تفسير القرطبي
القرطبي ج 13

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء الثالث عشر أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفرقان مكية كلها في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهى: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " إلى قوله: " وكان الله غفورا رحيما ". وقال الضحاك: هي مدنية، وفيها آيات مكية، قوله: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " الآيات. ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة والرد على مقالاتهم، فمن جملتها قولهم: إن القرآن افتراه محمد، وإنه ليس من عند الله. قوله تعالى: تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعلمين نذيرا (1) الذى له ملك السموت والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا (2) واتخذوا من دونه الهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيوة ولا نشورا (3) قوله تعالى: (تبارك الذى نزل الفرقان) " تبارك " اختلف في معناه، فقال الفراء: هو في العربية و " تقدس " واحد، وهما للعظمة. وقال الزجاج: " تبارك " تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذى خير. وقيل: " تبارك " تعالى. وقيل: تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر. وقيل: المعنى دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق، من برك الشئ إذا ثبت ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام
[ 2 ]
وثبت. فأما القول الاول فمخلط، لان التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شئ. قال الثعلبي: ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك، لانه ينتهى في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف. وقال الطرماح: تباركت لا معط لشئ منعته * * وليس لما أعطيت يا رب مانع وقال آخر: * تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر * قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى " المبارك " وذكرناه أيضا في كتابنا. فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للاجماع. وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الاسماء أختلف في عده، كالدهر وغيره. وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله. و " الفرقان " القرآن. وقيل: إنه اسم لكل منزل، كما قال: " ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان ". وفى تسميته فرقانا وجهان: أحدهما - لانه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر. الثاني - لان فيه بيان ما شرع من حلال وحرام، حكاه النقاش. (على عبده) يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. (ليكون للعالمين نذيرا) اسم " يكون " مضمر يعود على " عبده " وهو أولى لانه أقرب إليه. ويجوز أن يكون يعود على " الفرقان ". وقرأ عبد الله بن الزبير " على عباده ". ويقال: أنذر إذا خوف، وقد تقدم في أول " البقرة " (1). والنذير: المحذر من الهلاك. الجوهرى: والنذير المنذر، والنذير الانذار. والمراد ب‍ " العالمين " هنا الانس والجن، لان النبي صلى الله عليه وسلم قد كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الانبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح فإنه عم برسالته جميع الانس بعد الطوفان، لانه بدأ به الخلق. قوله تعالى: (الذى له ملك السموات والارض) عظم تعالى نفسه. (ولم يتخذ ولدا) نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله، يعنى بنات الله سبحانه وتعالى. وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، جل الله تعالى. وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك. (ولم يكن له شريك في الملك) كما قال عبدة الاوثان. (1) راجع ج‍ 1 ص 184 طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 3 ]
(وخلق كل شئ) لا كما قال المجوس والثنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الاشياء. ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الايجاد. فالآية رد على هؤلاء. (فقدره تقديرا) أي قدر كل شئ مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة، فهو الخالق المقدر، فإياه فاعبدوه. قوله تعالى: (واتخذوا من دون آلهة) ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته. (لا يخلق شيئا) يعنى الآلهة. (وهم يخلقون) لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما يعقل. (ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا) أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف. وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشئ، ولا لمن يعبدهم، لانها جمادات. (ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) أي لا يميتون أحدا، ولا يحيونه. والنشور: الاحياء بعد الموت، أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم (1). وقال الاعشى: حتى يقول الناس مما رأوا * * يا عجبا للميت الناشر قوله تعالى: وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افترئه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جاءو ظلما وزورا (4) وقالوا اسطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا (5) قل أنزله الذى يعلم السر في السموت والارض إنه كان غفورا رحيما (6) قوله تعالى: (وقال الذين كفروا) يعنى مشركي قريش. وقال ابن عباس: القائل منهم ذلك النضر بن الحرث، وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الاساطير. قال محمد بن إسحق: وكان مؤذيا للنبى صلى الله عليه وسلم. (إن هذا) يعنى القرآن. (إلا إفك افتراه) أي كذب اختلقه. (وأعانه عليه قوم آخرون) يعنى اليهود، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: (1) راجع ج‍ 7 ص 229 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 4 ]
المراد بقوله: " قوم آخرون " أبو فكيهة مولى بنى الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب. وقد مضى في " النحل " (1) ذكرهم. (فقد جاءوا ظلما) أي بظلم. وقيل: المعنى فقد أتوا ظلما. (وزورا. وقالوا أساطير الاولين) قال الزجاج: واحد الاساطير أسطورة، مثل أحدوثة وأحاديث. وقال غيره: أساطير جمع أسطار، مثل أقوال وأقاويل. (اكتتبها) يعنى محمدا. (فهى تملى عليه) أي تلقى عليه وتقرأ. (بكرة وأصيلا) حتى تحفظ. و " تملى " أصله تملل، فأبدلت اللام الاخيرة ياء من التضعيف: كقولهم: تقضى البازى، وشبهه. قوله تعالى: (قل انزله الذى يعلم السر في السموات والارض) أي قل يا محمد أنزل هذا القرآن الذى يعلم السر، فهو عالم الغيب، فلا يحتاج إلى معلم. وذكر " السر " دون الجهر، لانه من علم السر فهو في الجهر أعلم. ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها. وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صلى الله عليه وسلم، فهلا عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه. (إنه كان غفورا رحيما) يريد غفورا لاوليائه رحيما بهم. قوله تعالى: وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (7) أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها و قال الظلمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8) قوله تعالى: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق). فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " وقالوا " ذكر شيئا آخر من مطاعنهم. والضمير في " قالوا " لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور، وقد تقدم (1) راجع ج‍ 10 ص 177 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 5 ]
في " سبحان " (1). ذكره ابن إسحق في السيرة وغيره. مضمنه - أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد ! إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالاسواق ! فعيروه بأكل الطعام، لانهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشى في الاسواق حين رأوا الاكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الاسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك، فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها. الثانية - دخول الاسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفى البخاري في صفته عليه السلام: " ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الاسواق ". وقد تقدم في " الاعراف " (2). وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين، كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق (3) بالاسواق، خرجه البخاري. وسيأتى لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء الله. قوله تعالى: (لولا أنزل إليه ملك) أي هلا. (فيكون معه نذيرا) جواب الاستفهام. (أو يلقى) في موضع رفع، والمعنى: أو هلا يلقى (إليه كنز) (أو) هلا (تكون له جنة يأكل منها) " يأكل " بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لانه (1) راجع ج‍ 10 ص 328 طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج‍ 7 ص 299 طبعة أولى أو ثانية. (3) الصفق: التبايع. (*)
[ 6 ]
قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأن يعود الضمير عليه أبين، ذكره النحاس. (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) تقدم في " سبحان " (1) والقائل عبد الله بن الزبعرى فيما ذكره الماوردى. قوله تعالى: انظر كيف ضربوا لك الامثل فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (9) تبارك الذى إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنت تجرى من تحتها الانهر ويجعل لك قصورا (10) قوله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الامثال) أي ضربوا لك هذه الامثال ليتوصلوا إلى تكذيبك. (فضلوا) عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. (فلا يستطيعون سبيلا) إلى تصحيح ما قالوه فيك. قوله تعالى: (تبارك الذى إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات) شرط ومجازاة، ولم يدغم " جعل لك " لان الكلمتين منفصلتان، ويجوز الادغام لاجتماع المثلين. (ويجعل لك) في موضوع جزم عطفا على موضع " جعل ". ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الاول. وكذلك قرأ أهل الشام. ويروى عن عاصم أيضا: " ويجعل لك " بالرفع، أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا. قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان. والقصر في اللغة الحبس، وسمى القصر قصرا لان من فيه مقصور عن أن يوصل إليه. وقيل: العرب تسمى بيوت الطين القصر. وما يتخذ من الصوف والشعر البيت. حكاه القشيرى. وروى سفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن خيثمة قال: قيل للنبى صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة، فقال: " يجمع ذلك لى في الآخرة " فأنزل الله عزوجل: " تبارك الذى إن شاء جعل لك خيرا (1) راجع ج‍ 10 ص 272 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 7 ]
من ذلك جنات تجرى من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا ". ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا محمد ! رب العزة يقرئك السلام، وهذا سفط (1) - فإذا سفط من نور يتلالا - يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فضرب جبريل بيده الارض يشير أن تواضع، فقال: " يا رضوان لا حاجة لى فيها الفقر أحب إلى وأن أكون عبدا صابرا شكورا ". فقال رضوان: أصبت ! الله لك. وذكر الحديث. قوله تعالى: بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12) وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا اليوم ثبورا وحدا وادعوا ثبورا كثيرا (14) قوله تعالى: (بل كذبوا بالساعة) يريد يوم القيامة. (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) يريد جهنم تتلظى عليهم. (إذا رأتهم من مكان بعيد) أي من مسيرة خمسمائة عام. (سمعوا لها تغيظا وزفيرا) قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم. وقيل: المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والاول أصح، لما روى مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كذب على متعمدا فليتبوأ بين عينى جهنم مقعدا " قيل: يا رسول الله ! ولها عينان ؟ قال: " أما سمعتم الله عزوجل يقول: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه " في رواية " فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب (1) السفط: الذى يعنى فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء. وقيل: كالجوالق. (*)
[ 8 ]
السمسم " ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة. وخرجه الترمذي من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إنى وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين ". وفي الباب عن أبى سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الكلبى: سمعوا لها تغيظا كتغيظ بنى آدم وصوتا كصوت الحمار. وقيل: فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا. وقال قطرب: التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا، كقول الشاعر: ورأيت زوجك في الورى * * متقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا. وقيل: " سمعوا لها " أي فيها، أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين. كما قال تعالى: " لهم فيها زفير وشهيق " و " في واللام " يتقاربان، تقول: أفعل هذا في الله ولله. قوله تعالى: (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقربين) قال قتادة: ذكر لنا أن عبد الله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج (1) على الرمح، ذكره ابن المبارك في رقائقه. وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردى عن عبد الله بن عمرو. ومعنى " مقرنين " مكتفين، قاله أبو صالح. وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الاغلال. وقيل: قرنوا مع الشياطين، أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، قاله يحيى بن سلام. وقد مضى هذا في " إبراهيم " (2) وقال عمرو بن كلثوم: فأبوا بالنهاب وبالسبايا * * وأبنا بالملوك مقرنينا (3) (دعوا هنالك ثبورا) أي هلاكا، قاله الضحاك. ابن عباس: ويلا. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول من يقوله إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار (1) الزج (بالضم): الحديدة التى في أسفل الرمح. (2) راجع ج‍ 9 ص 384 طبعة أولى أو ثانية. (3) الرواية في البيت: " مصفدينا ". (*)
[ 9 ]
فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول واثبوراه ". وانتصب على المصدر، أي ثبرنا ثبورا، قاله الزجاج. وقال غيره: هو مفعول به. قوله تعالى: (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال: ثبورا لانه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع، وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه. قوله تعالى: قل أذلك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا (15) لهم فيها ما يشاءون خلدين كان على ربك وعدا مسئولا (16) قوله تعالى: (قل أذلك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون). إن قيل: كيف قال " أذلك خير " ولا خير في النار، فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب إليه. وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال (1): * فشركما لخير كما الفداء * قيل: إنما قال ذلك لان الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل، فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين. وقيل: هو مردود على قوله: " تبارك الذى إن شاء جعل لك خيرا من ذلك " الآية. وقيل: هو مردود على قوله: " أو يلقى إليه كنز له أو تكون له جنة يأكل منها ". وقيل: إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار، وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا. قوله تعالى: (لهم ما يشاءون) أي من النعيم. (خالدين كان على ربك وعدا مسئولا) قال الكلبى: وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم فسألوه ذلك الوعد فقالوا: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ". وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: إن الملائكة تسأل لهم (1) هو حسان بن ثابت - رضى الله عنه - يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويهجو أبا سفبان، وصدر البيت: * أتهجو ولست له بكف * (*)
[ 10 ]
الجنة، دليله قوله تعالى: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم " الآية. وهذا قول محمد ابن كعب القرظى. وقيل: معنى " وعدا مسئولا " أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين، حكى عن العرب: لاعطينك ألفا. وقيل: " وعدا مسئولا " يعنى أنه واجب لك فتسأله. وقال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا. وهذا يرجع إلى القول الاول. قوله تعالى: ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل (17) قالوا سبحنك ما كان ينبغى لنآ أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا (18) فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا (19) قوله تعالى: (ويوم يحشرهم) قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري " يحشرهم " بالياء. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله في أول الكلام: " كان على ربك " وفي آخره " أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء ". الباقون بالنون على التعظيم. (وما يعبدون من دون الله) من الملائكة والانس والجن والمسيح وعزير، قاله مجاهد وابن جريج. الضحاك وعكرمة: الاصنام. (فيقول) قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبى عبيد وأبى حاتم. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم. (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل) وهذا استفهام توبيخ للكفار. (قالوا سبحانك) أي قال المعبودون من دون الله سبحانك، أي تنزيها لك (ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء). فإن قيل: فإن كانت الاصنام التى تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد ؟ قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الايدى والارجل. وقرأ الحسن وأبو جعفر: " أن نتخذ " بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون، فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر:
[ 11 ]
لا يجوز " نتخذ ". وقال أبو عمرو: لو كانت " نتخذ " لحذفت " من " الثانية فقلت: أن نتخذ من دونك أولياء. كذلك قال أبو عبيدة: لا يجوز " نتخذ " لان الله تعالى ذكر " من " مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل: إن " من " الثانية صلة، قال النحاس: ومثل أبى عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال، لانه جاء ببينة. وشرح ما قال أنه يقال: ما اتخذت رجلا وليا، فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه، ثم يقال: ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما، وقولك " وليا " تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه " من " لانه لا فائدة في ذلك. (ولكن متعتهم وآباءهم) أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم. (حتى نسوا الذكر) أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك. وفي الذكر قولان: أحدهما: القرآن المنزل على الرسل، تركوا العمل به، قاله ابن زيد. الثاني: الشكر على الاحسان إليهم والانعام عليهم. إنهم (كانوا قوما بورا) أي هلكى، قاله ابن عباس. مأخوذ من البوار وهو الهلاك. وقال أبو الدرداء رضا الله عنه وقد أشرف على أهل حمص: يا أهل حمص ! هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال: ما لكم لا تستحون ! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا، وأملوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، ومساكنهم قبورا، فقوله: " بورا " أي هلكى. وفي خبر آخر: فأصبحت منازلهم بورا، أي خالية لا شئ فيها. وقال الحسن: " بورا " لا خير فيهم. مأخوذ من بوار الارض، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير. وقال شهر بن حوشب: البوار. الفساد والكساد، مأخوذ من قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد، ومنه الحديث: " نعوذ بالله من بوار الايم ". وهو اسم مصدر كالزور يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. قال ابن الزبعرى: يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أبارى الشيطان في سنن الغ‍ * نى ومن مال ميله مثبور
[ 12 ]
وقال بعضهم: الواحد بائر والجمع بور. كما يقال: عائذ وعوذ، وهائد وهود. وقيل: " بورا " عميا عن الحق. قوله تعالى: (فقد كذبوكم بما تقولون) أي يقول الله تعالى عند تبرى المعبودين: " فقد كذبوكم بما تقولون " أي في قولكم إنهم آلهة. (فما يستطيعون) يعنى الآلهة صرف العذاب عنكم ولا نصركم. وقيل: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون " صرفا " للعذاب " ولا نصرا " من الله. وقال ابن زيد: المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد، وعلى هذا فمعنى " بما تقولون " بما تقولون من الحق. وقال أبو عبيد: المعنى، فيما تقولون فما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذى هداكم الله إليه، ولا نصرا لانفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقراءة العامة " بما تقولون " بالتاء على الخطاب. وقد بينا معناه. وحكى الفراء أنه يقرأ " فقد كذبوكم " مخففا، " بما يقولون ". وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى " يقولون " بقولهم. وقرأ أبو حيوة: " بما يقولون " بياء " فما تستطيعون " بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء. ومن قرأ بالياء فالمعنى: فما يستطيع الشركاء. (ومن يظلم منكم) قال ابن عباس: من يشرك منكم ثم مات عليه. (نذقه) أي في الآخرة. (عذابا كبيرا) أي شديدا، كقوله تعالى: " ولتعلن علوا كبيرا " أي شديدا. قوله تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا (20) فيه تسع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا: " مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق ". وقال ابن عباس: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: " مال هذا الرسول يأكل الطعام "
[ 13 ]
الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له، فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله ! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسوق " أي يبتغون المعايش في الدنيا. الثانيه - قوله تعالى: " إلا إنهم ليأكلون الطعام " إذا دخلت اللام لم يكن في إن " إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر، لانها مستأنفة. هذا قول جميع النحويين. قال النحاس: إلا أن على بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال: يجوز في " إن " هذه الفتح وإن كان بعدها اللام، وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحق الزجاج: وفى الكلام حذف، والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلا، لان في قوله: " من المرسلين " ما يدل عليه. فالموصوف محذوف عند الزجاج. ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء. قال الفراء: والمحذوف " من " والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام. وشبهه بقوله: " وما منا إلا له مقام معلوم "، وقوله: " وإن منكم إلا واردها " أي ما منكم إلا من هو واردها. وهذا قول الكسائي أيضا. وتقول العرب: ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك. فقولك: إنه ليطيعك صلة من. قال الزجاج: هذا خطأ، لان من موصولة فلا يجوز حذفها. وقال أهل المعاني: المعنى، وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون، دليله قوله تعالى: " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ". وقال ابن الانباري: كسرت " إنهم " بعد " إلا " للاستئناف بإضمار واو. أي إلا وإنهم. وذهبت فرقة إلى أن قوله: " ليأكلون الطعام " كناية عن الحدث. قلت: وهذا بليغ في معناه، ومثله " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ". (ويمشون في الاسواق) قرأ الجمهور " يمشون " بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرأ على وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يدعون إلى المشى ويحملون عليه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهى بمعنى يمشون، قال الشاعر:
[ 14 ]
ومشى بأعطان المباءة وابتغى * * قلائص منها صعبة وركوب (1) وقال كعب بن زهير: منه تظل سباع الجو (2) ضامزة * * ولا تمشى بواديه الاراجيل بمعنى تمشى. الثالثة - هذه الآية أصل فتناول الاسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفى فنقول: قال لى بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الانبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الاسباب للضعفاء، فقلت مجيبا له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والاغبياء، و الرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالاسباب والاحتراف فقال وقوله الحق: " وعلمناه صنعة لبوس لكم ". وقال: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون. وقال عليه الصلاة والسلام: " جعل رزقي تحت ظل رمحي " وقال تعالى: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " وكان الصحابة رضى الله عنهم يتجرون ويحترفون وفى أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون، أتراهم ضعفاء ! بل هم كانوا والله الاقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء. قال: إنما تناولوها لانهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا، وبيان ذلك أصحاب الصفة. قلت: لو كان ذلك لوجب عليهم و على الرسول معهم البيان، كما ثبت في القرآن " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " وقال: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " الآية. وهذا من البيات الهدى. وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الاسلام (1) في روح المعاني: " ذلول " بدل " ركوب ". (2) الجو: البر الواسع. وضامزة: ساكنة، وكل ساكت فهو ضامز. والاراجيل: جمع أرجال كأناعيم جمع أنعام، وأرجال جمع رجل. يصف الشاعر أسدا بأن الاسود والرجال تخافه، فالاسود ساكنة من هيبته والرجال ممتنعة عن المشى بواديه. (*)
[ 15 ]
عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا وصفهم البخاري وغيره. ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا، وبالاسباب أمروا. ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لانهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من اسباب النصر، نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالاسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذى انعقد عليه إجماع المسلمين، وإلا كان يكون قوله الحق " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل " - الآية - مقصورا على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك. وفى التنزيل حيث خاطب موسى الكليم " اضرب بعصاك البحر " وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا. وكذلك مريم عليها السلام " وهزى بجذع النخلة " وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب، ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لاجل غيره، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والامور الجميلة. هيهات هيهات ! لا يقال فقد قال الله تعالى: " وفى السماء رزقكم وما توعدون " فإنا نقول: صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل، بدليل قوله: " وينزل لكم من السماء رزقا " وقال: " وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد " ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم، بل الاسباب أصل في وجود ذلك، وهو معنى قوله عليه السلام: " اطلبوا الرزق في خبايا الارض " أي بالحرث والحفر والغرس. وقد يسمى الشئ بما يؤول إليه، وسمى المطر رزقا لانه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب. وقال عليه السلام: " لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من يسأل أحد أعطاه أو منعه " وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب. ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الاعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش
[ 16 ]
به، وهو معنى قوله عليه السلام: " لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " فغدوها ورواحها سبب، فالعجب العجب ممن يدعى التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم. ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى " وتزودوا ". ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقا. والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه، ثم يتناول الاسباب بمجرد الامر. وهذا هو الحق. سأل رجل الامام أحمد بن حنبل فقال: إنى أريد الحج على قدم التوكل. فقال: اخرج وحدك، فقال: لا، إلا مع الناس. فقال له: أنت إذن متكل على أجربتهم. وقد أتينا على هذا في كتاب " قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعه ". الرابعة - خرج مسلم عن أبى هريره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد ألى الله أسواقها ". وخرج البزاز عن سلمان الفارسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق. ولا آخر من يخرج منها فإنها معركه الشيطان وبها ينصب رايته ". أخرجه أبو بكر البرقانى مسندا عن أبى محمد عبد الغنى - من رواية عاصم - عن أبى عثمان النهدي عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ ". ففى هذه الاحاديث ما يدل على كراهة دخول الاسواق، لا سيما في هذه الازمان التى يخالط فيها الرجال النسوان. وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الاسواق وظهرت فيها المناكر: كره دخولها لارباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التى يعصى الله فيها. فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وأنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.
[ 17 ]
الخامسة - تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن، وذلك أن المعركة موضع القتال، سمى بذلك لتعارك الابطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا. فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر، والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والايمان الكاذبة، واختلاط الاصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها. السادسة - قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك (1) فيه، وأما الاسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون: لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها، لان ذلك أسقاط للمروءة وهدم للحشمة، ومن الاحاديث الموضوعة (2) " الاكل في السوق دناءة ". قلت: ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو، فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن، إذ ليس بذلك من حاجتهن. وأما غيرهما من الاسواق فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشى في زماننا هذا. نعوذ بالله من سخطه. السابعة - خرج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو ابن دينار قهرمان (3) آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: " من دخل سوقا من هذه الاسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حى لا يموت بيده الخير وهو على كل شئ قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا في الجنة " خرجه الترمذي أيضا وزاد بعد " ومحا عنه ألف ألف سيئة ": " ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة ". وقال: هذا حديث غريب. قال ابن العربي: وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة (4) سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين. (1) الدرك (يسكن ويحرك): التبعة. (2) الحديث رواه الطبراني عن أبى أمامة والخطيب عن أبى هريرة وضعفه السيوطي. (3) القهرمان: هو كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده والقائم بأمور الرجل، بلغة الفرس. (4) سواه: أي سوى الله تعالى. (*)
[ 18 ]
الثامنة - قوله تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغنى فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغنى. ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده. ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منها على الحق، كما قال الضحاك في معنى " أتصبرون ": أي على الحق. وأصحاب البلايا يفولون: لم لم نعاف ؟ والاعمى يقول: لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة. والرسول المخصوص بكرامة النبوه فتنة لاشراف الناس من الكفار في عصره. وكذلك العلماء وحكام العدل. ألا ترى إلى قولهم: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ". فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هدا عن البطر، وذاك عن الضجر. " أتصبرون " محذوف الجواب، يعنى أم لا تصبرون. فيقتضى جوابا كما قاله المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب، فخطر بباله شئ فسمع من يفرأ الآية " أتصبرون " فقال: بلى ربنا ! نصبر ونحتسب. وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابرا عليه، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر. وعن أبى الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة وهو قوله " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته. وقال مفاتل: نزلت في أبى جهل ابن هشام والوليد بن المغيره والعاص بن وائل، وعقبه بن أبى معيط وعتبه بن ربيعه والنصر ابن الحرث حين رأوا أبا ذر وعبد الله بن مسعود، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيره وسالما مولى أبى حذيفه ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي، وذويهم فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء ؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء
[ 19 ]
المؤمنين: " أتصبرون " على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر، فالتوقيف ب‍ " - أتصبرون " خاص للمؤمنين المحققين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم " إنى جزيتهم اليوم بما صبروا ". التاسعة - قوله تعالى: " وكان ربك بصيرا " أي بكل امرئ. وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدى. وقيل: " أتصبرون " أي اصبروا. مثل " فهل أنتم منتهون " أي انتهوا، فهو أمر للنبى صلى الله عليه وسلم. بالصبر قوله تعالى: وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملئكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا (21) يوم يرون الملئكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا (2 2) قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي لا يؤمنون بذلك. قال: إذا لسعت النحل لم يرج لسعها * * وخالفها في بيت نوب عوامل (1) وقيل: " لا يرجون " لا يبالون. قال: لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما * * على أي جنب كان في الله مصرعي (2) ابن شجر: لا يأملون، قال: أترجو أمة قتلت حسينا * * شفاعة جده يوم الحساب (لولا أنزل) أي هلا أنزل. (علينا الملائكة) فيخبروا أن محمدا صادق. (أو نرى ربنا) عيانا فيخبرنا برسالته. نظيره قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى نفجر لنا من الارض (1) البيت لابي ذؤيب وتقدم شرحه في ج‍ 8 ص 311 طبعة أولى أو ثانية. (2) البيت من قصيده لخبيب بن عدى قالها حين بلغه أن الكفار قد اجتمغوا لصلبه. (*)
[ 20 ]
ينبوعا " إلى قوله " أو تأتى بالله والملائكة قبيلا ". قال الله تعالى: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) حيث سألوا الله الشطط، لان الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار، فلا عين تراه. وقال مقاتل: " عتوا " علوا في الارض. والعتو: أشد الكفر وأفحش الظلم. وأذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة ؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين، ولا بد لهم من معجزه يقيمها من يدعى أنه ملك، وليس للقوم طلب معجز بعد أن شاهدوا معجزه، وأن (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت، فتبشر المؤمتين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم. (ويقولون حجرا محجورا) يريد تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله، وأقام شرائعها، عن ابن عباس وغيره. وقيل: إن ذلك يوم القيامة، قاله مجاهد وعطيه العوفى. قال عطيه: إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى، فإذا رأى ذلك الكافر تمناه فلم يره من الملائكة. وانتصب " يوم يرون " بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة. " يومئذ " تأكيد ل " يوم يرون ". قال النحاس: لا يجور أن يكون " يوم يرون " منصوبا ب‍ " بشرى " لان ما في حيز النفى لا يعمل فيما قبله، ولكن فيه تقدير ان يكون المغنى يمنغون البشاره يوم يرون الملائكة، ودل على هذا الحذف ما بعده. ويجوز أن يكون التقدير: لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة، و " يومئذ " مؤكد. ويجوز أن يكون المعنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم ابتدأ فقال: " لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " أي وتقول الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين. قال الشاعر: ألا أصبحت أسماء حجرا محرما * * وأصبحت من أدنى حموتها حما (1) أراد ألا أصبحت أسماء حراما محرما. (1) قاله رجل كانت له امرأه فطلقها وتزوجها أخوه، أي أصبحت أخا زوجها بعد ما كانت زوجها. (*)
[ 21 ]
وقال آخر: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها * * حجر حرام ألا تلك الدهاريس (1) وروى عن الحسن أنه قال: " ويقولون حجرا " وقف من قول المجرمين، فقال الله عزوجل: " محجورا " عليهم أن يعاذوا أو يجاروا، فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة. والاول قول ابن عباس وبه قال الفراء، قاله ابن الانباري. وقرأ الحسن وأبو رجاء " حجرا " بضم الحاء والناس على كسرها. وقيل: أن ذلك من قول الكفار قالوه لانفسهم، قاله قتاده فيما ذكر الماوردى. وقيل: هو من قول الكفار للملائكة. وهى كلمة استعاذه وكانت معروفة في الجاهلية، فكان إذا لقى الرجل من يخافه قال: حجزا محجورا، أي حراما عليك التعرض لى. وانتصابه على معنى: حجرت عليك، أو حجر الله عليك، كما تقول: سقيا ورعيا. أي إن المجرمين أذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا: نعوذ بالله منكم، ذكره القشيرى، وحكى معناه المهدى عن مجاهد. وقيل: " حجرا " من قول المجرمين. " محجورا " من قول الملائكة، أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا. فنقول الملائكة: " محجورا " أن تعاذوا من شر هذا اليوم، قاله الحسن. قوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلنه هباء منثورا (23) أصحب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا (24) قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة، أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمين من عمل بر عند أنفسهم. يقال: قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده، وقال مجاهد: " قدمنا " أي عمدنا. وقال الراجز: وقدم الخوارج الضلال * * ألى عباد ربهم فقالوا * إن دمائكم لنا حلال (1) البيت للمتلمس، والنخلة القصوى: واد. والدهاريس: الدواهي. يقول لناقته: هذا الذى حننت إلبه ممنوع. وبعده: أمي شآمية إذا لا عراق لنا * * قوما نودهم إذ قومنا شوس (*)
[ 22 ]
وقيل: هو قدوم الملائكه، أخبر به عن نفسه تعالى فاعله (1). (فجعلناه هباء منثورا) أي لا ينفع به، أي أبطلناه بالكفر. وليس " هباء " من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين. والتصغير هبى في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هبى (2) في موضع الرفع، حكاه النحاس. وواحده هباة والجمع أهباء. قال الحرث بن حلزه يصف [ ناقة ]: فترى خلفها من الرجع والوق‍ * * - ع منينا كأنه أهباء (3) وروى الحرث عن على قال: الهباء المنثور شعاع الشمس الذى يدخل من الكوه. وقال الازهرى: الهباء مايخرج من الكوه في ضوء الشمس شبيه بالغبار. تأويله: إن الله تعالى أحبط أعمالهم حنى صارت بمنزلة الهباء المنثور. فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار. والمنبث المتفرق. وقال ابن عرفه: الهبوة والهباء التراب الدقيق. الجوهرى: ويقال له إذا ارتفع هبا يهبو هبوا واهبيته أنا. والهبوة الغبرة. قال رؤبة: تبدو لنا أعلامه بعد الغرق * * في قطع الآل وهبوات الدقق (4) وموضع هابى التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقه. وقيل: إنه ماذرته الرياح من يا بس أوراق الشجر، قاله قتاده وابن عباس. وقال ابن عباس أيضا: إنه الماء المهراق. وقيل: إنه الرماد، قاله عبيد (5) بن يعلى. قوله تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا). تقدم القول فيه عند قوله تعالى " قل أذلك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون " (6). قال النحاس: والكوفيون يجيزون " العسل أحلى من الخل " وهذا قول مردود، لان معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوه في الخل. ولا يجوز أن يقال: النصراني خير من اليهودي، لانه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير. لكن يقال: اليهودي شر (1) كذا في الاصل، وعباره ابن عطية: " أسنده إليه لانه عن أمره ". (2) قال النحاس: والتقدير عنده هبئ. (3) قوله " خلفها " أي خلف الناقة. والرجع: رجع قوائمها. والوقع: وقع خفافها. والمنين: الغبار الدقيق الذى تثيره. (4) الدقيق: ما دق من التراب، والواحد منه الدقى كما تقول الجلى والجلل. (5) كذا في الاصل، وفى " روح المعاني ": يعلى بن عبيد. (6) راجع ص 9 من هذا الجزء. (*)
[ 23 ]
من النصراني، فعلى هذا كلام العرب. و " مستقرا " نصب على الظرف إذا قدر على غير باب " أفعل منك " والمعنى لهم خير في مستقر. وإذا كان من باب " أفعل منك " فانتصابه على البيان، قاله النحاس والمهدوى. قال قتاده: " وأحسن مقيلا " منزلا ومأوى. وقيل هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار. ومنه الحديث المرفوع " إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة وأهل النار في النار " ذكره المهدوى. وقال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة من النهار حتى يقبل هولاء في الجنة وهؤلاء في النار، قرأ " ثم إن مقيلهم لا لى الجحيم " كذا هي في قراءة ابن مسعود. وقال ابن عباس: الحساب من ذلك اليوم في أوله، فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى قيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. ومنه ما روى " قيلوا فإن الشياطين لا تقبل ". وذكر قاسم ابن أصبغ من حديث أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " فقلت: ما أطول هذا اليوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذى نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدتيا ". قوله تعالى: ويوم تشقق السماء بالغمم ونزل الملئكة تنزيلا (35) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكفرين عسيرا (26) قوله تعالى: (ويوم تشقق السماء بالغمام) أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام. وقرأه عاصم والاعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو " تشقق " بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتائين فخذوا الاولى تخفيفا، واختاره أبو عبيد. الباقون " تشقق " بتشديد الشين على الادغام، واختاره أبو حاتم. وكذلك في " ق " (1). " بالغمام " أي عن الغمام. والباء وعن يتعاقبان، كما تقول: رميت بالقوس، وعن القوس. روى أن السماء تتشقق عن سحاب (1) في قوله تعالى: " يوم تشقق الارض عنهم سراعا... " آية 44 (*)
[ 24 ]
أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه، وهو الذى قال تعالى: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ". (ونزل الملائكة) من السموات، ويأتى الرب عزوجل في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء، على ما يجوز أن يحمل عليه إتباعه، لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال. وقال ابن عباس: تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الارض من الجن والانس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة، ثم ينزل الكروبيون (1) وحملة العرش، وهو معنى قوله: " ونزل الملائكة تنزبلا " أي من السماء إلى الارض لحساب الثقلين. وقيل: إن السماء تنشق بالغمام الذى بينها وبين الناس، فبتشقق الغمام تتشقق السماء، فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها. وقرأ ابن كثير " وننزل الملائكة " بالنصب من الانزال الباقون " ونزل الملائكة " بالرفع. دليلة " تنزيلا " ولو كان على الاول لقال إنزالا. وقد قيل: إن ننزل وأنزل بمعنى، فجاء " تنزيلا " على " نزل " وقد قرأ عبد الوهاب عن أبى عمرو " ونزل اللائكة تنزيلا ". وقرأ ابن مسعود " وأنزل الملائكة " أبى بن كعب: " ونزلت الملائكة ". وعنه " وتنزلت الملائكة ". فوله تعالى: (الملك يومئذ الحق للرحمن) " الملك " مبتدأ و " الحق " صفة له و " للرحمن " الخبر، لان الملك الذى يزول وينقطع ليس بملك، فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه، وبقى الملك الحق لله وحده. (وكان يوما على الكافرين عسيرا) أي لما ينالهم من الاهوال ويلحقهم من الخزى والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة، على ما تقدم في الحديث. وهذه الآية دالة عليه، لانه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير. يقال: عسر يعسر، وعسر يعسر. (1) الكروبيون (بفتح الكاف): سادة الملائكة، منهم جبريل وميكائيل وأسرافيل هم المقربون. والكرب القرب. (*)
[ 25 ]
قوله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا (27) يويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطن للانسن خذولا (29) قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه) الماضي عضضت. وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الاولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير، منهم ابن عباس وسعيد ابن المسيب أن الظالم هاهنا يراد به عقبه بن أبى معيط، وأن خليله أميه بن خلف، فعقبه قتله على بن أبى طالب رضى الله عنه، وذلك أنه كان في الاسارى يون بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال: أأقتل دونهم ؟ فقال، نعم، بكفرك وعتوك. فقال: من للصبية ؟ فقال: النار. فقام على رضى الله عنه فقتله. وأمية قتله النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من دلائل نبوه النبي صلى الله على وسلم، لانه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر. ولم يسميا في الآية لانه أبلغ في الفائدة، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم فبل من غيره في معصية الله عزوجل. قال ابن عباس وقتاده وغيرهما: وكان عقبة قد هم بالاسلام فمنعه منه أبى بن خلف وكانا خدنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما جميعا: قتل عقبة يوم بدر صبرا، وأبى بن خلف في المبارزه يوم أحد، ذكره القشيرى والثعلبي، والاول ذكره النحاس. وقال السهيلي: " ويوم يعض الظالم على يديه " هو عقبة بن أبى معيط، وكان صديقا لامية بن خلف الجمحى ويروى لابي بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتية إلا أن يسلم. وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه، فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبي بن خلف وكان غائبا. فقال عقبة: رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش. فقال له خليله: لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت. ففعل
[ 26 ]
عدو الله ما أمره به خليله، فأنزل الله عزوجل: " ويوم يعض الظالم على يديه ". قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل. وعضه يديه فعل النادم الحزين لاجل طاعته خليله. (يفول يا ليتني انخذت مع الرسول سبيلا) في الدنيا، يعنى طريقا إلى الجنة. (يا ويلتا) دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته. (ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا) يعنى أمية، وكنى عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما. وقال مجاهد وأبو رجاء: الظالم عام في كل ظالم، وفلان: الشيطان. واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده " و كان الشيطان للانسان خذولا ". وقرأ الحسن " يا ويلتى " وقد مضى في " هود (1) " بيانه. والخليل: الصاحب والصديق وقد مضى في " النساء (2) بيانه. (لقد أضلني عن الذكر) أي يقول هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والايمان به. وقيل: " عن الذكر " أي عن الرسول. (وكان الشيطان للانسان خذولا) قيل: هذا من فول الله لا من قول الظالم. وتمام الكلام على هذا عند قوله: " بعد إذ جاءني ". والخذل الترك من الاعانة، ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم. وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للانسان، خذولا عند نزول العذاب والبلاء. ولقد أحسن من قال: تجنب قرين السوء واصرم حباله * * فإن لم تجد عنه محيصا فداره وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه * * تنل منه صفو الود ما لم تماره وفى الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا * * إذا اشتعلت نيرانه في عذاره آخر: اصحب خيار الناس حيث لقيتهم * * خير الصحابة من يكون عفيفا والناس مثل دراهم ميزتها * * فوجدت منها فضة وزيوفا (1) راجع ج‍ 9 ص 69 طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج‍ 5 ص 400 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 27 ]
وفى الصحيح من حديث أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك (1) وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة " لفظ مسلم. وأخرجه أبو داود من حديث أنس. وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي جلسائنا خير ؟ قال: " من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله ". وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الاحجار مع الابرار خير لك من أن تأكل الخبيص (2) مع الفجار. وأنشد: وصاحب خيار الناس تنج مسلما * * وصاحب شرار الناس يوما فتندما قوله تعالى: وقال الرسول يرب إن قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا (30) وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (31) قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب " يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، يشكوهم إلى الله تعالى. (إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) أي قالوا فيه غير الحق من إنه سحر وشعر، عن مجاهد والنخعي. وقيل: معنى " مهجورا " أي متروكا، فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله: (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين) أي كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك - وهو أبو جهل في قول ابن عباس - فكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من مشركي قومه، فاصبر لامرى كما صبروا، فإنى هاديك وناصرك على كل من ناوأك. وقد قيل: إن قول الرسول " يا رب " إنما يقوله يوم القيامة، أي هجروا القرآن وههجروني وكذبوني. وقال أنس قال النبي صلى الله غليه وسلم: " من (3) تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهد ولم ينظر فيه جاء (1) أحذاه: أعطاه. (2) الخبيص: حلواء تعمل من التمر والسمن. (3) في الاصل: " من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا... " وتصحيح هذا الاثر من روح المعاني والبيضاوي والشهاب على أنهم تكلموا في صحته إذ في سنده أبو هدبة وهو كذاب. (*)
[ 28 ]
يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا آتخذنى مهجورا فاقض بينى وبينه ". ذكره الثعلبي. (وكفى بربك هاديا ونصيرا) نصب على الحال أو التمييز، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك. وقال ابن عباس: عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل لعنه الله. قوله تعالى: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة وحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلنه ترتيلا (32) ولا يأتونك بمثل إلا جئنك بالحق وأحسن تفسيرا (33) قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) اختلف في قائل ذلك على قولين: أحدهما - أنهم كفار قريش، قاله ابن عباس. والثانى - انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا: هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والانجيل على عيسى والزبور " على داود " (1). فقال الله تعالى: " كذلك " أي فعلنا " لنثبت به فؤادك " نقوى به قلبك فتعيه وتحمله، لان الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون، والقرآن أنزل على نبى أمي، ولان من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبى صلى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به، فكان كلما نزل وحى جديد زاده قوة قلب. قلت: فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته ؟. قيل: في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك. وقد قيل: إن قوله " كذلك " من كلام المشركين، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي كالتوراة والانجيل، فيتم الوقف على " كذلك " ثم يبتدئ " لنثبت به فؤادك ". ويجوز أن يكون الوقف على قوله: " جملة واحدة " ثم يبتدئ " كذلك لتثبت به فؤادك " على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال (1) زيادة يقتضيها المقام. (*)
[ 29 ]
ابن الانباري: والوجه الاول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد ابن عثمان الشيبى قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبى روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " قال: أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عزوجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة. قال: فهو قوله " فلا أقسم بمواقع النجوم " يعنى نجوم القرآن " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم ". قال: فلما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، فقال الله تبارك وتعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك " يا محمد. (ورتلناه ترتيلا) يقول: ورسلناه ترسيلا، يقول: شيئا بعد شئ. (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة، لانهم لا يسألون عن شئ إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبى، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وعلم الله عزوجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا، لانهم ينبهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشئ إلى وقت بعينه قد علم الله عزوجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك، فمحال أن ينزل جملة واحدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا. قال النحاس: والاولى أن يكون التمام " جملة واحدة " لانه إذا وقف على " كذلك " صار المعنى كالتوراة والانجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر. قال الضحاك: " وأحسن تفسيرا " أي تفصيلا. والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلا، فحذف لعلم السامع. وقيل: كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف (1) راجع ج‍ 10 ص 333 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 30 ]
والتبديل، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم، لانهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال تعالى: " ولا تلبسوا الحق بالباطل ". وقيل: " لا يأتونك بمثل " كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم. قوله تعالى: الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا (34) قوله تعالى: (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم) تقدم في " سبحان " (1). أولئك شر مكانا) لانهم في جهنم. وقال مقاتل: قال الكفار لاصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق. فنزلت الآية. (وأضل سبيلا) أي دينا وطريقا. ونظم الآية: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم. قوله تعالى: ولقدء اتينا موسى الكتب وجعلنا معه أخاه هرون وزيرا (35) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بأيتنا فدمرنهم تدميرا (36) قوله تعالى: (ولقد إتينا موسى الكتاب) يريد التوراة. (وجعلنا معه أخاه هرون وزيرا) تقدم في " طه " (1) (فقلنا اذهبا) الخطاب لهما. وقيل: إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب وحده في المعنى. وهذا بمنزلة قوله: " نسيا حوتهما ". وقوله: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " وإنما يخرج من أحدهما. قال النحاس: وهذا مما لا ينبغى أن يجترأ به على كتاب الله تعالى، وقد قال عزوجل: " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى. قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى. قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى. فأتياه فقولا (1) راجع ج‍ 11 ص 192 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 31 ]
إنا رسولا ربك ". ونظير هذا " ومن دونهما جنتان ". وقد قال جل ثناؤه " ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون بإياتنا " قال القشيرى: وقوله في موضع آخر: " اذهب إلى فرعون إنه طغى " لا ينافى هذا، لانهما إذا كان مأمورين فكل واحد مأمور. ويجوز أن يقال: أمر موسى أولا، ثم لما قال: " واجعل لى وزيرا من أهلى " قال " اذهبا إلى فرعون ". (إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا) يريد فرعون وهامان والقبط. (فدمرناهم) في الكلام إضمار، أي فكذبوهما (فدمرناهم تدميرا) أي أهلكاهم إهلاكا. قوله تعالى: وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقنهم وجعلنهم للناس ءاية وأعتدنا للظلمين عذابا أليما (37) قوله تعالى: (وقوم نوح) في نصب " قوم " أربعة أقوال: العطف على الهاء والميم في " دمرناهم ". الثاني - بمعنى اذكر. الثالث - بإضمار فعل يفسره ما بعده، والتقدير: وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم. الرابع - إنه منصوب ب‍ " أغرقناهم " قاله الفراء. ورده النحاس قال: لان " أغرقنا " ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفى " قوم نوح ". (لما كذبوا الرسل) ذكر الجنس والمراد نوح وحده، لانه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده، فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالايمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة. وقيل: إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل، لانهم لا يفرق بينهم في الايمان، ولانه ما من نبى إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين. (أغرقناهم) أي بالطوفان. على ما تقدم في " هود ". (وجعلناهم للناس آية) أي علامة ظاهرة على قدرتنا (وأعتدنا للظالمين) أي المشركين من قوم نوح (عذابا أليما) أي في الآخرة. وقيل: أي هذه سبيلى في كل ظالم. قوله تعالى: وعادا وثمودا وأصحب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا (38)
[ 32 ]
قوله تعالى: (وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا) كله معطوف على " قوم نوح " إذا كان " قوم نوح " منصوبا على العطف، أو بمعنى اذكر. ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر في " دمرناهم " أو على المضمر في " جعلناهم " وهو اختيار النحاس، لانه أقرب إليه. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل، أي اذكر عادا الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم، وثمودا كذبوا صالحا فأهلكوا بالرجفة. و " أصحاب الرس " والرس في كلام العرب البئر التى تكون غير مطوية، والجمع رساس. قال (1): * تنابلة يحفرون الرساسا * يعنى آبار المعادن. قال ابن عباس: سألت كعبا عن أصحاب الرس قال: صاحب " يس " الذى قال: " يا قوم اتبعوا المرسلين " قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل. السدى: هم أصحاب قصة " يس " أهل أنطاكية، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل " يس " فنسبوا إليها. وقال على رضى الله عنه: هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم، وكان من ولد يهوذا، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم. وقال ابن عباس: هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا. وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الاصنام، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم، فخسف الله بهم فهلكوا جميعا. وقال قتادة: أصحاب الرس وأصحاب الايكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين. قال قتادة: والرس قرية بفلج اليمامة. وقال عكرمة: هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا. دليله ما روى محمد بن كعب القرظى عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الاسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيهه نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما * (1) هو النابغة الجعدى. (*)
[ 33 ]
وكان العبد الاسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي ". قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن ذلك العبد الاسود لاول من يدخل الجنة " وذكر هذا الخبر المهدوى والثعلبي، واللفظ للثعلبي، وقال: هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس، لان الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم. وقال الكلبى: أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه. وهم أول من عمل نساؤهم السحق، ذكره الماوردى. وقيل: هم أصحاب الاخدود الذين حفروا الاخاديد وحرقوا فيها المؤمنين، وسيأتى. وقيل: هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في " الحج " في قوله: " وبئر معطلة " على ما تقدم (1). وفي الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات. وروى من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من أشراط الساعة أن يكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق ". وقيل: الرس ماء ونخل لبنى أسد. وقيل: الثلج المتراكم في الجبال، ذكره القشيرى. وما ذكرناه أولا هو المعروف، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر. قال أبو عبيدة: الرس كل ركية لم تطو، وجمعها رساس. قال الشاعر: وهم سائرون إلى أرضهم * * فياليتهم يحفرون الرساسا والرس اسم واد في قول زهير: بكرن بكورا واستحرن بسحرة * * فهن لوادى الرس كاليد للفم ورسست رسا: حفرت بئرا. ورس الميت أي قبر. و الرس: الاصلاح بين الناس، والافساد أيضا وقد رسست بينهم، فهو من الاضداد. وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا، ذكره (1) راجع ج‍ 12 ص 75 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 34 ]
الثعلبي وغيره. (وقرونا بين ذلك كثيرا) أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد. وثمود وأصحاب الرس. وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له: ألا تتداوى فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أمر به ؟ قال: لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بينى وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد حرصا على جمع المال، فكان فيهم أطباء، فلا الناعت منهم بقى ولا المنعوت، فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات، رحمه الله. قوله تعالى: وكلا ضربنا له الامثل وكلا تبرنا تتبيرا (39) قوله تعالى: (وكلا ضربنا له الامثال) قال الزجاج. أي وأنذرنا كلا ضربنا له الامثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الامثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة. وقيل: انتصب على تقدير ذكرنا كلا و نحوه، لان ضرب الامثال تذكير ووعظ، ذكره المهدوى. والمعنى واحد. (وكلا تبرنا تتبيرا) أي أهلكنا بالعذاب. وتبرت الشئ كسرته. وقال المؤرج والاخفش: دمرناهم تدميرا. تبدل التاء والباء من الدال والميم. قوله تعالى: ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا (40) قوله تعالى: (ولقد أتوا على القرية) يعنى مشركي مكة. والقرية قرية قوم لوط. و (مطر السوء) الحجارة التى أمطروا بها. (أفلم يكونوا يرونها) أي في أسفارهم ليعتبروا. قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كما قال الله تعالى: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين " وقال: " وإنهما لبإمام مبين " وقد تقدم (1). (بل كانوا لا يرجون نشورا) أي لا يصدقون بالبعث. ويجوز أن يكون معنى " يرجون " يخافون. ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه: بل كانوا لا يرجون ثواب الآخرة. (1) ج‍ 10 ص 45 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 35 ]
قوله تعالى: وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذى بعث الله رسولا (41) إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا إن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا (42) قوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا) جواب " إذا " " إن يتخذونك " لان معناه يتخذونك. وقيل: الجواب محذوف وهو قالوا أو يقولون: " أهذا الذى " وقوله: " إن يتخذونك إلا هزوا " كلام معترض. ونزلت في أبى جهل كان يقول للنى صلى الله عليه وسلم مستهزئا: (أهذا الذى بعث الله رسولا) والعائد محذوف، أي بعثه الله. " رسولا " نصب على الحال والتقدير: أهذا الذى بعثه الله مرسلا. " أهذا " رفع بالابتداء و " الذى " خبره. " رسولا " نصب على الحال. و " بعث " في صلة " الذى " واسم الله عزوجل رفع ب‍ " بعث ". ويجوز أن يكون مصدرا، لان معنى " بعث " أرسل ويكون معنى " رسولا " رسالة على هذا. والالف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار. (إن كاد ليضلنا) أي قالوا قد كاد أن يصرفنا. (عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها) أي حبسنا أنفسنا على عبادتها. قال الله تعالى: (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) يريد من أضل دينا أهم أم محمد، وقد رأوه في يوم بدر. قوله تعالى: أرءيت من اتخذ إلهه هوئه أفأنت تكون عليه وكيلا (43) قوله تعالى: (أرايت من اتخذ إلهه هواه) عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من إضمارهم على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم، ثم يعمد إلى حجر يعبده من غير حجة. قال الكلبى وغيره: كانت العرب إذا هوى الرجل منهم شيئا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الاول وعبد الاحسن، فعلى هذا يعنى: أرأيت من اتخذ إلهه بهواه، فحذف الجار. وقال ابن عباس: الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا هذه الآية.
[ 36 ]
قال الشاعر: لعمر أبيها لو تبدت لناسك * * قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك لصلى لها قبل الصلاة لربه * * ولا ارتد في الدنيا بأعمال فاتك وقيل: " اتخذ إلهه هواه " أي أطاع هواه. وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا أتبعه، والمعنى واحد. (أفأنت تكون عليه وكيلا) أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الايمان وتخرجه من هذا الفساد. أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئك، وإنما عليك التبليغ. وهذا رد على القدرية. ثم قيل: إنها منسوخة بآية القتال. وقيل: لم تنسخ، لان الآية تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعم بل هم أضل سبيلا (44) قوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون) ولم يقل أنهم لان منهم من قد علم أنه يؤمن. وذمهم عزوجل بهذا. " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون " سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه، أي أهم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع. وقيل: المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون فكأنهم لم يسمعوا، والمراد أهل مكة. وقيل: " أم " بمعنى بل في مثل هذا الموضع. (إن هم إلا كالانعام) أي في الاكل والشرب لا يفكرون في الآخرة. (بل هم أضل) إذ لا حساب ولا عقاب على الانعام. وقال مقاتل: البهائم تعرف ربها وتهتدى إلى مراعيها وتنقاد لاربابها التى تعقلها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذى خلقهم ورزقهم. وقيل: لان البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا. قوله تعالى: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا (45) ثم قبضنه إلينا قبضا يسيرا (46)
[ 37 ]
قوله تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ومجوز أن تكون من العلم. وقال الحسن وغيرهما: مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل: هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها. والاول أصح، والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة، فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذى علة: وفيها ترد نفوس الاموات والارواح منهم إلى الاجساد، وتطيب نفوس الاحياء فيها. وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب. وقال أبو العالية: نهار الجنة هكذا، وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. أبو عبيدة: الظل بالغداة والفئ بالعشى، لانه يرجع بعد زوال الشمس، سمى فيئا لانه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال الشاعر، وهو حميد بن ثور يصف سرحة (1) وكنى بها عن امرأة: فلا الظل من برد الضحا تستطيعه * * ولا الفئ من برد العشى تذوق وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس والفئ ما نسخ الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فئ وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل. (ولو شاء لجعله ساكنا) أي دائما مستقرا لا تنسخه الشمس. ابن عباس: يريد إلى يوم القيامة، وقيل: المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع. (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شئ ومعنى، لان الاشياء تعرف بأضدادها ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة. فالدليل فعيل بمعنى الفاعل. وقيل: بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب. أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به، أي أتبعناها إياه. فالشمس دليل أي حجة وبرهان، وهو الذى يكشف المشكل ويوضحه. ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لانه في معنى الاسم، كما يقال: الشمس برهان والشمس حق. (ثم قبضناه) يريد ذلك الظل الممدود. (إلينا قبضا يسيرا) أي يسيرا قبضه علينا. وكل أمر ربنا عليه يسير. فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع (1) السرحة: واحدة السرح، وهو شجر كبار عظام لا ترعى وإنما يستظل فيه. (*)
[ 38 ]
الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرق على الارض وعلى الاشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما ذلك بقية نور النهار. وقال قوم: قبضه بغروب الشمس، لانها ما لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله بمجئ الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل: إن هذا القبض وقع بالشمس، لانها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا، قاله أبو مالك وإبراهيم التيمى. وقيل: " ثم قبضناه " أي قبضنا ضياء الشمس بالفئ " قبضا يسيرا ". وقيل: " يسيرا " أي سريعا، قاله الضحاك. قتادة: خفيا، أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا، كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعة واحدة. فهذا معنى قول قتادة، وهو قول مجاهد. قوله تعالى: وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا (47) وفيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وهو الذى جعل لكم الليل لباسا) يعنى سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن. قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الاشياء ويغشاها. الثانية - قال ابن العربي: ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه، لان الليل لباس. وهذا يوجب أن يصلى في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه. والستر في [ الصلاة ] (1) عبادة تختص بها ليست لاجل نظر الناس. ولا حاجة إلى الاطناب في هذا. الثالثة - قوله تعالى: (والنوم سباتا) أي راحة لابدانكم بانقطاعكم عن الاشغال. وأصل السبات من التمدد. يقال: سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته. ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة. وقيل: للنوم سبات لانه بالتمدد يكون، وفى التمدد معنى الراحة. وقيل: (1) في الاصول: " في الظلام ". والتصويب من " أحكام القرآن لابن العربي ". (*)
[ 39 ]
السبت القطع، فالنوم انقطاع عن الاشتغال، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الاعمال فيه. وقيل: السبت الاقامة في المكان، فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه، فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة. وقال الخليل: السبات نوم ثقيل، أي جعلنا نومكم ثقيلا ليكمل الاجمام والراحة. الرابعة - قوله تعالى: (وجعل النهار نشورا) من الانتشار للمعاش، أي النهار سبب الاحياء للانتشار. شبه اليقظة فيه بتطابق الاحياء مع الاماتة. وكان عليه السلام إذا أصبح قال: " الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ". قوله تعالى: وهو الذى أرسل الريح بشرا بين يدى رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا (48) قوله تعالى: (وهو الذى أرسل الرياح نشرا بين يدى رحمته) تقدم في " الاعراف " (1) مستوفى. قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا). فيه خمس عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: " ماء طهورا " يتطهر به، كما يقال: وضوء للماء الذى يتوضأ به. وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورا. فالطهور (بفتح الطاء) الاسم. وكذلك الوضوء والوقود. وبالضم المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة، قاله ابن الانباري. فبين أن الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره، فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر، وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرا مطهرا. وإلى هذا ذهب الجمهور. وقيل: إن " طهورا " بمعنى طاهر، وهو قول أبى حنيفة، وتعلق بقوله تعالى: " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " يعنى طاهرا. (1) راجع ج‍ 7 ص 228 و " نشرا " بالنون قراءة نافع. (*)
[ 40 ]
ويقول الشاعر: خليلي هل في نظرة بعد توبة * * أداوى بها قلبى على فجور إلى رجح الاكفال غيد (1) من الظبا * * عذاب الثنايا ريقهن طهور فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر. وتقول العرب: رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه. ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغل والحسد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ: " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ". ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الاعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة. وأما قول الشاعر: *... ريقهن طهور * فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب، وطيبه في النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الاحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية، فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون. ألا ترى إلى قول بعضهم: ولو لم تلامس صفحة الارض رجلها * * لما كنت أدرى علة للتيمم وهذا كفر صراح، نعوذ بالله منه. قال القاضى أبو بكر بن العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنه، إلا أنى تأملت من طريق العربية فوجدت فيه (1) في ابن العربي واللسان مادة رجح ": * إلى رجح الاكفال هيف خصورها * وامرأة رجاح وراجح، ثقيلة العجيزه، من نسوة رجح. (*)
[ 41 ]
مطلعا مشرقا، وهو أن بناء فعول للمبالغة، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل المتعدى كما قال الشاعر: * ضروب بنصل السيف سوق سمانها (1) * وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر: * نؤوم الضحا لم تنتطق عن تفضل (2) * وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة، كقوله عليه السلام: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ". وأجمعت الامة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء ولا يتعدى إلى سائر المائعات وهى طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا: وقود وسحور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب والطعم المتسحر به، فوصف الماء بأنه طهور (بفتح الطاء) أيضا يكون خبرا عن الآلة التى يتطهر بها. فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرا عنه. فثبت بهذا أن اسم الفعول (بفتح الفاء) يكون بناء للمبالغة ويكون خبرا عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا ". وقوله عليه السلام: " جعلت لي الارض مسجدا وطهورا " يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة، فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قول: " ليطهركم به " نص في أن فعله يتعدى إلى غيره. الثانية - المياه المنزلة من السماء والمودعة في الارض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها، والمخالط للماء على ثلاثه أضرب: ضرب يوافقه (1) هذا صدر بيت من قصيدة لابي طالب بن عبد المطلب يمدح بها مسافر بن عمر والقرشي، وتمامه. * إذا عدموا زادا فإنك عاقر * (2) هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس، وصدره: * ويضحى فنيت المسك فوق فراشها * والانتطاق: الائتزاز للعمل. والتفضل: التوشح، وهو لبسها أدنى ثيابها. (*)
[ 42 ]
في صفتيه جميعا، فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته لهما وهو التراب. والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهى الطهارة، فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير، كماء الورد وسائر الطاهرات. والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعا، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعا لمخالفته له فيهما وهو النجس. الثالثة - ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات. ولم يحدوا بين القليل والكثير حدا يوقف عنده، إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الاذى أنه قد أفسد الماء، وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم ومن اتبعهم من المصريين. إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك. وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه: أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا. وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء. وإلى هذا ذهب إسمعيل بن إسحق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الابهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك من البغداديين، وهو قول الاوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن على. وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيد الاثر. وقال أبو حنيفة: إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه. ووجه تحققها عنده أن تقع مثلا نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس. وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي بحديث القلتين، وهو حديث مطعون فيه، اختلف في إسناده ومتنه، أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني، فإنه صدر به كتابه وجمع طرقه. قال ابن العربي: وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر. وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت
[ 43 ]
في الاثر، لانه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولان القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حده النبي صلى الله عليه وسلم، لانه من أصل دينهم وفرضهم، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف. قلت: وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد. وفي سنن الدارقطني عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال: القلال الخوابى العظام. وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين. ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر، لسياقه حديث الاسراء عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة " وذكر الحديث. قال ابن العربي: وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدرى في بئر بضاعة (1)، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم. وهو أيضا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه. وقد فاوضت الطوسي الاكبر في هذه المسألة دفقال: إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه، إذ لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظاهر القرآن وهو قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " وهو ماء بصفاته، فإذا تغير عن شئ منها خرج عن الاسم لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرا يعول عليه قال: (باب إذا تغير وصف الماء) وأدخل الحديث الصحيح: " ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب (2) دما اللون لون الدم والريح ريح المسك ". فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية. ولذلك قال علماؤنا: إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه. ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسا له للمخالطة والاولى مجاورة لا تعويل عليها. (1) بئر بضاعة: بئر بالمدينة. ويقال إن بضاعة اسم المرأة نسبت إليها البئر. (2) يثعب: يجري. (*)
[ 44 ]
قلت: وقد استدل به أيضا على نقيض ذلك، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله. ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثا نجسا، وأنه صار مسكا، وإن المسك بعض دم الغزال. فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته. وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء. وإلى الاول ذهب عبد الملك. قال أبو عمر: جعلوا الحكم للرائحة دون اللون، فكان الحكم لها فاستدلوا عليها في زعمهم بهذا الحديث. وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسة أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله. وقال الجمهور: إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة وحمأة. وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه، ولا التباس معه. الرابعة - الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجرى عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه، وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه. الخامسة - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ويكره سؤر النصراني وسائر الكفار والمدمن الخمر، وما أكل الجيف، كالكلاب وغيرها. ومن توضأ بسؤرهم فلا شئ عليه حتى يستيقن النجاسة. قال البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصرانية. ذكر سفيان بن عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال: من أين جئت بهذا الماء ؟ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء سماء أطيب منه. قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية، فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمى تسلمي، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق. قال: فكشفت عن رأسها، فإذا
[ 45 ]
مثل الثغامة (1)، فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن ! فقال عمر رضى الله عنه: اللهم اشهد. خرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسمعيل قال حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجى قال حدثنا سفيان.. فذكره. ورواه أيضا عن الحسين بن إسمعيل قال حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي...، وذكر الحديث بمثل ما تقدم. السادسة - فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الاناء سبعا ولا يتوضأ منه وهو طاهر. وقال الثوري: يتوضأ بذلك الماء ويتمم معه. وهو قول عبد الملك ابن عبد العزيز ومحمد بن مسلمة. وقال أبو حنيفة: الكلب نجس ويغسل الاناء منه لانه نجس. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الاناء من ولوغه. وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا ينجس ولوغه شيئا ولغ فيه طعاما ولا غيره، إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء ليسارة مؤنته. وكلب البادية والحاضرة سواء. ويغسل الاناء منه على كل حال سبعا تعبدا. هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه. ذكر ابن وهب وقال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبى هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها. فقال: " لا ما أخذت في بطونها ولنا ما بقى شراب وطهور " أخرجه الدارقطني. وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه. وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرشون شيئا من ذلك. وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص: هل ترد حوضك السباع. فقال عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. أخرجه مالك والدارقطني. ولم يفرق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة للمخالف (1) الثغامة: نبات أبيض الثمر والزهر يشبه بياض الشيب به. (*)
[ 46 ]
في الامر بإراقة ما ولغ فيه وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته لان النفس تعافه لا لنجاسته، لان التنزه من الاقذار مندوب إليه، أو تغليظا عليهم لانهم نهوا عن اقتنائها كما قال ابن عمر والحسن، فلما لم ينتهوا ذلك غلظ عليهم في الماء لقلته عندهم في البادية، حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها. وأما الامر بغسل الاناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين: أحدهما - أن الغسل قد دخله العدد. الثاني - أنه قد جعل للتراب فيه مدخل لقوله عليه السلام: " وعفروه الثامنة بالتراب ". ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب فيه مدخل كالبول. وقد جعل صلى الله عليه وسلم الهر وما ولغ فيه طاهرا، والهر سبع لا خلاف في ذلك، لانه يفترس ويأكل الميتة، فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع، لانه إذا جاء نص ذلك في أحدهما كان نصا في الآخر. وهذا من أقوى أنواع القياس. هذا لو لم يكن هناك دليل، وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف. والحمد لله. السابعة - ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه، فإن أنتن لم يتوضأ به. وكذلك ما كان له دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه، إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه، وليس بنجس عند مالك. وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلا أو كثيرا عند المدنيين. واستحب بعضهم أن ينزح من ذلك الماء دلاء لتطيب النفس به، ولا يحدون في ذلك حدا لا يتعدى. ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا. وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم، فيجمع بين الطهارتين احتياطا، فإن لم يفعل وصلى بذلك الماء أجزأه. وروى الدارقطني عن محمد بن سيرين أن زنجيا وقع في زمزم - يعنى فمات - فأمر به ابن عباس رضى الله عنه فأخرج فأمر بها أن تنزح. قال: فغلبتهم عين جاءتهم من
[ 47 ]
الركن فأمر بها فدسمت بالقباطى (1) والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم. وأخرجه عن أبى الطفيل أن غلاما وقع في بئر زمزم فنزحت. وهذا يحتمل أن يكون الماء تغير، والله أعلم. وروى. شعبه عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول: كل نفس سائلة لا يتوضأ منها، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد (2) إذا وقعن في الركاء (3) فلا بأس به. قال شعبة: وأظنه قد ذكر الوزغة. أخرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسمعيل قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة...، فذكره. الثامنة - ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الامصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره، لحديث أبي قتادة، أخرجه مالك وغيره. وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف. وروي عن عطاء بن أبي رباح وسعيد ابن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الاناء منه. واختلف في ذلك عن الحسن. ويحتمل أن كون الحسن رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه. قال الترمذي لما ذكر حديث مالك: " وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، مثل الشافعي وأحمد وإسحق، لم يروا بسؤر الهرة بأسا. وهذا أحسن شئ في الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، ولم يأت به أحد أتم من مالك " قال الحافظ أبو عمر: الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح من حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الاناء حتى شربت. الحديث. وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقوله، فإنه كان يكره سؤره. وقال: إن توضأ به أحد أجزأه، ولا أعلم حجة لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر عليه، وقد فرقت السنة بينهما في باب (1) دسم الشئ يدسمه دسما: سده. والقباطي (بالضم): ثياب من كتان رقيق يعمل بمصر، نسبة إلى القبط على غير قياس. والمطارف: جمع مطرف، وهو رداء من خز مربع ذو أعلام. (2) الجدجد كهدهد طوير شبه الجرادة. (3) الركاء (جمع ركوة): إباء صغير من جلد يشرب فيه الماء. (*)
[ 48 ]
التعبد في غسل الاناء، ومن حجته السنة خاصمته، وما خالفها مطرح. وبالله التوفيق. ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طهور الاناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين " شك قرة. وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد، وقرة ثقة ثبت. قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني، ومتنه: " طهور الاناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الاولى بالتراب والهر مرة أو مرتين ". قرة شك. قال أبو بكر: كذا رواه أبو عاصم مرفوعا، ورواه غيره عن قرة (ولوغ الكلب) مرفعا و (ولوغ الهر) موقوفا. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغسل الاناء من الهر كما يغسل من الكلب " قال الدارقطني: لا يثبت هذا مرفوعا والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه. وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب. وعن مجاهد أنه قال في الاناء يلغ فيه السنور قال: اغسله سبع مرات. قال الدارقطني. التاسعة - الماء المستعمل طاهر إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة، إلا أن مالكا وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به. وقال مالك: لا خير فيه، ولا أحب لاحد أن يتوضأ به، فإن فعل وصلى لم أر عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا يجوز استعماله في رفع الحدث، ومن توضأ به أعاد، لانه ليس بماء مطلق، ويتمم واجده لانه ليس بواجد ماء. وقال بقولهم في ذلك اصبغ بن الفرج، وهو قول الاوزاعي. واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك وحديث عمرو بن عنبسة أخرجه مسلم، وغير ذلك من الآثار. وقالوا: الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه، فوجب التنزه عنه لانه ماء الذنوب. قال أبو عمر: وهذا عندي لا وجه له، لان الذنوب لا تنجس الماء لانها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسد، وإنما معنى قوله " خرجت الخطايا مع الماء " إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده
[ 49 ]
المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم. وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك، وأن الوضوء بالماء المستعمل جائز، لانه ماء طاهر لا ينضاف إليه شئ وهو ماء مطلق. واحتجوا بإجماع الامة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة. وإلى هذا ذهب أبو عبد الله المروزى محمد بن نصر. وروى عن علي بن أبى طالب وابن عمر وأبى أمامة وعطاء بن أبى والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهرى أنهم قالوا فيمن نسى مسح رأسه فوجد في لحيته بللا: إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه، فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل. روى عبد السلام بن صالح حدثنا إسحق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرضى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات يوم وقد اغتسل وقد بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء، فقلنا: يا رسول الله، هذه لمعة لم يصبها الماء، فكان له شعر وارد (1)، فقال (2) بشعره هكذا على المكان فبله. أخرجه الدارقطني، وقال: عبد السلام بن صالح هذا بصرى وليس بقوى وغيره من الثقات يرويه عن إسحق عن العلاء مرسلا، وهو الصواب. قلت: الراوي الثقة عن إسحق بن سويد العدوى عن العلاء بن زياد العدوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل...، الحديث فيما ذكره هشيم. قال ابن العربي: " مسألة الماء المستعمل إنما تنبنى على أصل آخر، وهو أن لآلة إذا أدى بها فرض هل يؤدى بها فرض آخر أم لا، فمنع ذلك المخالف قياسا على الرقبة إذا أدى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر، وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لاداء الفرض بعتق آخر. ونظيره من الماء ما تلف على الاعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر لتلف عينه حسا كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكما، وهذا نفيس فتأملوه ". (1) أي مسترسل طويل. (2) العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وقال بالماء على يده، أي قلب. وقال بثوب، أي رفعه. وكل ذلك على المجاز والاتساع. (*)
[ 50 ]
العاشرة - لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليه الماء، راكدا كان الماء أو غير راكد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الماء لا ينجسه شئ إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه ". وفرقت الشافعية فقالوا: إذا وردت النجاسة: على الماء تنجس، واختاره ابن العربي. وقال: من أصول الشريعة في أحكام المياه أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده ". فمنع من ورود اليد على الماء، وأمر بإيراد الماء عليها، وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة - قليلا كان أو كثيرا - لما طهرت. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بول الاعرابي في المسجد: " صبوا عليه ذنوبا (1) من ماء ". قال شيخنا أبو العباس: واستدلوا أيضا بحديث القلتين، فقالوا: إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس وإن لم تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقبل على النجاسة فأذهب عينها بقى الماء على طهارته وأزال النجاسة وهذه مناقضة، إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شئ، فليس الباب باب التعبدات بل من باب عقلية المعاني، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها. ثم هذا كله منهم يرده قوله عليه الصلاة والسلام: " الماء طهور لا ينجسه شئ إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ". قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني عن رشدين بن سعد أبى الحجاج عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبى أمامة البالهى وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر اللون. وقال: لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوى، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيدالله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبى سعيد الخدرى قال قيل: يا رسول الله، (1) الذنوب (بالفتح): الدلو. (*)
[ 51 ]
أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر تلقى فيها الحيض (1) ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الماء طهور لا ينجسه شئ " أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني كلهم بهذا الاسناد. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة. هذا الحديث ولم يرو أحد حديث أبى سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة. فهذا الحديث نص في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم صلى الله عليه وسلم بطهارته وطهوره. قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها، قلت: أكثر ما يكون الماء فيها ؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص ؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: وقدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤها عما كانت عليه ؟ فقال لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون. فكان هذا دليلا لنا على ما ذكرناه، غير أن ابن العربي قال: إنها في وسط السبخة، فماؤها يكون متغيرا من قرارها، والله أعلم. الحادية عشرة - الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والانهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شئ خالطه كما خلقه الله عزوجل صافيا ولا يضره لون أرضه على ما بيناه. وخالف في هذه الجملة. أبو حنيفة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر. فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به. إلا أن أصحابه يقولون: إذا زالت النجاسة به جاز. وكذلك عند النار والشمس، حتى أن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ. وكذلك النجاسة على الارض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضع، بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب. قال ابن العربي: لما وصف الله سبحانه الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك، وكذلك قال عليه الصلاة (1) الحيض: الخرق التي يمسح بها دماء الحيض، ويقال لها المحايض. (*)
[ 52 ]
والسلام لاسماء بنت الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب: " حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ". فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لما في ذلك من إبطال الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوسا حتى يقال كل ما أزالها فقد قام به الغرض، وإنما النجاسة حكم شرعى عين له صاحب الشرع الماء فلا يلحق به غيره، إذ ليس في معناه، ولانه لو لحق به لا سقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالاصل في إسقاطه سقط في نفسه. وقد كان تاج السنة ذو العز ابن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنى. قلت: وأما ما استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية، ضعاف لا يقوم شئ منها على ساق، ذكرها الدارقطني وضعفها ونص عليها. وكذلك ضعف ما روى عن ابن عباس موقوفا " النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء ". في طريقه ابن محرز متروك الحديث. وكذلك ما روى عن على أنه قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ. الحجاج وأبو ليلى ضعيفان. وضعف حديث ابن مسعود وقال: تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. وذكر عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبدالله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعى الجن ؟ فقال لا. قلت: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته. وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال: سألني النبي صلى الله عليه وسلم: " ما في إداوتك (1) " فقلت: نبيذ. فقال: " تمرة طيبة وماء طهور " قال: فتوضأ منه. قال أبو عيسى وإنما روى هذا الحديث عن أبى زيد عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية. غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ، منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق، وقال إسحق: إن ابتلى رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحب إلى. قال أبو عيسى: وقول من يقول لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه، لان الله تعالى قال: " فلم تجدوا ماء فتيمموا (1) الاداوة (بالكسر): إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
[ 53 ]
صعيدا طيبا " وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف، وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في " المائدة " (1) بيانه والله أعلم. الثانية عشرة - لما قال الله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " وقال: " ليطهركم به " توقف جماعة في ماء البحر، لانه ليس بمنزل من السماء، حتى رووا عن عبد الله بن عمر وابن عمرو معا أنه لا يتوضأ به، لانه نار ولانه طبق جهنم. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكمه حين قال لمن سأله: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " أخرجه مالك. وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وابن عباس، لم يروا بأسا بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر، منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو، وقال عبد الله بن عمرو: هو نار. قال أبو عمر، وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم فقال: هو عندي حديث صحيح. قال أبو عيسى فقلت للبخاري: هشيم يقول فيه ابن أبى برزة. فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبى بردة. قال أبو عمر: لا أدرى ما هذا من البخاري رحمه الله، ولو كان صحيحا لاخرجه في مصنفه الصحيح عنده، ولم يفعل لانه لا يعول في الصحيح إلا على الاسناد. وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح لان العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه. وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالامصار من الفقهاء: أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز، إلا ما روى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاصى أنهما كرها الوضوء بماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الامصار على ذلك ولا عرج عليه، ولا التفت إليه لحديث هذا الباب. وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الاسناد الظاهر الصحة لمعنى ترده الاصول. وبالله التوفيق. (1) راجع ج‍ 6 ص 105 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 54 ]
قال أبو عمر: وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، من عباد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكا، كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير، كثير العمل، خائفا لله، يكنى أبا عبد الله، سكن المدينة لم ينتقل عنها، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبى يسأل عن صفوان بن سليم فقال: ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين. وأما سعيد بن سلمة. فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان - والله أعلم - ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم. وأما المغيرة بن أبى بردة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة. وقيل: ليس بمجهول. قال أبو عمر: المغيرة بن أبى بردة وجدت ذكره في مغازى موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر. وروى الدار قطني من غير طريق مالك عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله ". قال إسناد حسن. الثالثة عشرة - قال ابن العربي: توهم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضله لا يتوضأ به، وهو مذهب باطل، فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت: أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت: إنى قد اغتسلت منه. فقال: " إن الماء ليس عليه نجاسة - أو - إن الماء لا يجنب ". قال أبو عمر: وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهى عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. وزاد بعضهم في بعضها: ولكن ليغترفا جميعا. فقالت طائفة: لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد، لان كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه. وقال آخرون: إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالاناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها. وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثرا. والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الامصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله، انفردت المرأة بالاناء أو لم تنفرد. وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح. والذى نذهب إليه أن
[ 55 ]
الماء لا ينجسه شئ إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والاقوال. والله المستعان. روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة. قال هذا حديث حسن صحيح. وروى البخاري عن عائشة قالت: كنت اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يقال له الفرق (1). وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله، إنى كنت جنبا. قال: " إن الماء لا يجنب ". قال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي. وروى الدارقطتى عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أتوضأ أنا والنبى صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك. قال: هذا حديث حسن صحيح. وروى أيضا عن رجل من بنى غفار قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة. وفي الباب عن عبد الله بن سرجس، وكره بعض الفقهاء فضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحق. الرابعة عشرة - روى الدارقطني عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخن له الماء في قمقمة (2) ويغتسل به. قال: وهذا إسناد صحيح. وروى عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت ماء في الشمس. فقال: " لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص ". رواه خالد بن إسمعيل المخزومى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وهو متروك. ورواه عمرو بن محمد الاعشم عن فليح عن الزهري عن عروة عن عائشة. وهو منكر الحديث، ولم يروه غيره عن فليح، ولا يصح عن الزهري، قاله الدارقطني. (1) الفرق (بالتحريك): مكيال يسع ستة عشر رطلا. وبالسكون مائة وعشرون رطلا. (2) القمقمة والقمقم (كهدهد): ما يسخن فية الماء من نحاس وغيره. (*)
[ 56 ]
الخامسة عشرة - كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة، لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذهما. وذلك - والله أعلم - للتشبه بالاعاجم والجبابرة لا لنجاسة فيهما. ومن توضأ فيهما أجزاه وضوءه وكان عاصيا باستعمالهما. وقد قيل: لا يجزئ الوضوء في أحدهما. والاول أكثر، قاله أبو عمر. وكل جلد ذكى فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ، على اختلاف من قوله. وقد تقدم في " النحل " (1). قوله تعالى: لنحى به بلدة ميتا ونسقية مما خلقنا أنعما وأناسى كثيرا (49) قوله تعالى: (لنحيى به) أي بالمطر. (بلدة ميتا) بالجدوبة والمحل وعدم النبات. قال كعب: المطر روح الارض يحييها الله به. وقال: " ميتا " ولم يقل ميتة لان معنى البلدة والبلد واحد، قاله الزجاج. وقيل: أراد بالبلد المكان. (ونسقية) قراءة العامة بضم النون. وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والاعمش فيما روى المفضل عنهما " نسقيه " (بفتح) (2) النون. (مما خلقنا أنعاما وأناسى كثيرا) أي بشرا كثيرا وأناسى واحده إنسى نحو جمع القرقور (3) قراقير وقراقر في قول الاخفش والمبرد وأحد قولى الفراء، وله قول آخر وهو أن يكون واحده إنسانا ثم تبدل من النون ياء، فتقول: أناسى، والاصل أناسين، مثل سرحان وسراحين، وبستان وبساتين، فجعلوا الياء عوضا من النون، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتى، لا فرق بينهما. قال الفراء: ويجوز " أناسى " بتخفيف الياء التى فيما بين لام الفعل وعينه، مثل قراقير وقراقر. وقال " كثيرا " ولم يقل كثيرين، لان فعيلا قد يراد به الكثرة، نحو " وحسن أولئك رفيقا ". (1) راجع ج‍ 10 ص 156 طبعة أولى أو ثانية. (2) في الاصول: " بضم النون ". وهو تحريف والتصويب عن أبى حيان وغيره. (3) القرقر: ضرب من السفن. وقيل: هي السفينة العظيمة أو الطويلة. (*)
[ 57 ]
قوله تعالى: ولقد صرفنه بينهم ليذكروا فأبى أكثر ا لناس إلا كفورا (50) قوله تعالى: (ولقد صرفناه بينهم) يعنى القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة: قوله تعالى: " تبارك الذى نزل الفرقان ". وقوله: " لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني " وقوله: " اتخذوا هذا القرآن مهجورا ". (ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا) أي جحودا له وتكذيبا به. وقيل: " ولقد صرفناه بينهم " هو المطر. روى عن ابن عباس وابن مسعود: وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعض نقص من غيرهم. فهذا معنى التصريف. وقيل: " صرفناه بينهم " وابلا وطشا وطلا ورهاما - الجوهرى: الرهام الامطار اللينة - ورذاذا. وقيل: تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقى والزراعات به والطهارات وسقى البساتين والغسل وشبهه. " ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا " قال عكرمة: هو قولهم في الانواء: مطرنا بنوء كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا، وأن نظيره فعل النجم كذا، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر. وروى الربيع بن صبيح قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا ". وروى من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصى صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار ". وقيل: التصريف راجع إلى الريح، وقد مضى في " البقرة " (1) بيانه. وقرأ حمزة والكسائي " ليذكروا " مخففة الذال من الذكر. الباقون مثقلا من التذكر، أي ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الاشراك به، فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر. (1) راجع ج‍ 2 ص 197 طبعة ثانية. (*)
[ 58 ]
قوله تعالى: ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا (51) فلا تطع الكفرين وجهدهم بة جهادا كبيرا (52) قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) أي رسولا ينذرهم كما قسمنا المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك. (فلا تطع الكافرين) أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم. (وجاهدهم به) قال ابن عباس بالقرآن. ابن زيد: بالاسلام. وقيل: بالسيف، وهذا فيه بعد، لان السورة مكية نزلت قبل الامر بالقتال. (جهادا كبيرا) لا يخالطه فتور. قوله تعالى: وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا (53) قوله تعالى: (وهو الذى مرج البحرين) عاد الكلام إلى ذكر النعم. و " مرج " خلى وخلط وأرسل. قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر. قال ابن عرفة: " مرج البحرين " أي خلطهما فهما يلتقيان، يقال: مرجته إذا خلطته. ومرج الدين والامر اختلط واضطرب، ومنه قوله تعالى: " في أمر مريج ". ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن العاصى (1): " إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا " وشبك بين أصابعه فقلت له: كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك ! قال: " الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة " خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما. وقال الازهرى: " مرج البحرين " خلى بينهما، يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب: المرج الاجراء، فقوله: " مرج البحرين " أي أجراهما. وقال الاخفش: يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل بمعنى. (هذا عذب فرات) أي حلو شديد العذوبة. (1) الحديث في الفتنة. (*)
[ 59 ]
(وهذا ملح أجاج) أي فيه ملوحة ومرارة. وروى عن طلحة أنه قرئ " وهذا ملح " بفتح الميم وكسر اللام. (وجعل بينهم يرزخا) أي حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه، كما قال في سورة الرحمن " مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان ". (وحجرا محجورا) أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر. فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع. وقال الحسن: يعنى بحر فارس وبحر الروم. وقال ابن عباس وابن جبير: يعنى بحر السماء وبحر الارض. قال ابن عباس: يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه. " وحجرا محجورا " حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يملح هذا العذب بالملح. قوله تعالى: وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (وهو الذى خلق من الماء بشرا) أي خلق من النطفة إنسانا. (فجعله) أي جعل الانسان " نسبا وصهرا ". وقيل: " من الماء " إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حى مخلوق من الماء. وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك. الثانية - قوله تعالى: (فجعله نسبا وصهرا) النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين. قال ابن العربي: النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والانثى على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا، ولذلك لم يدخل تحت قوله: " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " بنته من الزنى، لانها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين، وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا، فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام، لان الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الاحكام في الحل و الحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما
[ 60 ]
. قلت: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى، فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في " النساء " (1) مجودا. قال الفراء: النسب الذى لا يحل نكاحه، وقاله الزجاج: وهو قول على بن أبى طالب رضي الله عنه. واشتقاق الصهر من صهرت الشئ إذا خلطته، فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها. وقيل: الصهر قرابة النكاح، فقرابة الزوجة هم الاختان، وقرابة الزوج هم الاحماء. والاصهار يقع عاما لذلك كله، قاله الاصمعي. وقال ابن الاعرابي: الاختان أبو المرأة وأخوهما وعمها - كما قال الاصمعي - والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه. وقال محمد بن الحسن في رواية أبى سليمان الجوزجانى: أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذى رحم محرم من زوجته. قال النحاس: الاولى في هذا أن يكون القول في الاصهار ما قال الاصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعا. يقال صهرت الشئ أي خلطته، فكل واحد منهما قد خلط صاحبه. والاولى في الاختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع، روى محمد ابن إسحق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أنت يا على فختنى وأبو ولدي وأنت منى وأنا منك ". فهذا على أن زوج البنت ختن. والجهة الاخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه، وكأن الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها. وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع. قال ابن عطية: وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس. وفي رواية أخرى من الصهر سبع، يريد قوله عزوجل " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت " فهذا هو النسب. ثم يريد بالصهر قوله تعالى: " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " إلى قوله: " وأن تجمعوا بين الاختين ". ثم ذكر المحصنات. ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار (1) راجع ج‍ 5 ص 114 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 61 ]
بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه. ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الاختين والمحصنات، وهن ذوات الازواج. قلت: فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبا، وهو قول الزجاج. قال أبو إسحق: النسب الذى ليس بصهر من قوله جل ثناؤه: " حرمت عليكم أمهاتكم " إلى قوله " وأن تجمعوا بين الاختين " والصهر من له التزويج. قال ابن عطية: وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات. قلت: وذكر هذا القول النحاس، وقال: لان المصاهرة من جهتين تكون. وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رضى الله عنه، لانه جمعه معه نسب وصهر. قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. (وكان ربك قديرا) على خلق ما يريده. قوله تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا (55) قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا ينقعهم ولا يضرهم) لما عدد النعم وبين كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر، أي إن الله هو الذى خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتا جمادات لا تنفع ولا تضر. (وكان الكافر على ربه ظهيرا) روى عن ابن عباس " الكافر " هنا أبو جهل لعنه الله، وشرحه أنه يستظهر بعبادة الاوثان على أوليائه. وقال عكرمة: " الكافر " إبليس، ظهر على عداوة ربه. وقال مطرف: " الكافر " هنا الشيطان. وقال الحسن: " ظهيرا " أي معينا للشيطان على المعاصي. وقيل: المعنى، وكان الكافر على ربه هينا ذليلا لا قدر له ولا وزن عنده، من قول العرب: ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه. ومنه قوله تعالى: " واتخذتموه وراءكم ظهريا " أي هينا.
