تفسير القرطبي
القرطبي ج 9

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء التاسع أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة هود عليه السلام مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى: " وأقم الصلاة طرفي النهار (1) " [ هود: 114 ]. وأسند أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقرءوا سورة هود يوم الجمعة ". وروى الترمذي عن ابن عباس قال قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت ! قال: " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ". قال: هذا حديث حسن غريب، وقد روي شئ من هذا مرسلا. وأخرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في " نوادر الأصول ": حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا محمد بن بشر عن علي بن صالح عن أبي إسحق عن أبي جحيفة قال: قالوا يا رسول الله نراك قد شبت ! قال: " شيبتني هود وأخواتها ". قال أبو عبد الله: فالفزع يورث الشيب وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض، كما ترى الزرع الأخضر بسقائه، فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيض، وإنما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله، وأهوال ما جاء به الخبر عن الله، فتذبل، وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول (2) الذي جاء به، فمنه تشيب. وقال الله تعالى: " يوما يجعل الولدان شيبا (3) " [ المزمل: 17 ] فإنما شابوا من الفزع. وأما سورة " هود " فلما ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحق لهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف (4) بهم في تلك الأحايين حتى يقرءوا كلامه. وأما أخواتها فما أشبهها من السور، مثل " الحاقة " [ الحاقة: 1 ] و " سأل سائل " [ المعارج: 1 ] و " إذا الشمس كورت " [ التكوير: 1 ] (1) راجع ص 109 من هذا الجزء. وفى رواية عن ابن عباس أنها مكية كلها وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد وابن زيد وقتادة. (2) في و: خوف. (3) راجع ج 19 ص 48. (4) في ع و و: تلطف. (*)
[ 2 ]
و " القارعة " [ القارعة: 1 ]، ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس، وتشيب منه الرؤوس. [ قلت ] (1) وقد قيل: إن الذي شيب النبي صلى الله عليه وسلم من سورة " هود " قول: " فاستقم كما أمرت " (2) [ هود: 112 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقال يزيد بن أبان: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي فقرأت عليه سورة " هود " فلما ختمتها قال: (يا يزيد هذه القراءة فأين البكاء). قال علماؤنا: قال أبو جعفر النحاس: يقال هذه هود فاعلم بغير تنوين على أنه اسم للسورة، لأنك لو سميت امرأة بزيد. لم تصرف، وهذا قول الخليل وسيبويه. وعيسي ابن عمر يقول: هذه هود بالتنوين على أنه اسم للسورة، وكذا إن سمى امرأة بزيد، لأنه لما سكن وسطه خف فصرف، فإن أردت الحذف صرفت على قول الجميع، فقلت: هذه هود وأنت تريد سورة هود، قال سيبويه: والدليل على هذا أنك تقول هذه الرحمن، فلولا أنك تريد هذه سورة الرحمن ما قلت هذه. قوله تعالى: آلر كتب أحكمت ءايته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1) ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير (2) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذى فضل فضله وإن تولوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير (3) إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير (4) قوله تعالى: (الر). تقدم القول فيه (3). (كتاب) بمعنى هذا كتاب. (أحكمت آياته) في موضع رفع نعت لكتاب. وأحسن ما قيل في معنى " أحكمت آياتة " قول قتادة، أي جعلت محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل. والإحكام منع القول من الفساد، أي نظمت نظما محكما لا يلحقها تناقض ولاخلل. وقال ابن عباس: أي لم ينسخها كتاب، بخلاف التورات والإنجيل. وعلى هذا المعنى، أحكم بعض آياته بأن جعل ناسخا غير منسوخ. وقد تقدم القول فيه. (1) من ع. (2) راجع ص 107 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 8 ص 304. (4) راجع ج‍ 4 ص 10. (*)
[ 3 ]
وقد يقع اسم الجنس على النوع، فيقال: أكلت طعام زيد، أي بعض طعامه. وقال الحسن وأبو العالية: " أحكمت آياته " بالأمر والنهي. (ثم فصلت) بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. مجاهد: أحكمت جملة، ثم بينت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها. وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في التنزيل. وقيل: " فصلت " أنزلت نجما نجما لتتدبر. وقرأ عكرمة " فصلت " مخففا أي حكمت بالحق. (من لدن) أي من عند. (حكيم) أي محكم للأمور. (خبير) بكل كائن وغير كائن. قوله تعالى (ألا تعبدوا إلا الله) قال الكسائي والفراء: أي بألا، أي أحكمت ثم فصلت بألا تعبدوا إلا الله. قال الزجاج: لئلا، أي أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله. قيل: أمر رسوله أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله. (إننى لكم منه) أي من الله. (نذير) أي مخوف من عذابه وسطوته لمن عصاه. (وبشير) بالرضوان والجنة لمن أطاعه. وقيل: هو من قول الله أولا وآخرا، أي لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير، أي الله نذير لكم من عبادة غيره، كما قال: " ويحذركم الله نفسه " (1) [ آل عمران: 28 ]. قوله تعالى: (وإن استغفروا ربكم) عطف على الأول. (ثم توبوا إليه) أي ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال الفراء: " ثم " هنا بمعنى الواو، أي وتوبوا إليه، لأن الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار. وقيل: استغفروه من سالف ذنوبكم، وتوبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم. قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. وقد تقدم هذا المعنى في " آل عمران " (1) مستوفى. وفي " البقرة " (2) عند قوله: " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " [ البقرة: 231 ]. وقيل: إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب. ويحتمل أن يكون المعنى استغفروه من الصغائر، وتوبوا إليه من الكبائر. (يمتعكم متاعا حسنا) (1) راجع ج‍ 4 ص 58 وص 210 (2) راجع ج‍ 3 ص 156 (*)
[ 4 ]
هذه ثمرة الاستغفار والتوبة، أي يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم. وقيل: يمتعكم يعمركم، وأصل الإمتاع الإطالة، ومنه أمتع الله بك ومتع. وقال سهل بن عبد الله: المتاع الحسن ترك الخلق والإقبال على الحق. وقيل: هو القناعة بالموجود، وترك الحزن على المفقود. (إلى أجل مسمى) قيل: هو الموت. وقيل: القيامة. وقيل: دخول الجنة. والمتاع الحسن على هذا وقاية كل مكروه وأمر مخوف، مما يكون في القبر وغيره من أهوال القيامة وكربها، والأول أظهر، لقوله في هذه السورة: " ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم " (1) [ هود: 52 ] وهذا ينقطع بالموت وهو الأجل المسمى. والله أعلم. قال مقاتل: فأبوا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتلوا بالقحط سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة والقذر والجيف والكلاب. (ويؤت كل ذى فضل فضله) أي يؤت كل ذي عمل من الأعمال الصالحات جزاء عمله. وقيل: ويؤت كل من فضلت حسناته على سيئاته " فضله " أي الجنة، وهي فضل الله، فالكناية في قوله: " فضله " ترجع إلى الله تعالى. وقال مجاهد: هو ما يحتسبه الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده أو رجله، أو ما تطوع به من ماله فهو فضل الله، يؤتيه ذلك إذا آمن، ولا يتقبله منه إن كان كافرا. (وإن تولوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير) أي يوم القيامة، وهو كبير لما فيه من الأهوال. وقيل: اليوم الكبير هو يوم بدر وغيره: و " تولوا " يجوز أن يكون ماضيا ويكون المعنى: وإن تولوا فقل لهم إنى أخاف عليكم. ويجوز أن يكون مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين والمعنى: قل لهم إن تتولوا فإني أخاف عليكم. قوله تعالى: إلى الله مرجعكم) أي بعد الموت. (وهو على كل شئ قدير) من ثواب وعقاب. قوله تعالى: ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور (5) (1) راجع ص 50 فما بعد من هذا الجزء. (*)
[ 5 ]
قوله تعالى: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) أخبر عن معاداة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفي على الله أحوالهم. " يثنون صدورهم " أي يطوونها على عداوة المسلمين ففيه هذا الحذف، قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة، ويظهرون خلافه. نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء. وقال مجاهد: " يثنون صدورهم " شكا وامتراء. وقال الحسن: يثنونها على ما فيها من الكفر. وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه وغطى وجهه، لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان، حكي معناه عن عبد الله بن شداد فالهاء في " منه " تعود على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: قال المنافقون إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا ؟ فنزلت الآية. وقيل: إن قوما من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبين الله تعالى أن التنسك ما أشتملت قلوبهم قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل. وروى ابن جرير عن محمد ابن عباد بن جعفر قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: " ألا أنهم تثنوي صدورهم ليستحفوا منه " (1) قال: كانوا لا يجامعون النساء، ولا يأتون الغائط وهم يفضون إلى السماء، فنزلت هذه الآية. وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس: " ألا إنهم تثنوي صدورهم " بغير نون بعد الواو، في وزن تنطوي، ومعنى " تثنوي " والقراءتين الأخريين متقارب، لأنها لا تثنوي حتى يثنوها. وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض يساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفي على الله تعالى: " ليستخفوا " أي ليتواروا عنه، أي عن محمد أو عن الله. " ليستخفوا " أي ليتواروا عنه، أي عن محمد أو عن الله. (1) في الأصل: " تثنوى " بغير نون بعد الواو في وزن تنطوى، وهو يخالف ما في صحيح البخاري وتفسير الطبري عن محمد عن بن عباد، فلذا صوبناه عنهما، وأما رواية " تثنوى " المذكورة بالأصل فقد نسبها ابن عطية إلى ابن عينية، ويعضده مافى (إعراب القرآن للنحاس) حيث قال: وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس " ألا إنهم تثنوى صدورهم " بغير نون بعد الواو في وزن تنطوى...... إلخ، وهى العبارة الآتية بالأصل. وتعقب بعض المفسرين هذه القراءة بأنها غلط في النقل لاتتجه. راجع المعاني والبحر وتفسير ابن عطية. (*)
[ 6 ]
(ألا حين يستغشون ثيابهم) أي يغطون رؤسهم بثيابهم. قال قتادة: أخفى ما يكون العبد إذاحنى ظهره، واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همه. قوله تعالى: وما من دابه في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتب مبين (6) قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) " ما " نفي و " من " زائدة و " دابة " في موضع رفع، التقدير: وما دابة. " إلا على الله رزقها " " على " بمعنى " من "، أي من الله رزقها، يدل عليه قول، مجاهد: كل ما جاءها من رزق فمن الله. وقيل: " على الله " أي فضلا لا وجوبا. وقيل: وعدا منه حقا. وقد تقدم بيان هذا المعنى في " النساء " (1) وأنه سبحانه لا يجب عليه شئ. " رزقها " رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة، وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص، لأن كثيرا من الدواب هلك قبل أن يرزق. وقيل: هي عامة [ في كل دابة ] (2): وكل دابة لم ترزق رزقا تعيش به فقد رزقت روحها، ووجه النظم به قبل: أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يغفل عن تربيته، فكيف تخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم ؟ ! والدابة كل حيوان يدب. والرزق حقيقته ما يتغذى به الحي ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده. ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك، لأن البهائم ترزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها، وهكذا الأطفال ترزق اللبن ولايقال: إن اللبن الذي في الثدي ملك للطفل. وقال تعالى: " وفي السماء رزقكم " (3) [ الذاريات: 22 ] وليس لنا في السماء ملك، ولأن الرزق لو كان ملكا لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره، وذلك محال، لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه. وقد تقدم في " البقرة " هذا المعنى والحمد لله. وقيل لبعضهم: من أين تأكل ؟ وقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق. (1) راجع ج‍ 5 ص 273. (2) من ع. (3) راجع ج‍ 17 ص 41. (4) راجع ج‍ 1 ص 177 فما بعد. (*)
[ 7 ]
وقيل لأبى أسيد: من أين تأكل ؟ فقال: سبحانه الله والله أكبر ! إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد !. وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل ؟ فقال: من عند الله، فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء ؟ فقال: كأن ماله إلا السماء ! يا هذا الأرض له والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لى من الأرض، وأنشد: وكيف أخاف الفقر والله رازقي * وورازق هذا الخلق في العسر واليسر تكفل بالأرزاق للخلق كلهم * وللضب في البيداء والحوت في البحر وذكر الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " بإسناده عن زيد بن أسلم: أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا (1) من الزاد، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله، فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينها مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاءوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته، فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به، قال: " ما أرسلت إليكم طعاما " فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذلك شئ رزقكموه الله ". (1) أرملوا من الزاد: أي نفذ زادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل، كما قيل للفقير الترب. (*)
[ 8 ]
قوله تعالى: (ويعلم مستقرها) أي من الأرض حيث تأوي إليه. (ومستودعها) أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن، قاله مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الربيع بن أنس: " مستقرها " أيام حياتها. " ومستودعها " حيث تموت وحيث تبعث. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: " مستقرها " في الرحم " ومستودعها " في الصلب. وقيل: " يعلم مستقرها " في الجنة أو النار. " ومستودعها " في القبر، يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار: " حسنت مستقرا ومقاما " [ الفرقان: 76 ] " وساءت مستقرا ومقاما " (1) [ الفرقان: 66 ]. (كل في كتاب مبين) أي في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) قوله تعالى: (وهو الذى خلق السموات والأرض في سته أيام) تقدم في " الأعراف " (2) بيانه والحمد لله (وكان عرشه على الماء) بين أن خلق العرش والماء قبل خلق الأرض والسماء. قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى، فلذلك يرتعد الماء إلى الآن وإن كان ساكنا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إنه سئل عن قوله عز وجل: " وكان عرشه على الماء " فقال: على أي شئ كان الماء ؟ قال: على متن الريح. وروى البخاري عن عمران بن حصين. قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: " أقبلوا البشرى بابني تميم " قالوا: بشرتنا فأعطنا [ مرتين ] (3) فدخل ناس من أهل اليمن فقال: " أقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم " قالوا: قبلنا، جئنا لنتفقه في الدين، ولنسألك عن هذا الأمر ما كان ؟ (4) قال: " كان الله ولم يكن شئ غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب (1) راجع ج‍ 13 ص 72 وص 82. (2) راجع ج‍ 7 ص 218 فما بعد. (3) الزيادة عن صحيح البخاري. (4) في ع: نسألك عن هذا الدين ونسألك عن أول هذا الأمر. (*)
[ 9 ]
في الذكر كل شئ " ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها فإذا هي يقطع دونها السراب، وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم. قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) أي خلق ذلك ليبتلي عباده بالاعتبار والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث. وقال قتادة: معنى " أيكم أحسن عملا " [ أيكم ] (1) أتم عقلا. وقال الحسن وسفيان الثوري: أيكم أزهد في الدنيا. وذكر أن عيسى عليه السلام مر برجل نائم فقال: يا نائم قم فتعبد، فقال: يا روح الله قد تعبدت، فقال " وبم تعبدت " ؟ قال: قد تركت الدنيا لأهلها، قال: نم فقد فقت العابدين. الضحاك: أيكم أكثر شكرا. مقاتل: أيكم أتقى لله. ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله عز وجل. وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: " أيكم أحسن عملا " قال: " أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله " فجمع الأقاويل كلها، وسيأتي في " الكهف " (2) هذا أيضا إن شاء الله تعالى. وقد تقدم معنى الابتلاء. (ولئن قلت إنكم مبعوثون) أي دللت يا محمد على البعث. (من بعد الموت) وذكرت ذلك للمشركين لقالوا: هذا سحر. وكسرت " إن " لأنها بعد القول مبتدأة. وحكى سيبويه الفتح. (ليقولن الذين كفروا) فتحت اللام لأنه فعل متقدم لا ضمير فيه، وبعده " ليقولن " لأن فيه ضميرا. و (سحر) أي غرور باطل، لبطلان السحر عندهم. وقرأ حمزة والكسائي " إن هذا إلا ساحر عليم " كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (8) قوله تعالى: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى إمة معدودة) اللام في " لئن " للقسم، والجواب " ليقولن ". ومعنى " إلى إمة " إلى أجل معدودوحين معلوم، فالأمة هنا المدة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. وأصل الأمة الجماعة، فعبر عن (1) من ع وو. (2) راجع ج‍ 10 ص 303.
[ 10 ]
الحين والسنين بالأمة لأن الأمة تكون فيها. وقيل: هو على حذف المضاف، والمعنى إلى مجئ أمة ليس فيها من يؤمن فيستحقون الهلاك. أو إلى انقراض أمة فيها من يؤمن فلا يبقى بعد انقراضها من يومن. والأمة اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمة تكون الجماعة، كقوله تعالى: " وجد عليه أمة من الناس " (1) [ القصص: 23 ]. والأمة أيضا اتباع الأنبياء عليهم السلام. والأمة الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به، كقوله تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا " (2) [ النحل: 120 ]. والأمة الدين والملة، كقوله تعالى: " إنا وجدنا آباءنا على أمة " (3) [ الزخرف: 22 ]. والأمة الحين والزمان، كقوله تعالى: " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة " وكذلك قوله تعالى: " وادكر بعد أمة " (4) [ يوسف: 45 ] والأمة القامة، وهو طول الإنسان وارتفاعه، يقال من ذلك: فلان حسن الأمة أي القامة. والأمة الرجل المنفرد بدينه وحده لا يشركه فيه أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده " (5). والأمة الأم، يقال: هذه أمة زيد، يعني أم زيد. (ليقولن ما يحبسه) يعني العذاب، وقالوا هذا إما تكذيبا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالا واستهزاء، أي ما الذي يحبسه عنا. (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم) قيل: هو قتل المشركين ببدر، وقتل جبريل المستهزئين على ما يأتي (2). (وحاق بهم) أي نزل وأحاط. (ما كانوا به يستهزئون) أي جزاء ما كانوا به يستهزئون، والمضاف محذوف. قوله تعالى: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعنها منه إنه ليؤس كفور (9) ولئن أذقنه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور (10) إلا الذين صبروا وعملوا الصلحت أولئك لهم مغفرة وأجر كبير (11) قوله تعالى: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة) الإنسان اسم شائع (6) للجنس في جميع الكفار. ويقال: إن الإنسان هنا الوليد بن المغيرة وفيه نزلت. وقيل: في عبد الله بن (1) راجع ج‍ 13 ص 267 (2) راجع ج‍ 10 ص 197 وص 62 (3) راجع ج‍ 16 ص 74 (4) راجع ص 201 من هذا الجزء. (5) (يبعث زيد أمة) لأنه كان تبرأ من أديان المشركين، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. (6) في ع: جامع.
