز أن يكون الاسكان تخفيفا من " نتبعهم " لتوالي الحركات. وروى عنه الاسكان للتخفيف. وفي قراءة ابن مسعود " ثم سنتبعهم " والكاف من " كذلك " في موضع نصب، أي مثل ذلك الهلاك نفعله بكل مشرك. ثم قيل: معناه التهويل لهلاكهم في الدنيا اعتبارا. وقيل: هو إخبار بعذابهم في الآخرة. قوله تعالى: ألم نخلقكم من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القادرون (23) ويل يومئذ للمكذبين (24) قوله تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين) أي ضعيف حقير وهو النطفة وقد تقدم. وهذه الآية أصل لمن قال: إن خلق الجنين إنما هو من ماء الرجل وحده. وقد مضى القول (1) فيه. (1) راجع ج 12 ص. (*)
[ 160 ]
(فجعلناه في قرار مكين) أي في مكان حريز وهو الرحم. (إلى قدر معلوم) قال مجاهد: إلى أن نصوره. وقيل: إلى وقت الولادة. " فقدرنا " وقرأ نافع والكسائي " فقدرنا " بالتشديد. وخفف الباقون، وهما لغتان بمعنى. قاله الكسائي والفراء والقتبي. قال القتبي: قدرنا بمعنى قدرنا مشددة: كما تقول: قدرت كذا وقدرته، ومنه قول النبي صلى الله عليه سلم في الهلال: [ إذا غم عليكم فاقدروا له ] أي قدروا له المسير والمنازل. وقال محمد بن الجهم عن الفراء: " فقدرنا " قال: وذكر تشديدها عن علي رضي الله عنه، تخفيفها: قال: ولا يبعد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحدا، لان العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر: قال الله تعالى: " نحن قدرنا بينكم الموت " [ الواقعة: 60 ] قرئ بالتخفيف، والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر. قال: واحتج الذين خففوا فقالوا، لو كانت كذلك لكانت فنعم المقدرون. قال الفراء: وتجمع العرب بين اللغتين، قال الله تعالى: " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " [ الطارق: 17 ] قال الاعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت * من الحوادث إلا الشيب والصلعا وروي عن عكرمة " فقدرنا " مخففة من القدرة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والكسائي لقوله: " فنعم القادرون " ومن شدد فهو من التقدير، أي فقدرنا الشقي والسعيد فنعم المقدرون. رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى قدرنا قصيرا أو طويلا. ونحوه عن ابن عباس: قدرنا ملكنا. المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف. قلت: هو صحيح فإن عكرمة هو الذي قرأ " فقدرنا " مخففا قال: معناه فملكنا فنعم المالكون، فأفادت الكلمتان معنيين متغايرين، أي قدرنا وقت الولادة وأحوال النطفة في التنقيل من حالة إلى حالة حتى صارت بشرا سويا، أو الشقي والسعيد، أو الطويل والقصير، كله على قراءة التشديد. وقيل: هما بمعنى كما ذكرنا. قوله تعالى: ألم نجعل الارض كفاتا (25) أحياء وأمواتا (26) وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا (27) ويل يومئذ للمكذبين (28)
[ 161 ]
فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (ألم نجعل الارض كفاتا) أي ضامة تضم الاحياء على ظهورها والاموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وقوله عليه السلام: [ قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم ] وقد مضى في (البقرة) (1) بيانه. يقال: كفت الشئ أكفته: إذا جمعته وضممته، والكفت: الضم والجمع، وأنشد سيبويه: كرام حين تنكفت الافاعي * إلى أجحارهن من الصقيع وقال أبو عبيد: " كفاتا " أوعية. ويقال للنحي: كفت وكفيت، لانه يحوي اللبن ويضمه قال: فأنت اليوم فوق الارض حيا * وأنت غدا تضمك في كفات وخرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبان فقال: هذه كفات الاموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الاحياء. و [ الثانية ] (2) - روى عن ربيعة في النباش قال تقطع يده فقيل له: لم قلت ذلك ؟ قال: إن الله عز وجل يقول: " ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا " فالارض حرز. وقد مضى هذا في سورة " المائدة " (3). وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة، لانه مقبرة تضم الموتى، فالارض تضم الاحياء إلى منازلهم والاموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الارض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها. وقيل: هي كفات للاحياء يعني دفن ما يخرج من الانسان من الفضلات في الارض، إذ لا ضم في كون الناس عليها، والضم يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه. وقال الاخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه: الاحياء والاموات ترجع إلى الارض، أي الارض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت (1) راجع ج 2 ص 102 (2) لم يذكر في الاصول لفظ المسألة الثانية والمتبادر أن هنا موضعها كما يستفاد من أحكام القرآن لابن العربي. (3) راجع ج 6 ص 168 (*)
[ 162 ]
وهو الذي لا ينبت. وقال الفراء: انتصب، " أحياء وأمواتا " بوقوع الكفات عليه، أي ألم نجعل الارض كفات أحياء وأموات. فإذا نونت نصبت، كقوله تعالى: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما " [ البلد: 14 - 15 ]. وقيل: نصب على الحال من الارض، أي منها كذا ومنها كذا. وقال الاخفش: " كفاتا " جمع كافتة والارض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل: التكفيت: تقليب الشئ ظهرا لبطن أو بطنا لظهر. ويقال: انكفت القوم إلى منازلهم أي انقلبوا. فمعنى الكفات أنهم يتصرفون على ظهرها وينقلبون إليها ويدفنون فيها. " وجعلنا فيها " أي في الارض " رواسي شامخات " يعني الجبال، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال، ومنه يقال: شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا. قال: (وأسقيناكم ماء فراتا) أي وجعلنا لكم سقيا. والفرات: الماء العذب يشرب ويسقى منه الزرع. أي خلقنا الجبال وأنزلنا الماء الفرات. وهذه الامور أعجب من البعث. وفي بعض الحديث قال أبو هريرة: في الارض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الاردن. وفي صحيح مسلم: سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة. قوله تعالى: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون (29) انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب (30) لا ظليل ولا يغنى من اللهب (31) أنها ترمى بشرر كالقصر (32) كأنه جمالت صفر (33) ويل يومئذ للمكذبين (34) قوله تعالى: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) أي يقال للكفار سيروا " إلى ما كنتم به تكذبون " من العذاب يعني النار، فقد شاهدتموها عيانا. " انطلقوا إلى ظل " أي دخان " ذي ثلاث شعب " يعني الدخان الذي يرتفع ثم يتشعب إلى ثلاث شعب. وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب. ثم وصف الظل فقال: (لا ظليل) أي ليس كالظل الذى يقى حر الشمس (ولا يغنى من اللهب) أي لا يدفع من لهب جهنم شيئا. واللهب
[ 163 ]
ما يعلو على النار إذ اضطرمت من أحمر وأصفر وإخضر. وقيل: إن الشعب الثلاث هي الضريع والزقوم والغسلين، قاله الضحاك. وقيل: اللهب ثم الشرر ثم الدخان، لانها ثلاثة أحوال، هي غاية أوصاف النار إذا أضطرمت واشتدت. وقيل: عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب. فأما النور فيقف على رءوس المؤمنين، وأما الدخان فيقف على رءوس المنافقين، وأما اللهب الصافي فيقف على رءوس الكافرين. وقيل: هو السرادق، وهو لسان من نار يحيط بهم، ثم يتشعب منه ثلاث شعب، فتظللهم حتى يفرغ من حسابهم إلى النار. وقيل: هو الظل من يحموم، كما قال تعالى: " في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم " [ الواقعة: 42 - 44 ] على ما تقدم (1). وفي الحديث: (إن الشمس تدنو من رءوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكفان فتلحقهم (2) الشمس وتأخذ بأنفاسهم ومد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهنالك يقولون: " فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم " [ الطور: 27 ] ويقال للمكذبين: " انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون " من عذاب الله وعقابه " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ". فيكون أولياء الله جل ثناؤه في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل، إلى أن يفرغ من الحساب ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار. ثم وصف النار فقال: " إنها ترمي بشرر كالقصر " الشرر: واحدته شررة. والشرار: واحدته شرارة، وهو ما تطاير من النار في كل جهة، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجف. والقصر البناء العالي. وقراءة العامة " كالقصر " بإسكان الصاد: أي الحصون والمدائن في العظم وهو واحد القصور. قاله ابن عباس وابن مسعود. وهو في معنى الجمع على طريق الجنس. وقيل: القصر جمع قصرة ساكنة الصاد، مثل جمرة، وجمر وتمرة وتمر. والقصرة: الواحدة من جزل الحطب الغليظ. وفي البخاري عن ابن عباس أيضا: " ترمى بشرر كالقصر " قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع (3) أو أقل، فترفعه للشتاء، فنسميه القصر، وقال سعيد بن جبير والضحاك: هي (1) راجع ج 17 ص 213 (2) كذا في الاصول ولعل اللفظ تلفحهم. (3) بنصب ثلاثة ويجوز إضافة بقصر إليها أي بقدر ثلاثة أذرع. ولفظ الحديث في (النهاية قصر): (كنا نرفع الخشب للشتاء ثلاث أذرع أو أقل وتسميه القصر). (*)
[ 164 ]
أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع. وقيل: أعناقه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي " كالقصر " بفتح الصاد، أراد أعناق النخل. والقصرة العنق، جمعها قصر وقصرات. وقال قتادة: أعناق الابل. قرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع وحلقة وحلق، لحلق الحديد. وقال أبو حاتم: ولعله لغة، كما قالوا حاجة وحوج. وقيل: القصر: الجبل، فشبه الشرر بالقصر في مقاديره، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، وهي الابل السود، والعرب تسمى السود من الابل صفرا، قال (1) الشاعر: تلك خيلي منه وتلك ركابي * هن صفر أولادها كالزبيب أي هن سود. وإنما سميت السود من الابل صفرا لانه يشوب سوادها شئ من صفرة، كما قيل لبيض الظباء: الادم، لان بياضها تعلوه كدرة: والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شئ بالابل السود، لما يشوبها من صفرة. وفي شعر عمران ابن حطان الخارجي: دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم * بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى وضعف الترمذي (2) هذا القول فقال: وهذا القول محال في اللغة، أن يكون شئ يشوبه شئ قليل، فنسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب لمن قد قال هذا، وقد قال الله تعالى: " جمالات صفر " فلا نعلم شيئا من هذا في اللغة. ووجهه عندنا أن النار خلقت من النور فهي نار مضيئة، فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار، حشا ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه، فاسودت من سلطانه وازدادت حدة، وصارت أشد سوادا من النار ومن كل شئ سوادا، فإذا كان يوم القيامة وجئ بجهنم في الموقف رمت بشررها على أهل الموقف، غضبا لغضب الله، والشرر هو أسود، لانه من نار سوداء، فإذا رمت النار بشررها فإنها ترمي الاعداء به، فهن سود من سواد النار، لا يصل ذلك إلى الموحدين، لانهم (1) هو الاعشى. (2) في نسخة: اليزيدى. وهو تصحيف. (*)
[ 165 ]
في سرادق الرحمة قد أحاط بهم في الموقف، وهو الغمام الذي يأتي فيه الرب تبارك وتعالى، ولكن يعاينون ذلك الرمي، فإذا عاينوه نزع الله ذلك السلطان والغضب عنه في رأي العين منهم حتى يروها صفراء، ليعلم الموحدون أنهم في رحمة الله لا في سلطانه وغضبه. وكان ابن عباس يقول: الجمالات الصفر: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال. ذكره البخاري. وكان يقرؤها " جمالات " بضم الجيم، وكذلك قرأ مجاهد وحميد " جمالات " بضم الجيم، وهي الحبال الغلاظ، وهي قلوس السفينة أي حبالها. وواحد القلوس: قلس. وعن ابن عباس أيضا على أنها قطع النحاس. والمعروف في الحبل الغليظ جمل بتشديد الميم كما تقدم في " الاعراف " (1) " وجمالات " بضم الجيم: جمع جمالة بكسر الجيم موحدا، كأنه جمع جمل، نحو حجر وحجارة، وذكر وذكارة. وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري " جمالة " بضم الجيم موحدا وهي الشئ العظيم المجموع بعضه إلى بعض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي " جمالة " وبقية السبعة " جمالات " قال الفراء: يجوز أن تكون الجمالات جمع جمال كما يقال: رجل ورجال ورجالات. وقيل: شبهها بالجمالات لسرعة سيرها. وقيل: لمتابعة بعضها بعضا. والقصر: واحد القصور. وقصر الظلام: اختلاطه ويقال: أتيته قصرا أي عشيا، فهو مشترك، قال: (2) كأنهم قصرا مصابيح راهب * بموزن روى بالسليط ذبالها مسألة: في هذه الآية دليل على جواز ادخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره. وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته، ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله، وكل شئ محمول عليه. وقد بين ابن عباس هذا بقوله: كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندخره للشتاء وكنا نسميه القصر. وهذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم. (1) راجع ج 7 ص 207 (2) قائله كثير عزة. وموزن كمقعد: بلد بالجزيرة. (*)
[ 166 ]
قوله تعالى: هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36) ويل يومئذ للمكذبين (37) قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون) أي لا يتكلمون (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: سأله ابن الازرق عن قوله تعالى: " هذا يوم لا ينطقون " و " فلا تسمع إلا همسا " [ طه: 108 ] وقد قال تعالى: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " [ الصافات: 27 ] فقال له: إن الله عز وجل يقول: " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " [ الحج: 47 ] فإن لكل مقدار من هذه الايام لونا من هذه الالوان. وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. وقيل: إن هذا وقت جوابهم " اخسئوا فيها ولا تكلمون " [ المؤمنون: 108 ] وقد تقدم. وقال أبو عثمان: أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب. وقال الجنيد: أي عذر لمن أعر ض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه ؟ و " يوم " بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر، أي تقول الملائكة: " هذا يوم لا ينطقون " ويجوز أن يكون قوله: " انطلقوا " [ المرسلات: 29 ] من قول الملائكة، ثم يقول الله لاوليائه: هذا يوم لا ينطق الكفار. ومعنى اليوم الساعة والوقت. وروى يحيى بن سلطان. عن أبي بكر عن عاصم " هذا يوم لا ينطقون " بالنصب، ورويت عن ابن هرمز وغيره، فجاز أن يكون مبنيا لاضافته إلى الفعل وموضعه رفع. وهذا مذهب الكوفيين. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الاشارة إلى غير اليوم. وهذا مذهب البصريين، لانه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبني، والفعل ها هنا معرب. وقال الفراء في قوله تعالى: " ولا يؤذن لهم فيعتذرون " الفاء نسق أي عطف على " يؤذن " وأجيز ذلك، لان أواخر الكلام بالنون. ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال: (1) راجع ج 12 ص 153 (*)
[ 167 ]
" لا يقضى عليهم فيموتوا " [ فاطر: 36 ] بالنصب وكله صواب، ومثله: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه " [ البقرة: 245 ] بالنصب والرفع. قوله تعالى: هذا يوم الفصل جمعناكم والاولين (38) فإن كان لكم كيد فكيدون (39) ويل يومئذ للمكذبين (40) قوله تعالى: " هذا يوم الفصل " أي ويقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، فيتبين المحق من المبطل. " جمعناكم والاولين " قال ابن عباس: جمع الذين كذبوا محمدا والذين كذبوا النبيين من قبله. رواه عنه الضحاك. (فإن كان لكم كيد) أي حيلة في الخلاص من الهلاك " فكيدوني " أي فاحتالوا لانفسكم وقاووني ولن تجدوا ذلك. وقيل: أي " فإن كان لكم كيد " أي قدرتم على حرب " فكيدوني " أي حاربوني. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمدا صلى الله عليه وسلم وتحاربونني فاليوم حاربوني. وقيل: أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الآن عنها وعن الدفع عن أنفسكم. وقيل: إنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون كقول هود: " فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون " [ هود: 55 ]. قوله تعالى: إن المتقين في ظلال وعيون (41) وفواكه مما يشتهون (24) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (43) إنا كذلك نجزى المحسنين (44) ويل يومئذ للمكذبين (45) قوله تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون) أخبر بما يصير إليه المتقون غدا، والمراد بالظلال ظلال الاشجار وظلال القصور مكان الظل في الشعب الثلاث. وفي سورة يس " هم وأزواجهم في ظلال على الارائك متكئون " (1) [ يس: 56 ]. (وفواكه مما يشتهون) أي يتمنون. وقراءة العامة " ظلال ". وقرأ الاعرج والزهري وطلحة " ظلل " جمع ظلة يعني (1) راجع ج 15 ص 44. (*)
[ 168 ]
في الجنة. " كلوا واشربوا " أي يقال لهم غدا هذا بدل ما يقال للمشركين " فإن كان لكم كيد فكيدون ". ف‍ " كلوا وأشربوا " في موضع الحال من ضمير " المتقين " في الظرف الذي هو " في ظلال " أي هم مستقرون " في ظلال " مقولا لهم ذلك. (إنا كذلك نجزي المحسنين) أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا. قوله تعالى: كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون (46) ويل يومئذ للمكذبين (47) قوله تعالى: (كلوا وتمتعوا قليلا) هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين، وهو وعيد وتهديد وهو حال من " المكذبين " أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: " كلوا وتمتعوا قليلا ". (إنكم مجرمون) أي كافرون. وقيل: مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة، من الشرك والمعاصي. قوله تعالى: وإذا قيل لهم أركعوا لا يركعون (48) ويل يومئذ للمكذبين (49) فبأي حديث بعده يؤمنون (50) قوله تعالى: (وإذا قيل لهم أركعوا لا يركعون) أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: " اركعوا " أي صلوا " لا يركعون " أي لا يصلون، قاله مجاهد. وقال مقاتل: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلموا) وأمرهم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ]. يذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين " إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ". وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة: هذا في الدنيا. ابن العربي: هذه الآية
[ 169 ]
حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد أنعقد الاجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا، فمن كان لله يسجد يمكن (1) من السجود، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا. وقيل: أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة، لانها أصل الشرائع بعد التوحيد. وقيل: الامر بالايمان لانها لا تصح من غير إيمان. قوله تعالى: (فبأى حديث بعده يؤمنون) أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام، فبأي شئ يصدقون ! وكرر: " ويل يومئذ للمكذبين " لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل: ليس بتكرار، لانه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر، كأنه ذكر شيئا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد. سورة (عم) مكية وتسمى سورة (النبأ) وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: عم يتساءلون (1) عن النبإ العظيم (2) الذى هم فيه مختلفون (3) كلا سيعلمون (4) ثم كلا سيعلمون (5) قوله تعالى: (عم يتساءلون) ؟ " عم " لفظ استفهام، ولذلك سقطت منها ألف " ما "، ليتميز الخبر عن الاستفهام. وكذلك (فيم، ومم) إذا استفهمت. والمعنى عن أي شئ (1) في نسخة: تمكن من السجود. (2) كذا في أحكام القرآن لابن العربي طبعة السعادة. (*)
[ 170 ]
يسأل بعضهم بعضا. وقال الزجاج: أصل " عم " عن ما فأدغمت النون في الميم، لانها تشاركها في الغنة. والضمير في " يتساءلون " لقريش. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت " عم يتساءلون " ؟ وقيل: " عم " بمعنى: فيم يتشدد المشركون ويختصمون. قوله تعالى: (عن النبإ العظيم) أي يتساءلون " عن النبإ العظيم " فعن ليس تتعلق ب‍ " - يتساءلون " الذي في التلاوة، لانه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون " عن النبإ العظيم " كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون ؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه ب‍ " - يتساءلون " الذي في التلاوة، وإنما يتعلق بيتساءلون آخر مضمر. وحسن ذلك لتقدم يتساءلون، قاله المهدوي. وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله: " عن " مكرر إلا أنه مضمر، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبإ العظيم ؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الاولى. و " النبأ العظيم " أي الخبر الكبير. (الذى هم فيه مختلفون) أي يخالف فيه بعضهم بعضا، فيصدق واحد ويكذب آخر، فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو القرآن، دليله قوله: " قل هو نبأ عظيم. أنتم عنه معرضون " فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم الشأن. وروى سعيد عن قتادة قال: هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين: مصدق ومكذب. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وروي الضحاك عن ابن عباس قال: وذلك أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة، فأخبره الله جل ثناؤه باختلافهم، ثم هددهم فقال: " كلا سيعلمون " أي سيعلمون عاقبة القرآن، أو سيعلمون البعث: أحق هو أم باطل. و " كلا " رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن، فيوقف عليها. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو " ألا " فيبدأ بها. والاظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث، قال بعض علمائنا: والذي يدل عليه قوله عز وجل: " إن يوم الفصل كان ميقاتا " [ النبأ: 17 ] يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث. (ثم كلا سيعلمون) أي حقا ليعلمن (1) صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت. وقال الضحاك: " كلا (1) في الاصول: ليعلمون. والفعل مؤكد بالنون الثقيلة بعد القسم. (*)
[ 171 ]
سيعلمون " يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم. " ثم كلا سيعلمون " يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم. وقيل: بالعكس أيضا. وقال الحسن: هو وعيد بعد وعيد. وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر، لقوله تعالى: " يتساءلون " وقوله: " هم فيه مختلفون ". وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما. قوله تعالى: ألم نجعل الارض مهادا (6) والجبال أوتادا (7) وخلقناكم أزواجا (8) وجعلنا نومكم سباتا (9) وجعلنا الليل لباسا (10) وجعلنا النهار معاشا (11) وبنينا فوقكم سبعا شدادا (12) وجعلنا سراجا وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا (14) لنخرج به حبا ونباتا (15) وجنات ألفافا (16) قوله تعالى: (ألم نجعل الارض مهادا): دلهم على قدرته على البعث، أي قدرتنا على إيجاد هذه الامور أعظم من قدرتنا على الاعادة. والمهاد: الوطاء والفراش. وقد قال تعالى: " الذي جعل لكم الارض فراشا " [ البقرة: 22 ] وقرئ " مهدا ". ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه (والجبال أوتادا) أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها. (وخلقناكم أزواجا) أي أصنافا: ذكرا وأنثى. وقيل: ألوانا. وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير، لتختلف الاحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. (وجعلنا نومكم) " جعلنا " معناه صيرنا، ولذلك تعدت إلى مفعولين. " سباتا " المفعول الثاني، أي راحة لابدانكم، ومنه يوم السبت أي يوم الراحة، أي قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئا. وأنكر ابن الانباري هذا وقال: لا يقال للراحة سبات. وقيل: أصله التمدد، يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسبات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتا.