[ 62 ]
ومنه قول الفرزدق: تميم بن قيس لا تكونن حاجتى * * بظهر فلا يعيا على جوابها هذا معنى قول أبى عبيدة. وظهير بمعنى مظهور. أي كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين به لان كفره لا يضره. وقيل: وكان الكافر على ربه الذى يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء، لان الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع. قوله تعالى: وما أرسلنك إلا مبشرا ونذيرا (56) قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57) قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) يريد بالجنة مبشرا ونذيرا من النار، وما أرسلناك وكيلا ولا مسيطرا. (قل ما أسألكم عليه من أجر) يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحى. و " من " للتأكيد. (إلا من شاء) لكن من شاء، فهو استثناء منقطع، والمعنى: لكن من شاء (أن يتخذ ألى ربه سبيلا) بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق. ويجوز أن يكون متصلا ويقدر حذف المضاف، التقدير: إلا أجر " من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " باتباع دينى حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة. قوله تعالى: وتوكل على الحى الذى لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا (58) قوله تعالى: (وتوكل على الحى الذى لا يموت) تقدم معنى التوكل في " آل عمران " (1) وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الامور، وأن الاسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. (وسبح بحمده) أي نزه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء. والتسبيح التنزيه. وقد تقدم. وقيل: " وسبح " أي صل له، وتسمى الصلاة تسبيحا. (وكفى به بذنوب عباده خبيره) أي عليما فيجازيهم بها. (1) راجع ج‍ 4 ص 189 طبعة أولى أو ثانبة. (*)
[ 63 ]
قوله تعالى: الذى خلق السموت والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا (59) قوله تعالى: (الذى خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى غلى العرش) تقدم في الاعراف (1). و " الذى " في موضع خفض نعتا للحى. وقال: " بينهما " ولم يقل بينهن، لانه أراد الصنفين والنوعين والشيئين، كقول القطامى: ألم يحزنك أن حبال قيس * * وتغلب قد تباينتا انقطاءا أراد وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع، لانه أراد الشيئين والنوعين. (الرحمن فاسئل به خبيرا) قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه. وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن، كما قال تعالى: " سأل سائل بعذاب واقع " وقال الشاعر: هلا سألت الخيل يا بنة مالك * * إن كنت جاهلة بما لم تعلمي (2) وقال [ علقمه بن عبدة ] (3): فإن تسألونى بالنساء فإننى * * خبير بأدواء النساء طبيب أي عن النساء وعما لم تعلمي. وأنكره على بن سليمان وقال: أهل النظر ينكرون أن تكون لباء بمعنى عن، لان في هذا إفسادا لمعاني قول العرب: لو لقيت فلانا للقيك به الاسد، أي للقيك بلقائك إياه الاسد. المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرا. وكذلك قال ابن جبير: الخبير هو الله تعالى. ف‍ " خبيرا " نصب على المفعول به بالسؤال. قلت: قول الزجاج يخرج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيرا، أي عالما به، أي بصفاته وأسمائه. و قيل: المعنى فاسأل له خبيرا، فهو نصب (1) راجع ج‍ 7 ص 218 ما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) البيت من معلقة عنترة. (3) في نسخ الاصل: " وقال آمرؤ القيس " وهو تحريف. والبيت من قصيدة لعلقمة مطلعها: طحا بك قلب في الحسان طروب * * بعيد الشباب عصر حان مشيب (*)
[ 64 ]
على الحال من الهاء المضمرة. قال المهدوى: ولا يحسن حالا إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسئول، ولا يصح كونها حالا من الفاعل، لان الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره. ولا يكون من المفعول، لان المسئول عنه وهو الرحمن خبير أبدا، والحال في أغلب الامر يتغير وينتقل، إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة، مثل: " وهو الحق مصدقا " فيجوز. وأما " الرحمن " ففى رفعه ثلاثة أوجه: يكون بدلا من المضمر الذى في " استوى ". ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره " فاسئل به خبيرا ". ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحي الذى لا يموت الرحمن، يكون نعتا. ويجوز النصب على المدح. قوله تعالى: وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا (60) قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن) أي لله تعالى. (قالوا وما الرحمن) على جهة الانكار والتعجب، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. وزعم القاضى أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدل على ذلك بقوله: " وما الرحمن " ولم يقولوا ومن الرحمن. قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الاخرى " وهم يكفرون بالرحمن ". (أنسجد لما تأمرنا) هذه قراءة المدنيين والبصريين، أي لما تأمرنا أنت يا محمد. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الاعمش وحمزة والكسائي: " يأمرنا " بالياء. يعنون الرحمن، كذا تأوله أبو عبيد، قال: ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا. فقال النحاس: وليس يجب أن يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الاولى أن يكون التأويل لهم " أنسجد لما يأمرنا " النبي صلى الله عليه وسلم، فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الاولى أبين وأقرب تناولا. (وزادهم نفورا) أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورا عن الدين. وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد عداك نفورا.
[ 65 ]
قوله تعالى: تبارك الذى جعل في السماء بروجا وجعل فيها سرجا وقمرا منيرا (61) قوله تعالى: (تبارك الذى جعل في السماء بروجا) أي منازل، وقد تقدم (1) ذكرها. (وجعل فيها سراجا) قال ابن عباس: يعني الشمس، نظيره، " وجعل الشمس سراجا ". وقراءة العامة: " سراجا بالتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي: " سرجا " يريدون النجوم العظام الوقادة. والقراءة الاولى عند أبى عبيد أولى، لانه تأول أن السرج النجوم، وأن البروج النجوم، فيجئ المعنى نجوما ونجوما. النحاس: ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال: السرج النجوم الدرارى. الثعلبي: كالزهرة والمشترى وزحل والسماكين ونحوها. (وقمرا منيرا) ينير الارض إذا طلع. وروى عصمة عن الاعمش " وقمرا " بضم القاف وإسكان الميم. وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذى يروى القراءات، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا. قوله تعالى: وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا (62) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " خلفة " قال أبو عبيدة: الخلفة كل شئ بعد شئ. وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. ويقال للمبطون: أصابته خلفة، أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك. ومنه خلفه النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الاول في الصيف. ومن هذا المعنى قول زهير بن أبى سلمى: بها العين والآرام يمشين خلفة * * وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم (2) (1) راجع ج‍ 10 ص 9 طبعة أولى أو ثانية. (2) العين (بالكسر) جمع أعين وعينا، وهى بقر الوحش، سمية بذلك لسعة أعينها. والاطلاء: جمع طلا، وهو ولد البقرة وولد الظبية الصغير. والمجثم: الموضع الذى يجثم فيه، أي يقام فيه. (*)
[ 66 ]
الرئم ولد الظبى جمعه آرام، يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج. ومنه قول الآخر (1) يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا: ولها بالماطرون إذا * * أكل النمل الذى جمعا خلفة حتى إذا ارتبعت * * سكنت من جلق بيعا في بيوت وسط دسكرة * * حولها الزيتون قد ينعا قال مجاهد: " خلفة " من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، والاول أقوى. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان. وقيل: هو من باب حذف المضاف، أي جعل الليل والنهار ذوى خلفة، أي اختلاف. (لمن أراد أن يذكر) أي يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من طفاته شئ من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. وفي الصحيح: " ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلى ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة ". وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ". الثانية - قال ابن العربي: سمعت ذا الشهيد الاكبر يقول: إن الله تعالى خلق العبد حيا عالما، وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة، إذ الكمال للاول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الاكل والسهر في طاعة الله فليفعل. ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثى عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغنى الوفى الذي ليس بعديم ولا ظلوم. (1) هو يزيد بن معاوية. والماطرون: موضع بالشام قرب دمشق. (*)
[ 67 ]
الثالثة - الاشياء لا تتفاضل بأنفسها، فإن الجواهر والاعراض من حيث الوجود متماثلة، وإنما يقع التفاضل بالصفات. وقد اختلف أي الوقتين أفضل، الليل أو النهار. وفي الصوم غنية في الدلالة، والله أعلم، قاله ابن العربي. قلت: والليل عظيم قدره، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بقيامه فقال: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك "، وقال: " قم الليل " على ما يأتي بيانه. ومدح المؤمنين على قيامه فقال: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع ". وقال عليه الصلاة والسلام: " والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى " حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الرابعة - قرأ حمزة وحده: " يذكر " بسكون الذال وضم الكاف. وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي. وفي مصحف أبى " يتذكر " بزيادة تاء. وقرأ الباقون: " يذكر " بتشديد الكاف. ويذكر ويذكر بمعنى واحد. وقيل: معنى " يذكر " بالتخفيف أي يذكر ما نسيه في أحد الوقتين في الوقت الثاني، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها. (أو أراد شكورا) يقال: شكر يشكر شكرا وشكورا، مثل كفر يكفر كفرا وكفورا. وهذا الشكور على أنهما جعلهما قواما لمعاشهم. وكأنهم لما قالوا: " وما الرحمن " قالوا: هو الذى يقدر على هذه الاشياء. قوله تعالى: وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجهلون قالوا سلما (63) قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا) لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضا وذكر صفاتهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم، كما قال: " سبحان الذى أسرى بعبده " وقد تقدم (1). فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذى يستحق (1) راجع ج‍ 10 ص 205 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 68 ]
أسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: " أولئك كالانعام بل هم أضل " يعنى في عدم الاعتبار، كما تقدم في " الاعراف " (1). وكأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الارض، فحذف هم، كقولك: زيد الامير، أي زيد هو الامير. ف‍ " الذين " خبر مبتدأ محذوف، قاله الاخفش. وقيل: الخبر قوله في آخر السورة: " أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ". وما بين المبتدإ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها، قاله الزجاج. قال: ويجوز أن يكون الخبر " الذين يمشون على الارض ". و " يمشون " عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الارض، وهو معاشرة الناس وخلطتهم. قوله تعالى: " هونا " الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار. وفي التفسير: يمشون على الارض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد. والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة. وقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الايضاع) (2) وروى في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشى هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب. التقلع، رفع الرجل بقوة والتكفؤ: الميل إلى سنن المشى وقصده. والهون الرفق والوقار. والذريع الواسع الخطا، أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه، خلاف مشية المختال، ويقصد سمته، وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة. كما قال: كأنما ينحط مكن صبب، قاله القاضى عياض. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسرع جبلة لا تكلفا. قال الزهري: سرعة المشى تذهب بهاء الوجه. قال ابن عطية: يريد الاسراع الحثيث لانه يخل بالوقار، والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: " الذين يمشون على الارض هونا " فما وجدت من ذلك شفاء، فرأيت في المنام من جاءني فقال لى: هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الارض. قال القشيرى، وقيل لا يمشون لافساد ومعصية، بل في طاعة الله والامور المباحة من غير هوك. وقد قال الله تعالى: " ولا تمش في الارض مرحا إن الله لا يحب (1) راجع ج‍ 7 ص 324 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) الايضاع: سير مثل الخبب. (*)
[ 69 ]
كل مختال فخور ". وقال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع. الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقيل: لا يتكبرون على الناس. قلت: وهذه كلها معان متقاربة، ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه، جعلنا الله منهم بفضله ومنه. وذهبت فرقة إلى أن " هونا " مرتبط بقوله: " يمشون على الارض "، أن المشى هو هون. قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه. وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لانه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس (1). وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشى في صبب. وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الامة. وقوله عليه الصلاة والسلام: " من مشى منكم في طمع فليمش رويدا " إنما أراد في عقد نفسه، ولم يرد المشى وحده. ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشى فقط، حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم: كلهم يمشى رويد * * كلهم يطلب صيد قلت: وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه: تواضعت في العلياء والاصل كابر * * وحزت قصاب السبق بالهون في الامر سكون فلا خبث السريرة أصله * * وجل سكون الناس من عظم الكبر قوله تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) قال النحاس: ليس " سلاما " من التسليم إنما هو من التسلم، تقول العرب: سلاما، أي تسلما منك، أي براءة منك. منصوب على أحد أمرين: يجوز أن يكون منصوبا ب‍ " قالوا "، ويجوز أن يكون مصدرا، وهذا قول سيبويه. قال ابن عطية: والذى أقوله: إن " قالوا " هو العامل في " سلاما " لان المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال مجاهد: معنى " سلاما " سدادا. أي يقول للجاهل كلاما (1) الاطلس من الذئاب: هو الذى تساقط شعره، وهو أخبث ما يكون. وقيل: هو الذى في لونه غبرة إلى السواد. (2) هذا من كلام أبى جعفر المنصور الخليفة في مدح عمرو بن عبيد الزاهد المشهور. وتمامه: * غير عمرو بن عبيد *. (*)
[ 70 ]
يدفعه به برفق ولين. ف‍ " قالوا " على هذا التأويل عامل في قوله: " سلاما " على طريقة النحويين، وذلك أنه بمعنى قولا. وقالت فرقة: ينبغى للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما، بهذا اللفظ. أي سلمنا سلاما أو تسليما، ونحو هذا، فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين. مسألة: هذه الآية كانت قبل آية السيف، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقى أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة. وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه، وما تكلم فيه على نسخ سواه، رجح به أن المراد السلامة لا التسليم، لان المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة. والآية مكية فنسختها آية السيف. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية. قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله: تسلما منكم، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم. المبرد: كان ينبغى أن يقال: لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم. محمد بن يزيد: أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم. وقد أتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك. قلت: هذا القول أشبه بدلائل السنة. وقد بينا في سورة " مريم " (1) اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار، فلا حاجة إلى دعوى النسخ، والله أعلم. وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثنى الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الاعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا: استووا. وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال. فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: " ثم استوى إلى السماء وهى دخان " فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير (2) ؟ فقلنا الساعة فارقناه. فقال سلاما. فلم ندر ما قال. قال فقال: الاعرابي: إنه (1) راجع ج‍ 11 ص 111 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) الفطير: خلاف الخمير، وهو العجين الذى لم يختمر. والهجير: الفائق الفاضل. والنمير: الناجع في الرى. (*)
[ 71 ]
سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر. فقال الخليل: هو من قول الله عزوجل: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ". قال ابن عطية: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدى - وكان من المائلين على على بن أبى طالب رضي الله عنه - قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة: كنت أرى على بن أبى طالب في النوم فكنت أقول له من أنت ؟ فكان يقول: على بن أبى طالب. فكنت أجئ معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها. فكنت أقول: إنما تدعى هذا الامر بامرأة ونحن أحق به منك. فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه. قال المأمون: وبماذا جاوبك ؟ قال: فكان يقول لى سلاما. قال الراوى: فكأن إبراهيم بن المهدى لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت. فنبه المأمون على الآية من حضره وقال: هو والله يا عم على بن أبى طالب، وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزى إبراهيم واستحيا. وكانت رؤيا لا محالة صحيحة. قوله تعالى: والذين يبيتون لربهم سجدا وقيما (64) قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) قال الزجاج: بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم. قال زهير (1): فبتنا قياما عند رأس جوادنا * * يزاولنا عن نفسه ونزاوله وأنشدوا في صفة الاولياء: امنع جفونك أن تذوق مناما * * واذر الدموع على الخدود سجاما واعلم بأنك ميت ومحاسب * * يا من على سخط الجليل أقاما لله قوم أخلصوا في حبه * * فرضى بهم واختصهم خداما قوم إذا جن الظلام عليهم * * باتوا هنالك سجدا وقياما خمص البطون من التعفف ضمرا * * لا يعرفون سوى الحلال طعاما (1) في نسخ الاصل: " قال أمرؤ القيس ". وهو تحريف. والبيت من قصيدة لزهير مطلعها: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله * * وعرى أفراس الصبا ورواحله (*)
[ 72 ]
وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما. وقال الكلبى: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا وقائما. قوله تعالى: والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما (65) إنها ساءت مستقرا ومقاما (66) قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم) أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله. ابن عباس: يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم. (إن عذابها كان غراما) أي لازما دائما غير مفارق. ومنه سمى الغريم لملازمته. ويقال: فلان مغرم بكذا أي لازم له مولع به. وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الاعرابي وابن عرفة وغيرهما. وقال الاعشى: إن يعاقب يكن غراما وإن * * يعط جزيلا فإنه لا يبالى وقال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال ابن زيد: الغرام الشر. وقال أبو عبيدة: الهلاك. والمعنى واحد. وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به، فأغرمهم ثمنها بإدخالهم النار. (إنها ساءت مستقرا ومقاما) أي بئس المستقر وبئس المقام. أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجح. قوله تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (67) قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا) اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية. فقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الاسراف، ومن أمسك عن طاعة الله عزوجل فهو الاقتار، ومن أنفق، في طاعة الله تعالى فهو القوام.
[ 73 ]
وقال ابن عباس: من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر. وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما. وقال عون بن عبد الله: الاسراف أن تنفق مال غيرك. قال ابن عطية: وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال. إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الانسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الامور أوساطها، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله، لان ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك. ونعم ما قال إبراهيم النخعي: هو الذى لا يجيع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبى حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون طعاما للذة. وقال يزيد أيضا في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبرد. وقال عبد الملك ابن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك ؟ فقال له عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا ألا يشتهى شيئا إلا اشتراه فأكله. وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت " وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا كقوله تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " وقال الشاعر: ولا تغل في شئ من الامر واقتصد * * كلا طرفي قصد الامور ذميم
[ 74 ]
وقال آخر: إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت * * ولم ينهها تاقت إلى كل باطل وساقت إليه الاثم والعار بالذى * * دعته إليه من حلاوة عاجل وقال عمر لابنه عاصم: يا بنى، كل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم. ولحاتم طى: إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله * * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا (ولم يقتروا) قرأ حمزة والكسائي والاعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما " يقتروا " بفتح الياء وضم التاء، وهى قراءة حسنة، من قتر يقتر. وهذا القياس في اللازم، مثل قعد يقعد. وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء، وهى لغة معروفة حسنة. وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم الياء وكسر - التاء. قال الثعلبي: كلها لغات صحيحة. النحاس: وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه، لان أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، إنما يقال: أقتر يقتر إذا افتقر، كما قال عزوجل: " وعلى المقتر قدره " وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعا. وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمى حكى عن الاصمعي أنه يقال للانسان إذا ضيق: قتر يقتر ويقتر، وأقتر يقتر. فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب تناولا، وأشهر وأعرف. وقرأ أبو عمرو والناس " قواما " بفتح القاف، يعنى عدلا. وقرأ حسان ابن عبد الرحمن: " قواما " بكسر القاف، أي مبلغا وسدادا وملاك حال. والقوام بكسر القاف، ما يدوم عليه الامر ويستقر. وهما لغتان بمعنى. و " قواما " خبر كان، واسمها مقدر فيها، أي كان الانفاق بين الاسراف والقتر قواما، قاله الفراء. وله قول آخر يجعل " بين " اسم كان وينصبها، لان هذه الالفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع. قال النحاس: ما أدرى ما وجه هذا، لان " بينا " إذا كانت في موضع رفع رفعت، كما يقال: بين عينيه أحمر.
[ 75 ]
قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلهاءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فية مهانا (69) قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الاوثان، وقتلهم النفس بوأد البنات، وغير ذلك من الظلم والاغتيال، والغارات، ومن الزنى الذى كان عندهم مباحا. وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني: لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاختصاص، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الامور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها عنهم لانهم أعلى وأشرف، فقال: معناها لا يدعون الهوى إلها، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصى فيكون قتلا لها. ومعنى " إلا بالحق " أي إلا بسكين الصبر وسيف المجاهدة فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحا، بل بالضرورة فيكون كالنكاح. قال شيخنا أبو العباس: وهذا كلام رائق غير أنه عند السبر مائق. وهى نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص الاضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الاوصاف الذميمة، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلى تشريفا لهم، ثم أعقبها بصفات التخلي تقعيدا لها، والله أعلم. قلت: ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك الامور ليست على ظاهرها ما روى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال قلت: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال: " أن تدعو لله ندا وهو خلقك " قال: ثم أي ؟ قال: " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك " قال: ثم أي ؟ قال: " أن تزانى حليلة جارك " فأنزل الله تعالى تصديقها: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ". والاثام في كلام العرب العقاب، وبه قرأ ابن زيد وقتادة هذه الآية.
[ 76 ]
ومنه قول الشاعر: جزى الله ابن عروة حيث أمسى * * عقوقا والعقوق له أثام أي جزاء وعقوبة. وقال عبد الله بن عمرو وعكرمة ومجاهد: إن " أثاما " واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة. قال الشاعر: لقيت المهالك في حربنا * * وبعد المهالك تلقى أثاما وقال السدى: جبل فيها. قال: وكان مقامنا ندعو عليهم * * بأبطح ذى المجاز له أثام وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة، فنزلت: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ". ونزل: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " الآية. وقد قيل: إن هذه الآية، " يا عبادي الذين أسرفوا " نزلت في وحشي قاتل حمزة، قاله سعيد بن جبير وابن عباس. وسيأتي في " الزمر " بيانه. قوله تعالى: " إلا بالحق " أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان، على ما تقدم بيانه في " الانعام " (1). (ولا يزنون) فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين. ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى، ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصنا أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن. قوله تعالى: (و من يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب) قرأ نافع وابن عامر وحمزة و الكسائي " يضاعف. ويخلد " جزما. وقرأ ابن كثير: " يضعف " بشد العين وطرح الالف، وبالجزم في " يضعف. ويخلد ". وقرأ طلحة بن سليمان: " نضعف " بضم النون وكسر العين المشددة. " العذاب " نصب " ويخلد " جزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة. (1) راجع ج‍ 7 ص 133 طبعة ظاولى أو ثانية. (*)
[ 77 ]
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: " يضاعف. ويخلد " بالرفع فيهما على العطف والاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان: " وتخلد " بالتاء على معنى مخاطبة الكافر. وروي عن أبي عمرو " ويخلد " بضم الياء من تحت وفتح اللام. قال أبو علي: وهي غلط من جهة الرواية. و " يضاعف " بالجزم بدل من " يلق " الذي هو جزاء الشرط. قال سيبويه: مضاعفة العذاب لقي الاثام. قال الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * * تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وقال آخر: إن على الله أن تبايعا (1) * * تؤخذ كرها أو تجئ طائعا وأما الرفع ففيه قولان: أحدهما أن تقطعه مما قبله. والآخر أن يكون محمولا على المعنى، كأن قائلا قال: ما لقي الاثام ؟ فقيل له: يضاعف له العذاب. و (مهانا) معناه ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا. قوله تعالى: إلا من تاب وءامن وعمل عملا صلحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت وكان الله غفورا رحيما (70) قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين على ما تقدم بيانه في " النساء " (2) ومضى في " المائدة " (3) القول في جواز التراخي في الاستثناء في اليمين، وهو مذهب ابن عباس مستدلا بهذه الآية. قوله تعالى: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) قال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. وقال مجاهد والضحاك: أن يبدلهم (1) الشاهد في حمل يؤخذ غلى تبايع وإبداله منه. وأراد بقوله " الله " والمعنى إن على والله فلما حذف الجار النصب. (2) راجع ج‍ 5 ص 332 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (3) راجع ج‍ 6 ص 273 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 78 ]
الله من الشرك الايمان وروى نحوه عن الحسن. قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك، إنما لتبديل في الدنيا، يبدلهم الله إيمانا من الشرك، وإخلاصا من الشك، وإحصانا من الفجور. وقال الزجاج: ليس بجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن بجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن السيئات تبدل بحسنات ". وروي معناه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير غيرهما. وقال أبو هريرة: ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل الله السيئات حسنات. وفي الخبر: " ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات " فقيل: ومن هم ؟ قال: " الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات ". رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران، أي يغفر الله لهم تلك السيئات لا أن يبدلها حسنات. قلت: فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " اتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ". وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لا علم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا " فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. وقال أبو طويل (1): يا رسول الله، أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة ؟ قال: " هل أسلمت " ؟ قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبد الله ورسوله. قال: " نعم. (1) أبو طويل: كنية شطب المدود، رجل من كندة. (*)
[ 79 ]
تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات ". قال: وغدراتي وفجراتي يا نبي الله ؟ قال: " نعم ". قال: الله أكبر ! فما زال يكررها حتى توارى. ذكره الثعلبي. قال مبشرابن عبيد، وكان عالما بالنحو والعربية: الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا. والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا. (وكان الله غفورا رحيما). قوله تعالى: ومن تاب وعمل صلحا فإنه يتوب إلى الله متابا (71) قوله تعالى: (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) لا يقال: من قام فإنه يقوم، فكيف قال من تاب فإنه يتوب ؟ فقال ابن عباس: المعنى من آمن من أهل مكة وهاجر ولم يكن قتل وزنى بل عمل صالحا وأدى الفرائض فإنه يتوب إلى الله متابا، أي فإني قدمتهم وفضلتهم على من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم واستحل المحارم. وقال القفال: يحتمل أن تكون الآية الاولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: " إلا من تاب وآمن " ثم عطف عليه من تاب من المسلمين واتبع توبته عملا صالحا فله حكم التائبين أيضا. وقيل: أي من تاب بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالاعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابا، أي تاب حق التوبة وهي النصوح ولذا أكد بالمصدر. ف‍ " متابا " مصدر معناه التأكيد، كقوله: " وكلم الله موسى تكليما " أي فإنه يتوب إلى الله حقا فيقبل الله توبته حقا. قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (72) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " والذين لا يشهدون الزور " أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زور وزخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الانداد. وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. عكرمة: لعب
[ 80 ]
كان في الجاهلية يسمى بالزور. مجاهد: الغناء، وقاله محمد ابن الحنفية أيضا. ابن جريج: الكذب، وروي عن مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي: المعنى لا يشهدون بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة. قال ابن العربي: أما القول بأنه الكذب فصحيح، لان كل ذلك إلى الكذب يرجع. وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد. قلت: من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالاشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ويخرجها عن الاعتدال، أو يثير كامنا من حب اللهو، مثل قول بعضهم: ذهبي اللون تحسب من * * وجنتيه النار تقتدح خوفوني من فضيحته * * ليته وافي وافتضح لا سيما إذا اقترن بذلك شبابات (1) وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الازمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع. وأما من قال إنه شهادة الزور، وهي: الثانية - فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق. وقال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبدا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله. وقد قيل: إنه إذا كان غير مبرز فحسنت حال قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة " الحج " (2) فتأمله هناك. قوله تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) قد تقدم الكلام في اللغو (3)، وهو كل سقط من قول أو فعل، فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، وتدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر. وقال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا. وروي عنه: إذا ذكر النكاح كفوا عنه. وقال الحسن: اللغو المعاصي كلها. وهذا جامع. و " كراما " معناه معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله. (1) الشبابة (بالتشديد): نوع من المزمار (مولد). (2) راجع ج‍ 12 ص 55 طبعة أولى أو ثانية. (3) راجع ج‍ 3 ص 99 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 81 ]
أي مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل. يقال: تكرم فلان عما يشينه، أي تنزه وأكرم نفسه عنه. وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لقد أصبح ابن أم عبد كريما ". وقيل: من المرور باللغو كريما أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. قوله تعالى: والذين إذا ذكروا بايات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (72) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم) أي إذا قرئ عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع. وقال: (لم يخروا) وليس ثم خرور، كما يقال: قعد يبكي وإن كان غير قاعد، قاله الطبري واختاره، قال ابن عطية: وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة الكفار، وهي عبارة عن إعراضهم، وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الاخبار بقعود ولا قيام، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة. قال ابن عطية: فكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الامر، فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا، وهو السقوط على غير نظام وترتيب، وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا لكن أصله على غير ترتيب. وقيل: أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجدا وبكيا، ولم يخروا عليها صما وعميانا. وقال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الاول كأن لم يسمعوا. الثانية - قال بعضهم: إن من سمع رجلا يقرأ سجدة يسجد معه، لانه قد سمع آيات الله تتلى عليه. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم إلا القارئ وحده، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة، وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس يسمعه فليسجد معه، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه. وقد مضى هذا في " الاعراف " (1). (1) راجع ج‍ 7 ص 359 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 82 ]
قوله تعالى: والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلما (75) خلدين فيها حسنت مستقرا ومقاما (76) قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (77) قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) قال الضحاك: أي مطيعين لك. وفيه جواز الدعاء بالولد وقد تقدم (1). والذرية تكون واحدا وجمعا. فكونها للواحد قوله: " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " " فهب لي من لدنك وليا " وكونها للجمع " ذرية ضعافا " وقد مضى في " البقرة " (2) اشتقاقها مستوفى. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن: " وذرياتنا " وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى " وذريتنا " بالافراد. " قرة أعين " نصب على المفعول، أي قرة أعين لنا. وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لانس: " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه " وقد تقدم بيانه في " آل عمران " (3) و " مريم ". وذلك أن الانسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى، فذلك حين قرة العين، وسكون النفس. ووحد " قرة " لانه مصدر، تقول: قرت عينك قرة. وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر وهو الاشهر. والقر البرد، لان العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد. وأيضا فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو. وقال الشاعر: فكم سخنت بالامس عين قريرة * * وقرت عيون دمعها اليوم ساكب (1) راجع ج‍ 4 ص 72 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 2 ص 107 طبعة ثانية. (3) راجع ج‍ 4 ص 73 وج‍ 11 ص 80 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 83 ]
قوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما) أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة، وهذا هو قصد الداعي. وفي الموطأ: " إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم " فكان ابن عمر يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين. وقال: " إماما " ولم يقل أئمة على الجمع، لان الامام مصدر. يقال: أم القوم فلان إماما، مثل الصيام والقيام. وقال بعضهم: أراد أئمة، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء، يعني أمراءنا. وقال الشاعر: يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي * * إن العواذل لسن لي بأمير أي أمراء. وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول: الامامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه. وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين. وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى، كما قال تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا " وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون. وقيل: هذا من المقلوب، مجازه: واجعل المتقين لنا إماما، وقال مجاهد. والقول الاول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول، ويكون فيه دليل على أن طلب الرياسة في الدين ندب. وإمام واحد يدل على جمع، لانه مصدر كالقيام. قال الاخفش: الامام جمع آم من أم يؤم جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام. قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) " أولئك " خبر " وعباد الرحمن " في قول الزجاج على ما تقدم، وهو أحسن ما قيل فيه. وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي، وهي إحدى عشرة: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الاسراف والاقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسئ، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله. و " الغرفة " الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. حكاه ابن شجره. وقال الضحاك: الغرفة الجنة. " بما صبروا " أي بصبرهم على أمر ربهم، وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام. وقال محمد ابن علي بن الحسين: " بما صبروا " على الفقر والفاقة في الدنيا. وقال الضحاك: " بما صبروا " عن الشهوات. (ويقولون فيها تحية وسلاما) قرأ أبو بكر والمفضل والاعمش ويحيى
[ 84 ]
وحمزة والكسائي وخلف " ويلقون " مخففة، واختاره الفراء، قال لان العرب تقول: فلان يتلقى بالسلام وبالتحية وبالخير (بالتاء)، وقلما يقولون فلان يلقى السلامة. وقرأ الباقون " ويلقون " واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالى: " ولقاهم نضرة وسرورا ". قال أبو جعفر النحاس: وما ذهب إليه الفراء واختاره غلط، لانه يزعم أنها لو كانت " يلقون " كانت في العربية بتحية وسلام، وقال كما يقال: فلان يتلقى بالسلام وبالخير، فمن عجيب ما في هذا الباب أنه قال يتلقى والآية " يلقون " والفرق بينهما بين. لانه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف (الباء)، فكيف يشبه هذا ذاك ! وأعجب من هذا أن في القرآن " ولقاهم نضرة وسرورا " ولا يجوز أن يقرأ بغيره. وهذا يبين أن الاولى على خلاف ما قال. والتحية من الله والسلام من الملائكة. وقيل: التحية البقاء الدائم والملك العظيم، والاظهر أنهما بمعنى واحد، وأنهما من قبل الله تعالى، دليله قوله تعالى: " تحيتهم يوم يلقونه سلام " وسيأتي. (خالدين) نصب على الحال (فيها حسنت مستقرا ومقاما). قوله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم) هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة. يقال: ما عبأت بفلان أي ما باليت به، أي ما كان له عندي وزن ولا قدر. وأصل يعبأ من العب ء وهو الثقل. وقول الشاعر (1): كأن بصدره وبجانبيه * * عبيرا بات يعبؤه عروس أي يجعل بعضه على بعض. فالعب ء الحمل الثقيل، والجمع أعباء. والعب ء المصدر. وما استفهامية، ظهر في أثناء كلام الزجاج، وصرح به الفراء. وليس يبعد أن تكون نافية، لانك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام، كما قال تعالى: " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي أن موضع " ما " نصب، والتقدير: أي عب ء يعبأ بكم، أي أي مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم، أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار (1) هو أبو زبيد يصف أسدا، كما في اللسان مادة " عبأ ". ورواه هكذا: كأن ينحره وبمنكبيه * * عبيرا بات يعبؤه عروس (*)
[ 85 ]
الفراء. وفاعله محذوف وجواب لولا محذوف كما حذف في قوله: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " تقديره: لم يعبأ بكم. ودليل هذا القول قوله تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " فالخطاب لجميع الناس، فكأنه قال لقريش منهم: أي ما يبالى الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت، وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره. " فقد كذب الكافرون " فالخطاب بما يعبأ لجميع الناس، ثم يقول لقريش: فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزاما. وقال النقاش وغيره: المعنى، لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك. بيانه: " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين " ونحو هذا. وقيل: " ما يعبأ بكم " أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم " لولا دعاؤكم " معه الآلهة والشركاء. بيانه: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم "، قال الضحاك. وقال الوليد بن أبي الوليد: بلغني فيها أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم. وروى وهب بن منبه أنه كان في التوراة: " يا بن آدم وعزتي ما خلقتك لاربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شئ فأنا خير لك من كل شئ ". قال ابن جني: قرأ ابن الزبير وابن عباس " فقد كذب الكافرون ". قال الزهراوي والنحاس: وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير، للتاء والميم في " كذبتم ". وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف. الاصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه، وجواب " لولا " محذوف تقديره في هذا الوجه: لم يعذبكم. ونظير قوله: لولا دعاؤكم آلهة قوله: " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ". (فقد كذبتم) أي كذبتم بما دعيتم إليه، هذا على القول الاول، وكذبتم بتوحيد الله على الثاني. (فسوف يكون لزاما) أي يكون تكذيبكم ملازما لكم. والمعنى: فسوف يكون جزاء التكذيب كما قال: " ووجدوا ما عملوا حاضرا " أي جزاء ما عملوا وقوله: " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " أي جزاء ما كنتم تكفرون. وحسن إضمار التكذيب لتقدم ذكر فعله، لانك إذا ذكرت الفعل دل بلفظه على مصدره، كما قال: " ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم " أي لكان الايمان. وقوله: " وإن تشكروا يرضه لكم " أي يرضى الشكر. ومثله كثير. وجمهور المفسرين
[ 86 ]
على أن المراد باللزام هنا ما نزل بهم يوم بدر، وهو قول عبد الله ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل وغيرهم. وفي صحيح مسلم عن عبد الله: وقد مضت البطشة والدخان واللزام. وسيأتي مبينا في سورة " الدخان " إن شاء الله تعالى. وقالت فرقة: هو توعد بعذاب الآخرة. وعن ابن مسعود أيضا: اللزام التكذيب نفسه، أي لا يعطون التوبة منه، ذكره الزهراوي، فدخل في هذا يوم بدر وغيره من العذاب الذي يلزمونه. وقال أبو عبيدة: لزاما فيصلا [ أي ] فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين. والجمهور من القراء على كسر اللام، وأنشد أبو عبيدة لصخر: فإما ينجوا من خسف أرض * * فقد لقيا حتوفهما لزاما ولزاما وملازمة واحد. وقال الطبري: " لزاما " يعني عذابا دائما لازما، وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض، كقول أبي ذؤيب: ففاجأه بعادية (1) لزام * * كما يتفجر الحوض اللقيف يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضا، وباللقيف المتساقط الحجارة المتهدم. النحاس: وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال سمعت قعنبا أبا السمال يقرأ: " لزاما " بفتح اللام. قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم والكسر أولى، يكون مثل قتال ومقاتلة، كما أجمعوا على الكسر في قوله عزوجل: " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ". قال غيره: اللزام بالكسر مصمدر لازم لزاما مثل خاصم خصاما، واللزام بالفتح مصدر لزم مثل سلم سلاما أي سلامة، فاللزام بالفتح اللزوم، واللزام الملازمة، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل، فاللزام وقع موقع ملازم، واللزام وقع موقع لازم. كما قال تعالى: " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا " أي غائرا. قال النحاس: وللفراء قول في اسم يكون، قال: يكون مجهولا وهذا غلط، لان المجهول لا يكون خبره إلا جملة، كما قال تعالى: " إنه من يتق ويصبر " وكما حكى النحويون كان زيد منطلق ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول، والتقدير: كان الحديث، فأما أن يقال كان منطلقا، ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه. وبالله التوفيق وهو المستعان والحمد لله رب العالمين. (1) العادية: القوم يعدون على أرجلهم، أي فحملتهم لزام كأنهم لزموه لا يفارقون ما هم فيه. وشبه حملتهم بتهدم الحوض إذا تهدم. ويروي: * فلم ير غير عادية لزاما * (*)
[ 87 ]
سورة الشعراء هي مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل: منها مدني، الآية التي يذكر فيها الشعراء، وقوله: " أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ". وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله: " والشعراء يتبعهم الغاوون " إلى آخرها. وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية: ست وعشرون. وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الاول وأعطيت طه وطسم من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة ". وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المبين مكان الانجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي ". بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: طسم (1) تلك ءايت الكتب المبين (2) لعلك بخع نفسك الا يكونوا مؤمنين (3) إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية فظلت أعنقهم لها خضعين (4) وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5) فقد كذبوا فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون (6) أولم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم (7) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (8) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (9)
[ 88 ]
قوله تعالى: (طسم) قرأ الاعمش ويحيى وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف بإمالة الطاء مشبعا في هذه السورة وفي أختيها. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الباقون بالفتح مشبعا. قال الثعلبي: وهي كلها لغات فصيحة. وقد مضى في " طه " (1) قول النحاس في هذا. قال النحاس: وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي: " طسم " بإدغام النون في الميم، والفراء يقول بإخفاء النون. وقرأ الاعمش: وحمزة: " طسين ميم " بإظهار النون. قال النحاس: النون الساكنة والتنوين أربعة أقسام عند سيبويه: يبينان عند حروف الحلق، ويدغمان عند الراء واللام والميم والواو والياء، ويقلبان ميما عند الباء ويكونان من الخياشيم، أي لا يبينان، فعلى هذه الاربعة الاقسام التي نصها سيبويه لا تجوز هذه القراءة، لانه ليس هاهنا حرف من حروف الحلق فتبين النون عنده، ولكن في ذلك وجيه: وهو أن حروف المعجم حكمها أن يوقف عليها، فإذا وقف عليها تبينت النون. قال الثعلبي: الادغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم قياسا على كل القرآن، وإنما أظهرها أولئك للتبيين والتمكين، وأدغمها هؤلاء لمجاورتها حروف الفم. قال النحاس: وحكى أبو إسحق في كتابه " فيما يجرى وفيما لا يجرى " أنه يجوز أن يقال: " طسين ميم " بفتح النون وضم الميم، كما يقال هذا معدي كرب. وقال أبو حاتم: قرأ خالد: " طسين ميم ". ابن عباس: " طسم " قسم وهو اسم من أسماء الله تعالى، والمقسم عليه " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية ". وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن أقسم الله به. مجاهد: هو اسم السورة، ويحسن افتتاح السورة. الربيع: حساب مدة قوم. وقيل: قارعة تحل بقوم. " طسم " و " طس " واحد. قال (2): وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمة * * بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه (1) راجع ج‍ 11 ص 168 طبعة أولى أو ثانية. (2) هو المتنبي، والبيت مطلع قصيدة له مدح بها أبا الحسن علي بن عبد الله العدوي. وأشجاه: أحزنه. والطاسم: الدارس. والساجم: السائل. والمعنى: طلب وفاءهما بالاسعاد وهو الاعانة عاى البكاء والموافقة، ولذلك قال: (والدمع أشفاه ساجمه) والمعنى ابكيا معي بدمع في غاية السجوم فهو أشفى للوجد، فإن الربع في غاية الطسوم وهو أشجى للمحب. واراد بالوفاء هنا البكاء لانهما عاهداه على الاسعاد. " شرح التبيان ج‍ 2 للعكبري ". (*)
[ 89 ]
وقال القرظي: أقسم الله بطوله وسنائه وملكه. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: الطاء طور سيناء والسين إسكندرية والميم مكة. وقال جعفر بن محمد بن علي: الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الطاء من الطاهر والسين من القدوس - وقيل: من السميع وقيل: من السلام - والميم من المجيد. وقيل: من الرحيم. وقيل: من الملك. وقد مضى هذا المعنى في أول سورة " البقرة " (1). والطواسيم والطواسين سور في القرآن جمعت على غير قياس. وأنشد أبو عبيدة: وبالطواسيم التي قد ثلثت * * وبالحواميم التي قد سبعت قال الجوهري: والصواب أن تجمع بذوات وتضاف إلى واحد، فيقال: ذوات طسم وذوات حم. قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب المبين) رفع على إضمار مبتدإ أي هذه " تلك آيات الكتاب المبين " التي كنتم وعدتم بها، لانهم قد وعدوا في التوراة والانجيل بإنزال القرآن. وقيل: " تلك " بمعنى هذه. (لعلك باخع نفسك) أي قاتل نفسك ومهلكها. وقد مضى في " الكهف " (2) بيانه. (ألا يكونوا مؤمنين) أي لتركهم الايمان. قال الفراء: " أن " في موضع نصب، لانها جزاء. قال النحاس: وإنما يقال: بإن مكسورة لانها جزاء، كذا المتعارف. والقول في هذا ما قاله أبو إسحق في كتابه في القرآن، قال: " أن " في موضع نصب مفعول من أجله، والمعنى لعلك قاتل نفسك لتركهم الايمان. (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) أس معجزة ظاهرة وقدرة باهرة فتصير معارفهم ضرورية، ولكن سبق القضاء بأن تكون المعارف نظرية وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية: صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان، تخرج به العواتق من البيوت وتضج له الارض. وهذا فيه بعد، لان المراد قريش لا غيرهم. (فظلت أعناقهم) أي فتظل أعناقهم (لها خاضعين) قال مجاهد: أعناقهم كبراؤهم، وقال النحاس: ومعروف في اللغة، يقال: جاءني عنق من الناس أي رؤساء منهم. أبو زيد والاخفش: " أعناقهم " جماعاتهم، (1) راجع ج‍ 1 ص 154 طبعة أولى أو الثانية. (2) راجع ج‍ 10 ص 348 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 90 ]
يقال: جاءني عنق من الناس أي جماعة. وقيل: إنما أراد أصحاب الاعناق، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قتادة: المعنى لو شاء لانزل آية يذلون بها فلا يلوى أحد منهم عنقه إلى معصية. ابن عباس: نزلت فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد معاوية، ذكره الثعلبي والغزنوى. وخاضعين وخاضعة هنا سواء، قاله عيسى بن عمر واختاره المبرد. والمعنى: إنهم إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالاخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها. ويسوغ في كلام العرب أن تترك الخبر عن الاول وتخبر عن الثاني، قال الراجز: طول الليالي أسرعت في نقضى * * طوين طولى وطوين عرضى فأخبر عن الليالي وترك الطول. وقال جرير (1): أرى مر السنين أخذن منى * * كما أخذ السرار من الهلال وإنما جاز ذلك لانه لو أسقط مر وطول من الكلام لم يفسد معناه، فكذلك رد الفعل إلى، الكناية في قوله: " فظلت أعناقهم " لانه لو أسقط الاعناق لما فسد الكلام، ولادى ما بقي من الكلام عنه حتى يقول: فظلوا لها خاضعين. وعلى هذا اعتمد الفراء وأبو عبيدة. والكسائي يذهب إلى أن المعنى خاضعيها هم، وهذا خطأ عند البصريين والفراء. ومثل هذا الحذف لا يقع في شئ من الكلام، قاله النحاس. قوله تعالى: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين) تقدم في " الانبياء (2) ". (فقد كذبوا) أي أعرضوا ومن أعرض عن شئ ولم يقبله فهو تكذيب له. (فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون) وعيد لهم، أي فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا والذي استهزءوا به. قوله تعالى: (أو لم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) نبه على عظمته وقدرته وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم لعلموا أنه الذي يستحق أن يعبد، إذ هو القادر على كل شئ. والزوج هو اللون، قال الفراء. و " حسن شريف، وأصل (1) تقدم البيت في ج‍ 7 ص 264 طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج‍ 11 ص 268 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 91 ]
الكرم في اللغة الشرف والفضل، فنخلة كريمة أي فاضلة كثيرة الثمر، (1) ورجل كريم شريف، فاضل صفوح. ونبتت الارض وأنبتت بمعنى. وقد تقدم في سور " البقرة " والله سبحانه المخرج والمنبت له. وروى عن الشعبى أنه قال: الناس من نبات الارض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فهو لئيم. (إن في ذلك لاية) أي فيما ذكر من الانبات في الارض لدلالته على أن الله قادر، لا يعجزه شئ. (وما كان أكثرهم مؤمنين) أي مصدقين لما سبق من علمي فيهم. و " كان " هنا صلة في قول سيبويه، تقديره: وما أكثرهم مؤمنين (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) يريد المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه. قوله تعالى: وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظلمين (10) قوم فرعون ألا يتقون (11) قال رب إنى أخاف أن يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هرون (13) ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون (14) قال كلا فاذهبا بايتنا إنا معكم مستمعون (15) قوله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى) " إذ " في موضع نصب، المعنى: واتل عليهم " إذ نادى ربك موسى " ويدل على هذا بعده. " واتل عليهم نبأ إبراهيم " ذكره النحاس. وقيل: المعنى، واذكر إذا نادى كما صرح به في قوله: " واذكر أخا عاد " وقوله: " واذكر عبادنا إبراهيم " وقوله: " واذكر في الكتاب مريم ". وقيل: المعنى، " وإذ نادى ربك موسى " كان كذا وكذا. والنداء الدعاء بيافلان، أي قال ربك يا موسى: (أن ائت القوم الظالمين) ثم أخبر من هم فقال: (قوم فرعون ألا يتقون) ف‍ " قوم " بدل، ومعنى " ألا يتقون " ألا يخافون عقاب الله ؟ وقيل: هذا من الايماء إلى الشئ لانه أمره أن يأتي القوم الظالمين، ودل قوله: " يتقون " على أنهم لا يتقون، وعلى أنه أمرهم بالتقوى. وقيل: المعنى، قل لهم " ألا تتقون " وجاء بالياء لانهم غيب وقت الخطاب، ولو جاء بالتاء (1) في نسخة: كثيرة التثمير. (*)
[ 92 ]
لجاز. ومثله " قل للذين كفروا ستغلبون " بالتاء والياء. وقد قرأ عبيد بن عمير وأبو حازم " ألا تتقون " بتاءين أي قل لهم " ألا تتقون ". (قال رب) أي قال موسى (رب إنى أخاف أن يكذبون) أي في الرسالة والنبوة. (ويضيق صدري) لتكذيبهم إياي. وقراءة العامة " ويضيق " ولا ينطلق " بالرفع على الاستئناف. وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حيوة: " ويضيق - ولا ينطلق " بالنصب فيهما ردا على قوله: " أن يكذبون " قال الكسائي: القراءة بالرفع، يعني في " يضيق صدري ولا ينطلق لساني " يعني نفسا على " إني أخاف ". قال الفراء: ويقرأ بالنصب. حكي ذلك عن الاعرج وطلحة وعيسى ابن عمر وكلاهما له وجه. قال النحاس: الوجه لرفع، لان النصب عطف على " يكذبون " وهذا بعيد يدل على ذلك قوله عزوجل: " واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي " فهذا يدل على أن هذه كذا. ومعنى " ولا ينطلق لساني " في المحاجة على ما أحب، وكان في لسانه عقدة على ما تقدم في " طه " (1). (فأرسل إلى هرون) أرسل إليه جبريل بالوحي، واجعله رسولا معي ليؤازرني ويظاهرني ويعاونني. ولم يذكر هنا ليعينني، لان المعنى كان معلوما، وقد صرح به في سورة " طه ": " واجعل لي وزيرا " وفي القصص: " أرسله معي ردءا يصدقني " وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم. (ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون) الذنب هنا قتل القبطي واسمه فاثور على ما يأتي في " القصص " بيانه، وقد مضى في " طه " ذكره. وخاف موسى أن يقتلوه به، ودل على أن الخوف قد يصحب الانبياء والفضلاء والاولياء مع معرفتهم بالله وأن لا فاعل إلا هو، إذ قد يسلط من شاء على من شاء. (قال كلا) أي كلا لن يقتلوك. فهو ردع وزجر عن هذا الظن، وأمر بالثقة بالله تعالى، أي ثق بالله وانزجر عن خوفك منهم، فإنهم لا يقدرون على قتلك، (1) راجع ج‍ 11 ص 192 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 93 ]
ولا يقوون عليه. (فاذهبا) أي أنت وأخوك فقد جعلته رسولا معك. (بآياتنا) أي ببراهيننا وبالمعجزات. وقيل آياتنا. (إنا معكم) يريد نفسه سبحانه وتعالى. (مستمعون) أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون. وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما وأنه يعينهما ويحفظهما. والاستماع إنما يكون بالاصغاء، ولا يوصف الباري سبحانه بذلك. وقد وصف سبحانه نفسه بأنه السميع البصير. وقال في " طه ": " أسمع وأرى " وقال: " معكم " فأجراهما مجرى الجمع، لان الاثنين جماعة. ويجوز أن يكون لهما ولمن أرسلا إليه. ويجوز أن يكون لجميع بني إسرائيل. قوله تعالى: فأتيا فرعون فقولآ إنا رسول رب العلمين (16) أن أرسل معنا بنى إسسرءيل (17) قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين (18) وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكفرين (19) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20) ففررت منكم لما خفكتم فوهب لى ربى حكما وجعلني من المرسلين (21) وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسرءيل (22) قوله تعالى: (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) قال أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا، إنا ذوو رسالة رب العالمين. قال الهذلي: ألكني إليها وخير الرسو * * ل أعلمهم بنواحي الخبر الكنى إليها معناه أرسلني. وقال آخر (1): لقد كذب الواشون ما بحت عندهم * * بسر ولا أرسلتهم برسول (1) (1) هو كثير. ويروى أيضا في اللسان مادة " رسل ": * بليلي ولا أرسلتهم برسيل * (*)
[ 94 ]
آخر (1): ألا أبلغ بني عمرو رسولا * * بأني عن فتاحتكم غني (1) وقال العباس بن مرداس: ألا من مبلغ عنى خفافا * * رسولا بيت أهلك منتهاها يعني رسالة فلذلك أنثها. قال أبو عبيد: ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع، فتقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي. ومنه قوله تعالى: (فإنهم عدو لي). وقيل: معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين. (أن أرسل معنا بنى إسرائيل) أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم، وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا. فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البواب على فرعون فقال: ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال فرعون: ايذن له لعلنا نضحك منه، فدخلا عليه وأديا الرسالة. وروى وهب وغيره: أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهرون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهرون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما ؟ قالا: " إنا رسول رب العالمين " فعرف موسى لانه نشأ في بيته، ف‍ (قال ألم نربك فينا وليدا) على جهة المن عليه والاحتقار. أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا (ولبثت فينا من عمرك سنين) فمتى كان هذا الذي تدعيه. ثم قرره بقتل القبطي بقوله: (وفعلت فعلتك التى فعلت) والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل. وقرأ الشعبي: " فعلتك " بكسر الفاء والفتح أولى، لانها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك. وقال الشاعر: كأن مشيتها من بيت جارتها * * مر السحابة لا ريث ولا عجل (1) هو الاسعر الجعفي. عن فتاحتكم: أي عن حكمكم. (*)
[ 95 ]
ويقال: كان ذلك أيام الردة والردة. (وأنت من الكافرين) قال الضحاك أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله. وقيل: أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والاحسان إليك، قاله ابن زيد. الحسن: " من الكافرين " في أني إلهك. السدي: " من الكافرين " بالله لانك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه. وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا أحد عشر عاما غير أشهر. ف‍ (قال فعلتها إذا) أي فعلت تلك الفعلة يريد قتل القبطي (وأنا) إذ ذاك (من الضالين) أي من الجاهلين، فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل. وكذا قال مجاهد، " من الضالين " من الجاهلين. ابن زيد: من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل. وفي مصحف عبد الله " من الجاهلين " ويقال لمن جهل شيئا ضل عنه. وقيل: " وأنا من الضالين " من الناسين، قاله أبو عبيدة. وقيل: " وأنا من الضالين " عن النبوة ولم يأتني عن الله فيه شئ، فليس علي فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. وبين بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوة والحلم على الناس، وأن القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوة. قوله تعالى: (ففررت منكم لما خفتكم) أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة " القصص ": " فخرج منها خائفا يترقب " وذلك حين القتل. (فوهب لى ربى حكما) يعني النبوة، عن السدي وغيره. الزجاج: تعليم التوراة التي فيها حكم الله. وقيل: علما وفهما. (وجعلني من المرسلين). قوله تعالى: (وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسرائيل) اختلف الناس في معنى هذا الكلام، فقال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الاقرار بالنعمة، كأنه يقول: نعم ! وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وقيل: هو من موسى عليه السلام على جهة الانكار، أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم ؟ ! أي ليست بنعمة ؟ لان الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي، فكيف تذكر إحسانك إلى على
[ 96 ]
الخصوص ؟ ! قال معناه قتادة وغيره. وقيل: فيه تقدير استفهام، أي أو تلك نعمة ؟ قاله الاخفش والفراء أيضا وأنكره النحاس وغيره. قال النحاس: وهذا لا يجوز لان ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام أم، كما قال الشاعر: * تروح من الحي أم تبتكر * ولا أعلم بين النحويين اختلافا في هذا إلا شيئا قاله الفراء. قال: يجوز ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكي ترى زيدا منطلقا ؟ بمعنى أترى. وكان علي بن سليمان يقول في هذا: إنما أخذه من ألفاظ العامة. قال الثعلبي: قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه أو تلك نعمة ؟ على طريق الاستفهام، كقوله: " هذا ربي " " فهم الخالدون ". قال الشاعر (1): رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع * * فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الالف قولهم: لم أنس يوم الرحيل وقفتها * * وجفنها من دموعها شرق وقولها والركاب واقفة * * تركتني هكذا وتنطلق قلت: ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم أم خلاف قول النحاس. وقال الضحاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون، باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي ! فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به. وقيل: معناه كيف تمن بالتربية وقد أهنت قومي ؟ ومن أهين قومه ذل. و " أن عبدت " في موضع رفع على البدل من " نعمة " ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى: لان عبدت بني إسرائيل، أي اتخذتهم عبيدا. يقال: عبدته وأعبدته بمعنى، قال الفراء وأنشد: علام يعبدني قومي وقد كثرت * * فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان (1) هو أبوخراش الهذلي، وقد تقدم شرح البيت في ج‍ 11 ص 287 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 97 ]
قوله تعالى: قال فرعون وما رب العلمين (23) قال رب السموت والارض وما بينهما أن كنتم موقنين (24) قال لمن حوله ألا تستمعون (25) قال ربكم ورب أآبائكم الاولين (26) قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28) قال لئن اتخذت إلها غيرى لاجعلنك من المسجونين (29) قال أولو جئتك بشئ مبين (30) قال فأت به أن كنت من الصدقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للنظرين (33) قال للملا حوله إن هذا لسحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حشرين (36) يأتوك بكل سحار عليم (37) فجمع السحرة لميقت يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغلبين (40) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغلبين (41) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42) قال لهم موسى القوا مآ أنتم ملقون (43) فالقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغلبون (44) فالقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقى السحرة سجدين (46) قالوا ءامنا برب العلمين (47) رب موسى وهرون (48) قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى
[ 98 ]
علمكم السحر فلسوف تعلمون لا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلف ولا صلبنكم أجمعين (49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطينا أن كنا أول المؤمنين (51) قوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين) لما غلب موسى فرعون بالحجة ولم يجد اللعين من تقريره على التربية وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: رسول رب العالمين، فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الاشياء. قال مكي وغيره: كما يستفهم عن الاجناس فلذلك استفهم ب‍ " ما ". قال مكي: وقد ورد له استفهام ب‍ " من " في موضع آخر ويشبه أنها مواطن، فأتى موسى بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وقد سأل فرعون عن الجنس ولا جنس لله تعالى، لان الاجناس محدثة، فعلم موسى جهله فأضرب عن سؤاله وأعلمه بعظيم قدرة الله التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها. فقال فرعون: (ألا تستمعون) على معنى الاغراء والتعجب من سفه المقالة إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك. فزاد موسى في البيان بقوله: (ربكم ورب آبائكم الاولين) فجاء بدليل يفهمونه عنه، لانهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لا بد لهم من مغير، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لا بد لهم من مكون. فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف: (إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون) أي ليس يجيبني عما أسأل، فأجابه موسى عليه السلام عن هذا بأن قال: (رب المشرق والمغرب) أي ليس ملكه كملكك، لانك إنما تملك بلد واحدا لا يجوز أمرك في غيره، ويموت من لا تحب أن يموت، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب (وما بينهم إن كنتم تعقلون). وقيل: علم موسى عليه السلام أن قصده في السؤال معرفة من سأل عنه، فأجاب بما هو الطريق إلى معرفة الرب اليوم. ثم لما انقطع فرعون لعنه الله في باب الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فتوعد موسى بالسجن، ولم يقل ما دليلك على أن هذا الاله أرسلك، لان فيه الاعتراف بأن ثم إلها غيره. وفي توعده بالسجن ضعف. وكان فيما يروى
[ 99 ]
أنه يفزع منه فزعا شديدا حتى كان اللعين لا يمسك بوله. وروي أن سجنه كان أشد من القتل وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا. ثم لما كان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يرعه توعد فرعون (قال) له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: (أولو جئتك بشئ مبين) فيتضح لك به صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع في أن يجد أثناءه موضع معارضة (فقال) له (فأت به إن كنت من الصادقين). ولم يحتج الشرط إلى جواب عند سيبويه، لان ما تقدم يكفي منه. (فألقى موسى عصاه) من يده فكان ما أخبر الله من قصته. وقد تقدم بيان ذلك وشرحه في " الاعراف " (1) إلى آخر القصة. وقال السحرة لما توعدهم فرعون بقطع الايدي والارجل (لا ضير) أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، أي إنما عذابك ساعة فنصبر لها وقد لقينا الله مؤمنين. وهذا يدل على شدة استبصارهم وقوة إيمانهم. قال مالك: دعا موسى عليه السلام فرعون أربعين سنة إلى الاسلام، وأن السحرة آمنوا به في يوم واحد. يقال: لا ضير ولا ضور ولا ضر ولا ضرر ولا ضارورة بمعنى واحد، قال الهروي. وأنشد أبو عبيده (2): فإنك لا يضورك بعد حول * * أظبي كان أمك أم حمار وقال الجوهري: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا أي ضره. قال الكسائي: سمعت بعضهم يقول لا ينفعني ذلك ولا يضورني. والتضور الصياح والتلوي عند الضرب أو الجوع. والضورة بالضم الرجل الحقير الصغير الشأن. (إنا إلى ربنا منقلبون) يريد ننقلب إلى رب كريم رحيم (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين). " أن " في موضع نصب، أي لان كنا. وأجاز الفراء كسرها على أن تكون مجازاة. ومعنى " أول المؤمنين " أي عند ظهور الآية ممن كان في جانب فرعون. الفراء: أول مؤمني زماننا. وأنكره الزجاج وقال: قد روي أنه آمن معه ستمائة ألف وسبعون ألفا، وهم الشرذمة القليلون الذين قال فيهم فرعون: " إن هؤلاء لشرذمة قليلون " روي ذلك عن ابن مسعود وغيره. (1) راجع ج‍ 7 ص 256 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) البيت لخداش بن زهير، واستشهد به سيبويه في كتابه على جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة ضرورة. والمعنى: لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من انتسبت إليه من شريف أو وضيع، وضرب المثل بالظبي أو الحمار. (*)
[ 100 ]
قوله تعالى: وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون (52) فأرسل فرعون في المدائن حشرين (53) إن هؤلاء لشرذمة قليلون (54) وإنهم لنا لغائظون (55) وإنا لجميع حذرون (56) فأخرجنهم من جنت وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) كذلك وأورثنها بنى إسرءيل (59) فأتبعوهم مشرقين (60) فلما ترءا الجمعان قال أصحب موسى إنا لمدركون (61) قال كلا إن معى ربى سيهدين (62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63) وأزلفنا ثم الاخرين (64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65) ثم أغرقنا الاخرين (66) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (67) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (68) قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون) لما كان من سنته تعالى في عباده إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، لمعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده، لانهم آمنوا بموسى. ومعنى " إنكم متبعون " أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم. وفي ضمن هذا الكلام تعريفهم أن الله ينجيهم منهم، فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا، فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل، خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه مائة ألف أدهم من الخيل سوى سائر الالوان. وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا. والله أعلم بصحته. وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من