[ 11 ]
أبي أمية المخزومي. " رحمة " أي نعمة. (ثم نزعناها منه) أي سلبناه إياها. (إنه ليؤوس) أي يائس من الرحمة. (كفور) للنعم جاحد لها، قال ابن الأعرابي. النحاس: " ليئوس " من يئس ييأس، وحكى سيبويه يئس ييئس على فعل يفعل، ونظير حسب يحسب ونعم ينعم، ويأس ييئس (1)، وبعضهم يقول: يئس ييئس، ولا يعرف في الكلام [ العربي ] (2) إلا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت على فعل يفعل، وفي واحد منها اختلاف. وهو يئس و " يئوس " على التكثير كفخور للمبالغة. قوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء) أي صحة ورخاءو سعة في الرزق. (بعد ضراء مسته) أي بعد ضر وفقر وشدة. (ليقولن ذهب السيئات عنى) أي الخطايا التي تسوء صاحبها من الضر والفقر. (إنه لفرح فخور) أي يفرح ويفخر بما ناله من السعة وينسى شكر الله عليه، يقال: رجل فاخر إذا افتخر - وفخور للمبالغة - قال يعقوب القارئ: وقرأ بعض أهل المدينة " لفرح " بضم الراء كما يقال: رجل فطن وحذر وندس. ويجوز في كلتا اللغتين (3) الإسكان لثقل الضمة والكسرة. قوله تعالى: (إلا الذين صبروا) يعني المؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدائد. وهو في موضع نصب. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول، أي لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة. وقال الفراء هو أستثناء من " ولئن أذقناه " أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل الكافر والمؤمن، فهو استثناء متصل وهو حسن. (أولئك لهم مغفرة) ابتداء وخبر. (وأجر) معطوف. (كبير) صفة. قوله تعالى: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل (12) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريت وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13) (1) كذا في الأصول. ولعل الصواب: يبس ييبس: بالموحدة بعد الياء. وهو الحرف الرابع (2) من ع. (3) في ع: اللفظين. *
[ 12 ]
قوله تعالى: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) أي فلعلك لعظيم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب تتوهم أنهم يزيلونك عن بعما أنت عليه. وقيل: إنهم لما قالوا: " لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك " هم أن يدع سب آلهتهم فنزلت هذه الآية، فالكلام معناه الاستفهام، أي هل أنت تارك ما فيه سب آلهتهم كما سألوك ؟ وتأكد عليه الأمر في الإبلاغ، كقوله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " (1) [ المائدة: 67 ]. وقيل: معنى الكلام النفي استبعاد، أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك، وذلك أن مشركي مكة قالو اللنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا لاتبعناك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع سب آلهتهم، فنزلت. قوله تعالى: (وضائق به صدرك) عطف على " تارك " و " صدرك " مرفوع به، والهاء في " به " تعود على " ما " أو على بعض، أو على التبليغ، أو التكذيب. وقال: " ضائق " ولم يقل ضيق ليشاكل " تارك " الذي قبله، ولأن الضائق عارض، والضيق ألزم منه. (أن يقولوا) في موضع نصب، أي كراهية أن يقولوا، [ أو لئلا يقولوا ] (2) كقوله: " يبين الله لكم أن تضلوا " (3) [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا. أو لأن يقولوا. (لولا) أي هلا (أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) يصدقه، قاله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال الله تعالى: يا محمد (إنما أنت نذير) إنما عليك أن تنذرهم، لا بأن تأتيهم بما يقترحونه من الآيات. (والله على كل شئ وكيل) أي حافظ وشهيد. قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) " أم " بمعنى بل، وقد تقدم في " يونس " (4) أي قد أزحت علتهم وإشكالهم في نبوتك بهذا القرآن، وحججتهم به، فإن قالوا: افتريته - أي اختلقته - فليأتوا بمثله مفترى بزعمهم. (وادعوا من استطعتم من دون الله) أي من الكهنة والأعوان. قوله تعالى: فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14) (1) راجع ج‍ 6 ص 242 (2) من و. (3) راجع ج‍ 6 ض 28 فما بعد. (4) راجع ج‍ 8 ص 344 (*)
[ 13 ]
قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم) أي في المعارضة ولم تتهيأ لهم فقد قامت عليهم الحجة، إذ هم اللسن البلغاء، وأصحاب الألسن الفصحاء. (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) واعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، (و) اعلموا (أن لاإله إلا الله هو فهل أنتم مسلمون) استفهام معناه الأمر. وقد تقدم القول في معنى هذه الآية، وأن القرآن معجزفى مقدمة الكتاب. والحمد لله. وقال: " قل فأتوا " وبعده. " فإن لم يستجيبوا لكم " ولم يقل لك، فقيل: هو على تحويل المخاطبة (1) من الإفراد، إلى الجمع تعظيما وتفخيما، وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة. وقيل: الضمير في " لكم " وفي " فاعلموا " للجميع، أي فليعلم للجميع " أنما أنزل بعلم الله "، قاله مجاهد. وقيل: الضمير في " لكم " وفي " فاعلموا " للمشركين، والمعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة، ولا تهيأت لكم المعارضة " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ". وقيل: الضمير في " لكم " للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وفي " فاعلموا " للمشركين. قوله تعالى: من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم لا يبخسون (15) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (من كان) كان زائدة (2)، ولهذا جزم بالجواب فقال: (نوف إليهم) قاله الفراء. وقال الزجاج: " من كان " في موضع جزم بالشرط، وجوابه " نوف إليهم " أي من يكن يريد، والأول في اللفظ ماضي والثاني مستقبل، كما قال زهير: ومن هاب أسباب المنية يلقها * ولو رام أسباب السماء بسلم واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: نزلت في الكفار، قال الضحاك، واختاره النحاس، بدليل الآية التي بعدها " أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار " [ هود: 16 ] أي من أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق، لكن لا حسنة (1) في ع: المخاطب. (2) قال في البحر: ولعله لا يصلح إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط " يريد " وكان يكون مجزوما. (*)
[ 14 ]
له في الآخرة. وقد تقدم هذا المعنى في " براءة " (1) مستوفى. وقيل: المراد بالآية المؤمنون، أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره، وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة. وقيل: هو لأهل الرياء، وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء: " صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك فقد قيل ذلك " ثم قال: " إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار ". رواه أبو هريرة، ثم بكى بكاء شديدا وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " وقرأ الآيتين،. خرجه مسلم [ في صحيحه ] (2) بمعناه والترمذي أيضا. وقيل: الآية عامة في كل من ينوي بعمله غير الله تعالى، كان معه أصل إيمان أو لم يكن، قال مجاهد وميمون بن مهران، وإليه ذهب معاوية رحمه الله تعالى. وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفي ثوابها، فإن كان مسلما مخلصا وفي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفي الدنيا. وقيل: من كان يريد [ الدنيا ] بغزوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيها، أي وفي أجر الغزاة ولم ينقص منها، وهذا خصوص والصحيح العموم. الثانية: قال بعض العلماء: معنى هذه الآية قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " وتدلك هذه الآية على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وتدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة، وهكذا كل ما كان في معناه. الثالثة - ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة، وكذلك الآية. التي في " الشورى " " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها " (3) [ الشورى: 20 ] الآية. وكذلك " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها " (4) [ آل عمران: 145 ] قيدها وفسرها التي في " سبحان " " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " (5) [ الإسراء: 18 ] إلى قوله: " محظورا " [ الإسراء: 20 ] فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله سبحانه يحكم ما يريد، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما " (1) راجع ج‍ 8 ص 161 (2) من ع وو. (3) راجع ج 16 ص 18 (4) راجع ج‍ 4 ص 226 فما بعد. (5) راجع ج‍ 10 ص 235 فما بعد (*)
[ 15 ]
أي قوله: " من كان يريد الحياة الدنيا " أنها منسوخة بقوله: " من كان يريد العاجلة " [ الإسراء: 18 ]. والصحيح ما ذكرناه، وأنه من باب الإطلاق والتقييد، ومثله قوله: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " (1) [ البقرة: 186 ] فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك، لقوله تعالى: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " (2) [ الأنعام: 41 ] والنسخ في الأخبار لا يجوز، لاستحالة تبدل الواجبات العقلية، ولاستحالة الكذب على الله تعالى فأما الأخبار عن الأحكام الشرعية فيجوز نسخها على خلاف فيه، على ما هو مذكور في الأصول، ويأتي في " النحل " (3) بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وبطل ما كانوا يعملون (16) قوله تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) إشارة إلى التخليد، والمؤمن لا يخلد، لقوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " (4) [ النساء: 48 ] الآية. فهو محمول على ما لو كانت. موافاة هذا المرائي على الكفر. وقيل: المعنى ليس لهم إلا النار في أيام معلومة ثم يخرج، إما بالشفاعة، وإما بالقبضة. والآية تقتضي الوعيد بسلب الإيمان، وفي الحديث [ الماضي ] (5) يريد الكفر وخاصة الرياء، إذ هو شرك على ما تقدم بيانه في " النساء " (4) ويأتي في آخر " الكهف " (6). (وباطل ما كانوا يعملون) ابتداء وخبر، قال أبو حاتم: وحذ ف الهاء، قال النحاس: هذا لا يحتاج إلى حذف، لأنه بمعنى المصدر، أي وباطل عمله. وفي حرف أبي وعبد الله " وباطلا ما كانوا يعملون " وتكون " ما " زائدة، أي وكانوا يعملون باطلا. (1) راجع ج‍ 2 ص 308 (2) راجع ج‍ 6 ص 422 (3) راجع ج‍ 10 ص 127 (4) راجع ج‍ 5 ص 245 وص 422 (5) في الأصل (المعاصي) وهو تحريف، والمراد بالحديث الماضي حديث أبى هريرة المتقدم في عمل المرائى " صمتم وصليتم... ". (6) راجع ج‍ 11 ص 69 (*)
[ 16 ]
قوله تعالى: أفمن كان على بينه من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (17) قوله تعالى: (أفمن كان على بينه من ربه) ابتداء والخبر محذوف، أي أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من الفضل ما يتبين به كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها ؟ ! عن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن. وكذلك قال ابن زيد: إن الذي على بينة هو (1) من اتبع النبي محمد (2) صلى الله عليه وسلم. (ويتلوه شاهد منه) من الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد بقوله " أفمن كان على بينة من ربه " النبي صلى الله عليه وسلم والكلام راجع إلى قوله: " وضائق به صدرك " [ هود: 12 ]، أي أفمن كان معه بيان من الله، ومعجزة كالقرآن، ومعه شاهد كجبريل - على ما يأتي - وقد بشرت به الكتب السالفة يضيق صدره بالإبلاغ، وهو يعلم أن الله لا يسلمه. والهاء في " ربه " تعود عليه، وقوله: " ويتلوه شاهد منه ". وروى عكرمة عن ابن عباس أنه جبريل، وهو قول مجاهد والنخعي. والهاء في " منه " لله عز وجل، أي ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عز وجل. وقال مجاهد: الشاهد ملك من الله عز وجل يحفظه ويسدده. وقال الحسن البصري وقتادة: الشاهد لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن علي بن الحنفية: قلت لأبي أنت الشاهد ؟ فقال: وددت أن أكون أنا هو، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو علي بن أبي طالب، روي عن ابن عباس أنه قال: هو علي بن أبي طالب، وروي عن علي أنه قال: ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل: أي شئ نزل فيك ؟ فقال علي: " ويتلوه شاهد منه ". وقيل: الشاهد صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخائله، لأن من كان له فضل وعقل فنظر إلى (1) من ع. (*)
[ 17 ]
النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالهاء على هذا ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، على قول ابن زيد وغيره. وقيل: الشاهد القرآن في نظمه وبلاغته، والمعاني الكثيرة منه في اللفظ الواحد، قال الحسين بن الفضل، فالهاء في " منه " للقرآن. وقال الفراء قال بعضهم: " ويتلوه شاهد منه " الإنجيل، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق، والهاء في " منه " لله عز وجل. وقيل: البينة معرفة الله التي أشرقت لها القلوب، والشاهد الذي يتلوه العقل الذي ركب في دماغه وأشرق صدره بنوره (ومن قبله) أي من قبل الإنجيل. (كتاب موسى) رفع بالابتداء، قال أبو إسحاق الزجاج: والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في كتاب موسى " يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " (1) [ الأعراف: 157 ] وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ " ومن قبله كتاب موسى " بالنصب، وحكاها المهدوي عن الكلبي، يكون معطوفا على الهاء في " يتلوه " والمعنى: ويتلو كتاب موسى جبريل عليه السلام، وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما، المعنى من قبله تلا جبريل كتاب موسى على موسى. ويجوز على ما ذكره ابن عباس أيضا من هذا القول أن يرفع " كتاب " على أن يكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك، أي تلاه جبريل على موسى كما تلا القرآن على محمد. (إماما) نصب على الحال. (ورحمة) معطوف. (أولئك يؤمنون به) إشارة إلى بني إسرائيل، أي يؤمنون بما في التوراة من البشارة بك، وإنما كفر بك هؤلاء المتأخرون فهم الذين موعدهم النار، حكاه القشيري. والهاء في " به " يجوز أن تكون للقرآن، ويجوز أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم. (ومن يكفر به) أي بالقرآن أو بالنبي أعليه السلام. (من الأحزاب) يعني من الملل كلها، عن قتادة، وكذا قال سعيد بن جبير: " الأحزاب " أهل الأديان كلها، لأنهم يتحازبون. وقيل: قريش وحلفاؤهم. (فالنار موعده) أي هو من أهل النار، وأنشد حسان: أوردتموها حياض الموت ضاحية * فالنار موعدها والموت لاقيها راجع ج‍ 7 ص 297 (*)
[ 18 ]
وفي صحيح مسلم من حديث أبي يونس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني [ ثم يموت ] (1) ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. (فلاتك في مرية) أي في شك. (منه) أي من القرآن. (إنه الحق من ربك) أي القرآن من الله، قاله مقاتل. وقال الكلبي: المعنى فلا تك في مرية في أن الكافر في النار. " إنه الحق " أي القول الحق الكائن، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين. قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظلمين (18) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالأخرة هم كفرون (19) قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي لاأحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا، فأضافوا كلامه إلى غيره، وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله. (أولئك يعرضون على ربهم) أي يحاسبهم على أعمالهم. (ويقول الأشهاد) يعني الملائكة الحفظة، عن مجاهد وغيره، وقال سفيان سألت الأعمش عن " الأشهاد " فقال: الملائكة. الضحاك: هم الأنبياء والمرسلون، دليله قوله: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " (2) [ النساء: 41 ]. وقيل: الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلغوا الرسالات. وقال قتادة: عن الخلائق أجمع. وفي صحيح مسلم من حديث صفوان بن محرز عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال: " وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله ". (ألا لعنة الله على الظالمين) أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها. (1) زيادة عن صحيح مسلم. (2) راجع ج‍ 5 ص 197. (*)
[ 19 ]
قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله) يجوز أن تكون " الذين " في موضع خفض نعتا للظالمين، ويجوز أن تكون في موضع رفع، أي هم الذين. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى، أي هم الذين يصدون أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة. (ويبغونها عوجا) أي يعدلون بالناس عنها إلى المعاصي والشرك. (وهم بالآخرة هم كافرون) أعاد لفظ " هم " تأكيدا. قوله تعالى: أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون (20) قوله تعالى: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) أي فائتين من عذاب الله. وقال ابن عباس: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم. (وما كان لهم من دون الله من أولياء) يعني أنصارا، و " من " زائدة. وقيل: " ما " بمعنى الذي تقديره: أولئك لم يكونوا معجزين، لا هم ولا الذين كانوا لهم من أولياء دون الله، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. (يضاعف لهم العذاب) أي على قدر كفرهم ومعاصيهم. (ما كانوا يستطيعون السمع) " ما " في موضع نصب على أن يكون المعنى: بما كانوا يستطيعون السمع. (وما كانوا يبصرون) ولم يستعملوا ذلك في استماع الحق وإبصاره. والعرب تقول: جزيته ما فعل وبما فعل، فيحذفون الباء مرة ويثبتونها أخرى، وأنشد سيبويه (1): أمرتك الخير فافعل ما أمرت به * فقد تركتك ذا مال وذا نشب ويجوز أن تكون " ما " ظرفا، والمعنى: يضاعف لهم أبدا، أي وقت استطاعتهم السمع والبصر، والله سبحانه يجعلهم في جهنم مستطيعي ذلك أبدا. ويجوز أن تكون " ما " نافية لا موضع لها، إذ الكلام قد تم قبلها، والوقف على العذاب كاف، والمعنى: ما كانوا (1) البيت لعمروبن معدى كرب الزبيدى. أراد (بالخير) فحذف ووصل الفعل ونصب. والنشب: المال الثابت كالضياع ونحوها. وقيل: النشب جميع المال، فيكون عطفه على الأول مبالغة وتأكيدا. (شواهد سيبويه) (*)
[ 20 ]
يستطيعون في الدنيا أن يسمعوا سمعا ينتفعون به، ولا أن يبصروا إبصار مهتد. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع، لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفقهوا (1) عنه. قال النحاس: وهذا معروف في كلام العرب، يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه. قوله تعالى: أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (21) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون (22) قوله تعالى: (أولئك الذين خسروا أنفسهم) ابتداء وخبر. (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي ضاع عنهم افتراؤهم وتلف. قوله تعالى: (لاجرم) للعلماء فيها أقوال، فقال الخليل وسيبويه: " لا جرم " بمعنى حق، ف " لا " و " جرم " عندهما كلمة واحدة، و " أن " عندهما في موضع رفع، وهذا قول الفراء ومحمد بن يزيد، حكاه النحاس. قال المهدوي: وعن الخليل أيضا أن معناها لابد ولا محالة، وهو قول الفراء أيضا، ذكره الثعلبي. وقال الزجاج: " لا " ها هنا نفي وهو رد لقولهم: إن الأصنام تنفعهم، كأن المعنى لا ينفعهم ذلك، وجرم بمعنى كسب، أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، و " أن " منصوبة بجرم، كما تقول كسب جفاؤك زيدا غضبه عليك، وقال الشاعر: نصبنا رأسه في جذع نخل (2) * بما جرمت يداه وما اعتدينا أي بما كسبت. وقال الكسائي: معنى " لا جرم " لا صد ولا منع عن أنهم. وقيل: المعنى لا قطع قاطع، فحذف الفاعل حين كثر استعماله، والجرم القطع، وقد جرم النخل واجترمه أي صرمه فهو جارم، وقوم وجرم وجرام وهذا زمن الجرام والجرام، وجرمت صوف الشاة أي جززته، وقد جرمت منه أي أخذت منه، مثل جلمت الشئ جلما أي قطعت، (1) في ع: يفهموا. (2) في ع وو وى: في رأس جذع. (*)
[ 21 ]
وجلمت الجزور أجلمها جلما إذا أخذت ما على عظامها من اللحم، وأخذت الشئ بجلمته - ساكنة اللام - إذا أخذته أجمع، وهذه جلمة الجزور - بالتحريك - أي لحمها أجمع، قاله الجوهري. قال النحاس: وزعم الكسائي أن فيها أربع لغات: لا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، قال: وناس من فزارة يقولون: لا جرأنهم بغير ميم. وحكى الفراء فيه (1) لغتين أخريين قال: بنو عامر يقولون لا ذا جرم، قال: وناس من العرب. يقولون: لا جرم بضم الجيم. قوله تعالى: إن الذين أمنوا وعملوا الصلحت وأخبتو اإلى ربهم أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون (23) قوله تعالى: (إن الذين آمنوا) " الذين " اسم " إن " و " آمنوا " صلة، أي صدقوا. (وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) عطف على الصلة. قال ابن عباس: أخبتوا أنابوا. مجاهد: أطاعوا. قتادة: خشعوا وخضعوا. مقاتل: أخلصوا. الحسن: الإخبات الخشوع للمخافة الثابتة في القلب، وأصل الإخبات الاستواء، من الخبت وهو الأرض المستوية الواسعة: فالإخبات الخشوع والاطمئنان، أو الإنابة إلى الله عز وجل المستمرة ذلك على استواء. " إلى ربهم " قال الفراء: إلى ربهم ولربهم واحد، وقد يكون المعنى: وجهوا إخباتهم إلى ربهم. (أولئك) خبر " إن ". قوله تعالى: مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون (24) قوله تعالى: (مثل الفريقين) ابتداء، والخبر (كالأعمى) (2) وما بعده. قال الأخفش: أي كمثل الأعمى. النحاس: التقدير مثل فريق الكافر [ كالأعمى ] والأصم، ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير، ولهذا قال: (هل يستويان) فرد إلى الفريقين وهما اثنان، (1) في ع: فيها. (2) الزيادة عن النحاس. (*)
[ 22 ]
روى معناه عن قتادة وغيره. قال الضحاك: الأعمى والأصم مثل للكافر، والسميع والبصير مثل للمؤمن. وقيل: المعنى هل يستوي الأعمى والبصير، وهل يستوي الأصم والسميع. (مثلا) منصوب على التمييز (1). (أفلا تذكرون) في الوصفين وتنظرون. قوله تعالى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين (25) أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم (26) قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم. (إنى) أي فقال: إني، لأن في الإرسال معنى القول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي " أني " بفتح الهمزة، أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين. ولم يقل " إنه " لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه (2)، كما قال: " وكتبنا له في الألواح من كل شئ " [ الأعراف: 145 ] ثم قال: " فخذها بقوة " (3) [ الأعراف 145 ]. قوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا الله) أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها، وأطيعوا الله وحده. ومن قرأ " إني " بالكسر جعله معترضا في الكلام، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا [ إلا الله ]. (إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم). قوله تعالى: فقال الملأ الذين كفروامن قومه ما نريك إلا بشرا مثلنا وما نريك اتبعك إلا الذين هم أراذ لنا بادى الراى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كذبين (27) فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (فقال الملاء) قال أبو إسحاق الزجاج: الملأ الرؤساء، أي هم مليئون بما يقولون. وقد تقدم هذا في " البقرة " (4) وغيرها. (ما نراك إلا بشرا) (1) في ع، ى: على التفسير. (2) قال ابن عطية: وفى هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أن أنذرهم أو نحوه لصح ذلك. (3) راجع ج‍ 7 ص 280. (4) راجع ج‍ 3 ص 243 (*)