[ 172 ]
وقيل: أصله القطع، يقال: سبت شعره سبتا: حلقه وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال: سير سبت: أي سهل لين، قال الشاعر: (1) ومطوية الاقراب أما نهارها * فسبت وأما ليلها فذميل (وجعلنا الليل لباسا) أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم، قاله الطبري. وقال ابن جبير والسدي: أي سكنا لكم. (وجعلنا النهار معاشا) فيه إضمار، أي وقت معاش، أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما يعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك ف‍ " - معاشا " على هذا اسم زمان، ليكون الثاني هو الاول. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) أي سبع سموات محكمات، أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. (وجعلنا سراجا وهاجا) أي وقادا وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق، لانها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج، يقال: وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا. ويقال للجوهر إذا تلالا توهج. وقال ابن عباس: وهاجا منيرا متلالئا. (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) قال مجاهد وقتادة: والمعصرات الرياح. وقاله ابن عباس: كأنها تعصر السحاب. وعن ابن عباس أيضا: أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد، كالمرأة المعصر التي قددنا حيضها ولم تحض، قال أبو النجم: [ تمشي الهوينى مائلا خمارها * قد أعصرت أوقد دنا إعصارها ] (2) [ وقال آخر ]: فكان مجني دون من كنت أتقي * ثلاث شخوص كاعبان ومعصر (1) (1) هو حميد بن ثور والسبت: السير السريع. والذميل: السير اللبن. (2) هذه الزيادة عن أبي حيان دل عليها إجماع نسخ الاصل على ذكر أبي النجم. (3) البيت لعمر بن أبي ربيعة. (*)
[ 173 ]
وقال (1) آخر: وذي أشر كالاقحوان يزينه * ذهاب الصبا والمعصرات الروائح فالرياح تسمى معصرات، يقال: أعصرت الريح تعصر إعصارا: إذا أثارت العجاج، وهي الاعصار، والسحب أيضا تسمى المعصرات لانها تمطر. وقال قتادة أيضا: المعصرات السماء، النحاس: هذه الاقوال صحاح، يفال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب، فيكون المطر، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الاقوال واحدة، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات " ماء ثجاجا " وأصح الاقوال أن المعصرات، السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان (بالمعصرات) لكان الريح أولى. وفي الصحاح: والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر. وأعصر القوم أي أمطروا، ومنه قرأ بعضهم " وفيه يعصرون " والمعصر: الجارية أول ما أدركت وحاضت، يقال: قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته، قال الراجز (2): جارية بسفوان دارها * تمشي الهوينى ساقطا خمارها * قد أعصرت أو قد دنا إعصارها * والجمع: معاصر، ويقال: هي التي قاربت الحيض، لان الاعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوث الاعرابي. قال غيره: والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر، يقال أجن الزرع فهو مجن: أي صار إلى أن يجن، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. وقال المبرد: يقال سحاب معصر أي ممسك للماء، ويعتصر منه شئ بعد شئ، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه، والعصرة بالضم أيضا الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة " يوسف " (3) والحمد لله. وقال أبو زبيد (4): (1) هو البعيث كما في اللسان وروايته للبيت: وذى أشر كالافحوان تشوفه * ذهاب الصبا والمقصرات الدوالح والدوالح السحائب التي أثقلها الماء: والذهاب بكسر الذال: الامطار الضعيفة. (2) هو منصور بن مرثد الاسدي (3) راجع ج 9 ص 205. (4) قاله في رثاء ابن أخته وكان مات عطشا في طريق مكد. (*)
[ 174 ]
صاديا يستغيث غير مغاث * ولقد كان عصرة المنجود ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر، لانها تحبس في البيت، فيكون البيت لها عصرا. وفي قراءة ابن عباس وعكرمة " وأنزلنا بالمعصرات ". والذي في المصاحف " من المعصرات " قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: " من المعصرات " أي من السموات. " ماء ثجاجا " صبابا متتابعا، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: ثججت دمه فأنا أثجه ثجا، وقد ثج الدم يثج ثجوجا، وكذلك الماء، فهو لازم ومتعد. والثجاج في الآية المنصب. وقال الزجاج: أي الصباب، وهو متعد كأنه يثج: نفسه أي يصب. وقال عبيد بن الابرص (1): فثج أعلاه ثم ارتج أسفله * وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحج المبرور فقال: [ العج والثج ] فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء وذبح الهدايا. وقال ابن زيد: ثجاجا كثيرا. والمعنى واحد. قوله تعالى: " لنخرج به " أي بذلك الماء " حبا " كالحنطة والشعير وغير ذلك " ونباتا " من الاب، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. " وجنات " أي بساتين " ألفاقا " أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد له كالاوزاع والاخياف. وقيل: واحد الالفاف لف بالكسر ولف بالضم. ذكره الكسائي، قال: جنة لف وعيش مغدق * وندامى كلهم بيض زهر وعنه أيضا وأبي عبيدة: لفيف كشريف وأشراف. وقيل: هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال: جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع اللف ألفافا. الزمخشري: ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها. ويقال: شجرة لفاء وشجر لف وامرأة (1) البيت في وصف المطر ومنصاح: منشق بالماء. وفي الديوان: فالتج أعلاه. (2) قوله: والجمع لف بضم اللام راجع إلى جنة لفاء بدليل قوله: مثل حمر لانه جمع الحمراء وأما لف بالكسر والفتح فجمعه ألفاف. (*)
[ 175 ]
لفاء: أي غليظة الساق مجتمعة اللحم. وقيل: التقدير: ونخرج به جنات ألفافا، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الاشجار في البساتين تكون متقاربة (1)، فالاغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها. قوله تعالى: إن يوم الفصل كان ميقاتا (17) يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا (18) وفتحت السماء فكانت أبوابا (19) وسيرت الجبال فكانت سرابا (20) قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتا) أي وقتا ومجمعا وميعادا للاولين والآخرين، لما وعد الله من الجزاء والثواب. وسمي يوم الفصل لان الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. قوله تعالى: " يوم ينفخ في الصور " أي للبعث " فتأتون " أي إلى موضع العرض. " أفواجا " أي أمما، كل أمة مع إمامهم. وقيل: زمرا وجماعات. الواحد: فوج. ونصب يوما بدلا من اليوم الاول. وروي من حديث معاذ بن جبل قلت: يا رسول الله ! أرأيت قول الله تعالى: " يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ [ بن جبل ] (2) لقد سألت عن أمر عظيم) ثم أرسل عينيه باكيا، ثم قال: (يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين، وبدل صورهم، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون: أرجلهم أعلاهم، ووجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعابا، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير، فأهل (1) في ا، ح: متقاربة الاغصان من كل.. الخ. (2) [ بن جبل ]: ساقطة من الاصل المطبوع. (*)
[ 176 ]
السحت والحرام والمكس. وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم، فأكلة الربا، والعمي: من يجور في الحكم، والصم البكم: الذين يعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم: فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم: فالذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع النار: فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله من (1) أموالهم. والذين يلبسون الجلابيب: فأهل الكبر والفخر والخيلاء). قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت أبوابا) أي لنزول الملائكة، كما قال تعالى: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " [ الفرقان: 25 ]. وقيل: تقطعت، فكانت قطعا كالابواب فانتصاب الابواب على هذا التأويل بحذف الكاف. وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب، لانها تصير كلها أبوابا. وقيل: أبوابها طرقها. وقيل: تنحل وتتناثر، حتى تصير فيها أبواب. وقيل: إن لكل عبد بابين في السماء: بابا لعمله، وبابا لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الابواب. وفي حديث الاسراء: (ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال: جبريل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا). (وسيرت الجبال فكانت سرابا) أي لا شئ كما أن السراب كذلك: يظنه الرائي ماء وليس بماء. وقيل: " سيرت " نسفت من أصولها. وقيل: أزيلت عن مواضعها. قوله تعالى: إن جهنم كانت مرصادا (21) للطاغين مآبا (22) لابثين فيها أحقابا (23) لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا (24) إلا حميما وغساقا (25) جزاء وفاقا (26) إنهم كانوا لا يرجون حسابا (27) وكذبوا بآياتنا كذابا (28) وكل شئ أحصيناه كتابا (29) فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا (30) (1) وفي الدر المنثور: حق الله والفقراء... الخ. (*)
[ 177 ]
قوله تعالى: (إن جهنم كانت مرصادا): مفعال من الرصد والرصد: كل شئ كان أمامك. قال الحسن: إن على النار رصدا، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجئ بجواز حبس. وعن سفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قناطر. وقيل " مرصادا " ذات أرصاد على النسب، أي ترصد من يمر بها. وقال مقاتل: محبسا. وقيل: طريقا وممرا، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم. وفي الصحاح: والمرصاد: الطريق. وذكر القشيري: أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو، نحو المضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل. أي هي معدة لهم، فالمرصاد بمعنى المحل، فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماوردي عن أبي سنان (1) أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح: الراصد الشئ: الراقب له، تقول: رصده يرصده رصدا ورصدا، والترصد: الترقب. والمرصد: موضع الرصد. الاصمعي: رصدته أرصده: ترقبته، وأرصدته: أعددت له. والكسائي: مثله. قلت: فجهنم معدة مترصدة، متفعل من الرصد وهو الترقب، أي هي متطلعة لمن يأتي. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار. (للطاغين مآبا) بدل من قوله: " مرصادا " والمآب: المرجع، أي مرجعا يرجعون إليها، يقال: آب يئوب أوبة: إذا رجع. وقال قتادة: مأوى ومنزلا. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم. قوله تعالى: (لابثين فيها أحقابا) أي ماكثين في النار ما دامت الاحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين: الدهر والاحقاب الدهور. والحقبة بالكسر: السنة، والجمع حقب، قال متمم بن نويرة التميمي: وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا (1) ا، ح، ل، و: (أبى سفيان). (*)
[ 178 ]
والحقب بالضم والسكون: ثمانون سنة. وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية، [ لابثين ] (1) فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه، إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة، أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الاحقاب لان الحقب كان أبعد شئ عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبدا. وقيل: ذكر الاحقاب دون الايام، لان الاحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب، وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل: الاحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب، ولهذا قال: " لابثين فيها أحقابا. لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. إلا حميما وغساقا ". و " لابثين " اسم فاعل من لبث، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالاسكان، كالشرب. وقرأ حمزة والكسائي " لبثين " بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان، يقال: رجل لابث ولبث، مثل طمع وطامع، وفره وفاره. ويقال: هو لبث بمكان كذا: أي قد صار اللبث شأنه، فشبه بما هو خلقة في الانسان نحو حذر وفرق، لان باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشئ في الاغلب، وليس كذلك أسم الفاعل من لابث. والحقب: ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، قاله ابن عباس. وروي ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو هريرة: والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضا: الحقب: أربعون سنة. السدي: سبعون سنة. وقيل: إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعا. بشير بن كعب: ثلثمائة سنة. الحسن: الاحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضا، (1) [ لابثين ]: ساقط من ا، ز، ل، ط. (*)
[ 179 ]
عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة ] ذكره المهدوي. والاول الماوردي. وقال قطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا، الحقب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحدكم على أنه يخرج من النار ]. ذكره الثعلبي. القرظي: الاحقاب: ثلاثة وأربعون، حقبا كل حقب سبعون خريفا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة. قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا، أي لابثين فيها أزمانا ودهورا، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع. وقال ابن كيسان: معنى " لابثين فيها أحقابا " لا غاية لها انتهاء، فكأنه قال أبدا. وقال ابن زيد ومقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى: " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا " يعني أن العدد قد انقطع، والخلود قد حصل. قلت: وهذا بعيد، لانه خبر، وقد قال تعالى: " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " [ الاعراف: 40 ] على ما تقدم (1). هذا في حق الكفار، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم. وقيل: المعنى " لابثين فيها أحقابا " أي في الارض، إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في " لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا " لجهنم. وقيل: واحد الاحقاب حقب وحقبة، قال: فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها * فأنت بما أحدثته بالمجرب وقال الكميت: (1) * مر لها بعد حقبة حقب * (1) راجع ج 7 ص 206 (2) صدر البيت: * ولا حمول غدت ولا دمن * (*)
[ 180 ]
قوله تعالى: " لا يذوقون فيها " أي في الاحقاب " بردا ولا شرابا " البرد: النوم في قول أبي عبيدة وغيره، قال الشاعر (1): ولو شئت حرمت النساء سواكم * وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي، وأنشدوا قول الكندي: بردت مراشفها علي فصدني * عنها وعن تقبيلها البرد يعني النوم. والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني: أذهب البرد النوم. قلت: وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم. فقال: [ لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها ] فكذلك النار، وقد قال تعالى: " لا يقضى عليهم فيموتوا " [ فاطر: 36 ] وقال ابن عباس: البرد: برد الشراب. وعنه أيضا: البرد النوم: والشراب الماء. وقال الزجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نوم. فجعل البرد برد كل شئ له راحة، وهذا برد ينفعهم، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به، فلا ينفعهم، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به. وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بردا: أي روحا وراحة، قال الشاعر: (2) فلا الظل من برد الضحى تستطيعه * ولا الفئ أوقات (3) العشي تذوق " لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا " جملة في موضع الحال من الطاغين، أو نعت للاحقاب، فالاحقاب ظرف زمان، والعامل فيه " لابثين " أو " لبثين " على تعدية فعل. (إلا حميما وغساقا) استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. والحميم: الماء الحار، قاله أبو عبيدة. وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يسقونه. قال النحاس: أصل الحميم: الماء الحار، ومنه اشتق الحمام، ومنه الحمى، ومنه " وظل من (1) هو العرجي: عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان. ونسب إلى العرج وهو موضع قبل الطائف كان ينزل به. والنقاخ كغراب: الماء الطيب. (2) قائله حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة. (3) كذا في الاصل. وفي كتب اللغة مادة (فيأ) ولا الفئ من برد العشى... الخ. (*)
[ 181 ]
يحموم ": إنما يراد به النهاية في الحر. والغساق: صديد أهل النار وقيحهم. وقيل الزمهرير. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين، وقد مضى في " ص " (1) القول فيه. (جزاء وفاقا) أي موافقا لاعمالهم. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة. و " جزاء " نصب على المصدر، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، قاله الفراء والاخفش. وقال الفراء أيضا: هو جمع الوفق، والوفق واللفق واحد. وقال مقاتل. وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوءهم. " إنهم كانوا لا يرجون " أي لا يخافون " حسابا " أي محاسبة على أعمالهم. وقيل: معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج: أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. (وكذبوا بآتنا كذابا) أي بما جاءت به الانبياء. وقيل: بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة " كذابا " بتشديد الذال، وكسر الكاف، على كذب، أي كذبوا تكذيبا كبيرا. قال الفراء: هي لغة يمانية فسيحة، يقولون: كذبت [ به ] (2) كذابا، وخرقت القميص خراقا، وكل فعل في وزن (فعل) فمصدره فعال مشدد في لغتهم، وأنشد بعض الكلابيين: لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي * وعن حوج قضاؤها من شفائتا وقرأ علي رضي الله عنه " كذابا " بالتخفيف وهو مصدر أيضا. وقال أبو علي: التخفيف والتشديد جميعا: مصدر المكاذبة، كقول الاعشى: فصدقتها وكذبتها (3) * والمرء ينفعه كذابه أبو الفتح: جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا. الزمخشري: " كذابا " بالتخفيف مصدر كذب، بدليل قوله: فصدقتها وكذبتها * والمرء ينفعه كذابه (1) راجع ج 15 ص 221 فما بعدها. (2) الزيادة من معاني القرآن للفراء. (3) قال الشهاب: وضمير صدقتها وكذبتها للنفس. والمراد: أنه يصدق نفسه: تارة بأن يقول إن أمانيها محققة وتكذيبها بخلافه أو على العكس. (*)
[ 182 ]
وهو مثل قوله: " أنبتكم من الارض نباتا " [ نوح: 17 ] يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا. أو تنصبه ب‍ " - كذبوا " لانه بتضمن معنى كذبوا، لان كل مكذب بالحق كاذب، لانهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مكاذبة. وقرأ ابن عمر " كذابا " بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب، قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشري. وقد يكون الكذاب: بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك حسان وبخال، فيجعله صفة لمصدر " كذبوا " أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه. وفي الصحاح: وقوله تعالى: " وكذبوا بآياتنا كذابا " وهو أحد مصادر المشدد، لان مصدره قد يجئ على (تفعيل) مثل التكليم وعلى (فعال) كذاب وعلى (تفعلة) مثل توصية، وعلى (مفعل)، " ومزقناهم كل ممزق ". (وكل شئ أحصيناه كتابا) " كل " نصب بإضمار فعل يدل عليه " أحصيناه " أي وأحصينا كل شئ أحصيناه. وقرأ أبو السمال " وكل شئ " بالرفع على الابتداء. " كتابا " نصب على المصدر، لان معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتابا. ثم قيل: أراد به العلم، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان. وقيل: أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة. وقيل: أراد ما كتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة، دليله قوله تعالى: " وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين " [ الانفطار: 10 - 11 ]. (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) قال أبو برزة: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن ؟ فقال: قوله تعالى: " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا " أي " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " [ النساء: 56 ] و " كلما خبت زدناهم سعيرا " [ الاسراء: 97 ]. قولله تعالى: إن للمتقين مفازا (31) حدائق وأعنابا (32) وكواعب أترابا (33) وكأسا دهاقا (34) لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا (35) جزاء من ربك عطاء حسابا (36)
[ 183 ]
قوله تعالى: (إن للمتقين مفازا) ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله " مفازا " موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار. ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلا بالخلاص منها. (حدائق وأعنابا) هذا تفسير الفوز. وقيل: " إن للمتقين مفازا " إن للمتقين حدائق، جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه، يقال أحدق به: أي أحاط. والاعناب: جمع عنب، أي كروم أعناب، فحذف. (وكواعب أترابا) كواعب: جمع كاعب وهي الناهد، يقال: كعبت الجارية تكعب كعوبا، وكعبت تكعب تكعيبا، ونهدت تنهد نهودا. وقال الضحاك: ككواعب العذارى، ومنه قول قيس بن عاصم: وكم من حصان قد حوينا كريمة * ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر والاتراب: الاقران في السن. وقد مضى في سورة " الواقعة " (1) الواحد: ترب. (وكأسا دهاقا) قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس: مترعة مملوءة، يقال: أدهقت الكأس: أي ملاتها، وكأس دهاق أي ممتلئة، قال: ألا فاسقني صرفا سقاني الساقي * من مائها بكأسك الدهاق وقال خداش بن زهير: أتانا عامر يبغي قرانا * فأترعنا له كأسا دهاقا وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا: متتابعة، يتبع بعضها بعضا، ومنه ادهقت الحجارة أدهاقا، وهو شدة تلازبها ودخول بعضها في بعض، فالمتتابع كالمتداخل. وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم: صافية، قال الشاعر: لانت إلى الفؤاد أحب قربا * من الصادي إلى كأس دهاق وهو جمع دهق (2)، وهو خشبتان [ يغمز ] (3) بهما [ الساق ]. والمراد بالكأس الخمر، فالتقدير: خمرا ذات دهاق، أي عصرت وصفيت، قاله القشيري. وفي الصحاح: وأدهقت الماء: أي أفرغته (1) راجع ج 17 ص 211 (2) في (اللسان: دهق): والدهق (بالتحريك): ضرب من العذاب. وهو بالفارسية: (أشكنجة). ودهقت الشئ: كسرته وقطعته. اه‍. (3) التصحيح من كتب اللغة وفي الاصول: خشبتان يعصر بهما. (*)
[ 184 ]
إفراغا شديدا: قال أبو عمرو: والدهق - بالتحريك: ضرب من العذاب. وهو بالفارسية أشكنجه. المبرد: والمدهوق: المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه. ابن الاعرابي: دهقت الشئ كسرته وقطعته، وكذلك دهدقته: وأنشد لحجر بن خالد: ندهدق بضع اللحم للباع والندى * وبعضهم تغلي بذم مناقعه (1) ودهمقته بزيادة الميم: مثله. وقال الاصمعي: الدهمقة: لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شئ لين، ومنه حديث عمر: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " [ الاحقاف: 20 ]. " لا يسمعون فيها " أي في الجنة " لغوا ولا كذابا " اللغو: الباطل، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح، ومنه الحديث: [ إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والامام يخطب فقد لغوت ] وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو، بخلاف أهل الدنيا. " ولا كذابا ": تقدم، أي لا يكذب بعضهم بعضا، ولا يسمعون كذبا. وقرأ الكسائي " كذابا " بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة. وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنما خففها ها هنا لانها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له، وشدد قوله: " وكذبوا بآياتنا كذابا " لان كذبوا يقيد المصدر بالكذاب. " جزاء من ربك " نصب على المصدر. لان المعنى جزاهم بما تقدم ذكره، جزاءه وكذلك " عطاء " لان معنى أعطاهم وجزاهم واحد. أي أعطاهم عطاء. " حسابا " أي كثيرا، قاله قتادة، يقال: أحسبت فلانا: أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي. قال (2): ونقفي وليد الحي إن كان جائعا * ونحسبه إن كان ليس بجائع (1) يروى هكذا في اللسان مادة (دهق). وفي الاصول (مراجله). والمناقع: القدور الصغار واحدها: متقع ومنقعة. (2) قائلته امرأة من بني قشير. ونقفيه: أي نؤثره بالقفية وهي ما يؤثر به الضيف والصبي. (*)
[ 185 ]
وقال القتبي: ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي. وقال الزجاج: " حسابا " أي ما يكفيهم. وقاله الاخفش. يقال: أحسبني كذا: أي كفاني. وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. مجاهد: حسابا لما عملوا، فالحساب بمعنى العد. أي بقدر ما وجب له في وعد الرب، فإنه وعد للحسنة عشرا، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار، كما قال تعالى: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " [ الزمر: 10 ]. وقرأ أبو هاشم " عطاء حسابا " بفتح الحاء، وتشديد السين، على وزن فعال أي كفافا، قال الاصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل بالتشديد: إذا أكرمته، وأنشد قول الشاعر: * إذا أتاه ضيفه يحسبه * وقرأ ابن عباس. " حسانا " (1) بالنون. قوله تعالى: رب السموات والارض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا (37) يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا (38) ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا (39) إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا (40) قوله تعالى: (رب السموات والارض وما بينهما الرحمن) قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب، والمفضل عن عاصم: " رب " بالرفع على الاستئناف، " الرحمن " خبره. أو بمعنى: هو رب السموات، ويكون " الرحمن " مبتدأ ثانيا. وقرأ ابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض، نعتا لقوله: " جزاء من ربك " أي جزاء من ربك رب السموات الرحمن. وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي: " رب السموات " (1) هكذا رسم الشوكاني الكلمة في تفسيره فتح القدير (5 / 258) ولم يضبطها. (*)
[ 186 ]
خفضا على النعت، " الرحمن " (1) رفعا على الابتداء، أي هو الرحمن. واختاره أبو عبيد وقال: هذا أعدلها، خفض " رب " لقربه من قوله: " من ربك " فيكون نعتا له، ورفع " الرحمن " لبعده منه، على الاستئناف، وخبره " لا يملكون منه خطابا " أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي: " لا يملكون منه خطابا " بالشفاعة إلا بإذنه. وقيل: الخطاب: الكلام، أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه، دليله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " [ هود: 105 ]. وقيل: أراد الكفار " لا يملكون منه خطابا "، فأما المؤمنون فيشفعون. قلت: بعد أن يؤذن لهم، لقوله تعالى: " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وقوله تعالى: " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " [ طه: 109 ]. قوله تعالى: (يوم تقوم الروح والملائكة صفا) " يوم " نصب على الظرف، أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح. واختلف في الروح على أقوال ثمانية: الاول - أنه ملك من الملائكة. قال ابن عباس: ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم. ونحو منه عن ابن مسعود، قال: الروح ملك أعظم من السموات السبع، ومن الارضين السبع، ومن الجبال. وهو حيال السماء الرابعة (2)، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا، فيجئ يوم القيامة وحده صفا، وسائر الملائكة صفا. الثاني - أنه جبريل عليه السلام. قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس: إن عن يمين العرش نهرا من نور، مثل السموات السبع، والارضين السبع، والبحار السبع، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل، فيزداد نورا على نوره، وجمالا على جماله، وعظما على عظمه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة (1) هذه القراءة ذكرها القرطبي وابن عطية ولم يذكرا قراءة عاصم بالجر فيهما وهي رواية حفص وقد ذكرها أبو حيان والالوسى فتكون القراءات عن عاصم على هذا ثلاثا رفع فيهما وجر فيهما وجر (رب) ورفع (الرحمن). (2) في نسخة: السماء السابعة. (*)
[ 187 ]
تقع من ريشه سبعين ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة. وقال وهب: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه، يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا أنت، وهو قوله تعالى: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن " في الكلام " وقال صوابا " يعني قول: " لا إله إلا أنت ". والثالث - روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى، ليسوا ملائكة، لهم رءوس وأيد وأرجل، يأكلون الطعام ]. ثم قرأ " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " فإن هؤلاء جند، وهؤلاء جند. وهذا قول أبي صالح ومجاهد. وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم، كالناس وليسوا بناس. الرابع - أنهم أشراف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان. الخامس - أنهم حفظة على الملائكة، قاله ابن أبي نجيح. السادس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة. فالمعنى ذوو الروح. وقال العوفي والقرظي: هذا مما كان يكتمه ابن عباس، قال: الروح: خلق من خلق الله على صور بني آدم، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح. السابع: أرواح بني آدم تقوم صفا، فتقوم الملائكة صفا، وذلك بين النفختين، قبل أن ترد إلى الاجساد، قاله عطية. الثامن - أنه القرآن، قاله زيد ابن أسلم، وقرأ " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ". و " صفا ": مصدر أي يقومون صفوفا. والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع، كالعدل والصوم. ويقال ليوم العيد: يوم الصف. وقال في موضع آخر: " وجاء ربك والملك صفا صفا " [ الفجر: 22 ] هذا يدل على الصفوف، وهذا حين العرض والحساب. قال معناه القتبي وغيره. وقيل: يقوم الروح صفا، والملائكة صفا، فهم صفان. وقيل: يقوم الكل صفا واحدا. " لا يتكلمون " أي لا يشفعون " إلا من أذن له الرحمن " في الشفاعة " وقال صوابا " يعني حقا، قاله الضحاك ومجاهد. وقال أبو صالح: لا إله إلا الله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يشفعون لمن قال لا إله إلا الله.
[ 188 ]
وأصل الصواب. السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة، كالجواب من أجاب يجيب إجابة. وقيل: " لا يتكلمون " يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا، لا يتكلمون هيبة وإجلالا " إلا من أذن له الرحمن " في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه. وقال الحسن: إن الروح يقول يوم القيامة: لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، ولا النار إلا بالعمل. وهو معنى قوله تعالى: " وقال صوابا ". قوله تعالى: " ذلك اليوم الحق " أي الكائن الواقع " فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا " أي مرجعا بالعمل الصالح، كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله عز وجل، وإذا عمل شرا عده منه. وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: [ والخير كله بيديك، والشر ليس إليك ]. وقال قتادة: " مآبا ": سبيلا. قوله تعالى: (إنا انذرناكم عذابا قريبا): يخاطب كفار قريش ومشركي العرب، لانهم قالوا: لا نبعث. والعذاب عذاب الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، وقد قال تعالى: " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " [ النازعات: 46 ] قال معناه الكلبي وغيره. وقال قتادة: عقوبة الدنيا، لانها أقرب العذابين. قال مقاتل: هي قتل قريش ببدر. والاظهر أنه عذاب الآخرة، وهو الموت والقيامة، لان من مات فقد قامت قيامته، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان، ولهذا قال تعالى: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " [ بين وقت ذلك العذاب، أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، أي يراه ] (1) وقيل: ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى. والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن، أي يجد لنفسه عملا، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا، فيتمنى أن يكون ترابا. ولما قال: " ويقول الكافر " علم أنه أراد بالمرء المؤمن. وقيل: المرء ها هنا: أبي خلف وعقبة بن أبي معيط. (ويقول الكافر) أبو جهل. وقيل: هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب. وقال مقاتل: نزلت قوله: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " في أبي سلمة بن عبد الاسد المخزومي: " ويقول الكافر يا ليتني كنت (1) ما بين القوسين: ساقط من ز، ط، ل. (*)
[ 189 ]
ترابا ": في أخيه الاسود بن عبد الاسد. وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر: ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة، والرحمة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه يكون بمكان آدم، ف‍ " يقول: يا ليتني كنت ترابا " قال: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر. وقيل: أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم. وعن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت الارض مد الاديم، وحشر الدواب والبهائم والوحوش، ثم يوضع القصاص بين البهائم، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها: كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر: " يا ليتني كنت ترابا ". ونحوه عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وقد ذكرناه في كتاب " التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة "، مجودا والحمد لله. ذكر أبو جعفر النحاس: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال حدثنا سلمة بن شبيب، قال حدثنا عبد الرازق، قال حدثنا معمر، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري، عن يزيد بن الاصم، عن أبي هريرة، قال: إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا، فعند ذلك " يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا ". وقال قوم: " يا ليتني كنت ترابا ": أي لم أبعث، كما قال: " يا ليتني لم أوت كتابيه ". وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، قيل لسائر الامم ولمؤمني الجن: عودوا ترابا، فيعودون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم " ياليتني كنت ترابا ". وقال ليث بن أبي سليم: مؤمنو الجن يعودون ترابا. وقال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد: مؤمنو الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها. وهذا أصح، وقد مضى في سورة " الرحمن " (1) بيان هذا، وأنهم مكلفون: يثابون ويعاقبون، فهم كبني آدم، والله أعلم بالصواب. (1) راجع ج 17 ص 169 (*)
[ 190 ]
سورة النازعات مكية بإجماع. وهي خمس أو ست وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا (2) والسابحات سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) يوم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة (7) قلوب يومئذ واجفة (8) أبصارها خاشعة (9) يقولون أءنا لمردودون في الحافرة (10) أءذا كنا عظاما نخرة (11) قالوا تلك إذا كرة خاسرة (12) فإنما هي زجرة واحدة (13) فإذا هم بالساهرة (14) قوله تعالى (والنازعات غرقا): أقسم سبحانه بهذه الاشياء التي ذكرها، على أن القيامة حق. و " النازعات ": الملائكة التي تنزع أرواح الكفار، قاله علي رضي الله عنه، وكذا قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد: هي الملائكة تنزع نفوس بين آدم. قال ابن مسعود: يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الاظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود ينزع من الصوف الرطب، يغرقها، أي يرجعها في أجسادهم، ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار. وقاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم، ثم غرقت، ثم حرقت، ثم قذف بها في النار. وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق. وقال السدي: و " النازعات " هي النفوس حين تغرق في الصدور. مجاهد: هي الموت ينزع النفوس. الحسن وقتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، أي تذهب، من قولهم: نزع إليه أي ذهب، أو من قولهم: نزعت الخيل أي جرت. " غرقا "
[ 191 ]