[ 101 ]
بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك. قال ابن عباس: كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل. والشرذمة الجمع القليل المحتقر والجمع الشراذم. قال الجوهري: الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشئ. وثوب شراذم أي قطع. وأنشد الثعلبي قول الراجز: جاء الشتاء وثيابي أخلاق * * شراذم يضحك منها النواق النواق من الرجال الذي يروض الامور ويصلحها، قاله في الصحاح (1). واللام في قوله: " لشرذمة " لام توكيد وكثيرا ما تدخل في خبر إن، إلا أن الكوفيين لا يجيزون إن زيدا لسوف يقوم. والدليل على أنه جائز قوله تعالى: " فلسوف تعلمون " وهذه لام التوكيد بعينها وقد دخلت على سوف، قاله النحاس. (وإنهم لنا لغائظون) أي أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها على ما تقدم. وماتت أبكارهم تلك الليلة. وقد مضى هذا في " الاعراف " و " طه " مستوفي. يقال: غاظني كذا وأغاظني. والغيظ الغضب ومنه التغيظ والاغتياظ. أي غاظونا بخروجهم من غير إذن. (وإنا لجميع حذرون) أي مجتمع أخذنا حذرنا وأسلحتنا. وقرئ " حاذرون " ومعناه معنى " حذرون " أي فرقون خائفون. قال الجوهري: وقرئ " وإنا لجميع حاذرون " و " حذرون " و " حذرون " بضم الذال حكاه الاخفش، ومعنى " حاذرون " متأهبون، ومعنى " حذرون " خائفون. قال النحاس: " حذرون " قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقراءة أهل الكوفة: " حاذرون " وهي معروفة عن عبد الله بن مسعود وابن عباس، و " حادرون " بالدال غير المعجمة قراءة أبي عباد وحكاها المهدوي عن ابن أبي عمار، والماوردي والثعلبي عن سميط بن عجلان. قال النحاس: أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى " حذرون " " وحاذرون " واحد. وهو قول سيبويه وأجاز: هو حذر زيدا، كما يقال: حاذر زيدا، وأنشد: حذر أمورا لا تضير وآمن * * ما ليس منجيه من الاقدار (1) ويقال هو اسم ابنه. ويروى (التواق) بالتاء. (*)
[ 102 ]
وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز هو حذر زيدا على حذف من. فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر، منهم الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد، فيذهبون إلى أن معنى حذر في خلقته الحذر، أي متيقظ متنبه، فإذا كان هكذا لم يتعد، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن المتقدمين. قال عبد الله بن مسعود في قول الله عزوجل: " وإنا لجميع حاذرون " قال: مؤدون في السلاح و الكراع مقوون، فهذا ذاك بعينه. وقوله: مؤدون معهم أداة. وقد قيل: إن المعنى: معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرضهم على القتال، فأما " حادرون " بالدال المهملة فمشتق من قولهم عين حدرة أي ممتلئة، أي نحن ممتلئون غيظا عليهم، ومنه قول الشاعر (1): وعين لها حدرة بدرة * * شقت مآقيهما من أخر وحكى أهل اللغة أنه يقال: رجل حادر إذا كان ممتلئ اللحم، فيجوز أن يكون المعنى الامتلاء من السلاح. المهدوي: الحادر القوي الشديد. قوله تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون) يعني من أرض مصر. وعن عبد الله بن عمرو قال: كانت الجنات بحافتي النيل في الشقتين جميعا من أسوان إلى رشيد، وبين الجنات زروع. والنيل سبعة خلجان: خليج الاسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى (2) متصلة لا ينقطع منها شئ عن شئ، و الزروع ما بين الخلجان كلها. وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا بما دبروا وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها، ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعا نيل السلطان، ويخلع على ابن أبي الرداد (3)، وهذه الحال مستمرة إلى الآن. وإنما قيل نيل السلطان لانه حينئذ يجب الخراج على الناس. وكانت أرض مصر جميعها تروى (1) هو امرؤ القيس. (2) وهو بحر يوسف عليه السلام. (3) هو عبد الله بن السلام ابن عبد الله بن أبي الرداد المؤذن، قدم مصر من البصرة وحدث بها، وجعل على قياس النيل في ولاية يزيد بن عبد الله التركي - وكانت النصارى تتولى قياسه - وأجرى عليه سبعة دنانير في كل شهر، واستقر قياسه في بنيه زمانا طويلا. وتوفى أبو الرداد سنة 266 ه‍. عن خطط المقريزي ج‍ 1 ص 58 (*)
[ 103 ]
من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعا، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعا ونودي عليه إصبع واحد من ثمانية عشر ذراعا، ازداد في خراجها ألف ألف دينار. فإذا خرج. عن ذلك ونودي عليه إصبعا واحدا من تسعة عشر ذراعا نقص خراجها ألف ألف دينار. وسبب هذا ما كان ينصرف في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها. فأما الآن فإن أكثرها لا يروى حتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعا بمقياس مصر. وأما أعمال الصعيد الاعلى، فإن بها ما لا يتكامل ريه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الاعلى. قلت: أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعا وأصابع، لعلو الارض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها، وهو من عجائب الدنيا، وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الارض حتى يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالاعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات. وروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الانهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الانهار، فإذا أراد الله أن يجرى نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الانهار بمائها، وفجر الله له عيونا، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عزوجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وقال قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له: أيها الامير إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها، فقال لهم: وما ذاك ؟ فقالوا: إذا كان لاثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الاسلام، وإن الاسلام ليهدم ما قبله. فأقاموا أبيب ومسرى لا يجرى قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء. فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إنك قد أصبت بالذى فعلت، وأن الاسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا. وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه. وكتب إلى عمرو: إنى قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل
[ 104 ]
إذا أتاك كتابي. فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر - أما بعد - فإن كنت إنما تجرى من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها، لانه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل. فلما ألقى البطاقة في النيل، أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعا، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك السنة. قال كعب الاحبار: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سيحان و جيحان والنيل والفرات، فسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة، والنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة. وقال ابن لهيعة: الدجلة نهر اللبن في الجنة. قلت: الذى في الصحيح من هذا حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة " لفظ مسلم وفى حديث الاسراء من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال: " وحدث نبى الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الانهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات " لفظ مسلم. وقال البخاري من طريق شريك عن أنس " فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان (1) فقال ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذى خبأ لك ربك. " وذكر الحديث. والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء. وقال سعيد بن جبير: المراد عيون الذهب. وفي الدخان " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ". قيل: إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها. وليس في الدخان " وكنوز " جمع كنز، وقد مضى هذا (1) يطردان: أي يجريان، وهما يفتعلان من الطرد. (*)
[ 105 ]
في سورة " براءة " (1). والمراد بها ها هنا الخزائن. وقيل: الدفائن. وقال الضحاك: الانهار، وفيه نظر، لان العيون تشملها. (ومقام كريم) قال ابن عمر ابن عباس ومجاهد: المقام الكريم المنابر، وكانت ألف منبر لالف جبار يعظمون عليها فرعون وملكه. وقيل: مجالس الرؤساء والامراء، حكاه ابن عيسى وهو قريب من الاول. وقال سعيد بن جبير: المساكن الحسان. وقال ابن لهيعة: سمعت أن المقام الكريم الفيوم. وقيل: كان يوسف عليه السلام قد كتب على مجلس من مجالسه (لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله) فسماها الله كريمة بهذا. وقيل: مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عدة وزينة، فصار مقامها أكرم منزل بهذا، ذكره الماوردى. والاظهر أنها المساكن الحسان كانت تكرم عليهم. والمقام في اللغة يكون الموضع ويكون مصدرا. قال النحاس: المقام في اللغة الموضع، من قولك قام يقوم، وكذا المقامات واحدها مقامة، كما قال (2): وفيهم مقامات حسان وجوههم * * وأندية ينتابها القول والفعل والمقام أيضا المصدر من قام يقوم. والمقام (بالضم) الموضع من أقام. والمصدر أيضا من أقام يقيم. قوله تعالى: (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم أورثه الله بنى إسرائيل. قال الحسن وغيره: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حلى آل فرعون بأمر الله تعالى. قلت: وكلا الامرين حصل لهم. والحمد لله. (فأتبعوهم مشرقين) أي فتبع فرعون وقومه بنى إسرائيل. قال السدى: حين أشرقت الشمس بالشعاع. وقال قتادة: حين أشرقت الارض بالضياء. قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبنى إسرائيل على قولين: أحدهما - (1) راجع ج‍ 8 ص 123 طبعة أولى أو ثانية. (2) هو زهير بن أبى سلمى، وينتابها: أي يقال فيها الجميل ويفعل به. (*)
[ 106 ]
لاشتغالهم بدفن أبكارهم في تلك الليلة، لان الوباء في تلك الليلة وقع فيهم، فقوله: " مشرقين " حال لقوم فرعون. الثاني - إن سحابة أظلتهم وظلمة فقالوا: نحن بعد في الليل فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا. وقال أبو عبيدة: معنى " فأتبعوهم مشرقين " ناحية المشرق. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون: " فاتبعوهم مشرقين " بالتشديد وألف الوصل، أي نحو المشرق، مأخوذ من قولهم: شرق وغرب إذا سار نحو المشرق والمغرب. ومعنى الكلام قدرنا أن يرثها بنو إسرائيل فاتبع قوم فرعون بنى إسرائيل مشرقين فهلكوا، وورث بنو إسرائيل بلادهم. قوله تعالى: (فلما تراءى الجمعان) أي تقابلا (1) الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية. (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) أي قرب منا العدو ولا طاقة لنا به. وقراءة الجماعة: " لمدركون " بالتخفيف من أدرك. ومنه " حتى إذا أدركه الغرق ". وقرأ عبيد بن عمير والاعرج والزهرى " لمدركون " بتشديد الدال (2) من أدرك. قال الفراء: حفر واحتقر بمعنى واحد، وكذلك " لمدركون " و " لمدركون " بمعنى واحد. النحاس: وليس كذلك يقول النحويون الحذاق، إنما يقولون: مدركون ملحقون، ومدركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال: كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت وهذا معنى قول سيبويه. قوله تعالى: (قال كلا إن معى ربى سيهدين) لما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدو القوى والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى على جهة التوبيخ والجفاء: " إنا لمدركون " فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر " كلا " أي لم يدركوكم " إن معى ربى " أي بالنصر على العدو. " سيهدين " أي سيدلنى على طريق النجاة، فلما عظم البلاء على بنى إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه، وذلك أنه (1) كذا في نسخ الاصل. (2) وكسر الراء - كما في البحر وروح المعاني والكشاف - على وزن، ن مفتعلو وهو لازم بمعنى الفناء والاضمحلال، من ادرك الشئ إذا تتابع ففنى. (*)
[ 107 ]
عزوجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله، وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه. وقد مضى في " البقرة " (1) قصة هذا البحر. ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بنى إسرائيل، ووقف الماء بينها كالطود العظيم، أي الجبل العظيم. والطود الجبل، ومنه قول امرئ القيس: فبينا المرء في الاحياء طود * * رماه الناس عن كثب فمالا وقال الاسود بن يعفر: حلوا بأنقرة يسيل عليهم * * ماء الفرات يجئ من أطواد جمع طود أي جبل. فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا، فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون، على ما تقدم في " يونس " (2) انصب عليهم وغرق فرعون، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون، فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه. وروى ابن القاسم عن مالك قال: خرج مع موسى عليه السلام رجلان من التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له بم أمرك الله ؟ قال: أمرت أن أضرب البحر بعصاي هذه فينفلق، فقالا له: افعل ما أمرك الله فلن يخلفك، ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له، فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه، ثم ارتد كما كان. وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة ". قوله تعالى: (وأزلفنا ثم الاخرين) أي قربناهم إلى البحر، يعنى فرعون وقومه. قاله ابن عباس وغيره، قال الشاعر: وكل يوم مضى أو ليلة سلفت * * فيها النفوس إلى الآجال تزدلف أبو عبيدة: " أزلفنا " جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع. وقرأ أبو عبد الله بن الحرث وأبى بن كعب وابن عباس: " وأزلفنا " بالقاف على معنى أهلكناهم، من قوله: أزلقت الناقة وأزلقت الفرس فهى مزلق إذا أزلقت ولدها. (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الاخرين) يعنى فرعون وقومه. (إن في ذلك لاية) أي علامة على قدرة الله تعالى. (1) راجع ج‍ 1 ص 389 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (2) راجع ج‍ 8 ص 378 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 108 ]
(وما كان أكثرهم مؤمنين) لانه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التى دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام. وذلك أن موسى عليه السلام لما خرج ببنى إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه: ما هذا ؟ فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال موسى: فأيكم يدري قبره ؟ قال: ما يعلمه إلا عجوز لبنى إسرائيل، فأرسل إليها، فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك ؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة، فثقل عليه، فقيل له: أعطها حكمها، فدلتهم عليه، فاحتفروه واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها، فإذا الطريق مثل ضوء النهار في رواية: فأوحى الله إليه أن أعطها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة، فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام، فتبينت لهم الطريق مثل ضوء النهار. وقد مضى في " يوسف " (1). وروى أبو بردة عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابى فأكرمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حاجتك " قال: ناقة أرحلها وأعنزا أحبلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بنى إسرائيل " فقال أصحابه: وما عجوز بنى إسرائيل ؟ فذكر لهم حال هذه العجوز التى احتكمت على موسى أن تكون معه في الجنة. قوله تعالى: واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون (70) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عكفين (71) قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73) قالوا بل وجدنا ءاباءنا كذلك يفعلون (74) قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وءاباؤكم الاقدمون (76) فإنهم عدو لى إلا رب العلمين (77) (1) راجع ج‍ 9 ص 270 طبعة أو ثانية. (*)
[ 109 ]
قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ إبراهيم) نبه المشركين على فرط جهلهم إذ رغبوا عن اعتقاد إبراهيم ودينه وهو أبوهم. والنبأ الخبر، أي أقصص عليهم يا محمد خبره وحديثه وعيبه على قومه ما يعبدون. وإنما قال ذلك ملزما لهم الحجة. والجمهور من القراء على تخفيف الهمزة الثانية وهو أحسن الوجوه، لانهم قد أجمعوا على تخفيف الثانية من كلمة واحدة نحو آدم. وإن شئت حققتهما فقلت: " نبأ إبراهيم ". وإن شئت خففتهما فقلت: " نبأ إبراهيم ". وإن شئت خففت الاولى. وثم وجه خامس إلا أنه بعيد في العربية وهو أن يدغم الهمزة في الهمزة كما يقال رااس للذى يبيع الرؤوس. وإنما بعد لانك تجمع بين همزتين كأنهما في كلمة واحدة، وحسن في فعال لانه لا يأتي إلا مدغما. (إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون) أي أي شئ تعبدوا (قالوا نعبد أصناما) وكانت أصنامهم من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب. (فنظل لها عاكفين) أي فنقيم على عبادتها. وليس المراد وقتا معينا بل هو إخبار عما هم فيه. وقيل: كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، وكانوا في الليل يعبدون الكواكب. فيقال: ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا. (قال هل يسمعونكم) قال الاخفش: فيه حذف، والمعنى: هل يسمعون منكم ؟ أو هل يسمعون دعاءكم، قال الشاعر (1): القائد الخيل منكوبا دوابرها * * قد أحكمت حكمات القد والابقا قال: والابق الكتان فحذف. والمعنى، وأحكمت حكمات الابق. وفي الصحاح: والابق بالتحريك القنب. وروى عن قتادة أنه قرأ: " هل يسمعونكم " بضم الياء، أي أهل يسمعونكم أصواتهم (إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون) أي هل تنفعكم هذه الاصنام وترزقكم، أو تملك لكم خيرا أو ضرا إن عصيتم ؟ ! وهذا استفهام لتقرير الحجة، فإذا لم ينفعوكم ولم يضروا فما معنى عبادتكم لها. (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) فنزعوا إلى التقليد (1) هو زهير بن أبى سلمى. والبيت من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان. وأحكمت: جعلت لها حكمات من القد. والحكمات جمع حكمة وهي ما تكون على أنف الدابة. ودوابرها: مؤخر حوافرها. ومنكوب: أي أصابت الحجارة دوابرها وأدمتها. (*)
[ 110 ]
من غير حجة ولا دليل. وقد مضى القول فيه. (قال) إبراهيم (أفرأيتم ما كنتم تعبدون) من هذه الاصنام (أنتم وآباؤكم الا قدمون) الاولون (فإنهم عدو لى) واحد يؤدى عن جماعة، وكذلك يقال للمرأة هي عدو الله وعدوة الله، حكاهما الفراء. قال على بن سليمان: من قال عدوة الله وأثبت الهاء قال هي بمعنى معادية، ومن قال عدو للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب. ووصف الجماد بالعداوة بمعنى أنهم عدو لى إن عبدتهم يوم القيامة، كما قال: " كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ". وقال الفراء: هو من المقلوب، مجازه: فإنى عدو لهم لان من عاديته عاداك. ثم قال: (إلا رب العالمين) قال الكلبى: أي إلا من عبد رب العالمين، إلا عابد رب العالمين، فحذف المضاف. قال أبو إسحق الزجاج: قال النحويون هو استثناء ليس من الاول، وأجاز أبو إسحق أن يكون من الاول على أنهم كانوا يعبدون الله عزوجل ويعبدون معه الاصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله. وتأوله الفراء على الاصنام وحدها والمعنى عنده: فإنهم لو عبدتهم عدو لى يوم القيامة، على ما ذكرنا. وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الاقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدو لى. وإلا بمعنى دون وسوى، كقوله: " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى " أي دون الموتة الاولى. قوله تعالى: الذى خلقني فهو يهدين (78) والذى هو يطعمنى ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذى يميتني ثم يحيين (81) والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتي يوم الدين (82) قوله تعالى: (الذى خلقني فهو يهدين) أي يرشدني إلى الدين. (والذى هو يطعمنى ويسقين) أي يرزقنى. ودخول " هو " تنبيه على أن غيره لا يطعم ولا يسقى، كما تقول: زيد هو الذى فعل كذا، أي لم يفعله غيره. (وإذا مرضت فهو يشفين) قال: " مرضت " رعاية للادب وإلا فالمرض والشفاء من الله عزوجل جميعا. ونظيره قول
[ 111 ]
فتى موسى: " وما أنسانيه إلا الشيطان ". (والذى يميتني ثم يحيين) يريد البعث وكانوا ينسبون الموت إلى الاسباب، فبين أن الله هو الذى يميت ويحيى. وكله بغير ياء: " يهدين " " يشفين " لان الحذف في رءوس الآى حسن لتتفق كلها. وقرأ ابن أبى إسحق على جلالته ومحله من العربية هذه كلها بالياء، لان الياء اسم وإنما دخلت النون لعلة. فإن قيل: فهذه صفة تجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلا على هدايته ولم يهتد بها غيره ؟ قيل: إنما ذكرها احتجاجا على وجوب الطاعة، لان من أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها، وهذا إلزام صحيح. قلت: وتجوز بعض أهل الاشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائه العقول من أنه ليس المراد من إبراهيم. فقال: " والذى هو يطعمنى ويسقين " أي يطعمنى لذة الايمان ويسقين حلاوة القبول. ولهم في قوله: " وإذا مرضت فهو يشفين " وجهان: أحدهما - إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته. الثاني - إذا مرضت بمقاساة الخلق، شفاني بمشاهدة الحق. وقال جعفر بن محمد الصادق: إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة. وتأولوا قوله: " والذى يميتني ثم يحيين " على ثلاثة أوجه: فالذي يميتني بالمعاصى يحيينى بالطاعات. الثاني: يميتني بالخوف يحيينى بالرجاء. الثالث: يميتني، بالطمع ويحييني بالقناعة. وقول رابع: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل. وقول خامس: يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق. وقول سادس: يميتني بالجهل ويحييني بالعقل، إلى غير ذلك مما ليس بشئ منه مراد من الآية، فإن هذه التأويلات الغامضة، والامور الباطنة، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق، وأما من كان في عمى عن الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الامور الباطنة، وتترك الامور الظاهرة ؟ هذا محال. والله أعلم. قوله تعالى: (والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتي يوم الدين) " أطمع " أي أرجو. وقيل: هو بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق المؤمنين سواه. وقرأ الحسن وابن أبى إسحق: " خطاياى " وقال: ليست خطيئة واحدة. قال النحاس: خطيئة بمعنى
[ 112 ]
خطايا معروف في كلام العرب، وقد أجمعوا على التوحيد في قوله عزوجل " فاعترفوا بذنبهم " ومعناه بذنوبهم. وكذا " وأقيموا الصلاة " معناه الصلوات، وكذا " خطيئتي " إن كانت خطايا. والله أعلم. قال مجاهد: يعنى بخطيئته قوله: " بل فعله كبيرهم هذا " وقوله: " إنى سقيم " وقوله: إن سارة أخته. زاد الحسن وقوله للكوكب: " هذا ربى " وقد مضى بيان هذا مستوفى. وقال الزجاج: الانبياء بشر فيجوز أن تقع منهم الخطيئة، نعم لا تجوز عليهم الكبائر لانهم معصومون عنها. (يوم الدين) يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم. وهذا من إبراهيم إظهار للعبودية وإن كان يعلم أنه مغفور له. وفي صحيح مسلم عن عائشة، قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه ؟ قال: " لا ينفعه إنه لم يقل يوما " رب اغفر لى خطيئتي يوم الدين ". قوله تعالى: رب هب لى حكما وألحقني بالصلحين (83) واجعل لى لسان صدق في الاخرين (84) واجعلني من ورثة جنة النعيم (85) واغفر لابي إنه كان من الضالين (86) ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89) قوله تعالى: (رب هب لى حكما وألحقني بالصالحين) " حكما " معرفة بك وبحدودك وأحكامك، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: فهما وعلما وهو راجع إلى الاول. وقال الكلبى: نبوة رسالة إلى الخلق. " وألحقني بالصالحين " أي بالنبيين من قبلى في الدرجة. وقال ابن عباس: بأهل الجنة، وهو تأكيد قوله: " هب لى حكما ". قوله تعالى: (واجعل لى لسان صدق في الاخرين) قال ابن عباس: هو اجتماع الامم عليه. وقال مجاهد: هو الثناء الحسن. قال ابن عطية: هو الثناء وخلد المكانة بإجماع المفسرين، وكذلك أجاب الله دعوته، وكل أمة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مكى: وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان
[ 113 ]
من يقوم بالحق، فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عطية: وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. وقال القشيرى: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة، فإن زيادة الثواب مطلوبة في حق كل أحد. قلت: وقد فعل الله ذلك إذ ليس أحد يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلى على إبراهيم وخاصة في الصلوات، وعلى المنابر التى هي أفضل الحالات وأفضل الدرجات. والصلاة دعاء بالرحمة. والمراد باللسان القول، وأصله جارحة الكلام. قال القتبى: وموضع اللسان موضع القول على الاستعارة، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة. قال الاعشى: إنى أتتنى لسان لا أسر بها * * من علو لا عجب منها ولا سخر قال الجوهرى: يروى من علو بضم الواو وفتحها وكسرها. أي أتانى خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة. وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر. روى أشهب عن مالك قال قال الله عزوجل: " واجعل لى لسان صدق في الآخرين " لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال الله تعالى: " وألقيت عليك محبة منى " وقال: " إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبه تعالى بقوله: " واجعل لى لسان صدق في الآخرين " على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. الليث بن سليمان: إذ هي الحياة الثانية. قيل: * قد مات قوم وهم في الناس أحياء قال ابن العربي: قال المحققون من شيوخ. الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذى يكسب الثناء الحسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " [ الحديث ] وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة. وقد بيناه في آخر " آل عمران " (1) والحمد لله. (1) راجع ج‍ 4 ص 323 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 114 ]
قوله تعالى: (واجعلني من ورثة جنة النعيم) دعاء بالجنة وبمن يرثها، وهو يرد قول بعضهم: لا أسأل جنة ولا نارا. قوله تعالى: (واغفر لابي إنه كان من الضالين) كان أبوه وعده في الظاهر أن يؤمن به فاستغفر له لهذا، فلما بان أنه لا يفى بما قال تبرأ منه. وقد تقدم هذا المعنى. " إنه كان من المشركين " أالمشركين. " وكان " زائدة. (ولا تخزني يوم يبعثون) أي لا تفضحني على رءوس الاشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة. وفي البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة " والغبرة هي القترة. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني إلا تخزيني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إنى حرمت الجنة على الكافرين " انفرد بهما البخاري رحمه الله. قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون) " يوم " بدل من " يوم " الاول. أي يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدا. والمراد بقوله: " ولا بنون " الاعوان، لان الابن إذا لم ينفع فغيره متى ينفع ؟ وقيل: ذكر البنين لانه جرى ذكر والد إبراهيم، أي لم ينفعه إبراهيم. " إلا من أتى الله بقلب سليم " هو استثناء من الكافرين، أي لا ينفعه ماله ولا بنوه. وقيل: هو استثناء من غير الجنس، أي لكن " من أتى الله بقلب سليم " ينفعه لسلامة قلبه. وخص القلب بالذكر، لانه الذى إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح. وقد تقدم في أول " البقرة " (1). واختلف في القلب السليم فقيل: من الشك والشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، قاله قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن، لان قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: " في قلوبهم مرض " وقال أبو عثمان السيارى: هو القلب الخالى عن البدعة المطمئن إلى السنة. وقال الحسن: سليم من آفة المال والبنين. وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ، فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله. وقال الضحاك: السليم الخالص. (1) راجع ج‍ 1 ص 187 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 115 ]
قلت: وهذا القول يجمع شتات الاقوال بعمومه وهو حسن، أي الخالص من الاوصاف الذميمة، والمتصف بالاوصاف الجميلة، والله أعلم. وقد روى عن عروة أنه قال: يا بنى لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئا قط، قال الله تعالى: " إذ جاء ربه بقلب سليم ". وقال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. وفي صحيح مسلم من حديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير " يريد - والله أعلم - أنها مثلها في أنها خالية من ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لهم بأمور الدنيا، كما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثر أهل الجنة البله " وهو حديث صحيح. أي البله عن معاصي الله. قال الازهرى: الابله هنا هو الذى طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه. وقال القتبى: البله هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس. قوله تعالى: وأزلفت الجنة للمتقين (90) وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هم والغاون (94) وجنود أبليس أجمعون (95) قالوا وهم فيها يختصمون (96) تالله إن كنا لفى ضلل مبين (97) إذ نسويكم برب العلمين (98) وما أضلنا ألا المجرمون (99) فما لنا من شافعين (100) ولا صديق حميم (101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (103) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (104) قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين) أي قربت وأدنيت ليدخلوها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها. (وبرزت) أي أظهرت (الجحيم) يعني جهنم. (للغاوين)
[ 116 ]
أي الكافرين الذين ضلوا عن الهدى. أي تظهر جهنم لاهلها قبل أن يدخوها حتى يستشعروا الروع والحزن، كما يستشعر أهل الجنة الفرح لعلمهم أنهم يدخلون الجنة. (وقيل لهم أينما كنتم تعبدون من ودن الله) من الاصنام والانداد (هل ينصرونكم) من عذاب الله (أو ينتصرون) لانفسهم. وهذا كله توبيخ. (فكبكبوا فيها) أي قلبوا على رؤوسهم. وقيل: دهوروا وألقى بعضهم على بعض. وقيل: جمعوا. مأخوذ من الكبكبة وهى الجماعة، قاله الهروي. وقال النحاس هو مشتق من كوكب الشئ أي معظمه. والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة. وقال ابن عباس: جمعوا فطرحوا في النار. وقال مجاهد: دهوروا. وقال مقاتل: قذفوا. والمعنى واحد. تقول: دهورت الشئ إذا جمعته ثم قذفته في مهواة. يقال: هو يدهور اللقم إذا كبرها. ويقال: في الدعاء كب الله عدو المسلمين ولا يقال أكبه. وكبكبه، أي كبه وقلبه. ومنه قوله تعالى: " فكبكبوا فيها " والاصل كببوا فأبدل من الباء الوسطى كاف استثقالا لاجتماع الباءات. قال السدى: الضمير في " كبكبوا " لمشركي العرب (والغاوون) الآلهة. (وجنود إبليس) من كان من ذريته. وقيل: كل من دعاه إلى عبادة الاصنام فاتبعه. وقال قتادة والكلبي ومقاتل: " الغاوون " هم الشياطين. وقيل: إنما تلقى الاصنام في النار وهى حديد ونحاس ليعذب بها غيرهم. (قالوا وهم فيها يختصمون) يعنى الانس والشياطين والغاوين والمعبودين اختصموا حينئذ. (تالله) حلفوا بالله (إن كنا لفى ضلال مبين) أي في خسار وتبار وحيرة عن الحق بينة إذا اتخذنا مع الله آلهة فعبدناها كما يعبد، وهذا معنى قوله: (إذ نسويكم برب العالمين) أي في العبادة وأنتم لا تستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسكم. (وما أضلنا إلا المجرومن) يعنى الشياطين الذين زينوالنا عباده الاصنام. وقيل: أسلافنا الذين قلدناهم. قال أبو العالية وعكرمة: " المجرمون " إبليس وابن آدم القاتل هما أول من سن الكفر والقتل وأنواع المعاصي. (فما لنا من شافعين) أي شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين. (ولا صديق حميم) أي صديق مشفق، وكان على رضى الله عنه يقول: عليكم بالاخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة،
[ 117 ]
ألا تسمع إلى قول أهل النار: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " الزمخشري: وجمع الشافع لكثرة الشافعين ووحد الصديق لقلته، ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم مضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته، رحمة له وحسبة وإن لم تسبق له بأكثرهم معرفة، وأما الصديق فهو الصادق في ودادك الذى يهمه ما يهمك فأعز من بيض الانوق، وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق الجمع. والحميم القريب والخاص، ومنه حامة الرجل أي أقرباؤه. وأصل هذا من الحميم وهو الماء الحار، ومنه الحمام والحمى، فحامة الرجل الذين يحرقهم ما أحرقه، يقال: هم حزانته أي يحزنهم ما يحزنه. ويقال: حم الشئ وأحم إذا قرب، ومنه الحمى، لانها تقرب من الاجل. وقال على بن عيسى: إنما سمى القريب حميما، لانه يحمى لغضب صاحبه، فجعله مأخوذا من الحمية. وقال قتادة: يذهب الله عزوجل يوم القيامة مودة الصديق ورقة الحميم. ويجوز: " ولا صديق حميم " بالرفع على موضع " من شافعين "، لان " من شافعين " في موضع رفع. وجمع صديق أصدقاء وصدقاء وصداق. ولا يقال صدق للفرق بين النعت وغيره. وحكى الكوفيون: أنه يقال في جمعه صدقان. النحاس: وهذا بعيد، لان هذا جمع ما ليس بنعت نحو رغيف ورغفان. وحكموا أيضا صديق وأصادق. وأفاعل إنما هو جمع أفعل إذا لم يكن نعتا نحو أشجع وأشاجع. ويقال: صديق للواحد والجماعة وللمرأة، قال الشاعر (1): نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا * * بأعين أعداء وهن صديق ويقال: فلان صديقى أي أخص أصدقائى، وإنما يصغر على جهة المدح، كقول حباب ابن المنذر: (أنا جذيلها (2) المحكك، وعذيقها المرجب) ذكره الجوهرى. النحاس: وجمع حميم أحماء وأحمة وكرهوا أفعلاء للتضعيف. (فلو أن لنا گرة) " أن " في موضع رفع، المعنى ولو وقع لنا رجوع إلى الدنيا لآمنا حتى يكون لنا شفعاء. تمنوا حين لا ينفعهم التمنى. (1) هو جرير. (2) عنى بجذيلها المحك الاصل من الشجرة - أو عود ينصب - تحتك به الابل فتشتفي به، أي جربتني الامور ولى علم ورأى يشتفى بهما كما تشتفي هذه الابل الجربى بهذا الجذيل. والترجيب هنا إرفاد النخلة من جانب ليمنعها من السقوط، أي إن لى عشيرة تعضدني وتمنعني. والعذيق تصغير عذق (بالفتح) وهى النخلة بحملها. (*)
[ 118 ]
وإنما قالوا ذلك حين شفع الملائكة والمؤمنون. قال جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل فلان وصديقه في الجحيم فلا يزال يشفع له حتى يشفعه الله فيه فإذا نجا قال المشركون: " ما لنا من شافعين ولا صديق حميم " ". وقال الحسن: ما أجتمع ملا على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم، وإن أهل الايمان ليشفع بعضهم في بعض وهم عند الله شافعون مشفعون. وقال كعب: إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا، فيمر أحدهما بصاحبه وهو يجر إلى النار، فيقول له أخوه: والله ما بقى لى إلا حسنة واحدة أنجو بها، خذها أنت يا أخى فتنجو بها مما أرى، وأبقى أنا وإياك من أصحاب الاعراف. قال: فيأمر الله بهما جميعا فيدخلان الجنة. (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم) تقدم والحمد لله. قوله تعالى: كذبت قوم نوح المرسلين (105) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون (106) إنى لكم رسول أمين (107) فاتقوا الله وأطيعون (108) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العلمين (109) فاتقوا الله وأطيعون (110) قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون (111) قال وما علمي بما كانوا يعملون (112) إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون (113) وما أنا بطارد المؤمنين (114) إن أنا إلا نذير مبين (115) قالوا لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين (116) قال رب إن قومي كذبون (117) فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين (118) فأنجينه ومن معه في الفلك المشحون (119) ثم أغرقنا بعد الباقين (120) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122)
[ 119 ]
قوله تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين) قال " كذبت " والقوم مذكر، لان المعنى كذبت جماعة قوم نوح، وقال: " المرسلين " لان من كذب رسولا فقد كذب الرسل، لان كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. وقيل: كذبوا نوحا في النبوة وفيما أخبرهم به من مجئ المرسلين بعده. وقيل: ذكر الجنس والمراد نوح عليه السلام. وقد مضى هذا في " الفرقان " (1). (إذ قال لهم أخوهم نوح) أي ابن أبيهم وهى أخوة نسب لا أخوة دين. وقيل: هي أخوة المجانسة. قال الله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " وقد مضى هذا في " الاعراف " (2). وقيل: هو من قول العرب يا أخا بنى تميم. يريدون يا واحدا منهم. الزمخشري: ومنه بيت الحماسة: لا يسألون أخاهم حين يندبهم * * في النائبات على ما قال برهانا (ألا تتقون) أي ألا تتقون الله في عبادة الاصنام. (إنى لكم رسول أمين) أي صادق فيما أبلغكم عن الله تعالى. وقيل: " أمين " فيما بينكم، فإنهم كانوا عرفوا أمانته وصدقه من قبل كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش. (فاتقوا الله) أي فاستتروا بطاعة الله تعالى من عقابه. (وأطيعون) فيما آمركم به من الايمان. (وما أسئلكم عليه من أجر) أي لا طمع لى في مالكم. (إن أجرى) أي ما جزائي (إلا على رب العالمين). (فاتقوا الله وأطيعون) كرر تأكيدا. قوله تعالى: (قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " قالوا أنؤمن لك " أي نصدق قولك. " وأتبعك الارذلون " الواو للحال وفيه إضمار قد، أي وقد أتبعك. " الارذلون " جمع الارذل، المكسر الاراذل والانثى الرذلى والجمع الرذل. قال النحاس: ولا يجوز حذف الالف واللام في شئ من هذا عند أحد من النحويين علمناه. وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي وغيرهم، (1) راجع ص 3 1 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 7 ص 235 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 120 ]
" وأتباعك الارذلون ". النحاس: وهى قراءة حسنة، وهذه الواو أكثرها تتبعها الاسماء والافعال بقد. وأتباع جمع تبع وتبيع يكون للواحد والجمع. قال الشاعر: له تبع قد يعلم الناس أنه * * على من يدانى صيف وربيع ارتفاع " أتباعك " يجوز أن يكون بالابتداء و " الارذلون " الخبر، التقدير أنؤمن لك وإنما أتباعك الارذلون. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في قوله: " أنؤمن لك " والتقدير: أنؤمن لك نحن وأتباعك الارذلون فنعد منهم، وحسن ذلك الفصل بقوله: " لك " وقد مضى القول في الاراذل في سورة " هو د " (1) مستوفى. ونزيده هنا بيانا وهى المسألة: الثانية - فقيل: إن الذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكناته وبنو بنيه. وأختلف هل كان معهم غيرهم أم لا. وعلى أي الوجهين كان فالكل صالحون، وقد قال نوح: " ونجنى ومن معى من المؤمنين " والذين معه هم الذين أتبعوه، ولا يلحقهم من قول الكفرة شين ولا ذم بل الارذلون هم المكذبون لهم. قال السهيلي: وقد أغرى كثير من العوام بمقالة رويت في تفسير هذه الآية: هم الحاكة والحجامون. ولو كانوا حاكة كما زعموا لكان إيمانهم بنبى الله واتباعهم له مشرفا كما تشرف بلال وسلمان بسبقهما للاسلام، فهما من وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فلا ذرية نوح كانوا حاكة ولا حجامين، ولا قول الكفرة في الحاكة والحجامين إن كانوا آمنوا بهم أرذلون ما يلحق اليوم بحاكتنا ذما ولا نقصا، لان هذه حكاية عن قول الكفرة إلا أن يجعل الكفرة حجة ومقالتهم أصلا، وهذا جهل عظيم وقد أعلم الله تعالى أن الصناعات ليست بضائرة في الدين. قوله تعالى: (قال وما علمي بما كانوا يعملون) " كان " زائدة، والمعنى: وما علمي بما يعملون، أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوهم إلى الايمان، والاعتبار بالايمان لا بالحرف والصنائع، وكأنهم قالوا: إنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعا في العزة والمال. فقال: إنى لم أقف على باطن أمرهم وإنما إلى ظاهرهم. وقيل: المعنى إني (1) راجع ج‍ 9 ص 23 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 121 ]
لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويرشدهم ويغويكم ويوفقهم ويخذلكم. (إن حسابهم) أي في أعمالهم وإيمانهم (إلا على ربى لو تشعرون) وجواب " لو " محذوف، أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم. وقراءة العامة: " تشعرون " بالتاء على المخاطبة للكفار وهو الظاهر وقرأ ابن أبى عبلة ومحمد بن السميقع: " لو يشعرون " بالياء كأنه خبر عن الكفار وترك الخطاب لهم، نحو قوله: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ". وروى أن رجلا سأل سفيان عن أمرأة زنت وقتلت ولدها وهى مسلمة هل يقطع لها بالنار ؟ فقال: " إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون ". (وما أنا بطارد المؤمنين) أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم. وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء كما طلبته قريش. (إن أنا إلا نذير مبين) يعنى: إن الله ما أرسلني أخص ذوى الغنى دون الفقراء، إنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعنى فذلك السعيد عند الله وإن كان فقيرا. قوله تعالى: (قالوا لئن لم تنته يا نوح) أي عن سب آلهتنا وعيب ديننا (لتكونن من المجرمين) أي بالحجارة، قاله قتادة. وقال ابن عباس ومقاتل: من المقتولين. قال الثمالى: كل مرجومين في القرآن فهو القتل إلا في مريم: " لئن لم تنته لارجمنك " أي لا سبنك. وقيل: " من المرجومين " من المشتومين، قاله السدى. ومنه قول، أبى دؤاد (1). (قال رب إن قومي كذبون فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين) قال ذلك لما يئس من إيمانهم. والفتح الحكم وقد تقدم. (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) يريد السفينة وقد مضى ذكرها. والمشحون المملوء، والشحن مل ء السفينة بالناس والدواب وغيرهم. ولم يؤنث الفلك ها هنا، لان الفلك ها هنا واحد لا جمع. (ثم أغرقنا بعد الباقين) أي بعد إنجائنا نوحا ومن آمن. (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم). (1) كذا في جميع نسخ الاصل، وهنا سقط لعله بيت من الشعر أورده المؤلف شاهدا على أن الرجم معناه الشتم، كما أورد بيت الجعدى شاهدا على ذلك عند تفسير قوله تعالى: " ولولا رهطك لرجمناك ". راجع ج‍ 9 ص 91 (*)
[ 122 ]
قوله تعالى: كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون (124) إنى لكم رسول أمين (125) فاتقوا الله وأطيعون (126) وما أسئلكم عليه من اجر إن اجرى إلا على رب العلمين (127) أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون (128) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (129) وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون (131) واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون (132) أمدكم بأنعم وبنين (133) وجنت وعيون (134) إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (135) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الوعظين (136) إن هذا إلا خلق الاولين (137) وما نحن بمعذبين (138) فكذبوه فأهلكنهم إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (139) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (140) قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين) التأنيث بمعنى القبيلة والجماعة. وتكذيبهم المرسلين كما تقدم. (إذ قال لهم اخوهم هود ألا تتقون. إنى لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن اجرى إلا على رب العالمين) بين المعنى وقد تقدم. قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) الريع ما ارتفع من الارض في قول ابن عباس وغيره، جمع ريعة. وكم ريع أرضك أي كم ارتفاعها. وقال قتادة: الريع الطريق. وهو قول الضحاك والكلبي ومقاتل والسدى. وقال ابن عباس أيضا. ومنه قول المسيب ابن علس: في الآل يخفضها ويرفعها * * ريع يلوح كأنه سحل
[ 123 ]
شبه الطريق بثوب أبيض. النحاس: ومعروف في اللغة أن يقال لما أرتفع من الارض ريع وللطريق ريع. قال الشاعر (1): طراق الخوافى مشرق فوق ريعة * * ندى ليله في ريشه يترقرق وقال عمارة: الريع الجبل الواحد ريعة والجمع رياع. وقال مجاهد: هو الفج بين الجبلين. وعنه: الثنية الصغيرة. وعنه: المنظرة. وقال عكرمة ومقاتل: كانوا يهتدون بالنجوم إذا سافروا، فبنوا على الطريق أمثالا طوالا ليهتدوا بها: يدل عليه قوله " آية " أي علامة. وعن مجاهد: الريع بنيان الحمام دليله " تعبثون " أي تلعبون، أي تبنون بكل مكان مرتفع آية. علما تلعبون بها على معنى أبنية الحمام وبروجها. وقيل: تعبثون بمن يمر في الطريق. أي تبنون بكل موضع مرتفع لتشرفوا على السابلة فتسخروا منهم. وقال الكلبى: إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم، ذكره الماوردى. وقال أبن الاعرابي: الربع الصومعة، والريع البرج من الحمام يكون في الصحراء. والريع التل العالي. وفى الريع لغتان: كسر الراء وفتحها وجمعها أرياع، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: (وتتخذون مصانع) أي منازل، قاله الكلبى. وقيل: حصونا مشيدة، قال ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشاعر: تركنا ديارهم منهم قفارا * * وهدمنا المصانع والبروجا وقيل: قصورا مشيدة، وقاله مجاهد أيضا. وعنه: بروج الحمام، وقاله السدى. قلت: وفيه بعد عن مجاهد، لانه تقدم عنه في الريع أنه بنيان الحمام فيكون تكرارا في الكلام. وقال قتادة: مآجل للماء تحت الارض. وكذا قال الزجاج: إنها مصانع الماء، واحدتها مصنعة ومصنع. ومنه قول لبيد: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع * * وتبقى الجبال بعدنا والمصانع (1) هو ذو الرمة يصف بازيا. وفي ديوانه - طبع أوربا - " واقع " بدل " مشرق ". (*)
[ 124 ]
الجوهرى: المصنعة كالحوض يجتمع فيها ماء المطر، وكذلك المصنعة بضم النون. والمصانع الحصون. وقال أبو عبيدة: يقال لكل بناء مصنعة. حكاه المهدوى. وقال عبد الرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العادية. (لعلكم تخلدون) أي كى تخلدوا. وقيل: لعل استفهام بمعنى التوبيخ أي فهل " تخلدون " كقولك: لعلك تشتمني أي هل تشتمني. روى معناه عن ابن زيد. وقال الفراء: كيما تخلدون لا تتفكرون في الموت. وقال ابن عباس وقتادة: كأنكم خالدون باقون فيها. وفي بعض القراءات " كأنكم تخلدون " (1) ذكره النحاس. وحكى قتادة: أنها كانت في بعض القراءات " كأنكم خالدون ". قوله تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) البطش السطوة والاخذ بالعنف. وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا. وباطشه مباطشة. وقال ابن عباس ومجاهد: البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط. ومعنى ذلك فعلتم ذلك ظلما. وقال مجاهد أيضا: هو ضرب بالسياط، ورواه مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر فيما ذكر ابن العربي. وقيل: هو القتل بالسيف في غير حق. حكاه يحيى بن سلام. وقال الكلبى والحسن: هو القتل على الغصب من غير تثبت. وكله يرجع إلى قول ابن عباس. وقيل: إنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء. قال ابن العربي: ويؤيد ما قال مالك قول الله تعالى عن موسى: " فلما أن أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الارض " وذلك أن موسى عليه السلام لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح، وإنما وكزه وكانت منيته في وكزته. والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع، ويليه السوط والعصا، ويليه الحديد، والكل مذموم إلا بحق. والآية نزلت خبرا عمن تقدم من الامم، ووعظا من الله عزوجل لنا في مجانبة ذلك الفعل الذى ذمهم به وأنكره عليهم. قلت: وهذه الاوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الامة، لا سيما بالديار المصرية منذ وليتها البحرية، فيبطشون (2) بالناس بالسوط والعصا في غير حق. وقد أخبر صلى (1) مبنى للمفعول مخففا ومشددا. (2) البحرية: هم من المماليك الاتراك الذين استخدمهم الملك الصالح الايوبي، وأسكنهم جزيرة الروضة. وأول ملوكهم عز الدين أيبك. وكانت مدة حكمهم من سنة 648 - 784 ه‍. (*)
[ 125 ]
الله عليه وسلم أن ذلك يكون. كما في صحيح مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ". وخرج أبو داود من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا تبايعتم بالعينة (1) وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ". " جبارين " قتالين. والجبار القتال في غير حق. وكذلك قوله تعالى: " إن تريد إلا أن تكون جبارا في الارض " قاله الهروي. وقيل: لجبار المتسلط العاتى، ومنه قوله تعالى: " وما أنت عليهم بجبار " أي بمسلط. وقال الشاعر: سلبنا من الجبار بالسيف ملكه * * عشيا وأطراف الرماح شوارع قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون) تقدم. (واتقوا الذى أمدكم بما تعملون) أي من الخيرات، ثم فسرها بقوله: " أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون " أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم، فهو الذى يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر. (إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) إن كفرتم به وأصررتم على ذلك. (قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين) كل ذلك عندنا سواء لا نسمع منك ولا نلوى على ما تقوله. وروى العباس عن أبى عمرو وبشر عن الكسائي: " أوعظت " مدغمة الظاء في التاء وهو بعيد، لان الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدا وكان مثله ومخرجه. (إن هذا إلا خلق الاولين) أي دينهم، عن ابن عباس وغيره. وقال الفراء: عادة الاولين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: " خلق الاولين ". الباقون " خلق ". قال الهروي: وقوله عزوجل: " إن هذا إلا خلق الاولين " أي اختلافهم وكذبهم، ومن قرأ: " خلق الاولين " فمعناه عادتهم، والعرب تقول: حدثنا فلان بأحاديث الخلق أي بالخرافات والاحاديث المفتعلة. وقال ابن الاعرابي: (1) العينة أن تبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم تشتريها منه بأقل من الثمن الذى بعتهابه. (*)
[ 126 ]
الخلق الدين والخلق الطيع والخلق المروءه. قال النحاس: " خلق الاولين " عند الفراء يعنى عادة الاولين. وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: " خلق الاولين " مذهبهم وما جرى عليه أمرهم، قال أبو جعفر: والقولان متقاربان، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا " أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الامر في طاعة الله عزوجل، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا، ولا أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الخلق الذي ليس بفاجر. قال أبو جعفر: حكى لنا عن محمد بن يزيد أن معنى " خلق الاولين " تكذيبهم وتخرصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الاولى، لان فيها مدح آبائهم، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم، وقولهم: " إنا وجدنا آباءنا على أمة ". وعن أبى قلابة: أنه قرأ: " خلق " بضم الخاء وإسكان اللام تخفيف " خلق ". ورواها ابن جبير عن أصحاب نافع عن نافع. وقد قيل: إن معنى " خلق الاولين " دين الاولين. ومنه قوله تعالى: " فليغيرن خلق الله " أي دين الله. و " خلق الاولين " عادة الاولين: حياة ثم موت ولا بعث. وقيل: ما هذا الذى أنكرت علينا من البنيان والبطش إلا عادة من قبلنا فنحن نقتدى بهم (وما نحن بمعذبين) على ما نفعل. وقيل: المعنى خلق أجسام الاولين، أي ما خلقنا إلا كخلق الاولين الذين خلقوا قبلنا وماتوا، ولم ينزل بهم شئ مما تحذرنا به من العذاب. (فكذبوه فأهلكنهم) أي بريح صرصر عاتية على ما يأتي في " الحاقة ". (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) قال بعضهم: أسلم معه ثلثمائة ألف ومئون وهلك باقيهم. (وإن ربك لهو العزيز الرحيم). قوله تعالى: كذبت ثمود المرسلين (141) إذ قال لهم أخوهم صلح ألا تتقون (142) إنى لكم رسول أمين (143) فاتقوا الله وأطيعون (144) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العلمين (145) أتتركون في ما ههناء امنين (146) في جنت وعيون (147) وزروع ونخل
[ 127 ]
طلعها هضيم (148) وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين (149) فاتقوا الله وأطيعون (150) ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون (152) قالوا إنما أنت من المسحرين (153) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بأية إن كنت من الصادقين (154) قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (155) ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم (156) فعقروها فأصبحوا ندمين (157) فأخذهم العذاب إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (158) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (159) قوله تعالى: (كذبت ثمود المرسلين) ذكر قصة صالح وقومه وهم ثمود، وكانوا يسكنون الحجر كما تقدم في " الحجر " (1) وهى ذوات نخل وزروع ومياه. (أتتركون فيما هاهنا آمنبن) يعنى في الدنيا آمنين من الموت والعذاب. قال ابن عباس: كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم. ودل على هذا قوله: " واستعمركم فيها " فقرعهم صالح ووبخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت (في جنات وعيون. وزروع ونخل طلعها هضيم). الزمخشري: فإن قلت لم قال: " ونخل " بعد قوله: و " جنات " والجنات تتناول النخل أول شئ كما يتناول النعم الابل كذلك من بين الازواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخل، كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الابل قال زهير: كأن عينى في غربي مقتلة * * من النواضح تسقى جنة سحقا يعنى النخل، والنخلة السحوق البعيدة الطول. قلت: فيه وجهان، أحدهما - أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيها على انفراده عنها بفضله عنها. والثانى - أن يريد بالجنات غيرها من الشجر، لان اللفظ (1) راجع ج‍ 10 ص 45 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 128 ]
يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل. والطلعة هي التى تطلع من النخلة كنصل السيف، في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. و " هضيم " قال ابن عباس: لطيف ما دام في كفراه. والهضيم اللطيف الدقيق، ومنه قول امرئ القيس: * على هضيم الكشح ريا المخلخل (1) * الجوهرى: ويقال للطلع هضيم ما لم يخرج من كفراه، لدخول بعضه في بعض. والهضيم من النساء اللطيفة الكشحين. ونحوه حكى الهروي، قال: هو المنضم في وعائه قبل أن يظهر، ومنه رجل هضيم الجنبين أي منضمهما، هذا قول أهل اللغة. وحكى الماوردي وغيره في ذلك أثني عشر قولا: أحدها: أنه الرطب اللين، قال عكرمة. الثاني - هو المذنب من الرطب، قاله سعيد بن جبير. قال النحاس: وروى أبو إسحق عن يزيد - هو ابن أبي زياد كوفي ويزيد بن أبي مريم شامي - " ونخل طلعها هضيم " قال: منه ما قد أرطب ومنه مذنب. الثالث - أنه الذي ليس فيه نوى، قاله الحسن. الرابع - أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتت، قاله مجاهد. وقال أبو العالية: يتهشم في الفم. الخامس - هو الذي قد ضمر بركوب بعضه بعضا، قاله الضحاك ومقاتل. السادس - أنه المتلاصق بعضه ببعض، قاله أبو صخر. السابع - أنه الطلع حين يتفرق ويخضر، قاله الضحاك أيضا. الثامن - أنه اليانع النضيج، قاله ابن عباس. التاسع - أنه المكتنز قبل أن ينشق عنه القشر، حكاه ابن شجرة، قال: كأن حمولة تجلي عليه * * هضيم ما يحس له شقوق العاشر - أنه الرخو، قال الحسن. الحادي عشر - أنه الرخص اللطيف أول ما يخرج وهو الطلع النضيد، قاله الهروي. الثاني عشر - أنه البرني (2)، قاله ابن الاعرابي، فعيل بمعنى فاعل أي هنئ مرئ من انهضام الطعام. والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور، ومنه طلوع الشمس و القمر والنبات. (1) صدر البيت. * هصرت بفودي رأسها فمايلت * (2) البرني: ضرب من الثمر وهو أجوده، واحدته برنية. (*)
[ 129 ]
قوله تعالى: " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " النحت النجر والبري، نحته ينحته (بالكسر) نحتا إذا براه والنحاتة البراية. المنحت ما ينحت به. وفي " والصافات " قال: " أتعبدون ما تنحتون ". وكانوا ينحتونها من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: " فرهين " بغير ألف. الباقون: " فارهين " بألف وهما بمعنى واحد في قول أبي عبيدة وغيره، مثل: " عظاما نخرة " و " ناخرة ". وحكاه قطرب. وحكى فره يفره فهو فاره وفره يفره فهو فره وفاره إذا كان نشيطا. وهو نصب على الحال. وفرق بينهما قوم فقالوا: " فارهين " حاذقين بنحتها، قاله أبو عبيدة، وروي عن ابن عباس وأبي صالح وغيرهما. وقال عبد الله بن شداد: " فارهين " متجبرين. وروي عن ابن عباس أيضا أن معنى " فرهين " بغير ألف أشرين بطرين، وقاله مجاهد. وروى عنه شرهين. الضحاك: كيسين. قتادة: معجبين، قاله الكلبي، وعنه: ناعمين. وعنه أيضا آمنين، وهو قول الحسن. وقيل: متخيرين، قاله الكلبي والسدي. ومنه قول الشاعر: إلى فره يماجد كل أمر * * قصدت له لاختبر الطباعا وقيل: متعجبين، قاله خصيف. وقال ابن زيد: أقوياء. وقيل: فرهين فرحين، قاله الاخفش. والعرب تعاقب بين الهاء والحاء، تقول: مدهته ومدحته، فالفره الاشر الفرح ثم الفرح بمعنى المرح مذموم، قال الله تعالى: " ولا تمش في الارض مرحا " وقال: " إن الله لا يحب الفرحين ". " فاتقوا الله واطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين " قيل: المراد الذين عقروا الناقة. وقيل: التسعة الرهط الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون. قال السدي وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل. فقال لهم صالح: إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه. فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه وكان لم يولد له قبل ذلك. وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، وكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا. وغضب
[ 130 ]
التسعة على صالح، لانه كان سبب قتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. قالوا: نخرج إلى سفر فترى الناس سفرنا فنكون في غار، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه، ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون، فيصدقوننا ويعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر. وكان صالح لا ينام معهم في [ القرية وكان (1) ديأوي إلى ] مسجده، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم، فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم، فرأى ذلك ناس ممن كان قد أطلع على ذلك، فصاحوا في القرية: يا عباد الله ! أما رضي صالح أن أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم، فأجمع أهل القرية على قتل الناقة. وقال ابن إسحق: إنما اجتمع التسعة على سب صالح بعد عقرهم الناقة وإنذارهم بالعذاب على ما يأتي بيانه في سورة " النمل " (2) إن شاء الله تعالى. " قالوا إنما أنت من المسحرين " هو من السحر في قول مجاهد وقتادة على ما قال المهدوي. أي أصبت بالسحر فبطل عقلك، لانك بشر مثلنا فلم تدع الرسالة دوننا. وقيل: من المعللين بالطعام والشراب، قاله ابن عباس والكلبي وقتادة ومجاهد أيضا فيما ذكر الثعلبي. وهو على هذا القول من السحر وهو الرئة أي بشر لك سحر أي رئة تأكل وتشرب مثلنا كما قال [ لبيد (3) ]: فإن تسألينا فيم نحن فإننا * * عصافير من هذا الانام المسحر وقال [ امرؤ القيس ]: ونسحر بالطعام وبالشراب (4) * (فأت بآية إن كنت من الصادقين) في قولك. (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) قال ابن عباس: قالوا إن كنت صادقا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء (5) فتضع ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبنا. فدعا الله (1) الزيادة من " قصص الانبياء " للثعلبي. (2) في تفسير قوله تعالى: " وكان في المدينة تسعة رهط ". (3) في نسخ الاصل: امرؤ القيس، والتصويب من ديوان لبيد. (4) صدر البيت: * أرانا موضعين لامر غيب * موضعين: مسرعين. وأمر غيب يريد الموت وأنه قد غيب منا وقته ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب. (5) ناقة عشراء: مضى لحملها عشرة أشهر. (*)
[ 131 ]
وفعل الله ذلك ف‍ " قال هذه ناقة لها شرب " أي حظ [ من الماء ] (1)، أي لكم شرب يوم ولها شرب يوم، فكانت إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول النهار وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لانفسهم ومواشيهم وأرضهم، ليس لهم في يوم ورودها أن يشربوا من شربها شيئا، ولا لها أن تشرب في يومهم من مائهم شيئا. قال الفراء: الشرب الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر فيقال فيه شرب شربا وشربا وشربا وأكثرها المضمومة، لان المكسورة والمفتوحة يشتركان مع شئ آخر فيكون الشرب الحظ من الماء، ويكون الشرب جمع شارب كما قال (2): * فقلت للشرب في درنا وقد ثملوا * إلا أن أبا عمرو بن العلاء والكسائي يختاران الشرب بالفتح في الصدر، ويحتجان برواية بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنها أيام أكل وشرب ". (ولا تمسوها بسوء) لا يجوز إظهار التضعيف ها هنا، لانهما حرفان متحركان من جنس واحد. (فيأخذكم) جواب النهي، ويجوز حذف الفاء منه، والجزم كما جاء في الامر إلا شيئا روى عن الكسائي أنه يجيزه. (فعقروها فأصبحوا نادمين) أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب. وذلك أنه أنظرهم ثلاثا فظهرت عليهم العلامة في كل يوم، وندموا ولم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب. وقيل: لم ينفعهم الندم لانهم لم يتوبوا، بل طلبوا صالحا عليه السلام ليقتلوه لما أيقنوا بالعذاب. وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد إذ لم يقتلوه معها. وهو بعيد. (إن في ذلك لآية) إلى آخره تقدم. ويقال: إنه ما آمن به من تلك الامم إلا ألفان وثمانمائة رجل وامرأة. وقيل: كانوا أربعة آلاف. وقال كعب: كان قوم صالح اثني عشر ألف قبيل كل قبيل نحو أثني عشر ألفا من سوى النساء والذرية، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. (1) زيادة يقتضيها المعنى. (2) هو الاعشى وتمامه: * شيموا فكيف يشيم الشارب الثمل * ودرنا (بضم الدال والفتح) موضع زعموا أنه بناحية اليمامة. اللسان. (*)
[ 132 ]
قوله تعالى: كذبت قوم لوط المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إنى لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله وأطيعون (163) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العلمين (164) أتأتون الذكران من العلمين (165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من ازوجكم بل أنتم قوم عادون (166) قالوا لئن لم تنته يلوط لتكونن من المخرجين (167) قال إنى لعملكم من القالين (168) رب نجنى وأهلي مما يعملون (169) فنجينه وأهله أجمعين (170) إلا عجوزا في الغبرين (171) ثم دمرنا الاخرين (172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (173) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175) قوله تعالى: (كذبت قوم لوط المرسلين) مضى معناه وقصته في " الاعراف " (1) و " هود " مستوفي والحمد لله. قوله تعالى: (أتأتون الذكران من العالمين) كانوا ينكحونهم في أدبارهم وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم " في الاعراف ". (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) يعني فروج النساء فإن الله خلقها للنكاح. قال إبراهيم بن مهاجر: قال لي مجاهد كيف يقرأ عبد الله " وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم " قلت: " وتذرون ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم " قال: الفرج، كما قال: " فأتوهن من حيث أمركم الله ". (بل أنتم قوم عادون) أي متجاوزون لحدود الله. (قالوا لئن لم تنته يالوط) عن قولك هذا. (لتكونن (1) راجع ج‍ 7 ص 243 وما بعدها وج‍ 9 ص 73 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 133 ]
من المخرجين) أي من بلدنا وقريتنا. (قال إنى لعملكم) يعني اللواط (من القالين) أي المبغضين والقلى البغض، قليته أقليه قلى وقلاء. قال (1): * فلست بمقلي الخلال ولا قالي * وقال آخر (2): عليك السلام لا مللت قريبة * * ومالك عندي إن نأيت قلاء (رب نجنى وأهلي مما يعملون) أي من عذاب عملهم. دعا الله لما أيس من إيمانهم ألا يصيبه من عذابهم. قال تعالى: (فنجيناه وأهله أجمعين) ولم يكن إلا ابنتاه على ما تقدم في " هود ". (إلا عجوزا في الغابرين) روى سعيد عن قتادة قال: غبرت في عذاب الله عزوجل أي بقيت. وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت. قال النحاس: يقال للذاهب غابر والباقي غابر كما قال (3): لا تكسع الشول بأغبارها * * إنك لا تدري من الناتج وكما قال (2): فما ونى محمد مذ إن غفر * * له الاله ما مضى وما غبر أي ما بقي. والاغبار بقيات الالبان. (ثم دمرنا الاخرين) أي أهلكناهم بالخسف والحصب، قال مقاتل: خسف الله بقوم لوط وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية. (وأمطرنا عليهم مطرا) يعني الحجارة (فساء مطر المنذرين). وقيل: إن جبريل خسف بقريتهم وجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها الله بالحجارة. (إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين) لم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط وأبنتاه. (1) هو امرؤ القيس، وصدر البيت: * صرفت الهوى عنهن من خشية الردى * (2) هو الحرث بن حلزة، وكسع الناقة بغبرها وترك في ضرعها بقية من اللبن. وبعده: واحلب لاضيافك البانها * * فإن شر اللبن الوالج يقول: لا تغزر إبلك تطلب بذلك قوة نسلها، واحلبها لا ضيافك، فلعل عدوا يغير عليها فيكون نتاجها له دونك. (3) هو العجاج. (*)
[ 134 ]
قوله تعالى: كذب أصحب لئيكة المرسلين (176) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون (177) إنى لكم رسول أمين (178) فاتقوا الله وأطيعون (179) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العلمين (180) أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين (183) واتقوا الذى خلقكم والجبلة الاولين (184) قالوا إنما أنت من المسخرين (185) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نطنك لمن الكذبين (186) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصدقين (187) قال ربى أعلم بما تعملون (188) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم (189) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (190) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (191) قوله تعالى: (كذب أصحاب الايكة المرسلين) الايك الشجر الملتف الكثير الواحدة أيكة. ومن قرأ: " أصحاب الايكة " فهي الغيضة. ومن قرأ: " ليكة " فهو اسم القرية. ويقال: هما مثل بكة ومكة، قاله الجوهري. وقال النحاس: وقرأ أبو جعفر ونافع " كذب أصحاب ليكة المرسلين " وكذا قرأ: في " ص ". وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة " الحجر " والتي في سورة " ق " فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. وأما ما حكاه أبو عبيد من أن " ليكة " هي اسم القرية التي كانوا فيها وأن " الايكة " اسم البلد فشئ لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر، لان أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه.
[ 135 ]
وروى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيب عليه السلام إلى أمتين: إلى قومه من أهل مدين، وإلى أصحاب الايكة، قال: والايكة غيضة من شجر ملتف. وروى سعيد عن قتادة قال: كان أصحاب الايكة أهل غيضة وشجر وكانت عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل. وروى ابن جبير عن الضحاك قال: خرج أصحاب الايكة - يعني حين أصابهم الحر - فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلوا تحتها، فلما تكاملوا تحتها أحرقوا. ولو لم يكن في هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال: و " الايكة " الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أن الايكة الشجر الملتف، فأما احتجاج بعض من أحتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد " ليكة " فلا حجة له، والقول فيه: إن أصله الايكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل، لان اللام قد تحركت فلا يجوز عل هذا إلا الخفض، كما تقول بالاحمر تحقق الهمزة ثم تخفضها فنقول بلحمر، فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف، ولم يجز إلا الخفض، قال سيبويه: وأعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الالف واللام أو أضيف أنصرف، ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا. وقال الخليل: " الايكة " غيضة تنبت السدر والاراك ونحوهما من ناعم الشجر. (إذ قال لهم شعيب) ولم يقبل أخوهم شعيب، لانه لم يكن أخا لاصحاب الايكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: " أخاهم شعيبا "، لانه كان منهم. وقد مضي في " الاعراف " (1) القول في نسبه. قال ابن زيد: أرسل الله شعيبا رسولا إلى قومه أهل مدين، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الايكة، وقاله قتادة. وقد ذكرناه. (ألا تتقون) تخافون الله (إنى لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون) الاية. وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة، لانهم متفقون على الامر بالتقوى، والطاعة والاخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الاجر على تبليغ الرسالة. (أفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين) الناقصين للكيل (1) راجع ج‍ 7 ص 247 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 136 ]
والوزن. (وزنوا بالقسطاس المستقيم) أي أعطوا الحق. وقد مضي في " سبحان " وغيرها. (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين) تقدم في " هود " وغيرها. (واتقوا الذى خلقكم والجبلة الاولين) قال مجاهد: الجبلة هي الخليقة. وجبل فلان على كذا أي خلق، فالخلق جبلة وجبلة وجبلة وجبلة وجبلة ذكره النحاس في " معاني القرآن ". " والجبلة " عطف على الكاف والميم. قال الهروي: الجبلة والجبلة والجبل والجبل والجبل لغات، وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس، ومنه قوله تعالى: " جبلا كثيرا ". قال النحاس في كتاب " إعراب القرآن " له: ويقال جبلة والجمع فيهما جبال، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام، فيقال: جبلة وجبل، ويقال: جبلة وجبال، وتحذف الهاء من هذا كله. وقرأ الحسن باختلاف عنه: " والجبلة الاولين " بضم الجيم والباء، وروي عن شيبة والاعرج. الباقون بالكسر. قال: والموت أعظم حادث * * فيما يمر على الجبلة (قالوا إنما أنت من المسحرين) الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدم. (وإن نظنك لمن الكاذبين) أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى. (فاسقط علينا كسفا (1) من السماء) أي جانبا من السماء وقطعة منه، فننظر إليه، كما قال: " وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ". وقيل: أرادوا أنزل علينا العذاب. وهو مبالغة في التكذيب. قال أبو عبيدة: الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدره. وقرأ السلمي وحفص " كسفا " جمع كسفة أيضا وهي القطعة والجانب تقديره كسره وكسر. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشئ، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسف وكسف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الاخفش: من قرأ: " كسفا " جعله واحدا ومن قرأ " كسفا " جعله جمعا. وقد مضى هذا في سورة " سبحان " (2) وقال الهروي: ومن قرأ " كسفا " على التوحيد فجمعه أكساف وكسوف، كأنه قال أو تسقطه علينا طبقا واحدا، (1) " كسفا " بإسكان السين قراءة نافع. (2) راجع ج‍ 10 ص 330 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 137 ]
وهو من كسفت الشئ كسفا إذا غطيته. (إن كنت من الصادقين. قال ربى أعلم بما تعملون) تهديد، أي إنما على التبليغ وليس العذاب الذي سألتم وهو يجازيكم. (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة) قال ابن عباس: أصابهم حر شديد، فأرسل الله سبحانه سحابه فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا. وقيل: أقامها الله فوق رؤوسهم، وألهبها حرا حتى ماتوا من الرمد. وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا. وقيل: بعث الله عليهم سموما فخرجوا إلى الايكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم نارا فاحترقوا. وعن ابن عباس أيضا وغيره: إن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر، فخرجوا هربا إلى البرية، فبعث الله عزوجل سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة، فنادى بعضهم بعضا، فلما اجتمعوا تحت السحابة أهبها الله تعالى عليهم نارا، ورجفت بهم الارض، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، فصاروا رمادا، فذلك قوله: " فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها " وقوله: " فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ". وقيل: إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم، ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الاسراب، ليتبردوا فيها فيجدوها أشد حرا من الظاهر، فهربوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وهي الظلة، فوجدوا لها بردا ونسيما، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وقال يزيد الجريري: سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد، فاجتمعوا كلهم تحته، فوقع عليهم الجبل وهو الظلة. وقال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الايكة فأهلك الله أصحاب الايكة بالظلة، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين. (إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين) قيل: آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر.