[ 23 ]
أي آدميا. (مثلنا) نصب على الحال. و " مثلنا " مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين، كما قال الشاعر (1): يا رب مثلك في النساء غريرة الثانية - قوله تعالى: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل، مثل كلب وأكلب وأكالب. وقيل: والأراذل جمع الأرذل، كأساود جمع الأسود من الحيات. والرذل النذل، أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. قال النحاس: الأراذل هم الفقراء، والذين لاحسب لهم، والخسيسو الصناعات. وفي الحديث " أنهم كانوا حاكة وحجامين ". وكان هذا جهلا منهم، لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه، لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسلون إلى الناس جميعا، فإذا أسلم منهم الدنئ لم يلحقهم من ذلك نقصان، لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم. قلت: الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء، كما قال هرقل لأبي سفيان: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا. الثالثة - اختلف العلماء في تعيين السفلة على أقوال، فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السفلة هم الذين يتقلسون (2)، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات. (1) هو أبو محجن الثقفى وتمام البيت: بيضاء قد متعتها بطلاق الغريرة: المغترة بلين العيش. ومتعها: أعطاها ما تستمتع به عند طلاقها. (2) التقليس: إستقبال الولاة عند قدومهم بأصناف اللهو. (*)
[ 24 ]
وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة الذين يأكلون الدنيا بدينهم (1)، قيل له: فمن سفلة السفلة ؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. وسئل علي رضي الله عنه عن السفلة فقال: الذين إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا. وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه: من السفلة ؟ قال: الذي يسب الصحابة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأرذلون الحاكة والحجامون. يحيى بن أكثم: الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب. الرابعة - إذا قالت المرأة لزوجها: يا سفلة، فقال: إن كنت منهم فأنت طالق، فحكى النقاش أن رجلا جاء إلى الترمذي فقال: إن امرأتي قالت لي يا سفلة، فقلت: إن كنت سفلة فأنت طالق، قال الترمذي: ما صناعتك ؟ قال: سماك، قال: سفلة والله، سفلة والله [ سفلة ] (2). قلت: وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تطلق، وكذلك على قول مالك، وابن الأعرابي لا يلزمه شئ. قوله تعالى: (بادى الرأى). أي الرأى، وباطنهم على خلاف ذلك. يقال: بدا يبدو إذا ظهر، كما قال: فاليوم حين بدون للنظار ويقال للبرية بادية لظهورها. وبدا لي أن أفعل كذا، أي ظهر لى رأى غير الأول. وقال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. ويجوز أن يكون " بادي الرأي " من بدأ يبدأ وحذف الهمزة. وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ: " بادئ الرأي " أي أول الرأي، أي اتبعوك حين ابتدءوا ينظرون، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك، ولا يختلف المعنى هاهنا بالهمز وترك الهمز. وانتصب على حذف " في " كما قال عز وجل: " واختار موسى قومه " (3) [ الأعراف: 155 ]. (وما نرى لكم علينا من فضل) أي في اتباعه، وهذا جحد منهم لنبوته صلى الله عليه وسلم. (بل نظنكم كاذبين) الخطاب لنوح ومن آمن معه (4). (1) كذا في ع، والذى في غيره بالإفراد. (2) من ى. (3) راجع ج‍ 7 ص 294. (*)
[ 25 ]
قوله تعالى: قال يقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وآتني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون (28) ويقوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله وما أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون (29) ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون (30) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين (31) قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى) أي على يقين، قاله أبو عمران الجونى. وقيل: على معجزة، وقد تقدم في " الأنعام " (1) هذا المعنى. (وآتاني رحمة من عنده) أي نبوة ورسالة، عن ابن عباس، وهي رحمة على الخلق. وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين. وقيل: بالإيمان والإسلام. (فعميت عليكم) (2) أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال: عميت عن كذا، وعمي علي كذا أي لم أفهمه. والمعنى: فعميت الرحمة، فقيل: هو مقلوب، لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها، فهو كقولك: أدخلت في القلنسوة رأسي، ودخل الخف في رجلي. وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي " فعميت " بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله، أي فعماها الله عليكم، وكذا في قراءة أبي " فعماها " ذكرها الماوردي. (أنلزمكموها) قيل: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الهاء ترجع إلى الرحمة. وقيل: إلى البينة، أي أنلزمكم قبولها، وأوجبها عليكم ؟ ! وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها، وإنما قصد نوح عليه السلام ب (1) راجع ج‍ 6 ص 438 (2) قراءة نافع. (*)
[ 26 ]
بهذا القول أن يرد عليهم. وحكى الكسائي والفراء " أنلزمكموها " بإسكان الميم الأولى تخفيفا، وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد (1): فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل وقال النحاس: ويجوز على قول يونس [ في غير القرآن ] أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر، كما تقول: أنلزمكم ذلك. (وأنتم لها كارهون) أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها. قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك. (ويا قوم لاأسألكم عليه) أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به [ أجرا (3) أي ] (مالا) فيثقل عليكم. (إن أجرى إلاعلى الله) أي ثوابي في تبليغ الرسالة. (وما أنا بطارد الذين آمنوا) سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدم في " الأنعام " (4) بيانه، فأجابهم بقوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم) يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام، أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم. (ولكني أراكم قوما تجهلون) في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم. قوله تعالى: (ويا قوم من ينصرني من الله) قال الفراء: أي يمنعني من عذابه. (إن طردتهم) أي لأجل إيمانهم. (أفلا تذكرون) أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول: تذكرون. قوله تعالى: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) أخبر بتذلله وتواضعه لله عز وجل، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله، وهي إنعامه على من يشاء (1) البيت لامرئ القيس، والشاهد فيه تسكين الباء من قوله (أشرب) في حال الرفع والوصل. احتقب الإثم واستحقبه احتمله. والواغل الداخل على الشراب ولم يدع له. يقول: حلت لى فلا آثم بشربها إذ قد وفيت بنذري فيها. وكان قد نذر ألا يشربها حتى يدرك ثأر أبيه. (2) الزيادة عن النحاس. (3) من ع وك وى. (4) راجع ج‍ 6 ص 431 وما بعدها. (5) قراءة نافع. (*)
[ 27 ]
من عباده، وأنه لا يعلم الغيب، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. (ولا أقول إنى ملك) أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء: الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " (1). (ولا أقول للذين تزدرى أعينكم) أي تستثقل وتحتقر أعينكم، والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم. والدال مبدلة من تاء، لأن الأصل في تزدري تزتري، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا، لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. ويقال: أزريت عليه إذا عبته. وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد الفراء: يباعده الصديق وتزدريه * حليلته وينهره الصغير (لن يؤتيهم الله من خيرا) أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم. (الله أعلم بما في أنفسهم) فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. (إنى إذا لمن الظالمين) أي إن قلت هذا الذي تقدم ذكره. و " إذا " ملغاة، لأنها متوسطة. قوله تعالى: قالوا ينوح قد جادلتنا فأكثرت جدلنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (32) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين (33) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (34) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون قوله تعالى: (قالوايا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة، مشتق من الجدل (1) راجع ج‍ 1 ص 189 وما بعدها. (*)
[ 28 ]
وهو شدة الفتل، ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير، وقد مضى هذا المعنى في " الأنعام " (1) بأشبع من هذا. وقرأ ابن عباس " فأكثرت جدلنا " ذكره النحاس. والجدل في الدين محمود، ولهذا جادل نوج والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم. (فأتنا بما تعدنا) أي من العذاب. (إن كنت من الصادقين) في قولك. قوله تعالى: (قال إنما يأتيكم به الله إن شاء) أي إن أراد إهلاككم عذبكم. (وما أنتم بمعجزين) أي بفائتين. وقيل: بغالبين بكثرتكم، لأنهم أعجبوا بذلك، كانوا ملئوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي. قوله تعالى: (ولا ينفعكم نصحي) أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم. (إن أردت أن أنصح لكم) أي لأنكم لا تقبلون نصحا، وقد تقدم في " براءة " (2) معنى النصح لغة. (إن كان الله يريد أن يغويكم) أي يضلكم. وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما، إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي، وأن يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك، فرد الله عليهم بقوله: " إن كان الله يريد أن يغويكم ". وقد مضى هذا المعنى في " الفاتحة " (3) وغيرها. وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في " الأعراف " في إغواء الله تعالى إياه حيث قال: " فبما أغويتني " [ الأعراف: 16 ] ولا محيص لهم عن قول نوح عليه السلام: " إن كان الله يريد أن يغويكم " فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى، إذ هو الهادي والمضل، سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا. وقيل: " أن يغويكم " يهلككم، لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك. الطبري: " يغويكم " يهلككم بعذابه، حكي عن طئ أصبح فلان غاويا أي مريضا، وأغويته أهلكته، ومنه " فسوف يلقون غيا " (4) [ مريم: 59 ]. (هو ربكم) فإليه الإغواء، وإليه الهداية. (وإليه ترجعون) تهديد ووعيد. (1) راجع ج‍ 7 ص 77 وص 174. (2) راجع ج‍ 8 ص 226 فما بعد. (3) راجع ج‍ 1 ص 149. وج‍ 4 ص 20. (4) راجع ج‍ 11 ص 125. (*)
[ 29 ]
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) يعنون النبي صلى الله عليه وسلم. افترى أفتعل، أي اختلق القرآن من قبل نفسه، وما أخبر به عن نوح وقومه، قال مقاتل. وقال ابن عباس: هو من محاورة نوح لقومه وهو أظهر، لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، فالخطاب منهم ولهم. (قل إن افتريته) أي اختلقته وافتعلته، يعني الوحي والرسالة. (فعلى إجرامي) أي عقاب إجرامي، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي. والإجرام مصدر أجرم، وهو اقتراف السيئة. وقيل [ المعنى ] (1): أي جزاء جرمي وكسبي. وجرم وأجرم بمعنى، عن النحاس وغيره. قال (2): طريد عشيرة ورهين جرم * بما جرمت يدي وجنى لساني ومن قرأ " أجرامي " بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم، وذكره النحاس أيضا. (وأنا برئ مما تجرمون) أي من الكفر والتكذيب. قوله تعالى: وأوحى إلى نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37) قوله تعالى: (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) " أنه " في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير: ب " أنه ". و " آمن " في موضع نصب ب " يؤمن " ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " (3) [ نوح: 26 ] الآيتين. وقيل: إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه: اعطني حجرا، فأعطاه حجرا، ورمى به نوحا عليه السلام فأدماه، فأوحى الله تعالى إليه " أنه لن يؤمن من قومك (1) من ع وى. (2) البيت للهيردان السعدى أحد لصوص بنى سعد. (اللسان). (3) راجع ج‍ 18 ص 312. (*)
[ 30 ]
إلا من قد آمن ". (فلا تبتئس بماكانو ا يفعلون) أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائسا، أي حزينا. والبؤس الحزن، ومنه قول الشاعر: وكم من خليل أو حميم رزئته * فلم أبتئس والرزء فيه جليل يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شئ يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة. قوله تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. " بأعيننا " أي بمرأى منا وحيث نراك. وقال الربيع بن أنس: بحفظنا إياك حفظ من يراك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (بحراستنا)، والمعنى واحد، فعبر عن الرؤية بالأعين، لأن الرؤية تكون بها. ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير، كما قال تعالى: " فنعم القادرون " (1) [ المرسلات: 23 ] " فنعم الماهدون " " وإنا لموسعون " (2) [ الذاريات: 47 ]. وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين، كما قال: " ولتصنع على عيني " (3) وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة، وهو سبحانه منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف، لا رب غيره. وقيل: المعنى " بأعيننا " أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه. وقيل: " بأعيننا " أي بعلمنا، قاله مقاتل: وقال الضحاك وسفيان: " بأعيننا " بأمرنا. وقيل: بوحينا. وقيل: بمعونتنا لك على صنعها. " ووحينا " أي على ما أوحينا إليك، من صنعتها. (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم. قوله تعالى: ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (39) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن وما ءامن معه إلا قليل (40) (1) راجع ج‍ 19 ص 175. (2) راجع ج‍ 17 ص 52. (3) راجع ج‍ 11 ص 195. (*)
[ 31 ]
قوله تعالى: (ويصنع الفلك) أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم: مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال: بلغني أن قوم نوح ملؤا الأرض، حتى ملؤا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة، ثم جمعها ييبسها مائة عام، وقومه يسخرون، وذلك لما رأوه يصنع من ذلك، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان. وروي عن عمرو بن الحارث قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان. وقال، القاضي أبو بكر بن العرابي: لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " " فاصنع الفلك " قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: " بلى فإن ذلك بعيني " فأخذ القدوم فجعله بيده، وجعلت يده لا تخطئ، فجعلوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا، فعملها في أربعين سنة. وحكى الثعلبي وأبو نصر القشيري عن ابن عباس قال: اتخذ نوح السفينة في سنتين. زاد الثعلبي: وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر. وقال كعب: بناها في ثلاثين سنة، والله أعلم. المهدوي: وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا، وكانت من خشب الساج. وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب. قال سلمان الفارسي. وقال الحسن البصري: إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس. وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب، قال أتدرون ما هذا ؟
[ 32 ]
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: [ هذا كعب (1) حام بن نوح ] قال فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب (2) من رأسه، وقد شاب (2)، فقال له عيسى: أهكذا هلكت ؟ قال: لا بل مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها السا فمن ثم شبت. قال: أخبرنا عن سفينة نوح ؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. وذكر باقي الخبر (4) على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وقال الكلبي فيما حكاه النقاش: ودخل الماء فيها أربعة أذرع، وكان لها ثلاثة أبواب، باب فيه السباع والطير، وباب فيه الوحش، وباب فيه الرجال والنساء. ابن عباس جعلها ثلاث بطون، البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب، والأوسط للطعام والشراب وركب هو في البطن الأعلى، وحمل معه جسد أدم عليه السلام معترضا ببن الرجال والنساء، ثم دفنه بعد ببيت المقدس، وكان إبليس معهم في الكوثل (5). وقيل: جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح: لا أحملكما، لأنكما سبب الضرر والبلاء، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحدا ذكرك، فمن قرأ حين يخاف مضرتهما " سلام على نوح في العالمين " (6) [ الصافات: 79 ] لم تضراه، ذكره القشيري وغيره. وذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له مرفوعا من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة ". قوله تعالى: (وكلما) ظرف. (مر عليه ملأ من قومه سخروا منه). قال الأخفش والكسائي يقال: سخرت به ومنه. وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما - أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. الثاني - لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا: يا نوح (1) كذا في الطبري والدر المنثور والكشاف، وفى الأصل (قبر سام بن نوح). (2) في ع: عن. (3) في ع وى: شاخ. (4) جاء في البحر: واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول، وفى مقدار مدة عملها، وفى المكان الذى عملت فيه، ومقدار طولها وعرضها على أقوال متعارضة لم يصح منها شئ. وقال الفخر الرازي: اعلم أن هذه المباحث لا تعجبني، لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البته، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلا. (5) الكوثل: مؤخر السفينة وفيه يكون الملاحون ومتاعهم. وقيل: هو السكان. (6) راجع ج‍ 15 ص 90. (*)
[ 33 ]
ما تصنع ؟ قال: أبني بيتا يمشي على الماء، فعجبوا من قوله وسخروا منه. قال ابن عباس: ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر، فلذلك سخروا منه، ومياه البحار هي بقية الطوفان. (قال إن تسخروا منا) أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة. (فإنا نسخر منكم) غدا عند الغرق. والمراد بالسخرية هنا الاستجهال، ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا. قوله تعالى: (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه) تهديد، و " من " متصلة ب " سوف تعلمون " و " تعلمون " هنا من باب التعدية إلى مفعول، أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب. ويجوز أن تكون " من " استفهامية، أي أينا يأتيه العذاب ؟. وقيل: " من " في موضع رفع بالابتداء و " يأتيه " الخبر، و " يخزيه " صفة ل " عذاب ". وحكى الكسائي: أن أناسا من أهل الحجاز يقولون: سو تعلمون، وقال من قال: " ستعلمون " أسقط الواو والفاء جميعا. وحكى الكوفيون: سف (1) تعلمون، ولا يعرف البصريون إلا سوف تفعل، وستفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى (ويحل عليه) أي يجب عليه وينزل به. (عذاب مقيم) أي دائم، يريد عذاب الآخرة. قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) اختلف في التنور على أقوال سبعة: الأول - أنه وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا، قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة، وذلك أنه قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك. الثاني - أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه، وكان تنورا من حجارة، وكان لحواء حتى صار لنوح، فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور، فعلمت به امرأته فقالت: يا نوح فار الماء من التنور، فقال: جاء وعد ربي حقا. وهذا قول الحسن، وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس. الثالث - أنه (1) ورد في اللسان: قد قالوا سو يكون فحذفواللام، وسايكون فحذفوا اللام وأبدلوا العين طلب الخفة، وسف يكون فحذفوا العين. (*)
[ 34 ]
موضع اجتماع الماء في السفينة، عن الحسن أيضا. الرابع - أنه طلوع الفجر، ونور الصبح، من قولهم: نور الفجر تنويرا، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الخامس - أنه مسجد الكوفة، قاله علي بن أبي طالب أيضا، وقال مجاهد. قال مجاهد: كان ناحية التنور بالكوفة. وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة. وكان فوران الماء منه علما لنوح، ودليلا على هلاك قومه. قال الشاعر وهو أمية: فار تنورهم وجاش بماء * صار فوق الجبال حتى علاها السادس - أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة منها، قاله قتادة. السابع - أنه العين التي بالجزيرة " عين الوردة " رواه عكرمة. وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم، وإنما كان بالشام بموضع يقال له: " عين وردة " وقال ابن عباس أيضا: فار تنور آدم بالهند. قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض، قال: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيونا " (1) [ القمر: 11 - 12 ]. فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. والفوران الغليان. والتنور أسم أعجمي عربته العرب، وهو على بناء فعل، لأن أصل بنائه تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء (2). وقيل: معنى " فار التنور " (2) التمثيل لحضور العذاب، كقولهم: حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب. والوطيس التنور. ويقال: فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم، قال شاعرهم: تركتم قدركم لا شئ فيها * وقدر القوم حامية تفور قوله تعالى: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) يعني ذكرا وأنثى، لبقاء أصل النسل بعد الطوفان. وقرأ حفص " من كل زوجين اثنين " بتنوين " كل " أي من كل شئ زوجين. والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد: [ شئ ] (3) معه آخر لا يستغني عنه. ويقال للاثنين: هما زوجان، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه، فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا يقال: له زوجا نعل إذا كان له نعلان. وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا (1) راجع ج‍ 17 ص 131. (2) قلت: وردزنره: ملأه، وتزنر: دق: والسنر محركة: شراسة الخلق، وشنر عليه: عابه. (3) من ع. (*)
[ 35 ]