أي إنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر. وقاله أبو عبيدة وابن كيسان والاخفش. وقيل: النازعات القسي تنزع بالسهام، قاله عطاء وعكرمة. و " غرقا " بمعنى إغراقا، وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المد، حتى ينتهي إلى النصل. يقال: أغرق في القوس أي استوفى مدها، وذلك بأن تنتهي إلى العقب الذي عند النصل الملفوف عليه. والاستغراق الاستيعاب. ويقال لقشرة البيضة الداخلة: " غرقئ ". وقيل: هم الغزاة الرماة. قلت: هو والذي قبله سواء، لانه إذا أقسم بالقسي فالمراد النازعون بها تعظيما لها، وهو مثل قوله تعالى: " والعاديات ضبحا " [ العاديات: 1 ] والله أعلم. وأراد بالاغراق: المبالغة في النزع وهو سائر في جميع وجوه تأويلها. وقيل: هي الوحش تنزع (1) من الكلا وتنفر. حكاه يحيى ابن سلام. ومعنى " غرقا " أي إبعادا في النزع. قوله تعالى: (والناشطات نشطا) قال ابن عباس: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه. وحكى هذا القول الفراء ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا أنشطت وكأنما أنشط من عقال. وربطها نشطها والرابط الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته، فأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط. وعن ابن عباس أيضا: هي أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج، وذلك أنه ما من مؤمن [ يحضره الموت ] (2) إلا وتعرض عليه الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما أعد الله له من أزواجه وأهله من الحور العين، فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشطه أن تخرج فتأتيهم. وعنه أيضا قال: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب، الذي يعقب به السهم. والعقب بالتحريك: العصب الذي تعمل منه الاوتار، الواحدة عقبة، تقول منه: عقب السهم والقدح والقوس عقبا: إذا لوى شيئا منه عليه. والنشط: الجذب بسرعة، ومنه الانشوطة: عقدة يسهل أنحلالها إذا جذبت مثل عقدة التكة. وقال أبو زيد: نشطت (1) في نسخ الاصل: تنزع من الكلا. وفي البحر: تنزع إلى... الخ. (2) الزيادة من تفسير الثعلبي. (*)
[ 192 ]
الحبل أنشطه نشطا: عقدته بأنشوطة، وأنشطته أي حللته، وأنشطت الحبل أي مددته حتى ينحل. وقال الفراء: أنشط العقال أي حل، ونشط: أي ربط الحبل في يديه. وقال الليث: أنشطته بأنشوطة وأنشوطتين أي أوثقته، وأنشطت العقال: أي مددت أنشوطته فانحلت. قال: ويقال نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى، وعليه يصح قول ابن عباس المذكور أولا. وعنه أيضا: الناشطات الملائكة لنشاطها، تذهب وتجئ بأمر الله حيثما كان. وعنه أيضا وعن علي رضي الله عنهما: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار، ما بين الجلد والاظفار، حتى تخرجها من أجوافهم نشطا بالكرب والغم، كما تنشط الصوف من سفود الحديد، وهي من النشط بمعنى الجذب، يقال: نشطت الدلو أنشطها بالكسر، وأنشطها بالضم: أي نزعتها. قال الاصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر، تخرج الدلو منها بجذبة واحدة. وبئر نشوط، قال: وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى تنشط كثيرا. وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الانسان. السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين. وقيل: النازعات: أيدي الغزاة أو أنفسهم، تنزع القسي بإغراق السهام، وهي التي تنشط الاوهاق (1). عكرمة وعطاء: هي الاوهاق تنشط السهام. وعن عطاء أيضا وقتادة والحسن والاخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. وكذا في الصحاح. " والناشطات نشطا " يمني النجوم من برج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها، قال هميان بن قحافة: أمست همومي تنشط المناشطا * الشام بي طورا وطورا واسطا أبو عبيدة وعطاء أيضا: الناشطات: هي الوحش حين تنشط من بلد إلى بلد، كما أن الهموم تنشط الانسان من بلد إلى بلد، وأنشد قول هميان: * أمست همومي... * البيت وقيل: " والنازعات " للكافرين " والناشطات " للمؤمنين، فالملائكة يجذبون روح المؤمن برفق، والنزع جذب بشدة، والنشط جذب برفق. وقيل: هما جميعا للكفار والآيتان بعدهما للمؤمنين عند فراق الدنيا. (1) جمع وهق بحركتين وقد يسكن: الحبل تشد به الابل والخيل لئلا تند ويقال في طرفه أنشوطة. (*)
[ 193 ]
قوله تعالى: (والسابحات سبحا) قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. الكلبي: هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين، كالذي يسبح في الماء، فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع، يسلونها سلا رفيقا بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لامر الله، كما يقال للفرس الجواد سابح: إذا أسرع في جريه. وعن مجاهد أيضا: الملائكة تسبح في نزولها وصعودها. وعنه أيضا: السابحات: الموت يسبح في أنفس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة، قال عنترة: والخيل تعلم حين تس‍ * - بح في حياض الموت سبحا وقال امرؤ القيس: مسح إذا ما السابحات على الونى * أثرن غبارا بالكديد المركل (1) قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر، قال الله تعالى: " كل في فلك يسبحون ". عطاء: هي السفن تسبح في الماء. ابن عباس: السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج. قوله تعالى: (فالسابقات سبقا) قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الانبياء عليهم السلام. وقاله مسروق ومجاهد. وعن مجاهد أيضا وأبي روق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل: تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مجاهد أيضا: الموت يسبق الانسان. مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور، شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته. ونحو عن الربيع، قال: هي النفوس تسبق بالخروج عند الموت. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل: يحتمل أن تكون (1) مسح: بصب الجرى. الوني: الفتور. الكديد: الموضع الغليظ. المركل: الذى يركل بالارجل. ومعنى البيت: إن الخيل السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس جريا سهلا كما يسح السحاب المطر. (*)
[ 194 ]
السابقات ما تسبق من الارواح قبل الاجساد إلى جنة أو نار، قاله الماوردي. وقال الجرجاني: ذكر " فالسابقات " بالفاء لانها مشتقة من التي قبلها، أي واللائي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب، لم يكن القيام سببا للذهاب. قوله تعالى: (فالمدبرات أمرا) قال القشيري: أجمعوا على أن المراد الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة، قاله الجمهور. والقول الثاني هي الكواكب السبعة. حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الامر وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها. الثاني تدبيرها ما قضاه الله تعالى فيها من تقلب الاحوال. وحكى هذا القول أيضا القشيري في تفسيره، وأن الله تعالى علق كثيرا من تدبير أم العالم بحركات النجوم، فأضيف التدبير إليها وإن كان من الله، كما يسمى الشئ باسم ما يجاوره. وعلى أن المراد بالمدبرات الملائكة، فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وهو إلى الله جل ثناؤه، ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك، كما قال عز وجل: " نزل به الروح الامين " [ الشعراء: 193 ]. وكما قال تعالى: " فإنه نزله على قلبك " [ البقرة: 97 ]. يعني جبريل نزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل هو الذي أنزله. وروى عطاء عن ابن عباس: " فالمدبرات أمرا ": الملائكة وكلت بتدبير أحوال الارض في الرياح والامطار وغير ذلك. قال عبد الرحمن بن ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة، جبريل وميكائيل وملك الموت واسمه عزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الانفس في البر والبحر، وأما إسرافيل فهو ينزل بالامر عليهم، وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل، وبينه وبين العرش مسيرة خمسمائة عام. وقيل: أي وكلوا بأمور عرفهم الله بها. ومن أول السورة إلى هنا قسم أقسم الله به، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك إلا به عز وجل. وجواب القسم مضمر، كأنه قال: والنازعات وكذا وكذا لتبعثن ولتحاسبن. أضمر لمعرفة السامعين
[ 195 ]
بالمعنى، قاله الفراء. ويدل عليه قول تعالى: " أئذا كنا عظاما نخرة " ألست ترى أنه كالجواب لقولهم: " أئذا كنا عظاما نخرة " نبعث ؟ فاكتفى بقوله: " أئذا كنا عظاما نخرة " ؟ وقال قوم: وقع القسم على قوله: " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " [ النازعات: 26 ] وهذا اختيار الترمذي ابن علي. أي فيما قصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى وفرعون " لعبرة لمن يخشى " ولكن وقع القسم على ما في السورة مذكورا ظاهرا بارزا أحرى وأقمن من أن يؤتي بشئ ليس بمذكور فيما قال ابن الانباري: وهذا قبيح، لان الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل: جواب القسم هل أتاك حديث موسى " لان المعنى قد أتاك. وقيل: الجواب " يوم ترجف الراجفة " على تقدير ليوم ترجف، فحذف اللام. وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره يوم ترجف الراجفة وتتبعها الرادفة والنازعات غرقا. وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. ابن الانباري: وهذا خطأ، لان الفاء لا يفتح بها الكلام، والاول الوجه. وقيل: إنما وقع القسم على أن قلوب أهل النار تجف، وأبصارهم تخشع، فانتصاب " يوم ترجف الراجفة " على هذا المعنى، ولكن لم يقع عليه. قال الزجاج: أي قلوب واجفة يوم ترجف، وقيل: انتصب بإضمار اذكر. و " ترجف " أي تضطرب. والراجفة: أي المضطربة كذا قال عبد الرحمن بن زيد، قال: هي الارض، والرادفة الساعة. مجاهد: الراجفة الزلزلة (تتبعها الرادفة) الصيحة. وعنه أيضا وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصيحتان. أي النفختان. أما الاولى فتميت كل شئ بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحيي كل شئ بإذن الله تعالى. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينهما أربعون سنة) وقال مجاهد أيضا: الرادفة حين تنشق السماء وتحمل الارض والجبال فتدك دكة واحدة، وذلك بعد الزلزلة. وقيل: الراجفة تحرك الارض، والرادفة زلزلة أخرى تفني الارضين ". فالله أعلم. وقد مضى في آخر " النمل " (1) ما فيه كفاية في النفخ في الصور. وأصل الرجفة الحركة، قال الله تعالى: " يوم ترجف الارض " وليست الرجفة هاهنا من (1) راجع ج 13 ص 239 فما بعدها. (*)
[ 196 ]
الحركة فقط، بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا: أي أظهر الصوت والحركة، ومنه سميت الاراجيف، لاضطراب الاصوات بها، وإفاضة الناس فيها، قال: أبا لاراجيف يا ابن اللوم توعدني * وفي الاراجيف خلت اللؤم والخورا (1) وعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال: [ يأيها الناس أذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه ]. (قلوب يومئذ واجفة) أي خائفة وجلة، قاله ابن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السدي: زائلة عن أماكنها. نظيره " إذ القلوب لدى الحناجر " [ غافر: 18 ]. وقال المؤرخ: قلقة مستوفزة، مرتكضة (2) غير ساكنة. وقال المبرد: مضطربة. والمعنى متقارب، والمراد قلوب الكفار، يقال وجف القلب يجف وجيفا إذا خفق، كما يقال: وجب يجب وجيبا، ومنه وجيف الفرس والناقة في العدو، والايجاف حمل الدابة على السير السريع، قال: بدلن بعد جرة صريفا * وبعد طول النفس الوجيفا و " قلوب " رفع بالابتداء و " واجفة " صفتها. و " أبصارها خاشعة " خبرها، مثل قوله " ولعبد مؤمن خير من مشرك " [ البقرة: 221 ]. ومعنى " خاشعة " منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره: " خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة " [ القلم: 43 ]. والمعنى أبصار أصحابها، فحذف المضاف. (يقولون ائنا لمردودون في الحافرة) أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث، إذا قيل لهم إنكم تبعثون، قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الامر، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت ؟ وهو كقولهم: " ائنا لمبعوثون خلقا جديدا " يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته، أي رجع من حيث جاء، قاله قتادة. وأنشد ابن الاعرابي: (1) قائله منازل بن ربيعة المنقرى في هجو رؤبة والعجاج: والرواية المشهورة للبيت كما في كتب النحو كشرح التصريح وغيره هي: أبا الاراجيز يابن اللؤم توعدني * وفي الاراجيز - خلت - اللؤم والخور والاراجيز جمع أرجوزة وهي القصائد الجارية على بحر الرجز: وفي الاراجيز خبر مقدم واللؤم مبتدأ مؤخر وتوسط (خلت) بين المبتدإ والخبر أبطل عملها وهو موضع الشاهد في البيت عند النحاة. وقيل لا يمتنع النصب على أن يقدر مبتدأ أي (أما). (2) مرتكضة: مضطربة. (*)
[ 197 ]
أحافرة على صلع وشيب * معاذ الله من سفه وعار يقول: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت ! ويقال: رجع على حافرته: أي الطريق الذي جاء منه. وقولهم في المثل: النقد عند الحافرة. قال يعقوب: أي عند أول كلمة. ويقال: التقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أول ما التقوا. وقيل: الحافرة العاجلة، أي أئنا لمردودون إلى الدنيا فنصبر أحياء كما كنا ؟ قال الشاعر: آليت لا أنساكم فاعلموا * حتى يرد الناس في الحافره وقيل: الحافرة: الارض التي تحفر فيها قبورهم، فهي بمعنى المحفورة، كقوله تعالى: " ماء دافق " و " عيشة راضية ". والمعنى أئنا لمردودون في قبورنا أحياء. قاله مجاهد والخليل والفراء. وقيل: سميت الارض الحافرة، لانها مستقر الحوافر، كما سميت القدم أرضا، لانها على الارض. والمعنى أئنا لراجعون بعد الموت إلى الارض فنمشي على أقدامنا. وقال ابن زيد: الحافرة: النار، وقرأ " تلك إذا كرة خاسرة ". وقال مقاتل وزيد بن أسلم: هي أسم من أسماء النار. وقال ابن عباس: الحافرة في كلام العرب: الدنيا. وقرأ أبو حيوة: " الحفرة " بغير ألف، مقصور من الحافر. وقيل: الحفرة: الارض المنتنة بأجساد موتاها، من قولهم: حفرت أسنانه، إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. يقال: في أسنانه حفر، وقد حفرت تحفر حفرا، مثل كسر يكسر كسرا إذا فسدت أصولها. وبنو أسد يقولون: في أسنانه حفر بالتحريك. وقد حفرت مثال تعب تعبا، وهي أردا اللغتين قاله في الصحاح. (أئذا كنا عظاما نخرة) أي بالية متفتتة. يقال: نخر العظم بالكسر: أي بلي وتفتت، يقال: عظام نخرة. وكذا قرأ الجمهور من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة، وأختاره أبو عبيد، لان الآثار التي تذكر فيها العظام، نظرنا فيها فرأينا نخرة لا ناخرة. وقرأ أبو عمرو وابنه عبد الله وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وحمزة والكسائي وأبو بكر " ناخرة " بألف، وأختاره الفراء والطبري وأبو معاذ النحوي، لو فاق رءوس الآي. وفي الصحاح: والناخر من العظام
[ 198 ]
التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نخير. ويقال: ما بها ناخر، أي ما بها أحد. حكاه يعقوب عن الباهلي. وقال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد، أي لم تبل ولا بد أن تنخر. وقيل: الناخر المجوفة. وقيل: هما لغتان بمعنى، كذلك تقول العرب: نخر الشئ فهو نخر وناخر، كقولهم: طمع فهو طمع وطامع، وحذر وحاذر، وبخل وباخل، رفره وفاره، قال الشاعر: يظل بها الشيخ الذي كان بادنا * يدب على عوج له نخرات عوج: يعني قوائم. وفي بعض التفسير: ناخرة بالالف: بالية، ونخرة: تنخر فيها الريح أي تمر فيها، على عكس الاول، قال (1): * من بعد ما صرت عظاما ناخره * وقال بعضهم: الناخرة: التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها. والنخرة: التي فسدت كلها. قال مجاهد: نخرة أي مرفوتة، كما قال تعالى: " عظاما ورفاتا " ونخرة الريح بالضم: شدة هبوبها. والنخرة أيضا والنخرة مثال الهمزة: مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير، يقال: هشم نخرته: أي أنفه. (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) أي رجعة خائبة، كاذبة باطلة، أي ليست كائبه، قاله الحسن وغيره. الربيع بن أنس: " خاسرة " على من كذب بها. وقيل: أي هي كرة خسران. والمعنى أهلها خاسرون، كما يقال: تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شئ أخسر من كرة تقتضي المصير إلى النار. وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحشرن بالنار، وإنما قالوا هذا لانهم أو عدوا بالنار. والكر: الرجوع، يقال: كره، وكر بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. والكرة: المرة، والجمع الكرات. (فإنما هي زجرة واحدة) ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال: " فإنما هي زجرة واحدة ". وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نفخة واحدة " فإذا هم " أي الخلائق أجمعون " بالساهرة " أي على وجه الارض، بعد ما كانوا في بطنها. قال الفراء: سميت بهذا الاسم، لان فيها نوم (1) قائله الهمداني يوم القادسية. (*)
[ 199 ]
الحيوان وسهرهم. والعرب تسمى الفلاة ووجه الارض ساهرة، بمعنى ذات سهو، لانه يسهر فيها خوفا منها، فوصفها بصفة ما فيها، واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية ابن أبي الصلت: وفيها لحم ساهرة وبحر * وما فاهوا به لهم مقيم وقال آخر يوم ذي قار لفرسه: أقدم محاج إنها الاساورة * ولا يهولنك رجل (1) نادره فإنما قصرك ترب الساهره * ثم تعود بعدها في الحافره * من بعد ما صرت عظاما ناخره * وفي الصحاح. ويقال: الساهور: ظل الساهرة، وهي وجه الارض. ومنه قوله تعالى: " فإذا هم بالساهرة "، قال أبو كبير الهذلي: يرتدن ساهرة كان جميمها * وعميمها أسداف ليل مظلم (2) ويقال: الساهور: كالغلاف (3) للقمر يدخل فيه إذا كسف، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت (4): * قمر وساهور يسل ويغمد * وأنشدوا لآخر في وصف امرأة: كأنها عرق سام عند ضاربه * أو شقة خرجت من جوف ساهور يريد شقة القمر. وقيل: الساهرة: هي الارض البيضاء. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: أرض من فضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل: أرض جددها (1) هذه الابيات للهمداني يوم القادسية وقد تقدم ذكرها. محاج: اسم فرس الشاعر. وفي اللسان مادة (نخر) أقدم أخانهم. ولا تهولنك رءوس. وفي السمين: بادره. (2) الجميم بالجيم: النبت الذي قد نبت وارتفع قليلا ولم يتم كل التمام والعميم المكتمل التام من النبت والاسداف: جمع غدف بالتحريك وهو ظلمة الليل. (3) هذا كما تزعم العرب في الجاهلية. (4) وصدر البيت: * لا نقص فيه غير أن خبيئة * (5) كذا في نسخ الاصل التي بأيدينا. والذى في اللسان مادة (سهر): أو فلقة. (*)
[ 200 ]
الله يوم القيامة. وقيل: الساهرة أسم الارض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدل الارض غير الارض. وقال الثوري: الساهرة: أرض الشام. وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الارض بعينه، بالشام، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان (1) يمده الله كيف يشاء. قتادة: هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم. وإنما قيل لها ساهرة، لانهم لا ينامون عليها حينئذ. وقيل: الساهرة: بمعنى الصحراء على شفير جهنم، أي يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ. ويقال: الساهرة: الارض البيضاء المستوية سميت بذلك، لان السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة، قال الاشعث بن قيس: وساهرة يضحى السراب مجللا * لاقطارها قد جئتها متلثما أو لان سالكها لا ينام خوف الهلكة. قوله تعالى: هل أتاك حديث موسى (15) إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى (16) اذهب إلى فرعون إنه طغى (17) فقل هل لك إلى أن تزكى (18) وأهديك إلى ربك فتخشى (19) فأراه الآية الكبرى (20) فكذب وعصى (21) ثم أدبر يسعى (22) فحشر فنادى (23) فقال أنا ربكم الاعلى (24) فأخذه الله نكال الآخرة والاولى (25) إن في ذلك لعبرة لمن يخشى (26) قوله تعالى: (هل أتاك حديث موسى. إذا ناداه ربه بالوادي المقدس طوى) أي قد جاءك وبلغك " حديث موسى " وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي إن فرعون (1) ذكره الطبري أيضا. (*)
[ 201 ]
كان أقوى من كفار عصرك، ثم أخذناه، وكذلك هؤلاء. وقيل: " هل " بمعنى " ما " أي ما أتاك، ولكن أخبرت به، فإن فيه عبرة لمن يخشى. وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية (1). وفي " طوى " ثلاث قراءات: قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون " طوى " منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين، لانه معدول مثل عمر وقثم، قال الفراء: طوى: واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول عن طاو، كما عدل عمر عن عامر. وقرأ الحسن وعكرمة " طوى " بكسر الطاء، وروى عن أبي عمرو، على معنى المقدس مرة بعد مرة، قاله الزجاج، وأنشد: أعاذل إن اللوم في غير كنهه * علي طوى من غيك المتردد (2) أي هو لوم مكرر علي. وقيل: ضم الطاء وكسرها لغتان، وقد مضى في " طه " (3) القول فيه. " اذهب إلى فرعون " أي ناداه ربه، فحذف، لان النداء قول، فكأنه، قال له ربه " أذهب إلى فرعون ". " إنه طغى " أي جاوز القدر في العصيان. وروى عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد قال: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال: من أهل أصبهان، يقال له ذو ظفر، طول أربعة أشبار. (فقل هل لك إلى أن تزكى) أي تسلم فتطهر من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. (وأهديك إلى ربك) أي وأرشدك إلى طاعة ربك (فتخشى) أي تخافه وتتقيه. وقرأ نافع وبن كثير " تزكى " بتشديد الزاي، على إدغام التاء في الزاي لان أصلها تتزكى. الباقون: " تزكى " بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو: " تزكى " بالتشديد (4) [ تتصدق ب‍ ] - الصدقة، و " تزكي " يكون زكيا مؤمنا. وإنما دعا فرعون ليكون زكيا مؤمنا. قال: فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جويرية: (1) راجع ج 7 ص 256 فما بعدها وج 11 ص 200 فما بعدها وج 13 ص 250 فما بعدها. (2) قائله عدى بن زيد. (3) راجع ج 11 ص 175. (4) الزيادة من الطبري وهي لازمة. (*)
[ 202 ]
لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له: " أذهب إلى فرعون " إلى قوله " وأهديك إلى ربك فتخشى " ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل ؟ فأوحى الله إليه أن امض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء أثنى عشر ألف ملك يطلبون علم القدر، فلم يبلغوه ولا يدركوه. (فأراه الآية الكبرى) أي العلامة العظمى وهي المعجزة. وقيل: العصا. وقيل: اليد البيضاء تبرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس: الآية الكبرى قال العصا. الحسن: يده وعصاه. وقيل: فلق البحر. وقيل: الآية: إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. " فكذب " أي كذب نبي الله موسى " وعصى " أي عصى ربه عز وجل. (ثم أدبر يسعى) أي ولى مدبرا معرضا عن الايمان " يسعى " أي يعمل بالفساد في الارض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. وقيل: " أدبر يسعى " هاربا من الحية. " فحشر " أي جمع أصحابه ليمنعوه منها. وقيل: جمع جنوده للقتال والمحاربة، والسحرة للمعارضة. وقيل: حشر الناس للحضور. " فنادى " أي قال لهم بصوت عال (أنا ربكم الاعلى) أي لا رب لكم فوقي. ويروى: إن إبليس تصور لفرعون في صورة الانس بمصر في الحمام، فأنكره فرعون، فقال له إبليس: ويحك ! أما تعرفني ؟ قال: لا. قال: وكيف وأنت خلقتني ؟ ألست القائل أنا ربكم الاعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وقال عطاء: كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل: أراد القادة والسادة، هو ربهم، وأولئك هم أرباب السفلة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير فنادى فحشر لان النداء يكون قبل الحشر. (فاخذه الله نكال الآخرة والاولى) أي نكال قوله: " ما علمت لكم من إله غيري " [ القصص: 38 ] وقوله بعد: " أنا ربكم الاعلى " [ النازعات: 24 ] قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة، قاله ابن عباس. والمعنى: أمهله في الاولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه. وقيل: نكال الاولى: هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذاب في الآخرة. وقاله قتادة وغيره. وقال مجاهد: هو عذاب أول عمره وآخره. وقيل: الآخرة قوله " أنا ربكم الاعلى " والاولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضا.
[ 203 ]
و " نكال " منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج، لان معنى أخذه الله: نكل الله به، فأخرج [ نكال ] (1) مكان مصدر من معناه، لا من لفظه. وقيل: نصب بنزع حرف الصفة، أي فأخذه الله بنكال الآخرة، فلما نزع الخافض نصب. وقال الفراء: أي أخذه الله أخذا نكالا، أي للنكال. والنكال: اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال: نكل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد. وقد مضى في سورة " المزمل " (2) والحمد لله. " إن في ذلك لعبرة " أي اعتبارا وعظة. " لمن يخشى " أي يخاف الله عز وجل. قوله تعالى: أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والارض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31) والجبال أرساها (32) متاعا لكم ولانعامكم (33) قوله تعالى: " أأنتم أشد خلقا ": يريد أهل مكة، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم " أم السماء " فمن قدر على السماء قدر على الاعادة، كقوله تعالى: " لخلق السموات والارض أكبر من خلق الناس " [ غافر: 57 ] وقول تعالى: " أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم " [ يس: 81 ]، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال: " بناها " أي رفعها فوقكم كالبناء. " رفع سمكها " أي أعلى سقفها في الهواء، يقال: سمكت الشئ أي رفعته في الهواء، وسمك الشئ سموكا: أرتفع. وقال الفراء: كل شئ حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك. وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال، والمسموكات (3): السموات. ويقال: اسمك في الديم، أي اصعد في الدرجة. (1) زيادة تقتضيها العبارة. (2) راجع ص 45 من هذا الجزء. (3) الذي في اللغة المسمكات كمكرمات وورد كذلك في الخبر. وصحح التاج أن المسموكات لغة لا لحن وبها ورد الخبر عن طريق آخر. (*)
[ 204 ]
قوله تعالى: " فسواها " أي خلقها خلقا مستويا، لا تفاوت فيه، ولا شقوق، ولا فطور. (وأغطش ليلها) أي جعله مظلما، غطش الليل وأغطشه الله، كقولك: ظلم [ الليل ] (1) وأظلمه الله. ويقال أيضا: أغطش الليل بنفسه. وأغطشه الله كما يقال: أظلم الليل، وأظلمه الله. والغطش والغبش: الظلمة. ورجل أغطش: أي أعمى، أو شبيه به، وقد غطش، والمرأة غطشاء، ويقال: ليلة غطشاء، وليل أغطش وفلاة غطشى لا يهتدى لها، قال الاعشى: ويهماء بالليل غطشى الفلا * ة يؤنسني صوت فيادها (2) وقال الاعشى أيضا: عقرت لهم موهنا ناقتي * وغامرهم مدلهم غطش يعني بغامرهم ليلهم، لانه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لان الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء، ويقال: نجوم الليل، لان ظهورها بالليل. (وأخرج ضحاها) أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل، لان فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. (والارض بعد ذلك دحاها) أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الارض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول " البقرة " (3) عند قوله تعالى: " هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا، ثم استوى إلى السماء " [ البقرة: 29 ] مستوفى. والعرب تقول: دحوت الشئ أدحوه دحوا: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أدحي، لانه مبسوط على وجه الارض. وقال أمية بن أبي الصلت: وبث الخلق فيها إذ دحاها * فهم قطانها حتى التنادي (4) وأنشد المبرد: دحاها فلما رآها استوت * على الماء أرسى عليها الجبالا (1) هذه الزيادة من اللسان عن الفراء قال: ظلم الليل بالكسر وأظلم بمعنى. (2) الفياد بفتح الفاء وضمها: ذكر البوم. (3) راجع ج 1 ص 255. (4) مضى هذا البيت في ج 15 ص 310 بلفظ: سكانها. والمعنى واحد. (*)
[ 205 ]
وقيل: دحاها سواها، ومنه قول زيد بن عمرو: وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الارض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها * بأيد وأرسى عليها الجبالا وعن ابن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دحيت الارض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن " بعد " في موضع " مع " كأنه قال: والارض مع ذلك دحاها، كما قال تعالى: " عتل بعد ذلك زنيم " [ القلم: 13 ]. ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سئ الخلق، قال الشاعر: فقلت لها عني إليك فإنني * حرام وإني بعد ذاك لبيب أي مع ذلك لبيب. وقيل: بعد: بمعنى قبل، كقوله تعالى: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " [ الانبياء: 105 ] أي من قبل الفرقان، قال أبو خراش الهذلي: حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا * خراش وبعض الشر أهون من بعض وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقيل: " دحاها ": حرثها وشقها. قاله ابن زيد. وقيل: دحاها مهدها للاقوات. والمعنى متقارب. وقراءة العامة " والارض " بالنصب، أي دحا الارض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون " والارض " بالرفع، على الابتداء، لرجوع الهاء. ويقال: دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا، كقولهم: طغى يطغى ويطغو، وطغى يطغى، ومحا يمحو ويمحى، ولحى العود يلحى ويلحو، فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت. " أخرج منها " أي أخرج من الارض " ماءها " أي العيون المتفجرة بالماء. " ومرعاها " أي النبات الذي يرعى. وقال القتبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الارض قوتا ومتاعا للانام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح، لان النار من العيدان والملح من الماء. (والجبال أرساها) قراءة العامة " والجبال " بالنصب، أي وأرسى الجبال " أرساها " يعني: أثبتها فيها أوتادا لها. وقرأ
[ 206 ]
الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم " والجبال " بالرفع على الابتداء. ويقال: هلا أدخل حرف العطف على " أخرج " فيقال: إنه حال بإضمار قد، كقوله تعالى: " حصرت صدورهم " [ النساء: 90 ]. " متاعا لكم " أي منفعة لكم. " ولانعامكم " من الابل والبقر والغنم. و " متاعا " نصب على المصدر من غير اللفظ، لان معنى " أخرج منها ماءها ومرعاها " أمتع بذلك. وقيل: نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا. قوله تعالى: فإذا جاءت الطامة الكبرى (34) يوم يتذكر الانسان ما سعى (35) وبرزت الجحيم لمن يرى (36) قوله تعالى: (فإذا جاءت الطامة الكبرى) أي الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية، التي يكون معها البعث، قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك: أنها القيامة، سميت بذلك لانها تطم على كل شئ، فتعم ما سواها لعظم هولها، أي تقلبه. وفي أمثالهم: * جرى الوادي فطم على القرى (1) * المبرد: الطامة عند العرب الداهيه التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملا النهر كله. غيره: هي مأخوذة من طم السيل الركية (2) أي دفنها، والطم: الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد: وقال سفيان: هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت، قال: إن بعض الحب يعمي ويصم * وكذاك البغض أدهى وأطم (1) القرى مجرى الماء في الروضة والجمع أقرية وأقراء وقريان ويضرب المثل عند تجاوز الشئ حده. (2) الركية: البئر أي جرى سيل الوادي. (*)
[ 207 ]
(يوم يتذكر الانسان ما سعى) أي ما عمل من خير أو شر. " وبرزت الجحيم " أي ظهرت. " لمن يرى " قال ابن عباس: يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر. وقيل: المراد الكافر لانه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب " فإذا جاءت الطامة " محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار: " وبرزت الجحيم ". عكرمة: وغيره: " لمن ترى " بالتاء، أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام، والمراد به الناس. قوله تعالى: فأما من طغى (37) وآثرة الحيوة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41) قوله تعالى: (فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا) أي تجاوز الحد في العصيان. قيل: نزلت في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة. وروى عن يحيى بن أبي كثير قال: من أتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى. وروى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الامة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون (1). ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال " لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته (2)، ثم لا أبالي في أيها هلك ". (فإن الجحيم هي المأوى) أي مأواه. والالف واللام بدل من الهاء. (وأما من خاف مقام ربه) أي حذر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب (1) في ط: ما يعملون. (2) كذا في ا، ح، ز، ل. وفي بعض الاصول: وصنيعته. (*)
[ 208 ]
فيقلع. نظيره: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " [ الرحمن: 46 ]. (ونهى النفس عن الهوى) أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة، لقوله عز وجل: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى " قال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. (فإن الجنة هي المأوى) أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير، فروى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الانصار فقالوا: من أنت ؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. " وأما من خاف مقام ربه " فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطا في دمه قال: [ عند الله أحتسبك ] وقال لاصحابه: [ لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب ]. وقيل: إن مصعب ابن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي: نزلت هذه الآية " وأما من خاف مقام ربه " في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله، فقال له غلامه: لم لا تسألني اليوم ؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت: " وأما من خاف مقام ربه ". وقال الكلبي: نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.
[ 209 ]
قوله تعالى: يسئلونك عن الساعة أيان مرساها (42) فيم أنت من ذكراها (43) إلى ربك منتهاها (44) إنما أنت منذر من يخشاها (45) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها (46) قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) قال ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى: " فيم أنت من ذكراها " ؟ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة، حتى نزلت هذه الآية " إلى ربك منتهاها ". ومعنى " مرساها " أي قيامها. قال الفراء: رسوها قيامها (1) كرسو السفينة. وقال أبو عبيدة: أي منتهاها، ومرسي السفينة حيث، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في " الاعراف " (2) بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ لا تقوم الساعة إلا بغضبة يغضبها ربك ]. (فيم أنت من ذكراها) أي في أي شئ أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها ؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت: " فيم أنت من ذكراها ؟ إلى ربك منتهاها " أي منتهى علمها، فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شئ من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له، أي فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر. (إلى ربك منتهاها) أي منتهى علمها، فلا يوجد عند غيره علم الساعة، وهو كقوله تعالى: " قل إنما علمها عند ربي " [ الاعراف: 187 ] وقوله تعالى: " إن الله عنده علم الساعة " [ لقمان: 34 ]. (إنما أنت منذر من يخشاها): (1) قال الفراء: كقولك قام العدل وقام الحق أي ظهر وثبت. (2) راجع ج 8 ص 335 فما بعدها. (*)
[ 210 ]
أي مخوف، وخص الانذار بمن يخشى، لانهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف، وهو كقوله تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب " [ يس: 11 ]. وقراءة العامة " منذر " بالاضافة غير منون، طلب التخفيف، وإلا فأصله التنوين، لانه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه، كقوله تعالى: " بالغ أمره " [ الطلاق: 3 ]، و " بالغ أمره " و " موهن كيد الكافرين " [ الانفال: 18 ] و " موهن كيد الكافرين " والتنوين هو الاصل، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والاعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو " منذر " منونا، وتكون في موضع نصب، والمعنى نصب، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي: يجوز أن تكون الاضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس، لانه قد فعل الانذار، الآية رد على من قال: أحوال الآخرة غير محسوسة، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. " كأنهم يوم يرونها " يعني الكفار يرون الساعة " لم يلبثوا " أي في دنياهم، " إلا عشية " أي قدر عشية " أو ضحاها " أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: " لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " [ الاحقاف: 35 ]. وروى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل: " لم يلبثوا " في قبورهم " إلا عشية أو ضحاها "، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. وقال الفراء: يقول القائل: وهل للعشية ضحا ؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار، قال: وأنشدني بعض بني عقيل: نحن صبحنا عامرا في دارها * جردا تعادي طرفي نهارها * عشية الهلال أو سرارها * أراد: عشية الهلال، أو سرار العشية، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.