[ 138 ]
قوله تعالى: وإنه لتنزيل رب العلمين (192) نزل به الروح الامين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195) وإنه لفى زبر الاولين (196) قوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين) عاد إلى ما تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن. (نزل به الروح الامين على قلبك) " نزل " مخففا قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. الباقون: " نزل " مشددا " به الروح الامين " نصبا وهو أختيار أبي حاتم وأبي عبيد لقوله: " وإنه لتنزيل " وهو مصدر نزل، والحجة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول ليس هذا بمقدر، لان المعنى وإن القرآن لتنزيل رب العالمين نزل به جبريل إليك، كما قال تعالى: " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل: ليثبت قلبك. (لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) أي لئلا يقولوا لسنا نفهم ما تقول. (وإنه في زبر الاولين) أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الاولين يعني الانبياء. وقيل: أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الاولين، كما قال تعالى: " يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل " والزبر الكتب الواحد زبور كرسول ورسل، وقد تقدم. قوله تعالى: أولم يكن لهم ءاية أن يعلمه علمؤا بنى إسرءيل (197) ولو نزلنه على بعض الاعجمين (198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199) كذلك سلكنه في قلوب المجرمين (200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم (201) فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (202) فيقولوا هل نحن منظرون (203) قوله تعالى: (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل) قال مجاهد: يعني عبد الله ابن سلام وسلمان وغيرهما ممن أسلم. وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة
[ 139 ]
يسألونهم عن محمد عليه السلام، فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته. فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذ القول. وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين، لانهم كانوا يرجعون في أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب، لانهم مظنون بهم علم. وقرأ ابن عامر " أو لم تكن لهم آية ". الباقون " أو لم يكن لهم آية " بالنصب على الخبر واسم يكن " أن يعلمه " والتقدير أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا آية واضحة. وعلى القراءة الاولى أسم كان " آية " والخبر " أن يعلمه علماء بني إسرائيل ". وقرأ عاصم الجحدري " أن تعلمه علماء بني إسرائيل. (ولو نزلناه على بعض الاعجمين) أي على رجل ليس بعربي اللسان (فقرأه عليهم) بغير لغة العرب لما أمنوا ولقالوا لا نفقه. نظيره: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا " الآية. وقيل: معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة وكبرا. يقال: رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح وإن كان عربيا، ورجل عجمي وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله، إلا أن الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي بمعنى أعجمي. وقرأ الحسن " على بعض الاعجميين " مشددة بياءين جعله نسبة. ومن قرأ " الاعجمين " فقيل: إنه جمع أعجم. وفيه بعد، لان ما كان من الصفات الذي مؤنثه فعلاء لا يجمع بالواو والنون، ولا بالالف والتاء، لا يقال أحمرون ولا حمراوات. وقيل: إن أصله الاعجمين كقراءة الجحدري ثم حذفت ياء النسب، وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها. قاله أبو الفتح عثمان بن جني. وهو مذهب سيبويه. قوله تعالى: (كذلك سلكناه) يعني القرآن أي الكفر به (في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به). وقيل: سلكنا التكذيب في قلوبهم، فذلك الذي منعهم من الايمان، قاله يحيى بن سلام وقال عكرمة: القسوة. والمعنى متقارب وقد مضى في " الحجر " (1) وأجاز الفراء الجزم في " لا يؤمنون "، لان فيه معنى الشرط والمجازاة. وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت لا موضع كي لا في مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت، فتقول: ربطت (1) راجع ج‍ 10 ص 7 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 140 ]
الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم، لان معناه إن لم أربطه ينفلت، والرفع بمعنى كيلا ينفلت. وأنشد لبعض بني عقيل: وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا * * مساكنه لا يقرف الشر قارف بالرفع لما حذف كي. ومن الجزم قول الآخر: لطالما حلا تماها لا ترد * * فخلياها والسجال تبترد (1) قال النحاس: وهذا كله في " يؤمنون " خطأ عند البصريين، ولا يجوز الجزم بلا جازم، ولا يكون شئ يعمل عملا فإذا حذف عمل عملا أقوى، من عمله وهو موجود، فهذا احتجاج بين (حتى يروا العذاب الاليم. فيأتيهم بغتة) أي العذاب. وقرأ الحسن: " فتأتيهم " بالتاء، والمعنى: فتأتيهم الساعة بغتة فأضمرت لدلالة العذاب الواقع فيها، ولكثرة ما في القرآن من ذكرها. وقال رجل للحسن وقد قرأ: " فتأتيهم ": يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة. فأنتهزه وقال: إنما هي الساعة تأتيهم بغتة أي فجأة. (وهم لا يشعرون) بإتيانها. (فيقولوا هل نحن منظرون) أي مؤخرون وممهلون. يطلبون الرجعة هنالك فلا يجابون إليها. قال القشيري: وقوله: " فيأتيهم " ليس عطفا على قوله: " حتى يروا " بل هو جواب قوله: " لا يؤمنون " فلما كان جوابا للنفي انتصب، وكذلك قوله: " فيقولوا ". قوله تعالى: أفبعذابنا يستعجلون (204) أفرءيت إن متعنهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون (207) وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا ظلمين (209) قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون) قال مقاتل: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به ! فنزلت " أفبعذابنا يستعجلون ". (أفرأيت (1) حلاها: منعها من ورود الماء. والسجال: (جمع سجل) وهى الدلو الضخمة المملوءة ماء. وتبترد: تشرب الماء لتبرد به كبدها. والبيت قاله بعض النسوة لبعض لما زرن امرأة قد تزوجت من رجل كان عاشقا لها. (*)
[ 141 ]
إن متعناهم سنين) يعني في الدنيا والمراد أهل مكة في قول الضحاك وغيره. (ثم جاءهم ما كانوا يوعدون) من العذاب والهلاك (ما أ غنى عنهم ما كانوا يمتعون). " ما " الاولى أستفهام معناه التقرير، وهو في موضع نصب ب‍ " أغنى " و " ما " الثانية في موضع رفع، ويجوز أن تكون الثانية نفيا لا موضع لها. وقيل: " ما " الاولى حرف نفي، و " ما " الثانية في موضع رفع ب‍ " أغنى " والهاء العائدة محذوفة. والتقدير: ما أغنى عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه. وعن الزهري: إن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ " أفرأيت إن متعناهم سنين. ثم جاءهم ما كانوا يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " ثم يبكي ويقول: نهارك يا مغرور سهو وغفلة * * وليلك نوم والردى لك لازم فلا أنت في الايقاظ يقظان حازم * * ولا أنت في النوام ناج فسالم تسر بما يفنى وتفرح بالمنى * * كما سر باللذات في النوم حالم وتسعى إلى ما سوف تكره غبه * * كذلك في الدنيا تعيش البهائم قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية) " من " صلة، المعنى: وما أهلكنا قرية. (إلا لها منذرون) أي رسل. (ذكرى) قال الكسائي: " ذكرى " في موضع نصب على الحال. النحاس: وهذا لا يحصل، والقول فيه قول الفراء وأبي إسحق أنها في موضع نصب على المصدر، قال الفراء: أي يذكرون ذكرى، وهذا قول صحيح، لان معنى " إلا لها منذرون " إلا لها مذكرون. و " ذكرى " لا يتبين فيه الاعراب، لان فيها ألفا مقصورة. ويجوز " ذكرى " بالتنوين، ويجوز أن يكون " ذكرى " في موضع رفع على إضمار مبتدأ. قال أبو إسحق: أي إنذارنا ذكرى. وقال الفراء: أي ذلك ذكرى، وتلك ذكرى. وقال ابن الانباري قال بعض المفسرين: ليس في " الشعراء " وقف تام إلا قوله " إلا لها منذرون " وهذا عندنا وقف حسن، ثم يبتدئ " ذكرى " على معنى هي ذكرى أي يذكرهم ذكرى، والوقف على " ذكرى " أجود. (وما كنا ظالمين) في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم:
[ 142 ]
قوله تعالى: وما تنزلت به الشيطين (210) وما ينبغى لهم وما يستطيعون (211) إنهم عن السمع لمعزولون (212) فلا تدع مع الله إلهاءاخر فتكون من المعذبين (213) قوله تعالى: (وما تنزلت به الشياطين) يعنى القرآن بل ينزل به الروح الامين. (وما ينبغى لهم وما يستطيعون. إنهم عن السمع لمعزولون) أي برمى الشهب كما مضى في سورة " الحجر " (1) بيانه. وقرأ الحسن ومحمد بن السميقع: " وما تنزلت به الشياطون " قال المهدوى: وهو غير جائز في العربية ومخالف للخط. وقال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين، وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: هذا غلط عند العلماء، إنما يكون بدخول شبهة، لما رأى الحسن في أخره ياء ونونا وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع المسلم فغلط، وفي الحديث: " أحذروا زلة العالم " وقد قرأ هو مع الناس " وإذا خلوا إلى شياطينهم " ولو كان هذا بالواو في موضع رفع لوجب حذف النون للاضافة. وقال الثعلبي: قال الفراء: غلط الشيخ - يعنى الحسن - فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال: إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما، جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه مع أنا نعلم أنهما لم يقرأ بذلك إلا وقد سمعا في ذلك شيئا، وقال المؤرج: إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. وقال يونس بن حبيب: سمعت أعرابيا يقول دخلنا بساتين من ورائها بساتون، فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن. قوله تعالى: (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) قيل: المعنى قل لمن كفرا هذا. وقيل: هو مخاطبة له عليه لسلام وإن كان لا يفعل هذا، لانه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا والمقصود غيره. ودل على هذا قوله: " وأنذر عشيرتك الاقربين " أي لا يتكلون على نسبهم وقرابتهم فيدعون ما يجب عليهم. (1) راجع ج‍ 10 ص 10 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 143 ]
قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الاقربين (214) واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215) فإن عصوك فقل إنى برئ مما تعملون (216) وتوكل على العزيز الرحيم (217) الذى يريك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم (220) قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الاقربين) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين " خص عشيرته الاقربين بالانذار، لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الاجانب في مفارقته إياهم على الشرك. وعشيرته الاقربون قريش. وقيل: بنو عبد مناف. ووقع في صحيح مسلم: " وأنذر عشيرتك الاقربين ورهطك منهم المخلصين ". وظاهر هذا أنه كان قرآنا يتلى وأنه نسخ، إذ لم يثبت نقله في المصحف ولا تواتر. ويلزم على ثبوته إشكال، وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته، فإن المؤمنين هم الذين يوصفون بالاخلاص في دين الاسلام وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم لا المشركون، لانهم ليسوا على شئ من ذلك، والنبى صلى الله عليه وسلم دعا عشيرته كلهم مؤمنهم وكافرهم، وأنذر جميعهم ومن معهم ومن يأتي بعدهم صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت ذلك نقلا ولا معنى. وروى مسلم من حديث أبى هريرة قال: لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الاقربين " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال: " يا بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار يا بنى مره بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمه أنقذي نفسك من النار فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها (1) ". (1) " سأبلها ببلالها ": أي أصلكم في الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا. (*)
[ 144 ]
الثانية - في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الانساب لا ينفع مع البعد في الاسباب، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته، لقوله: " إن لكم رحما سأبلها ببلالها " وقوله عزوجل: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " الآية، على ما يأتي بيانه هناك قوله تعالى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) تقدم في سورة " الحجر " و " سبحان " يقال: خفض جناحه إذا لان. (فإن عصوك) أي خالفوا أمرك. (فقل إنى برئ مما تعملون) أي برئ من معصيتكم إياى، لان عصيانهم إياه عصيان لله عزوجل، لانه عليه السلام لا يأمر إلا بما يرضاه، ومن تبرأ منه فقد تبرأ الله منه. قوله تعالى: (وتوكل على العزيز الرحيم) أي فوض أمرك إليه فإنه العزيز الذى لا يغالب، الرحيم الذى لا يخذل أولياءه. وقرأ العامة " وتوكل " بالواو وكذلك هو في مصاحفهم. وقرأ نافع وابن عامر: " فتوكل " بالفاء وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام. (الذي يراك حين تقوم) أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين: ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: يعنى حين تقوم حيثما كنت. (وتقلبك في الساجدين) قال مجاهد وقتادة: في المصلين. وقال ابن عباس: أي في أصلاب الآباء، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا. وقال عكرمة: يراك قائما وراكعا وساجدا، وقاله ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى، إنك ترى بقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك. وروى عن مجاهد، ذكره الماوردى والثعلبي. وكان عليه السلام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، وذلك ثابت في الصحيح وفي تأويل الآية بعيد. (إنه هو السميع العليم) تقدم. قوله تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشيطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع وأكثرهم كذبون (223)
[ 145 ]
قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين. تنزل على كل أفاك أثيم) إنما قال: " تنزل " لانها أكثر ما تكون في الهواء، وأنها تمر في الريح. (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) تقدم في " الحجر ". ف‍ " يلقون السمع " صفة الشياطين " وأكثرهم " يرجع إلى الكهنة. وقيل: إلى الشياطين. قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاون (224) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226) إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227) قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " والشعراء " جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء، قال ابن عباس: هم الكفار " يتبعهم " ضلال الجن والانس. وقيل " الغاوون " الزائلون عن الحق، ودل بهذا الشعراء أيضا غاوون، لانهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة " النور " (1) أن من الشعر ما يجوز إنشاده، ويكره، ويحرم. روى مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يوما ] (2) فقال: " هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شيئ " قلت: نعم. قال " هيه " فأنشدته بيتا. فقال " هيه " ثم أنشدته بيتا. فقال " هيه " حتى أنشدته مائة بيت. هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته. وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه، وهو وهم، لان الشريد هو الذى أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم أبى الشريد سويد. وفي هذا دليل على حفظ الاشعار و الاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية، لانه (1) راجع ج‍ 12 ص 271 طبعة أولى أو ثانية. (2) الزيادة من صحيح مسلم. (*)
[ 146 ]
كان حكيما، ألا ترى قوله عليه السلام: " وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم " فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه، كقول القائل: الحمد لله العلى المنان * * صار الثريد في رءوس العيدان (1) أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس: من قبلها طبت في الظلال وفى مس‍ * * تودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر أن‍ * * ت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد أل‍ * * جم نسرا وأهله الغرق تنقل من صالب إلى رحم * * إذا مضى عالم بدا طبق (2) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يفضض الله فاك ". أو الذب عنه كقول حسان: هجوت محمدا فأجبت عنه * * وعند الله في ذاك الجزاء وهى أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهى في السير أتم. أو الصلاة عليه، كما روى زيد بن أسلم، خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول: على محمد صلاة الابرار * * صلى عليه الطيبون الاخيار قد كنت قواما بكا بالاسحار * * يا ليت شعرى والمنايا أطوار هل يجمعنى وحبيبي الدار يعنى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس عمر يبكى. وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضى الله عنهم، ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال: إنى رضيت عليا للهدى علما * * كما رضيت عتيقا صاحب الغار وقد رضيت أبا حفص وشيعته * * و ما رضيت بقتل الشيخ في الدار كل الصحابة عندي قدوة علم * * فهل على بهذا القول من عار إن كنت تعلم إنى لا أحبهم * * إلا من أجلك فاعتقني من النار (1) كذا في الاصول. (2) طبق: قرن. أراد إذا مضى قرن ظهر قرن آخر. (*)
[ 147 ]
وقال آخر فأحسن: حب النبي رسول الله مفترض * * وحب أصحابه نور ببرهان من كان يعلم أن الله خالقه * * لا يرمين أبا بكر ببهتان ولا أبا حفص الفاروق صاحبه * * ولا الخليفة عثمان بن عفان أما على فمشهور فضائله * * والبيت لا يستوي إلا بأركان قال ابن العربي: أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد، فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * * متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلوا * * إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت * * كأنه منهل بالراح معلول فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، والنبى صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح. وأنشد أبو بكر رضى الله عنه (1): فقدنا الوحى إذ وليت عنا * * وودعنا من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهينا * * توارثه القراطيس الكرام فقد أورثتنا ميراث صدق * * عليك به التحية والسلام فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا. قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله، وروى أبو هريرة قال (1) قال ذلك في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم. (*)
[ 148 ]
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: " أصدق كلمة - أو أشعر كلمة - قالتها العرب قول لبيد: ألا كل شئ ماخلا الله باطل " أخرجه مسلم وزاد " وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم " وروى عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال: ويلك يا لكع ! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافى، فحسنه حسن وقبيحه قبيح ! قال: وقد كانوا يتذاكرون الشعر. قال: وسمعت ابن عمر ينشد: يحب الخمر من مال الندامى * * ويكره أن يفارقه الغلوس وكان عبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا مقدما فيه. وللزبير بن بكار القاضى في أشعاره كتاب، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الامر فطلقها، وله فيها أشعار كثيرة، منها قوله: تغلغل حب عثمة في فؤادى * * فباديه مع الخافى يسير تغلغل حيث لم يبلغ شراب * * ولا حزن ولم يبلغ سرور أكاد إذا ذكرت العهد منها * * أطير لوان إنسانا يطير وقال ابن شهاب: قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك ! فقال: إن المصدور إذا نفث برأ. الثانية - وأما الشعر المذموم الذى لا يحل سماعه وصاحبه ملوم، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وإن يبهتوا البرئ ويفسقوا التقى، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول، كما روى عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله: فبتن بجانبى مصرعات (1) * * وبت أفض أغلاق الختام (1) مصرعات: سكارى. (*)
[ 149 ]
فقال: قد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عنى الحد بقوله: " وأنهم يقولون ما لا يفعلون ". وروى أن النعمان بن عدى بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: من مبلغ الحسناء أن حليلها * * بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية * * ورقاصة تجذو (1) على كل منسم فإن كنت ندمانى فبالا كبر أسقني * * ولا تسقنى بالاصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه * * تنادمنا بالجوسق (2) المتهدم فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه. وقال: إى والله إنى ليسوءني ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت، وإنما كانت فضلة من القول، وقد قال الله تعالى: " والشعرا يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون " فقال له عمر: أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لى عملا أبدا وقد قلت ما قلت. وذكر الزبير بن بكار قال: حدثنى مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبى ربيعة والاحوص فكتب إلى عامله على المدينة: إنى قد عرفت عمر والاحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما وأحملهما إلى. فلما أتاه الكتاب حملهما إليه، فأقبل على عمر، فقال: هيه ! فلم أر كالتجمير منظر ناظر * * ولا كليالى الحج أفلتن ذا هوى وكم مالئ عينيه من شئ غيره * * إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شئ غيرك، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الايام فمتى يفلتون ! ثم أمر بنفيه. فقال: يا أمير المؤمنين ! أو خير من ذلك ؟ فقال: ما هو ؟ قال: أعاهد الله أنى لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبدا، وأجدد توبة، فقال: أو تفعل ؟ قال: نعم، فعاهد الله على توبته وخلاه، ثم دعا بالاحوص، فقال هيه ! الله بينى وبين قيمها * * يفر منى بها وأتبع (1) تجذو: تقوم على أطراف الاصابع. (2) الجوسق: القصر، فارسي معرب. (*)
[ 150 ]
بل الله بين قيمها وبينك ! ثم أمر بنفيه، فكلمه فيه رجال من الانصار فأبى، وقال: والله لا أرده ما كان لى سلطان، فإنه فاسق مجاهر. فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد وفى غيره، كمنثور الكلام القبيح ونحوه. وروى إسمعيل بن عياش عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام " رواه إسمعيل عن عبد الله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. وروى عبد الله ابن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام " الثالثة - روى مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا " وفي الصحيح أيضا عن أبى سعيد الخدرى قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا " قال علماؤنا: وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد أتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطى، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام. وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الاصغاء إليه، بل يجب الانكار عليه، فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما أستطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحل له أن يعطى شيئا ابتداء، لان ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة. قوله: " لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه " القيح المدة يخالطها دم. يقال منه: قاح الجرح يقيح وتقيح وقيح. و " يريه " قال الاصمعي: هو من الورى على
[ 151 ]
مثال الرمى وهو أن يدوى جوفه، يقال منه: رجل مورى مشدد غير مهموز. وفي الصحاح: وروي القيح جوفه يريه وريا إذا أكله. وأنشد اليزيدى: * قالت له وريا إذا تنحنحا * وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله: إنه الذى قد غلب عليه الشعر، وامتلا صدره منه دون علم سواه ولا شئ من الذكر ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه لاوصاف المذمومة الدنية، لحكم العادة الادبية. وهذا المعنى هو الذى أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث " باب ما يكره أن يكون الغالب على الانسان الشعر ". وقد قيل في تأويله: إن المراد بذلك الشعر الذى هجى به النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وهذا ليس بشئ، لان القليل من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم، وكذلك هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين محرم قليله وكثيره، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى. الرابعة - قال الشافعي: الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام، يعنى أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع. قال الاول منهم: * وجرح اللسان كجرح اليد * وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذى يرد به حسان على المشركين: " إنه لاسرع فيهم من رشق النبل " أخرجه مسلم. وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشى بين يديه ويقول: خلوا بنى الكفار عن سبيله * * اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله * * ويذهل الخليل عن خليله فقال عمر: يا بن رواحة ! في حرم الله وبين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل ".
[ 152 ]
الخامسة - قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون " لم يختلف القراء في رفع " والشعراء " فيما علمت. ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره " يتبعهم " وبه قرأ عيسى ابن عمر، قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حب النصب، قرأ " والسارق والسارقة " و " حمالة الحطب " و " سورة أنزلناها ". وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمى: " يتبعهم " مخففا. الباقون " يتبعهم ". وقال الضحاك: تهاجى رجلان أحدهما أنصارى والآخر مهاجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت، وقاله ابن عباس. وعنه هم الرواة للشعر. وروى عنه على بن أبى طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والانس، وقد ذكرناه. وروي غضيف (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث هجاء في الاسلام فاقطعوا لسانه " وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رن (2) إبليس رنة وجمع إليه ذريته، فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن أفشوا فيهما - يعنى مكة والمدينة - الشعر. السادسة - قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) يقول: في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق، لان من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالى ما قال. نزلت في عبد الله بن الزبعرى ومسافع بن عبد مناف وأمية بن أبى الصلت. (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) يقول: أكثرهم يكذبون، أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه. وقيل: إنها نزلت في أبى عزة الجمحى حيث قال: ألا أبلغا عنى النبي محمدا * * بأنك حق والمليك حميد ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله * * تأوه منى أعظم وجلود ثم استثنى شعر المؤمنين: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق، فقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) في كلامهم (وانتصروا من بعد ما ظلموا) وإنما يكون الانتصار بالحق، (1) في نسخة: خصيف. (2) رن: صاح صيحة حزينة. (*)
[ 153 ]
ومما حده الله عزوجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. وقال أبو الحسن المبرد: لما نزلت: " والشعراء " جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبى الله ! أنزل الله تعالى هذه الآية، وهو تعالى يعلم أنا شعراء ؟ فقال: " اقرءوا ما بعدها " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " - الآية - أنتم " وانتصروا من بعد ما ظلموا " أنتم " أي بالرد على المشركين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والامهات " فقال حسان لابي سفيان: هجوت محمدا فأجبت عنه * * وعند الله في ذاك الجزاء وإن أبى ووالدتي وعرضى * * لعرض محمد منكم وقاء أتشتمه ولست له بكف ء * * فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه * * وبحري لا تكدره الدلاء وقال كعب يا رسول الله ! إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذى نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ". وقال كعب: جاءت سخينة (1) كى تغالب ربها * * وليغلبن مغالب الغلاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا ". وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون " منسوخ بقوله: " إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات ". قال المهدوى: وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء. (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) في هذا تهديد لمن انتصر بظلم [ أي ] (2) سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدى الله عزوجل، فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة. وقرأ ابن عباس: " أي منفلت ينفلتون " بالفاء والتاء ومعناهما واحد الثعلبي: ومعنى " أي منقلب ينقلبون " أي مصير يصيرون وأى مرجع يرجعون، لان مصيرهم إلى (1) السخينة: طعام حار يتخذ من دقيق وسمن - وقيل من دقيق وتمر - أغلظ من الحساء وأررق من العصيدة، وكانت قريش تكثر من أكلها فعيرت بها حتى سموا سخينة. (2) زيادة يقتضيها السياق. (*)
[ 154 ]
النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا، والله أعلم، ذكره الماوردى. و " أي " منصوب " بينقلبون " وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا ب‍ " سيعلم " لان أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون، قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض. سورة النمل مكية كلها في قول الجميع، وهى ثلاث وتسعون آية. وقيل: أربع وتسعون آية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: طس تلك ءايت القرءان وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالاخرة هم يوقنون (3) إن الذين لا يؤمنون بالاخرة زينا لهم أعملهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الاخرة هم الاخسرون (5) وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم (6) قوله تعالى: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين) مضي الكلام في الحروف المقطعة في " البقرة " وغيرها. و " تلك " بمعنى هذه، أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين. وذكر القرآن المعرفة، وقال: " وكتاب مبين " بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة، كما تقول: فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل. والكتاب هو القرآن، فجمع له بين الصفتين: بأنه قرآن وأنه كتاب، لانه ما يظهر بالكتابة، ويظهر بالقراءة. وقد مضى
[ 155 ]
اشتقاقهما في " البقرة ". وقال في سورة الحجر: " الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة، وذلك لان القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة. ووصفه بالمبين لانه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده، وقد تقدم. قوله تعالى: (هدى وبشرى للمؤمنين) " هدى " في موضع نصب على الحال من الكتاب، أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة. ويجوز فيه الرفع على الابتداء، أي هو هدى. وإن شئت على حذف حرف الصفة، أي فيه هدى. ويجوز أن يكون الخبر " للمؤمنين " ثم وصفهم فقال: " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون " وقد مضى في أول " البقرة " بيان هذا. قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالاخرة) أي لا يصدقون بالبعث. (زينا لهم أعمالهم) قيل: أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل: زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها. وقال الزجاج: جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه. (فهم يعمهون) أي يترددون في أعمالهم الخبيثة، وفي ضلالتهم. عن ابن عباس. أبو العالية: يتمادون. قتادة: يلعبون. الحسن: يتحيرون، قال الراجز: ومهمه أطرافه في مهمه * * أعمى الهدى بالحائرين العمه (1) قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب) وهو جهنم. (وهم في الاخرة هم الاخسرون) " في الآخرة " تبيين وليس بمتعلق بالاخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر. قوله تعالى: (وإنك لتلقى القرآن) أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه. (من لدن حكيم عليم) " لدن " بمعنى عند إلا أنها مبنية غير معربة، لانها لا تتمكن، وفيها لغات ذكرت في " الكهف " (2). وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الاقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه. (1) البيت لرؤبة، ويروى: بالجاهلين العمه. (2) راجع ج‍ 10 ص 352 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 156 ]
قوله تعالى: إذ قال موسى لاهله إنئ انست نارا سئاتيكم منها بخبر أوءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما جاءها نودى أن بورك من في النار ومن حولها وسبحن الله رب العلمين (8) يموسى إنه انا الله العزيز الحكيم (9) وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يموسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون (10) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم (11) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع ءايت إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فسقين (12) فلما جاءتهم ءايتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عقبة المفسدين (14) قوله تعالى: (إذ قال موسى لاهله) " إذ " منصوب بمضمر وهو أذكر، كأنه قال على أثر قوله " وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ": خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لاهله. (إنى آنست نارا) أي أبصرتها من بعد. قال الحرث بن حلزة: آنست نبأة وأفزعها الق‍ * * ناص عصرا وقد دنا الامساء (1) (سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) قرأ عاصم وحمزة والكسائي " بشهاب قبس " بتنوين " شهاب ". والباقون بغير تنوين على الاضافة، أي بشعلة نار، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم: ولدار الآخرة، ومسجد الجامع، وصلاة الاولى، يضاف الشئ إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال النحاس: إضافة الشئ إلى نفسه محال عند البصريين، لان معنى الاضافة في اللغة ضم شئ إلى شئ (1) آنست: أحست. والنبأة: الصوت الخفى. (*)
[ 157 ]
فمحال أن يضم الشئ إلى نفسه، وإنما يضاف الشئ إلى الشئ ليتبين به معنى الملك أو النوع، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها. و " شهاب قبس " إضافة النوع والجنس، كما تقول: هذا ثوب خز، وخاتم حديد وشبهه. والشهاب كل ذى نور، نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه، فالمعنى بشهاب من قبس. يقال. أقبست قبسا، والاسم قبس. كما تقول: قبضت قبضا. والاسم القبض. ومن قرأ " بشهاب قبس " جعله بدلا منه. المهدوى: أو صفة له، لان القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة، ويجوز أن يكون صفة، فأما كونه غير صفة فلانهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس، وإذا كان صفة فالاحسن أن يكون نعتا. والاضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن. وهى إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه. ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن. ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال. " لعلكم تصطلون " أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء، لان الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا، ومعناه يستدفئون من البرد. يقال: أصطلى يصطلى إذا أستدفأ. قال الشاعر: النار فاكهة الشتاء فمن يرد * * أكل الفواكه شاتيا فليصطل الزجاج: كل أبيض ذى نور فهو شهاب. أبو عبيدة: الشهاب النار. قال أبو النجم: كأنما كان شهابا واقدا * * أضاء ضوءا ثم صار خامدا أحمد بن يحيى: أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه، وقول النحاس فيه حسن: والشهاب الشعاع المضئ ومنه الكوكب الذى يمد ضوءه في السماء. وقال الشاعر: في كفه صعدة (1) مثقفة * * فيها سنان كشعلة القبس قوله تعالى: (فلما جاءها) أي فلما جاء موسى الذى ظن أنه نار وهى نور، قاله وهب بن منبه. فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما، ولا تزداد الشجرة (1) الصعدة: القناة التى تنبت مستقيمة. (*)
[ 158 ]
إلا خضرة وحسنا، فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها، فمالت إليه، فخافها فتأخر عنها، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدرى من أمرها، إلى أن " نودى أن بورك من في النار ومن حولها ". وقد مضى هذا المعنى في " طه ". (نودى) أي ناداه الله، كما قال: " وناديناه من جانب الطور الايمن ". (أن بورك) قال الزجاج: " أن " في موضع نصب، أي بأنه. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله. وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبى وابن عباس ومجاهد " أن بوركت النار ومن حولها ". قال النحاس: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى. وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك. الثعلبي: العرب تقول باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربع لغات. قال الشاعر: فبوركت مولودا وبوركت ناشئا * * وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب الطبري: قال " بورك من في النار " ولم يقل بورك [ في من في ] (1) النار على لغة من يقول باركك الله. ويقال باركه الله، وبارك له، وبارك عليه، وبارك فيه بمعنى، أي بورك على من في النار وهو موسى، أو على من في قرب النار، لا أنه كان في وسطها. وقال السدى: كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة، أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، قال: " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ". وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير: قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى، عنى به نفسه تقدس وتعالى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: النار نور الله عزوجل، نادى الله موسى وهو في النور، وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا، وهذا لان الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة " وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله " (1) الزيادة من تفسير الطبري. (*)
[ 159 ]
لا أنه يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل. وقيل على هذا: أي بورك من في النار سلطانه وقدرته. وقيل: أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذى جعله علامة. قلت: ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه واللفظ له عن أبى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا ينام ولا ينبغى له أن ينام يخفض (1) القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لا حرقت سبحات وجهه كل شئ أدركه بصره " ثم قرأ أبو عبيدة " أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " أخرجه البيهقى أيضا. ولفظ مسلم عن أبى موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: " إن الله عزوجل لا ينام ولا ينبغى له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبى بكر النار - لو كشفه لا حرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه " قال أبو عبيد: يقال السبحات إنها جلال وجهه، ومنها قيل: سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه. وقوله: " لو كشفها " يعنى لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لا حترقوا وما استطاعوا لها. قال ابن جريج: النار حجاب من الحجب وهى سبعة حجب، حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار، وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء. وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شئ، فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار، لان موسى حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها، وأظهر له ربوبيته من جهتها. وهو كما روى أنه مكتوب في التوراة: " جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير وأستعلى من جبال فاران ". فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم، وفاران مكة. وسيأتى في " القصص " بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى. (1) لعل تأنيث الضمير بتأويل النور بالانوار. (هامش ابن ماجة). (*)
[ 160 ]
قوله تعالى: (وسبحان الله رب العالمين) تنزيها وتقديسا لله رب العالمين. وقد تقدم في غير موضع، والمعنى: أي يقول حولها " وسبحان الله " فحذف. وقيل: إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء، استعانة بالله تعالى وتنزيها له، قاله السدى. وقيل: هو من قول الله تعالى. ومعناه: وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين، حكاه ابن شجرة. قوله تعالى: (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين. والصحيح أنها كناية عن الامر والشأن (أنا الله العزيز) الغالب الذى ليس كمثله شئ " الحكيم " في أمره وفعله. وقيل: قال موسى يا رب من الذى نادى ؟ فقال له: " إنه " أي إنى أنا المنادى لك " أنا الله ". قوله تعالى: (وألق عصاك) قال وهب بن منبه: ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها. وقيل: إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله، وأن موسى رسوله، وكل نبى لابد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته. وفي الآية حذف: أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان، وهى الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبى: لا صغيرة ولا كبيرة. وقيل: إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة. وقيل: انقلبت مرة حية صغيرة، ومرة حية تسعى وهى الانثى، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات. وقيل: المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهى حية تسعى. وجمع الجان جنان، ومنه الحديث " نهى عن قتل الجنان التى في البيوت ". (ولى مدبرا) خائفا على عادة البشر (ولم يعقب) أي لم يرجع، قاله مجاهد. وقال قتادة: لم يلتفت. (يا موسى لا تخف) أي من الحية وضررها. (إنى لا يخاف لدى المرسلون) وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال: (إلا من ظلم). وقيل: إنه استثناء من محذوف، والمعنى: إنى لا يخاف لدى المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم (إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء) فإنه لا يخاف، قاله الفراء.
[ 161 ]
قال النحاس: استثناء من محذوف محال، لانه استثناء من شئ لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إنى لا ضرب القوم إلا زيدا بمعنى إنى لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا، وهذا ضد البيان، والمجئ بما لا يعرف معناه. وزعم الفراء أيضا: أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم، قال: وكل أخ مفارقه أخوه * * لعمر أبيك إلا الفرقدان قال النحاس: وكون " إلا " بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شئ من الكلام، ومعنى " إلا " خلاف الواو، لانك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الاخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول آخر: وهو أن يكون الاستثناء متصلا، والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التى لا يسلم منها أحد، سوى ما روى عن يحيى بن زكريا عليه السلام، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " ذكره المهدوى واختاره النحاس، وقال: علم الله من عصى منهم [ يسر الخيفة ] (1) فاستثناه فقال: " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء " فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له. الضحاك: يعنى آدم وداود عليهما السلام. الزمخشري: كالذى فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطى. فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقى من أشراط التوبة شئ لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به. وقال الحسن وابن جريج: قال الله لموسى إنى أخفتك لقتلك النفس. قال الحسن: وكانت الانبياء تذنب فتعاقب. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم: فالاستثناء على هذا صحيح أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من قتل القبطى وتاب منه. وقد قيل: إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر. وقد مضى هذا في " البقرة " (2). (1) الزيادة من " إعراب القرآن " للنحاس. (2) راجع ج‍ 1 ص 308 وما بعدها طبعة ثانية وثالثة. (*)
[ 162 ]
قلت: والاول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق، وما دام الاثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه، ثم غفر له، ثم قال بعد المغفرة: " رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين " ثم ابتلى من الغد بالفرعونى الآخر وأراد أن يبطش به، فصار حدثا آخر بهذه الارادة. وإنما ابتلى من الغد لقوله: " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل، فعوقب بالارادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل، فسلط عليه الاسرائيلي حتى أفشى سره، لان الاسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده، فأفشى عليه ف‍ " قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس " فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بما أفشى الاسرائيلي على موسى، وكان القتيل بالامس مكتوما أمره لا يدرى من قتله، فلما علم فرعون بذلك، وجه في طلب موسى ليقتله، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق، جاء رجل يسعى ف‍ " قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك " الآية. فخرج كما أخبر الله. فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث، فهو وإن قربه ربه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب. قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) تقدم في " طه " (1) القول فيه. (في تسع آيات) قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى: هذه الآية داخلة في تسع آيات. المهدوى: المعنى " ألق عصاك " " وأدخل يدك في جيبك " فهما آيتان من تسع آيات. وقال القشيرى معناه: كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم. أي خرجت عاشر عشرة. ف‍ " في " بمعنى " من " لقربها منها كما تقول خذ لى عشرا من الابل فيها فحلان أي منها. وقال الاصمعي في قول أمرئ القيس: وهل ينعمن (2) من كان آخر عهده * * ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال (1) راجع ج‍ 11 ص 191 طبعة أولى أو ثانية. (2) وفي رواية: " وهل يعمن ". (*)
[ 163 ]
في بمعنى من. وقيل: في بمعنى مع، فالآيات عشرة منها اليد، والتسع: الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس (1). وقد تقدم بيان جميعه. (إلى فرعون وقومه) قال الفراء: في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه. (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله، وقد تقدم: قوله تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) أي واضحة بينة. قال الاخفش: ويجوز مبصرة وهو مصدر كما يقال: الولد مجبنة. (قالوا هذا سحر مبين) جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى. وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين. و " ظلما " و " علوا " منصوبان على نعت مصدر محذوف، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا. والباء زائدة أي وجحدوها، قاله أبو عبيدة. (فانظر) يا محمد (كيف كانت عاقبة المفسدين) أي آخر أمر الكافرين الطاغين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه. الخطاب له والمراد غيره. قوله تعالى: ولقد ءاتينا داود وسليمن علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) وورث سليمن داود وقال يأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين (16) قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علما) أي فهما، قاله قتادة. وقيل: علما بالدين والحكم وغيرهما كما قال: " وعلمناه صنعة لبوس لكم ". وقيل: صنعة الكيمياء. وهو شاذ. وإنما الذى آتاهما الله النبوة والخلافة في الارض والزبور. " وقالا الحمد لله (1) الطمس: طمس الشئ إذهابه عن صورته. وقد صير الله أموالهم ودراهمهم حجارة. راجع ج‍ 8 ص 374 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 164 ]
الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) وفى الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين. " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ". وقد تقدم هذا في غير موضع. قوله تعالى: (وورث سليمان داود وقال يأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ) قال الكلبى: كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه، ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء، وقال ابن العربي، قال: فلو كانت وراثة مال لا نقسمت على العدد، فخص الله سليمان بما كان لداود من الحكمة والنبوة، وزاده من فضله ملكا لا ينبغى لاحد من بعده. قال ابن عطية: داود من بنى إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمى ميراثا تجوزا، وهذا نحو قول: " العلماء ورثة الانبياء " ويحتمل قوله عليه السلام: " إنا معشر الانبياء لا نورث " أن يريد أن ذلك من فعل الانبياء وسيرتهم، وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الاقوال فيه، وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة، والمراد أن ذلك فعل الاكثر. ومنه ما حكى سيبويه: إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف. قلت: قد تقدم هذا المعنى في " مريم " (1) وأن الصحيح القول الاول لقوله عليه السلام: " إنا معشر الانبياء لا نورث " فهو عام ولا يخرج منه شئ إلا بدليل. قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان. قال غيره: ولم يبلغ أحد من الانبياء ما بلغ ملكه، فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الانس والجن والطير والوحش، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، وورث أباه في الملك والنبوة، وقام بعده بشريعته، وكل نبى جاء بعه موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها. وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة. و اليهود تقول ألف (1) راجع ج‍ 11 ص 81 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 165 ]
وثلاثمائة واثنتان وستون سنة. وقيل: إن بين موته وبين مولد النبي صلى الله عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة. واليهود تنقص منها ثلثمائة سنة، وعاش نيفا وخمسين سنة. قوله تعالى: " وقال يأيها الناس " أي قال سليمان لبنى إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله " علمنا منطق الطير " أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الارض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التى في نفوسها. قال مقاتل في الآية: كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر ؟ إنها قالت لى: السلام عليك أيها الملك المسلط والنبى لبنى إسرائيل ! أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إنى منطلق إلى أفراخى ثم أمر بك الثانية، وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع، فقال إنه يقول: السلام عليك أيها الملك المسلط، إن شئت أن تأذن لى كيما أكتسب على أفراخى حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بى ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال، وأذن له فانطلق. وقال فرقد السبخى: مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لاصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا لا يا نبى الله. قال إنه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبى فخا فقال له سليمان: احذر يا هدهد ! فقال: يا نبى الله ! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبى وهو في يده، فقال: هدهد ما هذا ؟ قال: ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبى الله. قال: ويحك ! فأنت ترى الماء تحت الارض أما ترى الفخ ! قال: يا نبى الله إذا نزل القضاء عمى البصر. وقال كعب. صاح ورشان عند سليمان ابن داود فقال: أتدرون ما يقول ؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة، فقال: أتدرون ما تقول ؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح عنده طاوس، فقال: أتدرون ما يقول ؟ قالوا: لا. قال إنه يقول: كما تدين تدان. وصاح عنده هدهد، فقال: أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا. قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده، فقال: أتدرون ما يقول ؟
[ 166 ]
قالوا: لا. قال: إنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل: إن الصرد هو الذى دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام، ولذلك يقال للصرد الصوام، روى عن أبى هريرة. وصاحت عنده طيطوى فقال: أتدرون ما تقول ؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: كل حى ميت وكل جديد بال. وصاحت خطافة عنده، فقال: أتدرون ما تقول ؟ قالوا: لا. قال إنها تقول: قدموا خيرا تجدوه، فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل: إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهى لا تفارق بنى آدم أنسا لهم. قال: ومعها أربع آيات من كتاب الله عزوجل: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته " إلى آخرها وتمد صوتها بقوله " العزيز الحكيم ". وهدرت حمامة عند سليمان فقال: أتدرون ما تقول ؟ قالوا: لا. قال إنها تقول: سبحان ربى الاعلى عدد ما في سماواته وأرضه. وصاح قمرى عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول ؟ قالوا: لا. قال إنه يقول: سبحان ربى العظيم المهيمن. وقال كعب: وحدثهم سليمان، فقال الغراب يقول: اللهم العن العشار، والحدأة تقول: " كل شئ هالك إلا وجهه ". والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه. والضفدع يقول: سبحان ربى القدوس. والبازى يقول: سبحان ربى وبحمده. والسرطان يقول: سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان. وقال مكحول: صاح دراج عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول ؟ قالوا: لا. قال إنه يقول: " الرحمن على العرش استوى ". وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين ". وقال الحسن بن على بن أبى طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم: " النسر إذا صاح قال يا بن آدم عش ما شئت فأخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهى العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ: " الحمد لله رب العالمين " إلى آخرها فيقول " ولا الضالين " ويمد بها صوته كما يمد القارئ ". قال قتادة والشعبى: إنما هذا الامر في الطير خاصة، لقوله: " علمنا
[ 167 ]
منطق الطير " والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبى: وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين. وقالت فرقة: بل كان في جميع الحيوان، وإنما ذكر الطير لانه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الامور فخص بالذكر لكثرة مداخلته، ولان أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير. وقال أبو جعفر النحاس: والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله عزوجل أعلم بما أراد. قال ابن العربي: من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد آتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات، فكان كل نبت يقول له: أنا شجر كذا، أنفع من كذا وأضر من كذا، فما ظنك بالحيوان. قوله تعالى: وحشر لسليمن جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون (17) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " وحشر لسليمان " " حشر " جمع والحشر الجمع ومنه قوله عزوجل: " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام، فيقال: كان معسكره مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للانس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية. ابن عطية: واختلف في معسكره و مقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملا الارض، وانقادت له المعمورة كلها. " فهم يوزعون " معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون. قال قتادة: كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الارض إذا مشوا فيها. يقال: وزعته أوزعه وزعا أي كففته. والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم. روى محمد بن إسحق عن أسماء بنت أبى بكر قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذى طوى - تعنى
[ 168 ]
يوم الفتح - قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته: اظهري بى على أبى قبيس. قالت: فأشرفت به عليه فقال: ما ترين ؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا. قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا. قال: ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر. وذكر تمام الخبر. ومن هذا قوله عليه السلام: " ما رؤى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر " قيل: وما رأى يا رسول الله ؟ قال: " أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة " خرجه الموطأ. ومن هذا المعنى قول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا * * وقلت ألما أصح والشيب وازع آخر: ولما تلاقينا جرت من جفوننا * * دموع وزعنا غربها بالاصابع آخر: ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى * * من الناس إلا وافر العقل كامله وقيل: هو من التوزيع بمعنى التفريق. والقوم أوزاع أي طوائف. وفي القصة: إن الشياطين نسجت له بساطا فسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم، وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الانبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة. الثانية - في الآية دليل على اتخاذ الامام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض، إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم. وقال ابن عون: سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال: والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة. وقال الحسن أيضا: لابد للناس من وازع، أي من سلطان يكفهم. وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزع الامام أكثر مما يزع القرآن، أي من الناس. قال ابن القاسم: قلت لمالك ما يزع ؟ قال: يكف. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع
[ 169 ]
الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته. قال: فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها، ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها، وقصروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها، ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الامور، وصلح الجمهور. قوله تعالى: حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نمله يايها النمل ادخلوا مسكنكم لا يحطمنكم سليمن وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى ولدى وأن أعمل صلحا ترضه وأدخلني برحمتك في عبادك الصلحين (19) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على واد النمل) قال قتادة: ذكر لنا أنه واد بأرض الشام. وقال كعب: هو بالطائف. (قالت نملة يأيها النمل) قال الشعبي: كان للنملة جناحان فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه. وقد مضى هذا ويأتي. وقرأ سليمان التيمي بمكة: " نملة " و " النمل " بفتح النون وضم الميم. وعنه أيضا ضمهما جميعا. وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها. قال كعب: مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف، فأتى على وادي النمل، فقامت نملة تمشى وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم، فنادت: " يا أيها النمل " الآية. الزمخشري: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، وكانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس، وقيل: كان اسمها طاخية. وقال السهيلي: ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام، وقالوا اسمها حرميا، ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمى بعضهم بعضا، ولا الآدميون يمكنهم تسمية
[ 170 ]
واحدة منهم باسم علم، لانه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض، ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بنى آدم كالخيل والكلاب ونحوها، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب. فإن قلت: إن العلمية موجودة في الاجناس كثعالة وأسامهه وجعار وقثام في الضبع ونحو هذا كثير، فليس اسم النملة من هذا، لانهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوه فله وجه، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به الانبياء قبل سليمان أو بعضهم. وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه. ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل: (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فقولها: " وهم لا يشعرون " التفاتة مؤمن. أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نمله فما فوقها إلا بألا يشعروا. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله: " ضاحكا " إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين. وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، ولا يسر نبى بأمر دنيا، وإنما سر بما كان من أمر الآخرة والدين. وقولها: " وهم لا يشعرون " إشارة إلى الدين والعدل والرأفة. ونظير قول النملة في جند سليمان " وهم لا يشعرون " قول الله تعالى في جند محمد صلى الله عليه وسلم: " فتصيبكم منهم معرة بغير علم ". التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن. إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى، والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عزوجل بنفسه، لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الانبياء، كما لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وقرأ شهر بن حوشب: " مسكنكم " بسكون السين على الافراد. وفي مصحف أبي " مساكنكن لا يحطمنكم ". وقرأ سليمان التيمي " مساكنكم لا يحطمنكن " ذكره النحاس، أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم
[ 171 ]
قال المهدوي: وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان. وقال وهب: أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشئ إلا طرحته في سمع سليمان، بسبب أن الشياطين أرادت كيده. وقد قيل: إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد، قاله الكلبى. وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة: كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم. وقال بريدة الاسلمي: كهيئة النعاج. قال محمد بن على الترمذي: فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها، وإلا فالاصوات في الطيور والبهائم كائنة، وذلك منطقهم، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك، وهو قوله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ". قلت: وقوله " لا يحطمنكم " يدل على صحة قول الكلبى، إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطئ، والله أعلم. وقال: " ادخلوا مساكنكم " فجاء على خطاب الآدميين لان النمل هاهنا أجرى مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون. قال أبو إسحق الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل ؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أنى نبى عدل ؟ فلم قلت: " يحطمنكم سليمان وجنوده " فقالت النملة: أما سمعت قولى " وهم لا يشعرون " مع أنى لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتن بالدنيا، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان: عظينى. فقالت النملة: أما علمت لم سمى أبوك داود ؟ قال: لا. قالت: لانه داوى جراحة فؤاده، هل علمت لم سميت سليمان ؟ قال: لا. قالت: لانك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك (1). ثم قالت: أتدري لم سخر الله لك الريح ؟ قال: لا. قالت: أخبرك أن الدنيا كلها ريح. (فتبسم ضاحكا من قولها) متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت: هل عندكم من شئ نهديه إلى (1) العبارة في " قصص الانبياء " للثعلبي: " قالت لانك سليم ركنت إلى ما أوتيت بسلامة صدرك، وحق لك أن تلحق بأبيك داود ". (*)
[ 172 ]
نبي الله ؟ قالوا: وما قدر ما نهدى له ! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت: حسنة، ايتونى بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الانس والجن والعلماء والانبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول: ألم ترنا نهدى إلى الله ماله * * وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله ولو كان يهدى للجليل بقدره * * لقصر عنه البحر يوما وساحله ولكننا نهدى إلى من نحبه * * فيرضى به عنا ويشكر فاعله وما ذاك إلا من كريم فعاله * * وإلا فما في ملكنا ما يشاكله فقال لها: بارك الله فيكم، فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله. وقال ابن عباس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: الهدهد والصرد والنملة والنحلة، خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبد الحق وروى من حديث أبي هريرة. وقد مضى في " الاعراف " (1). فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور، ولذلك نهى عن قتلها، وعن قتل الهدهد، لانه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس. وقال عكرمة: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لانه كان بارا بوالديه. والصرد يقال له الصوام. وروي عن أبي هريرة قال: أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة (2) معه والصرد، فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلى. وقد تقدم في " الاعراف " سبب النهى عن قتل الضفدع وفي " النحل " (3) النهي عن قتل النحل. والحمد لله. (1) راجع ج‍ 7 ص 270 طبعة أولى أو ثانية. (2) السكينة: سحابة كما في القصة. وفي حديث على رضى الله عنه إن السكينة ريح سريعة الممر. وليس بواضح. (3) راجع ج‍ 10 ص 134 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 173 ]
الثانية - قرأ الحسن: " لا يحطمنكم " وعنه أيضا " لا يحطمنكم " وعنه أيضا وعن أبى رجاء: " لا يحطمنكم " والحطم الكسر. حطمته حطما أي كسرته وتحطم، والتحطيم التكسير، " وهم لا يشعرون " يجوز أن يكون حالا من سليمان، وجنوده، والعامل في الحال " يحطمنكم ". أو حالا من النملة والعامل " قالت ". أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود، كقولك: قمت والناس غافلون. أو حالا من النمل أيضا والعامل " قالت " على أن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها. وفيه بعد وسيأتى. الثالثة - روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن نملة قرصت نبيا من الانبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفى أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الامم تسبح " وفي طريق آخر: " فهلا نملة واحدة ". قال علماؤنا: يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام، وإنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع. فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته، فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك آية: لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها ! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرا ونقمة على العاصى. وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التى قد سخرت لك وسلطت عليها، فإذا آذاك أبيح لك قتله. وروى عن إبراهيم: ما آذاك من النمل فاقتله. وقوله: " ألا نملة واحدة " دليل على أن الذى يؤذى يؤذى ويقتل، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء. وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها، لانه ليس المراد القصاص، لانه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: ألا نملة مكان نملة، فعم البرئ
[ 174 ]
والجانى بذلك، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي. وقد قيل: إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه، فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الاحراق. ألا ترى قوله: " فهلا نملة واحدة " أي هلا حرقت نملة واحدة. وهذا بخلاف شرعنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار. وقال " لا يعذب بالنار إلا الله ". وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي، فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهى عن ذلك. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل. وقد قيل: إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد، وكان الاولى الصبر والصفح، لكن وقع للنبى أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بنى آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعى لم يعاتب. والله أعلم. لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه. الرابعة - قوله: " أفى أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الامم تسبح " مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام - وهذا معجزة له - وتبسم من قولها. وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا، لكن لا يسمعه كل أحد، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي. ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك، فإنه لا يلزم من عدم الادراك عدم المدرك في نفسه. ثم إن الانسان يجد في نفسه قولا وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه. وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم، كما قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الاولياء مثل ذلك في غير ما قضية. وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم ". وقد مضى هذا المعنى
[ 175 ]
في [ تسبيح ] (1) الجماد في " سبحان " (2) وإنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال. والحمد لله. الخامسة - قوله تعالى: " فتبسم ضاحكا من قولها " وقرأ ابن السميقع: " ضحكا " بغير ألف وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه تبسم، كأنه قال ضحك ضحكا، هذا مذهب سيبويه. وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس " تبسم " لانه في معنى ضحك. ومن قرأ: " ضاحكا " فهو منصوب على الحال من الضمير في " تبسم ". والمعنى تبسم مقدار الضحك، لان الضحك يستغرق التبسم، والتبسم دون الضحك وهو أوله. يقال: بسم (بالفتح) يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم، والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مبسام وبسام كثير التبسم، فالتبسم ابتداء الضحك، والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء، إلا أن الضحك يقتضى مزيدا على التبسم، فإذا زاد ولم يضبط الانسان نفسه قيل قهقه. والتبسم ضحك الانبياء عليهم السلام في غالب أمرهم. وفي الصحيح عن جابر بن سمرة وقيل له: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم كثيرا، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلى فيه الصبح - أو الغداة - حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم. وفيه عن سعد قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين (3)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ارم فداك أبي وأمي " قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه. فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم. وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذى تبدو فيه اللهوات. وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه. وقد كره العلماء منه الكثرة، كما قال لقمان لابنه: يا بنى إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب. وقد روى مرفوعا من * (هامش) (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) راجع ج‍ 10 ص 266 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (3) " أحرق المسلمين " أي أثخن فيهم، وعمل فيهم نحو عمل النار. " هامش مسلم ". (*)
[ 176 ]
حديث أبي ذر وغيره. وضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه حين رمى سعدا الرجل فأصابه، إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته، فإنه المنزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم. السادسة - لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول. وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير. قال ابن عطية: والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، ويشق الكزبرة بأربع قطع، لانها تنبت إذا قسمت شقين، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة. قال ابن العربي: وهذه خواص العلوم عندنا، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها، قال الاستاذ أبو المظفر شاهنور الاسفرايني: ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات، ووحدانية الاله، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا، أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية. قوله تعالى: (وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى) ف‍ " أن " مصدرية. و " أوزعني " أي ألهمني ذلك. وأصله من وزع فكأنه قال: كفني عما يسخط. وقال محمد بن إسحق: يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود، أو أنه بعد موت زوجها تزوجها داود فولدت له سليمان عليه السلام. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " ص " (1) إن شاء الله تعالى. (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) أي مع عبادك، عن ابن زيد. وقيل: المعنى في جملة عبادك الصالحين. قوله تعالى: وتفقد الطير فقال مالى لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لا عذبنه عذابا شديدا أو لا اذبحنه أو ليأتيني بسلطن مبين (21) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك (1) في تفسير قوله تعالى: " وظن داود أنما فتناه " آية 24 من السورة المذكورة. (*)
[ 177 ]
من سبإ بنبإ يقين (22) إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطن أعملهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24) ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخب ء قى السموت والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26) قال سننظر أصدقت أم كنت من الكذبين (27) اذهب بكتبي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28) فيه ثمان عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وتفقد الطير) ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم. والتفقد تطلب ما غاب عنك من شئ. والطير اسم جامع والواحد طائر، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها. وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها. واختلف الناس في معنى تفقده للطير، فقالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والتهمم بكل جزء منها، وهذا ظاهر الآية. وقالت فرقة: بل تفقد الطير لان الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب، فكان ذلك سبب تفقد الطير، ليتبين من أين دخلت الشمس. وقال عبد الله بن سلام: إنما طلب الهدهد لانه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الارض، لانه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الارض وظاهرها، فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة، تسلخ عنه وجه الارض كما تسلخ الشاة، قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام. قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبدالله بن سلام: أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل. قال: أتسألني وأنت تقرأ القرآن ؟ قال: نعم ثلاث مرات. قال: لم تفقد سليمان الهدهد دون
[ 178 ]
سائر الطير ؟ قال: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال مسافته - وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده. وقال في كتاب النقاش: كان الهدهد مهندسا. وروي أن نافع بن الازرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له: قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الارض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه ؟ ! فقال له ابن عباس: إذا جاء القدر عمي البصر. وقال مجاهد: قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير ؟ فقال: نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد مهتديا إليه، فأراد أن يسأله. قال مجاهد: فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده ؟ قال: إذا جاء القدر عمي البصر. قال ابن العربي: ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن. قلت: هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم. وأنشدوا: إذا أراد الله أمرا بامرئ * * وكان ذا عقل ورأي ونظر وحيلة يعملها في دفع ما * * يأتي به مكروه أسباب القدر غطى عليه سمعه وعقله * * وسله من ذهنه سل الشعر حتى إذا أنفذ فيه حكمه * * رد عليه عقله ليعتبر قال الكلبي: لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. والله أعلم. الثانية - في هذه الآية دليل على تفقد الامام أحوال رعيته، والمحافظة عليهم. فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته، قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر. فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان. وفي الصحيح عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ (1) لقيه أمراء الاجناد: أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. الحديث، قال علماؤنا: كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط. (1) سرغ (بسكون الراء وفتحها): قرية بوادي تبوك من طريق الشام. (*)
[ 179 ]
كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الامام من تفقد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال. ورحم الله ابن المبارك حيث يقول: وهل أفسد الدين إلا الملوك * * وأحبار سوء ورهبانها (1) الثالثة - قوله تعالى: (مالى لا أرى الهدهد) أي ما للهدهد لا أراه، فهو من القلب الذي لا يعرف معناه. وهو كقولك: مالي أراك كئيبا. أي مالك. والهدهد طير معروف وهدهدته صوته. قال ابن عطية: إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف على اللازم وهذا ضرب من الايجاز. والاستفهام الذي في قوله: " مالي " ناب مناب الالف التي تحتاجها أم. وقيل: إنما قال: " مالي لا أرى الهدهد "، لانه اعتبر حال نفسه، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر، فلاجله سلبها فجعل يتفقد نفسه، فقال: " مالي ". قال ابن العربي: وهذا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم (2)، تفقدوا أعمالهم، هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض !. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب: " مالي " بفتح الياء وكذلك في " يس " " ومالي لا أعبد الذي فطرني ". وأسكنها حمزة ويعقوب. وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو: بفتح التي في " يس " وإسكان هذه. قال أبو عمرو: لان هذه التي في " النمل " استفهام، والاخرى انتفاء. واختار أبو حاتم وأبو عبيد الاسكان " فقال مالي ". وقال أبو جعفر النحاس: زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله، وهذا ليس بشئ، وإنما هي ياء النفس، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها، فقرءوا باللغتين، واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة، لانها اسم وهي على حرف واحد، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف بالاسم. " أم كان من الغائبين " بمعنى بل. (1) في بعض النسخ: " ورهبانا ". (2) في أحكام القرآن لابن العربي: " إذا فقدوا آمالهم.... الخ ". (*)
[ 180 ]
الرابعة - قوله تعالى: (لا عذبنه عذابا شديدا أو لا ذبحنه) دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة. روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه. قال ابن جريج: ريشه أجمع. وقال يزيد بن رومان: جناحاه. فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين، وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته، وكأن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للاكل وغيره من المنافع. والله أعلم. وفي " نوادر الاصول " قال: حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الايادي، قال حدثنا عون بن عمارة، عن الحسين الجعفي، عن الزبير بن الخريت، عن عكرمة، قال: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لانه كان بارا بوالديه. وسيأتي. وقيل: تعذيبه أن يجعل مع أضداده. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الاضداد وقيل: لالزمنه خدمة أقرانه. وقيل: إيداعه القفص. وقيل: بأن يجعله للشمس بعد نتفه. وقيل: بتبعيده عن خدمتي، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه. وهو مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي أو الخفيفة. قال أبو حاتم: ولو قرئت " لا عذبنه عذابا شديدا أو لا ذبحنه " جاز. (أو ليأتيني بسلطان مبين) أي بحجة بينة. وليست اللام في " ليأتيني " لام القسم لانه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد، ولكن لما جاء في أثر قوله: " لا عذبنه " وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه. وقرأ ابن كثير وحده: " ليأتينني " بنونين. الخامسة - قوله تعالى: (فمكث غير بعيد) أي الهدهد. والجمهور من القراء على ضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها. ومعناه في القراءتين أقام. قال سيبويه: مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا. قال: ومكث مثل ظرف. قال غيره: والفتح أحسن لقوله تعالى: " ماكثين " إذ هو من مكث، يقال: مكث يمكث فهو ماكث، ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث، مثل عظيم. ومكث يمكث فهو ماكث، مثل حمض يحمض فهو حامض. والضمير في " مكث " يحتمل أن يكون لسليمان، والمعنى: بقى سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل. ويحتمل أن يكون للهدهد وهو الاكثر. فجاء: " فقال أحطت بما لم تحط به " وهى:
[ 181 ]
السادسة - أي علمت ما لم تعلمه من الامر فكان في هذا رد على من قال: إن الانبياء تعلم الغيب. وحكى الفراء " أحط " يدغم التاء في الطاء. وحكى " أحت " بقلب الطاء تاء وتدغم. السابعة - قوله تعالى: (وجئتك من سبإ بنبإ يقين) أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح. وقرأ الجمهور " سبإ " بالصرف. وابن كثير وأبو عمرو " سبأ " بفتح الهمزة وترك الصرف، فالاول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر: الواردون وتيم في ذرى سبإ * * قد عض أعناقهم جلد الجواميس وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل، وقال: " سبأ " اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. وأنشد للنابغة الجعدى: من سبأ الحاضرين مأرب إذ * * يبنون من دون سيله العرما قال: فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة، ومن صرف وهو الاكثر فلانه اسم البلد فيكون مذكرا سمى به مذكر. وقيل: اسم امرأة سميت بها المدينة. والصحيح أنه اسم رجل، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتى إن شاء الله تعالى. قال ابن عطية: وخفى هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسى سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبإ فقال: ما أدرى ما هو. قال النحاس: وتأول الفراء على أبى عمرو أنه منعه من الصرف لانه مجهول، وأنه إذا لم يعرف الشئ لم ينصرف. وقال النحاس: وأبو عمرو أجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرؤاسى عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لانه لم يعرفه، وإنما قال لا أعرفه، ولو سئل نحوى عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا، والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه، لان أصل الاسماء الصرف، وإنما يمنع الشئ من الصرف لعلة داخلة عليه، فالاصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف. وذكر كلاما كثيرا
[ 182 ]
عن النحاة وقال في آخره: والقول في " سبإ " ما جاء التوقيف فيه أنه في الاصل اسم رجل، فإن صرفته فلانه قد صار اسما للحى، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة، لان هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى، لانه الاصل والاخف. الثامنة - وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه. هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضى الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان. وكان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: لا يتيمم الجنب. وكان حكم الاذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت. وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفى عن المسور بن مخرمة. ومثله كثير فلا يطول به. التاسعة - قوله تعالى: (إنى وجدت امرأة تملكهم) لما قال الهدهد: " وجئتك من سبإ بنبإ يقين " قال سليمان: وما ذلك الخبر ؟ قال: " إنى وجدت امرأة تملكهم " يعنى بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبإ. ويقال: كيف وخفى على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهى من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف. ويروى أن أحد أبويها كان من الجن. قال ابن العربي: وهذا أمر تنكره الملحدة، ويقولون: الجن لا يأكلون ولا يلدون، كذبوا لعنهم الله أجمعين، ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت. قلت: خرج أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا. وفي صحيح مسلم فقال: " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم " فقال رسول الله صلى الله
[ 183 ]
عليه وسلم: " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن " وفي البخاري من حديث أبى هريرة قال فقلت: ما بال العظم والروثة ؟ فقال: " هما من طعام الجن وإنه أتانى وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما " وهذا كله نص في أنهم يطعمون. وأما نكاحهم فقد تقدمت الاشارة إليه في " سبحان " (1) عند قوله: " وشاركهم في الاموال والاولاد ". وروى وهيب بن جرير ابن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال: كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان. وسيأتى لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى. العاشرة - روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " قال القاضى أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه، ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبى حنيفة أنها إنما تقضى فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الاطلاق، ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، وهذا هو الظن بأبى حنيفة وابن جرير. وقد روى عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق. ولم يصح فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الاحاديث. وقد تناظر في هذه المسألة القاضى أبو بكر بن الطيب المالكى الاشعري مع أبى الفرج بن طرار شيخ الشافعية، فقال أبو الفرج: الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الاحكام تنفيذ القاضى لها، وسماع البينة عليها، والفصل بين الخصوم فيها، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل. فاعترض عليه القاضى أبو بكر ونقض كلامه بالامامة الكبرى، فإن الغرض منه حفظ الثغور، وتدبير الامور وحماية البيضة، وقبض الخراج ورده على مستحقه، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل. قال ابن العربي: وليس (1) راجع ج‍ 10 ص 289 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 184 ]
كلام الشيخين في هذه المسألة بشئ، فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير لانها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، وأن كانت برزة (1) لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم، وتكون مناظرة لهم، ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده. الحادية عشره - قوله تعالى: (وأوتيت من كل شئ) مبالغة، أي مما تحتاجه المملكة. وقيل: المعنى أوتيت من كل شئ في زمانها شيئا فحذف المفعول، لان الكلام دل عليه. (ولها عرش عظيم) أي سرير، ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان. قيل: كان من ذهب تجلس عليه. وقيل: العرش هنا الملك، والاول أصح، لقوله تعالى: " أيكم يأتيني بعرشها ". الزمخشري: فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم ؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم، لان وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالاضافة إلى عرش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والارض. قال ابن عباس: كان طول عرشها ثمانين ذراعا، وعرضه أربعين ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا، مكلل بالدر والياقوت الاحمر، والزبرجد الاخضر. قتادة: وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مسترا بالديباج والحرير، عليه سبعة مغاليق. مقاتل: كان ثمانين ذراعا وارتفاعه من الارض ثمانون ذراعا، وهو مكلل بالجواهر. ابن إسحق: وكان يخدمها النساء، وكان لخدمتها ستمائة امرأة. قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار. الثانية عشره - قوله تعالى: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) قيل: كانت هذه الامة ممن يعبد الشمس، لانهم كانوا زنادقة فيما يروى. وقيل: كانوا مجوسا يعبدون الانوار. وروى عن نافع أن الوقف على " عرش ". قال المهدوى: * (هامش) (1) البرزة هنا: الكهلة التى لا تحتجب احتجاب الشواب، وهى مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم. (*)
[ 185 ]
فعظيم على هذا متعلق بما بعده، وكان ينبغى على هذا أن يكون عظيم أن وجدتها، أي وجودي إياها كافرة. وقال ابن الانباري: " ولها عرش عظيم " وقف حسن، ولا يجوز أن يقف على " عرش " ويبتدئ " عظيم وجدتها " إلا على من فتح، لان عظيما نعت لعرش فلو كان متعلقا بوجدتها لقلت عظيمة وجدتها، وهذا محال من كل وجه. وقد حدثنى أبو بكر محمد بن الحسين بن شهريار، قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الاسود العجلى، عن بعض أهل العلم أنه قال: الوقف على " عرش " والابتداء " عظيم " على معنى عظيم عبادتهم الشمس والقمر. قال: وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب، ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنا من أن يصفه الله بالعظيم. قال ابن الانباري: والاختيار عندي ما ذكرته أولا، لانه ليس على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل. وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذا رآه متناهى الطول والعرض، وجريه على إعراب " عرش " دليل على أنه نعته. (وزين لهم الشيطان أعمالهم) أي ما هم فيه من الكفر. (فصدهم عن السبيل) أي عن طريق التوحيد. وبين بهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق. (فهم لا يهتدون) إلى الله وتوحيده. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (ألا يسجدوا لله) قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة " ألا يسجدوا لله " بتشديد " ألا " قال ابن الانباري: " فهم لا يهتدون " غير تام لمن شدد " ألا " لان المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا. قال النحاس: هي " أن " دخلت عليها " لا " و " أن " في موضع نصب، قال الاخفش: ب‍ " زين " أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله. وقال الكسائي: ب‍ " فصدهم " أي فصدهم ألا يسجدوا. وهو في الوجهين مفعول له. وقال اليزيدى وعلى بن سليمان: " أن " بدل من " أعمالهم " في موضع نصب. وقال أبو عمرو: و " أن " في موضع حفض على البدل من السبيل وقيل: العامل فيها " لا يهتدون " أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم. وعلى هذا القول " لا " زائدة، كقوله: " ما منعك ألا تسجد " أي ما منعك أن تسجد. وعلى هذه القراءة
[ 186 ]
فليس بموضع سجدة، لان ذلك خبر عنهم بترك السجود، إما بالتزيين، أو بالصد، أو بمنع الاهتداء. وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما: " ألا يسجدوا (1) لله " بمعنى الا يا هؤلاء اسجدوا، لان " يا " ينادى بها الاسماء دون الافعال. وأنشد سيبويه: يا لعنة الله والاقوام كلهم * * والصالحين على سمعان من جار قال سيبويه: " يا " لغير اللعنة، لانه لو كان للعنة لنصبها، لانه كان يصير منادى مضافا، ولكن تقديره يا هؤلاء لعنة الله والاقوام على سمعان. وحكى بعضهم سماعا عن العرب: ألا يا ارحموا ألا يا اصدقوا. يريدون ألا يا قوم ارحموا اصدقوا، فعلى هذه القراءة " اسجدوا " في موضع جزم بالامر والوقف على " ألا يا " ثم تبتدئ فتقول: " اسجدوا ". قال الكسائي: ماكنت أسمع الاشياخ يقرءونها إلا بالتخفيف على نية الامر. وفي قراءة عبد الله: " ألا هل تسجدون لله " بالتاء والنون. وفى قراءة أبى " ألا تسجدون لله " فهاتان القراءتان حجة لمن خفف. الزجاج: وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون التشديد. واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة التشديد. وقال: التخفيف وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الخبر من أمر سبأ، ثم رجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه. ونحوه قال النحاس. قال: قراءة التخفيف بعيدة، لان الكلام يكون معترضا، وقراءة التشديد يكون الكلام بها متسقا، وأيضا فإن السواد على غير هذه القراءة، لانه قد حذف منه ألفان، وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو يا عيسى بن مريم. ابن الانباري: وسقطت ألف " اسجدوا " كما تسقط مع هؤلاء إذا ظهر، ولما سقطت ألف " يا " واتصلت بها ألف " اسجدوا " سقطت، فعد سقوطها دلالة على الاختصار وإيثارا لما يخف وتقل ألفاظه. وقال الجوهرى في آخر كتابه: قال بعضهم: إن " يا " في هذا الموضع إنما هو للتنبيه كأنه قال: ألا اسجدوا لله، فلما أدخل عليه " يا " للتنبيه سقطت الالف التى في " اسجدوا " لانها (1) الالوسى: " ألا " بالتخفيف على أنها للاستفتاح و " يا " حرف نداء، والمنادى محذوف، أي ألا يا قوم اسجدوا وسقطت ألف يا وألف الوصل في " اسجدوا " وكتبت الياء متصلة بالسين على خلاف القياس. (*)
[ 187 ]
ألف وصل، وذهبت الالف التى في " يا " لاجتماع الساكنين، لانها والسين ساكنتان. قال ذو الرمة: ألا يا اسلمي يا دار مى على البلى * * ولا زال منهلا بجرعائك القطر وقال الجرجاني: هو كلام معترض من الهدهد أو سليمان أو من الله. أي ألا ليسجدوا، كقوله تعالى: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " قيل: إنه أمر أي ليغفروا. و تنتظم على هذا كتابة المصحف، أي ليس ها هنا نداء. قال ابن عطية: قيل هو من كلام الهدهد إلى قوله " العظيم " وهو قول ابن زيد وابن إسحق، ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى شرع. ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم. ويحتمل أن يكون من [ قول ] الله تعالى فهو اعتراض بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل، وقراءة التشديد في " ألا " تعطى أن الكلام للهدهد، وقراءة التخفيف تمنعه، والتخفيف يقتضى الامر بالسجود لله عزوجل للامر على ما بيناه. وقال الزمخشري: فإن قلت أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما ؟ قلت هي واجبة فيهما جميعا، لان مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم [ لمن ] (1) تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والاخرى ذم للتارك. قلت: وقد أخبر الله عن الكفار بأنهم يسجدون كما في " الانشقاق " وسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما ثبت في البخاري وغيره فكذلك. " النمل ". والله أعلم. الزمخشري: وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه. (الذى يخرج الخب ء) خب ء السماء قطرها، وخب ء الارض كنوزها ونباتها. وقال قتادة: الخب ء السر. النحاس: وهذا أولى. أي ما غاب في السماوات والارض، ويدل عليه " ما يخفون وما يعلنون " (2). وقرأ عكرمة ومالك بن دينار: " الخب " بفتح الباء من غير همز. قال المهدوى: وهو التخفيف القياسي، وذكر من يترك الهمز في الوقف. وقال النحاس: (1) الزيادة من " الكشاف ". (2) في نسخ الاصل بالباء، وهى قراءة العامة كما سيأتي. (*)
[ 188 ]
وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ: " الذى يخرج الخبا " بألف غير مهموزة، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية، واعتل بأنه إن خفف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال " الخب في السماوات والارض " وأنه إن حول الهمزة قال: الخبى بإسكان الباء وبعدها ياء. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه. وحكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة، وتبدل منها واوا إذا كان قبلها ساكن وكانت مضمومة، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة، فتقول: هذا الوثو وعجبت من الوثى ورأيت الوثا، وهذا من وثئت يده، وكذلك هذا الخبو وعجبت من الخبى، ورأيت الخبا، وإنما فعل هذا لان الهمزة خفيفة فأبدل منها هذه الحروف. وحكى سيبويه عن قوم من بنى تميم وبنى أسد أنهم يقولون: هذا الخبؤ، يضمون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة. وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة، إلا أن هذا عن بنى تميم، فيقولون: الردئ (1)، وزعم أنهم لم يضموا الدال لانهم كرهوا ضمة قبلها كسرة، لانه ليس في الكلام فعل. وهذه كلها لغات داخلة على اللغة التى قرأ بها الجماعة، وفي قراءة عبد الله " الذى يخرج الخبأ من السماوات " و " من " و " في " يتعاقبان، تقول العرب: لاستخرجن العلم فيكم يريد منكم، قاله الفراء. (ويعلم ما يخفون وما يعلنون) قراءة العامة فيهما بياء، وهذه القراءة تعطى أن الآية من كلام الهدهد، وأن الله تعالى خصه من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس، وإضافته للشيطان، وتزيينه لهم، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان، من المعارف الطيفه التى لا تكاد العقول الراجحة تهتدى لها. وقرأ الجحدرى وعيسى بن عمر وحفص والكسائي " تخفون " و " تعلنون " بالتاء على الخطاب، وهذه القراءة تعطى أن الآية (1) الرده بمعنى الصاحب. (*)
[ 189 ]
من خطاب الله عزوجل لامة محمد صلى الله عليه وسلم. (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) قرأ ابن محيصن " العظيم " رفعا نعتا لله. الباقون بالخفض نعتا للعرش. وخص بالذكر لانه أعظم المخلوقات وما عداه في ضمنه وقبضته. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (سننظر) من النظر الذى هو التأمل والتصفح. (أصدقت أم كنت من الكاذبين) في مقالتك. و " كنت " بمعنى أنت. وقال: " سننظر أصدقت " ولم يقل سننظر في أمرك، لان الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله: " أحطت بما لم تحط به " صرح له سليمان بقوله: سننظر أصدقت أم كذبت، فكان ذلك [ كفاء ] (1) لما قاله. الخامسة عشرة - في قوله: " أصدقت أم كنت من الكاذبين " دليل على أن الامام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم، لان سليمان لم يعاقب الهدهد حين أعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لانه أخبر بما يقتضى الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد. وفي الصحيح: " ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل ". وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدى ولم يعاقبه. ولكن للامام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة. كما فعل سليمان، فإنه لما قال الهدهد: " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم " لم يستفزه الطمع، ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال: " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله " فغاظه حينئذ ما سمع، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر، وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك، فقال: " سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين " ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهى التى يضرب بطنها فتلقى جنينها، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. قال فقال عمر: ايتنى بمن يشهد معك، قال: فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال: لا تبرح حتى تأتى بالمخرج (1) في الاصول " جفاء " والتصويب من " أحكام القرآن " لابن العربي. (*)
[ 190 ]
من ذلك، فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد. ونحوه حديث أبى موسى في الاستئذان وغيره. السادسة عشرة - قوله تعالى: (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم) قال الزجاج: فيها خمسة أوجه " فألقه " إليهم بإثبات الياء في اللفظ. وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالة عليها " فألقه إليهم ". وبضم الهاء وإثبات الواو على الاصل " فألقه إليهم ". وبحذف الواو وإثبات الضمة " فألقه إليهم ". واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء " فالقه إليهم ". قال النحاس: وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة تكون: يقدر الوقف، وسمعت على بن سليمان يقول: لا تلتفت إلى هذه العلة، ولو جاز أن يصل وهو ينوى الوقف لجاز أن يحذف الاعراب من الاسماء. وقال: " إليهم " على لفظ الجمع ولم يقل إليها، لانه قال: " وجدتها وقومها يسجدون للشمس " فكأنه قال: فألقه إلى الذين هذا دينهم، اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره، وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك. وروى في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدران، فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها، فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهى - فيما يروى - نائمة، فلما انتبهت وجدته فراعها، وظنت أنه قد دخل عليها أحد، ثم قامت فوجدت حالها كما عهدت، فنظرت إلى الكوة تهمما بأمر الشمس، فرأت الهدهد فعلمت. وقال وهب وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة مطلع الشمس، فإذا طلعت سجدت، فسدها الهدهد بجناحه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة إليها، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لان ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه، فقرأته فجمعت الملا من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد. وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره، وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها.