قيود، قال الله تعالى: " وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى " (1) [ النجم: 45 ]. ويقال للمرأة هي زوج الرجل، وللرجل هو زوجها. وقد يقال للاثنين هما زوج، وقد يكون الزوجان بمعنى الضربين، والصنفين، وكل ضرب يدعى زوجا، قال الله تعالى: " وأنبتت من كل زوج بهيج " (1) [ الحج: 5 ] أي من كل لون وصنف. وقال الأعشى: وكل زوج من الديباج يلبسه * أبو قدامة محبو بذاك معا أراد كل ضرب ولون. و " ومن كل زوجين " في موضع نصب ب " احمل ". " اثنين " تأكيد. (وأهلك) أي وأحمل أهلك. (إلا من سبق) " من " في موضع نصب بالاستثناء. (عليه القول) منهم أي بالهلاك، وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين. (ومن آمن) قال الضحاك وابن جريج: أي احمل من آمن بي، أي من صدقك، ف " من " في موضع نصب ب " احمل ". (وما آمن معه إلا قليل) قال ابن عباس رضي الله عنهما: آمن من قومه ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه، سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له (2). ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل. وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس، نوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم، وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب، فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان. قال عطاء: ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر أولاده آذانهم، وأنهم حيثما كان ولده يكونون عبيدا لولد سام ويافث. وقال الأعمش: كانوا سبعة، نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين، وأسقط امرأة نوح. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم، نوح وبنوه سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان آمن به، وأزواجهم جميعا. و " قليل " رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء، لأن الكلام قبله لم يتم، إلا أن الفائدة في دخول " إلا " و " ما " لأنك لو قلت: آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد أمن، فإذا جئت بما وإلا، أوجبت لما بعد إلا ونفيت عن غيرهم. (1) راجع ج‍ 17 ص 116 وج‍ 12 ص 14. (2) الكنه (بالفتح): امرأة الابن أو الأخ. (*)
[ 36 ]
قوله تعالى: وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربى لغفور رحيم (41) وهى تجرى بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معز ل يبنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سئاوى إلى جبل يعصمني من الماء قال لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43) وقيل يأرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعى وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعد للقوم الظالمين (44) قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها) أمر بالركوب، ويحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه. والركوب العلو على ظهر الشئ. ويقال: ركبه الدين. وفي الكلام حذف، أي اركبوا الماء في السفينة. وقيل: المعنى اركبوها. و " في " للتأكيد كقوله تعالى: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " (1) [ يوسف: 43 ] وفائدة " في " أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها. قال عكرمة: ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم، فذلك ستة أشهر، وقال قتادة وزاد، وهو يوم عاشوراء، فقال لمن كان معه: من كان صائما فليتم صومه، ومن لم يكن صائما فليصمه. وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر. أجمع، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه. وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، ومرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه. قوله تعالى: (بسم الله مجريها ومرساها) قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها، فمجراها ومرساها في موضع رفع (1) راجع ص 198 فما بعد من هذا الجزء. (*)
[ 37 ]
بالابتداء، ويجوز أن تكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت، وأقيم " مجراها " مقامه. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: " بسم الله مجريها " بفتح الميم و " مرساها " بضم الميم. وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب " بسم الله مجراها ومرساها " بفتح الميم فيهما، على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى، ورست رسوا ومرسي إذا ثبتت. وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي: " بسم الله مجريها ومرسيها " نعت لله عز وجل في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هو مجريها ومرسيها. ويجوز النصب على الحال. وقال الضحاك. كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت، وإذا قال بسم الله مرساها رست. وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبد الله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " (1) [ الزمر: 67 ] " بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ". وفي هذه الآية دليل، على ذكر البسملة عند ابتداء كل (2) فعل، كما بيناه في البسملة (3)، والحمد لله. (إن ربى لغفور رحيم) أي لأهل السفينة. وروي عن ابن عباس قال: (لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، فقال نوح: لو غمزت ذنب هذا الخنزير ! ففعل، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة، فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها، فخرج منها سنوران فأكلا الفئرة. ولما حمل الأسد في السفينة قال: يا رب من أين أطعمه ؟ قال: سوف أشغله، فأخذته الحمى، فهو الدهر محموم. قال ابن عباس: وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة، وآخر ما حمل حمل الحمار، قال: وتعلق إبليس بذنبه، ويداه قد دخلتا في السفينة، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب (1) راجع ج‍ 15 ص 277. (2) في ع و و: على ما. (3) راجع ج‍ 1 ص 97. (*)
[ 38 ]
ولا يستطيع أن يدخل، فصاح به نوح: ادخل ويلك فجعل يضطرب، فقال: ادخل ويلك ! وإن كان معك الشيطان، كلمة زلت على لسانه، فدخل ووثب الشيطان فدخل. ثم إن نوحارآه يغني في السفينة، فقال له: يا لعين ما أدخلك بيتي ؟ ! قال: أنت أذنت لي، فذكر له، فقال له: قم فأخرج. قال: مالك بد في أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك. وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان، واحدة مكان الشمس، والأخرى مكان القمر. ابن عباس: إحداهما بيضاء كبياض النهار، والأخرى سوداء كسواد الليل، فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة، فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه، على قدر الساعات. قوله تعالى: (وهى تجرى بهم في موج كالجبال) الموج جمع موجة، وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح. والكاف للتشبيه، وهي في موضع خفض نعت للموج. وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شئ بخمسة عشر ذراعا. (ونادى نوح ابنه) قيل: كان كافرا واسمه كنعان. وقيل: يام. ويجوز على قول سيبويه: " ونادى نوح ابنه " بحذف الواو من " ابنه " في اللفظ، وأنشد (1): له زجل كأنه صوت حاد فأما " ونادى نوح ابنه (2) وكان " فقراءة شاذة، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير. وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد " ابنها " فحذف الألف كما تقول: " ابنه "، فتحذف الواو. وقال النحاس: وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه، لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها. (وكان في معزل) أي من دين أبيه. وقيل: عن السفينة. وقيل: إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه (1) البيت للشماخ، والشاهد في (كأنه) حذف الواو ضرورة. وتمامه: إذا طلب الوسيقة أو زمير يصف حمار وحش هائجا يطلب وسيقته، وهى إنثاه التى يضمها ويجمعها، من وسقت الشئ أي جمعته. (شواهد سيبويه). (2) كذا في الشواذ، ويدل عليه ما يأتي عن أبى حاتم، وأما رسم ابنه بالواو فليس بشاذ. (*)
[ 39 ]
ظن أنه مؤمن، ولذلك قال له: (ولا تكن مع الكافرين) وسيأتي. وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق، وقبل رؤية اليأس، بل كان في أول ما فار التنور، وظهرت العلامة لنوح. وقرأ عاصم: " يا بنى اركب معنا " بفتح الياء، والباقون بكسرها. وأصل " يا بني " أن تكون بثلاث ياءات، ياء التصغير، وياء الفعل، وياء الإضافة، فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع، هذا أصل قراءة من كسر الياء، وهو أيضا أصل قراءة من فتح، لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف، أو لسكونها وسكون الراء. قال النحاس: أما قراءة عاصم فمشكلة، قال أبو حاتم: يريد يا بنياه ثم يحذف، قال النحاس: رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز، لأن الألف خفيفة. قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق، فإنه زعم أن الفتح من جهتين، والكسر من جهتين، فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا، قال الله عز وجل إخبارا: " يا ويلتا " (1) [ هود: 72 ] وكما قال الشاعر: فيا عجبا من رحلها المتحمل فيريد يا بنيا، ثم تحذف الألف، لالتقاء الساكنين، كما تقول: جاءني عبدا الله في التثنية. والجهة الأخرى أن تحذف الألف، لأن النداء موضع حذف. والكسر على أن تحذف الياء للنداء. والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين. قوله تعالى: (قال سآوى) أي ارجع وانضم. (إلى جبل يعصمني) أي يمنعني (من الماء) فلا أغرق. (قال لاعاصم اليوم من أمر اللهه) أي لامانع، فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار. وانتصب " عاصم " على التبرئة ويجوز " لاعاصم اليوم " تكون لا بمعني ليس. (إلا من رحم) في موضع نصب استثناء ليس من الأول، أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه، قال الزجاج. ويجوز أن يكون في موضع رفع، على أن عاصما بمعنى معصوم، مثل: " ماء دافق " (2) [ الطارق: 6 ] أي مدفوق، فالاستثناء. على هذا متصل، قال الشاعر: (1) راجع ص 69 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 20 ص 4. (*)
[ 40 ]
بطئ القيام رخيم الكلا * م أمسى فؤادي به فاتنا أي مفتونا. وقال أخر (1): دع المكارم لا تنهض لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي أي المطعوم المكسو. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون " من " في موضع رفع، بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم، أي إلا الله. وهذا اختيار الطبري. ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه، ولا " إنه " بمعنى " لكن ". (وحال بينهما الموج) يعنى بين نوح وابنه. (فكان من المغرقين) قيل: إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه، وأعجب بها، فلما رأى الماء جاء قال: يا أبت فار التنور، فقال له أبوه: " يا بني اركب معنا " فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقيل: إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله (2) عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك. وقيل: إن الجبل الذي أوى إليه " طور سيناء ". قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعى ماءك وياسماء أقلعى) هذا مجاز لأنها موات. وقيل: جعل فيها ما تميز به. والذي قال إنه مجاز قال: لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفها، واشتمال المعاني فيها. وفي الأثر: إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان، فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك. وذلك قوله تعالى: " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية " (3) [ الحاقة: 11 ] فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر، فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك، وأمر الله الأرض بالابتلاع. ويقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد، لغتان حكاهما الكسائي والفراء. والبالوعة (1) البيت للحطيئة يهجو الزبرقان. (2) في ع: أغلقه. (3) راجع ج‍ 18 ص 262. (*)
[ 41 ]
الموضع الذي يشرب الماء. قال ابن العربي: التقى الماءان على أمر قد قدر، ماكان في الأرض وما نزل من السماء، فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع، فلم تمتص الأرض منه قطرة، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط. وذلك قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء " وقيل: ميز الله بين الماءين، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته (1)، وصار ماء السماء بحارا. قوله تعالى: (وغيض الماء) أي نقص (2)، يقال: غاض الشئ وغضته أنا، كما يقال: نقص بنفسه ونقصه غيره، ويجوز " غيض " بضم الغين (3). (وقضى الأمر) أي أحكم وفرغ منه، يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام. ويقال: إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يكن فيمن هلك صغير. والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان، كما هلكت الطير والسباع. ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير، بل ماتوا بآجالهم. وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه، وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت به إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي. قوله تعالى: (واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين) أي هلاكا لهم. الجودي جبل بقرب الموصل، استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء، فصام نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه، شكرا لله تعالى، وقد تقدم هذا المعنى. وقيل: كان ذلك يوم الجمعة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله، فاستوت السفينة عليه: وبقيت عليه أعوادها. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد بقي منها شئ أدركه أوائل هذه الأمة ". وقال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها (1) في ع: فابتلعته. (2) في المصباح: غاض: نضب أي ذهب في الأرض. (3) أي باشمام الكسرة الضم. (*)
[ 42 ]
الغرق، فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا، وتطامن الجودي، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق، ورست السفينة عليه. وقد قيل: إن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل (1). سبحانه ثم سبحانا يعود له * وقبلنا سبح الجودي والجمد ويقال: إن الجودي من جبال الجنة، فلهذا استوت عليه. ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. مسألة: لما تواضع الجودي وخضع عز، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل، وهذه سنة الله في خلقه، يرفع من تخشع، ويضع من ترفع، ولقد أحسن القائل: وإذا تذللت الرقاب تخشعا * منا إليك فعزها في ذلها وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سبقت العضباء ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ". وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ". خرجه البخاري. مسألة: نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة. ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن: أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى [ أهل ] (2) الأرض، فذلك قوله تعالى: " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما " (3) [ النكبوت: 14 ] وكان قد كثرت فيهم المعاصي، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا، سرا وعلانية، وكان صبورا حليما، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح، فكانوا يدخلون عليه (1) نسبه اللسان لأمية بن أبى الصلت وفى (معجم الياقوت): هو لزيد بن عمرو، وقيل: لورقة بن نوفل. وفى ع: الجمد، كخدم جمع خادم، ولعله الأشبه. (2) من ع (3) راجع ج‍ 13 ص 332. (*)
[ 43 ]
فيخنقونه حتى يترك وقيذا، ويضربونه في المجالس ويطرد، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول: " رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه، حتي أنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه، فذلك قوله تعالى: " وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم " (1) [ نوح: 7 ]. وقال مجاهد وعبيد بن عمير: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: " رب اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون ". وقال ابن عباس: إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم، حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل معه ابنه وهو يتوكأ على عصا، فقال: يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال: يا أبت أمكني من العصا، [ فأمكنه ] (2) فأخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه، وسالت الدماء، فقال نوح: " رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين " فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن، قال: " وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون "، أي لا تحزن عليهم. " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا " قال: يا رب وأين الخشب ؟ قال: اغرس الشجر. قال: فغرس الساج عشرين سنه، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء. وكانوا يسخرون منه، فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها: فقال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت ؟ قال: اجعله على ثلاثة صور، رأسه كرأس الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك، واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها، وشدها بدسر، يعني مسامير الحديد. وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة، وجعلت يده لا تخطئ. قال ابن عباس: كانت دار نوح عليه السلام دمشق، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، وأطبق عليهما (1) راجع ج‍ 18 ص 300 (2) من ع. (*)
[ 44 ]
وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب. قال الزهري: إن الله عز وجل بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين، من السباع والطير والوحش والبهائم. وقال جعفر بن محمد: بعث الله جبريل فحشرهم، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة. وقال زيد بن ثابت: استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها بيده في ذنبها، فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها. ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياؤها، قال إسحاق: أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض. فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا، فلم يجد طينا ولا ترابا، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر، فلذلك نتأت أقفية الهداهد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة ". وذكر صاحب كتاب " العروس " وغيره: أن نوحا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج: أنا، فأخذها وختم على جناحها وقال لها: أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا، أنت ينتفع بك أمتي، فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه، ولذلك يقتل في [ الحل ] (1) والحرم ودعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت. وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء (2) فحملت ورقة زيتونة، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت: بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي، والخضاب في رجلي، وأسكن الحرم، فمسح يده على عنقها وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة. وذكر الثعلبي أنه بعث (1) من و. (2) كذا في و، وفى ع وا وج‍: سبإ. (*)
[ 45 ]
بعد الغراب التدرج (1) وكان من جنس الدجاج، وقال: إياك أن تعتذر، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة. قوله تعالى: ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إنى أعظك إن تكون من الجاهلين (46) قال رب إنى أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمني أكن من الخاسرين (47) فيه خمس مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ونادى نوح ربه) أي دعاه. (فقال رب إن ابني من أهلى) أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق، ففي الكلام حذف. (وإن وعدك الحق) يعني الصدق. وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله: " وأهلك " وترك قوله: " إلا من سبق عليه القول " [ هود: 40 ] فلما كان عنده من أهله قال: " رب إن ابني من أهلي " يدل على ذلك قوله: " ولا تكن مع الكافرين " أي لا تكن ممن لست منهم، لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: " إن ابني من أهلي " إلا وذلك عنده كذلك إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم، وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان، فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا، ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته، دليله قراءة علي " ونادى نوح ابنها ". (وأنت أحكم الحاكمين) ابتداء وخبر. أي حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق. (1) التدرج كحبرج: طائر يغرد في البساتين بأصوات طيبه، وموطنه بلاد فارس. (حياة الحيوان) (*)
[ 46 ]
الثانية - قوله تعالى: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك) [ أي ليس من أهلك ] الذين وعدتهم أن أنجيهم، قاله سعيد بن جبير. وقال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك، فهو على حذف مضاف، وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من [ حكم ] (1) النسب. (إنه عمل غير صالح) قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي " إنه عمل غير صالح " أي من الكفر والتكذيب، واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون " عمل " ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف، قاله الزجاج وغيره. قال (2): ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت * فإنما هي إقبال وإدبار أي ذات إقبال وإدبار. وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال، أي إن سؤالك إياي أن أنجيه. عمل غير صالح. قاله قتادة. وقال الحسن: معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه. وكان لغير رشدة، وقال أيضا مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه، قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال: " إن ابني من أهلي " فقال: لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر، فقلت له: إن الله حكى عنه أنه قال: " إن أبني من أهلي " " ونادى نوح ابنه " ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه، فقال الحسن: ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب ! إنهم يكذبون. وقرأ: " فخانتاهما " [ التحريم: 10 ]. وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنة، وكان ولد على فراشه، وكانت امرأته خانته فيه، ولهذا قال: " فخانتاهما " (3). وقال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وأنه كان ابنه لصلبه. وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وأنه كان ابنه لصلبه. وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح: " إن ابني من أهلي " أكان من أهله ؟ أكان ابنه ؟ فسبح الله طويلا ثم قال: لا اله إلا الله ! يحدث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه، وتقول إنه ليس ابنه ! نعم كان ابنه، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين، ولهذا قال الله تعالى: " إنه ليس من أهلك "، وهذا (1) من ع. (2) البيت للخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها، وهو من قصيدة ترثى بها أخاها صخرا. (3) راجع ج‍ 18 ص 201. (*)
[ 47 ]
هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به، وإن قوله: " إنه ليس من أهلك " ليس مما ينفي عنه أنه ابنه. وقوله: " فخانتاهما " [ التحريم: 10 ] يعني في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك ؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى ؟ قال: إذا فار التنور، فخرجت تقول لقومها: يا قوم والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها. وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله. والله أعلم. وقيل: الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا، كما في الخبر " أولادكم من كسبكم ". ذكره القشيري. الثالثة - في هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس، فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت، فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. وقال تعالى في آية أخرى: " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم " (1) [ الصافات: 75 ] فسمى جميع من ضمه منزله من أهله. الرابعة - ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما: أن الولد للفراش، ولذلك قال نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: نرى رسول الله صلى عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن نوح عليه السلام، ذكره أبو عمر في كتاب " التمهيد ". وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " يريد الخيبة. وقيل: الرجم بالحجارة. وقرأ عروة بن الزبير. " ونادى نوح ابنها " يريد ابن امرأته، وهي تفسير القراءة المتقدمة عنه، وعن علي رضي الله عنه، وهي حجة للحسن ومجاهد، إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها لها. والله أعلم. (1) راجع ج‍ 15 ص 89. (*)
[ 48 ]
الخامسة - قوله تعالى: (إنى أعظك أن تكون من الجاهلين) أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين، أي الآثمين. ومنه قوله تعالى: " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا (1) [ النور: 17 ] أي يحذركم الله وينهاكم. وقيل: المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين، ف‍ (قال) نوح: (رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم) [ الآية ] (2) وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه. (وإلا تغفر لى) ما فرط من السؤال. (وترحمني) أي بالتوبة. (أكن من الخاسرين) أي أعمالا. فقال: " يا نوح اهبط بسلام منا ". قوله تعالى: قيل ينوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم (48) قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا) أي قالت [ له ] (2) الملائكة، أو قال الله تعالى له: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى الأرض، فقد ابتلعت الماء وجفت. " بسلام منا " أي بسلامة وأمن. وقيل: بتحية. (وبركات عليك) أي نعم ثابتة، مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته. ومنه البركة لثبوت الماء فيها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نوح آدم الأصغر، فجميع الخلائق الآن من نسله، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته، على قول قتادة وغيره، حسب ما تقدم، وفي التنزيل " وجعلنا ذريته هم الباقين " (3) [ الصافات: 77 ]. (وعلى أمم ممن معك) قيل: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة. ودخل في قوله (وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) كل كافر إلى يوم القيامة، روي ذلك عن محمد بن كعب. والتقدير على هذا: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم. وقيل: " من " للتبعيض، وتكون لبيان الجنس. " وأمم سنمتعهم " ارتفع و " أمم " على معنى وتكون أمم. قال الأخفش سعيد كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس. وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما، وتقديره: ونمتع أمما. وأعيدت " على " مع (1) راجع ج‍ 12 ص 205. (2) من ع و و. (3) راجع ج‍ 15 ص 89. (*)
[ 49 ]
" أمم " لأنه معطوف على الكاف من " عليك " وهي ضمير المجرور، ولا يعطف على ضمير المجرور إلا بإعادة الجار على قول سيبويه وغيره. وقد تقدم في " النساء " (1) بيان هذا مستوفى في قوله تعالى: " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " [ النساء: 1 ] بالخفض. والباء في قوله: " بسلام " متعلقة بمحذوف، لأنها في موضع الحال، أي اهبط مسلما عليك. و " منا " في موضع جر متعلق بمحذوف، لأنه نعت للبركات. " وعلى أمم " متعلق بما تعلق به " عليك "، لأنه أعيد من أجل المعطوف على الكاف. و " من " في قوله: " ممن معك " متعلق بمحذوف، لأنه في موضع جر نعت للأمم. و " معك " متعلق بفعل محذوف، لأنه صلة " لمن " أي ممن استقر معك، أو آمن معك، أو ركب معك. قوله تعالى: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ماكنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (49) قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب) أي تلك الأنباء، وفي موضع آخر " ذلك " أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك. (نوحيها إليك) أي لتقف عليها. (ماكنت تعلمها أنت ولاقومك) أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان، والمجوس الآن ينكرونه. [ (من قبل هذا) خبر أي مجهولة عندك وعند قومك. (فاصبر) على مشاق الرسالة وإذاية القوم كما صبر نوح (2) ]. وقيل: أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان [ فإنه ] (3) على الجملة. " فاصبر " أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من أذى العرب الكفار، كما صبر نوح على [ أذى ] (2) قومه. (إن العاقبة) في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز. (للمتقين) عن الشرك والمعاصي. قوله تعالى: وإلى عاد أخاهم هود قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون (50) يقوم لا أسئلكم عليه أجرا إن أجرى إلاعلى الذى فطرني أفلا تعقلون (51) ويقوم استغفروا (1) راجع ج‍ 5 ص 2 فما بعد. (2) من ك. (3) من و. (*)
[ 50 ]
ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52) قالوا يهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركئ الهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53) إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما تشركون (54) من دون الله فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55) إنى توكلت على الله ربى وربكم مامن دابة إلا هو ءاخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم (56) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شئ حفيظ (57) ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنو ا معه برحمة منا ونجينهم من عذاب غليظ (58) وتلك عاد جحدوا بئايت ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيمة ألا لعنة إن عاد كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود (60) قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا) أي وأرسلنا، فهو معطوف على " أرسلنا نوحا ". وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم، كما تقول: يا أخا تميم. وقيل: إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم، وقد تقدم هذا في " الأعراف " (1) وكانوا عبدة الأوثان. وقيل: هم عادان، عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى، وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى: " إرم ذات العماد " (2) [ الفجر: 7 ]. وعاد اسم راجع ج‍ 7 ص 235 فما بعد. (2) راجع ج‍ 20 ص 44. (*)
[ 51 ]
رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه. (قال يا قوم اعبد والله مالكم من أله غيره) بالخفض على اللفظ، و " غيره " بالرفع على الموضع، و " غيره " بالنصب على الاستثناء. (أن أنتم إلا مفترون) أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز. قوله تعالى: (ويا قوم لا أسئلكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرني) تقدم معناه. والفطرة ابتداء الخلق. (أفلا تعقلون) ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل. قوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) تقدم في أول السورة. (يرسل السماء) جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة. (عليكم مدرارا) نصب على الحال، وفيه معنى التكثير، أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا، والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب، وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء هاهنا من فعل، لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار. وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في " الأعراف " (1). (ويزدكم) عطف على يرسل. (قوة الى قوتكم) قال مجاهد: شدة على شدتكم. الضحاك: خصبا إلى خصبكم. علي بن عيسى: عزا على عزكم. عكرمة: ولدا إلى ولدكم. وقيل: إن الله حبس عنهم المطر [ وأعقم الأرحام ] (2) ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد، فقال لهم هود: إن آمنتم أحيى الله بلادكم ورزقكم المال والولد، فتلك القوة. وقال الزجاج: المعنى يزدكم قوة في النعم. (ولا تتولوا مجرمين) أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر. قوله تعالى: (قالوا ياهود ما جئتنا بينة) أي حجة واضحة. (وما نحن لك بمؤمنين) إصرارا منهم على الكفر. قوله تعالى: (إن نقول إلا إعتراك) أي أصابك. (بعض آلهتنا) أي أصنامنا. (بسوء) أي بجنون لسبك إياها، عن ابن عباس وغيره. يقال: عراه الأمر واعتراه إذا ألم به. ومنه " وأطعموا القانع والمعتر " (3) [ الحج: 36 ]. (قال أنى أشهد الله) أي على نفسي. (واشهدوا) (1) راجع ج‍ 7 ص 236. (2) من ع و و. (3) راجع ج‍ 12 ص 47. (*)
[ 52 ]
أي وأشهدكم، لا أنهم كانوا أهل شهادة، ولكنه نهاية للتقرير، أي لتعرفوا (إنى برئ مما) أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها. (فكيدوني جميعا) أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضرى. (ثم لا تنظرون) أي لا تؤخرون. وهذا القول مع كثرة الأعداء يدل على كمال الثقة بنصر الله تعالى. وهو من أعلام النبوة، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه: " فكيدوني جميعا ". وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. وقال نوح صلى الله عليه وسلم " فاجمعوا أمركم وشركاءكم " (1) [ يونس: 71 ] الآية. قوله تعالى: (إنى توكلت على الله ربى وربكم) أي رضيت بحكمه، ووثقت بنصره. (ما من دابة) أي نفس تدب على الأرض، وهو في موضع رفع بالابتداء. (إلا هو آخذ بناصيتها) أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء، أي فلا تصلون إلى ضري. وكل ما فيه روح يقال له داب ودابه، والهاء للمبالغة. وقال الفراء: مالكها، والقادر عليها. وقال القتبي: قاهرها، لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته. وقال الضحاك: يحييها ثم يميتها، والمعنى متقارب. والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس. ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته. قال ابن جريج: إنما خص الناصية، لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع، فيقولون. ما ناصية فلان إلا بيد فلان، ألا إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه، فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم. وقال، الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " قوله تعالى: " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها " وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقدر نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور أخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير. وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ". ولهذا (1) راجع ج‍ 8 ص 362. (*)
[ 53 ]
قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم، ولذلك ما قوي هود النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: " فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ". وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه، فسمي ذلك الموضع منه ناصية، لأنها تنص حركات العباد بما قدر، فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها. ووصف ناصية أبي جهل فقال: " ناصية كاذبة خاطئة " (1) [ العلق: 16 ] يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة، فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ. [ والله أعلم ] (2). (إن ربى على صراط مستقيم) قال النحاس: الصراط في اللغة المنهاج الواضح، والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شئ فإنه لا يأخذهم إلا بالحق. وقيل: معناه لا خلل في تدبيره، ولا تفاوت في خلقه سبحانه. (قوله تعالى: (فإن تولوا) في موضع جزم، فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولوا، فحذفت التاء لاجتماع تاءين. (فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) بمعنى قد بينت لكم. (ويستخلف ربى قوما غيركم) أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه. " ويستخلف " مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع، أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله: " فقد أبلغتكم ". وروي عن حفص عن عاصم " ويستخلف " بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها، مثل: " ويذرهم (3) في طغيانهم يعمهون " [ الأعراف: 186 ]. قوله تعالى: (ولا تضرونه شيئا) أي بتوليكم وإعراضكم. (إن ربى على كل شئ حفيظ) أي لكل شئ حافظ. " على " بمعنى اللام، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء. (1) راجع ج‍ 20 ص 124. (2) من ع. (3) بالباء وسكون الراء قراءة. راجع ج‍ 7 ص 334. (*)
[ 54 ]
(قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا) أي عذابنا بهلاك عاد. (نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا) لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى، وإن كانت له أعمال صالحة. وفي صحيح مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم " لن ينجي أحدا منكم عمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه ". وقيل: معنى " برحمة منا " بأن بينا لهم الهدى الذي هو رحمة. وكانوا أربعة آلاف. وقيل: ثلاثة آلاف. (ونجيناهم من عذاب غليظ) أي عذاب يوم القيامة. وقيل: هو الريح العقيم كما ذكر الله في " الذاريات " (1) وغيرها وسيأتي. قال القشيري أبو نصر: والعذاب الذي يتوعد به النبي أمته إذا حضر ينجي الله منه النبي والمؤمنين معه، نعم ! لا يبعد أن يبتلي الله نبيا وقومه فيعمهم ببلاء فيكون ذلك عقوبة للكافرين، وتمحيصا للمؤمنين إذا لم يكن مما توعدهم النبي به. (قوله تعالى: (وتلك عاد) ابتداء وخبر. وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف " عادا " فيجعله اسما للقبيلة. (جحدوا بآيات ربهم) أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها. (وعصوا رسله) يعني هودا وحده، لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه. ونظيره قوله تعالى: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " (2) [ المؤمنون: 51 ] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هاهنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل. وقيل: عصواهودا والرسل قبله، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل. (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) أي اتبع سقاطهم رؤساءهم. والجبار المتكبر. والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له (3). قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند المعارض بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم عاند. وقال الراجز: إني كبير لا أطيق العندا (4) قوله تعالى: (واتبعوا في هذه الدنيا لعنة) أي ألحقوها. (ويوم القيامة) أي واتبعوا يوم القيامة مثل ذلك، فالتمام على قوله: " ويوم القيامة ". (ألا إن عادا كفروا (1) راجع ج‍ 17 ص 50. (2) راجع ج‍ 12 ص 127. (3) في ع: ينقاد. (4) صدر البيت: إذا رحلت فاجعلوني وسطا. (*)
[ 55 ]
ربهم) قال الفراء: أي كفروا نعمة ربهم، قال: ويقال كفرته وكفرت به، مثل شكرته وشكرت له. (ألا بعدا لعاد قوم هود) أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله. والبعد الهلاك. والبعد التباعد من الخير. يقال: بعد يبعد بعدا إذا تأخر وتباعد. وبعد يبعد بعدا إذا هلك، قال: لا يبعدن قومي الذين هم * سم العداة وآفة الجزر (1) وقال النابغة: فلا تبعدن إن المنية منهل * وكل امرئ يوما به الحال زائل قوله تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو إنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب (61) فيها خمس مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وإلى ثمود) أي أرسلنا إلى ثمود (أخاهم) أي في النسب. (صالحا). وقرأ يحيي بن وثاب " وإلى ثمود " بالتنوين في كل القرآن، وكذلك روي عن الحسن. واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع. وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف، إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة - رحمه الله - من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود، لأن ثمودا يقال له حي، ويقال له قبيلة، وليس الغالب عليه القبيلة، بل الأمر على ضد ما قال عند سيبويه. والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف، نحو قريش وثقيف وما أشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى. والتأنيث جيد بالغ حسن. وأنشد سيبويه (2) في التأنيث: غلب المساميح الوليد سماحة * وكفى قريش المعضلات وسادها (1) تقدم شرح البيت في هامش ج‍ 6 ص 14 (2) البيت لعدى بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك، والشاهد فيه ترك صرف قريش حملا على معنى القبيلة، والصرف فيها أكثر وأعرف لأنهم قصدوا بها قصد الحى، وغلب ذلك عليها. (شواهد سيبويه). (*)
[ 56 ]
الثانية - قوله تعالى: (قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره) تقدم. (هو أنشأكم من الأرض) أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدم في " البقرة " (1) و " الأنعام " (2) وهم منه، وقيل: " أنشأكم في الأرض ". ولا يجوز إدغام الهاء من " غيره " في الهاء من " هو " إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج. (واستعمركم فيها) أي جعلكم عمارها وسكانها. قال مجاهد: ومعنى " استعمركم " أعمركم من قوله: أعمر فلان فلانا داره، فهي له عمرى. وقال قتادة: أسكنكم فيها، وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل، مثل استجاب بمعنى أجاب. وقال الضحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف. ابن عباس: أعاشكم فيها. زيد بن أسلم: امركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها. الثالثة - قال ابن عربي قال بعض علماء الشافعية: الأستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب، قال القاضى أبو بكر: تأتى كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها، استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: استحملته أي طلبت منه حملانا، وبمعنى اعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا، أو وجدته سهلا، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته، ومنه استفعلت بمعنى أصبت، كقولهم: استجدته أي أصبته (3) جيدا: ومنها بمعنى فعل: كقوله: قر في المكان واستقر، وقالوا وقوله: " يستهزئون " و " يستسخرون " منه، فقوله تعالى: " استعمركم فيها " خلقكم لعمارتها "، لا معنى استجدته واستسهلته، أي أصبته جيدا وسهلا، وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق، لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشئ بفائدته مجازا، ولا يصح ان يقال إنه طلب من الله لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما أنه يصح أن يقال: أنه استدعى (1) راجع ج‍ 1 ص 279 فما بعد. (2) راجع ج‍ 6 ص 287 فما بعد. (3) في و: وجدته. (*)
[ 57 ]
عمارتها فأنه جاء بلفظ استفعل، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه أذا كان أمرا، وطلب للفعل أذا كان من الأدنى ألى الاعلى [ رغبة ] (1). قلت: لم يذكر استفعل بمعنى أفعل، مثل قوله: استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه، (2) وهى: الرابعة - ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في " البقرة " (2) في السكنى والرقبى. وأما العمرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدهما - أنها تمليك لمنافع الرقبة حياة المعمر مدة عمره، فإن لم يذكر عقبا فمات المعمر رجعت إلى الذى أعطاها أو لورثته، هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي، وقد تقدم في " البقرة " حجة هذا القول. الثاني أنها تمليك الرقبة ومنافعا وهى هبة مبتولة (3) وهو قول أبى حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن ابن حى وأحمد بن حنبل وابن شبرمة وأبى عبيد، قالوا من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته، وبعد وفاته لورثته، لأنه قد ملك رقبتها، وشرط المعطى الحياة والعمر باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العمرى جائزة " " والعمرى لمن وهبت له " الثالث - إن قال عمرك وليم يذكر العقب كان كالقول الأول: وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني، وبه قال الزهري وأبو ثور وأبو سلمه بن عبد الرحمن وابن أبى ذئب، وقد روى عن مالك، وهو ظاهر قوله في الموطأ. والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع الى المعمر، إذا انقرض عقب المعمر، إذا كان المعمر حيا، وإلا فإلى من كان حيا من ورثته، وأولى الناس بميراثه. ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مالك في الحبس أيضا: إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه. وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه، وكذلك العمرى قياسا، وهو ظاهر الموطأ. وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله * (هاجع) * (1) الزيادة عن أبن العربي. (2) راجع ج‍ 1 ص 212 وص 299. (3) مبتوله: ماضيه غير راجعة إلى الواهب، من بتله، قطعه وأبانه. (*)
[ 58 ]
عليه وسلم قال " أيما رجل أعمر رجل عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقى منكم أحد فإنها لمن أعطيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث " وعنه قال: إن العمرى التى أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها، قال معمر: وبذلك كان الزهري يفتى. قلت: معنى القرآن يجرى مع أهل القول الثاني، لأن الله سبحانه قال: " واستعمركم " بمعنى أعمركم، فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن، وبالعكس الرجل الفاجر، فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا. وقد يقال: إن الثناء الحسن يجرى مجرى العقب. وفى التنزيل: " واجعل لى لسان صدق في الآخرين " (1) أي ثناء حسنا. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال: " وجعلنا ذريته هم الباقين " (2) وقال: " وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين " (2). الخامسة - قوله تعالى: (فاستغفروه) أي سلوه المغفره من عبادة الأصنام. (ثم توبوا إليه) أي ارجعوا إلى عبادته. (إن ربى قريب مجيب) أي قريب الإجابة لمن دعاه. قد مضى في " البقرة " (3) عند قوله: " فإنى قريب أجيب دعوة الداعي " القول فيه. قوله تعالى: قالوا يصلح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب (62) قال يقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وآتني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير (63) ويقوم هذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها (1) راجع ج‍ 13 ص 112. (2) راجع ج‍ 15 ص 89 وص 112. (3) راجع ج‍ 2 ص 308 فما بعد.