[ 211 ]
سورة عبس مكية في قول الجميع وهي إحدى وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: عبس وتولى (1) أن جاءه الاعمى (2) وما يدريك لعله يزكى (3) أو يذكر فتنفعه الذكرى (4) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " عبس " أي كلح بوجهه، يقال: عبس وبسر. وقد تقدم. " وتولى " أي أعرض بوجهه " أن جاءه " " أن " في موضع نصب لانه مفعول له، المعنى لان جاءه الاعمى، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عبد الله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك: إن هشام بن عروة حدثه عن عروة، أنه قال: نزلت " عبس وتولى " في ابن أم مكتوم، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني (1)، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: [ يا فلان، هل ترى بما أقول بأسا ] ؟ فيقول: [ لا والدمي ما أرى بما تقول بأسا ] (3)، فأنزل الله: " عبس وتولى ". وفي الترمذي مسندا قال: حدثنا سعيد ابن يحيى بن سعيد الاموي، حدثني أبي، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: نزلت " عبس وتولى " في ابن أم مكتوم الاعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه (1) الرواية هنا وفي ابن العربي يا محمد والمشهور في التفسير يارسول الله علمني مما علمك الله. وفي رواية: يارسول الله أرشدني: كما سيأتي للمصنف. (2) الدمى: جمع دمية وهي الصورة يريديها الاصنام. (3) ما بين المربعين ساقط من ب. (*)
[ 212 ]
وسلم فجعل، يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: [ أترى بما أقول بأسا ] فيقول: لا، ففي هذا نزلت، قال: هذا حديث غريب. الثانية - الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبد الله ابن أم مكتوم. ويقال: عمرو بن أم مكتوم، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وعمرو هذا: هو ابن قيس بن زائدة بن الاصم، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين، يقال كان الوليد بن المغيرة. ابن العربي: قاله المالكية من علمائنا، وهو يكني أبا عبد شمس. وقال قتادة: هو أمية بن خلص وعنه: أبي بن خلف. وقال مجاهد: كانوا ثلاثة عتبة وشيبة أبنا ربيعة وأبي بن خلف. وقال عطاء عتبة بن ربيعة. سفيان الثوري: كان النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس. الزمخشري: كان عنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الاسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. قال ابن العربي: أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفردا، ولا مع أحد. الثالثة - أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعة كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العميان والسفلة
[ 213 ]
والعبيد، فعبس وأعرض عنه، فنزلت الآية. قال الثوري: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه وبقول: [ مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ]. ويقول: [ هل من حاجه ] ؟ وأستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء. الرابعة - قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الادب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة، أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الامر الآخر، وهو الاقبال على الاغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " [ الانفال: 67 ] الآية على ما تقدم (1). وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الايمان، كما قال: [ إني لاصل الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه ]. الخامسة - قال ابن زيد: إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه، لانه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم: " عبس وتولى " بلفظ الاخبار عن الغائب، تعظيما (2) له ولم يقل: عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: " وما يدريك " أي يعلمك " لعله " يعني ابن أم مكتوم " يزكى " بما أستدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في " لعله " للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالاسلام أو يذكر، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق (1) راجع ج 8 ص 45 فما بعدها. (2) في أ، ح: تعليما. (*)
[ 214 ]
وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرأ الحسن " آأن (1) جاءه الاعمى " بالمد على الاستفهام ف‍ " - أن " متعلقة بفعل محذوف دل عليه " عبس وتولى " التقدير: آأن جاءه أعرض عنه وتولى ؟ فيوقف على هذه القراءة على " وتولى "، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر، وهي قراءة العامة. السادسة - نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الانعام: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " [ الانعام: 52 ] وكذلك قوله في سورة الكهف: " ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " [ الكهف: 28 ] وما كان مثله، والله أعلم. " أو يذكر " يتعظ بما تقول " فتنفعه الذكرى " أي العظة. وقراءة العامة " فتنفعه " بضم العين، عطفا على " يزكى ". وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى " فتنفعه " نصبا. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش، على جواب لعل، لانه غير موجب، كقوله تعالى: " لعلي أبلغ الاسباب " [ غافر: 36 ] ثم قال: " فاطلع " [ الصافات: 55 ]. قوله تعالى: أما من استغنى (5) فأنت له تصدى (6) وما عليك ألا يزكى (7) وأما من جاءك يسعى (8) وهو يخشى (9) فأنت عنه تلهى (10) قوله تعالى: (أما من استغنى) أي كان ذا ثروة وغنى (فأنت له تصدى) أي تعرض له، وتصغى لكلامه. والتصدي: الاصغاء، قال الراعي: تصدى لوضاح كأن جبينه * سراج الدجي يحنى إليه الاساور (2) وأصله تتصدد من الصد، وهو ما استقبلك، وصار قبالتك، يقال: داري صدد داره أي قبالتها، نصب على الظرف. وقيل: من الصدي وهو العطش. أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء، والمصاداة: المعارضة. وقراءة العامة " تصدى " بالتخفيف، على طرح التاء (1) قال الزمخشري وقرئ (آأن) بهمزتين وألف بينهما. (2) الاسوار (بكسر الهمزة وضمها) قائد الفرس وقيل: هو الجيد الرمى بالسهام وقيل: هو الجيد الثبات على ظهر الفرس والجمع أساورة وأساور. (*)
[ 215 ]
الثانية تخفيفا. وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الادغام. (وما عليك ألا يزكى) أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن، إنما أنت رسول، ما عليك إلا البلاغ. قوله تعالى: (وأما من جاءك يسعى) يطلب العلم لله (وهو يخشى) أي يخاف الله. (فأنت عنه تلهى) أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره. وأصله تتلهى، يقال: لهيت عن الشئ ألهى: أي تشاغلت عنه. والتلهي: التغافل. ولهيت عنه وتليت: بمعنى. قوله تعالى: كلا إنها تذكرة (11) فمن شاء ذكره (12) في صحف مكرمة (13) مرفوعة مطهرة (14) بأيدى سفرة (15) كرام بررة (16) قوله تعالى: (كلا إنها تذكرة) " كلا " كلمة ردع وزجر، أي ما الامر كما تفعل مع الفريقين، أي لا تفعل بعدها مثلها: من إقبالك على الغني، وإعراضك عن المؤمن الفقير. والذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم كان ترك الاولى كما تقدم، ولو حمل على صغيرة لم يبعد، قاله القشيري. والوقف على " كلا " على هذا الوجه: جائز. ويجوز أن تقف على " تلهى " ثم تبتدئ " كلا " على معنى حقا. " إنها " أي السورة أو آيات القرآن " تذكرة " أي موعظة وتبصرة للخلق (فمن شاء ذكره) أي اتعظ بالقرآن. قال الجرجاني: " إنها " أي القرآن، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة، أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز، كما قال تعالى في موضع آخر: " كلا إنه تذكرة ". ويدل على أنه أراد القرآن قوله: " فمن شاء ذكره " أي كان حافظا له غير ناس، وذكر الضمير، لان التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وروى الضحاك عن ابن عباس في قول تعالى: " فمن شاء ذكره " قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه. ثم أخبر عن جلالته فقال: " في صحف " جمع صحيفة " مكرمة " أي عند الله، قاله السدي. الطبري: " مكرمة " في الدين لما فيها من العلم والحكم. وقيل: " مكرمة " لانها نزل بها كرام الحفظة، أو لانها نازلة من اللوح المحفوظ. وقيل: " مكرمة "
[ 216 ]
لانها نزلت من كريم، لان كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. وقيل: المراد كتب الانبياء، دليله: " إن هذا لفي الصحف الاولى. صحف إبراهيم وموسى " [ الاعلى: 18 - 19 ]. " مرفوعة " رفيعة القدر عند الله. وقيل: مرفوعة عنده تبارك وتعالى. وقيل: مرفوعة في السماء السابعة، قاله يحيى بن سلام. الطبري: مرفوعة الذكر والقدر. وقيل: مرفوعة عن الشبه والتناقض. " مطهرة " قال الحسن: من كل دنس. وقيل: مصانة (1) عن أن ينالها الكفار. وهو معنى قول السدي. وعن الحسن أيضا: مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقيل: أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرءونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة. (بأيدى سفرة) أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها " بأيدي سفرة " قال: كتبة. وقاله مجاهد أيضا. وهم الملائكة الكرام الكاتبون لاعمال العباد في الاسفار، التي هي الكتب، واحدهم: سافر، كقولك: كاتب وكتبة. ويقال: سفرت أي كتبت، والكتاب: هو السفر، وجمعه أسفار. قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر، بكسر السين، وللكاتب سافر، لان معناه أنه يبين الشئ ويوضحه. يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء، وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. قال: ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة: أصلحت بينهم. وقاله الفراء، وأنشد: فما أدع السفارة بين قومي * ولا أمشي بغش إن مشيت والسفير: الرسول والمصلح بين القوم والجمع: سفراء، مثل فقيه وفقهاء. ويقال للوراقين سفراء، بلغة العبرانية. وقال قتادة: السفرة هنا: هم القراء، لانهم يقرءون الاسفار. وعنه أيضا كقول ابن عباس. وقال وهب بن منبه: " بأيدي سفرة. كرام بررة " هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة، كراما بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الاطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. وروي (1) كذا في الاصول وهو مخالف لما في كتب اللغة. الصواب: (مصونة). انظر تاج العروس. (*)
[ 217 ]
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " [ مثل ] (1) الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران " متفق عليه، واللفظ للبخاري. " كرام " أي كرام على ربهم، قاله الكلبي. الحسن: كرام عن المعاصي، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وروى الضحاك عن ابن عباس في " كرام " قال: يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته، أو تبرز لغائطه. وقيل: أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. " بررة " جمع بار مثل كافر وكفرة، وساحر وسحرة، وفاجر وفجرة، يقال: بر وبار إذا كان أهلا للصدق، ومنه بر فلان في يمينة: أي صدق، وفلان يبر خالقه ويتبرره: أي يطيعه، فمعنى " بررة " مطيعون لله، صادقون لله في أعمالهم. وقد مضى في سورة " الواقعة " قولة تعالى: " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون " (2) [ الواقعة: 77 - 79 ] أنهم الكرام البررة في هذه السورة. قوله تعالى: قتل الانسان ما أكفره (17) من أي شئ خلقه (18) من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) ثم أماته فأقبره (21) ثم إذا شاء أنشره (22) كلا لما يقض ما أمره (23) قوله تعالى: (قتل الانسان ما أكفره) ؟ " قتل " أي لعن. وقيل: عذب. والانسان الكافر. روى الاعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن " قتل الانسان " فإنما عني به الكافر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد آمن، فلما نزلت " والنجم " آرتد، وقال: أمنت بالقرآن كله إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه " قتل الانسان " أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) الزيادة من صحيح البخاري (2) راجع ج 17 ص 522 (*)
[ 218 ]
فقال: [ اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة ] (1) فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرفقة، وجعلوا المتاع حوله، فبينما هم على ذلك أقبل الاسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئا قط إلا كان. وروى أبو صالح عن ابن عباس " ما أكفره ": أي شئ أكفره ؟ وقيل: " ما " تعجب، وعادة العرب إذا تعجبوا من شئ قالوا: قاتله الله ما أحسنه ! وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الانسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا، قال ابن جريج: أي ما أشد كفره ! وقيل: " ما " استفهام أي أي شئ دعاه إلى الكفر، فهو استفهام توبيخ. و " ما " تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أي، فتكون استفهاما. (من أي شئ خلقه) أي من أي شئ خلق الله هذا الكافر فيتكبر ؟ أي أعجبوا لخلقه. " من نطفة " أي من ماء يسير مهين جماد " خلقه " فلم يغلط في نفسه ؟ ! قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. " فقدره " في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس: أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسنا ودميما، وقصيرا وطويلا، وشقيا وسعيدا. وقيل: " فقدره " أي فسواه كما قال: " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ". وقال: " الذي خلقك فسواك ". وقيل: " فقدره " أطوارا أي من حال إلى حال، نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. (ثم السبيل يسره) قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل: يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد: يسره لطريق الخير والشر، أي بين له ذلك. دليله: " إنا هديناه السبيل " و " هديناه النجدين ". وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال: سبيل (1) كذا لفظ الحديث في الاصول ورواية أبي حيان له: (اللهم ابعث عليه كلبك يأكله " ثم قال: فلما انتهى إلى الغاضرة... الخ. (*)
[ 219 ]
الشقاء والسعادة. ابن زيد: سبيل الاسلام. وقال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه، دليله قوله عليه السلام: [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ]. (ثم أماته فأقبره) أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما، ولم يجعله مما يلقي على وجه الارض تأكله الطير والعوافي (1)، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: " أقبره ": جعل له قبرا، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة: ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبد الرحمن، قالت بنو تميم ودخلوا عليه: أقبرنا صالحا، فقال: دونكموه. وقال: " أقبره " ولم يقل قبره، لان القابر هو الدافن بيده، قال الاعشى: لو أسندت ميتا إلى نحرها * عاش ولم ينقل إلى قابر يقال: قبرت الميت: إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيره بحيث يقبر، وجعل له قبرا، تقول العرب: بترت ذنب البعير، وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله، وطردت فلانا، والله أطرده، أي صيره طريدا. (ثم إذا شاء أنشره) أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة " أنشره " بالالف. وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة " شاء نشره " بغير ألف، لغتان فصيحتان بمعنى، يقال: أنشر الله الميت ونشره، قال الاعشى: حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر قوله تعالى: (كلا لما يقض ما أمره) قال مجاهد وقتادة: " لما يقض ": لا يقضى أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول: " لما يقض ما امره " لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل: " كلا " ردع وزجر، أي ليس الامر: كما يقول الكافر، فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال: " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " [ فصلت: 50 ] ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال: كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي. وقال الحسن: أي حقا لم يقض: أي لم يعمل بما أمر به. و " ما " في قوله: " لما " عماد للكلام، كقول تعالى: " فبما رحمة من الله " [ آل عمران: 159 ] وقوله: " عما قليل ليصبحن نادمين " [ المؤمنون: 40 ]. (1) العوافي: طلاب الرزق من الانس والدواب والطير والمراد هنا: الوحوش والبهائم. (*)
[ 220 ]
وقال الامام ابن فورك: أي: كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الايمان، بل أمره بما لم يقض له. ابن الانباري: الوقف على " كلا " قبيح، والوقف على " أمره " و " نشره " جيد، ف‍ " - كلا " على هذا بمعنى حقا. قوله تعالى: فلينظر الانسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا (25) ثم شققنا الارض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا (31) متاعا لكم ولانعامكم (32) قوله تعالى: (فلينظر الانسان إلى طعامه) لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الانسان ذكر ما يسر من رزقه، أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر، أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد. وروى عن الحسن ومجاهد قالا: " فلينظر الانسان إلى طعامه " أي إلى مدخله ومخرجه. وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: [ يا ضحاك ما طعامك ] قلت: يا رسول الله ! اللحم واللبن، قال: [ ثم يصير إلى ماذا ] قلت إلى ما قد علمته، قال: [ فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا ]. وقال أبي بن كعب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه (1) وملحه فانظر إلى ما يصير ]. وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول انظر ما بخلت به إلى ما صار ؟ (1) قزحه: أي تبله من القزح وهو التابل الذي يطرح في القدر كالكمون والكزبرة ونحو ذلك. والمعنى: إن المطعم وإن تكلف الانسان التنوق في صنعته وتطييبه فإنه عائد إلى حال يكره ويستقذر فكذلك الدنيا المحروص على عمارتها ونظم أسبابها راجعة إلى خراب وإدبار) (النهاية). (*)
[ 221 ]
قوله تعالى: (أنا صببنا الماء صبا) قراءة العامة " إناء " بالكسر، على الاستئناف، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب " أنا " بفتح الهمزة، ف‍ " - أنا " في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه، كأنه قال: " فلينظر الانسان إلى طعامه " إلى " أنا صببنا " فلا يحسن الوقف على " طعامه " من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت " أنا " بإضمار هو أنا صببنا، لانها في حال رفعها مترجمة عن الطعام. وقيل: المعنى: لانا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان. وقرأ الحسين (1) بن علي " أني " ممال، بمعنى كيف ؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على " طعامه " تام. ويقال: معنى " أنى " أين، إلا أن فيها كناية عن الوجوه، وتأويلها: من أي وجه صببنا الماء، قال الكميت: أنى ومن أين آبك (2) الطرب * من حيث لا صبوة ولا ريب " صببنا الماء صبا ": يعني الغيث والامطار. (ثم شققنا الارض شقا): أي بالنبات (فأنبتنا فيها حبا) أي قمحا وشعيرا (3) وسلتا وسائر ما يحصد ويدخر (وعنبا وقضبا) وهو القت والعلف، عن الحسن: سمى بذلك لانه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب: وأهل مكة يسمون القت القضب. وقال ابن عباس: هو الرطب لانه يقضب من النخل: ولانه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا: أنه الفصفصة وهو القت الرطب. وقال الخليل: القضب الفصفصة الرطبة. وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قت. قال: والقضب: اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال: قضبا، يعني جميع ما يقضب، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها. وفي الصحاح: والقضبة والقضب الرطبة، وهي الاسفست بالفارسية، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. " وزيتونا " وهي شجرة الزيتون " ونخلا " يعني النخيل " وحدائق " أي (1) في ب، ز: قرأ بعض القراء. (2) آبك: أتاك. الريب: صروغ الدهر. (3) السلت (بالضم): ضرب من الشعير. (*)
[ 222 ]
بساتين واحدها حديقة. قال الكلبي: وكل شئ أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. " غلبا " عظاما شجرها، يقال: شجرة غلباء، ويقال للاسد: الاغلب، لانه مصمت العنق، لا يلتفت إلا جميعا، قال العجاج: ما زلت يوم البين ألوي صلبي * والرأس حتى صرت مثل الاغلب ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والاصل في الوصف بالغلب: الرقاب فاستعير، قال قال عمرو بن معدي كرب: يمشي بها غلب الرقاب كأنهم * بزل كسين من الكحيل جلالا (1) وحديقة غلباء: ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب: بلغ وألتف البعض بالبعض. قال ابن عباس: الغلب: جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد: الغلب: النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة: عظام الاوساط والجذوع. مجاهد: ملتفة. " وفاكهة " أي ما تأكله الناس من ثمار الاشجار كالتين والخوخ وغيرهما " وأبا " هو ما تأكله البهائم من العشب، قال ابن عباس والحسن: الاب: كل ما أنبتت الارض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحصيد، ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: له دعوة ميمونة ريحها الصبا * بها ينبت الله الحصيدة والابا وقيل: إنما سمي أبا، لانه يؤب أي يؤم وينتجع. والاب والام: أخوان، قال: جذمنا قيس ونجد دارنا * ولنا الاب به والمكرع (2) وقال الضحاك: والاب: كل شئ ينبت على وجه الارض. وكذا قال أبو رزين: هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال: الاب: ما تنبت الارض مما يأكل الناس والانعام. (1) الكحيل: نوع من القطران تطلى به الابل للجرب ولا يستعمل إلا مصغرا. وجل الدابة: الذى تلبسه لتصان به والجمع جلال وأجلال. (2) الجذم (بكسر الجيم): الاصل. والمكرع: مفعل من الكرع أراد به الماء الصالح للشرب. (*)
[ 223 ]
وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة: الاب: الثمار الرطبة. وقال الضحاك: هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا، قال الشاعر: فما لهم مرتع للسوا (1) * م والاب عندهم يقدر الكلبي: هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل: الفاكهة: رطب الثمار، والاب يابسها. وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق رضى الله عنه عن تفسير الفاكهة والاب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم. وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الاب ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا بن أم عمر ألا تدري ما الاب ؟ ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع ]. وإنما أراد بقوله: [ خلقتم من سبع ] يعني " من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة " [ الحج: 5 ] الآية، والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: " قأنبتنا فيها حبا وعنبا " إلى قوله: " وفاكهة " ثم قال: " وأبا " وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. " متاعا لكم " نصب على المصدر المؤكد، لان إنبات هذه الاشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دثوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن امتنانا عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضا. قوله تعالى: فإذا جاءت الصاخة (33) يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه (36) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه (37) وجوه يومئذ مسفرة (38) ضاحكة مستبشرة (39) ووجوه يومئذ عليها غبرة (40) ترهقها قترة (41) أولئك هم الكفرة الفجرة (42) (1) السوام والسائمة: المال الراعي من الابل والغنم وغيرهما. (*)
[ 224 ]
قوله تعالى: (فإذا جاءت الصاخة) لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالاعمال الصالحة، وبالانفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الاسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للاحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الاسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: [ ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والانس ]. وقال الشاعر: يصيخ للنبأة أسماعه * إصاخة المنشد للمنشد قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الاول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان (صخا) ؟ أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر: إذا صكه قال الراجز: يا جارتي هل لك أن تجالدي * جلادة كالصك بالجلامد ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي (1): الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الاسنان حديثي الازمان: * أصم بك، الناعي وإن كان أسمعا * وقال آخر: أضمني سرهم أيام فرقتهم * فهل سمعتم بسر يورث الصمما لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة. قوله تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه) أي يهرب، أي تجئ الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه، أي من موالاة أخيه ومكالمته، لانه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه، كما قال بعده: " لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات. وقيل: لئلا يروا ما هو (1) لم نجد كلام ابن العربي هذا في النسخة المطبوعة بمطبعة السعادة من كتابه (أحكام القرآن). (*)
[ 225 ]
فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا، كما قال: " يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا " [ الدخان: 41 ]. وقال عبد الله بن طاهر الابهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى. (وصاحبته) أي زوجته. (وبنيه) أي أولاده. وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من، أبيه: إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح، وأول من يفر من أمرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه). في صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: [ يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ] قلت، يا رسول الله ! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال: [ يا عائشة، الامر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ]. خرجه الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ يحشرون حفاة عراة غرلا ] فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال: [ يا فلانة ] " لكل آمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ". قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة، أي حال يشغله عن الاقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد " يعنيه " بفتح الياء، وعين غير معجمة، أي يعنيه أمره. وقال القتبي: يعنيه: يصرفه ويصده عن قرابته، ومنه يقال: أعن عني وجهك: أي أصرفه واعن عن السفيه، قال خفاف: سيعنيك حرب بني مالك * عن الفحش والجهل في المحفل قوله تعالى: (وجوه يومئذ مسفرة): أي مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. " ضاحكة " أي مسرورة فرحة. " مستبشرة ": أي بما
[ 226 ]
آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني: " مسفرة " من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ابن عباس: من قيام الليل، لما روى في الحديث: [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] يقال: أسفر الصبح إذا أضاء. (ووجوه يومئذ عليها غبرة) أي غبار ودخان " ترهقها " أي تغشاها " قترة " أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا: ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب: الغبار، جمع القترة، عن أبي عبيد، وأنشد الفرزدق: متوج برداء الملك يتبعه * موج ترى فوقه الرايات والقترا وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم، القترة: ما ارتفعت إلى السماء، والغبرة: ما انحطت إلى الارض، والغبار والغبرة: واحد. " أولئك هم الكفرة " جمع كافر " الفجرة " جمع فاجر، وهو الكاذب المفترى على الله تعالى. وقيل: الفاسق، [ يقال ]: فجر فجورا: أي فسق، وفجر: أي كذب. وأصله: الميل، والفاجر: المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده. سورة التكوير مكية في قول الجميع. وهي تسع وعشرون آية وفي الترمذي: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلي يوم القيامة [ كأنه رأى عين ] فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت). قال: هذا حديث حسن [ غريب ] (1). (1) الزيادة من صحيح الترمذي. (*)
[ 227 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: إذا الشمس كورت (1) وإذا النجوم انكدرت (2) وإذا الجبال سيرت (3) وإذا العشار عطلت (4) وإذا الوحوش حشرت (5) وإذا البحار سجرت (6) وإذا النفوس زوجت (7) وإذا الموءودة سئلت (8) بأى ذنب قتلت (9) وإذا الصحف نشرت (10) وإذا السماء كشطت (11) وإذا الجحيم سعرت (12) وإذا الجنة أزلفت (13) علمت نفس ما أحضرت (14) قوله تعالى: (إذا الشمس كورت) قال ابن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش. والحسن: ذهاب ضوئها. وقاله قتادة ومجاهد: وروى عن ابن عباس أيضا. سعيد بن جبير: عورت. أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خيثم: " كورت " رمى بها، ومنه: كورته فتكور، أي سقط. قلت: وأصل التكوير: الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تكور ويمحى ضوءها، ثم يرمى بها في البحر. والله أعلم. وعن أبي صالح: كورت: نكست. (وإذا النجوم انكدرت) أي تهافتت وتناثرت. وقال أبو عبيدة: أنصبت كما تنصب العقاب إذا انكسرت. قال العجاج يصف صقرا (1): أبصر خربان فضاء فانكدر * تقضي البازي إذا البازي كسر (1) هكذا البيت في نسخ الاصل التي بأيدينا والذى في ديوان العجاج رواية الاصمعي نسخة الشنقيطي: قال يمدح عمرو بن عبيد الله بن معمر: قد جبر الدين الاله فجبر. إلى أن قال: دانى جناحيه من الطور فمر * تقضى البازى إذا البازى كسر أبصر خربان فضاء فانكدر * اشكى الكلاليب إذا أهوى اطفر الطور: الجبل وعنى هنا الشام يقول: انقض ابن معمر انقضاضة من الشام انقضاض البازى ضم جناحيه. وخربان: جمع خرب وهو ذكر الحبارى والكلاليب المخالب واطفر: أصله اظتفر فأبدلت التاء طاء فأدغمت في الظاء. (*)
[ 228 ]
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الارض، حتى يفزع أهل الارض السابعة مما لقيت وأصاب العليا)، يعني الارض. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: تساقطت، وذلك أنها قناديل معلقة بين السماء والارض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا جاءت النفخة الاولى مات من في الارض ومن في السموات، فتناثرت تلك الكواكب وتساقطت السلاسل من أيدي الملائكة، لانه مات من كان يمسكها. ويحتمل أن يكون انكدارها طمس آثارها. وسميت النجوم نجوما لظهورها في السماء بضوئها. وعن ابن عباس أيضا: انكدرت تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها (1) عن أماكنها. والمعنى متقارب. (وإذا الجبال سيرت) يعني قلعت من الارض، وسيرت في الهواء، وهو مثل قوله تعالى: " ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة " [ الكهف: 47 ]. وقيل: سيرها تحولها عن منزلة الحجارة، فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا وتكون كالعهن، وتكون هباء منثورا، وتكون سرابا، مثل السراب الذي ليس بشئ. وعادت الارض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وقد تقدم (2) في غير موضع والحمد لله. (وإذا العشار عطلت) أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، الواحدة عشراء أو التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعدما تضع أيضا. ومن عادة العرب أن يسموا الشئ باسمه المتقدم وإن كان قد جاوز ذلك، يقول الرجل لفرسه وقد قرح: هاتوا مهري وقربوا مهري، يسميه بمتقدم اسمه، قال عنترة: لا تذكري مهري وما أطمعته * فيكون جلدك مثل جلد الاجرب وقال أيضا: * وحملت مهري وسطها فمضاها (3) * وإنما خص العشار بالذكر، لانها أعزما تكون على العرب، وليس يعطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل، لان في القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل، أن هول (1) في ا، ح، و: لزلزالها. (2) راجع ج 11 ص 245. (3) صدره: * وضر ؟ ت قرني كبشها فتجدلا * (*)
[ 229 ]
يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. وقيل: إنهم إذا قاموا من قبورهم، وشاهد بعضهم بعضا، ورأوا الوحوش والدواب محشورة، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبئوا بها، ولم يهمهم أمرها. وخوطبت العرب بأمر العشار، لان مالها وعيشها أكثره من الابل. وروى الضحاك عن ابن عباس: عطلت: عطلها أهلها، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الاعشى: هو الواهب المائة المصطفا * ة إما مخاضا وإما عشارا وقال آخر: ترى المرء مهجورا إذا قل ماله * وبيت الغني يهدي له ويزار وما ينفع الزوار مال مزورهم * إذا سرحت شول (1) له وعشار يقال: ناقة عشراء، وناقتان عشراوان، ونوق عشار وعشراوات، يبدلون من همزة التأنيث واوا. وقد عشرت الناقة تعشيرا: أي صارت عشراء. وقيل: العشار: السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر، والعرب تشبه السحاب بالحامل. وقيل: الديار تعطل فلا تسكن. وقيل: الارض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والاول أشهر، وعليه من الناس الاكثر. (وإذا الوحوش حشرت) أي جمعت والحشر: الجمع. عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: حشرها: موتها. رواه عنه عكرمة. وحشر كل شئ: الموت غير الجن والانس، فإنهما يوافيان يوم القيامة. وعن ابن عباس أيضا قال: يحشر كل شئ حتى الذباب. قال ابن عباس: تحشر الوحوش غدا: أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقال لها كوني ترابا فتموت. وهذا أصح مما رواه عنه عكرمة، وقد بيناه في كتاب " التذكرة " مستوفى، ومضى في سورة " الانعام " (2) بعضه. أي إن الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم. وقيل: عني بهذا أنها مع نفرتها اليوم من الناس وتنددها (1) في ط: بزل. (2) راجع ج 6 ص 421. (*)
[ 230 ]
في الصحاري، تنضم غدا إلى الناس من أهوال ذلك اليوم. قال معناه أبي بن كعب. (وإذا البحار سجرت) أي ملئت من الماء، والعرب تقول: سجرت الحوض أسجره سجرا: إذا ملاته، وهو مسجور والمسجور والساجر في اللغة: الملآن. وروى الربيع بن خيثم: سجرت: فاضت وملئت. وقاله الكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. قال ابن أبي زمنين: سجرت: حقيقته ملئت، فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا. وهو معنى قول الحسن. وقيل: أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها، حتى امتلات. عن الضحاك ومجاهد: أي فجرت فصارت بحرا واحدا. القشيري: وذلك بأن يرفع الله الحاجز الذي ذكره في قوله تعالى: " بينهما برزخ لا يبغيان " [ الرحمن: 20 ]، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار، فعمت الارض كلها، وصارت البحار بحرا واحدا. وقيل: صارت بحرا واحدا من الحميم لاهل النار. وعن الحسن أيضا وقتادة وابن حيان: تيبس فلا يبقى من مائها قطرة. القشيري: وهو من سجرت التنور أسجره سجرا: إذا أحميته وإذا سلط عليه الايقاد نشف ما فيه من الرطوبة وتسير الجبال حينئذ وتصير البحار والارض كلها بساطا واحدا، بأن يملا مكان البحار بتراب الجبال. وقال النحاس: وقد تكون الاقوال متفقة، يكون تيبس من الماء بعد أن يفيض، بعضها إلى بعض، فتقلب نارا. قلت: ثم تسير الجبال حينئذ، كما ذكر القشيري، والله أعلم. وقال ابن زيد وشمر وعطية وسفيان ووهب وأبي وعلي بن أبي طالب وابن عباس في رواية الضحاك عنه: أوقدت فصارت نارا. قال ابن عباس: يكور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، ثم يبعث الله عليها ريحا دبورا، فتنفخه حتى يصير نارا. وكذا في بعض الحديث: (يأمر الله جل ثناؤه الشمس والقمر والنجوم فينتثرون في البحر، ثم يبعث الله جل ثناؤه الدبور فيسجرها نارا، فتلك نار الله الكبرى، التي يعذب بها الكفار). قال القشيري: قيل في تفسير قول ابن عباس " سجرت " أوقدت، يحتمل أن تكون جهنم في قعور من البحار، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا، فإذا أنقضت الدنيا سجرت، فصارت كلها نارا يدخلها الله أهلها. ويحتمل أن تكون تحت البحر نار، ثم يوقد الله البحر كله فيصير نارا. وفي الخبر: البحر نار في نار.