[ 191 ]
السابعة عشرة - في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعائهم إلى الاسلام. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار، كما تقدم في " آل عمران " (1): الثامنة عشرة - (ثم تول عنهم) أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك. بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم، قال وهب بن منبه. وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه، أي ألقه وارجع. قال وقوله: " فانظر ماذا يرجعون " في معنى التقديم على قوله: " ثم تول " واتساق رتبة الكلام أظهر، أي ألقه ثم تول، وفي خلال ذلك فانظر أي انتظر. وقيل: فاعلم، كقوله: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " أي اعلم ماذا يرجعون أي يجيبون وماذا يردون من القول. وقيل: " فانظر ماذا يرجعون " بينهم من الكلام. قوله تعالى: قالت يأيها الملؤا إنى ألقى إلى كتب كريم (29) إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا على وأتوني مسلمين (31) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (قالت يأيها الملا) في الكلام حذف، والمعنى: فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهى تقول: " يا أيها الملا " ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لانه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان عليه السلام، وهذا قول ابن زيد. وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، فكر امة الكتاب ختمه، وروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: لانه بدأ فيه ب‍ " بسم الله الرحمن الرحيم " وقد قال صلى الله عليه وسلم: " كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم ". وقيل: لانه بدأ (1) راجع ج‍ 4 ص 105 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 192 ]
فيه بنفسه، ولا يفعل ذلك إلا الجلة. وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه: من عبد الله لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، إنى أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت، وإن بنى قد أقروا لك بذلك. وقيل: توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا. وقيل: " كريم " حسن، كقول: " ومقام كريم " أي مجلس حسن. وقيل: وصفته بذلك، لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عزوجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا، ولا ما يغير النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق، على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عزوجل، ألا ترى إلى قول الله عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " وقوله لموسى وهرون: " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ". وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها. وقد روى أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان. وفي قراءة [ عبد الله ] (1) " وإنه من سليمان " بزيادة واو. الثانية - الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف، ألا ترى قوله تعالى: " إنه لقرآن كريم " وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالاثير وبالمبرور، فإن كان لملك قالوا: العزيز وأسقطوا الكريم غفلة، وهو أفضلها خصلة. فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى: " وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فهذه عزته وليست لاحد إلا له، فاجتنبوها في كتبكم، واجعلوا بدلها العالي، توفية لحق الولاية، وحياطة للديانة، قال القاضى أبو بكر بن العربي. الثالثة - كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وبذلك جاءت الآثار. وروى الربيع عن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم: وكان أصحابه إذا كتبوا بدءوا بأنفسهم. وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أهل فارس إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه " (1) في الاصل: " وفي قراءة أبى " وهو مخالف لما عليه كتب التفسير، فالمروى عن أبى أنه قرأ " أن من سليمان وأن بسم الله الرحمن الرحيم " بفتح الهمزة وتخفيف النون وحذف الهاء. (*)
[ 193 ]
قال أبو الليث في كتاب " البستان " له: ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز، لان الامة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك، أو نسخ ما كان من قبل، فالاحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه، ثم بنفسه، لان البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب [ إليه ] (1) وتكبرا عليه، إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده، أو غلام من غلمانه. الرابعة - وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغى أن يرد الجواب، لان الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر. وروى عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام. والله أعلم. الخامسه - اتفقوا على كتب " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها، لانه أبعد من الريبة، وعلى هذا جرى الرسم، وبه جاء الاثر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف. وفي الحديث: " كرم الكتاب ختمه ". وقال بعض الادباء، هو ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به، لان الختم ختم. وقال أنس: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم قيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم، فاصطنع خاتما ونقش على فصه " لا إله إلا الله محمد رسول الله " وكأني أنظر إلى وبيصه (2) وبياضه في كفه. السادس - قوله تعالى: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " " وإنه " بالكسر فيهما أي وإن الكلام، أو إن مبتدأ الكلام " بسم الله الرحمن الرحيم ". وأجاز الفراء " أنه من سليمان وأنه " بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من الكتاب، بمعنى ألقى إلى أنه من سليمان. وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض، أي لانه من سليمان ولانه، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله. وقرأ الاشهب العقيلى ومحمد بن السميقع " ألا تغلوا " بالغين المعجمة، وروى عن وهب بن منبه، من غلا يغلو إذا تجاوز وتكبر. وهى راجعة إلى معنى قراءة الجماعة. " وأتوني مسلمين " أي منقادين طائعين مؤمنين. (1) زيادة يقتضيها المقام. (2) الوبيص: البريق واللمعان. (*)
[ 194 ]
قوله تعالى: قالت يأيها الملؤا أفتوني في أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (قالت يأيها الملا أفتوني في امرى) الملا أشراف القوم وقد مضى في سورة " البقرة " (1) القول فيه. قال ابن عباس: كان معها ألف قيل. وقيل: اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف. والقيل الملك دون الملك الاعظم. فأخذت في حسن الادب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض، بقولها: (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) فكيف في هذه النازلة الكبرى. فراجعها الملا بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلموا الامر إلى نظرها، وهذه محاورة حسنة من الجميع. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف. الثانيه - في هذه الآية دليل على صحة المشاورة. وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وشاورهم في الامر " في " آل عمران " إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للاولياء. وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله: " وأمرهم شورى بينهم ". والمشاورة من الامر القديم وخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس: " قالت يا أيها الملا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون " لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة (1) راجع ج‍ 3 ص 243 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 195 ]
من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: (نحن أولو قوة وأولو بأس شديد) قال ابن عباس: كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته. الثالثة - قوله تعالى: (وألامر إليك فانظري ماذا تأمرين) سلموا الامر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة، فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التى يتغلبون عليها. وفي هذا الكلام خوف على قومها، وحيطة واستعظام لامر سليمان عليه السلام. " وكذلك يفعلون " قيل: هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذى أرادته. وقال ابن عباس: هو من قول الله عزوجل معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به. وقال وهب: لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله، فقالت: ما هذا ؟ ! فقال بعض القوم: ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده، فسكتوه. وقال الآخر: أراهم ثلاثة من العفاريت، فسكتوه، فقال شاب قد علم: يا سيدة الملوك ! إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه، والله اسم مليك السماء، والرحمن الرحيم نعوته، فعندها قالت: " أفتوني في أمرى " فقالوا: " نحن أولو قوة " في القتال " وأولو بأس شديد " في الحرب واللقاء " والامر إليك " ردوا أمر هم إليها لما جربوا على رأيها من البركة " فانظري ماذا تأمرين " ف‍ " قالت ان الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوهها وجعلوا أعزة أهلها أذلة " أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الامور، فصدق الله قولها. " وكذلك يفعلون " قال ابن الانباري: " وجعلوا أعزة أهلها أذلة " هذا وقف تام، فقال الله عزوجل تحقيقا لقولها: " وكذلك يفعلون " وشبيه به في سورة " الاعراف " " قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم. يريد أن يخرجكم من أرضكم " تم الكلام، فقال فرعون: " فماذا تأمرون ". وقال ابن شجرة. هو قول بلقيس، فالوقف " وكذلك يفعلون " أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.
[ 196 ]
قوله تعالى: وأنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون (35) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإنى مرسلة إليهم بهدية) هذا من حسن نظرها وتدبيرها، أي إنى أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الاموال، وأغرب عليه بأمور المملكة، فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أرسلت إليه بلبنة من ذهب، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاءوا به. وقال مجاهد: أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية. وروى عن ابن عباس: باثنتى عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زى الغلمان، واثنى عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زى النساء، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة، والاخرى مثقوبة ثقبا معوجا، وبقدح لا شئ فيه، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها. وقيل: كان الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم. وقيل: أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، وضمت إليه رجالا ذوى رأى وعقل، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة، وقد خولف بينهم في اللباس، وقالت للغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء، وقالت للجواري: كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال، فيقال: إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله. وقيل: إن الله أخبر سليمان بذلك، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة، ثم قال: أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر ؟ قالوا: يا نبى الله رأينا في بحر كذا دواب منقطة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصى، فأمر بها فجاءت فشدت على يمين الميدان وعلى يساره، وعلى لبنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفاتها، ثم قال: للجن على بأولادكم، فأقامهم - أحسن ما يكون من الشباب - عن يمين
[ 197 ]
الميدان ويساره. ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه، ووضع له أربعة آلاف كرسى من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره، وأجلس عليها الانبياء والعلماء، وأمر الشياطين والجن والانس أن يصطفوا صفوفا فراسخ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التى لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا ما معهم من الهدايا. وفي بعض الروايات: إن سليمان لما أمرهم بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الارض غير مفروش، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا، فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والانس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدى سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق، وكانت قالت لرسولها: إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهو لنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبى مرسل فتفهم قول ورد الجواب، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدم. وكانت عمدت إلى حقه من ذهب فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة، وخرزة معوجة الثقب، وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة، وعرفني رأس العصا من أسفلها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، وأدخل خيط الخرزة، واملا القدح ماء من ندى ليس من الارض ولا من السماء، فلما وصل الرسول ووقف بين يدى سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال: أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها، فأخبره جبريل بما فيها، ثم أخبرهم سليمان. فقال له الرسول: صدقت، فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة، فسأل سليمان الجن والانس عن ثقبها فعجزوا، فقال للشياطين: ما الرأى فيها ؟ فقالوا: ترسل إلى الارضة، فجاءت الارضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك ؟ قالت: تصير رزقي في الشجرة،
[ 198 ]
فقال لها: لك ذلك. ثم قال سليمان: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبى الله، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك ؟ قالت تجعل رزقي في الفواكه، قال: ذلك لك. ثم ميز بين الغلمان [ والجوارى ] (1). قال السدى: أمرهم بالوضوء، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حدرا، وجعل الجوارى يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى، ومن اليمنى على اليسرى، فميز بينهم بهذا. وقيل: كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثم تحمله على الاخرى، ثم تضرب به على الوجه، والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه، والجارية تصب على بطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، والجارية تصب الماء صبا، والغلام يحدر على يديه، فميز بينهم بهذا. وروى يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف، وقالت: إن كان نبيا فسيعلم الذكور من الاناث، فأمرهم فتوضئوا، فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال هو من الاناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور، ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال: أي الرأسين سبق إلى الارض فهو أصلها، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملا القدح من عرقها، ثم رد سليمان الهدية، فروى أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد، قالت لقومها: هذا أمر من السماء. الثانيه - كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثبت عليها ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الانبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها، على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا، لانه قال لها في كتابه: " ألا تعلوا على وأتوني مسلمين " وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وليس هذا من الباب الذى تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهى الرشوة التى لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال، وهذا ما لم يكن من مشرك. (1) الزيادة من " قصص الانبياء " للثعلبي. (*)
[ 199 ]
الثالثة - فإن كانت من مشرك ففى الحديث " نهيت عن زبد المشركين " يعنى رفدهم وعطاياهم. وروى عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدبلى وغيره، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما، وقال آخرون: ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، والمعنى فيها: أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الاسلام، وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملا على الكف عنه، وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا، فإنه جمع بين الاحاديث. وقيل غير هذا. الرابعة - الهدية مندوب إليها، وهى مما تورث المودة وتذهب العداوة، روى مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ". وروى معاوية بن الحكم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر ". وقال الدارقطني: تفرد به ابن بجير عن أبيه عن مالك، ولم يكن بالرضى، ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري. وعن ابن شهاب قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة " قال ابن وهب: سألت يونس عن السخيمة ما هي فقال: الغل. وهذا الحديث وصله الوقاصى عثمان عن الزهري وهو ضعيف. وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الاسوة الحسنة. ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس، وتكسب المهدى والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس. ولقد أحسن من قال: هدايا الناس بعضهم لبعض * * تولد في قلوبهم الوصالا وتزرع في الضمير هوى وودا * * وتكسبهم إذا حضروا جمالا آخر: إن الهدايا لها حظ إذا وردت * * أحظى من الابن عند الوالد الحدب الخامسة - روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " جلساؤكم شركاؤكم في الهدية " واختلف في معناه، فقيل: هو محمول على ظاهره. وقيل: يشاركهم على وجه
[ 200 ]
الكرم والمروءة، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه. وقال أبو يوسف: ذلك في الفواكه ونحوها. وقال بعضهم: هم شركاؤه في السرور لا في الهدية. والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات، أما إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لاصحابه، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه. السادسة - قوله تعالى: (فناظرة) أي منتظرة (بم يرجع المرسلون) قال قتادة: يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها، قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. وسقطت الالف في " بم " للفرق بين " ما " الخبرية. وقد يجوز إثباتها، قال (1): على ما قام يشتمني لئيم * * كخنزير تمرغ في رماد قوله تعالى: فلما جاء سليمن قال أتمدونن بمال فماءاتن الله خير مماءاتكم بل أنتم بهديتكم تفرحون (36) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صغرون (37) قال يأيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أناءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنى عليه لقوى أمين (39) قال الذى عنده علم من الكتب أناءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رأه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربى ليبلونئ أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فأن ربى غنى كريم (40) قوله تعالى: (فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال) أي جاء الرسول سليمان بالهدية قال: " أتمدونني بمال ". قرأ حمزة ويعقوب والاعمش: بنون واحدة مشددة وياء ثابتة بعدها. (1) هو حسان بن المنذر يهجو بنى عائذ بن عمرو بن مخزوم وقبله: وإن تصلح فإنك عائذي * * وصلح العائذى إلى فساد (*)
[ 201 ]
الباقون بنونين وهو أختيار أبى عبيد، لانها في كل المصاحف بنونين. وقد روى إسحق عن نافع أنه كان يقرأ: " أتمدون " بنون واحدة مخففة بعدها ياء في اللفظ. قال ابن الانباري: فهذه القراءة يجب فيها إثبات الياء عند الوقف، ليصح لها موافقة هجاء المصحف. والاصل في النون التشديد، فخفف التشديد من ذا الموضع كما خفف من: أشهد أنك عالم، وأصله: أنك عالم. وعلى هذا المعنى بنى الذى قرأ: " يشاقون فيهم "، " أتحاجون في الله ". وقد قالت العرب: الرجال يضربون ويقصدون، وأصله يضربوني ويقصدوني، لانه إدغام يضربونني ويقصدونني قال الشاعر: ترهبين والجيد منك لليلى * * والحشا والبغام (1) والعينان والاصل ترهبيني فخفف. ومعنى " أتمدونني " أتزيدونني ما لا إلى ما تشاهدونه من أموالي. قوله تعالى: (فما اتانى الله خير مما اتاكم) أي فما أعطاني من الاسلام والملك والنبوة خير مما أعطاكم، فلا أفرح بالمال. و " آتان " وقعت في كل المصاحف بغير ياء. وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص: " آتانى الله " بياء مفتوحة، فإذا وقفوا حذفوا. وأما يعقوب فإنه يثبتها في الوقف ويحذف في الوصل لالتقاء الساكنين. الباقون بغير ياء في الحالين. (بل أنتم بهديتكم تفرحون) لانكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا. قوله تعالى: (ارجع إليهم) أي قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد، ارجع إليهم بهديتهم. (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) لام قسم والنون لها لازمة. قال النحاس: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: هي لام توكيد وكذا كان عنده أن اللامات كلها ثلاث لا غير، لام توكيد، ولام أمر، ولام خفض، وهذا قول الحذاق من النحويين، لانهم يردون الشئ إلى أصله: وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية. ومعنى " لا قبل لهم بها " أي لا طاقة لهم عليها. (ولنخرجنهم منها) أي من أرضهم (أذلة وهم صاغرون). وقيل: " منها " أي من قرية سبأ. وقد سبق ذكر القرية في قوله: " إن الملوك إذا دخلوا (1) بغام الظبية: صوتها. (*)
[ 202 ]
قرية أفسدوها ". " أذلة " قد سلبوا ملكهم وعزهم. " وهم صاغرون " أي مهانون أذلاء من الصغر وهو الذل إن لم يسلموا، فرجع إليها رسولها فأخبرها، فقالت: قد عرفت أنه ليس بملك ولا طاقة لنا بقتال نبى من أنبياء الله. ثم أمرت بعرشها فجعل في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض، في آخر قصر من سبعة قصور، وغلقت الابواب، وجعلت الحرس عليه، وتوجهت إليه في اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت كل قيل مائة ألف. قال ابن عباس: وكان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشئ حتى يكون هو الذى يسأل عنه، فنظر ذات يوم رهجا (1) قريبا منه، فقال: ما هذا ؟ فقالوا: بلقيس يا نبى الله. فقال سليمان لجنوده - وقال وهب وغيره للجن - (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) وقال عبد الله بن شداد. كانت بلقيس على فرسخ من سليمان لما قال: " أيكم يأتيني بعرشها " وكانت خلفت عرشها بسبأ، ووكلت به حفظة. وقيل: إنها لما بعثت بالهدية بعثت رسلها في جندها لتغافص (2) سليمان عليه السلام بالقتل قبل أن يتأهب سليمان لها إن كان طالب ملك، فلما علم ذلك قال: " أيكم يأتيني بعرشها ". قال ابن عباس: كان أمره بالاتيان بالعرش قبل أن يكتب الكتاب إليها، ولم يكتب إليها حتى جاءه العرش. وقال ابن عطية: وظاهر الآيات أن هذه المقالة من سليمان عليه السلام بعد مجئ هديتها ورده إياها، وبعثه الهدهد بالكتاب، وعلى هذا جمهور المتأولين. واختلفوا في فائد استدعاء عرشها، فقال قتادة: ذكر له بعظم وجودة، فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الاسلام ويحمى أموالهم، والاسلام على هذا الدين، وهو قول ابن جريج. وقال ابن زيد: استدعاه ليريها القدرة التى هي من عند الله، ويجعله دليلا على نبوته، لاخذه من بيوتها دون جيش ولا حرب، و " مسلمين " على هذا التأويل بمعنى مستسلمين، وهو قول ابن عباس. وقال ابن زيد أيضا: أراد أن يختبر عقلها ولهذا قال: " نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى ". وقيل: خافت الجن أن يتزوج بها سليمان عليه السلام فيولد له منها ولد، فلا يزالون في السخرة والخدمة لنسل سليمان فقالت لسليمان (1) الرهج: الغبار. (2) المغافصة: الاخذ على غرة (*)
[ 203 ]
في عقلها خلل، فأراد أن يمتحنها بعرشها. وقيل: [ أراد ] أن يختبر صدق الهدهد في قوله: " ولها عرش عظيم " قاله الطبري. وعن قتادة: أحب أن يراه لما وصفه الهدهد. والقول الاول عليه أكثر العلماء، لقوله تعالى: " قبل أن يأتوني مسلمين ". ولانها لو أسلمت لحظر عليه مالها فلا يؤتى به إلا بإذنها. روى أنه كان من فضة وذهب مرصعا بالياقوت الاحمر والجوهر، وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق. قوله تعالى (قال عفريت من الجن) كذا قرأ الجمهور وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفى " عفرية " ورويت عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه. وفي الحديث: " إن الله يبغض العفرية النفرية ". إتباع لعفرية. قال قتادة: هي الداهية قال النحاس: يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت وعفارية. وقيل: " عفريت " أي رئيس. وقرأت فرقة: " قال عفر " بكسر العين، حكاه ابن عطية، قال النحاس: من قال عفرية جمعه على عفار، ومن قال: عفريت كان له في الجمع ثلاثة أوجه، إن شاء قال عفاريت، وإن شاء قال عفار، لان التاء زائدة، كما يقال: طواغ في جمع طاغوت، وإن شاء عوض من التاء ياء فقال عفارى. والعفريت من الشياطين القوى المارد. والتاء زائدة. وقد قالوا: تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الاذاية. وقال وهب بن منبه: اسم هذا العفريت كودن، ذكره النحاس. وقيل: ذكوان، ذكره السهيلي. وقال شعيب الجبائى: اسمه دعوان. وروى عن ابن عباس أنه صخر الجنى. ومن هذا الاسم قول ذى الرمة: كأنه كوكب في إثر عفرية * * مصوب (1) في سواد الليل منقضب وأنشد الكسائي (2): إذ قال شيطانهم العفريت * * ليس لكم ملك ولا تثبيت (1) وفى ديوانه طبع أوربا " مسوم " بدل " مصوب " وهو بمعنى معلم منقضب والبيت في وصف ثور وحشى، كأن الثور كوكب مصوب منقضب في إثر عفرية في سواد الليل. (2) البيت لرؤبة من قصيدة يمدح بها مسلمة بن عبد الملك (*)
[ 204 ]
وفى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عفريتا من الجن جعل يفتك (1) على البارحة ليقطع على الصلاة وإن الله أمكننى منه فدعته (2) " وذكر الحديث. وفي البخاري " تفلت (3) على البارحة " مكان " جعل يفتك ". وفى الموطأ عن يحيى ابن سعيد أنه قال: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه، فقال جبريل: أفلا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى " فقال: " أعوذ بالله الكريم وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها [ وشر ما ذرأ في الارض، وشر ما يخرج منها ] (4) ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ". قوله تعالى: (أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) يعنى في مجلسه الذى يحكم فيه. (وإنى عليه لقوى أمين) أي قوى على حمله. " أمين " على ما فيه. ابن عباس: أمين على فرج المرأة، ذكره المهدوى. فقال سليمان أريد أسرع من ذلك، ف‍ (- قال الذى عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) أكثر المفسرين على أن الذى عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا وهو من بنى إسرائيل، وكان صديقا يحفظ اسم الله الاعظم الذى إذا سئل به أعطى، وإذا دعى به أجاب. وقالت عائشة رضى الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن اسم الله الاعظم الذى دعا به آصف بن برخيا يا حى يا قيوم " قيل: وهو بلسانهم، أهيا شراهيا، وقال الزهري: دعاء الذى عنده اسم الله الاعظم، يا إلهنا وإله كل شئ إلها واحدا لا إله إلا أنت ايتنى بعرشها، فمثل بين يديه. وقال مجاهد: دعا فقال: يا إلهنا وإله كل شئ يا ذا الجلال والاكرام. قال السهيلي: الذى عنده علم من الكتاب هو آصف ابن برخيا ابن خالة سليمان، وكان عنده اسم الله الاعظم من أسماء الله تعالى. (هامش) * (1) الفتك: الاخذ في غفلة وخديعة. (2) فدعته: أي دفعته دفعا شديدا. وفي رواية " فذعته " بالذال المعجمة ومعناه خنقته. (3) " تفلت " أي تعرض لى فلتة أي بغتة. (4) الزيادة من (الموطأ). (*)
[ 205 ]
وقيل: هو سليمان نفسه، ولا يصح في سياق الكلام مثل هذا التأويل. قال ابن عطية: وقالت فرقة هو سليمان عليه السلام، والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال: " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " كأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على جهة تحقيره: " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " واستدل قائلو هذه المقالة بقول سليمان: " هذا من فضل ربى ". قلت: ما ذكره ابن عطية قاله النحاس في معاني القرآن له، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. قال بحر: هو ملك بيده كتاب المقادير، أرسله الله عند قول العفريت. قال السهيلي: وذكر محمد بن الحسن المقرئ أنه ضبة بن أد، وهذا لا يصح البتة لان ضبة هو ابن أد بن طابخة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد، ومعد كان في مدة بختنصر، وذلك بعد عهد سليمان بدهر طويل، فإذا لم يكن معد في عهد سليمان، فكيف ضبة بن أد وهو بعده بخمسة آباء ؟ ! وهذا بين لمن تأمله. ابن لهيعة: هو الخضر عليه السلام. وقال ابن زيد: الذى عنده علم من الكتاب رجل صالح كان في جزيرة من جزائز البحر، خرج ذلك اليوم ينظر من ساكن الارض ؟ وهل يعبد الله أم لا ؟ فوجد سليمان، فدعا باسم من أسماء الله تعالى فجئ بالعرش. وقول سابع: إنه رجل من بنى إسرائيل اسمه يمليخا كان يعلم اسم الله الاعظم، ذكره القشيرى. وقال ابن أبى بزة: الرجل الذى كان عنده علم من الكتاب اسمه أسطوم وكان عابدا في بنى إسرائيل، ذكره الغزنوى. وقال محمد بن المنكدر: إنما هو سليمان عليه السلام، أما إن الناس يرون أنه كان معه اسم وليس ذلك كذلك، إنما كان رجل من بنى إسرائيل عالم آتاه الله علما وفقها قال: " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " قال: هات. قال: أنت نبى الله ابن نبى الله فإن دعوت الله جاءك به، فدعا الله سليمان فجاءه الله بالعرش. وقول ثامن: إنه جبريل عليه السلام، قاله النخعي، وروى عن ابن عباس. وعلم الكتاب على هذا علمه بكتب الله المنزلة، أو بما في اللوح المحفوظ. وقيل: علم كتاب سليمان إلى بلقيس. قال ابن عطية: والذى
[ 206 ]
عليه الجمهور من الناس أنه رجل صالح من بنى إسرائيل اسمه آصف بن برخيا، روى أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان: يا نبى الله آمدد بصرك فمد بصره نحو اليمن فإذا بالعرش، فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده. قال مجاهد: هو إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئا حسيرا. وقيل: أراد مقدار ما يفتح عينه ثم يطرف، وهو كما تقول: افعل كذا في لحظة عين، وهذا أشبه، لانه إن كان الفعل من سليمان فهو معجزة، وإن كان من آصف أو من غيره من أولياء الله فهى كرامة، وكرامة الولى معجزة النبي. قال القشيرى: وقد أنكر كرامات الاولياء من قال إن الذى عنده علم من الكتاب هو سليمان، قال للعفريت: " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ". وعند هؤلاء ما فعل العفريت فليس من المعجزات ولا من الكرامات، فإن الجن يقدرون على مثل هذا. ولا يقطع جوهر في حال واحدة مكانين، بل يتصور ذلك بأن يعدم الله الجوهر في أقصى الشرق ثم يعيده في الحالة الثانية، وهى الحالة التى بعد العدم في أقصى الغرب أو يعدم الاماكن المتوسطة ثم يعيدها. قال القشيرى: ورواه وهب عن مالك. وقد قيل: بل جئ به في الهواء، قاله مجاهد. وكان بين سليمان والعرش كما بين الكوفة والحيرة. وقال مالك: كانت باليمن وسليمان عليه السلام بالشام. وفي التفاسير انخرق بعرش بلقيس مكانه الذى هو فيه ثم نبع بين يدى سليمان، قال عبد الله بن شداد: وظهر العرش من نفق تحت الارض، فالله أعلم أي ذلك كان. قوله تعالى: (فلما رآه مستقرا عنده) أي ثابتا عنده. (قال هذا من فضل ربى) أي هذا النصر والتمكين من فضل ربى. (ليبلوني) قال الاخفش: المعنى لينظر (أأشكر أم أكفر). وقال غيره: معنى " ليبلوني " ليتعبدنى، وهو مجاز. والاصل في الابتلاء الاختبار أي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها (ومن شكر فأنما يشكر لنفسه) أي لا يرجع نفع ذلك إلا إلى نفسه، حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد منها. والشكر قيد النعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة. (ومن كفر فأن ربى غنى) أي عن الشكر (كريم) في التفضل.
[ 207 ]
قوله تعالى: قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون (41) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين (42) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كفرين (43) قوله تعالى: (قال نكروا لها عرشها) أي غيروه. قيل: جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه. وقيل: غير بزيادة أو نقصان. قال الفراء وغيره: إنما أمر بتنكيره لان الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها. وقيل: خافت الجن أن يتزوج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدا، فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار، فقال: " نكروا لها عرشها " لنعرف عقلها. وكان لسليمان ناصح من الجن، فقال كيف لى أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفها ؟ فقال: أنا أجعل في هذا القصر ماء، وأجعل فوق الماء زجاجا، تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدميها، فهذا هو الصرح الذى أخبر الله تعالى عنه. قوله تعالى: (فلما جاءت) يريد بلقيس، (قيل) لها (أهكذا عرشك قالت كأنه هو) شبهته به لانها خلفته تحت الاغلاق، فلم تقر بذلك ولم تنكر، فعلم سليمان كمال عقلها. قال عكرمة: كانت حكيمة فقالت: " كأنه هو ". وقال مقاتل: عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك لقالت نعم هو، وقاله الحسن بن الفضل أيضا. وقيل: أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة وتؤمن به. وقد قيل هذا في مقابلة تعميتها الامر في باب الغلمان والجوارى. (وأوتينا العلم من قبلها) قيل: هو من قول بلقيس، أي أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش (وكنا مسلمين) منقادين لامره. وقيل: هو من قول سليمان أي أوتينا العلم
[ 208 ]
بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة. وقيل: " وأوتينا العلم " بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وقيل: هو من كلام قوم سليمان. والله أعلم. قوله تعالى: (وصدها ما كانت تعبد من دون الله) الوقف على " من دون الله " حسن، والمعنى: منعها من أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر ف‍ " ما " في موضع رفع. النحاس: المعنى، أي صدها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه [ عن أن تسلم ] (1). ويجوز أن يكون " ما " في موضع نصب، ويكون التقدير: وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله، أي حال بينها وبينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدها الله، أي منعها الله عن عبادتها غيره فحذفت " عن " وتعدى الفعل. نظيره: " واختار موسى قومه " أي من قومه. وأنشد سيبويه (2): ونبئت عبد الله بالجو أصبحت * * كراما مواليها لئيما صميمها وزعم أن المعنى عنده نبئت عن عبد الله. (إنها كانت من قوم كافرين) قرأ سعيد بن جبير " أنها " بفتح الهمزة، وهى في موضع نصب بمعنى لانها. ويجوز أن يكون بدلا من " ما " فيكون في موضع رفع إن كانت " ما " فاعلة الصد. والكسر على الاستئناف. قوله تعالى: قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة فكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب أنى ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمن لله رب العلمين (44) قوله تعالى: (قيل لها ادخلي الصرح) التقدير عند سيبويه: ادخلي إلى الصرح فحذف إلى وعدى الفعل. وأبو العباس يغلطه في هذا، قال: لان دخل يدل على مدخول. وكان الصرح صحنا من زجاج تحته ماء وفيه الحيتان، عمله ليريها ملكا أعظم من ملكها، قاله مجاهد. (1) الزيادة من إعراب القرآن للنحاس. (2) البيت للفرزدق، وأراد بعبد الله القبيلة، وهى عبد الله بن دارم. (*)
[ 209 ]
وقال قتادة: كان من قوارير خلفه ماء " حسبته لجة " أي ماء. وقيل: الصرح القصر، عن أبى عبيدة. كما قال (1): * تحسب أعلامهن الصروحا * وقيل: الصرح الصحن، كما يقال: هذه صرحة الدار وقاعتها، بمعنى. وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصرح كل بناء عال مرتفع من الارض، وأن الممرد الطويل. النحاس: أصل هذا أنه يقال لكل بناء عمل عملا واحدا صرح، من قولهم: لبن صريح إذا لم يشبه ماء، ومن قولهم: صرح بالامر، ومنه: عربي صريح. وقيل: عمله ليختبر قول الجن فيها إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار، قاله وهب بن منبه. فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق: وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن بد من امتثال الامر (وكشفت عن ساقيها) فإذا هي أحسن الناس ساقا، سليمة مما قالت الجن، غير أنها كانت كثيرة الشعر، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها: (إنه صرح ممرد من قوارير) والممرد المحكوك المملس، ومنه الامرد. وتمرد الرجل إذ أبطأ خروج لحيته بعد إدراكه. قاله الفراء. ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق عليها. ورملة مرداء إذا كانت لا تنبت. والممرد أيضا المطول، ومنه قيل للحصن مارد. أبو صالح: طويل على هيئة النخلة. ابن شجرة: واسع في طوله وعرضه. قال: غدوت صباحا باكرا فوجدتهم * * قبيل الضحا في السابرى الممرد أي الدروع الواسعة. وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم، على ما يأتي. ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين: كيف لى أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد ؟ فدله على عمل النورة، فكانت النورة والحمامات من يومئذ. فيروى أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام، قاله الضحاك. (1) البيت لابي ذؤيب وهو بتمامه: على طرق كنحور الظبا * * تحسب أعلامهن الصروحا يقول: هذه الطرق كنحور الظباء في بيانها (*)
[ 210 ]
وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش: تزوجها وردها إلى ملكها: باليمن، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة، فولدت له غلاما سماه داود مات في زمانه. وفي بعض الاخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ساقين وهى من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة " فقالت عائشة: هي أحسن ساقين منى ؟ فقال عليه السلام: " أنت أحسن ساقين منها في الجنة " ذكره القشيرى. وذكر الثعلبي عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرها قال أواه من عذاب الله ". ثم أحبها حبا شديدا وأقرها على ملكها باليمن، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا: سلحون وبينون وعمدان، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام. وحكى الشعبى أن ناسا من حمير حفروا مقبرة الملوك، فوجدوا فيها قبرا معقودا فيه امرأة حلل منسوجة بالذهب، وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب: يا أيها الاقوام عوجوا معا * * وأربعوا في مقبرى العيسا لتعلموا أنى تلك التى * * قد كنت أدعى الدهر بلقيسا شيدت قصر الملك في حمير * * قومي وقدما كان مأنوسا وكنت في ملكى وتدبيره * * أرغم في الله المعاطيسا بعلى سليمان النبي الذى * * قد كان للتوراة دريسا وسخر الريح له مركبا * * تهب أحيانا رواميسا مع ابن داود النبي الذى * * قدسه الرحمن تقديسا وقال محمد بن إسحق ووهب بن منبه: لم يتزوجها سليمان، وإنما قال لها: اختاري زوجا، فقالت: مثلى لا ينكح وقد كان لى من الملك ما كان. فقال: لا بد في الاسلام من ذلك. فاختارت ذا تبع ملك همدان، فزوجه إياها وردها إلى اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان. وقال قوم: لم يرد فيه خبر صحيح
[ 211 ]
لا في أنه تزوجها ولا في أنه زوجها. وهى بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد ابن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وكان جدها الهداهد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدا كلهم ملوك، وكان ملك أرض اليمن كلها، وكان أبوها السرح يقول لملوك الاطراف: ليس أحد منكم كفؤا لى، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقمة وهى بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها. وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كان أحد أبوى بلقيس جنيا " فمات أبوها، واختلف عليها قومها فرقتين، وملكوا أمرهم رجلا فساءت سيرته، حتى فجر بنساء رعيته، فأدركت بلقيس الغيرة، فعرضت عليه نفسها فتزوجها، فسقته الخمر حتى حزت رأسه، ونصبته على باب دارها فملكوها. وقال أبو بكرة: ذكرت بلقيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لا يفلح قوم ولوا أمرهم (1) امرأة ". ويقال: إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات يغتصب نساء الرعية، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج، فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه، فقال هل لك من زوجة ؟ فقال: لا أتزوج أبدا، فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن، فقال لئن تزوجت ابنتى لا يغتصبها أبدا. قال: بل يغتصبها. قال: إنا قوم من الجن لا يقدر علينا، فتزوج ابنته فولدت له بلقيس، ثم ماتت الام وابتنت بلقيس قصرا في الصحراء، فتحدث أبوها بحديثها غلطا، فنمى للملك خبرها فقال له: يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها، وأنت تعلم حبى للنساء ثم أمر بحبسه، فأرسلت بلقيس إليه إنى بين يديك، فتجهز للمسير إلى قصرها، فلما هم بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجوارى من بنات الجن مثل صورة الشمس، وقلن له ألا تستحى ؟ تقول لك سيدتنا أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلك ! فأذن لهم بالانصراف ودخل وحده، وأغلقت عليه الباب وقتلته بالنعال، وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره، فأمروها عليهم، فلم تزل كذلك إلى أن (1) الحديث مروى في البخاري والنسائي والترمذي من طريق أبى بكرة في ابنة كسرى، وذلك انه لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسا ملكوا ابنة كسرى لما هلك قال صلى الله عليه وسلم: " ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ". (*)
[ 212 ]
بلغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام. وذلك أن سليمان لما نزل في بعض منازله قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فأرتفع نحو السماء فأبصر طول الدنيا وعرضها، فأبصر الدنيا يمينا وشمالا، فرأى بستانا لبلقيس فيه هدهد، وكان اسم ذلك الهدهد عفير، فقال عفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال: ومن سليمان ؟ قال: ملك الجن والانس والشياطين والطير والوحش والريح وكل ما بين السماء والارض. فمن أين أنت ؟ قال: من هذه البلاد، مليكها امرأة يقال لها بلقيس، تحت يدها اثنا عشر ألف قيل، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل من سوى النساء والذراري، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، ورجع إلى سليمان وقت العصر، وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة فلم يجده، وكانوا على غير ماء. قال ابن عباس في رواية: وقعت عليه نفحة من الشمس. فقال لوزير الطير: هذا موضع من ؟ قال: يا نبى الله هذا موضع الهدهد قال: وأين ذهب ؟ قال: لا أدرى أصلح الله الملك. فغضب سليمان وقال: " لا عذبنه عذابا شديدا " الآية. ثم دعا بالعقاب سيد الطير وأصرمها وأشدها بأسا فقال: ما تريد يا نبى الله ؟ فقال: على بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون، السماء حتى لزق بالهواء، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدى أحدكم، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن، فانقض نحوه وأنشب فيه مخلبه. فقال له الهدهد: أسألك بالله الذى أقدرك وقواك على إلا رحمتني. فقال له: الويل لك، وثكلتك أمك ! إن نبى الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك. ثم أتى به فاستقبلته النسور وسائر عساكر الطير. وقالوا الويل لك، لقد توعدك نبى الله. فقال: وما قدري وما أنا ! أما استثنى ؟ قالوا: بلى إنه قال: " أو ليأتيني بسلطان مبين " ثم دخل على سليمان فرفع رأسه، وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان عليه السلام. فقال له سليمان: أين كنت عن خدمتك ومكانك ؟ لا عذبنك عذابا شديدا أو لا ذبحنك. فقال له الهدهد: يا نبى الله اذكر وقوفك بين يدى الله بمنزلة وقوفي بين يديك. فاقشعر جلد سليمان وارتعد وعفا عنه. وقال عكرمة: إنما صرف الله سليمان عن ذبح الهدهد أنه
[ 213 ]
كان بارا بوالديه، ينقل الطعام إليهما فيزقهما. ثم قال له سليمان: ما الذى أبطأ بك ؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عن بلقيس وعرشها و قومها حسبما تقدم بيانه. قال الماوردى: والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين، واختلاف الطبعين، وتفارق الحسين (1)، لان الآدمى جسماني والجن روحاني، وخلق الله الآدمى من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، ويمنع الامتزاج مع هذا التباين، ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف. قلت: قد مضى القول في هذا، والعقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك، وإذا نظر في أصل الخلق فأصله الماء على ما تقدم بيانه، ولا بعد في ذلك، والله أعلم. وفى التنزيل " وشاركهم في الاموال والاولاد " وقد تقدم. وقال تعالى: " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " على ما يأتي في " الرحمن ". قوله تعالى: (قالت رب إنى ظلمت نفسي) أي بالشرك الذى كانت عليه، قاله ابن شجرة. وقال سفيان: أي بالظن الذى توهمته في سليمان، لانها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة، وأن سليمان يريد تغريقها فيه. فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن. وكسرت " إن " لانها مبتدأة بعد القول. ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول. (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين). إذا سكنت " مع " فهى حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين. و إذا فتحتها ففيها قولان: أحدهما - أنه بمعنى الظرف اسم. والآخر - أنه حرف خافض مبنى على الفتح، قاله النحاس: قوله تعالى: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صلحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون (45) قال يقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون (46) قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طئركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون (47) (1) في نسخة " الجسمين " (*)
[ 214 ]
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن أعبدوا الله) تقدم معناه. (فإذا هم فريقان يختصمون) قال مجاهد: أي مؤمن وكافر، قال: والخصومة ما قصه الله تعالى في قوله: " أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه " إلى قوله: " كافرون ". وقيل: تخاصمهم أن كل فرقة قالت: نحن على الحق دونكم. قوله تعالى: (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة، المعنى: لم تؤخرون الايمان الذى يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذى يوجب العقاب، فكان الكفار يقولون لفرط الانكار: ايتنا بالعذاب. وقيل: أي لم تفعلون ما تستحقون به العقاب، لا أنهم التمسوا تعجيل العذاب. (لولا تستغفرون الله) أي هلا تتوبون إلى الله من الشرك. (لعلكم ترحمون) لكى ترحموا، وقد تقدم. قوله تعالى: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) أي تشاءمنا. والشؤم النحس. ولا شئ أضر بالرأى ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة. ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقال الشاعر: طيرة الدهر لا ترد قضاء * * فاعذر الدهر لا تشبه بلوم أي يوم يخصه بسعود * * والمنايا ينزلن في كل يوم ليس يوم إلا وفيه سعود * * ونحوس تجرى لقوم فقوم وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وكانت إذا أرادت سفرا نفرت طائرا، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: " أقروا الطير على وكناتها (1) " على ما تقدم بيانه في " المائدة " (2). (قال طائركم عتد الله) أي مصائبكم. (بل أنتم قوم تفتنون) أي تمتحنون. وقيل: تعذبون بذنوبكم. (1) الوكنات (بضم الكاف وفتحها وسكونها) جمع وكنة (بالسكون) وهى عش الطائر ووكره. ويروى: " على مكناتها ". (2) راجع ج‍ 6 ص 60 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 215 ]
قوله تعالى: وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون (48) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصدقون (49) قوله تعالى: (وكان في المدينة) أي في مدينة صالح وهى الحجر (تسعة رهط) أي تسعة رجال من أبناء أشرافهم. قال الضحاك. كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون في الارض ويأمرون بالفساد، فحلسوا عند صخرة عظيمة فقلبها الله عليهم. وقال عطاء بن أبى رباح: بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم، وذلك من الفساد في الارض، وقاله سعيد بن المسيب. وقيل: فسادهم أنهم يتبعون عورات الناس ولا يسترون عليهم. وقيل: غير هذا. و اللازم من الآية ما قاله الضحاك وغيره أنهم كانوا من أوجه القوم وأقناهم و أغناهم، وكانوا أهل كفر ومعاص جمة، وجملة أمرهم أنهم يفسدون ولا يصلحون. والرهط اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم رهط. والجمع أرهط وأراهط. قال: يا بؤس للحرب التى * * وضعت أراهط فاستراحوا وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قدار عاقر الناقة، ذكره ابن عطية. قلت: واختلف في أسمائهم، فقال الغزنوى: وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع وأسلم ودسما وذهيم وذعما وذعيم وقتال وصداق. ابن إسحق: رأسهم قدار بن سالف ومصدع ابن مهرع، فاتبعهم سبعة، هم بلع بن ميلع ودعير بن غنم وذؤاب بن مهرج وأربعة لم تعرف أسماؤهم. وذكر الزمخشري أسماءهم عن وهب بن منبه: الهذيل بن عبد رب، غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفى، قدار بن سالف، وهم الذين سعوا في عقر الناقة، و كانوا عتاة قوم صالح، وكانوا من أبناء أشرافهم. السهيلي: ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يفسدون في الارض ولا يصلحون، وسماهم بأسمائهم، وذلك لا ينضبط برواية، غير أنى أذكره على وجه الاجتهاد
[ 216 ]
والتخمين، ولكن نذكره على ما وجدناه في كتاب محمد بن حبيب، وهم: مصدع بن دهر. ويقال دهم، و قدار بن سالف، وهريم وصواب ورياب وداب ودعما وهرما ودعين بن عمير. قلت: وقد ذكر الماوردى أسماءهم عن ابن عباس فقال: هم دعما ودعيم وهرما وهريم وداب وصواب ورياب ومسطح وقدار، وكانوا بأرض الحجر وهى أرض الشام. قوله تعالى: (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله) يجوز أن يكون " تقاسموا " فعلا مستقبلا وهو أمر، أي قال بعضهم لبعض احلفوا. ويجوز أن يكون ماضيا في معنى الحال كأنه قال: قالوا متقاسمين بالله، ودليل هذا التأويل قراءة عبد الله: " يفسدون في الارض ولا يصلحون. تقاسموا بالله " وليس فيها " قالوا ". " لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه " قراءة العامة بالنون فيهما واختاره أبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي: بالتاء فيهما، وضم التاء واللام على الخطاب أي أنهم تخاطبوا بذلك، واختاره أبو عبيد. وقرأ مجاهد وحميد بالياء فيهما، وضم الياء واللام على الخبر. والبيات مباغتة العدو ليلا. ومعنى " لوليه " أي لرهط صالح الذى له ولاية الدم. (ما شهدنا مهلك (1) أهله) أي ما حضرنا، ولا ندرى من قتله وقتل أهله. (وإنا لصادقون) في إنكارنا لقتله. والمهلك بمعنى الا هلاك، ويجوز أن يكون الموضع. وقرأ [ عاصم ] (2) والسلمى (بفتح الميم واللام) أي الهلاك، يقال: ضرب يضرب مضربا أي ضربا. وقرأ المفضل وأبو بكر: (بفتح الميم وجر اللام) فيكون اسم المكان كالمجلس لموضع الجلوس، ويجوز أن يكون مصدرا، كقوله تعالى: " إليه مرجعكم " أي رجوعكم. قوله تعالى: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50) فانظر كيف كان عقبة مكرهم أنا دمرنهم وقومهم أجمعين (51) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لاية لقوم يعلمون (52) وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون (53) (1) " مهلك " بضم الميم وفتح اللام قراءة الجمهور. (2) في الاصل: " وقرأ حفص "... الخ " وحفص يقرأ بفتح الميم وكسر اللام. (*)
[ 217 ]
(ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون) مكرهم ما روى أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الايام بعد عقر الناقة، وقد أخبرهم صالح بمجئ العذاب، اتفقوا وتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا ويقتلوه وأهله المختصين به، قالوا: فإذا كان كاذبا في وعيده أو قعنا به ما يستحق، وإن كان صادقا كنا عجلناه قبلنا، وشفينا نفوسنا، قاله مجاهد وغيره. قال ابن عباس: أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة، فامتلات بهم دار صالح، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فقتلهم الملائكة رضخا بالحجارة فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها. وقال قتادة: خرجوا مسرعين إلى صالح، فسلط عليهم ملك بيده صخرة فقتلهم. وقال السدى: نزلوا على جرف من الارض، فانهار بهم فأهلكهم الله تحته. وقيل: اختفوا في غار قريب من دار صالح، فانحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا، فهذا ما كان من مكرهم. ومكر الله مجازاتهم على ذلك. (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) أي بالصيحة التى أهلكتهم. وقد قيل: إن هلاك الكل كان بصيحة جبريل. والاظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة. وكان الاعمش والحسن وابن أبى إسحق وعاصم وحمزة والكسائي يقرءون: " أنا " بالفتح، وقال ابن الانباري: فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على " عاقبة مكرهم " لان " أنا دمرناهم " خبر كان. ويجوز أن تجعلها في موضع رفع على الاتباع للعاقبة. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب من قول الفراء، وخفض من قول الكسائي على معنى: بأنا دمرناهم ولانا دمرناهم. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب على الاتباع لموضع " كيف " فمن هذه المذاهب لا يحسن الوقف على " مكرهم ". وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: " إنا دمرناهم " بكسر الالف على الاستئناف، فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على " مكرهم ". قال النحاس: ويجوز أن تنصب " عاقبة " على خبر " كان " ويكون " إنا " في موضع رفع على أنها اسم " كان ". ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة، والتقدير: هي إنا دمرناهم، قال أبو حاتم: وفي حرف أبى " أن دمرناهم " تصديقا لفتحها.
[ 218 ]
قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) قراءة العامة بالنصب على الحال عند الفراء والنحاس، أي خالية عن أهلها خرابا ليس بها ساكن. وقال الكسائي وأبو عبيدة: " خاوية " نصب على القطع، مجازه: فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الالف واللام نصب على الحال، كقوله: " وله الدين واصبا ". وقرأ عيسى بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري: بالرفع على أنها خبر عن " تلك " و " بيوتهم " بدل من " تلك ". ويجوز أن تكون " بيوتهم " عطف بيان و " خاوية " خبر عن " تلك ". ويجوز أن يكون رفع " خاوية " على أنها خبر ابتداء محذوف، أي هي خاوية، أو بدل من " بيوتهم " لان النكرة تبدل من المعرفة. (إن في ذلك لآية لقوم يعلون. وأنجينا الذين آمنوا) بصالح (وكانوا يتقون) الله ويخافون عذابه. قيل: آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. والباقون خرج بأبدانهم - في قول مقاتل وغيره - خراج مثل الحمص، وكان في اليوم الاول أحمر، ثم صار من الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود. وكان عقر الناقة يوم الاربعاء، وهلاكهم يوم الاحد. قال مقاتل: فقعت تلك الخراجات، وصاح جبريل بهم خلال ذلك صيحة فخمدوا، وكان ذلك ضحوة. وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح، فسميت حضرموت. قال الضحاك: ثم بنى الاربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضورا، على ما تقدم بيانه في قصة أصحاب الرس. قوله تعالى: ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفحشة وأنتم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55) فما كان جواب قومه إلآ أن قالوآ أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56) فأنجينه وأهله إلا امرأته قدرنها من الغبرين (57) وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين (58)
[ 219 ]
قوله تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه) أي وأرسلنا لوطا، أو اذكر لوطا. " إذ قال لقومه " وهم أهل سدوم. وقال لقومه: (أتأتون الفاحشة) الفعله القبيحة الشنيعة. (وأنتم تبصرون) أنها فاحشة، وذلك أعظم لذنوبكم. وقيل: يأتي بعضكم بعضا وأنتم تنظرون إليه. وكانوا لا يستترون عتوا منهم وتمردا. (أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء) أعاد ذكرها لفرط قبحها وشنعتها. (بل أنتم قوم تجهلون) إما أمر التحريم أو العقوبة. واختيار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من " أئنكم " فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها، لانها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام. قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالو أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) أي عن أدبار الرجال. يقولون ذلك استهزاء منهم، قاله مجاهد. وقال قتادة: عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء. (فانجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين) وقرأ عاصم: " قدرنا " مخففا والمعنى واحد. يقال قد قدرت الشئ قدرا وقدرا وقدرته. (وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) أي من أنذر فلم يقبل الانذار. وقد مضى بيان هذا في " الاعراف " (1) و " هود " (2). قوله تعالى: قل الحمد لله وسلم على عباده الذين اصطفئ آلله خير أما يشركون (59) أمن خلق السموت والارض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون (60) أمن جعل الارض قرارا وجعل خللها أنهرا وجعل لها روسى وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثركم لا يعلمون (61) * (هامش) (1) راجع ج‍ 7 ص 247 طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج‍ 9 ص 81 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 220 ]
قوله تعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) قال الفراء قال أهل المعاني: قيل للوط " قل الحمد لله " على هلاكهم. وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا وقالوا: هو مخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي قل الحمد لله على هلاك كفار الامم الخالية. قال النحاس: وهذا أولى، لان القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره. وقيل: المعنى، أي " قل " يا محمد " الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى " يعنى أمته عليه السلام. قال الكلبى: اصطفاهم الله بمعرفته وطاعته. وقال ابن عباس وسفيان: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شئ وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التى يبغيها المستمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الادب، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهانى، وغير ذلك من الحوادث التى لها شأن. قوله تعالى: " الذين اصطفى " اختار، أي لرسالته وهم الانبياء عليهم السلام، دليله قوله تعالى: " وسلام على المرسلين ". (آلله خير) وأجاز أبو حاتم " أألله خير " بهمزتين. النحاس: ولا نعلم أحدا تابعه على ذلك، لان هذه المدة إنما جئ بها فرقا بين الاستفهام والخبر، وهذه ألف التوقيف، و " خير " ههنا ليس بمعنى أفضل منك، وإنما هو مثل قول الشاعر (1): أتهجوه ولست له بكف ء * * فشركما لخيركما الفداء فالمعنى فالذي فيه الشر منكما للذى فيه الخير الفداء. ولا يجوز أن يكون بمعنى من لانك إذا قلت: فلان شر من فلان ففى كل واحد منهما شر. وقيل: المعنى، الخير في هذا (1) هو حسان بن ثابت رضى الله عنه.
[ 221 ]
أم في هذا الذى تشركونه في العبادة ! وحكى سيبويه: السعادة أحب إليك أم الشقاء، وهو يعلم أن السعادة أحب إليه. وقيل: هو على بابه من التفضيل، والمعنى: آلله خير أم ما تشركون، أي أثوابه خير أم عقاب ما تشركون. وقيل: قال لهم ذلك، لانهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الاصنام خير فخاطبهم الله عزوجل على اعتقادهم. وقيل: اللفظ لفظ الاستفهام ومعناه الخبر. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب: " يشركون " بياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب، وهو اختيار أبى عبيد وأبى حاتم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه [ الآية ] يقول: " بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ". قوله تعالى: (أمن خلق السموات والارض) قال أبو حاتم: تقديره، آلهتكم خير أم من خلق السماوات والارض، وقد تقدم. ومعناه: قدر على خلقهن. وقيل: المعنى، أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والارض ؟. فهو مردود على ما قبله من المعنى، وفيه معنى التوبيخ لهم، والتنبيه على قدرة الله عزوجل وعجز آلهتهم. (فأنبتنا به حدائق بهجة) الحديقة البستان الذى عليه حائط. والبهجة المنظر الحسن. قال الفراء: الحديقة البستان المحظر عليه حائط، وإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة. وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل ذات بهجة، والبهجة الزينة والحسن، يبهج به من رآه. (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) " ما " للنفي. ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا، أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم تحت قدرتهم، أن ينبتوا شجرها، إذ هم عجزة عن مثلها، لان ذلك إخراج الشئ من العدم إلى الوجود. قلت: وقد يستدل من هذا على منع تصوير شئ سواء كان له روح أم لم يكن، وهو قول مجاهد. ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم: " قال الله عزوجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة " رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عزوجل " فذكره، فعم بالذم والتهديد والتقبيح كل من تعاطى تصوير شئ مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه
[ 222 ]
فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع هذا واضح. وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به. وقد قال ابن عباس للذى سأل أن يصنع الصور: إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له خرجه مسلم أيضا. والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا. وسيأتى لهذا مزيد بيان في " سبأ " إن شاء الله تعالى ثم قال على جهة التوبيخ: " أإله مع الله " أي هل معبود مع الله يعينه على ذلك. (بل هم قوم يعدلون) بالله غيره. وقيل: " يعدلون " عن الحق والقصد، أي يكفرون. وقيل: " إله " مرفوع ب‍ " مع " تقديره أمع الله ويلكم إله. والوقف على " مع الله " حسن. قوله تعالى: (أمن جعل الارض قرارا) أي مستقرا. (وجعل خلالها أنهارا) أي وسطها مثل " وفجرنا خلالهما نهرا ". (وجعل لها رواسي) يعنى جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة. (وجعل بين البحرين حاجزا) مانعا من قدرته لئلا يختلط الاجاج بالعذب. وقال ابن عباس: سلطانا من قدرته فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يغير هذا. والحجز المنع. (أإله مع الله) أي إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غيره فلم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع. (بل أكثرهم لا يعلمون) يعنى كأنهم يجهلون الله فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية. قوله تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض أءله مع الله قليلا ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمت البر والبحر ومن يرسل الريح بشرا بين يدى رحمته أءله مع الله تعلى الله عما يشركون (63) أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والارض أءله مع الله قل هاتوا برهنكم إن كنتم صدقين (64)
[ 223 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود. وقال السدى: الذى لا حول له ولا قوة. وقال ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله. وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري هو المفلس. وقال سهل ابن عبد الله: هو الذى إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها. وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك با لله أن تدعو لى فأنا مضطر، قال: إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. قا الشاعر: وإنى لادعو الله والامر ضيق * * على فما ينفك أن يتفرجا ورب أخ سدت عليه وجوهه * * أصاب لها لما دعا الله مخرجا الثانية - وفي مسند أبى داو الطيالسي عن أبى بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر: " اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لى شأني كله لا إله إلا أنت ". الثالثة - ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الاخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللاخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر، كما قال تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين " وقوله: " فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى: " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين " فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه. وفي الحديث: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده " ذكره صاحب الشهاب، وهو حديث صحيح. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن " واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب "
[ 224 ]
وفي كتاب الشهاب: " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالى لانصرنك ولو بعد حين " وهو صحيح أيضا. وخرج الآجرى من حديث أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " فإنى لا أردها ولو كانت من فم كافر " فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه، وإجابة لا خلاصه وإن كان كافرا، وكذلك إن كان فاجرا في دينه، ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته. وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له، أو اقتصاص منه، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عزوجل: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا " وأكد سرعة إجابتها بقول: " تحمل على الغمام " ومعناه والله أعلم أن الله عزوجل يوكل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام، فيعرجوا بها إلى السماء، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم، فيظهر منه معاونة المظلوم، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته، رحمة له. وفي هذا تحذير من الظلم جملة، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره، حيث قال على لسان نبيه في صحيح مسلم وغيره: " يا عبادي إنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " الحديث. فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر، لانه منقطع عن الاهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته. فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجاء، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه، وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته، وإياسه عن بر ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته. قوله تعالى (ويكشف السوء) أي الضر. وقال الكلبى: الجور. (ويجعلكم خلفاء الارض) أي سكانها يهلك قوما وينشئ آخرين. وفي كتاب النقاش: أي ويجعل أولادكم خلفا منكم. وقال الكلبى: خلفا من الكفار ينزلون أرضهم، وطاعة الله بعد كفرهم. (أإله مع الله) على جهة التوبيخ، كأنه قال أمع الله ويلكم إله، ف‍ " إله " مرفوع ب‍ " مع ".
[ 225 ]
ويجوز أن يكون مرفوعا بإضمار أإله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه. والوقف على " مع الله " حسن. (قليلا ما تذكرون) قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب: " يذكرون " بالياء على الخبر، كقول: " بل أكثرهم لا يعلمون " و " تعالى الله عما يشركون " فأخبر فيما قبلها وبعدها، واختاره أبو حاتم. الباقون بالتاء خطابا لقوله: " ويجعلكم خلفاء الارض ". قوله تعالى: (أمن يهديكم) أي يرشدكم الطريق (في ظلمات البر والبحر) إذا سافرتم إلى البلاد التى تتوجهون إليها بالليل والنهار. وقيل: وجعل مفاوز التى لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات، لانه ليس لها علم يهتدى به. (ومن يرسل الرياح نشرا (1) بين يدى رحمته) أي قدام المطر باتفاق أهل التأويل. (أإله مع الله) يفعل ذلك ويعينه عليه. (تعالى الله عما يشركون) من دونه. قوله تعالى: (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده) كانوا يقرون أنه الخالق الرازق فألزمهم الاعادة، أي إذا قدر الابتداء فمن ضرورته القدرة على الاعادة، وهو أهون عليه. (أإله مع الله) يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد: (قل هاتوا برهانكم) أي حجتكم أن لى شريكا، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الاشياء غير الله (إن كنتم صادقين). قوله تعالى: قل لا يعلم من في السموت والارض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون (65) بل ادرك علمهم في الاخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66) قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله) وعن بعضهم: أخفى غيبه على الخلق، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة. و " من " في موضع رفع، والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فإنه بدل من " من " قاله الزجاج. * (هامش) (1) " نشرا " بالنون على قراءة تافع. وفيه سبع قراءات، راجع ج‍ 7 ص 922 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 226 ]
الفراء: وإنما رفع ما بعد " إلا " لان ما قبلها جحد، كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك، والمعنى واحد. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء، يعنى في الكلام. قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما، وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية. قلت: وقد مضى هذا في " الانعام " (1) مستوفى. وقالت عائشة: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: " قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله " خرجه مسلم. وروى أنه دخل على الحجاج منجم فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال: كم في يدى من حصاة ؟ فحسب المنجم ثم قال: كذا، فأصاب. ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدى ؟ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ، ثم قال: أيها الامير أظنك لا تعرف عددها، قال: لا. قال: فإنى لا أصيب. قال: فما الفرق ؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب و " لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله " وقد مضى هذا في " ال عمران " (2) والحمد لله. قوله تعالى: (بل ادارك علمهم في الآخرة) هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والاعمش وحمزة والكسائي. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد: " بل أدرك " من الادراك. وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والاعمش (3) " بل أدرك " غير مهموز مشددا. وقرأ ابن محيصن: " بل أأدرك " على الاستفهام. وقرأ ابن عباس: " بلى " بإثبات الياء " أدارك " بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها، قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس. وزعم هرون القارئ أن قراءة أبى " بل تدارك علمهم " القراءة الاولى والاخيرة معناهما واحد، لان أصل " ادارك " تدارك، أدغمت الدال في التاء وجئ بألف الوصل، وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة، لانهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم (1) راجع ج‍ 7 ص 1 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج‍ 4 ص 17 طبعة أولى أو ثانية. (3) لم تذكر كتب التفسير الاخرى الاعمش في هذه القراءة. ولعل هذه رواية أخرى عنه غير الرواية المتقدمة. (*)
[ 227 ]
به. والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة، فقالوا تكون وقالوا لا تكون. القراءة الثانية فيها قولان: أحدهما أن معناه كمل في الآخرة، وهو مثل الاول، قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم، لانهم كانوا في الدنيا مكذبين. والقول الآخر أنه على معنى الانكار، وهو مذهب أبى إسحق، واستدل على صحة هذا القول بأن بعده " بل هم منها عمون " أي لم يدرك علمهم علم الآخرة. وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم. والقراءة الثالثة: " بل ادرك " فهى بمعنى " بل ادارك " وقد يجئ افتعل وتفاعل بمعنى، ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا. القراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الانكار، كما تقول: أأنا قاتلتك ؟ ! فيكون المعنى لم يدرك، وعليه ترجع قراءة ابن عباس، قال ابن عباس: " بلى أدارك علمهم في الآخرة " أي لم يدرك. قال الفراء: وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروى ما لا أروى وأنت تكذبه. وقراءة سابعة: " بل ادرك " بفتح اللام، عدل إلى الفتحة لخفتها. وقد حكى نحو ذلك عن قطرب في " قم الليل " فإنه عدل إلى الفتح. وكذلك و (بع الثوب) ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ " بل أأدرك " بهمزتين " بل آأدرك " بألف بينهما " بلى أأدرك " " أم تدارك " " أم أدرك " فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة " بل أأدرك " على الاستفهام ؟ قلت: هو استفهام على وجه الانكار لادراك علمهم، وكذلك من قرأ " أم أدرك " و " أم تدارك " لانها أم التى بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ " بلى أأدرك " على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها، لان العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. " في الآخرة " في شأن الآخرة ومعناها. (بل هم في شك منها) أي في الدنيا. (بل هم منها عمون) أي بقلوبهم واحدهم عمو. وقيل: عم، وأصله عميون حذفت الياء لا لتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها.
[ 228 ]
قوله تعالى: وقال الذين كفروا أءذا كنا تربا وءاباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وءاباؤنا من قبل إن هذا إلا أسطير الاولين (68) قوله تعالى: (وقال الذين كفروا) يعنى مشركي مكة. (إذا كنا ترابا وآباؤنا آئنا (1) لمخرجون) هكذا يقرأ نافع هنا وفي سورة " العنكبوت ". وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة أيضا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد. وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب " أئذا " بمهزتين " إننا " بنونين على الخبر في هذه السورة، وفي سورة " العنكبوت " باستفهامين، قال أبو جعفر النحاس: القراءة " إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون " موافقة للخط حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال وهذا معنى كلامه: " إذا " ليس باستفهام و " آينا " استفهام وفيه " إن " فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله ؟ ! وكيف يجوز أن يعمل ما بعد " إن " فيما قبلها ؟ ! وكيف يجوز غدا إن زيدا خارج ؟ ! فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره. وقال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبا العباس عن آ ية من القرآن صعبة مشكلة، وهى قول الله تعالى: " وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد " فقال: إن عمل في " إذا " " ينبئكم " كان محالا، لانه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد " إن " كان المعنى صحيحا وكان خطأ في العربية أن يعمل ما قبل " إن " فيما بعدها، وهذا سؤال بين رأيت أيذكر في السورة التي هو فيها، فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى: " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " وبقوله تعالى: " أفإن مت فهم الخالدون " وهذا الرد على أبى عمرو وعاصم وحمزة (1) قال ابن عطيه: (ممدود الالف) ومثله في " البحر " و " روح المعاني ". (*)
[ 229 ]
وطلحة والاعرج لا يلزم منه شئ، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا، والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شئ واحد، ومعنى: " أفإن مت فهم الخالدون " أفإن مت خلدوا. ونظير هذا: أزيد منطلق، ولا يقال: أزيد أمنطلق، لانها بمنزلة شئ واحد وليس كذلك الآية، لان الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام، والاول كلام يصلح فيه الاستفهام، فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الاول فقرأ: " أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا " فحذفه من الثاني، لان في الكلام دليلا عليه بمعنى الانكار. قوله تعالى: (لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين) تقدم في سورة " المؤمنين " (1). وكانت الانبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير، وكل ما هو آت فقريب. قوله تعالى: قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عقبة المجرمين (69) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون (70) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صدقين (71) قوله تعالى: (قل سيروا في الارض) أي " قل " لهؤلاء الكفار " سيروا " في بلاد الشام والحجازو اليمن. (فانظروا) أي بقلوبكم وبصائركم (كيف كان عاقبة المجرمين) المكذبين لرسلهم. (ولا تحزن عليهم) أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا (ولا تكن في ضيق) في حرج (مما يمكرون) نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة وقد تقدم ذكرهم (2). وقرئ " في ضيق " بالكسر وقد مضى في آخر " النحل " (3). (ويقولون متى هذا الوعد) أي يجيئنا العذاب بتكذيبنا (إن كنتم صادقين). (1) راجع ج‍ 12 ص 145 طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج‍ 58 10 طبعة أولى أو ثانية. (3) راجع ج‍ 10 ص 203 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 230 ]
قوله تعالى: قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذى تستعجلون (72) وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (73) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (74) وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتب مبين (75) قوله تعالى: (قل عسى أن يكون ردف لكم) أي اقترب لكم ودنا منكم " بعض الذي تستعجلون " أي من العذاب، قاله ابن عباس. وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره، وتكون اللام أدخلت لان المعنى اقترب لكم ودنا لكم. أو تكون متعلقة بالمصدر. وقيل: معناه معكم. وقال ابن شجرة: تبعكم، ومنه ردف المرأة، لانه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبى ذؤيب: عاد السواد بياضا في مفارقه * * لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا قال الجوهرى: وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى، قال خزيمة بن مالك بن نهد: إذا الجوزاء أردفت الثريا * * ظننت بآل فاطمة الظنونا يعنى فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين. وقال الفراء: " ردف لكم " دنا لكم ولهذا قال " لكم ". وقيل: ردفه وردف له بمعنى فتزاد اللام للتوكيد، عن الفراء أيضا. كما تقول نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته، وكلت له ووزنت له، ونحو ذلك. " بعض الذى تستعجلون " من العذاب فكان ذلك يوم بدر. وقيل: عذاب القبر. (وإن ربك لذو فضل على الناس) في تأخير العقوبة وإدرار الرزق (ولكن أكثرهم لا يشكرون) فضله ونعمه. قوله تعالى: (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم) أي تخفى صدورهم (وما يعلنون) يظهرون في الامور. وقرأ ابن محيصن وحميد: " ما تكن " من كننت الشئ إذا سترته هنا. وفي " القصص " تقديره: ما تكن صدورهم عليه، وكأن الضمير الذى في الصدور كالجسم الساتر. ومن قرأ: " تكن " فهو المعروف، يقال: أكننت الشئ إذا أخفيته في نفسك.
[ 231 ]
قوله تعالى: (وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين) قال الحسن: الغائبة هنا القيامة. وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والارض، حكاه النقاش. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا عام. وإنما دخلت الهاء في " غائبة " إشارة إلى الجمع، أي. ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه. وقيل: أي كل شئ هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للاجل المؤجل له، فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه. والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته. قوله تعالى: إن هذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون (76) وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين (77) إن ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم (78) فتوكل على الله إنك على الحق المبين (79) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهدى العمى عن ضللتهم إن تسمع إلا من يؤمن بإيتنا فهم مسلمون (81) قوله تعالى: (إن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذى هم فيه يختلفون) وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الاشياء حتى لعن بعضهم بعضا فنزلت. والمعنى: إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والانجيل، وما سقط من كتبهم من الاحكام. (وإنه) يعنى القرآن (لهدى ورحمة للمؤمنين) خص المؤمنين لانهم المنتفعون به. (إن ربك يقضى بينهم بحكمه) أي يقضى بين بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازى المحق والمبطل. وقيل: يقضى بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه. (وهو العزيز) المنيع الغالب الذي لا يرد أمره (العليم) الذي لا يخفى عليه شئ.
[ 232 ]
قوله تعالى: (فتوكل على الله) أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه، فإنه ناصرك. (إنك على الحق المبين) أي الظاهر. وقيل: المظهر لمن تدبر وجه الصواب. (إنك لا تسمع الموتى) يعنى الكفار لتركهم التدبر، فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل. وقيل: هذا فيمن علم أنه لا يؤمن. (ولا تسمع الصم الدعاء) يعنى الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون، نظيره " صم بكم عمى " كما تقدم. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبى إسحق وعباس عن أبى عمرو " ولا يسمع " بفتح الياء والميم " الصم " رفعا على الفاعل. الباقون " تسمع " مضارع أسمعت " الصم " نصبا. مسألة: وقد احتجت عائشة رضى الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية، فنظرت في الامر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أنتم بأسمع منهم " قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين. قلت: روى البخاري رضى الله عنه، حدثنى عبد الله بن محمد سمع روح بن عبادة قال حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبى طلحة أن نبى الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، قالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا، قال فقال عمر: يا رسول الله ! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما. خرجه مسلم
[ 233 ]
أيضا. قال البخاري: حدثنا عثمان قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ثم قال: " إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ثم قرأت (1) " إنك لا تسمع الموتى " حتى قرأت الآية. وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الارواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه، إلى غير ذلك، فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه. وهذا واضح وقد بيناه في كتاب " التذكرة ". قوله تعالى: (وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم) أي كفرهم، أي ليس في وسعك خلق الايمان في قلوبهم. وقرأ حمزة: " وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم " كقوله: " أفأنت تهدي العمي ". الباقون: " بهادي العمي " وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي " الروم " مثله. وكلهم وقف على " بهادي " بالياء في هذه السورة وبغير ياء في " الروم " أتباعا للمصحف، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء. وأجاز الفراء وأبو حاتم: " وما أنت بهاد العمي " وهي الاصل. وفي حرف عبد الله " وما أن تهدي العمي ". (إن تسمع) أي ما تسمع. (إلا من يؤمن بآياتنا) قال آبن عباس: أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد. قوله تعالى: وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بإيتنا لا يوقنون (82) ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بإيتنا فهم يوزعون (83) حتى إذا جاءو قال أكذبتم بإيتى ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون (84) ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون (85) ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لايت لقوم يؤمنون (86) (1) أي عائشة رضي الله عنها. (*)
[ 234 ]
قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم) اختلف في معنى وقع القول وفي الدابة، فقيل: معنى " وقع القول عليهم " وجب الغضب عليهم، قاله قتادة. وقال مجاهد: أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون. وقال أبن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما: إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم. وقال عبد الله بن مسعود: وقع القول يكون بموت العلماء، وذهاب العلم، ورفع القرآن. قال عبد الله: أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال: يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا، وينسون لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع القول عليهم. قلت: أسنده أبو بكر البزار قال حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي قال حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبدالله بن مسعود رضى الله عنه عن أبيه أنه قال: أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه، وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع، قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال: فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية، وذلك حين يقع القول عليهم. وقيل: القول هو قوله تعالى: " ولكن حق القول مني لاملان جهنم " فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء، فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذ تقوم القيامة، ذكره القشيري. وقول سادس: قالت حفصه بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله تعالى: " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم " فقال: أوحى الله إلى نوح " إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف. قال النحاس: وهذا من حسن الجواب، لان الناس ممتحنون ومؤخرون لان فيهم مؤمنين وصالحين، ومن قد علم الله عزوجل أنه سيؤمن ويتوب، فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية، فإذا زال هذا وجب القول عليهم، فصاروا كقوم نوح حين قال الله تعالى: " إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ".