[ 59 ]
بسوء فيأخذكم عذاب قريب (64) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (65) فلما جاء أمرنا نجينا صلحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز (66) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديرهم جثمين (67) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود (68) قوله تعالى: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) أي كنا نرجوا أن تكون فينا سيدا قبل هذا، أي قبل دعوتك النبوة. وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا: انقطع رجاؤنا منك. (أتنهانا) استفهام معناه الإنكار. (أن نعبد) أي عن أن نعبد. (ما يعبد آباؤنا) فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر. (وأننا لفى شك) وفى سورة " إبراهيم " " وإنا " والأصل وإننا، فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة. (مما تدعونا) الخطاب لصالح، وفى سورة " إبراهيم " " تدعوننا " (1) لأن الخطاب للرسل [ صلوات الله وسلامه عليهم ] (2) (إليه مريب) من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبه. قال الهذلى (3): كنت إذا أتوته من غيب * يشم عطفى ويبز ثوبي (4) كأنما أربته بريب * قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني منه رحمة) تقدم معناه في قول نوح. (فمن ينصرني من الله أن عصيته) استفهام معنا ه النفى، أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. (فما تزيدونني غير تخسير) أي تضليل وإبعاد من الخير، قاله الفراء. (1) راجع ص 344 من هذا الجزء. (2) من ع. (3) هو خالد بن زهير الهذلى كما في اللسان، وصدر البيت الأول: يا قوم مالى وأنا ذؤيب (4) (يبز ثوبي): يجذبه إليه. (*)
[ 60 ]
والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم. كأنه قال: غير تخسير لكم لا لى. وقيل: المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم، عن ابن عباس. قوله تعالى: (ويا قوم هذه ناقة الله) ابتداء وخبر. (لكم آية) نصب على الحال، والعامل معنى الأشاره أو التنبيه في " هذه ". وإنما قيل: ناقة الله، لأنه أخرجها من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون. وقيل: أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة (1)، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم [ نبى الله (2) ] صالح: " هذه ناقة الله لكم آية ". (فذروها تأكل) أمر وجوابه، وحذفت النون من " فذروها ". لأنه أمر. ولا يقال: وذر ولا واذر إلا شاذا. وللنحويين فيه قولان، قال سيبويه: استغنوا عنه بترك. وقال غيره: لما كانت الواو ثقيله وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه، قال أبو إسحق الزجاج: ويجوز رفع " تأكل " على الحال والإستئناف. (ولا تمسوها) جزم بالنهي. (بسوء) قال الفراء: بعقر. (فيأخذكم) جواب النهى. (عذاب قريب) أي قريب من عقرها. قوله تعالى: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (فعقروها) إنما عقرها بعضهم، وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين. وقد تقدم الكلام في عقرها في " الأعراف " (3). ويأتى أيضا. (فقال تمتعوا) أي قال لهم صالح تمتعوا، أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب. (في داركم) أي في بلدكم، ولو أراد المنزل لقال في دوركم. وقيل: أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه، كقوله: " يخرجكم طفلا " (4) أي كل واحد طفلا. وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتللذ ولا يتمتع بشئ، فعقرت يوم الأربعاء، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما أقاموا ثلاثة أيام، لأن الفصيل رغا ثلاثا على ما تقدم في " الأعراف " فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول، ثم احمرت في اليوم الثاني، ثم اسودت في اليوم الثالث، وهلكوا في الرابع، وقد تقدم في " الأعراف ". (1) كذا في ووالطبرى، وفى تاج: كتابة: كرمانة. وفى ك: الكاثية. (2) من ع. (3) راجع ج 7 ص 240 فما بعدها. (4) راجع ج‍ 12 ص 11 وص 330 ج‍ 15. (*)
[ 61 ]
الثانية - استدل علماؤنا بإرجاء العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر، لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة. وقد تقدم في " النساء " (1) ما للعلماء في هذا. قوله تعالى: (ذلك وعد غير مكذوب) أي غير كذب. وقيل: غير مكذوب فيه. قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا) أي عذابنا. (نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا) تقدم. (ومن خزى يومئذ) أي ونجيناهم من خزى يومئذ، أي من فضيحته وذلتة. وقيل الواو زائدة، أي نجيناهم من خزى يومئذ. ولايجوز زيادتها عند سيبويه وأهل البصرة، وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع " لما " " وحتى " لا غير. وقرأ نافع و الكسائي " يومئذ " بالنصب. الباقون بالكسر على إضافة " يوم " إلى " إذ ". وقال أبو حاتم: حدثنا أبو زيد عن أبى عمر أنه قرأ " ومن خزى يومئذ " أدغم الياء في الياء، وأضاف، وكسر الميم في " يومئذ ". قال النحاس: الذى يرويه النحويون - مثل سيبويه ومن قاربه عن أبى عمرو في مثل هذا - الإخفاء، فأما الإدغام فلا يجوز، لأنه يلتقى ساكنان، ولا يجوز كسر الزاى. قوله تعالى: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا، وذكر لأن الصيحة والصياح واحد. قيل: صيحه جبريل. وقيل: صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شئ في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا. وقال هنا: " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " وقال في " الأعراف " " وأخذتهم الرجفة " وقد تقدم بيانه هناك (2) وفى التفسير: أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة ؟ ! قالوا: فما نصنع ؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم، وكانوا فيما يقال اثنى عشر ألف قبيلة، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل، فوقفوا على الطرق والفجاج، زعموا يلاقون العذاب، فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها، (1) راجع ج‍ 5 ص 357. (2) راجع ج‍ 7 ص 242. (*)
[ 62 ]
فأدناها من رؤوسهم فاشتوت أيديهم، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش، ومات كل ماكان معهم من البهاهم. وجعل الماء يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء، لا يسقط على شئ إلا أهلكه من شده حره، فما زالوا كذلك، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس، فصيح بهم فأهلكوا. (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) أي ساقطين على وجوههم، قد لصقوا بالتراب كالطير إذ جثمت. (ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) تقدم معناه. قوله تعالى: ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلما قال سلم فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (69) فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط (70) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بأسحق ومن وراء إسحق يعقوب (71) قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) هذه قصة لوط عليه السلام، وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحا (2)، وكانت قرى لوط بنواحي الشام، وإبراهيمم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط ومروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم، فظنهم أضيافا. وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليم السلام، قاله ابن عباس. الضحاك: كانوا تسعة. السدى: أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه، ذوو وضاءة وجمال بارع. " بالبشرى " قيل: بالولد. وقيل: بإهلاك قوم لوط. وقيل: بشروه بأنهم رسل الله عز وجل، وأنه لا خوف عليه. (قالوا سلاما) نصب بوقوع الفعل عليه، كما تقول: قالوا خيرا. وهذا اختيار الطبري. وأما قوله " سيقولون ثلاثة " فالثلاثة اسم غير [ قول ] (4) مقول. ولو رفعا جميعا (1) في ع: يفور. (2) أي لازق النسب به. (3) راجع ج‍ 10 ص 382. (4) من ع. (*)
[ 63 ]
أو نصبا جميعا " قالوا سلاما قال سلام " جاز في العربية. وقيل: انتصب على المصدر. وقيل: " قالوا سلاما " أي فاتحوه بصواب من القول، كما قال: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (1) " أي صو ابا، فسلاما معنى قولهم لا لفظه، قال معناه ابن العربي واختاره. قال ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال مخبرا عن الملائكة: " سلام عليكم بما صبرتم (2) " " سلام عليكم طبتم (3) ". وقيل دعوا له، والمعنى سلمت سلاما. (قال سلام) في رفعه وجهان: أحدهما - على إضمار مبتدأ أي هو سلام، وأمري سلام. والآخر بمعنى سلام عليكم إذا جعل بمعنى التحية، فأضمر الخبر. وجاز سلام على التنكير لكثرة استعماله، فحذف الألف والام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم. وقرئ " سلم " قال الفراء: السلم والسلام بمعنى، مثل الحل والحلال. قوله تعالى: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) فيه أربع عشرة مسألة (4): الأولى - قوله تعالى: (فما لبث أن جاء) " أن " بمعنى حتى، قاله كبراء (5) النحويين، حكاه ابن العربي. التقدير: فما لبث حتى جاء. وقيل: " أن " في موضع نصب بسقوط حرف الجر، التقدير: فما لبث عن أن جاء، أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل، فلما حذف حرف الجر بقى " أن " في محل النصب. وفى " لبث " ضمير اسم إبراهيم. و " ما " نافيه، قاله سيبويه. وقال الفراء: فما لبث مجيئه، أي ما أبطأ مجيئه، فإن في موضع رفع، ولا ضمير في " لبث " و " ما " نافية، ويصح أن تكون " ما " بمعنى الذى، وفى " لبث " ضمير إبراهيم و " أن جاء " خبر " ما " أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ. و (حنيذ) مشوى. وقيل هو المشوى بحر الحجارة من غير أن تمسه النار. يقال حنذت الشاة أحنذها حنذا أي اشويها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهى حنيذ. وحنذت الفرس أحنذه حنذا، وهو أن تحضره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق، فهو محنوذ وحنيذ. فإن لم يعرق قيل: كبا. وحنذ موضع قريب (1) راجع ج‍ 13 ص 67. (2) راجع ص 312 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 15 ص 284 فما بعد. (4) كذا في الأصل والمسائل المذكورة هي في آيه 70 و 71 أيضا لافى هذه الآيه فحسب. (5) في ع: أكثر. (*)
[ 64 ]
من المدينة (1). وقيل: الحنيذ السميط. ابن عباس وغيره: حنيذ نضيج. وحنيذ بمعنى محنوذ، وأنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أمواله. الثانية - في هذه الآيه من أدب الضيف أن يعجل قراة، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الأسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في " البقرة " (2) وليست بواجبة عند عامة أهل العلم لقولة صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة ". والجائزة العطية والصلة التى أصلها على الندب. وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ". وإكرام الجار ليس بواجب إجماعا، فالضيافه مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليله الضيف حق " إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفايه، والله الموفق للهدايه. قال ابن العربي: وقد قال قوم: إن وجوب الضيافة كان في صدر الأسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف، فأن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد وذكر حديث أبى سعيد الخدرى خرجه الأئمة، وفيه: " فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا فلدغ سيد ذلك الحى " الحديث. وقال: هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للام النبي صلى الله عليه وسلم القوم الذين أبوا، ولبين لهم ذلك. الثالثة - اختلف العلماء فيمن يخاطب بها، فذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على إهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر [ حكى اللغتين (3) صاحب العين وغيره ]. واحتجوا بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر ". وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخى (1) وحنيذ موضع قريب من مكة أيضا. (2) راجع ج‍ 2 ص 98. (3) من و، فليتأمل. (*)
[ 65 ]
عبد الرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه، قاله أبو عمر بن عبد البر. قال ابن العربي: الضيافة حقيقة فرض على الكفايه، ومن الناس من قال: إنها واجبة في القرى حيث لاطعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات، ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة، فإن كان غريبا فهى فريضة. الرابعة - قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل، من أبن علم أنه قليل ؟ ! بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة، جبريل وميكائيل وإسرافيل صلى الله عليه وسلم، وعجل لثلاثة عظيم، فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأى ؟ ! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه. الخامسة - السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدم إليه بالأكل، فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول، فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم، لأنهم خرجوا عن ا لعادة، وخالفوا السنة، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه. وروى أنهم كانوا ينكتون بقداح (1) كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم. (نكرهم وأوجس منهم خيفة) أي أضمر. وقيل: أحس، والوجوس الدخول، قال الشاعر: جاء البريد بقرطاس يخب به * فأوجس القلب من قرطاسه جزعا " خيفة " خوفا، أي فزعا. وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا، فقالت الملائكة (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط). السادسة - من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا ؟ وذلك ينبغى أن يكون بتلفت ومسارقة (2) لا بتحديد النظر. روى أن أعرابيا أكل مع (1) قداح (جمع قدح بالكسر) السهم قبل أن ينصل ويراش. (2) في ع: أو مسارقة. (*)
[ 66 ]
سليمان ابن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الإعرابي شعرة فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك، فقال له: اتنظر إلى نظر من يرى الشعره في لقمتي ؟ ! والله لا أكلت معك. قلت وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبد الملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عندة وهو يقول: وللموت خير من [ زيارة ] (1) باخل * يلاحظ أطراف الأكيل على عمد السابعة - قوله تعالى: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم) يقول: أنكرهم، تقول: نكرتك [ وأنكرتك ] (2) واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته، قال الشاعر (3): وأنكرتني وما كان الذى نكرت * من الحوادث إلا الشيب والصلعا فجمع بين اللغتين. ويقال: نكرت لما تراه بعينك. وأنكرت لما تراه بقلبك. الثامنة - قوله تعالى: (وامرأته قائمة) ابتداء وخبر، أي قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد ابن اسحق: قائمة تصلى. وفى قراءة عبد الله بن مسعود " وامرأتة قائمة وهو قاعد ". التاسعة قوله تعالى: (فضحكت) قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة، تحقيقا للبشارة، وأنشد على ذلك اللغويون: وإنى لآتى العرس عند طهورها * وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا وقال آخر: وضحك الأرانب فوق الصفا * كمثل دم الجوف يوم اللقا والعرب تقول: ضحكت الأرنب إذا حاضت، وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما وعكرمة، أخذ من قولهم: ضحكت الكافورة - وهى قشرة الطلعة - إذا انشقت. وقد انكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت. وقال الجمهور: هو الضحك المعروف، واختلفوا فيه، فقيل: هو ضحك التعجب، قال أبو ذؤيب: (1) كذا في ع وى وفى الفريد، وفى ك: ضيافة. (2) من ا وع وك و و. (3) البيت للأعشى. (*)
[ 67 ]
فجاء بمزج لم يرى الناس مثله * هو الضحك (1) إلا أنه عمل النحل وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه، وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك، قال الفراء: لم أسمعه من ثقة، وإنما هو كناية. وروى أن الملائكة مسحت العجل، فقام من موضعه فلحق بأمه، فضحكت سارة عند ذلك فبشروها بإسحق. ويقال: كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافة أقام سارة تخدمهم، فذلك قوله: " وامرأته قائمة " أي قائمة في خدمتهم. ويقال: " قائمة " لروع إبراهيم " فضحكت " لقولهم: لا تخف " سرورا بالأمن. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، المعنى: فبشرناها بإسحق فضحكت، أي ضحكت سرورا بالولد، وقد هرمت، والله أعلم أي ذلك كان. قال النحاس فيه أقوال: أحسنها - أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم، فلما قالوا لا تخف، وأخبروه أنهم رسل [ الله (2) ]، فرح بذلك، فضحكت امرأته سرورا بفرحه. وقيل: أنها كانت قالت له: أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت، قال النحاس: وهذا إن صح إسناده فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه، تقول رأيت فلانا ضاحكا، أي مشرقا. وأتيت على روضة تضحك، أي مشرقة، وفى الحديث " إن الله سبحانه (2) يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك ". جعل انجلاءه عن البرق ضحكا، وهذا كلام مستعار. وروى عن رجل من قراء مكة يقال له محمد بن زياد الأعرابي. " ضحكت " بفتح الحاء، قال المهدوى: وفتح " الحاء " من " فضحكت " غير معروف. وضحك يضحك ضحكا وضحكا وضحكا [ وضحكا ] (2) أربع لغات. والضحكة المرة الواحدة، ومنه قول كثير: غلقت لضحكته رقاب المال (3) قاله الجوهرى: (1) وفسر الضحك هنا بالعسل أو الشهد. راجع اللسان مادة (ضحك). (2) من ع. (3) صدر البيت: غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا (*)
[ 68 ]
العاشرة - روى مسلم عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه، فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهى العروس. قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور (1)، فلما أكل سقته إياه. وأخرجه البخاري وترجم له " باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس ". قال علماؤنا: فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابة في عرسها. وفيه أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه، ويستخدمهن (2) لهم. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب والله أعلم الحادية عشرة - ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن، فقال لهم: " ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره " فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا. قال علماؤنا: ولم يأكلوا لأن الملائكة لا تأكل. وقد كان من الجائز كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمى جسدا وهيئة أن ييسر لهم أكل الطعام، إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة الآدمى وتكلف إبراهيم عليه السلام الضيافة [ حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة (3) ] الثانية عشرة - ودل هذا على أن التسميه في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا، وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم كان لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقى يوما رجلا، فلما جلس معه على الطعام، قال له إبراهيم: سم الله، قال الرجل لا أدرى ما الله ؟ فقال له: فاخرج عن طعامي، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه، وقال: ارجع، فقال: لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى ؟ فأخبره بالأمر، فقال هذا رب كريم، آمنت، ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا (4) (1) التور: إناء تشرب فيه العرب، ويتوضأ منه، ويصنع من صفرا وحجارة. (2) في ع: يستخدمها. (3) الزيادة عن ابن العربي. (4) في ع: متمتعا. (*)
[ 69 ]