[ 231 ]
وقال معاوية بن سعيد: بحر الروم وسط الارض، أسفله آبار مطبقة بنحاس يسجر نارا يوم القيامة. وقيل: تكون الشمس في البحر، فيكون البحر نارا بحر الشمس. ثم جميع ما في هذه الآيات يجوز أن يكون في الدنيا قبل يوم القيامة ويكون من أشراطها، ويجوز أن يكون يوم القيامة، وما بعد هذه الآيات فيكون في يوم القيامة. قلت: روي عن عبد الله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لانه طبق جهنم. وقال أبي بن كعب: ست آيات من قبل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم ذهب ضوء الشمس وبدت النجوم فتحيروا ودهشوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذ تناثرت النجوم وتساقطت، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الارض، فتحركت واضطربت واحترقت، فصارت هباء منثورا، ففزعت الانس إلى الجن والجن إلى الانس، واختلطت الدواب والوحوش والهوام والطير، وماج بعضها في بعض، فذلك قوله تعالى: " وإذا الوحوش حشرت " ثم قالت الجن للانس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك تصدعت الارض صدعة واحدة إلى الارض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وقيل: معنى " سجرت ": هو حمرة مائها، حتى تصير كالدم، مأخوذ من قولهم: عين سجراء: أي حمراء. وقرأ ابن كثير " سجرت " وأبو عمرو أيضا، إخبارا عن حالها مرة واحدة. وقرأ الباقون بالتشديد إخبارا عن حالها في تكرير ذلك منها مرة بعد أخرى. قوله تعالى: (وإذا النفوس زوجت) قال النعمان بن بشير: قال النبي صلى الله عليه وسلم " وإذا النفوس زوجت " قال: (يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله). وقال عمر بن الخطاب: يقرن الفاجر مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح. وقال ابن عباس: ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج. وعنه أيضا قال: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرن الكافر (1) يوم: ساقطه من ب، ز، ط. (*)
[ 232 ]
بالشياطين، وكذلك المنافقون. وعنه أيضا: قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار، فيضم المبرز في الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله، فالتزويج أن يقرن الشئ بمثله، والمعنى: وإذا النفوس قرنت إلى أشكالها في الجنة والنار. وقيل: يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان، كما قال تعالى: " احشروا الذين ظلموا وازواجهم " [ الصافات: 22 ]. وقال عبد الرحمن بن زيد: جعلوا أزواجا على أشباه أعمالهم ليس بتزويج، أصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج، وقد قال جل ثناؤه: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " [ الصافات: 22 ] أي أشكالهم. وقال عكرمة: " وإذا النفوس زوجت " قرنت الارواح بالاجساد، أي ردت إليها. وقال الحسن: ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، على جهة البغض والعداوة، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الانبياء والمؤمنين. وقيل: قرنت النفوس بأعمالها، فصارت لاختصاصها به كالتزويج. قوله تعالى: (وإذا الموءودة سئلت. بأى ذنب قتلت) الموءودة المقتولة، وهي الجارية تدفن وهي حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيوءودها أي يثقلها حتى تموت، ومنه قوله تعالى: " ولا يؤوده حفظهما " [ البقرة: 255 ] أي لا يثقله، وقال متمم بن نويرة: وموءودة مقبورة في مفازة * بآمتها موسودة لم تمهد (1) وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين: إحداهما كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية إما مخافة الحاجة والاملاق، وإما خوفا من السبي والاسترقاق. وقد مضى (1) كذا روى البيت ونسب إلى متمم بن نويرة في الاصول ونسبه اللسان وشرح القاموس مادة (عوز) إلى حسان رضى الله عنه وروى فيهما: وموءودة مقرورة في معاوز * بآمتها مرموسة لم توسد والآمة: ما يعلق بسرة المولود إذا سقط من بطن أمه. والمعاوز: خرق يلف بها الصبي. (*)
[ 233 ]
في سورة " النحل " (1) هذا المعنى، عند قوله تعالى: " أم يدسه في التراب " [ النحل: 59 ] مستوفى. وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ويمنعون منه، حتى افتخر به الفرزدق، فقال: ومنا (2) الذي منع الوائدات * فأحيا الوئيد فلم يوأد يعني جده صعصعة كان يشتريهن من آبائهن. فجاء الاسلام وقد أحيا سبعين موءودة. وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردت التراب عليها، وإن ولدت غلاما حبسته، ومنه قول الراجز: سميتها إذ ولدت تموت * والقبر صهر ضامن زميت الزميت الوقور، والزميت مثال الفسيق أوقر من الزميت، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم، وما أشد تزمته، عن الفراء. وقال قتادة: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاتبهم الله على ذلك، وتوعدهم بقوله: " وإذا الموءودة سئلت " قال عمر في قوله تعالى: " وإذا الموءودة سئلت " قال: جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! إني وأدت ثمان بنات كن لي في الجاهلية، قال: (فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة) قال: يا رسول الله إني صاحب إبل، قال: (فأهد عن كل واحدة منهن بدنه إن شئت). وقوله تعالى: " سئلت " سؤال الموءودة سؤال توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لم ضربت ؟ وما ذنبك ؟ قال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها، لانها قتلت بغير ذنب. وقال ابن أسلم: بأي ذنب ضربت، وكانوا يضربونها. وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى: " سئلت " قال: طلبت، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل. قال: وهو كقوله: " وكان عهد الله مسئولا " [ الاحزاب: 15 ] أي مطلوبا. فكأنها طلبت منهم، فقيل أين أولادكم ؟ وقرأ الضحاك وأبو الضحا عن جابر بن زيد وأبي صالح " وإذا الموءودة سألت " فتتعلق الجارية بأبيها، فتقول: بأي ذنب (1) راجع ج 10 ص 117 (2) ويروى: وجدى الذى منع الوائدات... الخ. (*)
[ 234 ]
قتلتني ؟ ! فلا يكون له عذر، قاله ابن عباس وكان يقرأ " وإذا الموءودة سألت " وكذلك هو في مصحف أبي. وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها، ملطخا بدمائه، فيقول يا رب، هذه أمي، وهذه قتلتني). والقول الاول عليه الجمهور، وهو مثل قوله تعالى لعيسى: " أأنت قلت للناس "، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموءودة توبيخ لوائدها، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها، لان هذا مما لا يصح إلا بذنب، فبأي ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها. والله أعلم. وقرئ " قتلت " بالتشديد، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب. قوله تعالى: (وإذا الصحف نشرت) أي فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الاعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تطوى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول: " مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " [ الكهف: 49 ]. وروى مرثد بن وداعة قال: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده " في جنة عالية " [ الحاقة: 22 ] إلى قوله: " الايام الخالية " [ الحاقة: 24 ] وتقع صحيفة الكافر في يده " في سموم وحميم " إلى قوله: ولا كريم " [ الواقعة: 42 - 44 ]. وروى عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة) فقلت: يا رسول الله فكيف بالنساء ؟ قال: (شغل الناس يا أم سلمة). قلت: وما شغلهم ؟ قال: (نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل). وقد مضى في سورة " سبحان " (1) قول أبي الثوار العدوي: هما نشرتان وطية، أما ما حييت يابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت، حتى إذا بعثت نشرت " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " [ الاسراء: 14 ]. وقال مقاتل: إذا مات المرء طويت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت. وعن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق (1) راجع ج 10 ص 230. (*)
[ 235 ]
الامر يا بن آدم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو عمرو " نشرت " مخففة، على نشرت مرة واحدة، لقيام الحجة. الباقون بالتشديد، على تكرار النشر، للمبالغة في تقريع العاصى، وتبشير المطيع. وقيل: لتكرار ذلك من الانسان والملائكة الشهداء عليه. قوله تعالى: (وإذا السماء كشطت): الكشط: قلع عن شدة التزاق، فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره والقشط: لغة فيه. وفي قراءة عبد الله " وإذا السماء قشطت " وكشطت البعير كشطا: نزعت جلده ولا يقال سلخته، لان العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، وانكشط: أي ذهب، فالسماء تنزع من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشئ. وقيل: تطوى كما قال تعالى: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب " [ الانبياء: 104 ] فكأن المعنى: قلعت فطويت. والله أعلم. قوله تعالى: (وإذا الجحيم سعرت) أي أوقدت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها. يقال: سعرت النار وأسعرتها. وقراءة العامة بالتخفيف من السعير. وقرأ نافع وابن ذكوان ورويس بالتشديد لانها أوقدت مدة بعد مرة. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أسودت، فهي سوداء مظلمة " وروى موقوفا. قوله تعالى: (وإذا الجنة أزلفت) أي دنت وقربت من المتقين. قال الحسن: إنهم يقربون منها، لا أنها تزول عن موضعها. وكان عبد الرحمن بن زيد يقول: زينت: (1) أزلفت ؟ والزلفى في كلام العرب: القربة قال الله تعالى: " وأزلفت الجنة للمتقين " [ الشعراء: 90 ]، وتزلف فلان تقرب. قوله تعالى: (علمت نفس ما أحضرت) يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب " إذا الشمس كورت " وما بعدها. قال عمر رضي الله عنه لهذا أجرى الحديث. وروى (1) في ز: أدنيت. (*)
[ 236 ]
عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما قرأها، فلما بلغا " علمت نفس ما أحضرت " قالا لهذا أجريت القصة، فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت وكانت هذه الاشياء، علمت نفس ما أحضرت من عملها. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه [ وينظر (1) أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ] بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل) وقال الحسن: " إذ الشمس كورت " قسم وقع على قوله: " علمت نفس ما أحضرت " كما يقال: إذا نفر زيد نفر عمرو. والقول الاول أصح. وقال ابن زيد عن ابن عباس في قوله تعالى: " إذا الشمس كورت " إلى قوله: " وإذا الجنة أزلفت " أثنتا عشرة خصلة: ستة في الدنيا، وستة في الآخرة، وقد بينا الستة الاولى بقول أبي بن كعب. قوله تعالى: فلا أقسم بالخنس () الجوار الكنس (16) والليل إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18) إنه لقول رسول كريم (19) ذى قوة عند ذى العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) وما صاحبكم بمجنون (22) قوله تعالى: (فلا أقسم) أي أقسم، و " لا " زائدة، كما تقدم. (بالخنس الجوارى الكنس) هي الكواكب الخمسة الدراري: زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة، فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مروي عن علي كرم الله وجهه. وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان: أحدهما: لانها تستقبل الشمس، قاله بكر بن عبد الله المزني. الثاني: لانها تقطع المجرة، قاله ابن عباس. وقال الحسن وقتادة: هي النجوم التي تخنس (1) الزيادة من صحيح مسلم. (*)
[ 237 ]
بالنهار وإذا غربت، وقاله علي رضى الله عنه، قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، وتكنس في وقت غروبها أي تتأخر عن البصر لخفائها، فلا ترى. وفي الصحاح: و " الخنس ": الكواكب كلها. لانها تخنس في المغيب، أو لانها تخنس نهارا. ويقال: الكواكب السيارة منها دون الثابتة. وقال الفراء في قوله تعالى: " فلا أقسم بالخنس. الجواري الكنس ": إنها النجوم الخمسة، زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، لانها تخنس في مجراها، وتكنس، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار، وهو الكناس. ويقال: سميت خنسا لتأخرها، لانها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم، يقال: خنس عنه يخنس بالضم خنوسا: تأخر، وأخنسه غيره: إذا خلفه ومضى عنه. والخنس تأخر الانف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الارنبة، والرجل أخنس، والمرأة خنساء، والبقر كلها خنس. وقد روى عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: " فلا أقسم بالخنس " هي بقر الوحش. روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: قال لي عبد الله ابن مسعود: إنكم قوم عرب فما الخنس ؟ قلت: هي بقر الوحش، قال: وأنا أرى ذلك. وقاله إبراهيم وجابر بن عبد الله. وروي عن ابن عباس: إنما أقسم الله ببقر الوحش. وروى عنه عكرمة قال: " الخنس ": البقر و " الكنس ": هي الظباء، فهي خنس إذا رأين الانسان خنسن وأنقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن. القشيري: وقيل على هذا " الخنس " من الخنس في الانف، وهو تأخر الارنبة وقصر القصبة، وأنوف البقر والظباء خنس. والاصح الحمل على النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا، فذكر النجوم أليق بذلك. قلت: لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك. وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وهما صحابيان والنخعي أنها بقر الوحش. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء. وعن الحجاج بن منذر قال: سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس، فقال: الظباء والبقر، فلا يبعد أن يكون المراد
[ 238 ]
النجوم. وقد قيل: إنها الملائكة، حكاه الماوردي. والكنس الغيب، مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه. قال أوس بن حجر: ألم تر أن الله أنزل مزنه * وغفر الظباء في الكناس تقمع (1) وقال طرفة: كأن كناسي ضالة يكنفانها * وأطر قسي تحت صلب مؤيد (2) وقيل: الكنوس أن تأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء. قال الاعشى: فلما أتينا الحي أتلع أنس * كما أتلعت تحت المكانس ربرب يقال: تلع. النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها: أي سمت بجيدها. وقال أمرو القيس: تعشى قليلا ثم أنحى ظلوفه * يثير التراب عن مبيت ومكنس والكنس: جمع كانس وكانسة، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة. والجواري: جمع جارية من جرى يجري. (والليل إذا عسعس) قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر، حكاه الجوهري. وقال بعض أصحابنا: إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الارض. المهدوي: " والليل إذا عسعس " أدبر بظلامه، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وروى عنهما أيضا وعن الحسن وغيره: أقبل بظلامه. زيد بن أسلم: " عسعس " ذهب. الفراء: العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره: عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد: هو من الاضداد، والمعنيان يرجعان إلى شئ واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره، وقال علقمة بن قرط: حتى إذا الصبح لها تنفسا * وأنجاب عنها ليلها وعسعسا (1) تقمع: تحرك رؤوسها من القمعة وهي ذباب أزرق يدخل في أنوف الدواب أو يقع عليها فيلسعها. (2) قال: (كناسى) لان الحيوان يستكن بالغداة في ظلها وبالعشي في فيئها. والضال: السدر البري الواحدة ضالة. والاطر: العطف. والمؤيد: المقوى. يقول الشاعر: كأن كناسى ضالة يكنفان هذه الناقة لسعة ما بين مرفقيها وزورها. (3) تعشى: دخل في العشاء وهو أول الليل. ظلوفه: حوافره. (*)
[ 239 ]
وقال روبة: يا هند ما أسرع ما تسعسعا * من بعد ما كان فتى سرعرعا (1) وهذه حجة الفراء. وقال آمرؤ (2) القيس: عسعس حتى لو يشاء آدنا * كان لنا من ناره مقبس فهذا يدل على الدنو. وقال الحسن ومجاهد: عسعس: أظلم، قال الشاعر: حتى إذا ما ليلهن عسعسا * ركبن من حد الظلام حندسا الماوردي: وأصل العس الامتلاء، ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه، وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه على ظلامه، لاستكمال امتلائه به. وأما قول امرئ القيس: * ألما على الربع القديم بعسعسا (3) * فموضع بالبادية. وعسعس أيضا اسم رجل، قال الرجز: * وعسعس نعم الفتى تبياه * أي تعتمده. ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس، لانه يعس بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو: والتعسعس الشم، وأنشد: * كمنخر الذنب إذا تعسعسا * والتعسعس أيضا: طلب الصيد [ بالليل ]. (4) (1) تسعسعا: أدبر وفنى والسرعرع: الشاب الناعم. (2) كذا في الاصول كلها ولم نجده في ديوانه. وفي السان: كان له من ضوئه مقبس. ثم قال: أنشده أبو البلاد النحوي وقال: وكانوا يرون أن هذا البيت مصنوع. وادنا أصله: إذ دنا فأدغم. (3) تمامه، * كأني أنادى أو أكام أخرسا * (4) الزيادة من الصحاح. (*)
[ 240 ]
قوله تعالى: (والصبح إذا تنفس) أي أمتد حتى يصير نهارا واضحا، يقال للنهار إذا زاد: تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء. ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف. وقيل: " إذا تنفس " أي انشق وانفلق، ومنه تنفست القوس (1) أي تصدعت. (إنه لقول رسول كريم) هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل، قاله الحسن وقتادة والضحاك. والمعنى " إنه لقول رسول " عن الله " كريم " على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام، ثم عداه عنه بقوله " تنزيل من رب العالمين " [ الواقعة: 80 ] ليعلم أهل التحقيق في التصديق، أن الكلام لله عز وجل. وقيل: هو محمد عليه الصلاة والسلام (ذي قوة) من جعله جبريل فقوته ظاهرة فروى الضحاك عن ابن عباس قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه. (عن ذى العرش) أي عند الله جل ثناؤه (مكين) أي ذي منزلة ومكانة، فروي عن أبي صالح قال: يدخل سبعين سرادقا بغير إذن. (مطاع ثم): أي في السموات، قال ابن عباس: من طاعة الملائكة جبريل، أنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له، ففتح، فدخل ورأى ما فيها، وقال لمالك خازن النار: أفتح له جهنم حتى ينظر إليها، فأطاعه وفتح له. (أمين) أي مؤتمن على الوحي الذي يجئ به. ومن قال: إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى " ذي قوة " على تبليغ الرسالة " مطاع " أي يطيعه من أطاع الله عز وجل. (وما بصاحبكم بمجنون) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون حتى يتهم في قوله. وهو من جواب القسم. وقيل: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل في الصورة التي يكون بها عند ربه جل وعز فقال: ما ذاك إلي، فإذن له الرب جل ثناؤه، فأتاه وقد سد الافق، فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فقال المشركون: إنه مجنون، فنزلت: " إنه لقول رسول كريم " " وما صاحبكم بمجنون " وإنما رأى جبريل على صورته فهابه، وورد عليه ما لم تحتمل بنيته، فخر مغشيا عليه. (1) في نسخ الاصل (تنفست القوس والنفوس: أي تصدعت. واللغة لا ذكر فيها لكلمة النفوس ولعلها زيادة من الناسخ. (*)
[ 241 ]
قوله تعالى: ولقد رآه بالافق المبين (23) وما هو على الغيب بضنين (24) وما هو بقول شيطان رجيم (25) فأين تذهبون (26) إن هو إلا ذكر للعالمين (27) لمن شاء منكم أن يستقيم (28) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (29) قوله تعالى: (ولقد رآه بالافق المبين) أي رأى جبريل في صورته، له ستمائة جناح. " بالافق المبين " أي بمطلع الشمس من قبل المشرق، لان هذا الافق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مبين. أي من جهته ترى الاشياء. وقيل: الافق المبين: أقطار السماء ونواحيها، قال الشاعر: أخذنا بآفاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع الماوردي: فعلى هذا، فيه ثلاثة أقاويل أحدها: أنه رآه في أفق السماء الشرقي، قاله سفيان. الثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة. الثالث: أنه رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة، قاله مجاهد. وحكى الثعلبي عن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: " إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء " قال: لن تقدر على ذلك. قال: " بلى " قال: فأين تشاء أن أتخيل لك ؟ قال: " بالابطح " قال: لا يسعني. قال: " فبمنى " قال: لا يسعني. قال: " فبعرفات " قال: ذلك بالحري أن يسعني. قواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو قد أقبل بخشخشة وكلكلة من جبال عرفات، قد ملا ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الارض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فتحول جبريل في صورته، وضمه إلى صدره. وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الارض السابعة، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من خشية الله، حتى يصير مثل الوصع (1) - يعني العصفور - حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إن محمدا (1) في (اللسان: وصع) الوصع: هو العصفور الصغير. (*)
[ 242 ]
عليه السلام رأى ربه عز وجل بالافق المبين. وهو معنى قول ابن مسعود. وقد مضى القول في هذا في " والنجم " (1) مستوفى، فتأمله هناك. وفي " المبين " قولان: أحدهما أنه صفة الافق، قاله الربيع. الثاني أنه صفة لمن رآه، قاله مجاهد. (وما هو على الغيب بضنين): بالظاء، قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، أي بمتهم، والظنة التهمة، قال الشاعر: أما وكتاب الله لا عن سناءة * هجرت ولكن الظنين ظنين وأختاره أبو عبيد، لانهم لم يبخلوه ولكن كذبوه، ولان الاكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتهم. وقرأ الباقون " بضنين " بالضاد: أي ببخيل من ضننت بالشئ أضن ضنا [ فهو ] ضنين. فروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يضن عليكم بما يعلم، بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه. وقال الشاعر: أجود بمكنون الحديث وإنني * بسرك عمن سألني لضنين والغيب: القرآن وخبر السماء. ثم هذا صفة محمد عليه السلام. وقيل: صفة جبريل عليه السلام. وقيل: بظنين: بضعيف. حكاه الفراء والمبرد، يقال: رجل ظنين: أي ضعيف. وبئر ظنون: إذا كانت قليلة الماء، قال الاعشى: ما جعل الجد (2) الظنون الذي * جنب صوب اللجب الماطر مثل الفراتي إذا ما طما * يقذف بالبوصي والماهر والظنون: الدين الذي لا يدري أيقضيه آخذه أم لا ؟ ومنه حديث علي عليه السلام في الرجل يكون له الدين الظنون، قال: يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقا. والظنون: الرجل السئ الخلق، فهو لفظ مشترك. (وما هو) يعني القرآن (بقول شيطان رجيم) أي مرجوم ملعون، كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان الابيض الذي كان (1) راجع ج 17 ص 94 وقول ابن مسعود هناك هو: أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل والذي قال بأنه رأى ربه هو ابن عباس رضى الله عنهما. (2) الجد: البئر تكون في موضع كثير الكلا. الفراتي: المنسوب إلى الفرات. والبوصى: ضرب من سفن البحر والملاح أيضا. والماهر: السابح. (*)
[ 243 ]
يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه. (فأين تذهبون) قال قتادة: فإلى أين تعدلون عن هذا القول وعن طاعته. كذا روى معمر عن قتادة، أي أين تذهبون عن كتابي وطاعتي. وقال الزجاج: فأي طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم. ويقال: أين تذهب ؟ وإلى أين تذهب ؟ وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق: أي إليها. قال: سمعناه في هذه الاحرف الثلاثة، وأنشدني بعض بني عقيل: تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا * وأي الارض تذهب بالصياح يريد إلى أي أرض تذهب، فحذف إلى. وقال الجنيد: معنى الآية مقرون بآية أخرى، وهي قوله تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه " [ الحجر: 21 ] المعنى: أي طريق تسلكون أبين من الطريق الذي بينه الله لكم. وهذا معنى قول الزجاج. (إن هو) يعني القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي موعظة وزجر. و " إن " بمعنى " ما ". وقيل: ما محمد إلا ذكر. (لمن شاء منكم أن يستقيم) أي يتبع الحق ويقيم عليه. وقال أبو هريرة وسليمان بن موسى: لما نزلت " لمن شاء منكم أن يستقيم " قال أبو جهل: الامر إلينا، إن شئنا أستقمنا، وإن شئنا لم نستقم - وهذا هو القدر، وهو رأس القدرية - فنزلت: " وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين "، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه. وقال الحسن: والله ما شاءت العرب الاسلام حتى شاءه الله لها. وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة (1) وثمانين كتابا مما أنزل الله على الانبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " [ الانعام: 111 ]. وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " [ يونس: 100 ]. وقال تعالى: " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " [ القصص: 56 ] والآي في هذا كثير، وكذلك الاخبار، وأن الله سبحانه هدى بالاسلام، وأضل بالكفر، كما تقدم في غير موضع. ختمت السورة والحمد لله. (1) في تفسير الثعلبي: بضعة وثمانين. (*)
[ 244 ]
سورة الانفطار مكية عند الجميع وهي تسع عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: إذا السماء انفطرت (1) وإذا الكواكب انتثرت (2) وإذا البحار فجرت (3) وإذا القبور بعثرت (4) علمت نفس ما قدمت وأخرت (5) قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت) أي تشققت بأمر الله، لنزول الملائكة، كقوله: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " [ الفرقان: 25 ]. وقيل: تفطرت لهيبة الله تعالى. والفطر: الشق، يقال: فطرته فانفطر، ومنه فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشئ: شقق، وسيف فطار أي فيه شقوق، قال عنترة: وسيفي كالعقيقة وهو كمعي * سلاحي لا أفل ولا فطارا (1) وقد تقدم في غير موضع (2). (وإذا الكواكب انتثرت) أي تساقطت، نثرت الشئ أنثره نثرا، فانتثر، والاسم النثار. والنثار بالضم: ما تناثر من الشئ، ودر منثر، شدد للكثرة. (وإذا البحار فجرت) أي فجر بعضها في بعض، فصارت بحرا واحدا، على ما تقدم. قال الحسن: فجرت: ذهب ماؤها ويبست، وذلك أنها أولا راكدة مجتمعة، فإذا فجرت تفرقت، فذهب ماؤها. وهذه الاشياء بين يدي الساعة، على ما تقدم في " إذا الشمس كورت " [ التكوير: 1 ]. (إذا القبور بعثرت) أي قلبت وأخرج ما فيها من أهلها أحياء، يقال: بعثرت المتاع: قلبته ظهرا لبطن، وبعثرت الحوض وبحثرته: إذا هدمته وجعلت أسفله أعلاه. وقال قوم منهم الفراء: " بعثرت ": أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة. وذلك من أشراط الساعة: أن تخرج الارض (1) العقيقة: شعاع البرق الذى يبد وكالسيف. والكمع: الضجيع. (2) راجع ج 16 ص 4 (*)
[ 245 ]
ذهبها وفضتها. " علمت نفس ما قدمت وأخرت " مثل: " ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر " [ القيامة: 13 ]. وتقدم. وهذا جواب " إذا السماء أنفطرت " لانه قسم في قول الحسن وقع على قوله تعالى: " علمت نفس " يقول: إذا بدت هذه الامور من أشراط الساعة ختمت الاعمال فعلمت كل نفس ما كسبت، فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك. وقيل: أي إذا كانت هذه الاشياء قامت القيامة، فحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها. وقيل: هو خبر، وليس بقسم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم (6) الذى خلقك فسواك فعدلك (7) في أي صورة ما شاء ركبك (8) كلا بل تكذبون بالدين (9) قوله تعالى: يأيها الانسان) خاطب بهذا منكري البعث. وقال ابن عباس: الانسان هنا: الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة: أبي بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الاشد بن كلدة الجمحي. عن ابن عباس أيضا: (ما غرك بربك الكريم) أي ما الذي غرك حتى كفرت ؟ " بربك الكريم " أي المتجاوز عنك. قال قتادة: غرة شيطانه المسلط عليه. الحسن: غره شيطانه الخبيث. وقيل: حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه. وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم " [ الانفطار: 6 ] قال: " غره الجهل " وقال صالح بن مسمار: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ " يأيها الانسان ما غرك بربك الكريم " ؟ فقال: " غره جهله ". وقال عمر رضي الله عنه: كما قال الله تعالى " إنه كان ظلوما جهولا " [ الاحزاب: 72 ]. وقيل: غره عفو الله، إذ لم يعاقبه في أول مرة. قال إبراهيم بن الاشعث: قيل: للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى
[ 246 ]
يوم القيامة بين يديه، فقال لك: " ما غرك بربك الكريم " ؟ [ الانفطار: 6 ] ماذا كنت تقول ؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة، لان الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك فقال: يا كاتم الذنب أما تستحي * والله في الخلوة ثانيكا غرك من ربك إمهاله * وستره طول مساويكا وقال ذو النون المصري: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر. وأنشد أبو بكر بن طاهر الابهري: يامن غلا في العجب والتيه * وغره طول تماديه أملى لك الله فبارزته * ولم تخف غب معاصيه وروى عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تجبني ؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون: ما غرك: ما خدعك وسول لك، حتى أضعت ما وجب عليك ؟ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ماذا غرك بي ؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ (الذى خلقك) أي قدر خلقك من نطفة (فسواك) في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك (فعدلك) أي جعلك معتدلا سوى الخلق، كما يقال: هذا شئ معدل. وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " [ التين: 4 ]. وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: " فعدلك " مخففا أي: أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنا وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا. وقال [ موسى بن علي ابن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده ] (1) قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " إن النطفة (1) الزيادة من تفسير الثعلبي والطبري والدر المنثور. والحديث كما رواه الثعلبي بعد السند: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجده (ما ولد لك) ؟ قال: يارسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلاما أو جارية. قال (فمن يشبه) قال: فمن يشبه أمه أو أباه فقال النبي صلى الله عليه وسلم. (لا تقل هكذا إن النطفة... الحديث). (*)
[ 247 ]
إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ". أما قرأت هذه الآية (في اي صورة ما شاء ركبك): (فيما بينك وبين آدم)، [ وقال عكرمة وأبو صالح: " في أي صورة ما شاء ركبك " ]: إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكرا، وإن شاء أنثى. قال مجاهد: " في أي صورة " أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم. و " في " متعلقة ب‍ " - كبك "، ولا تتعلق ب‍ " - عدلك "، على قراءة من خفف، لانك تقول عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلت في كذا، ولذلك منع الفراء التخفيف، لانه قدر " في " متعلقة ب‍ " - عدلك "، و " ما " يجوز أن تكون صلة مؤكدة، أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الانسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير، ف‍ " - ما " بمعنى الشرط والجزاء، أي في صورة ما شاء يركبك ركبك. قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين) يجوز أن تكون " كلا " بمعنى حقا و " ألا " فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى " لا "، على أن يكون المعنى ليس الامر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. يدل على ذلك قوله تعالى: " ما غرك بربك الكريم " [ الانفطار: 6 ] وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غررت به. وقيل: أي ليس الامر كما تقولون، من أنه لا بعث. وقيل: هو بمعنى الردع والزجر. أي لا تغتروا بحلم الله وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته. ابن الانباري: الوقف الجيد على " الدين "، وعلى " ركبك "، والوقف على " كلا " قبيح. " بل تكذبون " يا أهل مكة " بالدين " أي بالحساب، و " بل " لنفي شئ تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوما، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة. قوله تعالى: وإن عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمون ما تفعلون (12) قوله تعالى: (وإن عليكم لحافظين) أي رقباء من الملائكة (كراما) أي علي، كقوله: " كرام بررة " [ عبس: 16 ]. وهنا ثلاث مسائل:
[ 248 ]
الاولى - روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حدى حالتين: الخراءة (1) أو الجماع، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم [ حائط ] (2) أو بغيره، أو ليستره أخوه). وروي عن علي رضي الله عنه قال: (لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة) وروي (إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه). الثانية - وأختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا ؟ فقال بعضهم: لا، لان أمرهم ظاهر، وعملهم واحد، قال الله تعالى: " يعرف المجرمون بسيماهم " [ الرحمن: 41 ]. وقيل: بل عليهم حفظة، لقوله تعالى: " كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون " [ الانفطار: 9 - 12 ]. وقال: " وأما من أوتي كتابه بشماله " [ الحاقة: 25 ] وقال: " وأما من أوتي كتابه وراء ظهره " [ الانشقاق: 10 ]، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة. فإن قيل: الذي على يمينه أي شئ يكتب ولا حسنة له ؟ قيل له: الذي يكتب عن شماله يكون بإذن صاحبه، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب. والله أعلم. الثالثة - سئل سفيان: كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة ؟ قال: إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن. وقد مضى في " ق " (3) عند قوله: " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " [ ق: 18 ] زيادة بيان لمعنى هذه الآية. وقد كره العلماء الكلام عند الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك. وقد مضى في آخر " آل عمران " (4) القول في هذا. وعن الحسن: يعلمون لا يخفى عليهم شئ من أعمالكم. وقيل: يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم. والله أعلم. (1) في ا، ب ح، ط، ل: الخزاية ورواية روح المعاني (ح 9 ص 317): لا يفارقونكم إلا عند إحدى الغائط والجنابة والغسل. (2) الزيادة من الدر المنثور وفيه. سبب ورود الحديث أنه عليه السلام رأى رجلا يغتسل بفلاة من الارض...... الخ. (3) راجع ج 17 ص 11 (4) راجع 4 ص 310 فما بعدها. (*)
[ 249 ]
قوله تعالى: إن الابرار لفي نعيم (13) وإن الفجار لفي جحيم (14) يصلونها يوم الدين (15) وما هم عنها بغائبين (16) وما أدراك ما يوم الدين (17) ثم ما أدراك ما يوم الدين (18) يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله (19) قوله تعالى: (إن الابرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم) تقسيم مثل قوله: " فريق في الجنة وفريق في السعير " [ الشورى: 7 ] وقال: " يومئذ يصدعون. فاما الذين آمنوا " [ الروم: 43 ] الآيتين. (يصلونها) أي يصيبهم لهبها وحرها (يوم الدين) أي يوم الجزاء والحساب، وكرر ذكره تعظيما لشأنه، نحو قوله تعالى: " القارعة ما القارعة ؟ وما أدراك ما القارعة " [ القارعة: 1 - 3 ] وقال ابن عباس فيما روى عنه: كل شئ من القرآن من قوله: " وما أدراك " ؟ فقد أدراه. وكل شئ من قوله " وما يدريك " فقد طوي عنه. (يوم لا تملك نفس) قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يوم " بالرفع على البدل من " يوم الدين " أو ردا على اليوم الاول، فيكون صفة ونعتا ل‍ " - يوم الدين ". ويجوز أن يرفع بإضمار هو. الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلا أنه، نصب، لانه مضاف غير متمكن، كما تقول: أعجبني يوم يقوم زيد. وأنشد المبرد: من أي يومي من الموت أفر * أيوم لم يقدر أم يوم قدر فاليومان الثانيان مخفوضان بالاضافة، عن الترجمة عن اليومين الاولين، إلا أنهما نصبا في اللفظ، لانهما أضيفا إلى غير محض. وهذا اختيار الفراء والزجاج. وقال قوم: اليوم الثاني منصوب على المحل، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا. وقيل: بمعنى: إن هذه الاشياء تكون يوم، أو على معنى يدانون يوم، لان الدين يدل عليه، أو بإضمار اذكر. (والامر يومئذ لله) لا ينازعه فيه أحد، كما قال: " لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم " [ غافر: 16 - 17 ]. تمت السورة والحمد لله.