[ 235 ]
قلت: وجميع الاقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد. والدليل عليه آخر الآية " إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " وقرئ " أن " بفتح الهمزة وسيأتي. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها [ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خير ] (1) طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الارض " وقد مضى. واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا، قد ذكرناه في كتاب " التذكرة " ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفي. فأول الاقوال أنه فصيل ناقة صالح وهو أصحها - والله أعلم - لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: " لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمانا طويلا ثم تحرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية " يعني مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فأرفض الناس منها شتى ومعا وثبتت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري وولت في الارض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الاموال ويصطلحون في الامصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول يا كافر اقض حقي ". وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قول: " وهي ترغو " والرغاء إنما هو للابل، وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم أنطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عزوجل. وروي أنها دابة مزغبة شعراء، ذات قوائم طولها ستون ذراعا، ويقال إنها الجساسة، وهو قول عبد الله بن عمر وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين، وهي في السحاب وقوائمها في الارض. وروي أنها جمعت من خلق (1) الزيادة من صحيح مسلم. (*)
[ 236 ]
كل حيوان. وذكر الماوردي والثعلبي رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعا - الزمخشري: بذراع آدم عليه السلام - ويخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان، فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء فيبيض وجهه، وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه، قاله ابن الزبير رضي الله عنهما. وفي كتاب النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي أقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة. وحكى الماوردي عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الدابة فقال: أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية. قال الماوردي: وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الانس وإن لم يصرح به. قلت: ولهذا - والله أعلم - قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن الاقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة: ويحيا من حي عن بينة. قال شيخنا الامام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب المفهم له: وإنما كان عند هذا القائل الاقرب لقوله تعالى: " تكلمهم " وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة، ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث، لان وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتقع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الانسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الارض أن يسموه باسم الانسان أو بالعالم أو بالامام إلى أن يسمى بدابة، وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء، فالاولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الامور. قلت: قد رفع الاشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه. واختلف من أي موضع تخرج، فقال عبد الله بن عمر: تخرج من جبل الصفا بمكة، يتصدع فتخرج منه. قال عبد الله ابن عمرو نحوه وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها
[ 237 ]
لفعلت وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الارض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر " وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش، ذكره المهدوي. وعن ابن عباس أنها تخرج من شعب فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الارض لم تخرجا، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام. وعن حذيفة: تخرج ثلاث خرجات، خرجة في بعض البوادي ثم تكمن، وخرجة في القرى يتقاتل فيها الامراء حتى تكثر الدماء، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها الزمخشري: تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون، وقوم يقفون نظارة. وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة. وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام. وقيل: من أرض الطائف، قال أبو قبيل: ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال: من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس. وقيل: من بعض أودية تهامة، قال ابن عباس. وقيل: من صخرة من شعب أجياد، قال عبد الله بن عمرو. وقيل: من بحر سدوم، قاله وهب بن منبه. ذكر هذه الاقوال الثلاثة الاخيرة الماوردي في كتابه. وذكر البغوي أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الاغر - وسئل عنه يحيي بن معين فقال ثقة - عن عطية العوفي عن ابن عمر قال تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها. قلت: فهذه أقوال الصحابة والتابعي في خروج الدابة وصفتها، وهي ترد قول من قال من المفسرين: إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم " ذكره الماوردي. " تكلمهم " بضم التاء وشد اللام المكسورة - من الكلام - قراءة العامة، يدل عليه قراءة أبي " تنبئهم ". وقال السدي: تكلمهم ببطلان الاديان سوى
[ 238 ]
دين الاسلام. وقيل: تكلمهم بما يسوءهم. وقيل: تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه عن قرب وبعد " إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " أي بخروجي، لان خروجها من الآيات. وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وقرأ أبو زرعة وابن عباس والحسن وأبو رجاء: " تكلمهم " بفتح التاء من الكلم وهو الجرح قال عكرمة: أي تسمهم. وقال أبو الجوزاء: سألت أبن عباس عن هذه الآية " تكلمهم " أو " تكلمهم " ؟ فقال: هي والله تكلمهم وتكلمهم، تكلم المومن وتكلم الكافر والفاجر أي تجرحه. وقال أبو حاتم: " تكلمهم " كما تقول تجرحهم، يذهب إلى أنه تكثير من " تكلمهم ". (إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) وقرأ الكوفيون وأبن أبي إسحاق ويحيي: " أن " بالفتح. وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة: " إن " بكسر الهمزة. قال النحاس: في المفتوحة قولان وكذا المكسورة، قال الاخفش: المعنى بأن وكذا قرأ ابن مسعود " بأن " وقال أبو عبيدة: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها، أي تخبرهم أن الناس. وقرأ الكسائي والفراء: " إن الناس " بالكسر على الاستئناف وقال الاخفش: هي بمعنى تقول إن الناس، يعني الكفار. " بأياتنا لا يوقنون " يعني بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانا ولم يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها، والله أعلم. قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) أي زمرة وجماعة. (ممن يكذب بآياتنا) يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق. (فهم يوزعون) أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب. قال الشماخ: وكم وزعنا من خميس جحفل * * وكم حبونا من رئيس مسحل وقال قتادة: " يوزعون " أي يرد أولهم على آخرهم. (حتى إذا جاءوا قال) أي قال الله (أكذبتم بإياتى) التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي. (ولم تحيطوا بها علما) أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتهم جاهلين غير مستدلين. (أماذا كنتم تعملون) تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا
[ 239 ]
ما فيها. (ووقع القول عليهم بما ظلموا) أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم. (فهم لا ينطقون) أي ليس لهم عذر ولا حجة. وقيل: يختم على أفواههم فلا ينطقون، قاله أكثر المفسرين. قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) أي يستقرون فينامون. (والنهار مبصرا) أي يبصر فيه لسعي الرزق. (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) بالله. ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته أي ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا. قوله تعالى: ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموت ومن في الارض إلا من شاء الله وكل أتوه دخرين (87) وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذى أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون (88) من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذء امنون (89) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (90) قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور) أي واذكر يوم أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور. ومذهب الفراء أن المعنى: وذلكم يوم ينفخ في الصور، وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد: كهيئة البوق وقيل: هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في " الانعام " (1) بيانه وما للعلماء في ذلك. (ففزع من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله) قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لما فرغ من خلق السماوات خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة " قلت: يا رسول الله ما الصور ؟ قال: (1) راجع ج‍ 7 ص 20 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 240 ]
" قرن والله عظيم والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماء والارض فينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الاولى نفخة الفزع والثانية نفحة الصعق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين " وذكر الحديث. ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم، وصححه ابن العربي. وقد ذكرته في كتاب " التذكرة " وتكلمنا عليه هنالك، وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لان الامرين لا زمان لهما، أي فزعوا فزعا ماتوا منه، أو إلى نفخة البعث وهو اختيار القشيري وغيره، فإنه قال في كلامه على هذه الآية: والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون: " من بعثنا من مرقدنا "، ويعاينون من الامور ما يهولهم ويفزعهم، وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء. قاله قتادة وقال الماوردي: " ويوم ينفخ في الصور " هو يوم النشور من القبور، قال وفي هذا الفزع قولان: أحدهما: أنه الاسراع والاجابة إلى النداء من قولهم: فزعت إليك في كذا إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك والقول الثاني: إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن، لانهم أزعجوا من قبورهم وخافوا. وهذا أشبه القولين. قلت: والسنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبد الله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث، خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب " التذكرة " وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان، قال الله تعالى: " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله " فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة. وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بين النفختين أربعون سنة الاولى يميت الله بها كل حي والاخرى يحيي الله بها كل ميت " فإن قيل: فإن قوله تعالى: " يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة " إلى أن قال: " فإنما هي زجرة واحدة " وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث قيل له: ليس كذلك، وإنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم، كذلك قال ابن عباس ومجاهد
[ 241 ]
وعطاء وابن زيد وغيرهم. قال مجاهد: هما صيحتان أما الاولى فتميت كل شئ بإذن الله، وأما الاخرى فتحيي كل شئ بإذن الله. وقال عطاء: " الراجفة " القيامة و " الرادفة " البعث. وقال ابن زيد: " الراجفة " الموت و " الرادفة " الساعة. والله أعلم. " إلا من شاء الله " ثم اختلف في هذا المستثنى من هم. ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون إنما يصل الفزع إلى الاحياء، وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري: الانبياء داخلون في جملتهم، لان لهم الشهادة مع النبوة وقيل: الملائكة. قال الحسن: استثني طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين. قال مقاتل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. وقيل: الحور العين. وقيل: هم المؤمنون، لان الله تعالى قال عقب هذا: " من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ". وقال بعض علمائنا: والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل. قلت: خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر العربي فليعول عليه، لانه نص في التعيين وغيره اجتهاد. والله أعلم. وقيل غير هذا ما يأتي في " الزمر ". وقوله " ففزع من في السموات " ماض و " ينفخ " مستقبل فيقال: كيف عطف ماض على مستقبل ؟ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى، لان المعنى: إذا نفخ في الصور ففزع. " إلا من شاء الله " نصب على الاستثناء. (وكل أتوه داخرين) قرأ أبو عمر وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير: " آتوه " جعلوه فعلا مستقبلا. وقرأ الاعمش ويحيي وحمزة وحفص عن عاصم: " وكل أتوه " مقصورا على الفعل الماضي، وكذلك قرأه أبن مسعود وعن قتادة " وكل أتاه داخرين " قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحق في القراءات من [ قرأ ] (2) " وكل أتوه " وحده على لفظ " كل " ومن قرأ " أتوه " جمع على معناها، وهذا القول غلط قبيح، لانه إذا قال: " وكل أتوه " فلم يوحد وإنما جمع، (1) الزيادة من " إعراب القرآن " للنحاس. (*)
[ 242 ]
ولو وحد لقال: " أتاه " ولكن من قال: " أتوه " جمع على المعنى وجاء به ماضيا لانه رده إلى " ففزع " ومن قرأ " وكل آتوه " حمله على المعنى أيضا وقال: " آتوه " لانها جملة منقطعة من الاول قال ابن نصر: حكى عن أبى إسحق رحمه الله ما لم يقله، ونص أبى إسحق: " وكل أتوه داخرين " ويقرأ " أتوه " فمن وحد فللفظ " كل " ومن جمع فلمعناها. يريد ما أتى في القرآن أو غيره من توحيد خبر " كل " فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى، فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوى: ومن قرأ " وكل أتوه داخرين " فهو فعل من الاتيان وحمل على معنى " كل " دون لفظها، ومن قرأ " وكل آتوه داخرين " فهو اسم الفاعل من أتى. يدلك على ذلك قول تعالى: " وكلهم آتيه يوم القيامة فراد " ومن قرأ " وكل أتاه " حمله على لفظ " كل " دون معناها وحمل " داخرين " على المعنى، ومعناه صاغرين، عن ابن عباس وقتادة. وقد مضى في " النحل " (1). قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) قال ابن عباس: أي قائمة وهى تسير سيرا حثيثا. قال القتبى: وذلك أن الجال تجمع وتسير، فهى في رؤية العين كالقائمة وهى تسير، وكذلك كل شئ عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر، لكثرته وبعد ما بين أطرافه، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير. قال النابغة في وصف جيش: بأرعن مثل الطود تحسب أنهم * * وقوف لحاج والركاب تهملج قال القشيرى: وهذا يوم القيامة، أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب، والسحاب المتراكم يظن أنها واقفة وهى تسير، أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شئ، فقال الله تعالى: " وسيرت الجبال فكانت سرابا " ويقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الارض منها، وإبراز ما كانت تواريه، فأول الصفات الاندكاك وذلك قبل الزلزلة، ثم تصير كالعهن المنفوش، وذلك إذا صارت السماء كالمهل، وقد جمع الله بينهما فقال: " يوم تكون السماء كالمهل (1) راجع ج‍ 10 ص 111 طبعة أو أو ثانية. (*)
[ 243 ]
وتكون الجبال كالعهن ". والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تنقطع بعد أن كانت كالعهن. والحالة الرابعة أن تنسف لانها مع الاحوال المتقدمة قارة في مواضعها والارض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز، فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها. والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الارض فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة، وهى بالحقيقة مارة إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة. والحالة السادسة أن تكون سرابا فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها كالسراب قال مقاتل: تقع على الارض فتسوى بها. ثم قيل هذا مثل. قال الماوردى: وفيما ضرب له ثلاثة أقوال: أحدها أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال، وهى آخذة بحظها من الزوال كالسحاب، قاله سهل بن عبد الله. الثاني: أنه مثل ضربه الله للايمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء. الثالث: أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش. (صنع الله الذى أتقن كل شئ) أي هذا من فعل الله، و [ ما ] هو فعل منه فهو متقن. و " ترى " من رؤية العين ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين. والاصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الراء فتحركت الراء وحذفت الهمزة، وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن، إلا أن التخفيف لازم لترى. وأهل الكوفة يقرءون: " تحسبها " بفتح السين وهو القياس، لانه من حسب يحسب إلا أنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل، فتكون على فعل يفعل مثل نعم ينعم وبئس يبئس وحكى يئس ييئس من السالم، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الاحرف " وهى تمر مر السحاب " تقديره مرا مثل مر السحاب، فأقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف مقام المضاف إليه، فالجبال تزال من أماكنها من على وجه الارض وتجمع وتسير كما تسير السحاب، ثم تكسر فتعود إلى الارض كما قال: " وبست الجبال بسا ". (صنع الله) عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر، لانه لما قال عزوجل: " وهى تمر مر السحاب " دل على أنه قد صنع ذلك صنعا ويجوز النصب على الاغراء، أي انظروا صنع الله. فيوقف
[ 244 ]
على هذا على " السحاب " ولا يوقف عليه على التقدير الاول. ويجوز رفعه على تقدير ذلك صنع الله. " الذى أتقن كل شئ " أي أحكمه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله من عمل عملا فأتقنه ". وقال قتادة: معناه أحسن كل شئ والاتقان الاحكام، يقال رجل تقن أي حاذق بالاشياء وقال الزهري: أصله من ابن تقن، وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل، يقال: أرمى من ابن تقن ثم يقال لكل حاذق بالاشياء تقن. (إنه خبير بما تفعلون) بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء. قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها) قال ابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهما: الحسنة لا إله إلا الله. وقال أبو معشر: كان إبراهيم يحلف بالله الذى لا إله إلا هو ولا يستثنى أن الحسنة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال على بن الحسين بن على رضى الله عنهم: غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له: والذى نفسي بيده إنها الكلمة التى قال الله تعالى " ومن جاء بالحسنة فله خير منها " وروى أبو ذر قال: قلت يا رسول الله أوصني. قال: " اتق الله وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها " قال قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال: " من أفضل الحسنات " وفي رواية قال: " نعم هي أحسن الحسنات " ذكره البيهقى، وقال قتادة: " من جاء بالحسنة " بالاخلاص والتوحيد. وقيل: أداء الفرائض كلها. قلت: إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها - على ما تقدم بيانه في سورة إبراهيم - فقد أتى بالتوحيد والاخلاص والفرائض. " فله خير منها " قال ابن عباس: أي وصل إليه الخير منها، وقاله مجاهد. وقيل: فله الجزاء الجميل وهو الجنة. وليس " خير " للتفضيل. قال عكرمة وابن جريج: أما أن يكون له خير منها يعنى من الايمان فلا، فإنه ليس شئ خيرا ممن قال لا إله إلا الله ولكن له منها خير وقيل: " فله خير منها " للتفضيل أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد،
[ 245 ]
قاله ابن عباس. وقيل: ويرجع هذا إلى الاضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرا، وبالايمان في مدة يسيرة الثواب الابدي، قاله محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد. (وهم من فزع يومئذ آمنون) قرأ عاصم وحمزة والكسائي " فزع يومئذ " بالاضافة. قال أبو عبيد: وهذا أعجب إلى لانه أعم التأويلين أن يكون الامن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذا قال: " من فزع يومئذ " صار كأنه فزع دون فزع. قال القشيرى: وقرئ " من فزع " بالتنوين ثم قيل يعنى به فزعا واحدا كما قال: " لا يحزنهم الفزع الاكبر ". وقيل: عنى الكثرة لانه مصدر والمصدر صالح للكثرة. قلت: فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى. قال المهدوى: ومن قرأ: " من فزع يومئذ " بالتنوين انتصب " يومئذ " بالمصدر الذى هو " فزع " ويجوز أن يكون صفة لفزع ويكون متعلقا بمحذوف، لان المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها، ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذى هو " آمنون ". والاضافة على الاتساع في الظروف، ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لانه ظرف زمان، وليس الاعراب في ظرف الزمان متمكنا، فلما أضيف إلى غير متمكن ولا معرب بنى. وأنشد سيبويه: على حين ألهى الناس جل أمورهم * * فندلا زريق المال ندل الثعالب (1) قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة) أي بالشرك، قاله ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن، وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك في هذه الآية. (فكبت وجوههم في النار) قال ابن عباس: ألقيت. وقال الضحاك: طرحت، ويقال كببت الاناء أي قلبته على وجهه، واللازم من أكب، وقلما يأتي هذا في كلام العرب. (هل تجزون) أي يقال لهم هل تجزون. ثم يجوز أن يكون من قول الله، ويجوز أن يكون من قول الملائكة. (إلا ما كنتم تعلمون) أي إلا جزاء أعمالكم. (1) زريق: اسم قبيلة وهو منادى. والندل هنا الاخذ باليدين. والندل أيضا السرعة في السير. " ندل الثعالب ": يقال في المثل: (هو أكسب من ثعلب) لانه يدخر لنفسه، ويأتى على ما يعدو عليه من الحيوان إذا أمكنه. والبيت في وصف تجار وقيل لصوص، وقبله: يمرون بالدهنا خفافا عيابهم * * ويرجعن من دارين بجر الحقائب (*)
[ 246 ]
قوله تعالى: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلوا القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92) وقل الحمد لله سيريكم ءايته فتعرفونها وما ربك بغفل عما تعملون (93) قوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها) يعنى مكة التى عظم الله حرمتها، أي جعلها حرما آمنا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر، على ما تقدم بيانه في غير موضع وقرأ ابن عباس: " التى حرمها " نعتا للبلدة. وقراءة الجماعة " الذى " وهو في موضع نصب نعت ل‍ " رب " ولو كان بالالف واللام لقلت المحرمها، فإن كانت نعتا للبلدة قلت المحرمها هو، لا بد من إظهار المضمر مع الالف واللام، لان الفعل جرى على غير من هول، فإن قلت الذى حرمها لم تحتج أن تقول هو. (وله كل شئ) خلقا وملكا. (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي من المنقادين لامره، الموحدين له. (وأن أتلو القرآن) أي وأمرت أن أتلو القرآن، أي أقرأه. (فمن اهتدى) فله ثواب هدايته. (ومن ضل) فليس على إلا البلاغ، نسختها آيه القتال. قال النحاس. " وأن أتلو " نصب بأن. قال الفراء: وفي إحدى القراءتين " وأن أتل " وزعم أنه في موضع جزم بالامر فلذلك حذف منه الواو، قال النحاس: ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة، وهى مخالفة لجميع المصاحف. قوله تعالى: (وقل الحمد لله) أي على نعمه وعلى ما هدانا (سيريكم آياته) أي في أنفسكم وفي غيركم كما قال: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ". (فتعرفونها) أي دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسكم وفي السماوات وفي الارض، نظيره قوله تعالى: " وفي الارض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون ". (وما ربك بغافل عما تعملون)
[ 247 ]
قرأ أهل المدينة وأهل الشام وحفص عن عاصم بالتاء على الخطاب، لقوله: " سيريكم آياته فتعرفونها " فيكون الكلام على نسق واحد. الباقون بالياء على أن يرد إلى ما قبله " فمن اهتدى " فأخبر عن تلك الآية. كملت السورة والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. سورة القصص مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وقال ابن عباس وقتادة إلا آية نزلت بين مكة والمدينة. وقال ابن سلام: بالجحفة في وقت، هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهى قوله عزوجل: " إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ". وقال مقاتل: فيها من المدنى " الذين آتيناهم الكتاب " إلى قوله: " لا نبتغى الجاهلين ". وهى ثمان وثمانون آية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: طسم (1) تلك ءايت الكتب المبين (2) نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (3) إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين (4) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم في الارض ونرى فرعون وهمن وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (6) قوله تعغالى: (طسم) تقدم الكلام فيه. (تلك آيات الكتاب المبين) " تلك " في موضع رفع بمعنى هذه تلك و " آيات " بدل منها. ويجوز أن يكون في موضع نصب ب‍ " نتلو " و " آيات " بدل منها أيضا، وتنصبها كما تقول: زيدا ضربت. و " المبين "
[ 248 ]
أي المبين بركته وخيره، والمبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الانبياء، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: بأن الشئ وأبان [ أتضح ] (1). (نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) ذكر قصة موسى عليه السلام وفرعون وقارون، وأحتج على مشركي قريش، وبين أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره، وكذلك قرابة قريش لمحمد، وبين أن فرعون علا في الارض وتجبر، فكان ذلك من كفره، فليجتنب العلو في الارض، وكذلك التعزز بكثرة المال، وهما من سيرة فرعون وقارون " نتلو عليك " أي يقرأ عليك جبريل بأمرنا " من نبإ موسى وفرعون " أي من خبرهما و " من " للتبعيض و " من نبإ " مفعول " نتلو " أي نتلو عليك بعض خبرهما، كقوله تعالى: " تنبت بالدهن ". ومعنى " بالحق " أي بالصدق الذى لا ريب فيه ولا كذب. " لقوم يؤمنون " أي يصدقون بالقرآن ويعلمون أنه من عند الله، فأما من لم يؤمن فلا يعتقد أنه حق. قوله تعالى: (إن فرعون علا في الارض) أي استكبر وتجبر، قاله ابن عباس والسدى وقال قتادة: علا في نقسه عن عبادة ربه بكفره وادعى الربوبية وقيل: بملكه وسلطانه فصار عاليا على من تحت يده. " في الارض " أي أرض مصر. (وجعل أهلها شيعا) أي فرقا وأصنافا في الخدمة. قال الاعشى: وبلدة يرهب الجواب دجلتها * * حتى تراه عليها يبتغى الشيعا (يستضعف طائفة منهم) أي من بنى إسرائيل. (يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين) تقدم القول في هذا في " البقرة " (2) عند قوله: " يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم " الآية، وذلك لان الكهنة قالوا له: إن مولودا يولد في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال المنجمون له ذلك، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك. قال (1) في الاصل: " أفصح " وهو تحريف. والتصويب من كتب اللغة. (2) راجع ج‍ 1 ص 384 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 249 ]
الزجاج: العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل. وقيل: جعلهم شيعا فاستسخر كل قوم من بنى إسرائيل في شغل مقرد. " إنه كان من المفسدين " أي في الارض بالعمل والمعاصي والتجبر. قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض) أي نتفضل عليهم وننعم. وهذه حكاية مضت. (ونجعلهم أئمة) قال ابن عباس: قادة في الخير. مجاهد: دعاة إلى الخير. قتادة: ولاة وملوكا، دليله قوله تعالى: " وجعلكم ملوكا " قلت: وهذا أعم فإن الملك إمام يؤتم به ومقتدى به. (ونجعلهم الوارثين) لملك فرعون، يرثون ملكه، ويسكنون مساكن القبط وهذا معنى قوله تعالى: " وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا " قوله تعالى: (ونمكن لهم في الارض) أي نجعلهم مقتدرين على الارض وأهلها حتى يستولى عليها، يعنى أرض الشام ومصر. (ونرى فرعون وهامان وجنودهما) أي ونريد أن نرى فرعون وقرأ الاعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف " ويرى " بالياء على أنه فعل ثلاثى من رأى " فرعون وهامان وجنودهما " رفعا لانه الفاعل الباقون " نرى " بضم النون وكسر الراء على أنه فعل رباعى من أرى يرى، وهي على نسق الكلام، لان قبله " ونريد " وبعده " ونمكن ". " فرعون وهامان وجنودهما " نصبا بوقوع الفعل وأجاز الفراء " ويرى فرعون " بضم الياء وكسر الراء وفتح الياء بمعنى ويرى الله فرعون (منهم ما كانوا يحذرون) وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدى رجل من بنى إسرائيل فكانوا على وجل " منهم " فأراهم الله " ما كانوا يحذرون " قال قتاد: كان حازيا لفرعون - والحازى المنجم - قال إنه سيولد في هذه السنة مولود يذهب بملكك، فأمر فرعون بقتل الولدان في تلك السنة. وقد تقدم.
[ 250 ]
قوله تعالى: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافى ولا تحزني إنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين (7) فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهمن وجنودهما كانوا خطئين (8) وقالت امرأت فرعون قرت عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9) قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) قد تقدم معنى الوحي ومحاملة. واختلف في هذا الوحي إلى أم موسى، فقالت فرقة: كان قولا في منامها وقال قتادة: كان إلهاما وقالت فرقة: كان بملك يمثل لها، قال مقاتل أتاها جبريل بذلك، فعلى هذا هو وحي إعلام لا إلهام وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للاقرع والابرص والاعمى في الحديث المشهور، خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكرناه في سورة " براءة " (1) وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلمت على عمران بن حصين فلم يكن بذلك نبيا واسمها أيارخا وقيل أيارخت فيما ذكر السهيلي. وقال الثعلبي: واسم أم موسي لوحا (2) بنت هاند بن لاوى بن يعقوب. " أن أرضعيه " وقرأ عمر ابن عبدالعزير: " أن ارضعيه " بكسر النون وألف وصل، حذف همزة أرضع تخفيفا ثم كسر النون لالتقاء الساكنين قال مجاهد: وكان الوحي بالرضاع قبل الولادة. وقال غيره بعدها. قال السدي: لما ولدت أم موسى أمرت أن ترضعه عقيب الولادة وتصنع به بما في الآية، لان الخوف كان عقيب الولادة وقال ابن جريج: أمرت بإرضاعه أربعة أشهر في بستان، فإذا خافت أن يصيح - لان لبنها لا يكفيه - صنعت به هذا. والاول أظهر إلا أن الآخر يعضده قوله: " فإذا خفت عليه " و " إذا " لما يستقبل من الزمان، فيروى أنها (1) راجع ج‍ 8 ص 188 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) وقيل في اسمها أيضا: يوخابذ. وقيل: يوخابيل، وقيل غير ذلك. (*)
[ 251 ]
أتخذت له تابوتا من بردى وقيرته بالقار من داخله، ووضعت فيه موسى وألقته في نيل مصر. وقد مضى خبره في " طه " قال ابن عباس: إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، فسلط الله عليهم القبط، وساموهم سوء العذاب، إلى أن نجاهم الله على يد موسى قال وهب: بلغني أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألف وليد ويقال: تسعون ألفا ويروي أنها حين أقتربت وضربها الطلق، وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالي بني إسرائيل مصافية لها، فقالت: لينفعني حبك اليوم، فعالجتها فلما وقع إلى الارض هالها نور بين عينيه، وأرتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لاقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله قط، فاحفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور نارا لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها، فطلبوا فلم يلفوا شيئا، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما. قوله تعالى: (ولا تخافى) فيه جهان: أحدهما - لا تخافي عليه الغرق، قاله ابن زيد الثاني - لا تخافي عليه الضيعة، قاله يحيي بن سلام. (ولا تحزني) فيه أيضا وجهان: أحدهما - لا تحزني لفراقه، قاله ابن زيد الثاني - لا تحزني أن يقتل، قاله يحيى بن سلام فقيل: إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار، وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في اليم بعد أن أرضعته أربعة أشهر. وقال آخرون: ثلاثة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر، في حكاية الكلبى. وحكي أنه لما فرغ النجار من صنعة التابوت نم إلى فرعون بخبره، فبعث معه من يأخذه، فطمس الله عينيه وقلبه فلم يعرف الطريق، فأيقن أنه المولود الذي يخاف منه فرعون، فآمن من ذلك الوقت، وهو مؤمن آل فرعون، ذكره الماوردي. وقال ابن عباس: فلما توارى عنها ندمها الشيطان وقالت في نفسها: لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إلي من إلقائه في البحر، (1) راجع ج‍ 11 ص 195 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 252 ]
فقال الله تعالى: " إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " أي إلى أهل مصر. حكى الاصمعي قال سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول: أستغفر الله لذنبي كله * * قبلت إنسانا بغير حله مثل الغزال ناعما في دله * * فانتصف الليل ولم أصله فقلت: قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت: أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: " وأوحينا إلى ام موسى أن أرضعيه " الآية، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) لما كان التقاطهم إياه يؤدي إلى كونه لهم عدوا وحزنا، فاللام في " ليكون " لام العاقبة ولام الصيرورة، لانهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا. فذكر الحال بالمآل، كما قال الشاعر: وللمنايا تربي كل مرضعة * * ودورنا لخراب الدهر نبنيها وقال آخر: فللموت تغذو الوالدات سخالها * * كما لخراب الدهر تبنى المساكن أي فعاقبة البناء الخراب وإن كان في الحال مفروحا به والالتقاط وجود الشئ من غير طلب ولا إرادة، والعرب تقول لما وجدته من غير طلب ولا إرادة: التقطه التقاطا. ولقيت فلانا التقاطا. قال الراجز (1): * ومنهل وردته التقاطا * ومنه اللقطة. وقد مضى بيان ذلك من الاحكام في سورة " يوسف " (2) بما فيه كفاية وقرأ الاعمش ويحيي والمفضل وحمزة والكسائي وخلف " وحزنا " بضم الحاء وسكون الزاي. الباقون بفتحهما واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قال التفخيم (3) فيه. وهما لغتان مثل العدم (1) هو نقادة الاسدي، كما في اللسان مادة " لقط ". (2) راجع ج‍ 9 ص 134 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (3) التفخيم في اصطلاح القراء: الفتح. (*)
[ 253 ]
والعدم، والسقم والسقم، والرشد والرشد. (إن فرعون وهامان) وكان وزيره من القبط. (وجنودهما كانوا خاطئين) أي عاصين مشركين آثمين. قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه) يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته، فقالت لفرعون: " قرة عين لي ولك " أي هو قرة عين لي ولك ف‍ " قرة " خبر أبتداء مضمر، قاله الكسائي وقال النحاس: وفيه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحق، [ قال ] (1): يكون رفعا بالابتداء والخبر " لا تقلتوه " وإنما بعد لانه يصير المعنى أنه معروف بأنه قرة عين. وجوازه أن يكون المعنى: إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتلوه. وقيل: تم الكلام عند قوله: " ولك ". النحاس: والدليل على هذا أن في قراءة عبد الله بن مسعود " وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك ". ويجوز النصب بمعنى لا تقتلوا قرة عين لي ولك. وقالت: " لا تقتلوه " ولم تقل لا تقتله فهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون، وكما يخبرون عن أنفسهم. وقيل قالت " لا تقتلوه " فإن الله أتى به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل. (عسى أن ينفعنا) فنصيب منه خيرا (أو نتخذه ولدا) وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه - على ما تقدم - قالوا له إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك، فأخذ بني إسرائيل بذبح الاطفال، فرأى أنه يقطع نسلهم فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما، فولد هارون في عام الاستحياء، وولد موسى في عام الذبح. قوله تعالى: (وهم لا يشعرون) هذا ابتداء كلام من الله تعالى، أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وقيل: هو من كلام المرأة، أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه، ولا يشعرون إلا أنه ولدنا. واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون " قرة عين لي ولك " فقالت فرقة: كان ذلك عند التقاطه التابوت لما أشعرت فرعون به، (1) الزيادة من " إعراب القرآن " للنحاس. (*)
[ 254 ]
ولما أعلمته سبق إلى فهمه أنه من بني إسرائيل، وأن ذلك قصد به ليتخلص من الذبح فقال: علي بالذباحين، فقالت امرأته ما ذكر، فقال فرعون: أما لي فلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له " وقال السدي: بل ربته حتى درج، فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده، فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ يذبحه، وحينئذ خاطبته بهذا، وجربته له في الياقوتة والجمرة، فاحترق لسانه وعلق العقدة على ما تقدم في " طه " (1) قال الفراء: معت محمد بن مروان الذي يقال له السدي يذكر عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس أنه قال: إنما قالت " قرة عين لي ولك لا " ثم قالت: " تقتلوه " قال الفراء: وهو لحن، قال ابن الانباري: وإنما حكم عليه باللحن لانه لو كان كذلك لكان تقتلونه بالنون، لان الفعل المستقبل مرفوع حتى يدخل عليه الناصب أو الجازم، فالنون فيه علامة الرفع قال الفراء: ويقويك على رده قراءة عبد الله بن مسعود " وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك " بتقديم " لا تقتلوه ". قوله تعالى: وأصبح فؤاد أم موسى فرغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين (10) وقالت لاخته قصيه فبصررت به عن جنب وهم لا يشعرون (11) وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له نصحون (12) فرددنه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (13) ولما بلغ أشده واستوئ اتينه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين (14) (1) راجع ج‍ 11 ص 192 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 255 ]
قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عمران الجوني وأبو عبيدة: " فارغا " أي خاليا من ذكر كل شئ في الدنيا إلا من ذكر موسى وقال الحسن أيضا وابن إسحاق وابن زيد: " فارغا " من الوحي إذ أوحى إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر " لا تخافي ولا تحزني " والعهد الذي عهده إليها أن يرده ويجعله من المرسلين، فقال لها الشيطان: يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فغرقتيه أنت ! ثم بلغها أن ولدها وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وقال أبو عبيدة: " فارغا " من الغم والحزن لعلمها أنه لم يغرق، وقاله الاخفش أيضا وقال العلاء بن زياد: " فارغا " نافرا الكسائي: ناسيا ذاهلا وقيل: والها، رواه سعيد بن جبير ابن القاسم عن مالك: هو ذهاب العقل، والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش، ونحوه قوله تعالى: " وأفئدتهم هواء " أي جوف لا عقول لها كما تقدم في سورة " إبراهيم " (1). وذلك أن القلوب مراكز العقول، ألا ترى إلى قوله تعالى: " فتكون لهم قلوب يعقلون بها " ويدل عليه قراءة من قرأ: " فزعا ". النحاس: أصح هذه الاقوال الاول، والذين قالوه أعلم بكتاب الله عزوجل، فإذا كان فارغا من كل شئ إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي. وقول أبي عبيدة فارغا من الغم غلط قبيح، لان بعده " إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ". روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كادت تقول وا ابناه ! وقرأ فضالة ابن عبيد الانصاري رضي الله عنه ومحمد بن السميقع وأبو العالية وابن محيصن " فزعا " بالفاء والعين المهملة من الفزع، أي خائفة عليه أن يقتل ابن عباس: " قرعا " بالقاف والراء والعين المهملتين، وهى راجعة إلى قراءة الجماعة " فارغا " ولذلك قيل للرأس الذي لا شعر عليه: أقرع، لفراغه من الشعر وحكي قطرب أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: " فرغا " بالفاء والراء والغين المعجمة من غير ألف، وهو كقولك: هدرا وباطلا، يقال: (1) راجع ج‍ 9 ص 377 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 256 ]
دماؤهم بينهم فرغ أي هدر، والمعنى بطل قلبها وذهب وبقيت لا قلب لها من شدة ما ورد عليها وفي قوله تعالى: " وأصبح " وجهان: أحدهما - أنها ألقته ليلا فأصبح فؤادها في النهار فارغا. الثاني - ألقته نهارا ومعنى: " وأصبح " أي صار، كما قال الشاعر: مضى الخلفاء بالامر الرشيد * * وأصبحت المدينة للوليد (إن كادت) أي إنها كادت، فلما حذفت الكناية سكنت النون فهي " إن " المخففة ولذلك دخلت اللام في " لتبدي به " أي لتظهر أمره، من بدا يبدو إذا ظهر قال ابن عباس: أي تصيح عند إلقائه: وا ابناه السدي: كادت تقول لما حملت لارضاعه وحضانته هو ابني وقيل: إنه لما شب سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون، فشق عليها وضاق صدرها، وكادت تقول هو ابني وقيل: الهاء في " به " عائدة إلى الوحي تقديره: إن كانت لتبدي بالوحي الذي أو حيناه إليها أن نرده عليها والاول أظهر قال ابن مسعود: كادت تقول أنا أمه وقال الفراء: إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها. (لولا أن ربطنا على قلبها) قال قتاده: بالايمان. السدى: بالعصمة. وقيل: بالصبر. والربط على القلب: إلهام الصبر. (لتكون من المؤمنين) أي من المصدقين بوعد الله حين قال لها: " إنا رادوه إليك ". وقال " لتبدي به " و لم يقل: لتبديه، لان حروف الصفات قد تزاد في الكلام، تقول: أخذت الحبل و بالحبل. وقيل: أي لتبدي القول به. (قوله تعالى: (وقالت لاخته قصيه) أي قالت أم موسى لاخت موسى: اتبعي أثره حتى تعلمي خبره. واسمها مريم بنت عمران، وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام، ذكره السهيلي والثعلبي وذكر الماوردي عن الضحاك: أن اسمها كلثمة وقال السهيلي: كلثوم، جاء ذلك في حديث رواه الزبير بن بكار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: " أشعرت أن الله زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون " فقالت: الله أخبرك بهذا ؟ فقال: " نعم " فقالت: بالرفاء و البنين. (فبصرت به عن جنب) أي بعد، قاله مجاهد ومنه الاجنبي.
[ 257 ]
قال الشاعر (1): فلا تحرمني نائلا عن جنابة * * فإني امرؤ وسط القباب غريب وأصله عن مكان جنب. وقال ابن عباس: " عن جنب " أي عن جانب وقرأ النعمان ابن سالم: " عن جانب " أي عن ناحية وقيل: عن شوق، وحكى أبو عمرو بن العلاء إنها لغة لجذام، يقولون: جنبت إليك أي أشتقت وقيل: " عن جنب " أي عن مجانبة لها منه فلم يعرفوا أنها منه بسبيل وقال قتادة: جعلت تنظر إليه بناحية [ كأنها ] (2) لا تريده، وكان يقرأ: " عن جنب " بفتح الجيم وإسكان النون. (وهم لا يشعرون) أنها أخته لانها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه. قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل) أي منعناه من الارتضاع من قبل، أي من قبل مجئ أمه وأخته. و " المراضع " جمع مرضع ومن قال مراضيع فهو جمع مرضاع، ومفعال يكون للتكثير، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المؤنث والمذكر لانه ليس بجار على الفعل، ولكن من قال مرضاعة جاء بالهاء للمبالغة، كما يقال مطرابة. قال ابن عباس: لا يؤتى بمرضع فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع، قال أمرؤ القيس: جالت لتصرعني فقلت لها اقصري * * إني امرؤ صرعي عليك حرام (3) أي ممتنع. فلما رأت أخته ذلك قالت: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم) الآية. فقالوا لها عند قولها: " وهم له ناصحون " وما يدريك ؟ لعلك تعرفين أهله ؟ فقالت: لا، ولكنهم يحرصون على مسرة الملك، ويرغبون في ظئره. وقال السدي وابن جريج: قيل لها لما قالت: " وهم له ناصحون " قد عرفت أهل هذا الصبي فدلينا عليهم، فقالت: أردت وهم للملك ناصحون فدلتهم على أم موسى، فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي علي يد فرعون يعلله شفقة عليه، وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها، فلما وجد الصبي (1) هو علقمة بن عبده، قاله يخاطب به الحرث بن جبلة يمدحه، وكان قد أسر أخاه شأسا - وأراد بالنائل إطلاق أخيه شأس من سجنه - فأطلق له أخاه شأسا ومن اسر معه من بني تميم. (2) الزيادة من كتب التفسير. (3) جالت: قلقت. يقول: ذهبت الناقة بقلقها ونشاطها لتصرعني فلم تقدر على ذلك لحذقي بالركوب ومعرفتي به. (*)
[ 258 ]
ريح أمة قبل ثديها. وقال ابن زيد استرابوها حين قالت ذلك فقالت وهم للملك ناصحون. وقيل: إنها لما قالت: " هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم " وكانوا يبالغون في طلب مرضعة يقبل ثديها فقالوا: من هي ؟ فقالت: أمي، فقيل: لها لبن ؟ قالت: نعم ! لبن هرون - وكان ولد في سنة لا يقتل فيها الصبيان - فقالوا صدقت والله. " وهم له ناصحون " أي فيهم شفقة ونصح، فروي أنه قيل لام موسى حين ارتضع منها: كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك ؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني قال أبوعمران الجوني: وكان فرعون يعطي أم موسى كل يوم دينارا. قال الزمخشري: فإن قلت كيف حل لها أن تأخذ الاجر على إرضاع ولدها ؟ قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربي تأخذه على وجه الاستباحة. قوله تعالى: (فرددناه إلى امه) أي رددناه وقد عطف الله قلب العدو عليه، ووفينا لها بالوعد. (كي تقر عينها) أي بولدها. (ولا تحزن) أي بفراق ولدها. (ولتعلم أن وعد الله حق) أي لتعلم وقوعه فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون، أي كانوا في غفلة عن التقرير وشر القضاء. وقيل: أي أكثر الناس يعلمون أن وعد الله في كل ما وعد حق. قوله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما) قد مضى الكلام في الاشد في " الانعام " (1). وقول ربيعة ومالك أنه الحلم أولي ما قيل فيه، لقوله تعالى " حتى إذا بلغوا النكاح " وذلك أول الاشد، وأقصاه أربع وثلاثون سنة، وهو قول سفيان الثوري. " واستوى " قال ابن عباس: بلغ أربعين سنة والحكم: الحكمة قبل النبوة وقيل: الفقة في الدين وقد مضى بيانها في " البقرة " (2) وغيرها والعلم الفهم قول السدي. وقيل: النبوة. وقال مجاهد: الفقه. محمد إبن إسحق: أي العلم بما في دينه ودين آبائه، وكان له تسعة من بني إسرائيل يسمعون منه، ويقتدون به، ويجتمعون إليه، وكان هذا قبل النبوة. (1) راجع ج‍ 7 ص 134 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 2 ص 131 طبعة ثانية. (*)
[ 259 ]
(وكذلك نجزي المحسنين) أي كما جزينا أم موسى لما استسلمت لامر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدقت بوعد الله، فرددنا ولدها إليها بالتحف والطرف وهي آمنة، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوة، وكذلك نجزي كل محسن، قوله تعالى: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلان يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطن إنه عدو مضل مبين (15) قال رب إنى ظلمت نفسي فاغفر لى فغفر له إنه هو العزيز الرحيم (16) قال رب بمآ أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين (17) فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذى استنصره بالامس يستصرخه قال له موسى إنك لغوى مبين (18) فلما أن أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال يموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الارض وما تريد أن تكون من المصلحين (19) قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) قيل: لما عرف موسى عليه السلام ما هو عليه من الحق في دينه، عاب ما عليه قوم فرعون، وفشا ذلك، منه فأخافوه فخافهم، فكان لا يدخل مدينة فرعون إلا خائفا مستخفيا وقال السدي: كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون، وكان يركب مراكبه، حتى كان يدعى موسى بن فرعون، فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من مدائن مصر يقال لها منف - قال مقاتل على رأس فرسخين من مصر - ثم علم موسى بركوب فرعون، فركب بعده ولحق بتلك القرية في وقت
[ 260 ]
القائلة، وهو وقت الغفلة، قال ابن عباس وقال أيضا: هو بين العشاء والعتمة. وقال ابن إسحق: بل المدينة مصر نفسها، وكان موسى في هذا الوقت قد أظهر خلاف فرعون، وعاب عليهم عبادة فرعون والاصنام، فدخل مدينة فرعون يوما على حين غفلة من أهلها. قال سعيد بن جبير وقتادة: وقت الظهيرة والناس نيام. وقال ابن زيد: كان فرعون قد نابذ موسى وأخرجه من المدينة، وغاب عنها سنين، وجاء والناس على غفلة بنسيانهم لامره، وبعد عهدهم به، وكان ذلك يوم عيد. وقال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها، فدخلها حين علم ذلك منهم، فكان منه من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله، فاستغفر ربه فغفر له ويقال في الكلام: دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال: على حين غفل أهلها، فدخلت " على " في هذه الآية لان الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول: جئت على غفله، وإن شئت قلت: جئت على حين غفلة، وكذا الآية. (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته) والمعنى: إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته، أي من بني إسرائيل. (وهذا من عدوه) أي من قوم فرعون. (فاستغاثه الذى من شيعته) أي طلب نصره وغوثه، وكذا قال في الآية بعدها: " فإذا الذي استنصره بالامس يستصرخه " أي يستغيث به على قبطي آخر وإنما أغاثه لان نصر المظلوم دين في الملل كلها على الامم، وفرض في جميع الشرائع. قال قتادة: أراد القبطي أن يسخر الاسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه، فاستغاث بموسى. قال سعيد بن جبير: وكان خبازا لفرعون. (فوكزه موسى) قال قتادة: بعصاه وقال مجاهد: بكفه، أي دفعه والوكز واللكز واللهز واللهد بمعنى واحد، وهو الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين وقرأ ابن مسعود: " فلكزة ". وقيل: اللكز في اللحى والوكز على القلب. وحكى الثعلبي أن في مصحف عبد الله بن مسعود " فنكزه " بالنون والمعنى واحد. وقال الجوهري عن أبي عبيدة: اللكز الضرب بالجمع على الصدر. وقال أبو زيد: في جميع الجسد، واللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر مثل اللكز، عن أبي عبيدة أيضا. وقال أبو زيد: هو بالجمع في اللهازم والرقبة، والرجل ملهز بكسر الميم.
[ 261 ]
وقال الاصمعي: نكزه، أي ضربه ودفعه. الكسائي: نهزه مثل نكزه ووكزه، أي ضربه ودفعه. ولهده لهدا أي دفعه لذله فهو ملهود، وكذلك لهده، قال طرفة يذم رجلا: بطئ عن الداعي (1) سريع إلى الخنا * * ذلول بإجماع الرجال ملهد أي مدفع وإنما شدد للكثرة وقالت عائشة رضي الله عنها: فلهدني - تعني النبي صلى الله عليه وسلم - لهدة أوجعني، خرجه مسلم. ففعل موسى عليه السلام ذلك وهو لا يريد قتله، إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه، وهو معنى: " فقضى عليه ". وكل شئ أتيت عليه وفرغت منه فقد قضيت عليه قال (2): * قد عضه فقضي عليه الاشجع * (قال هذا من عمل الشيطان) أي من إغوائه قال الحسن: لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ في تلك الحال، لانها كانت حال كف عن القتال. " إنه عدو مضل مبين " خبر بعد خبر. (قال رب إنى ظلمت نفسي فاغففر لى فغفر له) ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز الذي كان فيه ذهاب النفس، فحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر، ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى أنه في القيامة يقول: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها. وإنما عدده على نفسه ذنبا وقال: " ظلمت نفسي فاغفر لي " من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وأيضا فإن الانبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم. قال النقاش: لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه. قال وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوة. وقال كعب: كان إذ ذاك ابن اثنتى عشرة سنة، وكان قتله مع ذلك خطأ فإن الوكزة واللكزة في الغالب لا تقتل. وروى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة ! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول سمعت (1) ويروى: " عن الجلى ". والذلول ضد الصعب. ويروى: " ذليل ". وأجماع جمع (جمع) وهو ظهر الكف إذا جمعت أصابعك وضممتها. (2) هو جرير. والاشجع يريد به الشجاع من الحيات. وصدر البيت: * أيفايشون وقد رأوا حفائهم * (*)
[ 262 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الفتنة تجئ من ها هنا - وأومأ بيده نحو المشرق - من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عزوجل: " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ". قوله تعالى: (قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرين) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى " قال رب بما أنعمت على " أي من المعرفة والحكمة والتوحيد " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " أي عونا للكافرين. قال القشيري: ولم يقل بما أنعمت على من المغفرة، لان هذا قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل. وقال الماوردي: " بما أنعمت على " فيه وجهان: أحدهما - من المغفرة، وكذلك ذكر المهدوي والثعلبي. قال المهدوي: " بما أنعمت على " من المغفرة فلم تعاقبني. الوجه الثاني - من الهداية. قلت: " فغفر له " يدل على المغفرة، والله أعلم. قال الزمخشري قوله تعالى: " بما أنعت علي " يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف تقديره، أقسم بإنعامك علي بالمغفرة لا توبن " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " وأن يكون استعطافا كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة فلن أكون إن عصمتنب ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما بمظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والاثم، كمظاهرة الاسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله وقيل: أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الاسرائيلي مؤمنا ونصرة المؤمن واجبه في جميع الشرائع. وقيل في بعض الروايات: إن ذلك الاسرائيلي كان كافرا وإنما قيل له إنه من شيعته لانه كان إسرائيليا ولم يرد الموافقة في الدين، فعلى هذا ندم لانه أعان كافر على كافر، فقال: لا أكون بعدها ظهيرا للكافرين. وقيل: ليس هذا خبرا بل هو دعاء، أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين. وقال الفراء:
[ 263 ]
المعنى، اللهم فلن أكون بعد ظهيرا للمجرمين، وزعم أن قولهه هذا هو قول ابن عباس قال النحاس: وأن يكون بمعنى الخبر أولي وأشبه بنسق الكلام، كما يقال: لا أعصيك لانك أنعمت علي، وهذا قول ابن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء، لان ابن عباس قال: لم يستثن فابتلي من ثاني يوم، والاستثناء لا يكون في الدعاء، لا يقال: اللهم أغفر لي إن شئت، وأعجب الاشياء أن الفراء روى عن ابن عباس هذا ثم حكى عنه قوله. قلت: قد مضى هذا المعنى ملخصا مبينا في سورة " النمل " وأنه خبر لا دعاء وعن ابن عباس: لم يستثن فابتلي به مرة أخرى، يعني لم يقل فلن أكون إن شاء الله وهذا نحو قوله: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " الثانية - قال سلمة بن نبيط: بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى وقال: أعطهم، فقال: اعفني، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه. فقيل له ما عليك أن تعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا ؟ وقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شئ من أمرهم. وقال عبيد الله بن الوليد الوصافي قلت لعطاء بن أبي رباح: إن لي أخا يأخذ بقلمه، وإنما يحسب ما يدخل ويخرج، وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدان ؟ فقال: من الرأس ؟ قلت: خالد بن عبد الله القسري، قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح " رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهير للمجرمين " قال ابن عباس: فلم يستثن فابتلي به ثانية فأعانه الله، فلا يعينهم أخوك فإن الله يعينه - قال عطاء: فلا يحل لاحد أن يعين ظالما ولا يكتب له ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين. وفي الحديث: " ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم ". ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مشي مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزل فيه الاقدام ومن مشي مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الاقدام ". وفي الحديث: " من مشى مع ظالم فقد أجرم " فالمشي مع الظالم لا يكون جرما
[ 264 ]
إلا إذا مشي معه ليعينه، لانه ارتكب نهي الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى: " ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ". قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفا) قد تقدم في " طه " (1) وغيرها أن الانبياء صلوات الله عليهم يخافون، ردا على من قال غير ذلك، وأن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه فقيل: أصبح خائفا من قتل النفس أن يؤخذ بها. وقيل: خائفا من قومه أن يسلموه. وقيل: خائفا من الله تعالى. (يترقب) قال سعيد بن جبير: يتلفت من الخوف وقيل: ينتظر الطلب. وينتظر ما يتحدث به الناس. وقال قتادة: " يترقب " أي يترقب الطلب. وقيل: خرج يستخبر الخبر ولم يكن أحد علم بقتل القبطي غير الاسرائيلي. و " أصبح " يحتمل أن يكون بمعنى صار، أي لما قتل صار خائفا. ويحتمل أن يكون دخل في الصباح، أي في صباح اليوم الذي يلي يومه. و " خائفا " منصوب على أنه خبر أصبح، وإن شئت على الحال، ويكون الظرف في موضع الخبر. (فإذا الذي استنصره بالامس يستصرخه) أي فإذا صاحبه الاسرائيلي الذي خلصه بالامس يقاتل قبطيا آخر أرد أن يسخره. والاستصراخ الاستغاثة. وهو من الصراخ، وذلك لان المستغيث يصرخ ويصوت في طلب الغوث. قال (2): كنا إذا ما أتانا صارخ فزع * * كان الصراخ له قرع الظنابيب قيل: كان هذا الاسرائيلي المستنصر السامري استسخره طباخ فرعون في حمل الحطب إلى المطبخ، ذكره القشيري و " الذي " رفع بالابتداء " ويستصرخه " في موضع الخبر. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال. وأمس لليوم الذي قبل يومك، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين فإذا دخله الالف واللام أو الاضافة تمكن فأعرب بالرفع والفتح عند أكثر النحويين. منهم من يبنيه وفيه الالف واللام. وحكى سيبويه وغيره أن (1) راجع ج‍ 11 ص 202 طبعة أولى أو ثانية. (2) هو سلامة بن جندل. والطنابيب (جمع ظنبوب): وهو حرف العظم اليابس من الساق. والمراد سرعة الاجابة. (*)
[ 265 ]
من العرب من يجري أمس مجري ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة، وربما اضطر الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب، وقال الشاعر: * لقد رأيت عجبا مذ أمسا * فخفض بمذ ما مضى واللغة الجيدة الرفع، فأجري أمس في الخفض مجراه في الرفع على اللغة الثانية. (قال له موسى إنك لغوى مبين) والغوي الخائب، أي لانك تشاد من لا تطيقه. وقيل: مضل بين الضلالة، قتلت بسببك أمس رجلا، وتدعوني اليوم لآخر. والغوي فعيل من أغوى يغوي، وهو بمعنى مغو، وهو كالوجيع والاليم بمعنى الموجع والمؤلم وقيل: الغوي بمعنى الغاوي. أي إنك لغوي في قتال من لا تطيق دفع شره عنك. وقال الحسن: إنما قال للقبطي " إنك لغوي مبين " في استسخار هذا الاسرائيلي وهم أن يبطش به. يقال: بطش يبطش ويبطش والضم أقيس لانه فعل لا يتعدى. (قال يا موسى أتريد أن تقتلني) قال ابن جبير. أراد موسى أن يبطش بالقبطي فتوهم الاسرائيلي أنه يريده، لانه أغلظ له في القول، فقال: " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس " فسمع القبطي الكلام فأفشاه. وقيل: أراد أن يبطش الاسرائيلي بالقبطي فنهاه موسى فخاف منه، فقال: " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس ". (إن تريد) أي ما تريد. (إلا أن تكون جبارا في الارض) أي قتالا، قال عكرمة والشعبي: لا يكون الانسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق. (وما تريد أن تكون من الملحين) أي من الذين يصلحون بين الناس. قوله تعالى: وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يموسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من النصحين (20) فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظلمين (21) ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل (22)
[ 266 ]
قوله تعالى: (وجاء رجل) قال أكثر أهل التفسير: هذا الرجل هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، ذكره الثعلبي وقيل: طالوت، ذكره السهيلي. وقال المهدوي عن قتادة: اسمه شمعون مؤمن آل فرعون. وقيل: شمعان، قال الدارقطني: لا يعرف شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون. وروي أن فرعون أمر بقتل موسى فسبق ذلك الرجل الخبر، ف‍ (- قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك) أي يتشاورون في قتلك بالقبطي الذي قتلته بالامس. وقيل: يأمر بعضهم بعضا. قال الازهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أم بعضهم بعضا، نظيره قوله: " وأتمروا بينكم بمعروف ". وقال النمر بن تولب: أرى الناس قد أحدثوا شيمة * * وفي كل حادثة يؤتمر (فاخرج إنى لك من الناصحين. فخرج منها خائفا يترقب) أي ينتظر الطلب. (قال رب نجنى من القوم الظالمين). قيل: الجبار الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لامر الله تعالى. قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل) لما خرج موسى عليه السلام فارا بنفسه منفردا خائفا، لا شئ معه من زاد ولا راحلة ولا حذاء نحو مدين، للنسب الذي بينه وبينهم، لان مدين من ولد إبراهيم، وموسى من ولد يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، ورأى حاله وعدم معرفته بالطريق، وخلوه من زاد وغيره، أسند أمره إلى الله تعالى بقوله: " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " وهذه حالة المضطر. قلت: روى أنه كان يتقوت ورق الشجر، وما وصل حتى سقط خف قدميه. قال أبو مالك: وكان فرعون وجه في طلبه وقال لهم: اطلبوه في ثنيات الطريق، فإن موسى لا يعرف الطريق. فجاءه ملك راكبا فرسا ومعه عنزة، فقال لموسى: اتبعني فاتبعه، فهداه إلى الطريق. فيقال: إنه أعطاه العنزة فكانت عصاه. ويروى أن عصاه إنما أخذها لرعية الغنم من مدين. وهو أكثر وأصح. وقال مقاتل والسدي: إن الله بعث إليه جبريل، فالله أعلم وبين مدين ومصر ثمانية أيام، قاله ابن جبير والناس. وكان ملك مدين لغير فرعون.
[ 267 ]
قوله تعالى: ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير (23) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير (24) فجاءته إحدئهما تمشى على استحياء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظلمين (25) قالت إحدئهما يأبت استئجره إن خير من أستئجرت القوى الامين (26) قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هتين على أن تأجرني ثمني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصلحين (27) قال ذلك بينى وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدون على والله على ما نقول وكيل (28) فيه أربع وعشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين) مشى موسى عليه السلام حتى ورد ماء مدين أي بلغها. ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه. ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه إن لم يدخل. فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه، ومنه قول زهير: فلما وردن الماء زرقا جمامه * * وضعن عصى الحاضر المتخيم (1) (1) تقدم شرح هذا البيت في هامش ج‍ 11 ص 137 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 268 ]
وقد تقدمت هذه المعاني في قوله: " وإن منكم إلا واردها ". ومدين لا تنصرف إذ هي بلدة معروفة قال الشاعر (1): رهبان مدين لو رأوك تنزلوا * * والعصم من شعف الجبال الفادر وقيل: قبيلة من ولد مدين بن إبراهيم، وقد مضى القول فيه في " الاعراف " (2). والامة: الجمع الكثير و " يسقون " معناه ماشيتهم. و (من دونهم) معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصول إلى الامة، ووجدهما تذودان ومعناه تمنعان وتحبسان، ومنه قول عليه السلام: " فليذادن (3) رجال عن حوضي " وفي بعض المصاحف: " امرأتين حابستين تذودان " يقال: ذاد يذود إذا [ حبس ] (4). وذدت الشئ حبسته، قال الشاعر (5): أبيت على باب القوافي كأنما * * أذود بها سربا من الوحش نزعا أي أحبس وأمنع وقيل: " تذودان " تطردان، قال (6): لقد سلبت عصاك بنو تميم * * فما تدري بأي عصا تذود أي تطرد وتكف وتمنع ابن سلام: تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس، فحذف المفعول، إما إيهاما على المخاطب، وإما أستغناء بعلمه. قال ابن عباس: تذودان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الاقوياء. قتادة: تذودان الناس عن غنمهما، قال النحاس: والاول أولى، لان بعده " قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء " ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس لم تخبرا عن سبب تأخير سقيهما حتى يصدر الرعاء. فلما رأى موسى عليه السلام ذلك منهما " قال ما خطبكما " أي شأنكما، قال رؤية: * يا عجبا ما خطبه وخطبي * (1) هو جرير. والعصم (جمع الاعصم): وهو من الظباء الذى في ذراعه بياض، وقيل: في ذراعية، والفادر: المسن منها. وقيل: العظيم. ويروى: " من شعف العقول ". وقبله: يا أم طلحة ما لقينا مثلكم * * في المنجدين ولا بغور الغائر (2) راجع ج‍ 7 ص 247 طبعة أولى أو ثانية. (3) قليذادن، أي ليطردن. ويروى: " فلا تذادن " أي لا تفعلوا فعلا يوجب طردكم عنه، قال اين الاثير: والاول أشبهه. (4) في الاصل: " إذا ذهب " وهو تحريف. (5) هو سويد بن كراع يذكر تنقيحه شعره. (6) هو جرير يهجو الفرزدق. (*)
[ 269 ]
ابن عطية: وكان أستعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الامر، فكأنه بالجملة في شر، فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما شيخ كبير، فالمعنى: لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الاقوياء، وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى، وحينئذ تردان. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: " يصدر " من صدر، وهو ضد ورد أي يرجع الرعاء. والباقون " يصدر " بضم الياء من أصدر، أي حتى يصدروا مواشيهم من وردهم والرعاء جمع راع، مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. قالت فرقة: كانت الآبار مكشوفة، وكان زحم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقى لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغلب الذي كان منه وصفته إحداهما بالقوة وقالت فرقة: إنهما كانتا تتبعان فضالتهم في الصهاريج، فإن وجدتا في الحوض بقية كان ذلك سقيهما، وإن لم يكن فيه بقيه عطشت غنمهما، فرق لهما موسى، فعمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها، وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قاله ابن زيد. ابن جريج: عشرة. ابن عباس: ثلاثون. الزجاج: أربعون، فرفعه. وسقى للمرأتين، فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة. وقيل: إن بئرهم كانت واحدة، وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة، إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات. روى عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما استقى الرعاة غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال، فجاء موسى فاقتلعها واسقي ذنوبا واحدا لم تحتج إلى غيره فسقى لهما. الثانية - إن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب صلى الله عليه وسلم أن يرضى لا بنتيه بسقي الماشية ؟ قيل له: ليس ذلك بمحظور والدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك، والعادة متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة. الثالثة - قوله تعالى: (ثم تولى إلى الظل) إلى ظل سمرة (1)، قاله ابن مسعود. وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله: (إني لما أنزلت إلي من خير فقير " وكان لم يذق طعاما (1) السمرة: شجرة صغيرة الورق، قصيرة الشوك، لها برمة صفراء يأكلها الناس. (*)
[ 270 ]
سبعة أيام، وقد لصق بطنه بظهره، فعرض بالدعاء ولم يصرح بسؤال، هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله، فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية، يكون بمعنى المال كما قال: " إن ترك خيرا " وقوله: " وإنه لحب الخير لشديد " ويكون بمعنى القوة كما قال: " أهم خير أم قوم تبع " ويكون بمعنى العبادة كقول: " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه، وإنه لاكرم الخلق على الله. ويروى أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدميه. وفي هذا معتبر وإشعار بهوان الدنيا على الله وقال أبو بكر بن طاهر في قوله: " إني لما أنزلت إلى من خير فقير " أي إني لما أنزلت من فضلك وغناك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك. قلت: ما ذكره أهل التفسير أولى، فإن الله تعالى إنما أغناه بواسطة شعيب. الرابعة - قوله تعالى: (فجاءته إحداهما تمشى على استحياء) في هذا الكلام اختصار يدل عليه هذا الظاهر، قدره [ ابن ] (1) إسحق: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، و كانت عادتهما الابطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه - وقيل الصغرى - أن تدعوه له، " فجاءت " على ما في هذه الآية قال عمرو بن ميمون: ولم تكن سلفعا (2) من النساء، خراجة ولاجة. وقيل: جاءته ساترة وجهها بكم درعها، قاله عمر بن الخطاب. وروي أن اسم إحداهما ليا والاخرى صفوريا ابنتا يثرون، ويثرون وهو شعيب عليه السلام. وقيل: ابن أخي شعيب، وأن شعيبا كان قد مات. وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام وهو ظاهر القرآن، قال الله تعالى: " وإلى مدين أخاهم شعيبا " كذا في سورة " الاعراف " وفي سورة الشعراء: " كذب أصحاب الايكة المرسلين إذ قال لهم شعيب " قال قتادة: بعث الله تعالى شعيبا إلى أصحاب الايكة وأصحاب مدين. وقد مضى في " الاعراف " (3) الخلاف في أسم أبيه فروى أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة قام يتبعها، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال، فهبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها، فتحرج موسى من النظر (1) في الاصل: أبو إسحق والتصويب عن تفسير ابن عطية والطبري. (2) السلفع من النساء: الجريئة على الرجال. (3) راجع ج‍ 7 ص 247 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 271 ]
إليها فقال: أرجعي خلفي وأرشديني إلى الطريق بصوتك وقيل: إن موسى قال ابتداء: كوني ورائي فإني رجل عبراني لا أنظر في أدبار النساء، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا، فذلك سبب وصفها [ له ] بالامانة، قاله ابن عباس. فوصل موسى إلى داعيه فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فآنسه بقوله: " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون وقرب إليه طعاما فقال موسى: لا أكل، إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بمل ء الارض ذهبا، فقال شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قرى الضيف، وإطعام الطعام، فحينئذ أكل موسى. الخامسة - قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره) دليل على أن الاجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كل ملة، وهي من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين الناس، خلاف للاصم حيث كان عن سماعها أصم. السادسة - قوله تعالى: (إنى أريد أن أنكحك) الآية. فيه عرض الولي ابنته على الرجل، وهذه سنة قائمة، عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر ابن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح قال ابن عمر: لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر، الحديث انفرد بإخراجه البخاري. السابعة - وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الولي لا حظ للمرأة فيه، لان صالح مدين تولاه، وبه قال فقهاء الامصار. وخالف في ذلك أبو حنيفة. وقد مضى. الثامنة - هذه الآية تدل على أن للاب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير استئمار، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية، وهو ظاهر قوي في الباب، واحتجاجه بها يدل على أنه كان يعول على الاسرائيليات، كما تقدم. وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء. وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها، لانها بلغت
[ 272 ]
حد التكليف، فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوجها بغير رضاها لانه لا إذن لها ولا رضا، بغير خلاف. التاسعة - أستدل أصحاب الشافعي بقوله: " إني أريد أن أنكحك " على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والانكاح. وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه. وقال علماؤنا في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد، أما الشافعية فلا حجة لهم في الآية لانه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شئ في المشهور عندهم وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن ابن حي فقالوا: ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه، لان الطلاق يقع بالصريح و الكناية، قالوا: فكذلك النكاح قالوا: والذي خص به النبي صلى الله عليه وسلم تعرى البضع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة، وتابعهم ابن القاسم فقال: إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئا، وهو عندي جائز كالبيع. قال أبو عمر: الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شئ من الاموال. وأيضا فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه، وهو ضد الطلاق فكيف يقاس عليه، وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقوله: أبحت لك وأحللت لك فكذلك الهبة. وقال صلى الله عليه وسلم: " استحللتم فروجهن بكلمة الله " يعني القرآن، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة، وإنما فيه التزويج والنكاح، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم. العاشرة - قوله تعالى: (إحدى ابنتى هاتين) يدل على أنه عرض لا عقد، لانه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له، لان العلماء وإن كانوا قد أختلفوا في جواز البيع إذا قال: بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا، فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح، لانه خيار وشئ من الخيار لا يلصق بالنكاح. الحادية عشرة - قال مكي: في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الامد، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينقد شيئا.
[ 273 ]
قلت: فهذه أربع مسائل تضمنتها المسألة الحادية عشرة. الاولى من الاربع مسائل، قال علماؤنا: أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة، و إنما عرض الامر مجملا، وعين بعد ذلك وقد قيل: إنه زوجه صفوريا وهي الصغرى. يروى عن أبي ذر قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سئلت أي الاجلين قضى موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الامين ". قيل: إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها، لانه رأها في رسالته، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره وقيل غير هذا، والله أعلم. وفي بعض الاخبار أنه تزوج بالكبرى حكاه القشيري. الثانية - وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه، فإما رسماه، وإلا فهو من أول وقت العقد. الثالثة - وأما النكاح بالاجارة فظاهر من الآية، وهو أمر قد قرره شرعنا، وجري في حديث الذي لم يكن عنده إلا شئ من القرآن، رواه الائمة، وفي بعض طرقه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تحفظ من القرآن " فقال: سورة البقرة والتي تليها، قال: " فعلمها عشرين آية وهي امرأتك ". واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فكرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، وأجازه ابن حبيب، وهو قول الشافعي وأصحابه، قالوا: يجوز أن تكون منفعة الحر صداقا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وقال أبو حنيفة: لا يصح، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة، لان العبد والدار مال، وليس خدمتها بنفسه مالا وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الاجارة جائز، لقوله تعالى: " فآتوهن أجورهن ". وقال أبو بكر الرازي: لا يصح لان الاجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان وقال ابن القاسم: ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده.