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (فبشرناها بإسحق) لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (ومن وراء إسحق يعقوب) قرأ حمزة وعبد الله ابن عامر " يعقوب " بالنصب. ورفع الباقون، فالرفع على معنى: ويحدث لها من وراء إسحق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذى يعمل في " من " كأن المعنى: وثبت لها من وراء إسحق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالابتداء، ويكون في موضع الحال، أي بشروها بإسحق مقابلا له يعقوب. والنصب على معنى: ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب. وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون " يعقوب " في موضع جر على معنى: وبشرناها من وراء إسحق يعقوب. قال الفراء: ولا يجوز الخفض إلا بإعادة الحرف الخافض، قال سيبويه ولو قلت: مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو (1) كان قبيحا [ خبيثا ] (2)، لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو، كما تفرق بين الجار والمجرور، لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو. قوله تعالى: قالت يويلتئ ألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا إن هذا لشئ عجيب (72) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (يا ويلتا) قال الزجاج: أصلها يا ويلتى، فأبدل من الياء ألف، لأنها أخف من الياء والكسرة، ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجن منه، وعجبت من ولادتها [ ومن ] (3) كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و (أألد) استفهام معناه التعجب. (وأنا عجوز) أي شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا، أي طعنت في السن. (1) والوجه عنده (وأمس بعمرو). (2) كذا في ا وك ع وو وى. (3) من ع. (*)
[ 70 ]
وقد يقال: عجوزة أيضا. وعجزت ا لمرأة بكسر الجيم، عظمت عجيزتها عجزا وعجزا بضم العين وفتحها. قال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحق: كانت بنت تسعين [ سنة ] (1). وقيل غير هذا. الثانية - قوله تعالى: (وهذا بعلى) أي زوجي. (شيخا) نصب على الحال، والعامل فيه التنبيه أو الإشارة. " وهذا بعلى " ابتداء وخبر. وقال الأخفش: وفى قراءة ابن مسعود وأبى " وهذا بعلى شيخا " قال النحاس: كما تقول هذا زيد قائم، فزيد بدل من هذا، وقائم خبر الأبتداء. ويجوز أن يكون " هذا " مبتدأ " وزيد قائم " خبرين، وحكى سيبويه: هذا حلو حامض. وقيل كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: ابن مائة فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل: أنها عرضت بقولها: " وهذا بعلى شيخا " أي عن ترك غشيانه لها. وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناخور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهى بنت عم إبراهيم. (إن هذا لشئ عجيب) أي الذى بشرتموني به لشئ عجيب. قوله تعالى: قالوا اتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (73) فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (قالوا أتعجبين من أمر الله) لما قالت: " وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا " وتعجبت، أنكرت الملائكة عليها تعجبهامن أمر الله، أي من قضائه وقدره، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحق. وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسمعيل، وأنه أسن من إسحق، لأنها بشرت بأن إسحق يعيش حتى يولد له يعقوب. وسيأتى الكلام في هذا، وبيانه في " الصافات " (2) إن شاء الله تعالى. (1) من ع. (2) راجع ج‍ 15 ص 98 فما بعد. (*)
[ 71 ]
الثانية - قوله تعالى: (رحمة الله وبركاته) مبتدأ، والخبر (عليكم). وحكى سيبويه " عليكم " بكسر الكاف لمجاورتها الياء. وهل هو خبر أو دعاء ؟ وكونه إخبارا أشرف، لأن ذلك يقتضى حصول الرحمة والبركة لهم، المعنى: أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاء إنما يقتضى أنه أمر يترجى ولم يحصل بعد. ونصب (أهل البيت) على الاختصاص، وهذا مذهب سيبويه. وقيل: على النداء. الثالثة - هذه الآية تعطى أن زوجة الرجل من أهل البيت، فدل هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت، فعائشة رضى الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ممن قال الله فيهم: " ويطهركم تطهيرا " وسيأتى. الرابعة - ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام " وبركاته " كما أخبر الله عن صالحي عباده " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ". والبركة النمو والزيادة، ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبى نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: كنت جالسا عند عبد الله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، ثم زاد شيئا مع ذلك، فقال ابن عباس - وهو يومئذ قد ذهب بصره - من هذا ؟ فقالوا اليماني الذى يغشاك، فعرفوه إياه، فقال: إن السلام انتهى إلى البركة. وروى عن على رضى الله عنه أنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه، فقلت: السلام عليكم، فقال: " وعليك السلام ورحمة الله عشرون لى وعشره لك ". قال: ودخلت الثانية، فقلت: السلام عليكم ورحمة الله فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لى وعشرون لك ". فدخلت الثالثة فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقال: " وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لى وثلاثون لك أنا وأنت في السلام سواء. (إنه حميد مجيد) أي محمود ماجد. وقد بيناهما في " الأسماء الحسنى ". (1) راجع ج‍ 14 ص 178. (*)
[ 72 ]
قوله تعالى: فلما ذهب عن إبرهيم الروع وجاءته البشرى يجدلنا في قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أوه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود (76) قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) أي الخوف، يقال: ارتاع من كذا إذا خاف، قال النابغة: فارتاع من صوت كلاب (1) فبات له * طوع الشوامت من خوف ومن صرد (وجاءته البشرى) أي بإسحق ويعقوب. وقال قتادة: بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط، وأنه لا يخاف. (يجادلنا) أي يجادل رسلنا، وأضافه إلى نفسه، لأنهم نزلوا بأمره. وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال عن جندب عن حذيفة، وذلك أنهم لما قالوا: " إنا مهلكوا أهل هذه القرية (2) " قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا: لا. قال: فأربعون ؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون ؟ قالوا: لا قال: فعشرون ؟ قالوا: لا. قال فإن كان فيها عشرة - أو خمسة شك حميد - قالوا: لا. قال قتادة: نحوا منه، قال فقال يعنى إبراهيم: قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لاخير فيهم. وقيل إن إبراهيم قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها ؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم عند ذلك: " إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ". وقال عبد الرحمن بن سمرة: كانوا أربعمائة ألف. ابن جريج. وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف. ومذهب الأخفش والكسائي أن " يجادلنا " في موضع " جادلنا ". قال النحاس: لما كان جواب " لما " يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه، كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه. وفيه جواب آخر - أن يكون " يجادلنا " في موضع الحال، أي أقبل يجادلنا، وهذا قول الفراء. (إن إبراهيم لحليم (1) الكلاب: صاحب الكلاب. يصف الشاعر ثورا وحشيا بأنه بات من الخوف الذى أدركه، والبرد الذى أصابه مبيت سوء، ومبيته على ذلك الحال يسر أعداءه. (2) راجع ج‍ 13 ص 341 فما بعد. (*)
[ 73 ]
أواه منيب) تقدم في " براءة " معنى " لأواه حليم ". والمنيب الراجع، يقال: أناب إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعا إلى الله في أموره كلها. وقيل: الأواه المتأوه أسفا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان. قوله تعالى: (يا إبراهيم أعرض عن هذا) أي دع عنك الجدال في قوم لوط. (إنه قد جاء أمر ربك) أي عذابه لهم. (وإنهم آتيهم) أي نازل بهم. (عذاب غير مردود) أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع. قوله تعالى: ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يقوم هؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد (78) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد (79) قال لو أن لى بكم قوة أو ءاوى إلى ركن شديد (80) قالوا يلوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحدا إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب (81) فلما جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (82) مسومة عند ربك وما هي من الظلمين ببعيد (83) قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم) لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط - وهما تستقيان - بالملائكة (1) راجع ج‍ 8 ص 274. (*)
[ 74 ]
ورأتا هيئة حسنة، فقالتا: ما شأنكم ؟ ومن أين أقبلتم ؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش، فقالوا: أبها من يضيفنا ؟ قالتا: نعم ! هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط، فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه عليهم. (سئ بهم) أي ساءه مجيئهم، يقال: ساء يسوء فهو لازم، وساءه يسوءه فهو متعد أيضا، وإن شئت ضممت السين، لأن أصلها الضم، والأصل سوئ بهم من السوء، قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت: " سي بهم " مخففا، ولغة شاذة بالتشديد. (وضاق بهم ذرعا) أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه. وقيل: ضاق وسعه وطاقته. وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه، فإذ حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك، وضعف ومد عنقه، فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل: هو من ذرعه القئ أي غلبه، أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلم من فسق قومه. (وقال هذا يوم عصيب) أي شديد في الشر. وقال الشاعر: وإنك إلا ترض بكر بن وائل * يكن لك يوم بالعراق عصيب وقال آخر: يوم عصيب يعصب الأبطالا * عصب القوي السلم الطوالا ويقال: عصيب وعصبصب على التكثير، أي مكروه مجتمع الشر وقد. عصب، أي عصب بالشر عصابة، ومنه قيل: عصبة وعصابة أي مجتمعوا الكلمة، أي مجتمعون في أنفسهم. وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب، وتعصبت لفلان صرت كعصبته، ورجل معصوب، أي مجتمع الخلق. (قوله تعالى: (وجاء قومه يهرعون) في موضع الحال. " يهرعون " أي يسرعون. قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة، يقال: أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، وهو مهرع، قال مهلهل: (1) في مفردات الراغب: ومعصوب الخلق أي مدلج الخلقة). (*)
[ 75 ]
فجاءوا يهرعون وهم أسارى * نقودهم على رغم الأنوف وقال آخر: بمعجلات نحوه مهارع وهذا مثل: أولع فلان بالأمر، وأرعد زيد. وزهي فلان وتجئ ولا تستعمل إلا على هذا الوجه. وقيل: أهرع أي أهرعه حرصه، وعلى هذا " يهرعون " أي يستحثون عليه. ومن قال بالأول قال: لم يسمع إلا أهرع الرجل أي أسرع، على لفظ ما لم يسم فاعله. قال ابن القوطية: هرع الإنسان هرعا، وأهرع: سيق واستعجل. وقال الهروي يقال: هرع الرجل وأهرع أي استحث. قال ابن عباس وقتادة والسدي: " يهرعون " يهرولون. الضحاك: يسعون. ابن عيينة: كأنهم يدفعون. وقال شمر بن عطية: هو مشي بين الهرولة والجمزى. وقال الحسن: مشي بين مشيين، والمعنى متقارب. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رؤى مثلهم جمالا، وكذا وكذا، فحينئذ جاءوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم، فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم ! وذهبت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليهم، فقالوا: نريد أن تضيفنا الليلة، فقال لهم: أوما سمعتم بعمل هؤلاء القوم ؟ فقالوا: وما عملهم ؟ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض - وقد كان الله عز وجل، قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات - فلما قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة، وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة. قوله تعالى: (ومن قبل) أي ومن قبل مجئ الرسل. وقيل: من قبل لوط. (كانوا يعملون السيئات) أي كانت عادتهم إتيان الرجال. فلما جاءوا إلى لوط وقصدوا
[ 76 ]
أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: (هؤلاء بناتي) ابتداء وخبر. وقد اختلف في قوله: " هؤلاء بناتي " فقيل: كان له ثلاث بنات من صلبه. وقيل: بنتان، زيتا (1) وزعوراء، فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه. وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة، وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ، فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عتبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين. وقالت فرقة - منهم مجاهد وسعيد بن جبير - أشار بقوله: " بناتي " إلى النساء جملة، إذ نبي القوم أب لهم، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود. " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو إب لهم [ الأحزاب: 6 ]. وقالت طائفة: إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه، روي هذا القول عن أبي عبيدة، كما يقال لمن ينهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا. وقال عكرمة: لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا. قوله تعالى: (هن أطهر لكم) ابتداء وخبر، أي أزوجكموهن، فهو أطهر لكم مما تريدون، أي أحل. والتطهر التنزه عما لا يحل. وقال ابن عباس: كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته. وليس ألف " أطهر " للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح [ الرجال ] (2) طهارة، بل هو كقولك: الله أكبر وأعلى وأجل، وإن لم يكن تفضيل، وهذا جائز شائع (3) في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحد حتى يكون الله تعالى أكبر منه. وقد قال أبو سفيان بن حرب يوم أحد: اعل هبل (4) اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: " قل الله أعلى وأجل ". وهبل لم يكن قط عاليا ولا جليلا. وقرأ العامة برفع الراء. وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو " هن أطهر " بالنصب على الحال. و " هن " عماد. ولا يجيز الخليل وسيبويه والأخفش أن يكون " هن " هاهنا عمادا، وإنما يكون عمادا فيما لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك، لتدل بها على أن الأخ ليس بنعت. (1) كذا في الأصول والألوسى، وفى الطبري: رثيا. (2) في الأصل (النساء) وهو تحريف. (3) في ع: سائغ. (4) أي أظهر دينك. (*)
[ 77 ]
قال الزجاج: ويدل بها على أن كان تحتاج إلى خبر. وقال غيره: يدل بها على أن الخبر معرفة أو ما قارنها. قوله تعالى: (فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي) أي لا تهينوني ولا تذلوني. ومنه قول حسان: فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك * ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق مددت يمينا للنبي تعمدا * ودميت فاه قطعت بالبوارق ويجوز أن يكون من الخزاية، وهو الحياء، والخجل، قال ذو الرمة: خزاية (1) أدركته بعد جولته * من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب وقال آخر: من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت * بها مرطها أو زايل الحلي جيدها وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد، لأنه في الأصل مصدر، قال الشاعر: لا تعدمي الدهر شفار الجازر * للضيف والضيف أحق زائر ويجوز فيه التثنية والجمع، والأول أكثر كقولك: رجال صوم وفطر وزور. وخزي الرجل خزاية، أي استحيا مثل ذل وهان. وخزي خزيا إذا افتضح، يخزى فيهما جميعا. ثم وبخهم بقوله: (أليس منكم رجل رشيد) أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقيل: " رشيد " أي ذو رشد. أو بمعنى راشد أو مرشد، أي صالح أو مصلح ابن عباس: مؤمن. أبو مالك: ناه عن المنكر. وقيل: الرشيد بمعنى الرشد، والرشد والرشاد الهدى والاستقامة. ويجوز أي يكون بمعنى المرشد، كالحكيم بمعنى المحكم. قوله تعالى: (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة أمرأة لم تحل أبدا، فذلك قوله تعالى: (1) (خزاية) إى من الخزاية. والحبل هو حبل الرمل. والكلام في وصف ثور وحشى تطارده الكلاب. وقبله: حتى إذا دومت في الأرض راجعة * كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب يعنى أن الثورأنف من الهرب فرجع إلى الكلاب. (*)
[ 78 ]
" قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق " وبعد ألا تكون هذه الخاصية. فوجه الكلام أنه ليس، لنا إلى بناتك تعلق، ولا هن قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك. (وإنك تعلم ما نريد) إشارة إلى الأضياف. قوله تعالى: (قال لو أن لى بكم قوة) لما رأى استمرارهم في غيهم، وضعف عنهم، ولم يقدر على دفعهم، تمنى لو وجد عونا على ردهم، فقال على جهة التفجع والاستكانة.: " لو أن لي بكم قوة " أي أنصارا وأعوانا. وقال ابن عباس: أراد الولد. و " أن " في موضع رفع بفعل مضمر، تقديره: لو اتفق أو وقع. وهذا يطرد في " أن " التابعة ل " لو ". وجواب " لو " محذوف، أي لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون. (أو آوى إلى ركن شديد) أي ألجأ وأنضوي. وقرئ " أو آوي " بالنصب عطفا على " قوة " كأنه قال: " لو أن لي بكم قوة " أو إيواء إلى ركن شديد، أي وأن آوي، فهو منصوب بإضمار " أن ". ومراد لوط بالركن العشيرة، والمنعة بالكثرة. وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى، فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد. وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد " الحديث، وقد تقدم في " البقرة " (1). وخرجه الترمذي وزاد " ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه ". قال محمد بن عمرو: والثروة الكثرة والمنعة، حديث حسن. ويروى أن لوطا عليه السلام لما غلبه قومه، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه، قالت له الرسل: تنح عن الباب، فتنحى وانفتح الباب، فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم، وعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاء، قال الله تعالى: " ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم " (2) [ القمر: 37 ]. وقال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار، فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود، (1) راجع ج‍ 3 ص 298. (2) راجع ج‍ 17 ص 143. (*)
[ 79 ]
وإنا رسل ربك، فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما تقدم. وقيل: أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم، فأوصل الله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب فطمس أعينهم، فلم يعرفوا طريقا، ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون: النجاء النجاء ! فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا. وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى، يتوعدونه. (قوله تعالى: (قالوا يالوط إنا رسل ربك) لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفت. (لن يصلوا إليك) أي بمكروه (فأسر بأهلك) قرئ " فاسر " بوصل الألف وقطعها، لغتان فصيحتان. قال الله تعالى: " والليل إذا يسر " (1) [ الفجر: 4 ] وقال: " سبحان الذي أسرى " (2) [ الإسراء: 1 ] وقال النابغة: فجمع بين اللغتين: أسرت (3) عليه من الجوزاء سارية * تزجي الشمال عليه جامد البرد وقال آخر: حي النضيرة ربة الخدر * أسرت إليك ولم تكن تسري وقد قيل: " فأسر " بالقطع إذا سار من أول الليل، وسرى إذا سار من آخره، ولا يقال في النهار إلا سار. وقال لبيد: إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه * قضى عملا والمرء ما عاش عامل وقال عبد الله بن رواحة: عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى (بقطع من الليل) قال ابن عباس: بطائفة من الليل. الضحاك: ببقية من الليل. قتادة: بعد مضي صدر من الليل. الأخفش: بعد جنح من الليل. ابن الأعرابي: بساعة من الليل. وقيل: بظلمة من الليل. وقيل: بعد هدء من الليل. وقيل: هزيع (1) راجع ج‍ 20 ص 42. (2) راجع ج‍ 10 ص 204. (3) ويروى (سرت). يقول: إن السحابة سرت في الجوزاء: فلذلك شبهها بالجوزاء. (*)
[ 80 ]
من الليل. وكلها متقاربة، وقيل: إنه نصف الليل، مأخوذ من قطعه نصفين، ومنه قول الشاعر: (1) ونائحة تنوح بقطع ليل * على رجل بقارعة الصعيد فإن قيل: السرى لا يكون إلا بالليل، فما معنى " بقطع من الليل " ؟ فالجواب: أنه لو لم يقل: " بقطع من الليل " جاز أن يكون أوله. (ولا يلتفت منكم أحد) أي لا ينظر وراءه منكم أحد، قال مجاهد. ابن عباس: لا يتخلف منكم أحد. علي بن عيسى: لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع. (إلا امرأتك) بالنصب، وهي القراءة الواضحة البينة المعنى، أي فأسر بأهلك إلا امرأتك. وكذا في قراءة ابن مسعود " فأسر بأهلك إلا أمرأتك " فهو استثناء من الأهل. وعلى هذا لم يخرج بها معه. وقد قال الله عز وجل: " كانت من الغابرين " (2) [ الأعراف: 83 ] أي من الباقين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير: " إلا أمراتك " بالرفع على البدل من " أحد ". وأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد، وقال: لا يصح ذلك إلا برفع " يلتفت " ويكون نعتا، لأن المعنى يصير - إذا أبدلت وجزمت - أن المرأة أبيح لها الالتفات، وليس المعنى كذلك. قال النحاس: وهذا الحمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون، والرفع على البدل له معنى صحيح، والتأويل له على ما حكى محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد أن يقول الرجل لحاجبه: لا يخرج فلان، فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب، أي لا تدعه يخرج، ومثله قولك: لا يقم أحد إلا زيد، يكون معناه: انههم عن القيام إلا زيدا، وكذلك النهي للوط ولفظه لغيره، كأنه قال: انههم لا يلتفت منهم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن النهي عن الالتفات لأنه كلام تام، أي لا يلتفت، منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم ألا يلتفت، فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه ! فأدركها حجر فقتلها. (إنه مصيبها) (1) هو مالك بن كنانه. (2) راجع ج‍ 13 ص 241. (*)