[ 250 ]
سورة المطففين مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل. ومدنية في قول الحسن وعكرمة. وهي ست وثلاثون آية قال مقاتل: وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثمان آيات من قوله: " إن الذين أجرموا " إلى آخرها، مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3) فيه أربع مسائل: الاولى - روى النسائي عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى: " ويل للمطففين " فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وعن ابن عباس أيضا قال: هي: أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم، كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذأ باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وقال قوم: نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة، واسمه عمرو، كان له صاعان يأخذ بأحدهما، ويعطي بالآخر، قال أبو هريرة رضي الله عنه. الثانية - قوله تعالى: " ويل " أي شدة عذاب في الآخرة. وقال ابن عباس: إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار، فهو قوله تعالى: " ويل للمطففين " أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم. وروى عن ابن عمر قال: المطفف: الرجل يستأجر المكيال
[ 251 ]
وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه. وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث. وفي الموطأ قال مالك: ويقال لكل شئ وفاء وتطفيف. وروى عن سالم ابن أبي الجعد قال: الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك: " ويل للمطففين ". الثالثة - قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف، وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن. وقال الزجاج: إنما قيل للفاعل من هذا مطفف، لانه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشئ الطفيف الخفيف، وإنما أخذ من طف الشئ وهو جانبه. وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح: ما ملا أصباره، وكذلك طف المكوك وطففه، وفي الحديث: (كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه). وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل، والمعنى بعضكم من بعض قريب، فليس لاحد على أحد فضل إلا بالتقوى. والطفاف والطفافة بالضم: ما فوق المكيال. وإناء طفاف: إذا بلغ المل ء طفافه، تقول منه: أطففت. والتطفيف: نقص المكيال وهو ألا تملاه إلى أصباره، أي جوانبه، يقال: أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها. وقول ابن عمر حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبق الخيل: كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق، حتى كاد يساوي المسجد. يعني: وثب بي. الرابعة - المطفف: هو الذي يخسر في الكيل والوزن، ولا يوفى حسب ما بيناه، وروى ابن القاسم عن مالك: أنه قرأ " ويل للمطففين " فقال: لا تطفف ولا تخلب (1)، ولكن أرسل وصب عليه صبا، حتى إذا استوفى (2) أرسل يدك ولا تمسك. وقال عبد الملك بن الماجشون: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الطفاف، وقال: إن البركة في رأسه. قال: وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد. (1) كذا في الاصول: أي لا تغش وفي ابن العربي (ولا تجلب). (2) في ا، ح، ز، ط، ل، وابن العربي: (استوى). (*)
[ 252 ]
قوله تعالى: (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) قال الفراء: أي من الناس يقال: اكتلت منك: أي استوفيت منك ويقال أكتلت ما عليك: أي أخذت ما عليك. وقال الزجاج: أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، والمعنى: الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا، فلا يرضون للناس ما يرضون لانفسهم. الطبري: " على " بمعنى عند. قوله تعالى: (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " وإذا كالوهم أو وزنوهم ": أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام، فتعدى الفعل فنصب، ومثله نصحتك ونصحت لك، وأمرتك به وأمرتكه، قاله الاخفش والفراء. قال الفراء: وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل. وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج: لا يجوز الوقف على " كالوا " و " وزنوا " ؟ حتى تصل به " هم " قال: ومن الناس من يجعلها توكيدا، ويجيز الوقف على " كالوا " و " وزنوا " والاول الاختيار، لانها حرف واحد. هو قول الكسائي. قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين، ويقف على " كالوا " و " وزنوا " ويبتدئ " هم يجسرون " قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا. قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط، وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا " كالوا " و " وزنوا " بالالف، والاخرى: أنه يقال: كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي، كما يقال: صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك. قوله: " يخسرون ": أي ينقصون، والعرب تقول: أخسرت الميزان وخسرته. و (هم) في موضع نصب، على قراءة العامة، راجع إلى الناس، تقديره (وإذا كالوا) الناس (أو وزنوهم يخسرون) وفيه وجهان: أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار، وأوصل الفعل، كما قال: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا * ولقد نهيتك عن بنات الاوبر
[ 253 ]
أراد: جنيت لك، والوجه الآخر: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل والموزون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنكم معاشر الاعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان. وخص الاعاجم، لانهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا، وكانا مفرقين في الحرمين، كان أهل مكة يزنون، وأهل المدينة يكيلون. وعلى القراءة الثانية " هم " في موضع رفع بالابتداء، أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون. ولا يصح، لانه تكون الاولى ملغاة، ليس لها خبر، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها: وإذا كالوا هم ينقصون، أو وزنوا هم يخسرون. الثانية - قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر) خرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال مالك بن دينار: دخلت على جار لي قد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار ! جبلين من نار ! فقلت: ما تقول ؟ أتهجر ؟ (1) قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، أكيل بأحدهما، وأكتال بالآخر فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر حتى كسرتها فقال: يا أبا يحيى، كلما ضربت أحدهما بالآخر آزداد عظما، فمات من وجعه. وقال عكرمة: أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار. قيل له: فإن ابنك كيال أو وزان. فقال: أشهد أنه في النار. قال الاصمعي: وسمعت أعرابية تقول: لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رءوس المكاييل، ولا ألسنة الموازين. وروى ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال عبد خير: مر علي رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فأكفأ الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها، ويفضل الواجب من النفل. وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: أتق الله وأوف الكيل (1) هجر في نومه ومرضه يهجر هجرا: هذى. (*)
[ 254 ]
والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وقد روى أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، فقال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الاولى " كهيعص " وقرأ في الركعة الثانية " ويل للمطففين " قال أبو هريرة: فأقول في صلاتي: ويل لابي فلان، كان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص. قوله تعالى: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون (4) ليوم عظيم (5) يوم يقوم الناس لرب العالمين (6) قوله تعالى: (ألا يظن أولئك) إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم، ولا يخمنون تخمينا (إنهم مبعوثون) فمسئولون عما يفعلون. والظن هنا بمعنى اليقين، أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وقيل: الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعت، فهلا ظنوه، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه، ويأخذوا بالاحوط (ليوم عظيم) شأنه وهو يوم القيامة. قوله تعالى: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) فيه أربع مسائل: الاولى: العامل في " يوم " فعل مضمر، دل عليه " مبعوثون ". والمعنى يبعثون " يوم يقوم الناس لرب العالمين ". ويجوز أن يكون بدلا من يوم في " ليوم عظيم "، وهو مبني. وقيل: هو في موضع خفض، لانه أضيف إلى غير متمكن. وقيل: هو منصوب على الظرف أي في يوم، ويقال: أقم إلى يوم يخرج فلان، فتنصب يوم، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون: أقم إلى يوم خروج فلان. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم.
[ 255 ]
الثانية - وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين، أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الانكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين، بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الاثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل، في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل. الثالثة - قرأ ابن عمر: " ويل للمطففين " حتى بلغ " يوم يقوم الناس لرب العالمين " فبكى حتى سقط، وامتنع من قراءة ما بعده، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (يوم يقوم الناس لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ صدره، ومنهم من يبلغ أذنيه، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع) (1). وروى ناس عن ابن عباس قال: يقومون مقدار ثلثمائة سنة. قال: ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وروى عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقومون ألف عام في الظلة). وروى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه). وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقوم مائة سنة). وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري: (كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلثمائة سنة لرب العالمين، لا يأتيهم فيه خبر، ولا يؤمر فيه بأمر) قال بشير: المستعان الله. قلت: قد ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليخفف عن المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا) في " سأل سائل " (2) [ المعارج: 1 ]. وعن ابن عباس: يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وقيل: (1) أي في الماء. (2) راجع ج 18 ص 282. (*)
[ 256 ]
إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس، والدليل على هذا من الكتاب قوله الحق: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " [ يونس: 62 ] ثم وصفهم فقال: " الذين آمنوا وكانوا يتقون " [ يونس: 63 ] جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده. ومنه أمين. وقيل: المراد بالناس جبريل عليه السلام يقوم لرب العالمين، قاله ابن جبير وفيه بعد، لما ذكرنا من الاخبار في ذلك، وهي صحيحة ثابتة، وحسبك بما في صحيح مسلم والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " يوم يقوم الناس لرب الله العالمين " قال: (يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه). ثم قيل: هذا القيام يوم يقومون من قبورهم. وقيل: في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا. وقال يزيد الرشك: يقومون بين يديه للقضاء. الرابعة - القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالاضافة إلى عظمته وحقه، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم للانصار حين طلع عليه سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم). وقال أيضا: (من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار). وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن أنتظر ذلك واعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز، وخاصة عند الاسباب، كالقدوم من السفر ونحوه. وقد مضى في آخر سورة " يوسف " (1) شئ من هذا. قوله تعالى: كلا إن كتاب الفجار لفي سجين (7) وما أدراك ما سجين (8) كتاب مرقوم (9) ويل يومئذ للمكذبين (10) الذين يكذبون بيوم الدين (11) وما يكذب به إلا كل معتد أثيم (12) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين (13) (1) راجع ج 9 ص 265 فما بعدها. (*)
[ 257 ]
قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) قال قوم من أهل العلم بالعربية: " كلا " ردع وتنبيه، أي ليس الامر على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك. فهي كلمة ردع وزجر، ثم استأنف فقال: " إن كتاب الفجار ". وقال الحسن: " كلا " بمعنى حقا. وروى ناس عن ابن عباس " كلا " قال: ألا تصدقون، فعلى هذا: الوقف " لرب العالمين. وفي تفسير مقاتل: إن أعمال الفجار. وروى ناس عن ابن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم " لفي سجين ". وروى ابن أبي نجيج عن مجاهد قال: سجين صخرة تحت الارض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها. ونحوه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب، قال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خد إبليس. وعن كعب أيضا قال: سجين صخرة سوداء تحت الارض السابعة، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تلقى أنفس الكفار عندها. وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس. يحيى بن سلام: حجر أسود تحت الارض، يكتب فيه أرواح الكفار. وقال عطاء الخراساني: هي الارض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذريته. وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجئ ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يروه من الشر، ثم هبطوا به إلى الارض السابعة، وهي سجين، وهي آخر سلطان إبليس، فأثبتوا فيها كتابه. وعن كعب الاحبار في هذه الآية قال: إن روح الفاجر إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الارض، فتأبى الارض أن تقبلها، فتدخل في سبع أرضين، حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس. فيخرج لها من سجين من تحت خد إبليس رق، فيرقم فيوضع تحت خد إبليس. وقال الحسن: سجين في الارض السابعة. وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم. قال مجاهد: المعنى عملهم تحت الارض السابعة لا يصعد منها شئ. وقال:
[ 258 ]
سجين صخرة في الارض السابعة. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سجين جب في جهنم وهو مفتوح) وقال في الفلق: (إنه جب مغطى). وقال أنس: هي دركة في الارض السفلى. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: سجين أسفل الارض السابعة). وقال عكرمة: (سجين: خسار وضلال، كقولهم لمن سقط قدره: قد زلق بالحضيض. وقال أبو عبيدة والاخفش والزجاج: " لفي سجين " لفي حبس وضيق شديد، فعيل من السجن، كما يقول: فسيق وشريب، قال ابن مقبل: ورفقة يضربون البيض ضاحية * ضربا تواصت به الابطال سجينا (1) والمعنى: كتابهم في حبس، جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم، أو لانه يحل من الاعراض عنه والابعاد له محل الزجر والهوان. وقيل: أصله سجيل، فأبدلت اللام نونا. وقد تقدم ذلك. وقال زيد بن أسلم: سجين في الارض السافلة، وسجيل في السماء الدنيا. القشيري: سجين: موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون. وهذا دليل على خبث أعمالهم، وتحقير الله إياها، ولهذا قال في كتاب الابرار: " يشهده المقربون ". " وما أدراك ما سجين " أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك. ثم فسره له فقال: (كتاب مرقوم) أي مكتوب كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى. وقال قتادة: مرقوم أي مكتوب، رقم لهم بشر: لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وقال الضحاك: مرقوم: مختوم، بلغة حمير، وأصل الرقم: الكتابة، قال: سأرقم في الماء القراح (3) إليكم * على بعدكم إن كان للماء راقم وليس في قوله: (وما أدراك ما سجين ؟) ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربيا كما لا يدل في قوله: (القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة) بل هو تعظيم لامر سجين. وقد مضى في مقدمة الكتاب - والحمد لله - أنه ليس في القرآن غير عربي. (ويل يومئذ للمكذبين) (1) الذى في التاج نقلا عن الجوهري: * ورجلة يضربون الهام عن عرض * (2) راجع ج 1 ص 68. (3) القراح بوزن سحاب: الماء الذى لا ثقل به. (*)
[ 259 ]
أي شدة وعذاب يوم القيامة للمكذبين. ثم بين تعالى أمرهم فقال: " الذين يكذبون بيوم الدين " أي بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد. (وما يكذب به إلا كل معتد أثيم) أي فاجر جائز عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله. وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما لقوله تعالى: (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين) وقراءة العامة " تتلى " بتاءين، وقراءة أبي حيوة وأبي سماك وأشهب العقيلي والسلمي: " إذا يتلى " بالياء. وأساطير الاولين: أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها. وأحدها أسطورة وإسطارة، وقد تقدم. قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15) ثم إنهم لصالوا الجحيم (16) ثم يقال هذا الذى كنتم به تكذبون (17) قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون): " كلا ": ردع وزجر، أي ليس هو أساطير الاولين. وقال الحسن: معناها حقا " ران على قلوبهم ". وقيل: في الترمذي: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلو على قلبه)، وهو (الران) الذي ذكر الله في كتابه: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون "). قال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب. قال مجاهد: هو الرجل يذنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تغشى الذنوب قلبه. قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة: " بلى من كسب سيئة " [ البقرة: 81 ] الآية. ونحوه عن الفراء، قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. وروي عن مجاهد أيضا قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أدنب العبد الذنب انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذنب الذنب انقبض، وضم (1) راجع ج 2 ص 11 (*)
[ 260 ]
أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين، ثم قرأ: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ". ومثله عن حذيقة رضي الله عنه سواء. وقال بكر بن عبد الله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الابرة، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل، أو كالغربال، لا يعي خيرا، ولا يثبت فيه صلاح. وقد بينا في " البقرة " (1) القول في هذا المعنى بالاخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لاعادتها. وقد روى عبد الغني بن سعيد عن موسى ابن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته، قال: هو الران الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يلبس في الحرب. قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل. وهذا مما لا يضمن عهدة صحته. فالله أعلم. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا. وكذلك أهل اللغة عليه، يقال: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب. قال أبو عبيدة في قوله: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " أي غلب، وقال أبو عبيد: كل ما غلبك [ وعلاك ] (2) فقد ران بك، ورانك، وران عليك، وقال الشاعر: وكم ران من ذنب على قلب فاجر * فتاب من الذنب الذي ران وانجلى ورانت الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النعاس: إذا غطاه، ومنه قول عمر في الاسيفع - أسيفع جهينة -: فأصبح قد رين به (3). أي غلبته الديون، وكان يدان، ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا، فقال: ثم لما رآه رانت به الخم‍ * - ر وأن لا ترينه باتقاء (4) فقول: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه. وقال الاموي: قد أران القوم فهم مرينون: إذا هلكت مواشيهم وهزلت. وهذا من الامر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون احتماله. قال أبو زيد يقال: قد رين بالرجل رينا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له (1) راجع ج 1 ص 188 فما بعدها. (2) [ وعلاك ]: زيادة من (اللسان: ران) تتميما لكلام أبي عبيد. (3) في النهاية لابن الاثير: أي أحاط الدين بماله. (4) البيت في (اللسان: ران) منسوبا لابي زبيد يصف سكرانا غلبت عليه الخمر. (*)
[ 261 ]
وقال. أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهذا أشد من الرين، والاقفال أشد من الطبع. الزجاج: الرين: هو كالصدأ يغشى القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غين على قلبه: غطى. والغين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيره الورق، ملتفة الاغصان. وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب. وذكر الثعلبي عن ابن عباس: " ران على قلوبهم ": أي غطى عليها. وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله. وقرأ حمزة والكسائي والاعمش وأبو بكر والمفضل " ران " بالامالة، لان فاء الفعل الراء، وعينه الالف منقلبة من ياء، فحسنت الامالة لذلك. ومن فتح فعلى الاصل، لان باب فاء الفعل في (فعل) الفتح، مثل كال وباع ونحوه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص " بل " ثم يبتدئ " ران " وقفا يبين اللام، لا للسكت. قوله تعالى: (كلا إنهم) أي حقا " إنهم " يعني الكفار (عن ربهم يومئذ) أي يوم القيامة (لمحجوبون). وقيل: " كلا " ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل " إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ". قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزله الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه: " وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة " [ القيامة: 22 - 23 ] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه، وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لاوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا. وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. وقال مجاهد في قوله تعالى: " لمحجوبون ": أي عن كرامته ورحمته ممنوعون. وقال قتادة: هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وعلى الاول الجمهور، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه. (ثم إنهم لصالو الجحيم) أي (1) الرين: هو الختم أي الطبع على القلب كما في (اللسان) مادة (رين). (*)
[ 262 ]
ملازموها، ومحترفون فيها غير خارجين منها، " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها [ النساء: 56 ] " و " كلما خبت زدناهم سعيرا " [ الاسراء: 97 ]. ويقال: الجحيم الباب الرابع من النار. (ثم يقال) لهم أي تقول لهم خزنة جهنم (هذا الذي كنتم به تكذبون) رسل الله في الدنيا. قوله تعالى: كلا إن كتاب الابرار لفي عليين (18) وما أدراك ما عليون (19) كتاب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) قوله تعالى: (كلا إن كتاب الابرار لفي عليين) " كلا " بمعنى حقا، والوقف على " تكذبون ". وقيل أي ليس الامر كما يقولون ولا كما ظنوا بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عليين. وقال مقاتل: كلا، أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه. ثم أستأنف فقال: " إن كتاب الابرار " مرفوع في عليين على قدر مرتبتهم. قال ابن عباس: أي في الجنة. وعنه أيضا قال: أعمالهم في كتاب الله في السماء. وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وروى ابن الاجلح عن الضحاك قال: هي سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شئ من أمر الله لا يعدوها، فيقولون: رب ! عبدك فلان، وهو أعلم به منهم، فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب. فذلك قوله تعالى: " كلا إن كتاب الابرار ". وعن كعب الاحبار قال: إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون. وقال قتادة أيضا: " في عليين " هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى. وقال البراء بن عازب قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليون في السماء السابعة تحت العرش). وعن ابن عباس أيضا: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق بالعرش، أعمالهم مكتوبة فيه. وقال الفراء: عليون ارتفاع بعد ارتفاع. وقيل: عليون أعلى الامكنة. وقيل: معناه علو في علو مضاعف، كأنه لا غاية له، ولذلك جمع بالواو والنون. وهو معنى قول الطبري. قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من
[ 263 ]
لفظة، كقولك: عشرون وثلاثون، والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالنون. وهي معنى قول الطبري. وقال الزجاج: إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع، كما تقول: هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وقال يونس النحوي وأحدها: علي وعلية. وقال أبو الفتح: عليين: جمع على، وهو فعيل من العلو. وكان سبيله أن يقول علية كما قالوا للغرفة علية، لانها من العلو، فلما حذف التاء من علية عوضوا منها الجمع بالواو والنون، كما قالوا في أرضين. وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم الملا الاعلى، كما يقال: فلان في بني فلان، أي هو في جملتهم وعندهم. والذي في الخبر من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة من كذا، فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه، فيقولون: ما هذا النور ؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الابرار أهل الطاعة والصدق). وفي خبر آخر: (إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء) يدل على أن عليين اسم الموضع المرتفع. وروى ناس عن ابن عباس في قوله " عليين " قال: أخبر أن أعمالهم وأرواحهم في السماء الرابعة. ثم قال: (وما أدراك ما عليون) أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شئ عليون ؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ثم فسره له فقال: " كتاب مرقوم يشهده المقربون ". وقيل: إن (كتاب مرقوم) ليس تفسيرا لعليين، بل تم الكلام عند قوله " عليون " ثم ابتدأ وقال: " كتاب مرقوم " أي كتاب الابرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار، قاله القشيري. وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد، فيستقبلونه (1) فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين. (1) فيستقبلونه: كذا في ا، ب، ح، ط، ل. (*)
[ 264 ]
قوله تعالى: (يشهده المقربون) أي يشهد عمل الابرار مقربو كل سماء من الملائكة. وقال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صعدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلالا في السموات كنور الشمس في الارض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله: " يشهده المقربون " أي يشهد كتابتهم. قوله تعالى: إن الابرار لفي نعيم (22) على الارائك ينظرون (23) تعرف في وجوههم نضرة النعيم (24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (26) ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب بها المقربون (28) قوله تعالى: (إن الابرار) أي أهل الصدق والطاعة. (لفي نعيم) أي نعمة، والنعمة بالفتح: التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى. أي إن الابرار في الجنات يتنعمون. (على الارائك) وهي الاسرة في الحجال (ينظرون) أي إلى ما أعد الله لهم من الكرامات، قاله عكرمة وابن عباس ومجاهد. وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (ينظرون إلى أعدائهم في النار) ذكره المهدوي. وقيل: على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله. قوله تعالى: (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) أي بهجته وغضارته ونوره، يقال: نضر النبات: إذا آزهر ونور. وقراءة العامة " تعرف " بفتح التاء وكسر الراء " نضرة " نصبا، أي تعرف يا محمد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وابن أبي إسحاق: " تعرف " بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول " نضرة " رفعا. (يسقون من رحيق) أي من شراب لا غش فيه. قاله الاخفش والزجاج. وقيل، الرحيق الخمر الصافية. وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر. والمعنى واحد. الخليل: أقصى (1) الخمر وأجودها. وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان: (1) كذا في الاصول كلها ولعل الصواب: أصفى الحمر. (*)
[ 265 ]
يسقون من ورد البريص عليهم * بردي يصفق بالرحيق السلسل (1) وقال آخر (2): أم لا سبيل إلى الشباب وذكره * أشهى إلي من الرحيق السلسل (مختوم ختامه مسك) قال مجاهد: يختم به آخر جرعة. وقيل: المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس، أنختم ذلك بخاتم المسك. وكان ابن مسعود يقول: يجدون عاقبتها طعم المسك. ونحوه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي قالا: ختامه آخر طعمه. وهو حسن، لان سبيل الاشربة أن يكون الكدر في آخرها، فوصف شراب أهل الجنة بأن رائحة آخره رائحة المسك. وعن مسروق عن عبد الله قال: المختوم الممزوج. وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الابرار. وقرأ علي وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي " خاتمه " بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: أجعل خاتمه مسكا، تريد آخره. والخاتم والختام متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر، قاله الفراء. وفي الصحاح: والختام: الطين الذي يختم به. وكذا قال مجاهد وابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين. حكاه المهدوي. وقال الفرزدق: * وبت أفض أغلاق الختام (3) * وقال الاعشى: * وأبرزها وعليها ختم (4) * أي عليها طينة مختومة، مثل نفض بمعنى منفوض، وقبض بمعنى مقبوض. وذكر ابن المبارك وابن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: " ختامه مسك ": خلطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خلطه من الطيب كذا وكذا. (1) تقدم شرح البيت بهامش ص 141 من هذا الجزء. (2) هو أبو كبير الهذلي. (3) صدر البيت: * فبتن جنابتي مصرعات * (4) صدره: * وصهباء طاف يهوديها * (*)
[ 266 ]