[ 274 ]
وقال أصبغ: إن نقد معه شيئا ففيه اختلاف، وإن لم ينقد فهو أشد، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب، قاله مالك وابن المواز وأشهب. وعول على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة، قال ابن خويز منداد. تضمنت هذه الآية النكاح على الاجارة والعقد صحيح ويكره أن تجعل الاجارة مهرا، وينبغي أن يكون المهر مالا كما قال عزوجل: " أن تبتغوا بأموالكم محصنين ". هذا قول أصحابنا جميعا. الرابعة - وأما قوله: ودخل ولم ينقد فقد أختلف الناس في هذا، هل دخل حين عقد أم حين سافر ؟ فإن كان حين عقد فماذا نقد ؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار، قال ابن القاسم فإن دخل قبل أن ينقد مضى، لان المتأخرين من أصحابنا قالوا: تعجيل الصداق أو شئ منه مستحب على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة، وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز إن كان مدى العمر بغير شرط. [ وأما إن كان (1) بشرط ] فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحا مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة، نص عليه علماؤنا. الثانية عشرة - في هذه الآية أجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الاول - قال في ثمانية أبي زيد: يكره أبتداء فإن وقع مضى. الثاني - قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده، لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة. الثالث - أجازه أشهب وأصبغ. قال ابن العربي: وهذا هو الصحيح وعليه تدل الآية، وقد قال مالك النكاح أشبه شئ بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح فرع - وإن أصدقها تعليم شعر مباح صح، قال المزني: وذلك مثل قول الشاعر: يقول العبد فائدتي ومالي * * وتقوى الله أفضل ما استفادا وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا. (1) الزيادة من " أحكام القرآن لابن العربي). (*)
[ 275 ]
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (على أن تأجرني ثمانى حجج) جري ذكر الخدمة مطلقا وقال مالك: إنه جائز ويحمل على العرف، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة وهو ظاهر قصة موسى، فإنه ذكر إجارة مطلقة وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز حتى يسمى لانه مجهول. وقد ترجم البخاري: " باب من استأجر أجيرا فبين له الاجل ولم يبين له العمل " لقوله تعالى " على أن تأجرني ثماني حجج ". قال المهلب: ليس كما ترجم، لان العمل عندهم كان معلوما من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الاعمال ولا مقاديرها، مثل أن يقول له: إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة، والعمل مجهول غير معهود لا يجوز حتى يعلم. قال ابن العربي: وقد ذكر أهل التفسير أنه عين له رعية الغنم، ولم يرو من طريق صحيحة، ولكن قالوا: إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم، فكان ما علم من حاله قائما مقام التعيين للخدمة فيه. الرابعة عشرة - أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهورا معلومة، بأجرة معلومة، لرعاية غنم معدودة، فإن كانت معدودة معينة، ففيها تفصيل لعلمائنا، قال ابن القاسم: لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت، وهي رواية ضعيفة جدا، وقد أستأجر صالح مدين موسى على غنمه، وقد رآها ولم يشترط خلفا، وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز لجهالتها، وعول علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفا، وأنه يعطى بقدر ما تحتمل قوته. وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوته، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوة موسى برفع الحجر. الخامسة عشرة - قال مالك: وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق، لانه أمين كالوكيل. وقد ترجم البخاري: " باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئا يفسد فأصلح ما يخاف الفساد " وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه أنه كانت
[ 276 ]
لهم غنم ترعى بسلع (1)، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي - أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله - وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم - أو أرسل إليه - فأمره بأكلها، قال عبد الله: فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت قال المهلب: فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما ائتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب، وهذا قول مالك وجماعة. وقال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة. وقال غيره: يضمن حتى يبين ما قال. السادسة عشره - واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت، فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه، لان الانزاء من إصلاح المال ونمائه وقال أشهب: عليه الضمان، وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده، إن كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال، وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل، لانه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا لما عرف من فسقه. السبعة عشرة - لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام، ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن. وقال غير يحيي: بل جعل له كل بلقاء تولد له، فولدن له كلهن بلقا. وذكر القشيري أن شعيبا لما أستأجر موسى قال له: أدخل بيت كذا وخذ عصا من العصي التي في البيت، فأخرج موسى عصا، وكان أخرجها آدم من الجنة، وتوارثها الانبياء حتى صارت إلى شعيب، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى، فدخل وأخرج تلك العصا، وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك، فعلم شعيب أن له شأنا، فلما أصبح قال له: سق الاغنام إلى مفرق الطريق، فخذ عن يمينك (1) سلع: جبل المدينة. (*)
[ 277 ]
وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبا كثيرا وتنينا كبيرا لا يقبل المواشي، فساق المواشي إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها، فنام موسى وخرج التنين، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديدا وحاربت التنين حتى قتلته، وعادت إلى موسى عليه السلام، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم، والتنين مقتولا، فعاد إلى شعيب عشاء، وكان شعيب ضريرا فمس الاغنام، فإذا أثر الخصب باد عليها، فسأله عن القصة فأخبره بها، ففرح شعيب وقال: كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون - أي ذات لونين - فهو لك، فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة. وروى عيينة بن حصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه " فقال له شعيب لك منها - يعني من نتاج غنمه - ما جاءت به قالب لون ليس فيها عزوز ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول. قال الهروي: العزوز البكيئة، مأخوذ من العزاز وهي الارض الصلبة، وقد تعززت الشاة. والفشوش التي ينفش لبنها من غير حلب وذلك لسعة الا حليل، ومثله الفتوح والثرور. ومن أمثالهم: (لا فشنك فش الوطب) أي لاخرجن غضبك وكبرك من رأسك. ويقال: فش السقاء إذا أخرج منه الريح ومنه الحديث: " إن الشيطان يفش بين أليتي أحدكم حتى يخيل إليه أنه أحدث " أي ينفخ نفخا ضعيفا والكموش: الصغيرة الضرع، وهي الكميشة أيضا، سميت بذلك لا نكماش ضرعها وهو تقلصه، ومنه يقال: رجل كميش الازار. والكشود مثل الكموش. والضبوب الضيقة ثقب الاحليل. والضب الحلب لشدة العصر. والثعول الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل. والثعل زيادة السن، وتلك الزيادة هي [ الراءول ] (1). ورجل أثعل. والثعل [ ضيق ] (2) مخرج اللبن. قال الهروي: وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها. (1) الزيادة من اللسان، وفي الاصل: " هي الثعل " ولعله تحريف، إذ أن عبارة اللسان " وتلك السن الزائدة يقال لها الراءول ". (2) زيادة يقتضيها المعنى. (*)
[ 278 ]
الثامنة عشرة - الاجارة بالعوض المجهول لا تجوز، فإن ولادة الغنم غير معلومة، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعا وعدتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا، لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر، ونهى عن المضامين والملاقيح. والمضامين ما في بطون الاناث، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر: * ملقوحة في بطن ناب حامل * وقد مضى في سورة " الحجر " (1) بيانه. على أن راشد بن معمر أجاز الاجارة على الغنم بالثلث والربع وقال ابن سيرين وعطاء: ينسج الثوب بنصيب منه، وبه قال أحمد. التاسعة عشرة - الكفاءة في النكاح معتبرة، واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات، لقوله تعالى: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم ". وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا فأنكحه ابنته لما تحقق [ من دينه ] (2) ورأى من حاله، وأعرض عما سوى ذلك. وقد تقدمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله. الموفيه عشرين - قال بعضهم: هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكرا لصداق المرأة، وأنما كان اشتراطا لنفسه على ما يفعله الاعراب، فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول لي كذا في خاصة نفسي، وترك المهر مفوضا، ونكاح التفويض جائز. قال ابن العربي: هذا الذي تفعله الاعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام لا يليق بالانبياء، فأما إذا اشترط الولي شيئا لنفسه، فقد أختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما - أنه جائز. والآخر - لا يجوز. والذي يصح عندي التقسيم، فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا، فإن كانت ثيبا جاز، لان نكاحها (1) راجع ج‍ 10 ص 17 وما بعدها طبعة أولى أو ثانبة. (2) الزيادة من " أحكام القرآن لابن العربي ". (*)
[ 279 ]
بيدها، وإنما يكون للولي مباشرة العقد، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع، وإن كانت بكرا كان العقد بيده، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل، فإن وقع فسخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية. والحمد الله. الحادية والعشرون - لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه، ولم يلحق الآخر بالاول، ولا أشترك الفرض والطوع، ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها، ثم يقال وتطوع بكذا، فيجري الشرط على سبيله، والطوع على حكمه، وانفصل الواجب من التطوع وقيل: ومن لفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في " الاحزاب ". وجعل شعيب الثمانية الاعوام شرطا، ووكل العاشرة إلى المروءة. الثانية والعشرون - قوله تعالى: (قال ذلك بينى وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على) لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج و " أيما " أستفهام منصوب ب‍ " قضيت " و " الاجلين " مخفوض بإضافة " أي " إليهما و " ما " صلة للتأكيد وفيه معنى الشرط وجوابه " فلا عدوان " وأن " عدوان " منصوب ب " لا ". وقال ابن كيسان: " ما " في موضع خفض بإضافة " أي " إليها وهي نكرة و " الاجلين " بدل منها وكذلك قوله: " فبما رحمة من الله " أي رحمة بدل من ما، قال مكي: وكان يتلطف في ألا يجعل شيئا زائدا في القرآن ويخرج له وجها يخرجه من الزيادة وقرأ الحسن: " أيما " بسكون الياء. وقرأ ابن مسعود: " أي الاجلين ما قضيت " وقرأ الجمهور: " عدوان " بضم العين. وأبو حيوة بكسرها، والمعنى: لا تبعة علي ولا طلب في الزيادة عليه. والعدوان التجاوز في غير الواجب، والحجج السنون قال الشاعر (1): لمن الديار بقنة الحجر * * أقوين من حجج ومن دهر (1) هو زهير بن أبى سلمى. ويروى: ومن شهر. (*)
[ 280 ]
الواحدة حجة بكسر الحاء. (والله على ما نقول وكيل) قيل: هو من قول موسى. وقيل: هو من قول والد المرأة. فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الاشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحدا من الخلق، وقد اختلف العلماء في وجوب الاشهاد في النكاح، وهي: الثالثة والعشرون - على قولين: أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: إنه ينعقد دون شهود، لانه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الاشهاد، وإنما يشترط فيه الاعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح الدف. وقد مضت هذه المسألة في " البقرة " (1) مستوفاة وفي البخاري عن أبي هريرة: أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ايتني بالشهداء أشهدهم، فقال كفى بالله شهيدا، فقال أيتني بكفيل، فقال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه، وذكر الحديث قوله تعالى: فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا قال لاهله امكثوا إنئ انست نارا لعلئ اتيكم منها بخير أو جذوة من النار لعلكم تصطلون (29) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فلما قضى موسى الاجل) قال سعيد بن جبير: سألني رجل من النصارى أي الاجلين قضى موسى فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله - يعني ابن عباس - فقدمت عليه فسألته، فقال: قضى أكملهما وأوفاهما فأعلمت النصراني فقال: صدق والله هذا العالم. وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشرا وعشرا بعدها، قال ابن عطية: وهذا ضعيف. (1) راجع ج‍ 3 ص 79 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 281 ]
الثانية - قوله تعالى: (وسار بأهله) قيل فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، لما له عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرا فالمؤمنون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج. الثالثة - قوله تعالى: (آنس من جانب الطور نارا) الآية. تقدم القول في ذلك في " طه ". والجذوة بكسر الجيم قراءة العامة، وضمها حمزة ويحيي، و فتحها عاصم والسلمي وزر بن حبيش. قال الجوهري: الجذوة والجذوة والجذوة الجمرة الملتهبة والجمع جذا وجذا وجذا قال مجاهد في قوله تعالى: " أو جذوة من النار " أي قطعة من الجمر، قال: وهي بلغة جميع العرب. وقال أبو عبيدة: والجذوة مثل الجذمة وهي القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن. قال ابن مقبل: باتت حواطب ليلى يلتمسن لها * * جزل الجذا غير خوار ولا دعر (1) وقال: وألقى على قيس من النار جذوة * * شديدا عليها حميها ولهيبها (2) قوله تعالى: فلما أتها نودى من شطى الواد الايمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يموسى إنى أنا الله رب العلمين (30) قوله تعالى: (فلما أتاها) يعني الشجرة قدم ضميرها عليها. (نودى من شاطئ الواد) " من " الاولى والثانية لابتداء الغاية، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة. و " من الشجرة " بدل من قوله " من شاطئ الواد " بدل الاشتمال، لان الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، وشاطئ الوادي وشطه جانبه، والجمع شطان وشواطئ، ذكره القشيري، وقال الجوهري: ويقال شاطئ الاودية ولا يجمع. وشاطأت الرجل إذا مشيت على شاطئ (1) الخوار هنا العود الذي يتقصف والمدعر الذي إذا وضع على النار لم يستوقد ودخن. (2) ويروى: * شديدا عليها حرها والتهابها * (*)
[ 282 ]
ومشى هو على شاطئ آخر. (الايمن) أي عن يمين موسى. وقيل: عن يمين الجبل. (في البقعة المباركة) وقرأ الاشهب العقيلي " في البقعة " بفتح الباء. وقولهم بقاع يدل على بقعة، كما يقال جفنة وجفان. ومن قال بقعة قال بقع مثل غرفة وغرف. (من الشجرة) أي من ناحية الشجرة. قيل كانت شجرة العليق. وقيل سمرة وقيل عوسج. ومنها كانت عصاه، ذكره الزمخشري وقيل: عناب، والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد. وفي الحديث: إنه من شجر اليهود فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فأقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود فلا ينطق. خرجه مسلم. قال المهدوي: وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء. ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين. قال أبو المعالي: وأهل المعاني وأهل الحق يقولون من كلمه الله تعالى وخصه بالرتبة العليا والغاية القصوى، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والاصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات، كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزها عن مماثلة الاجسام وأحكام الحوادث، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته، وأجمعت الامة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه. قال الاستاذ أبو إسحق: اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه كان اختصاصه في سماعه، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه. واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الاسراء كلام الله، وهل سمع جبريل كلامه على قولين، وطريق أحدهما النقل المقطوع به وذلك مفقود، واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه. وقال عبد الله. ابن سعد بن كلاب: إن موسى عليه السلام فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الاجسام. قال أبو المعالي: وهذا مردود، بل يجب أختصاص موسى
[ 283 ]
عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقا للعادة، ولو لم يقل ذلك لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه. والرب تعالى أسمعه كلامه العزيز، وخلق له علما ضروريا، حتى علم أن ما سمعه كلام الله، وأن الذي كلمه وناداه هو الله رب العالمين. وقد ورد في الاقاصيص أن موسى عليه السلام قال: سمعت كلام ربي بجميع جوارحي، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " (1) مستوفى. (أن يا موسى) " أن " في موضع نصب بحذف حرف الجر أي ب‍ " أن يا موسى ". (إني أنا الله رب العالمين نفي لربوبية غيره سبحانه. وصار بهذا الكلام من أصفياء الله عزوجل لا من رسله، لانه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة، والامر بها إنما كان بعد هذا الكلام. قوله تعالى: وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يموسى أقبل ولا تخف إنك من الامنين (31) قوله تعالى: (وأن ألق عصاك) عطف على " أن يا موسى وتقدم الكلام في هذا في " النمل " و " طه ". و (مدبرا) نصب على الحال وكذلك موضع قوله: (ولم يعقب) نصب على الحال أيضا. (يا موسى أقبل ولا تخف) قال وهب: قيل له أرجع إلى حيث كنت. فرجع فلف دراعته (2) على يده، فقال له الملك: أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفك يدك ؟ قال: لا ولكني ضعيف خلقت من ضعف. وكشف يده فأدخلها في فم الحية فعادت عصا. (إنك من الامنين) أي مما تحاذر. قوله تعالى: اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذنك برهنان من ربك إلى فرعون وملايه إنهم كانوا قوما فسقين (32) قال رب إنى قتلت منهم نفسا (1) راجع ج‍ 1 ص 304 طبعة ثانية أو ثالثة. (2) الدراعة: ضرب من الثياب التى تلبس. وقيل جبة مشقوقة المقدم. (*)
[ 284 ]
فأخاف أن يقتلون (33) وأخى هرون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقني إنى أخاف أن يكذبون (34) قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطنا فلا يصلون إليكما بإيتنا أنتما ومن اتبعكما الغلبون (35) قوله تعالى: (اسلك يدك في جيبك) الاية، تقدم القول فيه. (واضمم إليك جناحك من الرهب) " من " متعلقة ب‍ " ولى " أي ولى مدبرا من الرهب. وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحق " من الرهب " بفتح الراء وإسكان الهاء. وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفص بضم الراء وجزم الهاء. الباقون بفتح الراء والهاء. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالى: " ويدعوننا رغبا ورهبا " وكلها لغات وهو بمعنى الخوف. والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها فأدخلها في جيبك وأرددها إليه تعد كما كانت. وقيل: أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه خوف الحية. عن مجاهد وغيره ورواه الضحاك عن ابن عباس، قال فقال ابن عباس: ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام، ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب. ويحكي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن كاتبا كان يكتب بين يديه، فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الارض فقال له عمر: خذ قلمك وأضمم إليك جناحك، وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. وقيل: المعنى أضمم يدك إلى صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف. وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان. وضم الجناح هو السكون، كقوله تعالى: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " يريد الرفق وكذلك قوله: " وأخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " أي أرفق بهم. وقال الفراء: أراد بالجناح عصاه. وقال بعض أهل المعاني: الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة قال مقاتل: سألتني أعرابية شيئا وأنا آكل فملات الكف وأومأت إليها
[ 285 ]
فقالت: ها هنا في رهبى. تريد في كمي. وقال الاصمعي: سمعت أعرابيا يقول لاخر أعطني رهبك. فسألته عن الرهب فقال: الكم، فعلى هذا يكون معناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم، لانه تناول العصا ويده في كمه وقوله: " أسلك يدك في جيبك " يدل على أنها اليد اليمني، لان الجيب على اليسار. ذكره القشيري قلت: وما فسروه من ضم اليد إلى الصدر يدل على أن الجيب موضعه الصدر. وقد مضى في سورة " النور " (1) بيانه. الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني مما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة ! وهل سمع من الاثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم، ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية، وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل، على أن موسى صلوات عليه ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة (2) من صوف لا كمين لها. قال القشيري: وقوله: " واضمم إليك جناحك " يريد اليدين إن قلنا أراد الامن من فزع الثعبان. وقيل: " واضمم إليك جناحك " أي شمر واستعد لتحمل أعباء الرسالة. قلت: فعلى هذا قيل: " إنك من الآمنين " أي من المرسلين، لقوله تعالى: " إني لا يخاف لدي المرسلون " قال ابن بحر: فصار على هذا التأويل رسولا بهذا القول. وقيل إنما صار رسولا بقول: (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه) والبرهان اليد والعصا وقرأ ابن كثير بتشديد النون وخففها الباقون. وروى أبو عمارة عن أبي الفضل عن أبي بكر عن ابن كثير، " فذانيك " بالتشديد والياء. وعن أبي عمرو أيضا قال لغة هذيل " فذانيك " بالتخفيف والياء. ولغة قريش " فذانك " كما قرأ أبو عمرو وابن كثير. وفي تعليله خمسة أقوال: قيل شدد النون عوضا من الالف الساقطة في ذانك الذي هو تثنية ذاالمرفوع، وهو رفع بالابتدا، وألف ذا محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين، لان أصله فذاانك فحذف الالف الاولى عوضا من النون الشديدة. وقيل: (1) راجع ج‍ 12 ص 231 طبعة أولى أو ثانية. (2) الزرمانقة: جبة من صوف وهي عجمية معربة. (*)
[ 286 ]
التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك. مكي: وقيل إن من شدد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذلك، فلما بنى أثبت اللام بعد نون التثنية، ثم أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في الاول، والاصل أن يدغم الاول أبدا في الثاني، إلا أن يمنع من ذلك علة فيدغم الثاني في الاول، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الاول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة فيتغير لفظ التثنية فأدغم الثاني في الاول لذلك، فصار نونا مشددة. وقد قيل: إنه لما تنا في ذلك أثبت اللام قبل النون ثم أدغم الاول في الثاني على أصول الادغام فصار نونا مشددة. وقيل: شددت فرقا بينها وبين الظاهر التي تسقط لاضافة نونه، لان ذان لا يضاف. وقيل: للفرق بين الاسم المتمكن وبينها. وكذلك العلة في تشديد النون في " اللذان " و " هذان ". قال أبو عمرو: إنما اختص أبو عمرو هذا الحرف بالتشديد دون كل تثنية من جنسه لقلة حروفه فقرأه بالتثقيل. ومن قرأ: " فذانيك " بياء مع تخفيف النون فالاصل عنده " فذانك " بالتشديد فأبدل من النون الثانية ياء كراهية التضعيف، كما قالوا: لا أملاه في لا أمله فأبدلوا اللام الثانية ألفا. ومن قرأ بياء بعد النون الشديدة فوجهه أنه أشبع كسرة النون فتولدت عنها الياء. قوله تعالى: (فأرسله معى ردءا) يعني معينا مشتق من أردأته أي أعنته. والردء العون قال الشاعر: ألم تر أن أصرم كان ردئي * * وخير الناس في قل ومال النحاس: وقد أردأه ورداه أي أعانه، وترك همزه تخفيفا. وبه قرأ نافع: وهو بمعنى المهموز. قال المهدوي: ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم أردى على المائة أي زاد عليها، وكأن المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي. قاله مسلم بن جندب. وأنشد قول الشاعر: وأسمر خطيا كأن كعوبه * * نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر كذا أنشد الماوردي هذا البيت: قد أردى. وأنشده الغزنوي والجوهري في الصحاح قد أرمى (1)، قال: والقسب الصلب، والقسب تمر يابس يتفتت في الفم صلب النواة. قال (1) أرمى وأربى لغتان. (*)
[ 287 ]
يصف رمحا: وأسمر. البيت. قال الجوهري: ردؤ الشئ يردؤ رداءة فهو ردئ أي فاسد، وأردأته أفسدته، وأردأته أيضا بمعنى أعنته، تقول: أردأته بنفسي أي كنت له ردءا وهو العون. قال الله تعالى: " فأرسله معي ردءا يصدقني ". قال النحاس: وقد حكى ردأته: ردءا وجمع ردء أرداء. وقرأ عاصم وحمزة " يصدقني " بالرفع. وجزم الباقون، وهو اختيار أبي حاتم على جواب الدعاء. واختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في " أرسله " أي أرسله ردءا مصدقا حالة التصديق، كقوله: " أنزل علينا مائدة من السماء تكون " أي كائنة، حال صرف إلى الاستقبال ويجوز أن يكون صفة لقوله: " ردءا ". (إنى أخاف أن يكذبون) إذا لم يكن لي وزير ولا معين، لانهم لا يكادون يفقهون عني، ف‍ (قال) الله عزوجل له (سنشد عضدك بأخيك) أي نقويك به، وهذا تمثيل، لان قوة اليد بالعضد. قال طرفة: بني لبيني لستم بيد * * إلا يدا ليست لها عضد ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك. وفي ضده: فت الله في عضدك. (ونجعل لكما سلطانا) أي حجه وبرهانا. (فلا يصلون إليكما) بالاذى (بآياتنا) أي تمتنعان منهم " بآياتنا " فيجوز أن يوقف على " إليكما " ويكون في الكلام تقديم وتأخير. وقيل: التقدير " أنتما ومن اتبعكما الغالبون " بآياتنا. قاله الاخفش والطبري قال المهدوي: وفي هذا تقديم الصلة على الموصول، إلا أن يقدر أنتما غالبان بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون. وعنى بالآيات سائر معجزاته. قوله تعالى: فلما جاءههم موسى بإيتنا بينت قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا فئ ابائنا الاولين (36) وقال موسى ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عقبة الدار إنه لا يفلح الظلمون (37) وقال فرعون يأيها الملا ما علمت لكم
[ 288 ]
من إله غيرى فأوقد لى يهمن على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإنى لاظنه من الكذبين (38) واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون (39) فأخذنه وجنوده فنبذنهم في اليم فانظر كيف كان عقبة الظلمين (40) وجعلنهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيمة لا ينصرون (41) واتبعنهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيمة هم من المقبوحين (42) قوله تعالى: (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات) أي ظاهرات واضحات (قالوا ماهذا إلا سحر مفترى) مكذوب مختلق (وما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين). وقيل: إن هذه الآيات وما احتج به موسى في إثبات التوحيد من الحجج العقلية. وقيل: هي معجزاته. قوله تعالى: (وقال موسى) قراءة العامة بالواو. وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن " قال " بلا واو، وكذلك هو في مصحف أهل مكة (ربي أعلم بمن جاء بالهدى) أي بالرشاد. (من عنده ومن تكون له) قرأ الكوفيون إلا عاصما " يكون " بالياء والباقون بالتاء. وقد تقدم هذا. (عاقبة الدار) أي دار الجزاء. (إنه) الهاء ضمير الامر والشأن (لا يفلح الظالمون). قوله تعالى: (وقال فرعون يأيها الملا ما علمت لكم من إله غيرى) قال ابن عباس: كان بينها وبين قوله: " أنا ربكم الاعلى " أربعون سنة، وكذب عدو الله بل علم أن له ثم ربا هو خالقه وخالق قومه " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ". قال: (فأوقد لى يا هامان على الطين) أي اطبخ لي الآجر، عن ابن عباس رضي الله عنه. وقال قتادة: هو أول من صنع الآجر وبنى به. ولما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال - قيل خمسين ألف بناء سوى الاتباع والاجراء - وأمر بطبخ الآجر والجص، ونشر الخشب
[ 289 ]
وضرب المسامير، فبنوا ورفعوا البناء وشيدوه بحيث لم يبلغه بنيان منذ خلق الله السموات والارض، فكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه، حتى أراد الله أن يفتنهم فيه. فحكى السدي أن فرعون صعد السطح ورمى بنشابة نحو السماء، فرجعت متلطخة بدماء، فقال قد قتلت إله موسى. فروي أن جبريل عليه السلام بعثه الله تعالى عند مقالته، فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع، قطعة على عسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف، وقطعة في البحر، وقطعة في الغرب، وهلك كل من عمل فيه شيئا. والله أعلم بصحة ذلك. (وإنى لا ظنه من الكاذبين) الظن هنا شك، فكفر على الشك، لانه قد رأى من البراهين ما لا يخيل (1) على ذي فطرة. قوله تعالى: (واستكبر) أي تعظم (هو وجنوده) أي عن الايمان بموسى. (في الارض بغير الحق) أي بالعدوان، أي لم تكن له حجة تدفع ما جاء به موسى (وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) أي توهموا أنه لا معاد ولا بعث. وقرأ نافع وابن محيصن وشيبة وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي " لا يرجعون " بفتح الياء وكسر الجيم على أنه مسمى الفاعل. الباقون " يرجعون " على الفعل المجهول. وهو اختيار أبي عبيد، والاول اختيار أبي حاتم. (فأخذناه وجنوده) وكانوا ألفي ألف وستمائة ألف. (فنبذناهم في اليم) أي طرحناهم في البحر المالح. قال قتادة: بحر من وراء مصر يقال له إساف أغرقهم الله فيه. وقال وهب والسدي: المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له بطن مريرة، وهو إلى اليوم غضبان. وقال مقاتل: يعني نهر النيل. وهذا ضعيف والمشهور الاول. (فانظر) يا محمد (كيف كان عاقبة الظالمين) أي آخر أمرهم. (وجعلناهم أئمة) أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أكثر. وقيل: جعل الله الملا من قومه رؤساء السفلة منهم، فهم يدعون إلى جهنم. وقيل: أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر. (يدعون إلى النار) أي إلى عمل أهل (1) لا يخيل: أي لا يشكل. (*)
[ 290 ]
النار (ويوم القيامة لا ينصرون). (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) أي أمرنا العباد بلعنهم فمن ذكرهم لعنهم. وقيل: أي ألزمناهم اللعن أي البعد عن الخير. (ويوم القيامة هم من المقبوحين) أي من المهلكين الممقوتين. قاله ابن كيسان وأبو عبيدة. وقال ابن عباس: المشوهين الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل: من المبعدين. يقال: قبحه الله أي نحاه من كل خير، وقبحه وقبحه إذا جعله قبيحا. وقال أبو عمرو قبحت وجهه بالتخفيف معناه قبحت. قال الشاعر: ألا قبح الله البراجم كلها * * وقبح يربوعا وقبح دارما وانتصب يوما على الحمل على موضع " في هذه الدنيا " واستغنى عن حرف العطف في قوله: " من المقبوحين " كما استغنى عنه في قوله: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ". ويجوز أن يكون العامل في " يوم " مضمرا يدل عليه قوله: " هم من المقبوحين " فيكون كقوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ". ويجوز أن يكون العامل في " يوم " قوله: " هم من المقبوحين " وإن كان الظرف متقدما ويجوز أن يكون مفعولا على السعة، كأنه قال: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة. قوله تعالى: ولقد ءاتينا موسى الكتب من بعد ما أهلكنا القرون الاولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون (43) قوله تعالى: (ولقد اتينا موسى الكتاب) يعني التوراة، قاله قتادة. قال يحيى بن سلام: هو أول كتاب - يعني التوراة - نزلت فيه الفرائض والحدود والاحكام. وقيل: الكتاب هنا ست من المثاني السبع التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، ورواه مرفوعا. (من بعد ما أهلكنا القرون الاولى) قال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الارض منذ أنزل الله التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة ألم تر إلى قوله تعالى: " ولقد أتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الاولى " "
[ 291 ]
أي من بعد قوم نوح وعاد وثمود. وقيل: أي من بعد ما أغرقنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون. (بصائر للناس) أي آتيناه الكتاب بصائر. أي ليتبصروا (وهدى) أي من الضلاله لمن عمل بها (ورحمة) لمن آمن بها (لعلهم يتذكرون) أي ليذكروا هذه النعمة فيقموا على إيمانهم في الدنيا، ويثقوا بثوابهم في الآخرة. قوله تعالى: وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من االشهدين (44) ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم ءايتنا ولكنا كنا مرسلين (45) قوله تعالى: (وما كنت) أي ما كنت يا محمد (بجانب الغربي) أي بجانب الجبل الغربي قال الشاعر: أعطاك من أعطى الهدى النبيا * * نورا يزين المنبر الغربيا (إذ قضينا إلى موسى الامر) إذ كلفناه أمرنا ونهينا، وألزمناه عهدنا وقيل: أي إذ قضينا إلى موسى أمرك وذكرناك بخير ذكر. وقال ابن عباس: " إذ قضينا " أي أخبرنا أن أمة محمد خير الامم. (وما كنت من الشاهدين) أي من الحاضرين. قوله تعالى: (ولكنا أنشأنا قرونا) أي من بعد موسى (فتطاول عليهم العمر) حتى نسوا ذكر الله أي عهده وأمره. نظيره: " فطال عليهم الامد فقست قلوبهم ". وظاهر هذا يوجب أن يكون جرى لنبينا عليه السلام ذكر في ذلك الوقت، وأن الله سيبعثه، ولكن طالت المدة، وغلبت القسوة، فنسي القوم ذلك وقيل: آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه. قوله تعالى: (وما كنت ثاويا في أهل مدين) أي مقيما كمقام موسى وشعيب بينهم. قال العجاج: * فبات حيث يدخل الثوي * أي الضيف المقيم. وقوله: (تتلو عليهم إياتنا) أي تذكرهم بالوعد والوعيد. (ولكنا كنا مرسلين) أي أرسلناك في أهل مكة، وأتيناك كتابا فيه هذه الاخبار، ولولا ذلك لما علمتها.
[ 292 ]
قوله تعالى: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46) قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) أي كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين. وروى عمرو بن دينار يرفعه قال: " نودى يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني " فذلك قوله: " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ". وقال أبو هريرة - وفي رواية عن ابن عباس - إن الله قال: " يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ورحمتكم قبل أن تسترحموني " قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال: يا رب أرنيهم. فقال الله: " إنك لن تدركهم وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم " قال: بلى يا رب. فقال الله تعالى: " يا أمة محمد " فأجابوا من أصلاب أبائهم. فقال: " قد أجبتكم قبل أن تدعوني " ومعنى الآية على هذا ما كنت بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك وأخبرناه بما كتبناه لك ولامتك من الرحمة إلى آخر الدنيا. (ولكن) فعلنا ذلك (رحمة) منا بكم. قال الاخفش: " رحمه " نصب على المصدر أي ولكن رحمناك رحمة. وقال الزجاج: هو مفعول من أجله أي فعل ذلك بك لاجل الرحمة. النحاس: أي لم تشهد قصص الانبياء، ولا تليت عليك، ولكنا بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة. وقال الكسائي: على خبر كان، التقدير: ولكن كان رحمة. قال: ويجوز الرفع بمعنى هي رحمة. الزجاج: الرفع بمعنى ولكن فعل ذلك رحمة. (لتنذر قوما ما آتاهم من نذير من قبلك) يعني العرب، أي لم تشاهد تلك الاخبار، ولكن أوحيناها إليك رحمة بمن أرسلت إليهم لتنذرهم بها (لعلهم يتذكرون).
[ 293 ]
قوله تعالى: ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءايتك ونكون من المؤمنين (47) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظهرا وقالوا إنا بكل كفرون (48) قوله تعالى: (ولولا أن تصيبهم) يريد قريشا. وقيل: اليهود. (مصيبة) أي عقوبة ونقمة (بما قدمت أيديهم) من الكفر والمعاصي. وخص الايدي بالذكر، لان الغالب من الكسب إنما يقع بها. وجواب " لولا " محذوف أي لولا أن يصيبهم عذاب بسبب معاصيهم المتقدمة (فيقولوا ربنا لولا) أي هلا (أرسلت إلينا رسولا) لما بعثنا الرسل. وقيل: لعاجلناهم بالعقوبة وبعث الرسل إزاحة لعذر الكفار كما تقدم في " سبحان " وآخر " طه ". (فنتبع آياتك) نصب على جواب التخصيص. (ونكون) عطف عليه. (من المؤمنين) من المصدقين. وقد أحتج بهذه الآية من قال: إن العقل يوجب الايمان والشكر، لانه قال: " بما قدمت أيديهم " وذلك موجب للعقاب إذا تقرر الوجوب قبل بعثة الرسل، وإنما يكون ذلك بالعقل. قال القشيري: والصحيح أن المحذوف لولا كذا لما احتيج إلى تجديد الرسل. أي هؤلاء الكفار غير معذورين إذ بلغتهم الشرائع السابقة والدعاء إلى التوحيد، ولكن تطاول العهد، فلو عذبناهم فقد يقول قائل منهم طال العهد بالرسل، ويظن أن ذلك عذر ولا عذر لهم بعد أن بلغهم خبر الرسل، ولكن أكملنا إزاحة العذر، وأكملنا البيان فبعثناك يا محمد إليهم. وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل. قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم (قالوا) يعنى كفار مكة (لولا) أي هلا (أوتى مثل ما أوتى موسى) من العصا واليد البيضاء،
[ 294 ]
وأنزل عليه القرآن جملة واحدة كالتوراة، وكان بلغهم ذلك من أمر موسى قبل محمد، فقال الله تعالى: (أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا ساحران (1) تظاهرا) أي موسى ومحمد تعاونا على السحر. قال الكلبي: بعثت قريش إلى اليهود وسألوهم عن بعث محمد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته. فلما رجع الجواب إليهم " قالوا ساحران تظاهرا ". وقال قوم: إن اليهود علموا المشركين، وقالوا قولوا لمحمد لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة. فهذا الاحتجاج وارد على اليهود، أي أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى حين قالوا في موسى وهرون هما ساحران و (إنا بكل كافرون) أي وإنا كافرون بكل واحد منهما. وقرأ الكوفيون: " سحران " بغير ألف، أي الانجيل والقرآن. وقيل: التوراة والفرقان، قاله الفراء. وقيل: التوراة والانجيل. قاله أبو رزين. الباقون " ساحران " بألف. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها - موسى ومحمد عليهما السلام. وهذا قول مشركي العرب. وبه قال ابن عباس والحسن. الثاني - موسى وهرون. وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة. وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد. فيكون الكلام احتجاجا عليهم. وهذا يدل على أن المحذوف في قوله: " لولا أن تصيبهم مصيبة " لما جددنا بعثة الرسل، لان اليهود اعترفوا بالنبوات ولكنهم حرفوا وغيروا واستحقوا العقاب، فقال: قد أكملنا إزاحة عذرهم ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم. الثالث - عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وهذا قول اليهود اليوم. وبه قال قتادة. وقيل: أو لم يكفر جميع اليهود بما أوتي موسى في التوراة من ذكر المسيح، وذكر الانجيل والقرآن، فرأوا موسى ومحمدا ساحرين والكتابين سحرين. قوله تعالى: قل فأتوا بكتب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صدقين (49) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوءهم ومن أضل ممن اتبع هوئه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظلمين (50) ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون (51) (1) قراءة نافع: " ساحران تظاهرا " وعليهما المصنف. (*)
[ 295 ]
قوله تعالى: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه) أي قل يا محمد إذا كفرتم معاشر المشركين بهذين الكتابين " فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه " ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر (إن كنتم صادقين) في أنهما سحران. أو فأتوا بكتاب هو أهدى من كتابي موسى ومحمد عليهما السلام. وهذا يقوي قراءة الكوفيين " سحران ". " أتبعه " قال الفراء: بالرفع، لانه صفة للكتاب وكتاب نكره. قال: وإذا جزمت - وهو الوجه - فعلى الشرط. قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك) يا محمد أن يأتوا بكتاب من عند الله (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) أي آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويحببه لهم الشيطان، وإنه لا حجة لهم. (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) أي لا أحد أضل منه (إن الله لا يهدى القوم الظالمين). قوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول) أي أتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول. وقرأ الحسن " وصلنا " مخففا وقال أبو عبيدة والاخفش: معنى " وصلنا " أتممنا كصلتك الشئ. وقال ابن عيينه والسدي: بينا. وقاله ابن عباس. وقال مجاهد: فصلنا. وكذلك كان يقرؤها. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم في الآخرة في الدنيا. وقال. أهل المعاني: والينا وتابعنا وأنزلنا القرآن تبع بعضه بعضا: وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ونصائح ومواعظ إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. وأصلها من وصل الحبال بعضها ببعض. قال الشاعر: فقل لبني مروان ما بال ذمة * * وحبل ضعيف ما يزال يوصل (1) وقال امرؤ القيس: درير كخذروف الوليد أمره * * تقلب كفيه بخيط موصل (2) (1) رواية البحر وروح المعاني: ما بال ذمتي * بحبل...... الخ (2) درير: مستدر في العدو، يصف سرعة جري فرسه. والخذروف شئ يدوره الصبي في يده ويسمع له صوت ويسمى الخراره. وأمره أحكم فتله. (*)
[ 296 ]
والضمير في " لهم " لقريش، عن مجاهد وقيل: هو لليهود. وقيل: هو لهم جميعا. والآية رد على من قال هلا أوتي محمد القرآن جملة واحدة. (لعلهم يتذكرون) قال ابن عباس: يتذكرون محمدا فيؤمنوا به. وقيل: يتذكرون فيخافوا أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، قاله علي بن عيسى. وقيل: لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الاصنام. حكاه النقاش. قوله تعالى: الذين ءاتينهم الكتب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (53) قوله تعالى: (الذين اتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) أخبر أن قوما ممن أوتوا الكتاب من بني إسرائيل من قبل القرآن يؤمنون بالقرآن، كعبد الله بن سلام وسلمان. ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفرا أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصارى: منهم بحيراء الراهب وأبرهه والاشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع. كذا سماهم الماوردي. وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والتي بعدها " أولئك يوتون أجرهم مرتين بما صبروا " قاله قتادة. وعنه أيضا: أنها انزلت في عبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي، أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية. وعن رفاعة القرظي: نزلت في عشرة أنا أحدهم. وقال عروة بن الزبير: نزلت في النجاشي وأصحابه ووجه باثنى عشر رجلا فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، لم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركبا أحمق منكم ولا أجهل، فقالوا: " سلام عليكم " لم نأل أنفسنا رشدا " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " وقد تقدم هذا في " المائدة " (1) (1) راجع ج‍ 6 ص 255 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 297 ]
عند قوله " وإذا إسمعوا ما أنزل إلى الرسول " مستوفي. وقال أبو العالية: هؤلاء قوم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. (من قبله) أي من قبل القرآن. وقيل: من قبل محمد عليه السلام (هم به) أي بالقرآن أو بمحمد عليه السلام (يؤمنون). (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به أنه الحق من ربنا) أي إذا قرئ عليهم القرآن قالوا صدقنا بما فيه (إنا كنا من قبله) أي من قبل نزوله، أو من قبل بعثه محمد عليه السلام (مسلمين) أي موحدين، أو مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرآن. قوله تعالى: أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقنهم ينفقون (54) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعملنا ولكم أعملكم سلم عليكم لا نبتغى الجهلين (55) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله عزوجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " قال الشعبي للخراساني: خذا هذا الحديث بغير شئ، فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة. وخرجه البخاري أيضا. قال علماؤنا: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين، فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه، ثم إنه خوطب من جهة نبينا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين، وكذلك العبد هو مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده، ورب الامة لما قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية، ثم إنه لما أعتقها وتزوجها أحياها إحياء الحرية التي ألحقها فيه بمنصبه، فقد قام
[ 298 ]
بما أمر فيها، فأجر كل واحد منهم أجرين. ثم إن كل واحد من الاجرين مضاعف في نفسه، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الاجور. ولذلك قيل: إن العبد الذي يقوم بحق سيده وحق الله تعالى أفضل من الحر، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وغيره. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للعبد المملوك المصلح أجران " والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لاحببت أن أموت وأنا مملوك قال سعيد بن المسيب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعما للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعما له ". الثانية - قوله تعالى (بما صبروا) عام في صبرهم على ملتهم، ثم على هذه وعلى الاذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك. الثالثة - قوله تعالى: (ويدرءون بالحسنة السيئة) أي يدفعون درأت إذا دفعت، والدرء الدفع. وفي الحديث " ادرءوا الحدود بالشبهات ". قيل: يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الاذى. وقيل: يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب، وعلى الاول فهو وصف لمكارم الاخلاق، أي من قال لهم سوءا لا ينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه فهذه آية مهادنة، وهي من صدر الاسلام، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. ومنه قوله عليه السلام لمعاذ: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " ومن الخلق الحسن دفع المكروه والاذى، والصبر على الجفا بالاعراض عنه ولين الحديث. الرابعة - قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) أثنى عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع، وفي ذلك حض على الصدقات. وقد يكون الانفاق من الابدان بالصوم والصلاة، ثم مدحهم أيضا على إعراضهم عن اللغو، كما قال تعالى: " وإذا مروا باللغو مروا كراما " أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الاذى والشتم أعرضوا
[ 299 ]
عنه، أي لم يشتغلوا به (وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم) أي متاركة، مثل قول: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " أي لنا ديننا ولكم دينكم. (سلام عليكم) أي أمنا لكم منا فإنا لا نحاربكم، ولا نسابكم، وليس من التحية في شئ. قال الزجاج: وهذا قبل الامر بالقتال. (لا نبتغى الجاهلين) أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة. قوله تعالى: إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56) قوله تعالى: (إنك لا تهدى من أحببت) قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب. قلت: والصواب أن يقال أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص حديث البخاري ومسلم، وقد تقدم الكلام ذلك في " براءة " (1). وقال أبوروق قوله: (ولكن الله يهدى من يشاء) إشارة إلى العباس. وقاله قتادة. (وهو أعلم بالمهتدين) قال مجاهد: لمن قدر له أن يهتدي. وقيل: معنى " من أحببت " أي من أحببت أن يهتدي. وقال جبير بن مطعم: لم يسمع أحد الوحي يلقى على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر الصديق فإنه سمع جبريل وهو يقول: يا محمد اقرأ " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ". قوله تعالى: وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرماءامنا تجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57) وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مسكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الورثين (58) (1) راجع ج‍ 8 ص 272 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 300 ]
قوله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من ارضنا) هذا قول مشركي مكة قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا - يعنى مكة - لاجتماعهم على خلافنا، ولا طاقة لنا بهم. وكان هذا من تعللاتهم، فأجاب الله تعالى عما اعتل به فقال: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) أي ذا أمن. وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فأخبر أنه قد أمنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم. والتخطف الانتزاع بسرعة، وقد تقدم. قال يحيي بن سلام يقول: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذا عبد تموني وآمنتم بي. (يجبى إليه ثمرات كل شئ) أي يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد، عن ابن عباس وغيره. يقال: جبى الماء في الحوض أي جمعه. والجابية الحوض العظيم. وقرأ نافع: " تجبى " بالتاء، لاجل الثمرات. والباقوت بالياء، لقوله: " كل شئ " واختاره أبو عبيد. قال: لانه حال بين الاسم المؤنث وبين فعله حائل وأيضا فإن الثمرات جمع، وليس بتأنيث حقيقي. (رزقا من لدنا) أي من عندنا. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي لا يعقلون، أي هم غافلون عن الاستدلال، وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. " رزقا " نصب على المفعول من أجله. ويجوز نصبهه على المصدر بالمعنى، لان معنى " تجبى " ترزق. وقرئ " تجبني " بالنون من الجنا، وتعديته بإلى كقولك يجنى إلى فيه ويجنى إلى الخافة (1). قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية يطرت معيشتها) بين لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب أن الخوف في ترك الايمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار، والبطر (1) الخافة العيبة ومنه الحديث " المؤمن كمثل خافة الزرع ". (*)
[ 301 ]
والطغيان بالنعمة، قاله الزجاج " معيشتها " أي في معيشتها فلما حذف (في) تعدى الفعل، قاله المازني. الزجاج كقوله: " واختار موسى قومه سبعين رجلا ". الفراء: هو منصوب على التفسير. قال كما تقول: أبطرت مالك وبطرته. ونظيره عنده " إلا من سفه نفسه " وكذا عنده " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا " ونصب المعارف على التفسير محال عند البصريين، لان معنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا نكرة يدل على الجنس. وقيل: أنتصب ب‍ " بطرت " ومعنى " بطرت " جهلت، فالمعنى: جهلت شكر معيشتها. (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا) أي لم تسكن بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من المساكن وأكثرها خراب. والاستثناء يرجع المساكن أي بعضها يسكن، قاله الزجاج. واعترض عليه، فقيل: لو كان الاستثناء يرجع إلى المساكن لقال إلا قليل، لانك تقول: القوم لم تضرب إلا قليل، ترفع إذا كان المضروب قليلا، وإذا نصبت كان القليل صفة للضرب، أي لم تضرب إلا ضربا قليلا، فالمعنى إذا: فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون ومن مر بالطريق يوما أو بعض يوم، أي لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وكذا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافر أو مار الطريق يوما أو ساعة. (وكنا نحن الوارثين) أي لما خلفوا بعد هلاكهم. قوله تعالى: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم ءايتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظلمون (59) وما أوتيتم من شئ فمتع الحيوة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون (60) أفمن وعدنه وعدا حسنا فهو لقيه كمن متعنه متع الحيوة الدنيا ثم يوم القيمة من المحضرين (61) قوله تعالى: (وما كان ريك مهلك القرى) أي القرى الكافرة. (حتى يبعث في أمها) قرئ بضم الهمزة وكسرها لاتباع الجر يعني مكة و (رسولا) يعنى محمدا صلى الله
[ 302 ]
عليه وسلم. وقيل: " في أمها " يعني في أعظمها " رسولا " ينذرهم. وقال الحسن: في أوائلها قلت: ومكة أعظم القرى لحرمتها وأولها، لقوله تعالى: " إن أول بيت وضع للناس " وخصت بالاعظم لبعثة الرسول فيها، لان الرسل تبعث إلى الاشراف وهم يسكنون المدائن وهي أم ما حولها. وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة " يوسف " (1). (يتلو عليهم آياتنا) " يتلوا " في موضع الصفة أي تاليا أي يخبرهم أن العذاب ينزل بهم إن لم يؤمنوا. (وما كنا مهلكي القرى) سقطت النون للاضافة مثل " ظالمي أنفسهم " (إلا وأهلها ظالمون) أي لم أهلكهم إلا وقد أستحقوا الا هلاك لاصرارهم على الكفر بعد الاعذار إليهم. وفي هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم. أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الا هلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والالزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم. ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال عز من قائل: " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " فنص في قوله " بظلم " على أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما لهم منه، وإن حاله في غناه وحكمته منافية للظلم، دل على ذلك بحرف النفي مع لامه كما قال تعالى: " وما كان الله ليضيع إيمانكم ". قوله تعالى: (وما أوتيتم من شئ) يا أهل مكة (فمتاع الحياة الدنيا وزينتها) أي تتمتعون بها مدة حياتكم، أو مدة في حياتكم، فإما أن تزولوا عنها أو تزول عنكم. (وما عند الله خير وأبقى) أي أفضل وأدوم، يريد الدار الآخرة وهي الجنة. (أفلا تعقلون) أن الباقي أفضل من الفاني. قرأ أبو عمرو " يعقلون " بالياء. الباقون بالتاء على الخطاب وهو الاختيار لقوله تعالى: " وما أو تيتم ". قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه) يعني الجنة وما فيها من الثواب (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) فأعطى منها بعض ما أراد. (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) أي في النار. ونظيره قوله: " ولولا نعمة ربى لكنت (1) انظر ج‍ 9 ص 274 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 303 ]
من المحضرين " قال ابن عباس: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وفي أبي جهل بن هشام. وقال مجاهد: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل. وقال محمد بن كعب. نزلت في حمزة وعلي، وفي أبي جهل وعمارة بن الوليد. وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة، قاله السدي. قال القشيري: والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم. الثعلبي: وبالجملة فإنها نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة. قوله تعالى: ويوم يناديهم فيقول أين شركاءى الذين كنتم تزعمون (62) قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغوينهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون (63) وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون (64) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الانباء يومئذ فهم لا يتساءلون (66) فأما من تاب وءامن وعمل صلحا فعسى أن يكون من المفلحين (67) قوله تعالى: (ويوم يناديهم) أي ينادي الله يوم القيامة هؤلاء المشركين (فيقول أين شركائي) بزعمكم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم. (قال الذين حق عليهم القول) أي حقت عليهم كلمة العذاب وهم الرؤساء، قاله الكلبى. وقال قتادة: هم الشياطين. (ربنا هؤلاء الذين أغوينا) أي دعوناهم إلى الغي. فقيل لهم: أغويتموهم ؟ قالوا: (أغويناهم كما غوينا ". يعنون أضللناهم كما كنا ضالين. (تبرأنا إليك) أي تبرأ بعضنا من بعض، والشياطين يتبرءون ممن أطاعهم، والرؤساء يتبرءون ممن قبل منهم، كما قال تعالى: " الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ".
[ 304 ]
قوله تعالى: (وقيل) أي للكفار (ادعوا شركاءكم) أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم. (فدعوهم) أي استغاثوا بهم. (فلم يستجيبوا لهم) أي فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم. (ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) قال الزجاج: جواب " لو " محذوف، والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لانجاهم الهدى، ولما صاروا إلى العذاب. وقيل: أي لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم. وقيل المعنى: ودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا إذا رأوا العذاب يوم القيامة. (ماذا أجبتم المرسلين) أي يقول الله لهم ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي. (فعميت عليهم الانباء يومئذ) أي خفيت عليهم الحجج، قاله مجاهد، لان الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ولا حجة يوم القيامة. و " الانباء " الاخبار، سمى حججهم أنباء لانها أخبار يخبرونها. (فهم لا يتساءلون) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج، لان الله تعالى أدحض حججهم، قاله الضحاك. وقال ابن عباس: " لا يتساءلون " أي لا ينطقون بحجة. وقيل: " لا يتساءلون " في تلك الساعة، ولا يدرون ما يجيبون به من هول تلك الساعة، ثم يجيبون بعد ذلك كما أخبر عن قولهم: " والله ربنا ما كنا مشركين ". وقال مجاهد: لا يتساءلون بالانساب. وقيل: لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل من ذنوبه شيئا، حكاه بن عيسى. قوله تعالى: (فأما من تاب) أي من الشرك (وآمن) أي صدق (وعمل صالحا) أدى الفرائض وأكثر من النوافل (فعسى أن يكون من المفلحين) أي من الفائزين بالسعادة. وعسى من الله واجبة. قوله تعالى: وربك يخلقق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحن الله وتعلى عما يشركون (68) وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (69) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70)
[ 305 ]
قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) هذا متصل بذكر الشركاء اعبدوهم واختاروهم للشفاعة، أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء لا إلى المشركين. وقيل هو جواب الوليد بن المغيرة حين قال: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " يعني نفسه زعم، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف. وقيل: هو جواب اليهود إذ قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به. قال ابن عباس: والمعنى، وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار منهم من يشاء لطاعته. وقال يحيي بن سلام: والمعنى، وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوته. وحكى النقاش: إن المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، ويختار الانصار لدينه. قلت: وفي كتاب البزار مرفوعا صحيحا عن جابر " إن الله تعالى اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي وفي أصحابي كلهم خير واختار أمتي على سائر الامم واختار لي من أمتي أربعة قرون ". وذكر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أبيه في قوله عزوجل: " وربك يخلق ما يشاء ويختار " قال من النعم الضأن، ومن الطير الحمام. والوقف التام " ويختار ". وقال علي بن سليمان: هذا وقف التمام ولا يجوز أن تكون " ما " في موضع نصب ب‍ " يختار " لانها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شئ. قال وفي هذا رد على القدرية. قال النحاس: التمام " ويختار " أي ويختار الرسل. (ما كان لهم الخيرة) أي ليس يرسل من اختاروه هم. قال أبو إسحق: " ويختار " هذا الوقف التام المختار، ويجوز أن تكون " ما " في موضع نصب ب‍ " يختار " ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة. قال القشيري: الصحيح الاول لاطباقهم [ على ] الوقف على قوله " ويختار ". قال المهدوي: وهو أشبه بمذهب أهل السنة و " ما " من قوله: " ما كان لهم الخيرة " نفي عام لجميع الاشياء أن يكون للعبد فيها شئ سوى اكتسابه بقدرة الله عزوجل. الزمخشري: " ما كان لهم الخيرة " بيان لقوله: " ويختار " لان معناه يختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى، وإن الخيرة الله تعالى في أفعاله وهو أعلم بوجوده الحكمة فيها أي ليس لاحد
[ 306 ]
من خلقه أن يختار عليه وأجاز الزجاج وغيره أن تكون " ما " منصوبة ب‍ " يختار ". وأنكر الطبري أن تكون " ما " نافيه، لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، ولانه لم يتقدم كلام بنفي. قال المهدي: ولا يلزم ذلك، لان " ما " تنفي الحال والاستقبال كليس ولذلك عملت عملها، ولان الآي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم على ما يسأل عنه، وعلى ما هم مصرون عليه من الاعمال وإن لم يكن ذلك في النص. وتقدير الآية عند الطبري: ويختار لولايته الخيرة من خلقه، لان المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم فيجعلونها لآلهتهم، فقال الله تبارك وتعالى: " وربك يخلق ما يشاء ويختار " للهداية من خلقه من سبقت له السعادة في علمه، كما اختار المشركون خيار أموالهم لآلهتهم، ف‍ " ما " على هذا لمن يعقل وهي بمعنى الذي و " الخيرة " رفع بالابتداء " ولهم " الخبر والجملة خبر " كان ". وشبهه بقولك: كان زيد أبوه منطلق وفيه ضعف، إذا ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان إلا أن يقدر فيه حذف فيجوز على بعد. وقد روي معنى ما قاله الطبري عن ابن عباس قال الثعلبي: " ما " نفي أي ليس لهم الاختيار على الله. وهذا أصوب كقوله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ". قال محمود الوراق: توكل على الرحمن في كل حاجة * * أردت فإن الله يقضي ويقدر إذا ما يرد ذو العرش أمرا بعبده * * يصبه وما للعبد (1) ما يتخير وقد يهلك الانسان ومن وجه حذره * * وينجو بحمد الله من حيث يحذر (2) وقال آخر: العبد ذو ضجر والرب ذو قدر * * والدهر ذو دول والرزق مقسوم والخير أجمع فيها اختار خالقنا * * وفي اختيار سواه اللوم والشوم قال بعض العلماء: لا ينبغي لاحد أن يقدر على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة " قل يا أيها (1) في بعض نسخ الاصل: وما للعبد لا يتخير. والتصحيح من النسخة الخيرية. (2) لعل صواب البيت: وينجو بحمد الله من ليس يحذر. وهذا ما يفيده معنى التوكل. (*)
[ 307 ]
الكافرون " في الركعة الثانية " قل هو الله أحد ". واختار بعض المشايخ أن يقرأ في الركعة الاولى " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " الآية، وفي الركعة الثانية " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " وكل حسن. ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام، وهو ما رواه البخاري من صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الامور كلها، كما يعلمنا السورة في القرآن، يقول: " إذا هم أحدكم بالامر فليركع ركعتين غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدوتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الامر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الامر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني وأصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به " قال: ويسمي حاجته. وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال: " اللهم حر لي وأختر لي " وروى أنس أن النبي صلى الله عليه قال له " يا أنس إذا هممت بأمر فأستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى ما يسبق قلبك فإن الخير فيه ". قال العلماء: وينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الامور، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه، فإن الخير فيه إن شاء الله. وإن عزم على سفر فيتوخى بسفره يوم الخميس أو يوم الاثنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نزه نفسه سبحانه بقوله الحق، فقال: " سبحان الله " أي تنزيها. (وتعالى) أي تقدس وتمجد (عما يشركون. وربك يعلم ما تكن صدور هم وما يعلنون) يظهرون. وقرأ ابن محيصن وحميد: " تكن " بفتح التاء وضم الكاف وقد تقدم هذا في " النمل ". تمدح سبحانه بأنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شئ (هو الله لا إله إلا هو له الحمد في الاولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) تقدم معناه، وأنه المنفرد بالوحدانية، إن جميع المحامد إنما تجب له وأن لا حكم إلا له وإليه المصير.
[ 308 ]
قوله تعالى: قل أرءيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73) قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا) أي دائما، ومنه قول طرفة. لعمرك ما أمري علي بغمة * * نهاري ولا ليلي بسرمد (1) بين سبحانه أنه مهد أسباب المعيشة ليقوموا بشكر نعمه. (من إله غير الله يانيكم بضياء) أي بنور تطلبون فيه المعيشة. وقيل: بنهار تبصرون فيه معايشكم وتصلح فيه الثمار والنبات. (أفلا تسمعون) سماع فهم وقبول. (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه) أي تستقرون فيه من النصب. (أفلا تبصرون) ما أنتم فيه من الخطإ في عبادة غيره، فإذا أقررتم بأنه لا يقدر على إيتاء الليل والنهار غيره فلم تشركون به. (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) أي فيهما. وقيل: الضمير للزمان وهو الليل والنهار. (ولتبتغوا من فضله) أي لتطلبوا من رزقه فيه أي في النهار فحذف. (ولعلكم تشكرون) الله على ذلك. قوله تعالى: ويوم يناديهم فيقول أين شركاءى الذين كنتم تزعمون (74) ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهنكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون (75) (1) اللغمة: الامر الذى لا يهتدى له، والمعنى، لا أتحير في أمري نهارا وأؤخره ليلا فيطول على الليل.
[ 309 ]
قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) أعاد هذا الضمير لاختلاف الحالين، ينادون مرة فيقال لهم: " أين شركائي الذين كنتم تزعمون " فيدعون الاصنام فلا يستجيبون، فتظهر حيرتهم (1)، ثم ينادون مرة أخرى فيسكتون. وهو توبيخ وزيادة خزي. والمناداة هنا ليست من الله ؟ لان الله تعالى لا يكلم الكفار لقوله تعالى: " ولا يكلمهم الله يوم القيامة " لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم، ويقيم الحجه عليهم في مقام الحساب. وقيل: يحتمل أن يكون من الله، وقوله: " ولا يكلمهم الله " حين يقال لهم: " أخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال: " شركائي " لانهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم. قوله تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيدا) أي نبيا، عن مجاهد. وقيل: هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا. والاول أظهر، لقوله تعالى: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " وشهيد كل أمة رسولها الذي يشهد عليها. والشهيد الحاضر. أي أحضرنا رسولهم المبعوث إليهم. (فقلنا هاتوا برهانكم) أي حجتكم. (فعلموا أن الحق لله) أي علموا صدق ما جاءت به الانبياء. (وضل عنهم) أي ذهب عنهم وبطل. (ما كانوا يفترون) أي يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة تعبد. قوله تعالى: إن قرون كان قوم موسى فبغى عليهم وءاتينه من الكنوز ما إن مفاتحة لتنوا بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ فيماءاتك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين (77) (1) في نسخة، فيظهر حزنهم. (*)
[ 310 ]
قوله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى) لما قال تعالى: " وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها " بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله، ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه. قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى لحا، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحق: كان عم موسى لاب وأم. وقيل: كان ابن خالته. ولم ينصرف للعجمة والتعريف. وما كان على وزن فاعول أعجميا لا يحسن فيه الالف واللام لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة، فإن حسنت فيه الالف واللام انصرف إن كان اسما لمذكر نحو طاوس وراقود. قال الزجاج: ولو كان قارون من قرنت الشئ لانصرف. (فبغى عليهم) بغيه أنه زاد في طول ثوبه شبرا، قاله شهر بن حوشب. وفي الحديث " لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا " وقيل: بغيه كفره بالله عزوجل، قاله الضحاك. وقيل: بغيه استخفافه بهم بكثرة ماله وولده، قاله قتادة. وقيل: بغيه نسبته ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته، قاله ابن بحر. وقيل: بغيه قوله إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان في هرون فمالي ! فروى أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة لموسى والحبورة لهرون، يقرب القربان ويكون رأسا فيهم، وكان القربان لموسى فجعله موسى إلى أخيه، وجد قارون في نفسه وحسدهما فقال لموسى: الامر لكما وليس لي شئ إلى متى أصبر. قال موسى: هذا صنع الله. قال: والله لا أصدقنك حتى تأتي بآية، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجئ كل واحد منهم بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر - وكانت من شجر اللوز - فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر. " فبغى عليهم " من البغي وهو الظلم. وقال يحيى بن سلام وابن المسيب: كان قارون غنيا عاملا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم وكان منهم وقول سابع: روي عن ابن عباس قال: لما أمر الله
[ 311 ]
تعالى برجم الزاني عمد قارون إلى امرأة بغي وأعطاها مالا، وحملها على أن ادعت على موسى أنه زنى بها وأنه أحبلها، فعظم على موسى ذلك وأحلفها بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت. فتداركها الله فقالت: أشهد أنك برئ، وأن قارون أعطاني مالا، وحملني على أن قلت ما قلت، وأنت الصادق وقارون الكاذب. فجعل الله أمر قارون إلى موسى وأمر الارض أن تطيعه. فجاءه وهو يقول للارض: يا أرض خذيه، وهي تأخذه شيئا فشيئا وهو يستغيث يا موسى ! إلى أن ساخ في الارض هو وداره وجلساؤه الذين كانوا على مذهبه. وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى: استغاث بك عبادي فلم ترحمهم، أما أنهم لو دعوني لوجدوني قريبا مجيبا. ابن جريج: بلغنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة، فلا يبلغون إلى أسفل الارض إلى يوم القيامة، وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج: حدثني إبراهيم بن راشد قال حدثني داود بن مهران، عن الوليد بن مسلم، عن مروان ابن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: لقي قارون يونس في ظلمات البحر، فنادى قارون يونس، فقال: يا يونس: تب إلى الله فإنك تجده عند أول قدم ترجع بها إليه. فقال يونس: ما منعك من التوبة. فقال: إن توبتي جعلت إلى ابن عمي فأبى أن يقبل مني. وفي الخبر: إذا وصل قارون إلى قرار الارض السابعة نفخ إسرافيل في الصور. والله أعلم. قال السدي: وكان أسم البغي سبرتا، وبذل لها قارون ألفي درهم. قتادة: وكان قطع البحر مع موسى وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري. قوله تعالى: (وآتيناه من الكنوز) قال عطاء: أصاب كثيرا من كنوز يوسف عليه السلام. وقال الوليد بن مروان: إنه كان يعمل الكيمياء. (ما إن مفاتحه) " إن " واسمها وخبرها في صلة " ما " و " ما " مفعولة " آتيناه ". قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات، إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي وأخواته " إن " وما عملت فيه، وفي القرآن " ما إن مفاتحه ". وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح
[ 312 ]
به. ومن قال مفتاح قال مفاتيح. ومن قال هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح. (لتنوء بالعصبة) أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنئ العصبة أي تميلهم بثقلها، فلما أنفتحت التاء دخلت الباء. كما قالوا هو يذهب بالبؤس ومذهب البؤس. فصار " لتنوء بالعصبة " فجعل العصبة تنوء أي تنهض متثاقلة، كقولك قم بنا أي أجعلنا نقوم. يقال: ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل. قال الشاعر (1): تنوء بأخراها فلايا قيامها * * وتمشي الهوينى عن قريب فتبهر وقال آخر: أخذت فلم أملك ونوت فلم أقم * * كأني من طول الزمان مقيد وأناءني إذا أثقلني، عن أبي زيد. وقال أبو عبيدة: قوله " لتنوء بالعصبة " مقلوب، والمعنى لتنوء بها العصبة أي تنهض بها. أبو زيد: نؤت بالحمل إذا نهضت. قال الشاعر: إنا وجدنا خلفا بئس الخلف * * عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف والاول معنى قول ابن عباس وأبي صالح والسدى. وهو قول الفراء واختاره النحاس. كما يقال: ذهبت به وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به وأنأته، فأما قولهم: له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع كان يجب أن يقال وأناءه. ومثله هنأني الطعام ومرأني، وأخذه ما قدم وما حدث وقيل: هو مأخوذ من النأي وهو البعد. ومنه قول الشاعر: ينأون عنا وما تنأى مودتهم * * فالقلب فيهم رهين حيثما كانوا وقرأ بديل بن ميسرة: " لينوء " بالياء، أي لينوء الواحد منها أو المذكور فحمل على المعنى. وقال أبو عبيدة: قلت لرؤبة بن العجاج في قوله: فيها خطوط من سواد وبلق * * كأنه في الجلد توليع البهق إن كنت أردت الخطوط فقل كأنها، وإن كنت أردت السواد والبلق فقل كأنهما. فقال: أردت كل ذلك. واختلف في العصبة وهي الجماعة التي يتعصب بعضهم لبعض على أحد عشر قولا: الاول - ثلاثة رجال، قاله ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. (1) هو ذو الرمة. يريد تنيئها عجيزتها إلى الارض لضاخامتها وكثرة لحمها في أردافها. (*)
[ 313 ]
وقال مجاهد: العصبة هنا ما بين العشرين إلى خمسة عشر. وعنه أيضا: ما بين العشرة إلى الخمسة عشر. وعنه أيضا: من عشرة إلى خمسة. ذكر الاول الثعلبي، والثاني القشيري والماوردي، والثالث المهدوي. وقال أبو صالح والحكم بن عتيبة وقتادة والضحاك: أربعون رجلا. السدي ما بين العشرة إلى الاربعين. وقاله قتادة أيضا. وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون، ومنهم من يقول سبعون. وهو قول أبي صالح إن العصبة سبعون رجلا، ذكره الماوردي. والاول ذكره عنه الثعلبي. وقيل: ستون رجلا. وقال سعيد بن جبير: ست أو سبع. وقال عبد الرحمن بن زيد: ما بين الثلاثة والتسعة وهو النفر. وقال الكلبي: عشرة لقول إخوة يوسف " ونحن عصبة " وقاله مقاتل. وقال خيثمة: وجدت في الانجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة، وأنها لتنوء بها من ثقلها، وما يزيد مفتح منها على إصبع، لكل مفتح منها كنز مال، لو قسم ذلك الكنز على أهل البصرة لكفاهم. قال مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الابل. وقيل: من جلود البقر لتخف عليه، وكانت تحمل معه إذا ركب على سبعين بغلا فيما ذكره القشيري. وقيل: على أربعين بغلا. وهو قول الضحاك. وعنه أيضا: إن مفاتحه أو عيته. وكذا قال أبو صالح: إن المراد بالمفاتح الخزائن، فالله أعلم. (إذ قال له قومه) أي المؤمنون من بني إسرائيل، قاله السدي. وقال يحيي بن سلام: القوم هنا موسى. وقاله الفراء. وهو جمع أريد به واحد كقوله: " الذين قال لهم الناس " وإنما هو نعيم بن مسعود على ما تقدم. (لا تفرح) أي لا تأشر ولا تبطر. (إن الله لا يحب الفرحين) أي البطرين، قاله مجاهد والسدى. قال الشاعر: ولست بمفراح إذا الدهر سرني * * ولا ضارع في صرفه (1) المتقلب وقال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه. وقال مبشر (2) بن عبد الله: لا تفرح لا تفسد. قال الشاعر (3): إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة * * وتحمل أخرى أفرحتك الودائع (1) ويروى: ولا جازع من صرفها المتحول. (2) التصحيح من النسخة الخيرية. (3) أنشده أبو عبيدة لبيعس العذري. (*)
[ 314 ]
أي أفسدتك. وقال أبو عمرو: أفرحه الدين أثقله. وأنشده: إذا أنت... البيت. وأفرحه سره فهو مشترك. قال الزجاج: والفرحين والفارحين سواء. وفرق بينهما الفراء فقال: معنى الفرحين الذين هم في حال فرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل. وزعم أن مثله طمع وطامع وميت ومائت. ويدل على خلاف ما قال قول الله عزوجل: " إنك ميت وإنهم ميتون " ولم يقل مائت. وقال مجاهد أيضا: معنى " لا تفرح " لا تبغ " إن الله لا يحب الفرحين " أي الباغين. وقال ابن بحر: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين. قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) أي أطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي. قوله تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) اختلف فيه، فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الانسان عمره وعمله الصالح فيها. فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة. وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك. فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الامر الذي يشتهيه. وهذا مما يجب أستعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة، قاله ابن عطية. قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا وعن الحسن: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ. وقال مالك: هو الاكل والشرب بلا سرف. وقيل: أراد بنصيبه الكفن. فهذا وعظ متصل، كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن. ونحو هذا قول الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله * * رداء ان تلوى فيهما وحنوط وقال آخر: وهي القناعة لا تبغي بها بدلا * * فيها النعيم وفيها راحة البدن أنظر لمن ملك الدنيا بأجمعها * * هل راح منها بغير القطن والكفن قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا. (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي طع الله وأعبده كما أنعم عليك.
[ 315 ]
ومنه الحديث: ما الاحسان ؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه) وقيل: هو أمر بصلة المساكين. قال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة جماعها أستعمال نعم الله في طاعة الله. وقال مالك: هو الاكل والشرب من غير سرف. قال ابن العربي: أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف، فإن النبي صلي الله عليه وسلم كان يحب الحلواء، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع (ولا تبغ الفساد في الارض) أي لا تعمل بالمعاصي (إن الله لا يحب المفسدين) قوله تعالى: قال إنما أوتيه على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون (78) قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي) يعني علم التوراة. وكان فيما روي من أقرأ الناس لها، ومن أعلمهم بها. وكان أحد العلماء السبعين الذين اختارهم موسى للميقات. وقال ابن زيد: أي إنما أوتيته لعلمه بفضلي ورضاه عني. فقوله: " عندي " معناه إن عندي أن الله تعالى آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل في. وقيل: أوتيته على علم من عندي بوجوه التجارة والمكاسب، قاله علي بن عيسى. ولم يعلم أن الله لو لم يسهل له اكتسابها لما اجتمعت عنده. وقال ابن عباس: على علم عندي بصنعة الذهب. وأشار إلى علم الكيمياء. وحكى النقاش: أن موسى عليه السلام علمه الثلث من صنعة الكيمياء، ويوشع الثلث، وهرون الثلث، فخدعهما قارون - وكان على إيمانه - حتى علم ما عندهما وعمل الكيمياء، فكثرت أمواله. وقيل: إن موسى علم الكيمياء ثلاثة، يوشع بن نون، [ وكالب بن يوفنا ] (1)، وقارون، واختار الزجاج القول الاول، وأنكر قول من قال إنه يعمل الكيمياء. قال: لان الكيمياء باطل لا حقيقة له. وقيل: إن موسى علم أخته علم الكيمياء، وكانت زوجة قارون، وعلمت أخت موسى قارون، والله أعلم (1) في الاصول " طالوت " وهو تحريف. والتصويب من كتب التفسير. (*)
[ 316 ]
قوله تعالى: (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله) أي بالعذاب. (من القرون) أي الامم الخالية الكافرة. (من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) أي للمال، ولو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم. وقيل: القوة الآلات، والجمع الاعوان والانصار، والكلام خرج مخرج التقريع من الله تعال لقارون، أي " أو لم يعلم " قارون " أن الله قد أهلك من قبله من القرون ". (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) أي لا يسألون سؤال أستعتاب كما قال: " ولا هم يستعتبون " " وما هم من المعتبين " وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لقوله: " فوربك لنسألنهم أجمعين " قاله الحسن. وقال مجاهد: لا تسأل الملائكة غدا عن المجرمين، فإنهم يعرفون بسيماهم، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون. وقال قتادة: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، بل يدخلون النار بلا حساب. وقيل: لا يسأل مجرمو هذه الامة عن ذنوب الامم الخالية الذين عذبوا في الدنيا. وقيل: أهلك من أهلك من القرون عن علم منه بذنوبهم فلم يحتج إلى مسئلتهم عن ذنوبهم. قوله تعالى: فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحيوة الدنيا يليت لنا مثل ما أوتى قرون إنه لذو حظ عظيم (79) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صلحا ولا يلقها إلا الصبرون (80) قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته) أي على بني إسرائيل فيما رآه زينة من متاع الحياة الدنيا، من الثياب والدواب والتجمل في يوم عيد. قال الغزنوي: في يوم السبت. " في زينته " أي مع زينته. قال الشاعر: إذا ما قلوب القوم طارت مخافة * * من الموت أرسوا بالنفوس المواجد (1) أي مع النفوس. كان خرج في سبعين ألفا من تبعه، عليهم المعصفرات، وكان أول من صبغ له الثياب المعصفرة. قال السدي: مع ألف جوار بيض على بغال بيض بسروج من (1) في نسخة: أرموا بالنفوس. وفي نسخة أخرى أرسوا بالنفوس النواجذ. ولم نعثر عليه. (*)
[ 317 ]
ذهب على قطف الارجوان. قال ابن عباس: خرج على البغال الشهب. مجاهد: على براذين بيض عليها سروج الارجوان، وعليهم المعصفرات، وكان ذلك أول يوم رؤي فيه المعصفر. قال قتادة: خرج على أربعة ألاف دابة عليهم ثياب حمر، منها ألف بغل أبيض عليها قطف حمر. قال ابن جريج: خرج على بغلة شهباء عليها الارجوان، ومعه ثلثمائة جارية على البغال الشهب عليهن الثياب الحمر. وقال ابن زيد: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات. الكلبي: خرج في ثوب أخضر كان الله أنزله على موسى من الجنة فسرقه منه قارون. وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كانت زينته القرمز. قلت: القرمز صبغ أحمر مثل الارجوان، والارجوان في اللغة صبغ أحمر، ذكره القشيري. (قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم) أي نصيب وأفر من الدنيا. ثم قيل: هذا من قول مؤمني ذلك الوقت، تمنوا مثل ماله رغبة في الدنيا. وقيل: هو من قول أقوام لم يؤمنوا بالآخرة ولا رغبوا فيها، وهم الكفار. قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم) وهم أحبار بني إسرائيل للذين تمنوا مكانه (ويلكم ثواب الله خير) يعنى الجنة. (لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون) أي لا يؤتى الاعمال الصالحة، أو لا يؤتى الجنة في الآخرة إلا الصابرون على طاعة الله. وجاز ضميرها لانها المعنية بقوله: " ثواب الله ". قوله تعالى: فخسفنا به الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81) وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكفرون (82) قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الارض) قال مقاتل: لما أمر موسى الارض فابتلعته قالت بنو إسرائيل: إنما أهلكه ليرث ماله، لانه كان ابن عمه، أخي أبيه، فخسف
[ 318 ]
الله تعالى به وبداره الارض وبجميع أمواله بعد ثلاثة أيام، فأوحى الله إلى موسى إني لا أعيد طاعة الارض إلى أحد بعدك أبدا. يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الارض وخسف الله به الارض خسفا أي غاب به فيها. ومنه قوله تعالى: " فخسفنا به بداره الارض " وخسف هو في الارض وخسف به. وخسوف القمر كسوفه. قال ثعلب: كسفت الشمس وخسف القمر، هذا أجود الكلام. والخسف النقصان، يقال: رضى فلان بالخسف أي بالنقيصة. (فما كان له من فئة) أي جماعة وعصابة. (ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) لنفسه أي الممتنعين فيما نزل به من الخسف. فيروى أن قارون يسفل كل يوم بقدر قامة، حتى إذا بلغ قعر الارض السفلى نفخ إسرافيل في الصور، وقد تقدم، والله أعلم. قوله تعالى: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس) أي صاروا يتندمون على ذلك التمني و (يقولون ويكأن الله) [ وي ] حرف تندم. قال النحاس: أحسن ما قيل في هذا قول الخليل وسيبويه ويونس والكسائي إن القوم تنبهوا أو نبهوا، فقالوا وي، والمتندم من العرب يقول في خلال تندمه وي. قال الجوهري: وي. كلمة تعجب، ويقال: ويك ووي لعبد الله. وقد تدخل وي على كأن المخففة والمشددة تقول: ويكأن الله. قال الخليل: هي مفصولة، تقول: " وي " ثم تبتدئ فتقول " كأن ". قال الثعلبي: وقال الفراء هي كلمة تقرير، كقولك: أما ترى إلى صنع الله وإحسانه، وذكر أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك ويلك ؟ فقال: وي كأنه وراء البيت، أي أما ترينه. وقال ابن عباس والحسن: ويك كلمة ابتداء وتحقيق تقديره: إن الله يبسط الرزق. وقيل: هو تنبيه بمنزلة ألا في قولك ألا تفعل وأما في قولك أما بعد. قال الشاعر (1): سألتاني الطلاق إذ رأتاني * * قل مالي قد جئتماني بنكر وي كأن من يكن له نشب يحب * * ب ومن يفتقر يعش ضر (1) هو زيد بن عمر بن نفيل. (*)
[ 319 ]
وقال قطرب: إنما هو ويلك وأسقطت لامه وضمت الكاف التي هي للخطاب إلى وي. قال عنترة: ولقد شفي نفسي وأبرأ سقمها * * قول الفوارس ويك عنتر أقدم وأنكره النحاس وغيره، وقالوا: إن المعنى لا يصح عليه، لان القوم لم يخاطبوا أحدا فيقولوا له ويلك، ولو كان كذلك لكان إنه بالكسر. وأيضا فإن حذف اللام من ويلك لا يجوز. وقال بعضهم: التقدير ويلك اعلم أنه، فأضمر اعلم. ابن الاعرابي: " ويكأن الله " أي اعلم. وقيل: معناه ألم تر أن الله. وقال القتبي: معناه رحمة لك بلغة حمير. وقال الكسائي: وي فيه معنى التعجب. ويروى عنه أيضا الوقف على وي وقال كلمة تفجع. ومن قال: ويك فوقف على الكاف فمعناه أعجب لان الله يبسط الرزق وأعجب لانه لا يفلح الكافرون. وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب لا اسما، لان وي ليست مما يضاف. وإنما كتبت متصلة، لانها لما كثر استعمالها جعلت مع ما بعدها كشئ واحد. (لولا أن من الله علينا) بالايمان والرحمة وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر " لخسف بنا ". وقرأ الاعمش: " لولا من الله علينا ". وقرأ حفص: " لخسف بنا " مسمى الفاعل. الباقون: على ما لم يسم فاعله وهو اختيار أبي عبيد وفي حرف عبد الله " لا نخسف بنا " كما تقول انطلق بنا. وكذلك قرأ الاعمش وطلحة بن مصرف. واختار قراءه الجماعة أبو حاتم لوجهين: أحدهما قوله: " فخسفنا به وبداره الارض ". والثاني قول: " لولا أن من الله علينا " فهو بأن يضاف إلى الله تعالى لقرب اسمه منه أولى. (ويكأنه لا يفلح الكافرون) عند الله. قوله تعالى: تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعقبة للمتقين (83) من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون (84)
[ 320 ]
قوله تعالى: (تلك الدار الاخرة) يعني الجنة. وقال ذلك على جهة التعظيم لها والتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض) أي رفعة وتكبرا على الايمان والمؤمنين (ولا فسادا) عملا بالمعاصي. قاله ابن جريح ومقاتل. وقال عكرمة ومسلم البطين: أخذ المال بغير حق. وقال الكلبي الدعاء إلى غير عبادة الله. وقال يحيى بن سلام: هو قتل الانبياء والمؤمنين. (والعاقبة للمتقين) قال الضحاك: الجنة. وقال ابو معاوية: الذي لا يريد علوا هو من لم يجزع من ذلها. ولم ينافس في عزها، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعا، وأعزهم غدا ألزمهم لذل اليوم. وروى سفيان بن عيينة عن اسمعيل بن أبي خالد قال: مر على علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كسرا لهم، فسلم عليهم فدعوة إلى طعامهم، فتلا هذه الآية " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا " ثم نزل وأكل معهم. ثم قال: قد اجبتكم فأجيبوني. فحملهم ألى منزلة فأطعمهم وكساهم وصرفهم. خرجة أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال حدثني أبي، قال حدثنا سفيان بن عيينة. فذكره. وقيل: لفظ الدار الآخرة يشمل الثواب والعقاب. والمراد إنما ينتفع بتلك الدار من أتقى، ومن لم يتق فتلك الدار عليه لا له، لانها تضره ولا تنفعه، قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها) تقدم في " النمل ". وقال عكرمة: ليس شئ خيرا من لا إله إلا الله. وإنما المعني من جاء بلا إله إلا الله فله منها خير. (ومن جاء بالسيئة) أي بالشرك (فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) أي يعاقب بما يليق بعلمه. قولهه تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن في ضلل مبين (85) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا
[ 321 ]
للكافرين (86) ولا يصدنك عن ءايت الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين (87) ولا تدع مع الله إلها ءاخر لا إله إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88) قوله تعالى: (إن الدى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم برده إلى مكة قاهرا لاعدائه. وقيل: هو بشارة له بالجنة. والاول أكثر. وهو قول جابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد وغيرهم. قال القتبى: معاد الرجل بلده، لانه ينصرف ثم يعود. وقال مقاتل: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير طريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فقال له جبريل إن الله يقول: " إن الذي فرض عليك القرآن لرداك إلي معاد " أي إلى مكة ظاهرا عليها. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجحفة ليست مكية ولا مدنية. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس " إلي معاد " قال: إلي الموت. وعن مجاهد أيضا وعكرمة والزهري والحسن: إن المعني لرداك إلى يوم القيامة، وهو اختيار الزجاج. يقال بيني وبينك المعاد، أي يوم القيامة، لان الناس يعودون فيه أحياء. " وفرض " معناه أنزل. وعن مجاهد أيضا وأبي مالك وأبي صالح " إلى معاد " إلي الجنة. وهو قول أبي سعيد الخدري وابن عباس أيضا، لانه دخلها ليلة الاسراء. وقيل: لان أباه آدم خرج منها. (قل ربي اعلم) أي قل لكفار مكة إذا قالوا إنك لفي ضلال مبين " ربي أعلم من جاء بالهدي ومن وهو في ضلال مبين " أنا أم أنتم. قوله تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب) أي ما علمت أننا نرسلك إلي الخلق وننزل عليك القرآن. (إلارحة من ربك) قال الكسائي: هو استثناء منقطع بمعنى لكن. (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) أي عونا لهم ومساعدا. وقد تقدم في هذه السورة.
[ 322 ]
قوله تعالى: (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) يعني أقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوهم وامض لامرك وشأنك. وقرأ يعقوب " يصدنك " مجزوم النون. وقرئ " يصدنك " من أصده بمعنى صده وهي لغة في كلب. قال الشاعر (1): أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم * * صدود السواقي عن أنوف الحوائم (2) (وادع إلى ربك) أي إلى التوحيد. وهذا يتضمن المهادنة والموادعة. وهذا كله منسوخ بآية السيف. وسبب هذه الآية ما كانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تعظيم أوثانهم، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أمر الغرانيق على ما تقدم (3). والله أعلم. قوله تعالى: (ولا تدع مع الله إلها آخر) أي لا تعبد معه غيره فإنه لا إله إلا هو. نفي لكل معبود وإثبات لعبادته. (كل شئ هالك إلا وجهه) قال مجاهد: معناه إلا هو. وقال الصادق: دينه. وقال أبو العالية وسفيان: أي إلا ما أريد به وجهه، أي ما يقصد إليه بالقربة. قال: أستغفر الله ذنبا لست محصيه * * رب العباد إليه الوجه والعمل وقال محمد بن يزيد: حدثني الثوري قال سألت أبا عبيدة عن قوله تعالى: " كل شئ هالك إلا وجهه " فقال: إلا جاهه، كما تقول لفلان وجه في الناس أي جاه. (له الحكم) في الاولى والآخرة (وإليه ترجعون). قال الزجاج: " وجهه " منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير القرآن كان إلا وجهه بالرفع، بمعنى كل شئ غير وجهه هالك كما قال (4): وكل أخ مفارقة أخوه * * لعمر أبيك إلا الفرقدان والمعنى كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. " وإليه ترجعون " بمعنى ترجعون إليه. تمت سورة القصص والحمد لله (1) هو ذو الرمة. (2) ويروي بالضرب... من أنوف المحازم. (3) راجع ج‍ 12 ص 79 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (4) هو عمرو بن كرب، ويروي لسوار بن المضرب. شواهد سيبويه.
[ 323 ]
سورة العنكبوت مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة. وفي القول الآخر لهما وهو قول يحيى بن سلام أنها مكية إلا عشر آيات من أولها، فإنها نزلت بالمدينة في شأن من كان من المسلمين بمكة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نزلت بين مكة والمدينة. وهي تسع وستون آية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكذبين (3) قوله تعالى: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا امنا وهم لا يفتنون) تقدم القول في أوائل السور. وقال ابن عباس: المعنى أنا الله أعلم. وقيل: هو أسم للسورة وقل اسم للقرآن. " حسب " استفهام أريد به التقرير والتوبيخ ومعناه الظن. " أن يتركوا " في موضع نصب ب‍ " حسب " وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه. و " أن " الثانية من " أن يقولوا " في موضع نصب على إحدى جهتين، بمعنى لان يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا. والجهة الاخرى أن يكون على التكرير، التقدير " ألم أحسب الناس أن يتركوا " أحسبوا " أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " قال ابن عباس وغيره: يريد بالناس قوما من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الاسلام، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه وعدة من بني مخزوم وغيرهم. فكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين، قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده أختبارا للمؤمنين وفتنة. قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت
[ 324 ]
نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الاقوال فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر. وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالاسر ونكاية العدو وغير ذلك. وإذا أعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالامراض وأنواع المحن. ولكن التي تشبه نازلة المسلمين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر. قلت: ما أحسن ما قاله، ولقد صدق فيما قال رضي الله عنه. وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: " سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الامة ". فجزع عليه أبواه وأمرأته فنزلت " الم أحسب الناس أن يتركوا " وقال الشعبي: نزل مفتتح هذه السورة في أناس كانوا بمكة من المسلمين، فكتب إليهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية أنه لا يقبل منكم إقرار الاسلام حتى تهاجروا، فخرجوا فأتبعهم المشركون فآذوهم. فنزلت فيهم هذه الآية: " الم أحسب الناس أن يتركوا " فكتبوا إليهم: نزلت فيكم آية كذا، فقالوا: نخرج وإن اتبعنا أحد قاتلناه، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل فيهم: " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا " " وهم لا يفتنون " يمتحنون، أي أظن الذين جزعوا من أذى المشركين أن يقنع منهم أن يقولوا إنا مؤمنون ولا يمتحنون في إيمانهم وأنفسهم وأموالهم بما يتبين به حقيقة إيمانهم. قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين قبلهم) أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقى في النار، وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه. وروى البخاري عن خباب بن الارت: قالوا شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الارض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " وخرج ابن ماجة عن
[ 325 ]
أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف. فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك. قال: " إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الاجر " قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال " الانبياء " وقلت: ثم من. قال " ثم الصالحون إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها (1) وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء ". وروى سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال " الانبياء ثم الامثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا أشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة أبتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الارض وما عليه من خطيئة ". وروى عبد الرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير، فركب يوما فأخذه السبع فأكله، فقال عيسى: يا رب وزيري في دينك، وعوني على بني إسرائيل، وخليفتي فيهم، سلطت عليه كلبا فأكله. قال: " نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لا بلغه تلك المنزلة ". وقال وهب: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذ سلك بك سبيل البلاء فقر عينا، فإنه سلك بك سبيل الانبياء والصالحين، وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك، فقد خولف بك عن سبيلهم قواه تعالى (فليعلمن الله الذين صدقوا) أي فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم. وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " وغيرها. قال الزجاج: ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه، وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما، ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه. وإنما يعلم صدق الصادق واقعا كائنا وقوعه، وقد علم أنه سيقع. وقال النحاس: فيه قولان أحدهما أن يكون " صدقوا " مشتقا من الصدق و " الكاذبين " مشتقا من الكذب الذي هو ضد الصدق، ويكون المعنى، فليبينن الله الذين صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا (1) وردت هذه الكلمه في سنن ابن ماجه بالهاء المهملة، وقال هامشه: " يحوبها " من حبى بحاء مهمله وباء موحده أي يجعل لها جيبا. ووردة في الجامع الصغير للسيوطي بالجيم وقال شارحه: هي بجيم وواوو. وحده أي يخرقها ويقطعها، وكل شئ قطع وسطه فهو مجوب. ورواية الجامع الصغير هي المتبادرة. (*)
[ 326 ]
مثل ذلك، والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك. والقول الآخر أن يكون صدقوا مشتقا من الصدق وهو الصلب والكاذبين مشتقا من كذب إذا انهزم، فيكون المعنى، فليعلمن الله الذين ثبتوا في الحرب، والذين انهزموا، كما قال الشاعر (1): ليث بعثر يصطاد الرجال إذا * * ما الليث كذب عن أقرانه صدقا فجعل " ليعلمن " في موضع فليبينن مجازا. وقراءة الجماعة " فليعلمن " بفتح الياء واللام. وقرأ علي بن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قاله النحاس. ويحتمل ثلاثة معان: الاول أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا، بمعنى يوقفهم على ماكان منهم. الثاني أن يكون المفعول الاول محذوفا تقديره، فليعلمن الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين، أي يفضحهم ويشهرهم، هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر، وذلك في الدنيا والآخرة. الثالث أن يكون ذلك من العلامة، أي يضع لكل طائفة علامة يشتهر بها. فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من أسر سريرة ألبسه الله رداءها ". قوله تعالى: أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4) ومن كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لات وهو السميع العليم (5) ومن جاهد فإنما يجهد لنفسه إن الله لغني عن العلمين (6) والذين ءامنوا وعملوا الصلحت لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون (7) قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات) أي الشرك قال (أن يسبقونا) أي يفوتنا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يفعلون. قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والاسود والعاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن (1) هو زهير بن أبى سلمى. وعثر بشد المثلثة اسم موضع.
[ 327 ]
أبي سفيان والعاص بن وائل. (ساء ما يحكمون) أي بئس الحكم ما حكموا في صفات ربهم أنه مسبوق والله القادر على كل شئ. و " ما " في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون. ويجوز أن تكون " ما " في موضع رفع بمعنى ساء الشئ أو الحكم حكمهم. وهذا قول الزجاج. وقدرها ابن كيسان تقدير ين آخرين خلاف ذينك: أحدهما أن يكون موضع " ما يحكمون " بمنزلة شئ واحد، كما تقول: أعجبني ما صنعت، أي صنيعك، ف " ما " والفعل مصدر في موضع رفع، التقدير، ساء حكمهم. والتقدير الآخر أن تكون " ما " لا موضع لها من الاعراب، وقد قامت مقام الاسم لساء، وكذلك نعم وبئس. قال أبو الحسن ابن كيسان: وأنا أختار أن أجعل ل‍ " ما " موضعا في كل ما أقدر عليه، نحو قوله عزوجل: " فبما رحمة من الله " وكذا " فبما نقضهم " وكذا " أيما الاجلين قضيت " " ما " في موضع خفض في هذا كله وما بعده تابع لها، وكذا " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة " " ما " في موضع نصب و " بعوضة " تابع لها. قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت) " يرجو " بمعنى يخاف من قول الهذلي في وصف عسال: * إذا لسعته النحل لم يرج لسعها (1) * وأجمع أهل التفسير على أن المعنى: من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحا فإنه لا بد أن يأتيه، ذكره النحاس. قال الزجاج: معنى " يرجو لقاء الله " ثواب الله و " من " في موضع رفع بالابتداء و " كان " في موضع الخبر، وهي في موضع جزم بالشرط، و " يرجو " في موضع خبر كان، والمجازاة (فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم). قوله تعالى: (ومن يجاهد فإنما يجاهد لنفسه) أي ومن جاهد في الدين، وصبر على قتال الكفار وأعمال الطاعات، فإنما يسعى لنفسه، أي ثواب ذلك كله له، ولا يرجع إلى الله نفع من ذلك. (أن الله لغنى عن العالمين) أي عن أعمالهم وقيل: المعنى، من جاهد عدوه لنفسه لا يريد وجه الله فليس لله حاجة بجهاده. (1) تمام البيت.. * وحالفها في بيت نوب عوامل * وروى: عواسل.
[ 328 ]
قوله تعالى: (والذين آمنوا) أي صدقوا (وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم) أي لنغطينها عنهم بالمغفرة لهم. (وليجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعات. ثم قيل: يحتمل أن تكفر عنهم كل معصية عملوها في الشرك ويثابوا على ما عملوا من حسنة في الاسلام. ويحتمل أن تكفر عنهم سيئاتهم في الكفر والاسلام. ويثابوا على حسناتهم في الكفر والاسلام. قوله تعالى: ووضينا الانسن بولديه حسنا وإن جهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (8) والذين ءامنوا وعملوا الصلحت لندخلنهم في الصلحين (9) قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه حسنا) نزلت في سعد بن أبي وقاص فيما روى الترمذي قال: أنزلت في أربع آيات فذكر قصة، فقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر ! والله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا (1) فاها فنزلت هذه الآية: " ووصينا الانسان بوالديه حسنا " الآية قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن سعد أنه قال: كنت بارا بأمي فأسلمت، فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، ويقال يا قاتل أمه، وبقيت يوما ويوما فقلت: يا أماه ! لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت ونزلت: (وإن جاهداك لتشرك بي) الآية. وقال ابن عباس: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخى أبي جهل لامه وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضا: نزلت في جميع الامة إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صديق. " وحسنا " نصب عند البصريين على التكرير أي ووصيناه حسنا. وقيل: هو على القطع تقديره ووصيناه بالحسن كما تقول وصيته خيرا أي (1) شجروا فاها: أي أدخلوا في شجرة عودا حتى يفتحوه به.
[ 329 ]
بالخير وقال أهل الكوفة: تقديره ووصينا الانسان أن يفعل حسنا فيقدر له فعل. وقال الشاعر: عجبت من دهماء إذ تشكونا * * ومن أبي دهماء إذ يوصينا * خيرا بها كأنما خافونا * أي يوصينا أن نفعل بها خيرا، كقوله: " فطفق مسحا " أي يمسح مسحا. وقيل: تقديره ووصيناه أمرا ذا حسن، فأقيمت الصفة مقام الموصوف، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: معناه ألزمناه حسنا. وقراءة العامة " حسنا " بضم الحاء وإسكان السين. وقراء أبو رجاء وأبو العالية والضحاك بفتح الحاء والسين. وقرأ الجحدري. " إحسانا " على المصدر، وكذلك في مصحف أبى، التقدير: ووصينا الانسان أن يحسن إليهما إحسانا، ولا ينتصب بوصينا، لانه قد استوفي مفعوليه. (إلى مرجعكم) وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر. (فأنبئكم بما كنتم تعملون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين) كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحرك النفوس إلى نيل مراتبهم. وقوله: " لندخلهم في الصالحين " مبالغة على معنى، فالذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته. وإذا تحصل للمؤمن هذا الحكم تحصل ثمرته وجزاؤه وهو الجنة. قوله تعالى: ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذى في الله جعل فتنه الناس كعذاب الله ولين جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العلمين (10) وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنفقين (11) قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله) الآ يه نزلت في المنافقين كانوا يقولن آمنا بالله (فإذا أوذى في الله جعل فتنه الناس) أي أذاهم (كعذاب الله) في الآخره فارتد عن إيمانه. وقيل: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر غلى الاذية في الله.
[ 330 ]
(ولئن جاء) المؤمنين (نصر من ربك ليقولن) هؤلاء المرتدون (إنا كنا معكم) وهم كاذبون، فقال الله لهم (أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) يعني الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم. وقال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم أفتتنوا. وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك وقال عكرمة: كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلى بدر فقتل بعضهم، فأنزل الله " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " فكتب بها المسلون من المدينة إلى المسلمين بمكة، فخرجوا فلحقهم المشركون، فافتتن بعضهم، فنزلت هذه الآية فيهم. وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فأرتد. وإنما عذبه أبو جهل والحرث وكانا أخويه لامه. قال ابن عباس: ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه. (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) قال قتادة: نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة. قوله تعالى: وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطيكم وماهم بحملين من خطيهم من شئ إنهم لكذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيمة عما كانوا يفترون (13) قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا) أي ديننا. (ولنحمل خطاياكم) جزم على الامر. قال الفراء والزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء، أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، كما قال (1): فقلت ادعي وأدع فإن أندى * * لصوت أن ينادى داعيان (1) البيت لمدثار بن شيبان النمري وقبله: تقول خليلني لما اشتكينا * * سيدركنا بنو القرم الهجان
[ 331 ]
أي إن دعوت دعوت. قال المهدوي: وجاء وقوع " إنهم لكاذبون " بعده على الحمل على المعنى، لان المعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم. فلما كان الامر يرجع في المعنى إلى الخبر وقع عليه التكذيب كما يوقع عليه الخبر. قال مجاهد: قال المشركون من قريش نحن وأنتم لا نبعث، فإن كان عليكم وزر فعلينا، أي نحن نحمل عنكم ما يلزمكم. والحمل ههنا بمعنى الحمالة لا الحمل على الظهر. وروى أن قائل ذلك الوليد بن المغيرة. (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) يعني ما يحمل عليهم من سيئا ت من ظلموه بعد فراغ حسناتهم. روي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في " آل عمران " (1). قال أبو أمامة الباهلي: " يؤتى الرجل يوم القيامة وهو كثير الحسنات فلا يزال يقتص منه حتى تفنى حسناته ثم يطالب فيقول الله عزوجل أقتصوا من عبدي فتقول الملائكة ما بقيت له حسنات فيقول خذوا من سيئات المظلوم فاجعلوا عليه " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " وقال قتادة: من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شئ. ونظيره قوله تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ". ونظير هذا قوله عليه السلام: " من سن في الاسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزار هم شئ " روي من حديث أبي هريرة وغيره. وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور من اتبعه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها بعده فعليه مثل أوزار من عمل بها ممن أتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا " ثم قرأ الحسن " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ". قلت: هذا مرسل وهو معنى حديث أبي هريرة خرجه مسلم. ونص حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن له مثل أوزار من اتبعه ولا ينقص من أوزارهم شيئا وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فإن له مثل أجور من اتبعه (1) راجع ج‍ 4 ص 275 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 332 ]
ولا ينقص من أجورهم شيئا " خرجه ابن ماجه في السنن. وفي الباب عن أبي جحيفة وجرير. وقد قيل: أن المراد أعوان الظلمة. وقيل: أصحاب البدع إذا اتبعوا عليها وقيل: محدثو السنن الحادثة إذا عمل بها من بعدهم. والمعنى متقارب والحديث يجمع ذلك كله. قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظلمون (14) فأنجينه وأصحب السفينة وجعلنها ءاية للعلمين (15) قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا ألى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) ذكر قصة نوح تسليه لنبية صلى الله عليه وسلم، أي ابتلى النبيون قبلك بالكفار فصبروا. وخص نوحا بالذكر، لانه أول رسول أرسل إلى الارض وقد امتلات كفرا على ما تقدم بيانه في " هود " (1). وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح على ما تقدم في " هود " عن الحسن وروي عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول نبي أرسل نوح " قال قتادة: وبعث من الجزيرة. وأختلف في مبلغ عمره. فقيل: مبلغ عمره ما ذكره الله تعالى في كتابه. قال قتادة: لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سنة، ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة. وقال ابن عباس: بعث نوح لاربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الغرق ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وعنه أيضا: أنه بعث وهو ابن مئتين وخمسين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان مائتي سنة. وقال وهب: عمر نوح ألفا وأربعمائة سنة. وقال كعب الاحبار: لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان سبعين عاما فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين عاما. وقال عون بن شداد: بعث نوح وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ثلثمائة سنة (1) راجع ج‍ 9 ص 42 وما بعدها طبة أولى أو ثانية. (*)
[ 333 ]
وخمسين سنة، فكان مبلغ عمره ألف سنة وستمائة سنة وخمسين سنة ونحوه عن الحسن. قال الحسن: لما أتى ملك الموت نوحا ليقبض روحه قال: يا نوح كم عشت في الدنيا ؟ قال: ثلثمائة قبل أن أبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما في قومي، وثلثمائة سنة وخمسين سنة بعد الطوفان. قال ملك الموت: فكيف وجدت الدنيا ؟ قال نوح: مثل دار لها بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا. وروى من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما بعث الله نوحا إلي قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتي سنة فلما أتاه ملك الموت قال يا نوح يا أكبر الانبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة كيف رأيت الدنيا قال مثل رجل بنى له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر " وقد قيل: دخل من أحدهما وجلس هنيهة ثم خرج من الباب الآخر. وقال ابن الوردى: بنى نوح بيتا من قصب، فقيل له: لو بنيت غير هذا، فقال: هذا كثير لمن يموت، وقال أبو المهاجر: لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما في بيت من شعر، فقيل له: يا نبى الله ابن بيتا فقال: أموت اليوم [ أو ] أموت غدا. وقال وهب بن منبه: مرت بنوح خمسمائة سنة لم يقرب النساء وجلا من الموت. وقال مقاتل وجويبر: إن أدم عليه السلام حين كبر ورق عظمه قال يا رب إلى متى أكد وأسعى ؟ قال: يا أدم حتى يولد لك ولد مختون. فولد له نوح بعد عشرة أبطن، وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما. وقال بعضهم: إلا أربعين عاما. والله أعلم. فكان نوح بن لامك بن متوشلخ بن إدريس وهو أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم. وكان اسم نوح السكن. وإنما سمي السكن، لان الناس بعد آدم سكنوا إليه، فهو أبوهم. وولد له سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم وفي كل هؤلاء خير. وولد حام القبط والسودان والبربر. وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج. وليس في شئ من هؤلاء خير. وقال ابن عباس: في ولد سام بياض وأدمة وفي ولد حام سواد وبياض قليل. وفي ولد يافث - وهم الترك والصقالبة - الصفره و الحمرة. وكان له ولد رابع وهو كنعان الذي غرق، والعرب تسميه يام. وسمي نوح نوحا لانه ناح عن قومه ألف سنة
[ 334 ]
إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى الله تعالى، فإذا كفروا بكى وناح عليهم. وذكر القشيري أبو القاسم عبد الكريم في كتاب التخبير له: يروى أن نوحا عليه السلام كان اسمه يشكر ولكن لكثرة بكائه على خطيئته أوحى الله إليه يا نوح كم تنوح فسمي نوحا، فقيل: يا رسول الله فأي شئ كانت خطيئته ؟ فقال: " إنه مر بكلب فقال في نفسه ما أقبحه فأوحى الله إليه أخلق أنت أحسن من هذا. وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوحا لطول ما ناح على نفسه. فإن قيل: فلم قال " ألف سنة إلا خمسين عاما " ولم يقل تسعمائة وخمسين عاما. ففيه جوابان: أحدهما - أن المقصود به تكثير العدد - فكان ذكره الالف أكثر في اللفظ وأكثر في العدد. الثاني - ما روى أنه أعطى من العمر ألف سنة فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده، فلما حضرته الوفاة رجع في استكمال الالف، فذكر الله تعالى ذلك تنبيها على أن النقيصة كانت من جهته. (فأخذهم الطوفان) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: المطر. الضحاك: الغرق. وقيل: الموت. روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنه قول الشاعر: * أفناهم طوفان موت جارف * قال النحاس: يقال لكل كثير مطيف بالجميع من مطر أو قتل أو موت طوفان. (وهم ظالمون) جملة في موضع الحال و " ألف سنة " منصوب على الظرف " إلا خمسين عاما " منصوب على الاستثناء من الموجب. وهو عند سيبويه بمنزلة المفعول، لانه مستغنى عنه كالمفعول. فأما المبرد أبو العباس محمد بن يزيد فهو عنده مفعول محض. كأنك قلت استثنيت زيدا. تنبيه - روى حسان بن غالب بن نجيح أبو القاسم المصري، حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن ابن المسيب عن أبى بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان جبريل يذاكرنى فضل عمر فقلت يا جبريل ما بلغ فضل عمر قال لي يا محمد لو لبثت معك ما لبث نوح في قومه ما بلغت لك فضل عمر " ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن ثابت البغدادي. وقال: تفرد بروايته حسان بن غالب عن مالك وليس بثابت من حديثه. قوله تعالى: (فأنجيناه وأصحاب السفينة) معطوف على الهاء. (وجعلناها آية للعالمين) الهاء والالف في " جعلناها " للسفينة، أو للعقوبة، أو للنجاة، ثلاثة أقوال.
[ 335 ]
قوله تعالى: وإبرهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثنا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلغ المبين (18) أولم يروا كيف يبدى الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قوله تعالى: (وإبراهيم) قال الكسائي: " وإبراهيم " منصوب ب (أنجينا) يعني أنه معطوف على الهاء. وإجاز الكسائي أن يكون معطوفا على نوح والمعنى وأرسلنا إبراهيم. وقول ثالث: أن يكون منصوبا بمعنى وأذكر إبراهيم. (إذ قال لقومه اعبدوا الله) أي أفردوه بالعبادة. (وإتقواه) أي اتقوا عقابة وعذابه. (ذلكم خير لكم) أي من عبادة الاوثان (إن كنتم تعلمون). قوله تعالى: (إنما تعبدون من دون الله أوثانا) أي أصناما. قال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة. الجوهري: الوثن الصنم والجمع وثن وأوثان مثل أسد وآساد. (وتخلقون إفكا) قال الحسن: معنى " تخلقون " تنحتون، فالمعنى إنما تعبدون أو ثانا وأنتم تصنعونها. وقال مجاهد: الافك الكذب، والمعنى تعبدون الاوثان وتخلقون الكذب. وقرأ أبو عبد الرحمن: " وتخلقون ". وقرئ " تخلقون " بمعنى التكثير من خلق و " تخلقون " من تخلق بمعنى تكذب وتخرص. وقرئ " إفكا " وفيه وجهان: أن يكون مصدرا نحو كذب ولعب والافك مخففا منه كالكذب واللعب. وأن يكون صفة على فعل أي خلقا أفكا أي ذا إفك وباطل. و " أو ثانا " نصب ب " تعبدون " و " ما " كافة. ويجوز في غير القرآن رفع أوثان على أن تجعل " ما " أسما لآن " تعبدون " صلته، وحذفت الهاء لطول الاسم وجعل أوثان خبر إن. فأما " وتخلقون إفكا " فهو منصوب بالفعل لا غير. وكذا (لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند
[ 336 ]
الله الرزق) أي أصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فإياه فاسألوه وحده دون غيره. (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) فقيل: هو من قوله إبراهيم أي التكذيب عادة الكفار وليس على الرسل إلا التبليغ. قوله تعالى: (أو لم يروا كيف يبدى الله الخلق) قراءه العامة بالياء على الخبر والتوبيخ لهم، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. قال ابو عبيد: لذكر الامم كأنه قال أو لم ير الامم كيف. وقرأ أبو بكر والاعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي: " تروا " بالتاء خطابا، لقول: " وإن تكذبوا ". وقد قيل: " وإن تكذبوا " خطاب لقريش ليس من قول ابراهيم. (ثم يعيده) يعني الخلق والبعث. وقيل: المعنى أو لم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفني ثم بعيدها أبدا. وكذلك يبدأ خلق والانسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا، وخلق من الولد ولدا. وكذلك سائر الحيوان. أي فإذا رأيتم قدرته على الابداء والايجاد فهو القادر على الاعادة (إن ذلك عاى الله يسير) لانه إذا أراد أمرا قال له كن فيكون. قوله تعالى: قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الاخرة إن الله على كل شئ قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الارض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير (22) والذين كفروا بايت الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتى وأولئك لهم عذاب اليم (23) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فانجه الله من النار إن في ذلك لايت لقوم يؤمنون (24) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثنا مودة بينكم في الحيوة الدنيا ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأوئكم النار ومالكم من نصرين (25)
[ 337 ]
قوله تعالى: (قل سيروا في الارض) أي قل لهم يا محمد سيروا في الارض (فانظروا كيف بدأ الخلق) على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وأنظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وأثارهم كيف أهلكهم، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) وقرأ أبو عمرو وابن كثير " النشاءة " بفتح الشين وهما لغتان مثل الرأفة والرآفة وشبهه. الجوهرى: أنشأه الله خلقه، والاسم النشأة والنشاءة بالمد عن أبى عمرو بن العلاء. (إن الله على كل شئ قدير. يعذب من يشاء) أي بعدله. (ويرحم من يشاء) أي بفضله. (وإليه تقلبون) ترجعون وتردون. (وما انتم بمعجزين في الارض ولا في السماء) قال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجزين الله. وهو غامض في العربية، للضمير الذي لم يظهر في الثاني. وهو كقول حسان: فمن يهجو رسول الله منكم * * ويمدحه وينصره سواء أراد ومن يمدحه وينصره سواء، فأضمر من، وقاله عبد الرحمن بن زيد. ونظيره قوله سبحانه: " وما منا إلا له مقام معلوم " أي من له. والمعنى إن الله لا يعجزه أهل الارض في الارض ولا أهل السماء إن عصوه. وقال قطرب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتنى فلان بالبصرة ولا هاهنا، بمعنى لا يفوتني بالبصرة لو صار إليها. وقيل: لا يستطيعون هربا في الارض ولا في السماء. وقال المبرد: والمعنى ولا من في السماء على أن من ليست موصولة ولكن تكون نكرة و " في السماء " صفة لها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. ورد ذلك على ابن سليمان. وقال: لا يجوز. وقال: إن من إذا كانت نكرة فلا بد من وصفها فصفتها كالصلة، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة، قال: والمعنى إن الناس خوطبوا بما يعقلون، والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله، كما قال: " ولو كنتم في بروج مشيدة ". (وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) ويجوز " نصير " بالرفع على الموضع، وتكون " من " زائد. (والذين كفروا بآيات الله ولقائه) أي بالقرآن أو بما نصب من الادلة والاعلام. (أولئك يئسوا من رحمتى) أي من الجنة ونسب اليأس إليهم والمعنى أويسوا. وهذه
[ 338 ]
الآيات أعتراض من الله تعالى تذكيرا وتحذيرا لاهل مكة. ثم عاد الخطاب إلى قصة ابراهيم فقال: (فما كان جواب قومه) حين دعاهم إلى الله تعالى (إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوهه) ثم اتفقوا على تحريقه (فأنجاه الله من النار) أي من إذايتها (إن في ذلك) أي في إنجائه من النار العظيمة حتى لم تحرقه بعد ما ألقى فيها (لآيات). وقراءة العامة " جواب " بنصب الباء على أنه خبر كان و " أن قالوا " في محل الرفع اسم كان. وقرأ سالم الافطس وعمرو ابن دينار: " جواب " بالرفع على أنه اسم " كان " و " أن " في موضع الخبر نصبا. (وقال) إبراهيم (إنما أتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا) وقرأ حفص وحمزة: " مودة بينكم ". وابن كثير وأبو عمرو والكسائي: " مودة بينكم ". والاعشى عن أبي بكر عن عاصم وابن وثاب والاعمش " مودة بيكم ". الباقون " مودة بيكم " فأما قراءة ابن كثير ففيها ثلاثة أوجه، ذكر الزجاج منها وجهين: أحدهما - أن المودة أرتفعت على خبر إن وتكون " ما " بمعنى الذى. والتقدير إن الذى أتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم. والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدإ أي وهى مودة أو تلك مودة بينكم. والمعنى آلهتكم أو جماعتكم مودة بينكم. قال ابن الانباري: " أوثانا " وقف حسن لمن رفع المودة بإضمار ذلك مودة بينكم، ومن رفع المودة على أنها خبر إن لم يقف. والوجه الثالث الذى لم يذكره أن يكون " مودة " رفعا بالابتداء و " في الحياة الدنيا " خبره، فأما إضافة " مودة " إلى " بينكم " فإنه جعل " بينكم " اسما غير ظرف، والنحويون يقولون جعله مفعولا على السعة. وحكى سيبويه: يا سارق الليلة أهل الدار. ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف، لعلة ليس هذا موضع ذكرها. ومن رفع " مودة " ونونها فعلى معنى ما ذكر، و " بينكم " بالنصب ظرفا. ومن نصب " مودة " ولم ينونها جعلها مفعولة بوقوع الاتخاذ عليها وجعل " إنما " حرفا واحدا ولم يجعلها بمعنى الذى. ويجوز نصب المودة على أنه مفعول من أجله كما تقول: جئتك ابتغاء الخير، وقصدت فلانا مودة له " بينكم " بالخفض. ومن نون " مودة " ونصبها فعلى ما ذكر " بينكم " بالنصب من غير إضافة، قال ابن الانباري: ومن قرأ " مودة بينكم "
[ 339 ]
و " مودة بينكم " لم يقف على الاوثان، ووقف على الحياة الدنيا. ومعنى الآية جعلتم الاوثان تتحابون عليها وعلى عبادتها في الحياة الدنيا (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) تتبرأ الاوثان من عبادها والرؤساء من السفلة كما قال الله عزوجل: " الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ". (ومأواكم النار) هو خطاب لعبدة الاوثان الرؤساء منهم والاتباع. وقيل: تدخل فيه الاوثان كقوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ". قوله تعالى: فامن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم (26) ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتب وءاتينه أجره في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصلحين (27) قوله تعالى: (فآمن له لوط) لوط أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه بردا وسلاما. قال ابن إسحق آمن لوط 0 بإبراهيم وكان ابن أخته، وآمنت به سارة وكانت بنت عمه. (وقال إنى مهاجر إلى ربى) قال النخعي وقتادة: الذي قال: " إنى مهاجر إلى ربى " هو إبراهيم عليه السلام. قال قتادة: هاجر من كوثا وهى قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ، وامرأته سارة. قال الكلبى: هاجر من أرض حران إلى فلسطين. وهو أول من هاجر من أرض الكفر. قال مقاتل: هاجر إبراهيم وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقيل: الذي قال: " إني مهاجر إلى ربى " لوط عليه السلام. ذكر البيهقى عن قتاده قال: أول من هاجر إلى الله عزوجل بأهله عثمان بن عفان رضى الله عنه. قال قتادة: سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة يعنى أنس بن مالك يقول: خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقدمت أمرأة من قريش فقالت: يا محمد رأيت ختنك ومعه أمرأته. قال: " على أي حال رأيتهما " قالت: رأيته وقد حمل
[ 340 ]
امرأته على حمار من هذه الدبابة (1) وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صحبهما الله إن عثمان لاول من هاجر بأهله بعد لوط " قال البيهقى: هذا في الهجرة الاولى، وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فهى فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. " إلى ربى " أي إلى رضا ربى وإلى حيث أمرنى. (إنه هو العزيز الحكيم) تقدم. وتقدم الكلام في الهجرة في " النساء " (2) وغيرها. قوله تعالى: (ووهبنا له إسحق) أي من الله عليه بالاولاد فوهب له إسحق ولدا ويعقوب ولد ولد. وإنما وهب له إسحق من بعد إسمعيل ويعقوب من إسحق. (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه. ووحد الكتاب، لانه أراد المصدر كالنبوة، والمراد التوراة والانجيل [ والفرقان ]. فهو عبارة عن الجمع. فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم، والانجيل على عيسى من ولده، والفرقان على محمد من ولده صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. (وأتيناه أجره في الدنيا) يعنى أجتماع أهل الملل عليه، قاله عكرمة. وروى سفيان عن حميد ابن قيس قال: أمر سعيد بن جبير إنسانا أن يسأل عكرمة عن قوله جل ثناؤه " وآتيتاه أجره في الدنيا " فقال عكرمة: أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منا، فقال سعيد بن جبير: صدق. وقال قتادة: هو مثل قوله " وآتيناه في الدنيا حسنة " أي عاقبة وعملا صالحا وثناء حسنا. وذلك أن أهل كل دين يتولونه. وقيل: " آتيناه أجره في الدنيا " أن أكثر الانبياء من ولده. (وإنه في الاخرة لمن الصالحين) ليس " في الآخرة " داخلا في الصلة وإنما هو تبيين. وقد مضى في " البقرة " (3) بيانه. وكل هذا حث على الاقتداء بإبراهيم في الصبر على الدين الحق. قوله تعالى: ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفحشة ما سبقكم بها من أحد من العلمين (28) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلآ أن قالوا (1) أي الضعاف التى في المشى ولا تسرع. (2) راجع ج‍ 5 ص 349 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (3) راجع ج‍ 2 ص 133 طبعة ثانية.
[ 341 ]
ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصدقين (29) قال رب انصرني على القوم المفسدين (30) ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظلمين (31) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغبرين (32) ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغبرين (33) إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (34) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (35) قوله تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه) قال الكسائي: المعنى وأنجينا لوطا أو أرسلنا لوطا. قال: وهذا الوجه أحب إلى. ويجوز أن يكون المعنى واذكر لوطا إذ قال لقومه موبخا أو محذرا (أئنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) " أئنكم " تقدم القراءة في هذا وبيانها في سورة " الاعراف " (1). وتقدم قصة لوط وقومهه في " الاعراف " و " هود (2) " أيضا. (وتقطعون السبيل) قيل: كانوا قطاع الطريق، قاله ابن زيد. وقيل: كانوا يأخذون الناس من الطرق لقضاء الفاحشة، حكاه ابن شجرة. و قيل: إنه قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال. قاله وهب بن منبه. أي استغنوا بالرجال عن النساء قلت: ولعل الجميع كان فيهم فكانوا يقطعون الطريق لاخذ الاموال والفاحشة، ويستغنون عن النساء بذلك. " وتأتون في ناديكم المنكر " النادي المجلس واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه، فقالت فرقة: كانوا يخذفون النساء بالحصى، ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم. وروته أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم. قالت أم هانئ: سألت رسول الله صلى (1) راجع ج‍ 7 ص 245 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج‍ 9 ص 79 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 342 ]
الله عليه وسلم عن قول الله عزوجل: " وتأتون في ناديكم المنكر " قال " كانوا يخذفون من يمر بهم ويسخرون منه فذلك المنكر الذي كانوا يأتونه " أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وذكره النحاس والثعلبي والمهدوي والماوردي. وذكر الثعلبي قال معاوية قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل قصعة فيها الحصى للخذف فإذا مر بهم عابر قذفوه فأيهم أصابه كان أولى به " يعني يذهب به للفاحشة فذلك قوله: " وتأتون في ناديكم المنكر ". وقالت عائشة وابن عباس والقاسم بن أبي بزة (1) والقاسم ابن محمد: إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم. وقال [ منصور عن ] (2) مجاهد كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا. وعن مجاهد: كان من أمرهم لعب الحمام وتطريف الاصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم. قال ابن عطية: وقد توجد هذه الامور في بعض عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالتناهي واجب. قال مكحول: في هذه الامة عشرة من أخلاق قوم لوط: مضغ العلك وتطريف الاصابع بالحناء، وحل الازار، وتنقيض (3) الاصابع، والعمامة التي تلف حول الرأس، والتشابك، ورمي الجلاهق، (4) والصفير، والخذف، واللوطية. وعن ابن عباس قال: إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة، منها أنهم يتظالمون فيما بينهم، ويشتم بعضهم بعضا ويتضارطون في مجالسهم، ويخذفون ويلعبون بالنرد والشطرنج، ويلبسون المصبغات، ويتناقرون بالديكة، ويتناطحون بالكباش، ويطرفون أصابعهم بالحناء، وتتشبه الرجال بلباس النساء والنساء بلباس الرجال، ويضربون المكوس على كل عابر، ومع هذا كله كانوا يشركون بالله، وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسحاق، فلما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب واللجاج، فقالوا: (ائتنا بعذاب الله) أي إن ذلك لا يكون ولا يقدر عليه. وهم لم يقولوا هذا إلا وهم مصممون على أعتقاد كذبه. وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا ثم استنصر (1) بفتح الموحدة وتشديد الزاي كما في التقريب. (2) في كل النسخ: مجاهد ومنصور. والتصويت عن تفسير الطبري وغيره (3) تنقيض الاصابع قرقعتها. (4) الجلاهق كعلابط البندق الذي يرمى به. والخذف بالخاء المعجمه الحذف به.
[ 343 ]
لوط عليه السلام ربه فبعث عليهم ملائكة لعذابهم، فجاءوا إبراهيم أولا مبشرين بنصرة لوط على قومه حسبما تقدم بيانه في " هود " وغيرها. وقرأ الاعمش ويعقوب وحمزة والكسائي (لننجيه وأهله) بالتخفيف. وشدد الباقون. وقرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي: " إنا منجوك وأهلك " بالتخفيف وشدد الباقون. وهما لغتان: أنجى ونجى بمعنى. وقد تقدم. وقرأ ابن عامر: " إنا منزلون " بالتشديد وهي قراءة ابن عباس. الباقون بالتخفيف. وقوله: " ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون " قال قتادة: هي الحجارة التي أبقيت وقاله أبو العالية. وقيل: إنه يرجم بها قوم من هذه الامة. وقال ابن عباس: هي آثار منازلهم الخربة. وقال مجاهد: هو الماء الاسود على وجه الارض. وكل ذلك باق فلا تعارض. قوله تعالى: وإلى مدينن أخاهم شعيبا فقال يقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الاخر ولا تعثوا في الارض مفسدين (36) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جثمين (37) قوله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا) أي وأرسلنا إلى مدين. وقد يقدم ذكرهم وفسادهم في " الاعراف (1) " و " هود ". (وارجوا اليوم الآخر) وقال يونس النحوي: أي أخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الاعمال. (ولا تعثوا في الارض مفسد ين) أي لا تكفروا فإنه أصل كل فساد. والعثو والعثي أشد الفساد. عثي يعثى وعثا يعثو بمعنى واحد. وقد تقدم. وقيل: " وارجوا اليوم الآخر " أي صدقوا به فإن القوم كانوا ينكرونه. قوله تعالى: وعاد وثمودا وقد تبين لكم من مسكنهم وزين لهم الشيطن أعملهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين (38) قوله تعالى: (وعادا وثمود) قال الكسائي: قال بعضهم هو راجع إلى أول السورة، أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عادا وثمود. قال: وأحب إلي أن يكون معطوفا على (1) راجع ج‍ 7 ص 247 وما بعدها وج‍ 9 ص 85 وما بعدها طبعة أولى أو طبعة ثانية. (*)
[ 344 ]
" فأخذتهم الرجفة " وأخذت عادا وثمودا. وزعم الزجاج: أن التقدير وأهلكنا عادا وثمودا. وقيل: المعنى وأذكر عادا إذ أرسلنا إليهم هودا فكذبوه فأهلكناهم، وثمودا أيضا أرسلنا إليهم صالحا فكذبوه فأهلكناهم بالصيحة كما أهلكنا عادا بالريح العقيم. (وقد تبين لكم) يا معشر الكفار (من مساكنهم) بالحجر والاحقاف آيات في إهلاكهم فحذف فاعل التبين. (وزين لهم الشيطان أعمالهم) أي أعمالهم الخسيسة فحسبوها رفيعة. (فصدهم عن السبيل) أي عن طريق الحق. (وكانوا مستبصرين) فيه قولان: أحدهما وكانوا مستبصرين في الضلالة، قاله مجاهد. والثاني: كانوا مستبصرين قد عرفوا الحق من الباطل بظهور البراهين. وهذا القول أشبه، لانه إنما يقال فلان مستبصر إذا عرف الشئ على الحقيقة. قال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر فلم تنفعهم بصائرهم. وقيل: أتوا ما أتوا وقد تبين لهم أن عاقبتهم العذاب. قوله تعالى: وقرون وفرعون وهمن ولقد جاءهم موسى بالبينت فأستكبروا في الارض وما كانوا سبقين (39) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (40) قوله تعالى: (وقارون وفرعون وهامان) قال الكسائي: إن شئت كان محمولا على عاد، وكان فيه ما فيه، وإن شئت كان على " فصدهم عن السبيل " وصد قارون وفرعون وهامان. وقيل: أي وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل (فاستكبروا في الارض) عن الحق وعن عبادة الله. (وما كانوا سابقين) أي فائتين. وقيل: سابقين في الكفر بل قد سبقهم للكفر قرون كثيرة فأهلكناهم. (فكلا أخذنا بذنبه) قال الكسائي: " فكلا " منصوب ب‍ " أخذنا " أي أخذنا كلا بذنبه. (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) يعني قوم لوط. والحاصب ريح يأتي بالحصباء وهي الحصى الصغار. وتستعمل في كل عذاب
[ 345 ]
(ومنهم من أخذته الصيحة) يعني ثمودا وأهل مدين. (ومنهم من خسفنا به الارض) يعني قارون (ومنهم من أغرقنا) قوم نوح وقوم فرعون. (وما كان الله ليظلمهم) لانه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر. قوله تعالى: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوههن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (41) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم (42) وتلك الامثل نضربها للناس وما يعقلها إلا العلمون (43) قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت) قال الاخفش: " كمثل العنكبوت " وقف تام، ثم قصتها فقال: (أتخذت بيتا) قال ابن الانباري: وهذا غلط، لان " أتخذت بيتا " صلة للعنكبوت، كأنه قال: كمثل التي أتخذت بيتا، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول، وهو بمنزلة قوله: " كمثل الحمار يحمل أسفارا " فيحمل صلة للحمار ولا يحسن الوقف على الحمار دون يحمل. قال الفراء: هو مثل ضربه الله سبحانه لمن أتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا. ولا يحسن الوقف على العنكبوت، لانه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شئ، فشبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به. (وإن أوهن البيوت) أي أضعف البيوت (لبيت العنكبوت). قال الضحاك: ضرب مثلا لضعف آلهتهم ووهنها فشبهها ببيت العنكبوت. (لو كانوا يعلمون) " لو " متعلقه ببيت العنكبوت. أي لو علموا أن عبادة الاوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئا، وأن هذا مثلهم لما عبدوها، لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف. وقال النحاة: أن تاء العنكبوت في آخرها مزيدة، لانها تسقط في التصغير والجمع وهي مؤنثة. وحكى الفراء تذكيرها وأنشد: على هطالهم منهم بيوت * * كأن العنكبوت قد ابتناها
[ 346 ]
ويروى: * على أهطالهم منهم بيوت * قال الجوهري والهطال: اسم جبل. والعنكبوت الدويبة المعروفة التي تنسج نسجا رقيقا مهلهلا بين الهواء. ويجمع عناكيب وعناكب وعكاب وعكب وأعكب. وقد حكى أنه يقال عنكب وعنكباة (1)، قال الشاعر: كأنما يسقط من لغامها * * بيت عنكباة على زمانها وتصغر فيقال عنيكب. وقد حكى عن يزيد بن ميسرة أن العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى. وقال عطاء الخراساني: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان جالوت يطلبه، ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نهى عن قتلها. ويروى عن علي رضي الله عنه انه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر، ومنع الخمير يورث الفقر. قوله تعالى: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ) " ما " بمعنى الذي و " من " للتبعيض، ولو كانت زائدة للتوكيد لا نقلب المعنى، والمعنى: إن الله يعلم ضعف ما يعبدون من دونه. وقرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب: " يدعون " بالياء وهو اختيار أبي عبيد، لذكر الامم قبلها. الباقون بالتاء على الخطاب. قوله تعالى: (وتلك الامثال نضربها) أي هذا المثل وغيره مما ذكر في " البقرة " و " الحج " وغيرهما (نضربها) نبينها (للناس وما يعقلها) أي يفهمها (إلا العالمون) أي العالمون بالله، كما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه ". قوله تعالى: خلق الله السموت والارض بالحق إن في ذلك لاية للمؤمنين (44) قوله تعالى: (خلق الله السموات والارض بالحق) أي بالعدل والقسط. وقيل: بكلامه وقدرته وذلك هو الحق. (إن في ذلك لاية) أي علامة ودلالة (للمؤمنين) المصدقين. (1) ويقال أيضا: عنكباة بتقديم النون على الكاف. (*)
[ 347 ]
قوله تعالى: اتل ما أوحى ذليك من الكتب وأقم الصلوة إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون (45) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (اتل) أمر من التلاوة والدءوب عليها. وقد مضى في " طه " (1) الوعيد فيمن أعرض عنها، وفي مقدمة الكتاب (2) الامر بالحض عليها. والكتاب يراد به القرآن. الثانية - قوله تعالى: (وأقم الصلاة) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وإقامة الصلاة أداؤها في وقتها بقراءتها ور كوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها. وقد تقدم بيان ذلك في " البقرة " (3) فلا معنى للاعادة. الثالثة - قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) يريد إن الصلاة الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب، كما قال عليه السلام: " أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شئ " قالوا: لا يبقى من درنه شئ، قال: " فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا " خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال فيه حديث حسن صحيح. وقال ابن عمر: الصلاة هنا القرآن. والمعنى: الذي يتلى في الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر، وعن الزنى والمعاصي قلت: ومنه الحديث الصحيح: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " يريد قراءة الفاتحة. وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي: العبد ما دام في صلاته لا يأتي فحشاء ولا منكرا، أي إن الصلاة تنهى ما دمت فيها. قال ابن عطية: وهذه عجمة وأين هذا مما رواه أنس بن مالك قال: كان فتى من الانصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الصلاة ستنهاه " (1) راجع ج‍ 1 ص 258 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج‍ 1 ص وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (3) راجع ج‍ 1 ص 164 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 348 ]
فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم أقل لكم ". وفي الآية تأويل ثالث، وهو الذي أرتضاه المحققون وقال به المشيخة الصوفية وذكره المفسرون، فقيل المراد ب‍ " أقم الصلاة " إدامتها والقيام بحدودها، ثم أخبر حكما منه بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر، وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة. والصلاة تشغل كل بدن المصلي، فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه وادكر أنه واقف بين يديه، وأنه مطلع عليه ويراه، صلحت لذلك نفسه وتذللت، وخامرها أرتقاب الله تعالى، وظهرت على جوارحه هيبتها، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة. فهذا معنى هذه الاخبار، لان صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون. قلت: لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله، وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد، فإن الموت ليس له سن محدود، ولا زمن مخصوص، ولا مرض معلوم، وهذا مما لا خلاف فيه. وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة أرتعد وأصفر لونه، فكلم في ذلك فقال: إني واقف بين يدي الله تعالى، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك. فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر، ومن كانت صلاته دائرة حول الاجزاء، لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل، كصلاتنا - وليتها تجزي - فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تعالى تركته الصلاة يتمادى على بعده. وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والاعمش قولهم: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا " وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير صحيح السند. قال ابن عطية سمعت أبي رضي الله عنه يقول: فإذا قررنا ونظر معناه فغير جائز أن يقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله، بل تتركه على حاله ومعاصيه، من الفحشاء والمنكر والبعد، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان سبيله، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله. وقيل لابن مسعود: إن فلانا كثير الصلاة فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها.
[ 349 ]
قلت: وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث: " لم تزده من الله إلا بعدا ولم يزدد بها من الله إلا مقتا " إشارة إلى أن مرتكب الفحشاء والمنكر لا قدر لصلاته، لغلبة المعاصي على صاحبها. وقيل: هو خبر بمعنى الامر. أي لينته المصلى عن الفحشاء والمنكر. والصلاة بنفسها لا تنهى، ولكنها سبب الانتهاء. وهو كقوله تعالى: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " وقوله: " أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ". الرابعة - قوله تعالى: (ولذكر الله أكبر) أي ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم. قال معناه ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن، وهو أختيار الطبري. وروي مرفوعا من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قول الله عزوجل: " ولذكر الله أكبر " قال: " ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ". وقيل: ذكركم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضل من كل شئ. وقيل: المعنى، إن ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. وقال الضحاك: ولذكر الله عندما يحرم فيترك أجل الذكر. وقيل: المعنى ولذكر الله للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير، وأكبر يكون بمعنى كبير. وقال ابن زيد وقتادة: ولذكر الله أكبر من كل شئ أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر. وقيل: ذكر الله يمنع من المعصية فإن من كان ذاكرا له لا يخالفه. قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الاطلاق، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة، لان الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقب له. وثواب ذلك أن يذكره الله تعالى، كما في الحديث " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم " والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهى، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله. وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى. وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه. قال الله عزوجل: " فاذكروني أذكركم ". وباقي الآية ضرب من الوعيد والحث على المراقبة.
[ 350 ]
قوله تعالى: ولا تجدلوا أهل الكتب إلا بالتى هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم وحد ونحن له مسلمون (46) وكذلك أنزلنا إليك الكتب فالذين ءاتينهم الكتب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بأيتنآ إلا الكفرون (47) فيه مسئلتان: الاولى - اختلف العلماء في قوله تعالى: " ولا تجادلوا أهل الكتاب " فقال مجاهد: هي محكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عزوجل، والتنبيه على حججه وآياته، رجاء إجابتهم إلى الايمان، لا على طريق الاغلاظ والمخاشنة. وقوله على هذا: " إلا الذين ظلموا منهم " معناه ظلموكم، وإلا فكلهم ظلمة على الاطلاق. وقيل: المعنى لا تجادلوا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب المؤمنين كعبد الله ابن سلام ومن آمن معه. (إلا بالتى هي أحسن) أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك. وقوله على هذا التأويل: " إلا الذين ظلموا " يريد به من بقي على كفره منهم، كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم. والآية على هذا أيضا محكمة. وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال قوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ". قال قتادة: " إلا الذين ظلموا " أي جعلوا لله ولدا، وقالوا: " يد الله مغلولة " و " إن الله فقير " فهؤلاء المشركون [ الذين نصبوا الحرب ولم يؤدوا ] (1) الجزية فانتصروا [ منهم ]. قال النحاس وغيره: من قال هي منسوخة أحتج بأن الآية مكية، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض، ولا طلب جزية، ولا غير ذلك. وقول مجاهد حسن، لان أحكام الله عزوجل لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر، أو حجة من معقول. واختار هذا القول ابن العربي. (1) عبارة الاصل هنا: " فهؤلاء المشركون في سقوط الجزية... الخ " والتصويب مستفاد من كتب التفسير. (*)
[ 351 ]
قال مجاهد وسعيد بن جبير: وقوله " إلا الذين ظلموا منهم " معناه إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية. الثانية - قوله تعالى: (وقولوا آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم) روى البخاري عن أبي هريرة: قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية، لاهل الاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ". وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل ". وفي البخاري: عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الاحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. قوله تعالى: وما كنت تتلوا من قبله من كتب ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب المبطلون (48) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب) الضمير في " قبله " عائد إلى الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أي وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى أهل الكتاب، بل أنزلناه إليك في غاية الاعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتابا، ويخط حروفا " لارتاب المبطلون " أي من أهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية، قال النحاس: دليلا على نبوته لقريش، لانه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الانبياء والامم وزالت الريبة والشك.
[ 352 ]
الثانية - ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب. وأسند أيضا حديث أبي كشة السلولي، مضمنه: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ صحيفة لعيينة بن حصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه. قلت: وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أكتب الشرط بيننا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك - وفي رواية بايعناك - ولكن أكتب محمد بن عبد الله فأمر عليا أن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه (1). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرني مكانها " فأراه فمحاها وكتب ابن عبد الله. قال علماؤنا رضي الله عنهم: وظاهر هذا أنه عليه السلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، وكتب مكانها ابن عبد الله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا. فقال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة: بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده، منهم السمناني وأبو ذر (2) والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميا، ولا معارض بقوله: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " ولا بقوله: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارا على صدقه وصحة رسالته وذلك أنه كتب من غير تعلم لكتابة، ولا تعاط لاسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها ابن عبد الله لمن قراها، فكان ذلك خارقا للعادة، كما أنه عليه السلام علم علم الاولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ في معجزاته، وأعظم في فضائله. لا يزول عنه اسم الامي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الامي مع كونه قال كتب. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من (1) محا الشئ يمحوه ويمحاه محوا ومحيا أذهب أثره. (2) السمنان هو أبو عمرو الفلسطيني. وأبو ذر هو عبد الله بن أحمد الهروي، والباجى هو أبو الوليد. (*)
[ 353 ]
متفقهة الاندلس وغيرهم وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا، لان تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه عليه السلام في الصحيح، لا سيما رمي من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والامامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار أحاد صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها. وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها. قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا أنها مناقضة لآية أخرى وهي كونه أميا لا يكتب، وبكونه أميا في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية. وإنما الآية ألا يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا. وإنما معنى كتب وأخذ القلم، أي أمر من يكتب به من كتابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون كاتبا. الثالثة - ذكر القاضي عياض عن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم " قال القاضي: وهذا وإن لم تصح الرواية أنه صلى الله عليه وسلم كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا، ويمنع القراءة والكتابة. قلت: هذا هو الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجى. فإن قيل: فقد تهجى النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الدجال فقال: " مكتوب بين عينيه ك ا ف ر " وقلتم إن المعجزة قائمة في كونه أميا، قال الله تعالى: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب " الآية وقال: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " فكيف هذا ؟ فالجواب ما نص عليه صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا. ففي حديث حذيفة " يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أميا. وهذا من أوضح ما يكون جليا.
[ 354 ]
قوله تعالى: بل هوءايت بينت في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بايتنا إلا الضلمون (49) قوله تعالى: (بل هو آيات بينات) يعني القرآن. قال الحسن: وزعم الفراء في قراءة عبد الله " بل هي آيات بينات " المعنى بل آيات القران آيات بينات. قال الحسن: ومثله " هذا بصائر " ولو كانت هذه لجاز، نظيره " هذا رحمة من ربي " قال الحسن: أعطيت هذه الامة الحفظ، وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم إلا نظرا، فإذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيون. فقال كعب في صفة هذه الامة: إنهم حكماء علماء وهم في الفقه أنبياء. (في صدور الذين أوتوا العلم) أي ليس هذا القرآن كما يقوله المبطلون من أنه سحر أو شعر، ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه. وهي كذلك في صدور الذين أوتوا العلم، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به، يحفظونه ويقرءونه. ووصفهم بالعلم، لانهم ميزوا بأفهامهم بين كلام الله وكلام البشر والشياطين. وقال قتادة وابن عباس: " بل هو " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " آيات بينات في صدور اللذين أوتوا العلم " من أهل الكتاب يجدونه مكتوبا عندهم في كتبهم بهذه الصفة أميا لا يقرأ، ولا يكتب، ولكنهم ظلموا أنفسهم وكتموا. وهذا اختيار الطبري. ودليل هذا القول قراءة ابن مسعود وابن السميقع: " بل هذا آيات بينات " وكان عليه السلام آيات لا آية واحدة، لانه دل على أشياء كثيرة من أمر الدين، فلهذا قال: " بل هو آيات بينات ". وقيل: بل هو ذو آيات بينات، فحذف المضاف. (وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) أي الكفار، لانهم جحدوا نبوته وما جاء به. قوله تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ءايت من ربه قل إنما الايت عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفى بالله بينى وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والارض والذين ءامنوا بالبطل وكفروا بالله أولئك هم الخسرون (52)
[ 355 ]
قوله تعالى: (وقالوا لولا انزل عليه آيات من ربه) هذا قول المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه هلا أنزل عليه آية كآيات الانبياء. قيل: كما جاء صالح بالناقة، وموسى بالعصا، وعيسى بإحياء الموتى، أي " قل " لهم يا محمد: (إنما الآيات عند الله) فهو يأتي بها كما يريد، إذا شاء أرسلها وليست عندي (وإنما أنا نذير مبين). وقرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي: " آية " بالتوحيد. وجمع الباقون. وهو أختيار أبي عبيد، لقوله تعالى: " قل إنما الآيات عند الله ". قوله تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) هذا جواب لقولهم " لولا أنزل عليه آيات من ربه " أي أو لم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله، أو بسورة منه فعجزوا، ولوا أتيتهم بآيات موسى وعيسى لقالوا: سحر ونحن لا نعرف السحر، والكلام مقدور، لهم ومع ذلك عجزوا عن المعارضة. وقيل: إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيي بن جعدة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتف فيه كتاب فقال " كفى بقوم ضلالة وأن يرغبون عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم " فأنزل الله تعالى: " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب " أخرجه أبو محمد الدارمي في مسنده. وذكره أهل التفسير في كتبهم. وفي مثل هذا قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: " لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي " وفي مثله قال صلى الله عليه وسلم " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي يستغني به عن غيره. وهذا تأويل البخاري رحمه الله في الآية. وإذا كان لقاء ربه بكل حرف عشر حسنات فأكثر على ما ذكرناه في مقدمة الكتاب فالرغبة عنه إلى غيره ضلال وخسران وغبن ونقصان. (إن في ذلك) أي في القرآن " لرحمة " في الدنيا والآخرة. وقيل: رحمة في الدنيا باستنقاذهم من الضلالة. " وذكرى " في الدنيا بإرشادهم به إلى الحق (لقوم يؤمنون). قوله تعالى: (قل كفى بالله بينى وبينكم شهيدا) أي قل للمكذبين لك كفى بالله شهيدا يشهد لي بالصدق فيما أدعيه من أنى رسوله، وأن هذا القرآن كتابه. (يعلم ما في السموات والارض) أي لا يخفى عليه شئ. وهذا أحتجاج عليهم في صحه شهادته عليهم، لانهم قد
[ 356 ]
أقروا بعلمه فلزمهم أن يقروا بشهادته. (والذين آمنوا بالباطل) قال يحيى بن سلام: بإبليس. وقيل: بعبادة الاوثان والاصنام، قاله ابن شجرة. (وكفروا بالله) أي لتكذيبهم برسله، وجحدهم لكتابه. وقيل: بما أشركوا به من الاوثان، وأضافوا إليه من الاولاد والاضداد. (أولئك هم الخاسرون) أنفسهم وأعمالهم في الآخرة. قوله تعالى: ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (53) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (54) يوم يغشهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون (55) قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب) لما أنذرهم بالعذاب قالوا لفرط الانكار: عجل لنا هذا العذاب. وقيل: إن قائل ذلك النضر بن الحرث وأبو جهل حين قالا " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " وقولهم: " ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " وقوله: (ولولا أجل مسمى) في نزول العذاب. قال ابن عباس: يعني هو ما وعدتك ألا أعذب قومك وأؤخرهم إلى يوم القيامة. بيانه: " بل الساعة موعدهم ". وقال الضحاك: هو مدة أعمارهم في الدنيا. وقيل: المراد بالاجل المسمى النفخة الاولى، قاله يحيى بن سلام. وقيل: الوقت الذي قدره الله لهلاكهم وعذابهم، قاله ابن شجرة. وقيل: هو القتل يوم بدر. وعلى الجملة فلكل عذاب أجل لا يتقدم ولا يتأخر. دليله قوله: " لكل نبإ مستقر ". (لجائهم العذاب) يعني الذي استعجلوه. (وليأتينهم بغتة) أي فجأة. (وهم لا يشعرون) أي لا يعلمون بنزوله عليهم. (يستعجلونك بالعذاب) أي يستعجلونك وقد أعد لهم جهنم وأنها ستحيط بهم لا محالة، فما معنى الاستعجال. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي أمية وأصحابه من المشركين حين قالوا " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ".
[ 357 ]
قوله تعالى: (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم) قيل: هو متصل بما هو قبله، أي يوم يصيبهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فإذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم. وإنما قال " من تحت أرجلهم " للمقاربة وإلا فالغشيان من فوق أعم، كما قال الشاعر: * علفتها تبنا وماء باردا * وقال آخر: لقد كان قواد الجياد إلى العدا * * عليهن غاب من قنى ودروع (ويقول ذوقوا) قرأ أهل المدينة والكوفة: " نقول " بالنون. الباقون بالياء. وأختاره أبو عبيد، لقوله: " قل كفى بالله " ويحتمل أن يكون الملك الموكل بهم يقول " ذوقوا " والقراءتان ترجع إلى معنى. أي يقول الملك بأمرنا ذوقوا. قوله تعالى: يعبادى الذين ءامنوا إن أرضى وسعة فإيى فاعبدون (56) كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون (57) والذين ءامنوا وعملوا الصلحت لنبوئهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الانهر خلدين فيها نعم أجر العملين (58) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (59) وكأين من دابة لا تحمل رزقها يرزقها الله وإياكم وهو السميع العليم (60) قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضى واسعة) هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة - في قول مقاتل والكلبي - فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه، وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب. بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده، أي إن كنتم في ضيق من إظهار الايمان بها فهاجروا إلى المدينة فإنها واسعة، لاظهار التوحيد بها. وقال ابن جبير وعطاء: إن الارض التي فيها الظلم (1) تمام البيت: * حتى شتت همالة عيناها * (*)
[ 358 ]
والمنكر تترتب فيها هذه الآية، وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق. وقاله مالك. وقال مجاهد: " إن أرضي واسعة " فهاجروا وجاهدوا. وقال مطرف بن الشخير: المعنى إن رحمتي واسعة. وعنه أيضا: إن رزقي لكم واسع فابتغوه في الارض. قال سفيان الثوري: إذا كنت بأرض غالية فانتقل إلى غيرها تملا فيها جرابك خبزا بدرهم. وقيل: المعنى: إن أرضي التي هي أرضى الجنة واسعة. " فأعبدون " حتى أورثكموها. " فإياي فاعبدون " " إياي " منصوب بفعل مضمر، أي فاعبدوا إياي فاعبدون، فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني، والفاء في قوله: " فإياي " بمعني الشرط، أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوني [ في غيره ] (1)، لان أرضي واسعة. قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) تقدم في " آل عمران " (2). وإنما ذكره ها هنا تحقيرا لامر الدنيا ومخاوفها. كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه من مكة أنه يموت أو يجوع أو نحو هذا، فحقر الله شأن الدنيا. أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا، فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل. ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه، ثم نعتهم بقوله: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) وقرأ ابو عمر ويعقوب والجحدري وأبن أبي أسحق وابن محيصن والاعمش وحمزة والكسائي وخلف " يا عبادي " بإسكان الياء. وفتحها الباقون. " إن أرضى " فتحها ابن عامر. وسكنها الباقون. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو قيد شبر استوجب الجنة وكان رفيق محمد وإبراهيم " عليهما السلام. " ثم إلينا ترجعون ". وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم " يرجعون " بالياء، لقوله " كل نفس ذائقة الموت " وقرأ الباقون بالتاء، لقوله " يا عبادي الذين آمنوا " وأنشد بعضهم: الموت في كل حين ينشد الكفنا * * ونحن في غفلة عما يراد بنا لا تركنن إلى الدنيا وزهرتها * * وإن توشحت من أثوابها الحسنا (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) راجع ج‍ 4 ص 297 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 359 ]
أين الاحبة والجيران ما فعلوا * * أين الذين همو كانوا لها سكنا سقاهم الموت كأسا غير صافية * * صيرهم تحت أطباق الثرى رهنا قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) وقرأ ابن مسعود والاعمش ويحيي بن وثاب وحمزة والكسائي " لنثوينهم " بالثاء مكان الباء من الثوى وهو الاقامة، أي لنعطينهم غرفا يثوون فيها. وقرأ رويس عن يعقوب والجحدري و السلمي " ليبوئنهم " بالياء مكان النون. الباقون " لنبوئنهم " أي لننزلنهم. " غرفا " جمع غرفة وهي العلية المشرفة. وفي صحيح مسلم عن سهل (1) بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الافق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا: يا رسول الله تلك منازل الانبياء لا يبلغها غيرهم. قال: " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " وخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها " فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: " هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام " وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب " التذكرة " والحمد لله. قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم) أسند الواحدي عن يزيد بن هرون، قال: حدثنا حجاج بن المنهال عن الزهري - وهو عبد الرحمن بن عطاء - عن عطاء عن ابن عمر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الانصار فجعل يلتقط من الثمر [ ويأكل ] (2) فقال " يا بن عمر مالك لا تأكل " فقلت لا أشتهيه يا رسول الله فقال " لكني أشتهيه وهذه صبيحة رابعة لم أذق طعاما ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين قال: والله ما برحنا حتى نزلت: " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله برزقها وإياكم وهو السميع العليم ". (1) هذه رواية أبي سعيد الخدري، كما في صحيح مسلم. (2) الزيادة من كتاب " أسباب النزول " للواحدي. (*)
[ 360 ]
قلت: وهذا ضعيف يضعفه أنه عليه السلام كان يدخر لاهله قوت سنتهم، اتفق البخاري عليه ومسلم. وكانت الصحابة يفعلون ذلك وهم القدوة، وأهل اليقين والائمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين. وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون " اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة " قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا ولا من يسقينا. فنزلت: " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم " أي ليس معها رزقها مدخرا. وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة. وهذا أشبه من القول الاول. وتقدم الكلام في " كأين " وأن هذه " أي " دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم. والتقدير عند الخليل وسيبويه كالعدد. أي كشئ كثير من العدد من دابة. قال مجاهد: يعنى الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئا. الحسن: تأكل لوقتها ولا تدخر لغد. وقيل: " لا تحمل رزقها " أي لا تقدر على رزقها " الله يرزقها " أينما توجهت " وإياكم " وقيل: الحمل بمعنى الحمالة. وحكى النقاش: أن المراد النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ولا يدخر. قلت: وليس بشئ، لاطلاق لفظ الدابة، وليس مستعملا في العرف اطلاقها على الآدمي فكيف على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد مضى هذا في " النمل " عند قوله " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم " قال ابن عباس: الدواب هو كل ما دب من الحيوان، فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر. وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في محضنه. ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها. " الله يرزقها وإياكم " يسوي ببن الحريص والمتوكل في رزقه، وبين الراغب والقانع، وبين الحيول والعاجز حتى لا يغتر الجلد أنه مرزوق بجلده، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ". لدعائكم وقولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة (العليم) بما في قلوبكم.
[ 361 ]
قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السموات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شئ عليم (62) قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض) الآية. لما عير المشركون المسلمين بالفقر وقالو لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء، وكان هذا تمويها، وكان في الكفار فقراء أيضا أزال الله هذه الشبهة. وكذا قول من قال إن هاجرنا لم نجد ما ننفق. أي فإذا أعترفتم بأن الله خالق هذه الاشياء، فكيف تشكون في الرزق، فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن رزق العبد، ولهذا وصله بقوله تعالى: " الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ". (فأنى يؤفكون) أي كيف يكفرون بتوحيدي وينقلبون عن عبادتي. (الله يبسط الرزق لمن يشاء) أي لا يختلف أمر الرزق بالايمان والكفر، فالتوسيع والتقتير منه فلا تعيير بالفقر، فكل شي بقضاء وقدر. (إن الله بگل شئ عليم) من أحوالكم وأموركم. وقيل: عليم بما يصلحكم من إقتار أو توسيع. قوله تعالى: ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون (64) قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء) أي من السحاب مطرا. (فأحيا به الارض من بعد موتها) أي جدبها وقحط أهلها. (ليقولن الله) أي فإذا أقررتم بذلك فلم تشركون به وتنكرون الاعادة. وإذ قدر على ذلك فهو القادر على إغناء المؤمنين، فكرر تأكيدا. (قل الحمد لله) أي على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته. (بل أكثرهم لا يعقلون)
[ 362 ]
أي لا يتدبرون هذه الحجج. وقيل: " الحمد لله " على إقرارهم بذلك. وقيل: على إنزال الماء وإحياء الارض. (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) أي شئ يلهى به ويلعب. أي ليس ما أعطاه الله الاغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول، كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات، قال بعضهم: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها. وأنشد: تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت * * وتحدث من بعد الامور أمور وتجري الليالي باجتماع وفرقة * * و تطلع فيها أنجم وتغور فمن ظن أن الدهر باق سروره * * فذاك محال لا يدوم سرور عفا الله عمن صير الهم واحدا * * وأيقن أن الدائرات تدور قلت: وهذا كله في أمور الدنيا من المال والجاه والملبس الزائد على الضروري الذي به قوام العيش، والقوة على الطاعات، وأما ما كان منها لله فهو من الآخرة، وهو الذي يبقى كما قال: " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " أي ما ابتغى به ثوابه ورضاه. (وإن الدار الآخر لهى الحيوان) أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها. وزعم أبو عبيدة: أن الحيوان والحياة والحي بكسر الحاء واحد. كما قال (1): * وقد ترى إذ الحياة حى * وغيره يقول: إن الحي جمع على فعول مثل عصى. والحيوان يقع على كل شئ حي. وحيوان عين في الجنة. وقيل: أصل حيوان حييان فأبدلت إحداهما واوا، لاجتماع المثلين. (لو كانوا يعلمون) أنها كذلك. قوله تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجهم إلى البر إذا هم يشركون (65) ليكفروا بماء اتينهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66) (1) البيت للعجاج وتمامه: * وإذ زمان الناس دغفلي * (*)
[ 363 ]
قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك) يعني السفن وخافوا الغرق (دعوا الله مخلصين له الدين) أي صادقين في نياتهم، وتركوا عبادة الاصنام ودعاءها. (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) أي يدعون معه غيره، وما ينزل به سلطانا. وقيل: إشراكهم أن يقول قائلهم لولا الله والرئيس أو الملاح لغرقنا، فيجعلون ما فعل الله لهم من النجاة قسمة بين الله وبين خلقه. قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا) قيل: هما لام كي أي لكي يكفروا ولكي يتمتعوا. وقيل: " إذا هم يشركون " ليكون ثمرة شركهم أن يجحدوا نعم الله ويتمتعوا بالدنيا. وقيل: هما لام أمر معناه التهديد والوعيد. أي أكفروا بما أعطيناكم من النعمة والنجاة من البحر وتمتعوا. ودليل هذا قراءة أبى " وتمتعوا " ابن الانباري: ويقوي هذا قراءة الاعمش ونافع وحمزة: " وليتمتعوا " بجزم اللام. النحاس: " وليتمتعوا " لام كي، ويجوز أن تكون لام أمر، لان أصل لام الامر الكسر، إلا أنه أمر فيه معنى التهديد. ومن قرأ: " وليتمتعوا " بإسكان اللام لم يجعلها لام كي، لان لام كي لا يجوز إسكانها وهي قراءة ابن كثير والمسيبي وقالون عن نافع، وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الباقون بكسر اللام. وقرأ أبو العالية: " ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون " تهديد ووعيد. قوله تعالى: أولم يروا أنا جعلنا حرماءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءة أليس في جهنم مثوى للكفرين (68) قوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) قال عبد الرحمن بن زيد: هي مكة وهم قريش أمنهم الله تعالى فيها. " ويتخطف الناس من حولهم " قال الضحاك: يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا. والخطف الاخذ بسرعة. وقد مضى في " القصص "
[ 364 ]
وغيرها. فأذكرهم الله عزوجل هذه النعمة ليذعنوا له بالطاعة. أي جعلت لهم حرما أمنا أمنوا فيه من السبي والغارة والقتل، وخلصتهم في البر كما خلصتهم في البحر، فصاروا يشركون في البر ولا يشركون في البحر. فهذا تعجب من تناقض أحوالهم. (أفبالباطل يؤمنون) قال قتادة: أفبالشرك. وقال. يحيى بن سلام: أفبإبليس. (وبنعمة الله يكفرون) قال ابن عباس: أفبعافية الله. وقال ابن شجرة: أفبعطاء الله وإحسانه. وقال ابن سلام: أفبما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى. وحكى النقاش: أفبإطعامهم من جوع، وأمنهم من خوف يكفرون. وهذا تعجب وإنكار خرج مخرج الاستفهام. قوله تعالى: (ومن أظلم ممن أفترى على الله كذبا) أي لا أحد أظلم ممن جعل مع الله شريكا وولدا، وإذا فعل فاحشة قال: " وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ". (أو كذب بالحق لما جاءه) قال يحيى بن سلام: بالقرآن وقال السدي بالتوحيد. وقال ابن شجرة: بمحمد صلى الله عليه وسلم. وكل قول يتناول القولين. (أليس في جهنم مثوى للكافرين) أي مستقر. وهو استفهام تقرير. قوله تعالى: والذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69) قوله تعالى: (ولذين جاهدوا فينا) أي جاهدوا الكفار فينا. أي في طلب مرضاتنا. وقال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال. قال ابن عطية: فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته. قال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العباد. وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم " ونزع بعض العلماء إلى قوله " واتقوا الله ويعلمكم الله ". وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لا ورثنا علما لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: " واتقوا الله ويعلمكم الله ". وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية
[ 365 ]
قتال الكفار فقط بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الاكبر. وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول: " لنهدينهم " وقال الضحاك: معنى الآية، والذين جاهدوا في الهجرة لنهدينهم سبل الثبات على الايمان. ثم قال: مثل السنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سلم، كذلك من لزم السنة في الدنيا سلم. وقال عبد الله بن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الاقوال. ونحوه قول عبد الله بن الزبير قال: تقول الحكمة من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه، ويجتنب أسوأ ما يعلمه. وقال الحسن بن الفضل: فيه تقديم وتأخير أي الذين هديناهم هم الذين جاهدوا فينا " لنهديهم سبلنا " أي طريق الجنة، قاله السدي. النقاش: يوفقهم لدين الحق. وقال يوسف بن أسباط: المعنى لنخلصن نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وصيامهم. (وإن الله مع المحسنين) لام تأكيد ودخلت في " مع " على أحد وجهين: أن يكون اسما ولام التوكيد إنما تدخل على الاسماء، أو حرفا فتدخل عليها، لان فيها معنى الاستقرار، كما تقول إن زيدا لفي الدار. و " مع " إذا سكنت فهي حرف لا غير. وإذا فتحت جاز أن تكون اسما وأن تكون حرفا. والاكثر أن تكون حرفا جاء لمعنى. وتقدم معنى الاحسان والمحسنين في " البقرة " وغيرها. وهو سبحانه معهم بالنصرة والمعونة، والحفظ والهداية، ومع الجميع بالاحاطة والقدرة. فبين المعيتين بون. تمت سورة العنكبوث، والحمد لله وحده تم بعون الله تعالى الجزء الثالث عشر من تفسير القرطبى يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع عشر وأوله سورة " الروم "