إنما خلطه مسك، قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها. وروى أبي بن كعب قال: قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم ؟ قال: (غدران الخمر). وقيل: مختوم في الآنية، وهو غير الذي يجري في الانهار. فالله أعلم. (وفط ذلك) أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنة (فليتنافس المتنافسون) أي فليرغب الراغبون يقال: نفست عليه الشئ أنفسه نفاسة: أي ضننت به، ولم أحب أن يصير إليه. وقيل: الفاء بمعنى إلى، أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل، نظيره: " لمثل هذا فليعمل العاملون ". (ومزاجه) أي ومزاج ذلك الرحيق (من تسنيم) وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. وروي عن عبد الله قال: تسنيم عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب. وقال ابن عباس في قوله عز وجل: " ومزاجه من تسنيم " قال: هذا مما قال الله تعالى: " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " [ السجدة: 17 ]. وقيل: التسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها، فإذا امتلات أمسك الماء، فلا تقع منه قطرة على الارض، ولا يحتاجون إلى الاستقاء، قاله قتادة، ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش. وكذا في مراسيل الحسن. وقد ذكرناه في سورة " الانسان " (1). (عينا يشرب بها المقربون) أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة، صرفا، وهي لغيرهم مزاج. و " عينا " نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال من تسنيم، وتسنيم معرفة، ليس يعرف له اشتقاق، وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام ف‍ " - عينا " نصب، لانه مفعول به، كقوله تعالى: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما " [ البلد: 14 - 15 ] وهذا قول الفراء إنه منصوب بتسنيم. وعند الاخفش ب‍ " - يسقون " أي يسقون عينا أو من عين. وعند المبرد بإضمار أعني على المدح. (1) راجع ص 120 من هذا الجزء. (*)
[ 267 ]
قوله تعالى: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون (29) وإذا مروا بهم يتغامزون (30) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين (31) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون (32) وما أرسلوا عليهم حافظين (33) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون (34) على الارائك ينظرون (35) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون (36) قوله تعالى: (إن الذين أجرموا) وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك. روى ناس عن ابن عباس قال: هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والاسود بن عبد يغوث، والعاص ابن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأولئك (كانوا من الذين آمنوا) من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل عمار، وخباب وصهيب وبلال (يضحكون) على وجه السخرية. (وإذا مروا بهم) عند إتيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (يتغامزون): يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم. وقيل: أي يعيرونهم بالاسلام ويعيبونهم به يقال: غمزت الشئ بيدي، قال: وكنت إذا غمزت قناة قوم * كسرت كعوبها أو تستقيما وقالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد غمزني، فقبضت رجلي. الحديث، وقد مضى في " النساء " (1). وغمزته بعيني. وقيل: الغمز: بمعنى العيب، يقال غمزه: أي عابه، وما في فلان غمزة أي عيب. وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب جاء في نفر من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلمزهم المنافقون، وضحكوا عليهم وتغامزوا. (وإذا انقلبوا) أي أنصرفوا إلى أهلهم وأصحابهم وذويهم (انقلبوا فكهين) أي معجبين منهم. وقيل: معجبون بما هم عليه من الكفر، متفكهون بذكر المؤمنين. وقرأ ابن القعقاع وحفص والاعرج والسلمي: " فكهين " بغير ألف. الباقون بألف. قال الفراء: هما لغتان مثل (1) راجع ج 5 ص 226. (*)
[ 268 ]
طمع وطامع وحذر وحاذر، وقد تقدم في سورة " الدخان " (1) والحمد لله. وقيل: الفكه: الاشر البطر والفاكه: الناعم المتنعم. (وإذا رأوهم) أي إذا رأى هؤلاء الكفار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (قالوا إن هؤلاء لضالون) في اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم (وما أرسلوا عليهم حافظين) لاعمالهم، موكلين بأحوالهم، رقباء عليهم). (فاليوم) يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامة (الذين آمنوا) بمحمد صلى الله عليه وسلم (من الكفار يضحكون) كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. نظيره في آخر سورة " المؤمنين " (2) وقد تقدم. وذكر ابن المبارك: أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى: " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " قال: ذكر لنا أن كعبا كان يقول إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى، قال الله تعالى في آية أخرى: " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " [ الصافات: 55 ] قال: ذكر لنا أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وذكر ابن المبارك أيضا: أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى: " الله يستهزئ بهم " [ البقرة: 15 ] قال: يقال لاهل النار وهم في النار: اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الارائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله " الله يستهزئ بهم " [ البقرة: 15 ] ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله تعالى: " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ". (على الارائك ينظرون. هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) وقد مضى هذا في أول سورة " البقرة " (3). ومعنى " هل ثوب " أي هل جوزي بسخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك. وقيل: إنه متعلق ب‍ " - ينظرون " أي ينظرون: هل جوزي الكفار ؟ فيكون معنى هل [ التقرير ] وموضعها نصبا ب‍ " - ينظرون ". وقيل: استئناف لا موضع له من الاعراب. وقيل: هو إضمار على القول، والمعنى، يقول بعض المؤمنين لبعض: " هل ثوب الكفار " أي أثيب وجوزي. وهو من ثاب يثوب أي رجع، فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر. ختمت السورة والله أعلم. (1) راجع ج 16 ص 139 (2) راجع ج 12 ص 155. (3) راجع ج 1 ص 208 (*)
[ 269 ]
سورة الانشقاق مكية في قول الجميع وهي خمس وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: إذا السماء انشقت (1) وأذنت لربها وحقت (2) وإذا الارض مدت (3) وألقت ما فيها وتخلت (4) وأذنت لربها وحقت (5) قوله تعالى: (وإذا السماء انشقت) أي انصدعت، وتفطرت بالغمام، والغمام مثل السحاب الابيض. وكذا روى أبو صالح عن ابن عباس. وروى عن علي عليه السلام قال: تشق من المجرة. وقال: المجرة باب السماء. وهذا من أشراط الساعة وعلاماتها. (وأذنت لربها وحقت) أي سمعت، وحق لها أن تسمع. روى معناه عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن " أي ما استمع الله لشئ قال الشاعر: صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا أي سمعوا. وقال قعنب ابن أم صاحب: إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا * وما هم أذنوا من صالح دفنوا وقيل: المعنى وحقق الله عليها الاستماع لامره بالانشقاق. وقال الضحاك: حقت: أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها، لانه خلقها، يقال: فلان محقوق بكذا. وطاعة السماء: بمعنى أنها لا تمتنع مما أراد الله بها، ولا يبعد خلق الحياة فيها حتى تطيع وتجيب. وقال قتادة: حق لها أن تفعل ذلك، ومنه قول كثير: فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا * وحقت لها العتبى لدينا وقلت
[ 270 ]
قوله تعالى: (وإذا الارض مدت) أي بسطت ودكت جبالها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمد مد الاديم) لان الاديم إذا مد زال كل آنثناء فيه وامتد واستوى. قال ابن عباس وابن مسعود: ويزاد وسعتها كذا وكذا، لوقوف الخلائق عليها للحساب حتى لا يكون لاحد من البشر إلا موضع قدمه، لكثرة الخلائق فيها. وقد مضى في سورة " إبراهيم " (1) أن الارض تبدل بأرض أخرى وهي الساهرة في قول ابن عباس على ما تقدم عنه (2). (وألقت ما فيها وتخلت) أي أخرجت أمواتها، وتخلت عنهم. وقال ابن جبير: ألقت ما في بطنها من الموتى، وتخلت ممن على ظهرها من الاحياء. وقيل: ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها، وتخلت منها. أي خلا جوفها، فليس في بطنها شئ، وذلك يؤذن بعظم الامر، كما تلقى الحامل ما في بطنها عند الشدة. وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها. وقيل: ألقت ما استودعت، وتخلت مما استحفظت، لان الله تعالى استودعها عباده أحياء وأمواتا، وأستحفظها بلاده مزارعة وأقواتا. (وأذنت لربها) أي في إلقاء موتاها (وحقت) أي وحق لها أن تسمع أمره. وأختلف في جواب " إذا " فقال الفراء: " أذنت ". والواو زائدة، وكذلك " وألقت ". ابن الانباري: قال بعض المفسرين: جواب " إذا السماء انشقت " " أذنت "، وزعم أن الواو مقحمة وهذا غلط، لان العرب لا تقحم الواو إلا مع " حتى - إذا " كقوله تعالى: " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " [ الزمر: 71 ] ومع " لما " كقوله تعالى: " فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه " [ الصافات: 103 - 104 ] معناه " ناديناه " والواو لا تقحم مع غير هذين. وقيل: الجواب فاء مضمرة كأنه قال: " إذا السماء انشقت " فيأيها الانسان إنك كادح. وقيل: جوابها ما دل عليه " فملاقيه " أي إذا السماء انشقت لاقى الانسان كدحه. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي " يأيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " " إذا السماء انشقت ". قاله المبرد. وعنه أيضا: الجواب " فأما من أوتي كتابه بيمينه " وهو قول الكسائي، أي إذا السماء انشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح (1) راجع ج 9 ص 383. (2) راجع ص 196 من هذا الجزء. (*)
[ 271 ]
ما قيل فيه وأحسنه. قيل: هو بمعنى اذكر " إذا السماء انشقت ". وقيل: الجواب محذوف لعلم المخاطبين به، أي إذا كانت هذه الاشياء علم المكذبون بالبعث ضلالتهم وخسرانهم. وقيل: تقدم منهم سؤال عن وقت القيامة، فقيل لهم: إذا ظهرت أشراظها كانت القيامة، فرأيتم عاقبة تكذيبكم بها. والقرآن كالآية الواحدة في دلالة البعض على البعض. وعن الحسن: إن قوله " إذا السماء انشقت " قسم. والجمهور على خلاف قوله من أنه خبر وليس بقسم. قوله تعالى: يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (6) فأما من أوتى كتابه بيمنه (7) فسوف يحاسب حسابا يسيرا (8) وينقلب إلى أهله مسرورا (9) قوله تعالى: (يأيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا) المراد بالانسان الجنس أي يا ابن آدم. وكذا روى سعيد عن قتادة: يا ابن آدم، إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله. وقيل: هو معين، قال مقاتل: يعني الاسود بن عبد الاسد. ويقال: يعني أبي بن خلف. ويقال: يعني جميع الكفار، أيها الكافر إنك كادح. والكدح في كلام العرب: العمل والكسب، قال ابن مقبل: وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح وقال آخر: ومضت بشاشة كل عيش صالح * وبقيت أكدح للحياة وأنصب أي أعمل. وروى الضحاك عن ابن عباس: " إنك كادح " أي راجع " إلى ربك كدحا أي رجوعا لا محالة (فملاقيه) أي ملاق ربك. وقيل: ملاق عملك. القتبي " إنك كادح " أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك. والملاقاة بمعنى اللقاء أن تلقى ربك بعملك. وقيل أي تلاقي كتاب عملك، لان العمل قد انقضى ولهذا قال: (فأما من أوتى كتابه بيمينه).
[ 272 ]
قوله تعالى: " فأما من أوتي كتابه بيمينه " وهو المؤمن (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) لا مناقشة فيه. كذا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حوسب يوم القيامة عذب) قالت: فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله " فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا " فقال: " ليس ذاك الحساب، إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. (وينقلب إلى أهله مسرورا) أزواجه في الجنة من الحور العين " مسرورا " أي مغتبطا قرير العين. ويقال إنها نزلت في أبي سلمة ابن عبد الاسد، هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة. وقيل: إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا، ليخبرهم بخلاصه وسلامته. والاول قول قتادة. أي إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة. قوله تعالى: وأما من أوتى كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعوا ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13) إنه ظن أن لن يحور (14) بلى إن ربه كان به بصيرا (15) قوله تعالى: (واما من أوتى كتابه وراء ظهره) نزلت في الاسود بن عبد الاسد أخي أبي سلمة قاله ابن عباس. ثم هي عامة في كل مؤمن وكافر. قال ابن عباس: يمد يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه ملك، فيخلع يمينه، فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره. وقال قتادة ومقاتل: يفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك. (فسوف يدعو ثبورا) أي بالهلاك فيقول: يا ويلاه، يا ثبوراه. (ويصلى سعيرا) أي ويدخل النار حتى يصلى بحرها. وقرأ الحرميان وابن عامر والكسائي " ويصلى " بضم الياء وفتح الصاد، وتشديد اللام، كقوله تعالى: " ثم الجحيم صلوه " [ الحاقة: 31 ] وقوله: " وتصلية جحيم " [ الواقعة: 94 ]. الباقون " ويصلى " بفتح الياء مخففا، فعل لازم غير متعد، لقوله: " إلا من هو صال الجحيم " [ الصافات: 163 ] وقوله: " يصلى النار الكبرى " [ الاعلى: 12 ] وقوله: " ثم إنهم لصالوا الجحيم " [ المطففين: 16 ]. وقراءة ثالثة رواها أبان
[ 273 ]
عن عاصم وخارجة عن نافع وإسمعيل المكي عن ابن كثير " ويصلى " بضم الياء وإسكان الصاد وفتح اللام مخففا، كما قرئ " وسيصلون " بضم الياء، وكذلك في " الغاشية " قد قرئ أيضا: " تصلى نارا " وهما لغتان صلى وأصلى، كقوله: " نزل. وأنزل ". (إنه كان في أهله) أي في الدنيا (مسرورا) قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله تعالى: " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ". قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه. فقال: " إنه كان في أهله مسرورا " (إنه ظن أن لن يحور) أي لن يرجع حيا مبعوثا فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب. يقال: حار يحور إذا رجع، قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه * يحور رمادا بعد إذا هو ساطع وقال عكرمة وداود بن أبي هند، يحور كلمة بالحبشية، ومعناها يرجع. ويجوز أن تتفق الكلمتان فإنهما كلمة اشتقاق، ومنه الخبز الحوارى، لانه يرجع إلى البياض. وقال ابن عباس: ما كنت أدري: ما يحور ؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حوري، أي ارجعي إلي، فالحور في كلام العرب الرجوع، ومنه قوله عليه السلام: " اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور " يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم. وفي المثل " حور في محارة " (1) أي نقصان في نقصان. يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر، قال الشاعر (2): واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا * والذم يبقى وزاد القوم في حور والحور أيضا: الاسم من قولك: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا، أي ما ردت شيئا من الدقيق. والحور أيضا الهلكة، قال الراجز: (3) * في بئر لا حور سرى ولا شعر * (1) أي حور في حور فمحاورة: مصدر ميمي بمعنى الحور. (2) قائله سبيع بن الخطيم يريد الاكل يذهب والذم يبقى. (3) هو العجاج. (*)
[ 274 ]
قال أبو عبيدة: أي بئر حور، و " لا " زائدة. وروى " بعد الكون " (1) ومعناه من انتشار الامر بعد تمامه. وسئل معمر عن الحور بعد الكون، فقال: هو الكنتي. فقال له عبد الرزاق: وما الكنتي ؟ فقال: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتي، كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال: فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا * وشر خصال المرء كنت وعاجن عجن الرجل: إذا نهض معتمدا على الارض من الكبر. وقال ابن الاعرابي: الكنتي: هو الذي يقول: كنت شابا، وكنت شجاعا، والكاني هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب. قوله تعالى: (بلى) أي ليس الامر كما ظن، بل يحور إلينا ويرجع. (إن ربه كان به بصيرا) قبل أن يخلقه، عالما بأن مرجعه إليه. وقيل: بلى ليحورن وليرجعن. ثم استأنف فقال: " إن ربه كان به بصيرا " من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقيل: عالما بما سبق له من الشقاء والسعادة. قوله تعالى: فلا أقسم بالشفق (16) والليل وما وسق (17) والقمر إذا اتسق (18) لتركبن طبقا عن طبق (19) فما لهم لا يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (21) قوله تعالى: (فلا أقسم) أي فأقسم و " لا " صلة. (بالشفق) أي بالحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة. قال أشهب وعبد الله بن الحكم ويحيى بن يحيى وغيرهم، كثير عددهم عن مالك: الشفق الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجت من وقت المغرب ووجبت صلاة العشاء. وروى ابن وهب قال: أخبرني غير واحد عن علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس (1) الكون هنا: مصدر كان التامة بقال: كان يكون كونا: أي وجد واستقر. (النهاية). (*)
[ 275 ]
وأبي هريرة: أن الشفق الحمرة، وبه قال مالك بن أنس. وذكر غير ابن وهب من الصحابة: عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنسا وأبا قتادة وجابر بن عبد الله وابن الزبير، ومن التابعين: سعيد بن جبير، وابن المسيب وطاوس، وعبد الله بن دينار، والزهري، وقال به من الفقهاء الاوزاعي ومالك والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وأبو عبيدة وأحمد وإسحاق وقيل: هو البياض، روى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة أيضا وعمر بن عبد العزيز والاوزاعي وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه. وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه. وروى عن ابن عمر أيضا أنه البياض والاختيار الاول، لان أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه، ولان شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ: كأنه الشفق وكان أحمر، فهذا شاهد للحمرة، وقال الشاعر: * وأحمر اللون كمحمر الشفق * وقال آخر: قم يا غلام أعني غير مرتبك * على الزمان بكأس حشوها شفق ويقال للمغرة الشفق. وفي الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة. قال الخليل: الشفق: الحمرة، من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، إذا ذهب قيل: غاب الشفق. ثم قيل: أصل الكلمة من رقة الشئ، يقال: شئ شفق أي لا تماسك له لرقته. وأشفق عليه. أي رق قلبه عليه، والشفقة: الاسم من الاشفاق، وهو رقة القلب، وكذلك الشفق، قال الشاعر (1): تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا * والموت أكرم نزال على الحرم فالشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتها فكأن تلك الرقة عن ضوء الشمس. وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا. وقال الخليل: صعدت منارة الاسكندرية فرمقت البياض، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أبي اويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر (1) هو لاسحاق بن خلف. وقيل هو لابن المعلى. اللسان. (*)
[ 276 ]
قال علماؤنا: فلما لم يتحدد وقته سقط اعتباره. وفي سنن أبي داود عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر الثالثة. وهذا تحديد، ثم الحكم معلق بأول الاسم. لا يقال: فينقض عليكم بالفجر الاول، فإنا نقول الفجر الاول لا يتعلق به حكم من صلاة ولا إمساك، لان النبي صلى الله عليه وسلم بين الفجر بقوله وفعله فقال: " وليس الفجر أن تقول هكذا - فرفع يده إلى فوق - ولكن الفجر أن تقول هكذا وبسطها " وقد مضى بيانه في آية الصيام من سورة " البقرة " (1)، فلا معنى للاعادة. وقال مجاهد: الشفق: النهار كله ألا تراه قال " والليل وما وسق ". وقال عكرمة: ما بقى من النهار. والشفق أيضا: الردئ من الاشياء، يقال: عطاء مشفق أي مقلل قال الكميت: ملك أغر من الملوك تحلبت * للسائلين يداه غير مشفق قوله تعالى: (والليل وما وسق) أي جمع وضم ولف، وأصله من سورة السلطان وغضبه فلولا أنه خرج إلى العباد من باب الرحمة ما تمالك العباد لمجيئه ولكن خرج من باب الرحمة فمزح بها، فسكن الخلق إليه ثم ابذعروا ؟ والتفوا وانقبضوا، ورجع كل إلى مأواه فسكن فيه من هوله وحشا، وهو قوله تعالى: " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه " [ القصص: 73 ] أي بالليل " ولتبتغوا من فضله " [ القصص: 73 ] أي بالنهار على ما تقدم. فالليل يجمع ويضم ما كان منتشرا بالنهار في تصرفه. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم، قال ضابئ ابن الحارث البرجمي: فإني وإياكم وشوقا إليكم * كقابض ماء لم تسقه أنامله يقول: ليس في يده من ذلك شئ كما أنه ليس في يد القابض على الماء شئ، فإذا جلل الليل الجبال والاشجار والبحار والارض فاجتمعت له، فقد وسقها. والوسق: ضمك الشئ (1) راجع ج 2 ص 318 فما بعدها. (*)
[ 277 ]
بعضه إلى بعض، تقول: وسقته أسقه وسقا. ومنه قيل للطعام الكثير المجتمع: وسق، وهو ستون صاعا. وطعام موسق: أي مجموع، وإبل مستوسقة أي مجتمعة، قال الراجز (1): إن لنا قلائصا حقائقا * مستوسقات لو يجدن سائقا وقال عكرمة: " وما وسق " أي وما ساق من شئ إلى حيث يأوى، فالوسق بمعنى الطرد، ومنه قيل للطريدة من الابل والغنم والحمر: وسيقة، قال الشاعر (2): * كما قاف آثار الوسيقة قائف * وعن ابن عباس: " وما وسق " أي وما جن وستر. وعنه أيضا: وما حمل، وكل شئ حملته فقد وسقته، والعرب تقول: لا أفعله ما وسقت عيني الماء، أي حملته. ووسقت الناقة تسق وسقا: أي حملت وأغلقت رحمها على الماء، فهي ناقة واسق، ونوق وساق مثل نائم ونيام، وصاحب وصحاب، قال بشر بن أبي خازم: ألظ بهن يحدوهن حتى * تبينت الحيال من الوساق ومواسيق أيضا. وأوسقت البعير: حملته حمله، وأوسقت النخلة: كثر حملها. وقال يمان والضحاك ومقاتل بن سليمان: حمل من الظلمة. قال مقاتل: أو حمل من الكواكب. القشيري: ومعنى حمل: ضم وجمع، والليل يجلل بظلمته كل شئ فإذا جللها فقد وسقها. ويكون هذا القسم قسما بجميع المخلوقات، لاشتمال الليل عليها، كقوله تعالى: " فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون " [ الحاقة: 38 - 39 ]. وقال ابن جبير: " وما وسق " أي وما عمل فيه، يعني التهجد والاستغفار بالاسحار، قال الشاعر: ويوما ترانا صالحين وتارة * تقوم بنا كالواسق المتلبب أي كالعامل. (1) هو العجاج كما في اللسان مادة (وسق). (2) قائلة الاسود بن يعفر وصدره: * كذبت عليك لا تزال تقوفنى * (*)
[ 278 ]
قوله تعالى: (والقمر إذا اتسق) أي تم وأجتمع واستوى. قال الحسن: أتسق: أي أمتلا واجتمع. ابن عباس: استوى. قتادة: استدار. الفراء: اتساقه: امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر، وهو افتعال من الوسق الذي هو الجمع، يقال: وسقته فاتسق، كما يقال: وصلته فاتصل، ويقال: أمر فلان متسق: أي مجتمع على الصلاح منتظم. ويقال: اتسق الشئ: إذا تتابع: (لتركبن طبقا عن طبق) قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخعي والشعبي وابن كثير وحمزة والكسائي " لتركبن " بفتح الباء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتركبن يا محمد حالا بعد حال، قاله ابن عباس. الشعبي: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورتبه بعد رتبة، في القربة من الله تعالى. ابن مسعود: لتركبن السماء حالا بعد حال، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانشقاق والطي وكونها مرة كالمهل ومرة كالدهان. وعن إبراهيم عن عبد الاعلى: " طبقا عن طبق " قال: السماء تقلب حالا بعد حال. قال: تكون وردة كالدهان، وتكون كالمهل، وقيل: أي لتركبن أيها الانسان حالا بعد حال، من كونك نطفة ثم علقه ثم مضغة ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا. فالخطاب للانسان المذكور في قوله: " يأيها الانسان إنك كادح " هو اسم للجنس، ومعناه الناس. وقرأ الباقون " لتركبن " بضم الباء، خطابا للناس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: لان المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتى كتابه بيمينه ومن أوتى كتابه بشماله. أي لتركبن حالا بعد حال من شدائد القيامة، أو لتركبن سنة من كان قبلكم في التكذيب واختلاق على الانبياء. قلت: وكله مراد، وقد جاءت بذلك أحاديث (1)، فروى أبو نعيم الحافظ عن جعفر بن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه، قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل، إن الله لا إله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله، واكتب شقيا أو سعيدا، ثم يرتفع ذلك الملك، ويبعث الله ملكا (1) راجع ج 17 ص 14. (*)
[ 279 ]
آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه، فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده، ثم يرتفع ملك الموت، ثم جاءه ملكا، القبر فامتحناه، تم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فأنشطا كتابا معقودا في عنقه، ثم حضرا معه، واحد سائق والآخر شهيد) ثم قال الله عز وجل " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد " [ ق: 22 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتركبن طبقا عن طبق " قال: (حالا بعد حال) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم) فقد اشتمل هذا الحديث على أحوال تعتري الانسان، من حين يخلق إلى حين يبعث، وكله شدة بعد شدة، حياة ثم موت، ثم بعث ثم جزاء، وفي كل حال من هذه شدائد. وقال صلى الله عليه وسلم: (لتركبن (1) سنن من قبلكم شبرا بشبرا، وذراعا بذارع، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال: فمن ؟ خرجه البخاري: وأما أقوال المفسرين، فقال عكرمة: حالا بعد حال، فطيما بعد رضيع، وشيخا بعد شباب، قال الشاعر: كذلك المرء إن ينسأله أجل * يركب على طبق من بعده طبق وعن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه: وقال الحسن: أمرا بعد أمر، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غني، وصحة بعد سقم، وسقما بعد صحة: سعيد بن جبير: منزلة بعد منزلة، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة: وقيل: منزلة عن منزلة، وطبقا عن طبق (2)، وذلك، أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لان كل شئ يجري إلى شكله: ابن زيد: ولتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة: وقال ابن عباس: الشدائد والاهوال: الموت، ثم البعث، ثم العرض، (1) رواية البخاري (لتتبعن) بدل (لتركبن). (2) في ا، ح، ط، ل: طبقة. (*)
[ 280 ]
والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد: وقع في بنات طبق، وإحدى بنات طبق، ومنه قيل للداهية الشديدة: أم طبق، وإحدى بنات طبق: وأصلها من الحيات، إذ يقال للحية أم طبق لتحويها: والطبق في اللغة: الحال كما وصفنا، قال الاقرع بن حابس التميمي: إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره * وساقني طبق منه إلى طبق وهذا أدل دليل على حدوث العالم، وإثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة، وغدا على حالة أخرى فليعلم أن تدييره إلى سواه: وقيل لابي بكر الوراق: ما الدليل على أن لهذا العالم صانعا ؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوة، وضعف الاركان، وقهر النية: ونسخ العزيمة: ويقال: أتانا طبق من الناس وطبق من الجراد: أي جماعة: وقول العباس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: تنقل من صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق أي قرن من الناس. يكون طباق الارض أي ملاها. والطبق أيضا: عظم رقيق يفصل بين الفقارين. ويقال: مضى طبق من الليل، وطبق من النهار: أي معظم منه. والطبق: واحد الاطباق، فهو مشترك. وقرئ " لتركبن " بكسر الباء، على خطاب النفس و " ليركبن " بالياء على ليركبن الانسان. و " عن طبق " في محل نصب على أنه صفة ل‍ " - طبقا " أي طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في " لتركبن " أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق، أو مجاوزا أو مجاوزة على حسب القراءة. قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنن) يعني أي شئ يمنعهم من الايمان بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات. وهذا استفهام إنكار. وقيل: تعجب أي اعجبوا منهم في ترك الايمان مع هذه الآيات. قوله تعالى: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) أي لا يصلون. وفي الصحيح: إن أبا هريرة قرأ " إذا السماء انشقت " فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. وقد قال مالك: إنها ليست من عزائم السجود، لان [ المعنى ] (1) (1) [ المعنى ]: ساقطة من ا، ح، و. (*)
[ 281 ]
لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. ابن العربي: والصحيح أنها منه، وهي رواية المدنيين عنه، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة. قال ابن العربي: لما أممت بالناس تركت قراءتها، لاني إن سجدت أنكروه، وإن تركتها كان تقصيرا مني، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي. وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: (لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت البيت، ولرددته على قواعد إبراهيم). ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله الشيعة، فحضر عندي يوما في محرس ابن الشواء بالثغر - موضع تدريسي - عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعدا على طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب تخت الميناء، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا ؟ فقوموا إليه فاقتلوه وارموا به إلى البحر، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله هذا الطرطوشي فقيه الوقت. فقالوا لي: ولم يرفع يديه ؟ فقلت: كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذا مذهب مالك، في رواية أهل المدينة عنه. وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من المحرس، ورأى تغير وجهي، فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك وقال: ومن أين لي أن أقتل على سنة ؟ فقلت له: ولا يحل لك هذا، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك. فقال: دع هذا الكلام، وخذ في غيره. قوله تعالى: بل الذين كفروا يكذبون (22) والله أعلم بما يوعون (23) فبشرهم بعذاب أليم (24) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (25)
[ 282 ]
قوله تعالى: (بل الذين كفروا يكذبون) محمدا صلى الله عليه وسلم وما جاء به. وقال مقاتل: نزلت في بني عمرو بن عمير وكانوا أربعة، فأسلم اثنان منهم. وقيل: هي في جميع الكفار. (والله أعلم بما يوعون) أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد: يكتمون من أفعالهم. ابن زيد: يجمعون من الاعمال الصالحة والسيئة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه، يقال: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء، قال الشاعر: الخير أبقى وإن طال الزمان به * والشر أخبث ما أوعيت من زاد ووعاه أي حفظه، تقول: وعيت الحديث أعيه وعيا، وأذن واعية. وقد تقدم (1). (فبشرهم بعذاب اليم) أي موجع في جهنم على تكذيبهم. أي اجعل ذلك بمنزلة البشارة. (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعملوا الصالحات، أي أدوا الفرائض المفروضة عليهم " لهم أجر " أي ثواب " غير ممنون " أي غير منقوص ولا مقطوع، يقال: مننت الحبل: إذا قطعته. وقد تقدم (2). وسأل نافع بن الازرق ابن عباس عن قوله: (لهم اجر غير ممنون) فقال: غير مقطوع. فقال: هل تعرف ذلك العرب ؟ قال: نعم قد عرفه أخو يشكر حيث يقول (3): فترى خلفهن من سرعة الرج‍ * - ع منينا كأنه أهباء قال المبرد: المنين: الغبار، لانها تقطعه وراءها. وكل ضعيف منين وممنون. وقيل: " غير ممنون " لا يمن عليهم به. وذكر ناس من أهل العلم أن قوله: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ليس استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا. وقد مضى في " البقرة " (4) القول فيه والحمد لله. تمت سورة الانشقاق. (1) راجع ج 18 ص 263 (2) راجع ج 15 ص 341. (3) تقدم هذا البيت بلفظ: فترى حتفها من الرجع وال‍ * - ع منينا... الخ. (4) راجع ج 2 ص 169. (*)
[ 283 ]
سورة البروج مكية باتفاق. وهي ثنتان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والسماء ذات البروج (1) قسم أقسم الله به عز وجل. وفي " البروج " أقوال أربعة: أحدها - ذات النجوم، قاله الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. الثاني - القصور، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد أيضا. قال عكرمة: هي قصور في السماء. مجاهد: البروج فيها الحرس. الثالث - ذات الخلق الحسن، قال المنهال بن عمرو. الرابع: ذات المنازل، قاله أبو عبيدة ويحيى ابن سلام. وهي أثنا عشر برجا، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر. يسير القمر في كل برج منها يومين وثلت يوم، فذلك ثمانية وعشرون يوما، ثم يستسر (1) ليلتين، وتسير الشمس في كل برج منها شهرا. وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والاسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس والجدي، والدلو، والحوت. والبروج في كلام العرب: القصور، قال الله تعالى، " ولو كنتم في بروج مشيدة " [ النساء: 78 ]. وقد تقدم (2). قوله تعالى: واليوم الموعود (2) وشاهد ومشهود (3) قوله تعالى: (اليوم الموعود) أي الموعود به. وهو قسم آخر، وهو يوم القيامة، من غير اختلاف بين أهل التأويل. قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الارض أن يجتمعوا فيه. (وشاهد ومشهود) اختلف فيهما، فقال علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. وهو قول الحسن. (1) سرر الشهر (بفتحتين): آخر ليلة منه وهو مشتق من قولهم: استمر القمر أي خفى ليلة السرار فربما كان ليلة وربما كان ليلتين. (2) راجع ج 5 ص 82 (*)
[ 284 ]
ورواه أبو هريرة مرفوعا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة...) خرجه أبو عيسى الترمذي في جامعه، وقال: هذا حديث [ حسن ] (1) غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى ابن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وقد روى شعبة وسفيان الثوري وغير واحد من الائمة عنه. قال القشيري فيوم الجمعة يشهد على كل عامل بما عمل فيه. قلت: وكذلك سائر الايام والليالي، فكل يوم شاهد، وكذا كل ليلة، ودليله ما رواه أبو نعيم الحافظ عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادي فيه: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شهيد، فاعمل في خيرا أشهد لك به غد، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك). حديث غريب من حديث معاوية، تفرد به عنه زيد العمى (2)، ولا أعلمه مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الاسناد. وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الاضحى. وقال سعيد بن المسيب: الشاهد: التروية، والمشهود: يوم عرفة. وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم النحر. وقاله النخعي. وعن علي أيضا: المشهود يوم عرفة. وقال ابن عباس والحسين ابن علي رضي الله عنهما: المشهود يوم القيامة، لقول تعالى: " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " (3) [ هود: 103 ]. (1) الزيادة من صحيح الترمذي. (2) في كتاب الانساب للسمعاتي: (العمى) بفتح العين المهملة وتشديد الميم هذه النسبة إلى العم وهو بطن من تميم. وفي التهذيب: (قال علي بن مصعب: سمى زيد العمى لانه كان كلما سئل عن شئ قال حتى أسأل عمى). (3) راجع ج 9 ص 96 (*)
[ 285 ]
قلت: وعلى هذا اختلفت أقوال العلماء في الشاهد، فقيل: الله تعالى، عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير، بيانه: " وكفى بالله شهيدا " (1) [ النساء: 79 ]، " قل أي شئ أكبر شهادة ؟ قل الله شهيد (2) بيني وبينكم " [ الانعام: 19 ]. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس أيضا والحسين ابن علي، وقرأ ابن عباس " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " (1) [ النساء: 41 ]، وقرأ الحسين " يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا (2) ومبشرا ونذيرا " [ الاحزاب: 45 ]. قلت: وأقرأ أنا " ويكون الرسول عليكم شهيدا ". وقيل: الانبياء يشهدون على أممهم، لقوله تعالى: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " (1) [ النساء: 41 ]. وقيل: أدم. وقيل: عيسى بن مريم، لقوله: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم " (4) [ المائدة: 117 ]. والمشهود: أمته. وعن ابن عباس أيضا ومحمد بن كعب: الشاهد الانسان، دليله: " كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " [ الاسراء: 14 ]. مقاتل: أعضاؤه، بيانه: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " (5) [ النور: 24 ]. الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الامة، والمشهود سائر الامم، بيانه: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " [ البقرة: 143 ]. وقيل: الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم. وقيل: الليالي والايام. وقد بيناه. قلت: وقد يشهد المال على صاحبه، والارض بما عمل عليها، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة). وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: " يومئذ تحدث أخبارها " [ الزلزلة: 4 ] قال: (أتدرون ما أخبارها) ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن أخبارها أن تشهد على (1) راجع ج 5 ص 287، 197 (2) راجع ج 6 ص 399 (3) راجع ج 14 ص 199 (4) راجع ج 2 ص 153 (5) راجع ج 6 ص 376 (*)
[ 286 ]
كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا كذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها). قال حديث حسن غريب صحيح. وقيل: الشاهد الخلق، شهدوا لله عز وجل بالوحدانية. والمشهود له بالتوحيد هو الله تعالى. وقيل: المشهود يوم الجمعة، كما روى أبو الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة...) وذكر الحديث. خرجه ابن ماجه وغيره. قلت: فعلى هذا يوم عرفة مشهود، لان الملائكة تشهده، وتنزل فيه بالرحمة (1). وكذا يوم النحر إن شاء الله. وقال أبو بكر العطار: الشاهد الحجر الاسود، يشهد لمن لمسه بصدق وإخلاص ويقين. والمشهود الحاج. وقيل: الشاهد الانبياء، والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم، بيانه: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة - إلى قوله تعالى =: وأنا معكم من الشاهدين " [ آل عمران: 81 ]. قوله تعالى: قتل أصحاب الاخدود (4) النار ذات الوقود (5) إذ هم عليها قعود (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) قوله تعالى: (قتل أصحاب الاخدود) أي لعن. قال ابن عباس: كل شئ في القرآن " قتل " فهو لعن. وهذا جواب القسم - في قول الفراء - واللام فيه مضمرة، كقوله: " والشمس وضحاها " [ الشمس: 1 ] = ثم قال = قد أفلح من زكاها " [ الشمس: 9 ]: أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي قتل أصحاب الاخدود والسماء ذات البروج، قاله أبو حاتم السجستاني. ابن الانباري: وهذا غلط لانه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسم " إن بطش ربك لشديد " وهذا قبيح، لان الكلام قد طال بينهما. وقيل: " إن الذين فتنوا ". وقيل: جواب القسم محذوف، أي والسماء ذات البروج لتبعثن. وهذا اختيار ابن الانباري. والاخدود: الشق العظيم (1) راجع ج 4 ص 124 (*)
[ 287 ]
المستطيل في الارض كالخندق، وجمعه أخاديد. ومنه الخد لمجاري الدموع، والمخدة، لان الخد يوضع عليها. ويقال: تخدد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح. قال طرفة: ووجه كأن الشمس حلت رداءها * عليه نقي اللون لم يتخدد (النار ذات الوقود) " النار " بدل من " الاخدود " بدل الاشتمال. و " الوقود " بفتح الواو قراءة العامة وهو الحطب. وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم (بضم الواو) على المصدر، أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل: ذات الوقود بأبدان الناس. وقرأ أشهب العقيلي وأبو السمال العدوي وابن السميقع " النار ذات " بالرفع فيهما، أي أحرقتهم النار ذات الوقود. (إذ هم عليها قعود) أي الذين خددوا الاخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين، وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقد اختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صهيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلى غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك، راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فاعجبه، فكان إذا أتى الساحر م بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلي، فإن أبتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الاكمه والابرص، ويداوي الناس من سائر الادواء. فسمع جليس للملك كان قد عمى، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفى أحدا، إنما
[ 288 ]
يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك ؟ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك ؟ قال ربي. قال: ولك رب غيري ؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجئ بالغلام فقال له الملك: أي بني ! أقد بلغ من سحرك ما تبرئ الاكمه والابرص، وتفعل وتفعل ؟ ! قال: أنا لا أشفى أحدا، إنما يشفى الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجئ بالراهب، فقيل له: أرجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جئ بالغلام فقيل له: أرجع عن دينك، فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو ؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه، في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام ! آمنا برب الغلام ! آمنا برب (1) القرقور) بضم القافين: السفينة الصغيرة. (2) الكنانه (بالكسر): جعبة السهام تتخذ من جلود لا خشب فيها أو من خشب لا جلود فيها. (*)
[ 289 ]
الغلام ! فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت، تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالاخدود في أفواه السكك، فحدت، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها - أو قيل له أقتحم - ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال، لها الغلام: (يا أمة اصبري فإنك على الحق). خرجه الترمذي بمعناه. وفيه: (وكان على طريق، الغلام راهب في صومعة) قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين. وفيه: (أن الدابة التي حبست الناس كانت أسدا، وأن الغلام دفن - قال - فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل). وقال: حديث حسن غريب. ورواه الضحاك عن ابن عباس قال: كان ملك بنجران، وفي رعيته رجل له فتى، فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر، وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الانجيل، فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب، فدخل في دين الراهب، فأقبل يوما فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم، فأخذ حجرا فقال باسم الله رب السموات والارض وما بينهما، فقتلها. وذكر نحو ما تقدم. وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك: لا إله إلا إله (1) عبد الله بن ثامر، وكان اسم الغلام، فغضب الملك، وأمر فخدت أخاديد، وجمع فيها حطب ونار، وعرض أهل مملكته عليها، فمن رجع عن التوحيد تركه، ومن ثبت على دينه قذفه في النار. وجئ بامرأة مرضع فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك - قال - فأشفقت وهمت بالرجوع، فقال لها الصبي المرضع: يا أمي، اثبتي على ما أنت عليه، فإنما هي غميضة، فألقوها وابنها. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن النار أرتفعت من الاخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعا فأحرقتهم. وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، أخذهم يوسف ابن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه. حكاه الماوردي، وحكى الثعلبي عنه أن أصحاب الاخدود من بني إسرائيل، أخذوا رجالا (1) في الاصول: (.. إلا الله عبد الله...) وهو تحريف. (*)
[ 290 ]
ونساء، فخدوا لهم الاخاديد، ثم أوقدوا فيها النار، ثم أقيم المؤمنون عليها. وقيل لهم: تكفرون أو تقذفون في النار ؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه، وقاله عطية العوفي. وروي نحو هذا عن ابن عباس. وقال علي رضي الله عنه: إن ملكا سكر فوقع على أخته، فأراد أن يجعل ذلك شرعا في رعيته فلم يقبلوا، فأشارت إليه أن يخطب بأن الله - عز وجل - أحل نكاح الاخوات، فلم يسمع منه. فأشارت إليه أن يخد لهم الاخدود، ويلقي فيه كل من عصاه. ففعل. قال: وبقاياهم ينكحون الاخوات وهم المجوس، وكانوا أهل كتاب. وروي عن علي أيضا أن أصحاب الاخدود كان سببهم أن نبيا بعثه الله تعالى إلى الحبشة، فاتبعه ناس، فخد لهم قومهم أخدودا، فمن اتبع النبي رمي فيها، فجئ بامرأة لها بني رضيع فجزعت، فقال لها: يا أماه، أمضي ولا تجزعي. وقال أيوب عن عكرمة قال: " قتل أصحاب الاخدود " قال: كانوا من قومك من السجستان. وقال الكلبي: هم نصارى نجران، أخذوا بها قوما مؤمنين، فخدوا لهم سبعة أخاديد، طول كل أخدود أربعون ذراعا، وعرضه أثنا عشر ذراعا. ثم طرح فيه النفط (1) والحطب، ثم عرضوهم عليها، فمن أبى قذفوه فيها. وقيل: قوم من النصارى كانوا بالقسطنطينية زمان قسطنطين. وقال مقاتل: أصحاب الاخدود ثلاثة، واحد بنجران، والآخر بالشام، والآخر بفارس. أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي، وأما الذي بفارس فبختنصر، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس. فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآنا، وأنزل قرآنا في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة، والآخر بنجران، آجر أحدهما نفسه، فجعل يعمل ويقرأ الانجيل، فرأت ابنة المستأجر النور في قراءة الانجيل، فأخبرت أباها فأسلم. وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة، بعد ما رفع عيسى، فخد لهم يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري أخدودا، وأوقد فيه النار، وعرضهم على الكفر، فمن أبي أن يكفر قذفه في النار، وقال: من رجع عن دين عيسى لم يقذف. وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم، فرجعت، فقال لها ابنها: يا أماه، إني أرى أمامك (1) النفط (بالكسر وقد بفتح): زيت معدني سريع الاحتراق توقد به النار ويتداوى به. (*)
[ 291 ]
نارا لا تطفأ، فقذفا جميعا أنفسهما في النار، فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في يوم واحد سبعة وسبعون إنسانا. وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: كان رجل من بقايا أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام، يقال له قيميون (1)، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحا في القرى، لا يعرف بقرية إلا مضى عنها، وكان بناء يعمل الطين. قال محمد بن كعب القرظي، وكان أهل نجران أهل شرك يعبدون الاصنام، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزل بها قيميون، بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامر عبد الله بن الثامر، فكان مع غلمان أهل نجران، وكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن اسم الله الاعظم، وكان الراهب يعلمه، فكتمه إياه وقال: يا ابن أخي، إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان. فلما رأى عبد الله أن الراهب قد بخل عليه بتعليم اسم الله الاعظم، عمد إلى قداح (2) فجمعها، ثم لم يبق لله تعالى اسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الاعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شئ، فأخذه ثم قام إلى صاحبه، فأخبره أنه قد علم اسم الله الاعظم الذي كتمه إياه، فقال: وما هو ؟ قال: كذا وكذا. قال: وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع. فقال له: يا ابن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبد الله، أتوحد الله وتدخل في ديني، فأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، فيدعوا الله له فيشفى، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملكهم، فدعاه فقال له: (1) في ا، ح، و، تاريخ الطبري: (فيمون) بالفاء. (2) القدح (بالكسر): السهم قبل أن ينصل ويراش جمعه قداح. (*)
[ 292 ]
أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين أبائي، فلامثلن بك. قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح عن رأسه، فيقع على الارض ليس به بأس. وجعل يبعث به إلى مياه نجران، بحار لا يلقى فيها شئ إلا هلك، فيلقي فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي وقتلتني. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته، ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة، فقتله، وهلك الملك مكانه، واجتمع أهب نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الانجيل وحكمه. ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الاحداث، فمن ذلك كان أصل النصرانية بنجران. فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الاخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف، ومثل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفا. وقال وهب بن منبه: اثنى عشر ألفا. وقال الكلبي: كان أصحاب الاخدود سبعين (1) ألفا. قال وهب: ثم لما غلب أرياط على اليمن خرج ذو نواس هاربا، فاقتحم البحر بفرسه فغرق. قال ابن إسحاق: وذو نواس هذا اسمه زرعة بن تبان (2) أسعد الحميري، وكان أيضا يسمى يوسف، وكان له غدائر من شعر تنوس، أي تضطرب، فسمى ذا نواس، وكان فعل هذا بأهل نجران، فأفلت منهم رجل اسمه دوس ذو ثعلبان، فساق الحبشة لينتصر بهم، فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر، ألقى نفسه فيه، وفيه يقول عمرو بن معدي كرب: أتوعدني كأنك ذو رعين * بأنعم عيشة أو ذو نواس وكائن كان قبلك من نعيم * وملك ثابت في الناس راس قديم عهده من عهد عاد * عظيم قاهر الجبروت قاس أزال الدهر ملكهم فأضحى * ينقل من أناس في أناس (1) في ز، ل: (تسعين ألفا). (2) هو كغراب أو كرمان ويكسر. وهو أول من كسا البيت الحرام. (*)
[ 293 ]
وذو رعين: ملك من ملوك حمير. ورعين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير ابن سبأ. مسألة - قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الامة في هذه الآية، ما كان يلقاه من وحد قبلهم من الشدائد، يؤنسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الاذى والآلام، والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسوا بمثل هذا الغلام، في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره. وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار. وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الايمان في قلوبهم، صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم. ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا، حسب ما تقدم بيانه في سورة " النحل " (1). قلت: ليس بمنسوخ عندنا، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى، قال الله تعالى مخبرا عن لقمان: " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور " (2) [ لقمان: 17 ]: وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر): خرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وروى ابن سنجر (محمد بن سنجر) عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أوضئ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل، قال: أوصني فقال: (لا تشرك بالله شيئا وأن قطعت أو حرقت بالنار..) الحديث: قال علماؤنا: ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شئ من ذلك ويكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والاسر والحرق، وغير ذلك، وقد مضى في " النحل " أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك، فتأمله هناك (3). (1) راجع ج 10 ص 180 وص 202 (2) راجع ج 14 ص 68 (3) راجع ج 10 ص 180 (*)
[ 294 ]
قوله تعالى: " قتل أصحاب الاخدود " دعاء على هؤلاء الكفار بالابعاد من رحمة الله تعالى: وقيل: معناه الاخبار عن قتل أولئك المؤمنين، أي إنهم قتلوا بالنار فصبروا: وقيل: هو إخبار عن أولئك الظالمين، فإنه روى أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الاخدود قبل أن يصلوا إلى النار، وخرجت نار من الاخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود: وقيل: إن المؤمنين نجوا، وأحرقت النار الذين قعدوا، ذكره النحاس، ومعنى " عليها " أي عندها وعلى بمعنى عند، وقيل: " عليها " على ما يدنو منها من حافات الاخدود، كما قال: * وبات على النار الندى والمحلق (1) * العامل في " إذ ": " قتل "، أي لعنوا في ذلك الوقت. (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) أي حضور: يعني الكفار، كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين، فمن أبي ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة (2) ثم بالجد في ذلك: وقيل: " على " بمعنى مع، أي وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود. قوله تعالى: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذى له ملك السموات والارض والله على كل شئ شهيد (9) قوله تعالى: (وما نقموا منهم) وقرأ أبو حيوة " نقموا " بالكسر، والفصيح هو الفتح، وقد مضى في " براءة " القول فيه (3): أي ما نقم الملك وأصحابه من الذين حرقهم: (إلا أن يؤمنوا) أي إلا أن يصدقوا: (بالله العزيز) أي الغالب المنيع. (الحميد) (1) البيت لاعشى قيس وصدره: * تشب لمقرورين يصطليانها * (2) في بعض النسخ: (أي بالخلد) بدل (ثم بالجد). (3) راجع ج 8 ص 207 (*)
[ 295 ]
أي المحمود في كل حال. (الذى له ملك السموات والارض) لا شريك له فيهما ولا نديد (والله على كل شئ شهيد) أي عالم بأعمال خلقه لا تخفي عليه خافية. قوله تعالى: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (10) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجرى من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير (11) قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) أي حرقوهم بالنار. والعرب تقول: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ودينار مفتون. ويسمى الصائغ الفتان، وكذلك الشيطان، وورق فتين، أي فضة محترقة. ويقال (1) للحرة فتين، أي كأنها أحرقت حجارتها بالنار، وذلك لسوادها. (ثم لم يتوبوا) أي من قبيح صنيعهم مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم وقومه من الآيات والبينات على يد الغلام. (فلهم عذاب جهنم) لكفرهم. (ولهم عذاب الحريق) في الدنيا لاحراقهم المؤمنين بالنار. وقد تقدم عن ابن عباس. وقيل: " ولهم عذاب الحريق " أي ولهم في الآخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين. وقيل: لهم عذاب، وعذاب جهنم الحريق. والحريق: اسم من أسماء جهنم، كالسعير. والنار دركات وأنواع ولها أسماء. وكأنهم (2) يعذبون بالزمهرير في جهنم، ثم يعذبون بعذاب الحريق. فالاول عذاب ببردها، والثاني عذاب بحرها. (إن الذين آمنوا) أي هؤلاء الذين كانوا آمنوا بالله، أي صدقوا به وبرسله. (وعملو الصالحات لهم جنات) أي بساتين. (تجرى من تحتها الانهار) من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. (ذلك الفوز الكبير) أي العظيم، الذي لا فوز يشبهه (3). (1) الحرة (بفتح الحاء المهملة): أرض ذات حجارة سود نخرة. (2) في ا، ح، ز، ط، ل: وكانوا. (3) ا، ح، ولا يشابهه شئ. (*)
[ 296 ]
قوله تعالى: إن بطش ربك لشديد (12) إنه هو يبدئ ويعيد (13) وهو الغفور الودود (14) ذو العرش المجيد (15) فعال لما يريد (16) قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد) أي أخذه الجبابرة والظلمة، كقوله جل ثناؤه: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد " [ هود: 102 ]. وقد تقدم (1). قال المبرد: " إن بطش ربك " جواب القسم. المعنى: والسماء ذات البروج إن بطش ربك، وما بينهما معترض مؤكد للقسم. وكذلك قال الترمذي الحكيم في نوادر الاصول: إن القسم واقع عما ذكر صفته بالشدة. (إنه يبدئ ويعيد) يعني الخلق - عن أكثر العلماء - يخلقهم ابتداء، ثم يعيدهم عند البعث، وروى عكرمة قال: عجب الكفار من إحياء الله جل ثناؤه الاموات، وقال ابن عباس: يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا، ثم يعيده عليهم في الآخرة. وهذا اختيار الطبري. (وهو الغفور) أي الستور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها. (الودود) أي المحب لاوليائه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة. وعنه أيضا " الودود " أي المتودد إلى أوليائه بالمغفرة، وقال مجاهد الواد لاوليائه، فعول بمعنى فاعل. وقال ابن زيد: الرحيم، وحكى المبرد عن إسمعيل بن إسحق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد قول الشاعر: وأركب في الروع عريانة * ذلول الجناح لقاحا ودودا أي لا ولد لها تحن إليه، ويكون معنى الآية: إنه يغفر لعباده وليس له ولد يغفر لهم من أجله، ليكون بالمغفرة متفضلا من غير جزاء. وقيل: الودود بمعنى المودود، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون ويحبونه. (ذو العرش المجيد) قرأ الكوفيون إلا عاصما " المجيد " بالخفض، نعتا للعرش. وقيل: ل‍ " - ربك "، أي إن بطش ربك المجيد لشديد، (1) راجع ج 9 ص 95 (*)
[ 297 ]
ولم يمتنع الفصل، لانه جار مجرى الصفة في التشديد. الباقون بالرفع نعتا ل‍ " - ذو " وهو الله تعالى. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لان المجد هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه المنعوت بذلك، وإن كان قد وصف عرشه بالكريم في آخر " المؤمنون (1). تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار (2)، أي تناهيا فيه، حتى يقتبس منهما. ومعنى ذو العرش: أي ذو الملك والسلطان، كما يقال: فلان على سرير ملكه، وإن لم يكن على سرير. ويقال: ثل عرشه: أي ذهب سلطانه. وقد مضى بيان هذا في " الاعراف " (3) وخاصة في " كتاب الاسنى، في شرح أسماء الله الحسني ". (فعال لما يريد) أي لا يمتنع عليه شئ يريده. الزمخشري: " فعال " خبر ابتداء محذوف. وإنما قيل: " فعال " لان ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف، لانه نكرة محضة. وقال الطبري: رفع " فعال " وهي نكرة محضة على وجه الاتباع لاعراب " الغفور الودود ". وعن أبي السفر (4) قال: دخل ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب ؟ قال: قد رآني ! قالوا: فما قال لك ؟ قال: قال: إني فعال لما أريد. قوله تعالى: هل أتاك حديث الجنود (17) فرعون وثمود (18) بل الذين كفروا في تكذيب (19) قوله تعالى: (هل أتاك حديث الجنود) أي قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لانبيائهم، يؤنسه بذلك ويسليه. ثم بينهم فقال. (فرعون وثمود) وهما في موضع جر على البدل من " الجنود ". المعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله بهم حين كذبوا أنبياءه ورسله. (بل الذين كفروا) أي من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك. (في تكذيب) (1) راجع ج 12 ص 157. (2) المرخ والعقار: شجرتان من أكثر الشجر نارا يتخذ منها الزناد والعرب تضرب بهما المثل في الشرف العالي. و (استمجد). استكثر. (3) راجع ج 7 ص 220 (4) هو سعيد بن يحمد الهمداني. (*)
[ 298 ]
لك، كدأب من قبلهم. وإنما خص فرعون وثمود، لان ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة وإن كانوا من المتقدمين. وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك، فدل بهما على أمثالهما في الهلاك. والله أعلم. قوله تعالى: والله من ورائهم محيط (20) بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ (22) قوله تعالى: (والله من ورائهم محيط) أي يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون. والمحاط به كالمحصور. وقيل: أي والله عالم بهم فهو يجازيهم. (بل هو قرآن مجيد) أي متناه في الشرف والكرم والبركة، وهو بيان ما بالناس الحاجة إليه من أحكام الدين والدنيا، لا كما زعم المشركون. وقيل " مجيد ": أي غير مخلوق. (في لوح محفوظ) أي مكتوب في لوح. وهو محفوظ عند الله تعالى من وصول الشياطين إليه. وقيل: هو أم الكتاب، ومنه انتسخ القرآن والكتب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: " اللوح من ياقوته حمراء، أعلاه معقود بالعرش واسفله في حجر ملك يقال له ماطريون (1)، كتابه نور، وقلمه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة، ليس منها نظرة إلا وهو يفعل ما يشاء، يرفع وضيعا، ويضع رفيعا "، ويغني فقيرا، ويفقر غنيا، يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، لا إله إلا هو ". وقال أنس بن مالك ومجاهد: إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله تعالى في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. وقيل: اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة، وبيان أمورهم، وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم والاقضية إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. وقيل: اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة، وبيان أمورهم، وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم والاقضية النافذة فيهم ومآل عواقب أمورهم، وهو أم الكتاب. وقال ابن عباس: أول شئ كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ " إني أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي * (هام) * (1) في روح المعافى: (ساطربون). (*)
[ 299 ]
ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ إلها سواي ". وكتب الحجاج إلى محمد ابن الحنفية رضي الله عنه يتوعده، فكتب إليه ابن الحنفية: " بلغني أن لله تعالى في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ، يعز ويذل، ويبتلي ويفرح، ويفعل ما يريد، فلعل نظرة منها تشغلك بنفسك، فتشتغل بها ولا تتفرغ ". وقال بعض المفسرين: اللوح شئ يلوح للملائكة فيقرءونه. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة " قرآن مجيد " على الاضافة، أي قرآن رب مجيد. وقرأ نافع " في لوح محفوظ " بالرفع نعتا للقرآن، أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح. الباقون (بالجر) نعتا للوح. والقراء متفقون على فتح اللام من " لوح " إلا ما روى عن يحيى بن يعمر، فإنه قرآن " لوح " بضم اللام، أي إنه يلوح، وهو ذو نور وعلو وشرف. قال الزمخشري: واللوح الهواء، يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح. وفي الصحاح: لاح الشئ يلوح لوحا أي لمح. ولاحه السفر: غيره. ولاح لوحا ولواحا: عطش، والتاج مثله. واللوح: الكتف، وكل عظم عريض. واللوح: الذي يكتب فيه. واللوح (بالضم): الهواء بين السماء والارض. والحمد لله. تم بعون الله تعالى الجزء التاسع عشر من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء العشرون وأوله: " سورة (الطارق) "