[ 81 ]
أي من العذاب، والكناية في " إنه " ترجع إلى الأمر والشأن، فإن الأمر والشأن والقصة. (مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح) لما قالت الملائكة: " إنا مهلكو أهل هذه القرية " [ العنكبوت: 31 ] قال لوط: الآن الآن. استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه، فقالوا: (إليس الصبح بقريب) وقرأ عيسى بن عمر " أليس الصبح " بضم الباء وهي لغة. ويحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم، لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع. وقال بعض أهل التفسير: إن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر، وأن الملائكة قالت له: إن الله قد وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد، وخطف برق، وصواعق عظيمة، وقد ذكرنا لهم أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه، وأمارته أنه لا يلتفت، ولا تلتفت ابنتاه فلا يهولنك ما ترى. فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم. (قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا) أي عذابنا. (جعلنا عاليها سافلها) وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي خمس: سدوم - وهي القرية العظمى، - وعامورا، ودادوما، وضعوه، وقتم (1)، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما في فيها، حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر (2) لهم إناء، ثم نكسوا على رؤوسهم، وأتبعهم الله بالحجارة. مقاتل. أهلكت أربعة، ونجت ضعوه. وقيل: غير هذا، والله أعلم. قوله تعالى: (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) دليل على أن من فعل فعلهم حكمه الرجم، وقد تقدم في " الأعراف " (3). وفي التفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرحمة. وأما كلام العرب فيقال: مطرت السماء وأمطرت: حكاه الهروي. واختلف في " السجيل " فقال النحاس (4): السجيل الشديد الكثير، وسجيل وسجين اللام والنون أختان. وقال أبو عبيدة: السجيل الشديد، وأنشد ضربا تواصى به الأبطال سجينا (1) وفى ع وز وك: قاموارا وراد ما وصعو، وفى ضبط هذه القرى اختلاف. (2) في ى: ينكشف. (3) راجع ج‍ 7 ص 243 (4) كذا في ا، وفى ز وع وك وو وى: (البخاري). (5) سيأتي البيت بتمامه في ص 83. (*)
[ 82 ]
قال النحاس: ورد عليه هذا القول عبد الله بن مسلم وقال: هذا سجين وذلك سجيل فكيف يستشهد به ؟ ! قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، لأن أبا عبيدة ذهب إلى أن اللام تبدل من النون لقرب إحداهما من الأخرى، وقول أبي عبيدة يرد من جهة أخرى، وهي أنه لو كان على قوله لكان حجارة سجيلا، لأنه لا يقال: حجارة من شديد، لأن شديدا نعت. وحكى أبو عبيدة عن الفراء أنه قد يقال لحجارة الأرحاء سجيل. وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجيلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء. وقالت طائفة منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وابن إسحاق: إن سجيلا لفظة غير عربية عربت، أصلها سنج وجيل. ويقال: سنك وكيل، بالكاف موضع الجيم، وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا. وقيل: هو من لغة العرب. وقال قتادة وعكرمة: السجيل الطين بدليل قوله " لنرسل عليهم حجارة من طين " (1) [ الذاريات: 33 ]. وقال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشددت. والسجيل عند العرب كل شديد صلب. وقال الضحاك: يعني الآجر. وقال ابن زيد: طين طبخ حتى كان كالاجر، وعنه أن سجيلا اسم السماء الدنيا، ذكره المهدوي، وحكاه الثعلبي عن أبي العالية، وقال ابن عطية: وهذا ضعيف يرده وصفه ب " منضود ". وعن عكرمة: أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض منه نزلت الحجارة. وقيل: هي جبال في السماء، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " (2) [ النور: 43 ]. وقيل: هو مما سجل لهم أي كتب لهم أن يصيبهم، فهو في معنى سجين، قال الله تعالى: " وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم " (3) [ المطففين: 8 ] قاله الزجاج واختاره. وقيل: هو فعيل من أسجلته أي أرسلته، فكأنها مرسلة عليهم. وقيل: هو من أسجلته إذا أعطيته، فكأنه عذاب أعطوه، قال (4): من يساجلني يساجل ماجدا * يملأ الدلو إلى عقد الكرب (1) راجع ج‍ 17 ص 47. (2) راجع ج‍ 12 ص 289. (3) راجع ج‍ 19 ص 254. (4) البيت للفضل بن عباس بن عتبة بن أبى لهب. وأصل المساجلة. أن يستقى ساقيان فيخرج كل واحد منهما في سجله (دلوه) مثل ما يخرج الآخر فأيهما نكل فقد غلب، فضربته مثلا العرب للمفاخرة. والكرب: الحبل الذى يشد على الدلو بعد المنين وهو الحبل الأول. (*)
[ 83 ]
وقال أهل المعاني: السجيل والسجين الشديد من الحجر والضرب، قال ابن مقبل: ورجلة يضربون البيض ضاحية (1) * ضربا تواصى به الأبطال سجينا (منضود) قال ابن عباس: متتابع. وقال قتادة: نضد بعضها فوق بعض. وقال الربيع: نضد بعضه على بعض حتى صار جسدا واحدا. وقال عكرمة: مصفوف. وقال بعضهم مرصوص، والمعنى متقارب. يقال: نضدت المتاع واللبن إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد ونضد، قال: ورفعته إلى السجفين فالنضد وقال أبو بكر الهذلي: معد، أي هو مما أعده الله لأعدائه الظلمة. (مسومة) أي معلمة، من السيما وهي العلامة، أي كان عليها أمثال الخواتيم. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الفراء: زعموا أنها كانت بحمرة وسواد في بياض، فذلك تسويمها. وقال كعب: كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الشاعر (2): غلام رماه الله بالحسن يافعا * له سيمياء لا تشق على البصر و " مسومة " من نعت حجارة. و " منضود " من نعت " سجيل ". وفى قوله: (عند ربك) دليل على أنها ليست من حجارة الأرض، قاله الحسن. (وما هي من الظالمين ببعيد) يعني قوم لوط، أي لم تكن تخطئهم. وقال مجاهد: يرهب قريشا، المعنى: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد. وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار الله منها ظالما بعد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال ونساؤهم بالنساء فإذا كان ذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما هي من الظالمين (1) وروى في اللسان: (يضربون البيض عن عرض). (2) البيت لأسيد بن عنقاء الفزارى يمدح عميلة حين قاسمه ماله، وبعده: كأن الثريا علقت فوق نحره * وفى جيده الشعرى وفى وجهه القمر وقوله: (له سيماءلاتشق على البصر) أي يفرح به من يراه. (*)
[ 84 ]
ببعيد ". وفي رواية عنه عليه السلام " لا تذهب الليالي والأيام حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال كما أستحلوا أدبار النساء فتصيب طوائف من هذه الأمة حجارة من ربك ". وقيل: المعنى ما هذه القرى من الظالمين ببعيد، وهي بين الشام والمدينة. وجاء " ببعيد " مذكرا على معنى بمكان بعيد. وفي الحجارة التي أمطرت قولان: أحدهما - أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل. الثاني - أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجا عنها. قوله تعالى: وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخير وإنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط (84) ويقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (85) بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ (86) قالوا يشعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبدءا باؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤا إنك لأنت الحليم الرشيد (87) قال يقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب (88) ويقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صلح وما قوم لوط عنكم ببعيد (89) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود (90) قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك
[ 85 ]
وما إنت علينا بعزيز (91) قال يقوم أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربى بما تعلمون محيط (92) ويقوم اعملوا على مكانتكم إنى عمل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كذب وارتقبوا إنى معكم رقيب (93) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديرهم جثمين (94) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود (95) قوله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا) أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين هم قوم شعيب. وفي تسميتهم بذلك قولان: أحدهما - أنهم بنو مدين بن إبراهيم، فقيل: مدين والمراد بنو مدين. كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني - أنه أسم مدينتهم، فنسبوا إليها. قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه أسم مدينة، وقد تقدم في " الأعراف " (1) هذا المعنى وزيادة. (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) تقدم. (ولا تنقصوا المكيال والميزان) كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون [ عليه ] (2) وظلموا، وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشححوا له بغاية ما يقدرون، فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء نهيا عن التطفيف. (إنى أراكم بخير) أي في سعة من الرزق، وكثرة من النعم. وقال الحسن: كان سعرهم رخيصا. (وإنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط) وصف اليوم بالإحاطة، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم، فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد، أي شديد حره. واختلف في ذلك العذاب، فقيل: هو عذاب النار في الآخرة. راجع ج‍ 7 ص 257 (2) من ع. (*)
[ 86 ]
وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: غلاء السعر، روي معناه عن ابن عباس. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء ". وقد تقدم. قوله تعالى: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط) أمر بالإيفاء بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا. والإيفاء الإتمام. " بالقسط " أي بالعدل والحق، والمقصود أن يصل كل ذي كل نصيب إلى نصيبه، وليس يريد إيفاء المكيال والموزون لأنه لم يقل: أوفوا بالمكيال وبالميزان، بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات. (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا. (ولا تعثوا في الإرض مفسدين) بين أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض، وقد مضى في " الأعراف " (1) زيادة لهذا، والحمد لله. قوله تعالى: (بقية الله خير لكم) أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم، قال معناه الطبري، وغيره. وقال مجاهد: " بقية الله خير لكم " يريد طاعته. وقال الربيع: وصية الله. وقال الفراء: مراقبة الله. ابن زيد: رحمة الله. قتادة والحسن: حظكم من ربكم خير لكم. وقال ابن عباس: رزق الله خير لكم. (إن كنتم مؤمنين) شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة هذا إن كانوا مؤمنين. وقيل: يحتمل أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم فخاطبهم بهذا. (وما أنا عليكم بحفيظ) أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، أي لا يمكننى شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق. وقيل: أي لا يتهيأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم. (قوله تعالى: (قالوا يا شعيب أصلواتك) وقرئ " أصلاتك " من غير جمع. (تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) " أن " في موضع نصب، قال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء. (1) راجع ج‍ 7 ص 248. (*)
[ 87 ]
وروي أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة، مواظبا على العبادة فرضها ونفلها ويقول: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة، واستهزءوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم. وقيل: إن الصلاة هنا بمعنى القراءة، قاله سفيان عن الأعمش، أي قراءتك تأمرك، ودل بهذا على أنهم كانوا كفارا. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. (أو أن نفعل في إموالنا ما نشاء) زعم الفراء أن التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء. وقرأ السلمي والضحاك بن قيس " أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء " بالتاء في الفعلين، والمعنى: ما تشاء أنت يا شعيب. وقال النحاس: " أو أن " على هذه القراءة معطوفة على " أن " الأولى. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم (1). وقيل: معنى. " أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه ؟ !. (إنك لإنت الحليم الرشيد) يعنون عند نفسك بزعمك. ومثله في صفة أبي جهل: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " (2) [ الدخان: 49 ] أي عند نفسك بزعمك. وقيل: قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية، قا قتادة. ومنه قولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض أبو الجون (3)، ومنه قول خزنة جهنم لأبي جهل: " ذق إنك أنت العزيز الكريم ". وقال سفيان بن عيينة: العرب تصف الشئ بضده للتطير والتفاؤل، كما قيل للديغ سليم، وللفلاة مفازة. وقيل: هو تعريض أرادوا به السب، وأحسن من هذا كله، ويدل ما قبله على صحته، أي إنك أنت الحليم الرشيد حقا، فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ! ويدل عليه. " أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا " أنكروا لما رأوا من كثرة صلاته وعبادته، وأنه حليم رشيد بأن يكون يأمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم، وبعده أيضا ما يدل عليه. " قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقني منه رزقا حسنا " أي أفلا أنهاكم عن الضلال ؟ ! وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة، وأنه اعتقادهم فيه. ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: " يا إخوة القردة " (4) فقالوا: يا محمد ما علمناك جهولا !. (1) حذف الشئ قطعه من أطرافه. (2) راجع ج‍ 16 ص 151. (3) الجون هنا الأسود. (4) في ع: القردة والخنازير. وقد مضى في ج‍ 6 ص 236 أنه أيضا من قول المسلمين لهم. (*)
[ 88 ]
مسألة - قال أهل التفسير: كان مما ينهاهم عنه، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم، كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن. وقال ابن وهب قال مالك: كانوا يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم وغيرهما، وكسرهما ذنب عظيم. وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبد الله عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس، فإنها إذا كانت صحاحا قام معناها، وظهرت فائدتها، وإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت منها الفائدة، فأضر ذلك، بالناس، ولذلك حرم. وقد قيل في تأويل قوله تعالى: " وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون " [ النمل: 48 ] أنهم كانوا يكسرون الدراهم، قاله زيد بن أسلم. قال أبو عمر بن عبد البر: زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القرظي. مسألة: قال اصبغ قال عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر، وليس هذا بموضع عذر، قال ابن العربي: أما قوله: لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر، وأما قوله: لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه، أو خفي وجه الصدق فيه، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك. مسألة: إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال: ما هذا ؟ قال رجل: يقطع الدنانير والدراهم، قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض، ولم ينكر جلده، ونحوه عن سفيان. وقال أبو عبد الرحمن النجيبي: كنت قاعدا عند عمر بن عبد العزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل [ يقطع الدراهم ] وقد شهد عليه فضربه وحلقه، وأمر فطيف به، وأمره أن يقول: هذا جزاء من يقطع (1) راجع ج‍ 13 ص 215. (2) في ع: بالمدينة، وفى و: أمير المؤمنين. (3) من ع وز وك وو وى. (*)
[ 89 ]
الدراهم، ثم أمر أن يرد إليه، فقال: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر، وقد كنت أيام الحكم [ بين الناس ] (1) أضرب وأحلق، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية، وطريقا إلى التجمل به في الفساد، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة، وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص للقدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء، فإن قيل: أليس الحرز أصلا في القطع ؟ قلنا: يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها، وحرز كل شئ على قدر حاله، وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم. وقد قال علماؤنا المالكية: إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه، ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة. قال ابن العربي: وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم، إلا أني كنت محفوفا بالجهال، فلم أجبن (1) بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى. قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى) تقدم (ورزقني منه رزقا حسنا) أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: أراد به. الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، وفي الكلام حذف، وهو ما ذكرناه، أي أفلا أنهاكم عن الضلال ! وقيل: المعنى " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " أتبع الضلال ؟ وقيل: المعنى " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " أتأمرونني (3) بالعصيان في البخس والتطفيف، وقد أغناني الله [ عنه ] (1). (وما أريد أن أخالفكم) في موضع نصب ب " أريد ". (إلى ما أنهاكم عنه) أي ليس أنهاكم عن شئ وأرتكبه كما لا أترك ما أمرتكم به. (إن أريد إلا الإصلاح (1) من ع وى. (2) من ع وفى ز وو وى: أحب. (3) في ع: أفتأمرونني. (*)
[ 90 ]
ما استطعت) أي ما أريد إلا فعل الصلاح، أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل وآخرتكم بالعبادة، وقال: " ما استطعت " لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة. و " ما " مصدرية، أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي. (وما توفيقي) أي رشدي، والتوفيق الرشد. (إلا بالله عليه توكلت) أي اعتمدت. (وإليه أنيب) أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب. وقيل: إليه أرجع في الآخرة. وقيل: إن الإنابة الدعاء، ومعناه وله أدعو. قوله تعالى: (ويا قوم لا يجرمنكم) وقرأ يحيى بن وثاب " يجرمنكم ". (شقاقي) في موضع رفع. (أن يصيبكم) في موضع نصب، أي لا يحملنكم معاداتى على ترك الأيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار [ قبلكم ] (1) قاله الحسن وقتادة. وقيل لا: يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب، كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج. وقد تقدم معنى " يجرمنكم " في " المائدة " (2) و " الشقاق " في " البقرة " (3) وهو بمعنى العداوة، قاله السدى، ومنه قول الأخطل: ألا من مبلغ عني (4) رسولا * فكيف وجدتم طعم الشقاق وقال الحسن [ البصري ] (5): إضراري. وقال قتادة: فراقي. (وما قوم لوط عنكم ببعيد) وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. وقيل: وما ديار قوم لوط منكم ببعيد، أي بمكان بعيد، فلذلك وحد البعيد. قال الكسائي: أي دورهم في دوركم. قوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) تقدم (إن ربى رحيم ودود) اسمان من أسمائه سبحانه، وقد بيناهما في كتاب " الأسنى في شرح الأسماء الحسنى ". قال الجوهري: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود والمودة المحبة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: " ذاك خطيب الأنبياء ". (1) من ع وو وى. (2) راجع ج‍ 6 ص 44 وما بعدها. (3) راجع ج‍ 2 ص 143. (4) الرسول هنا بمعنى الرسالة. وفى الديوان: مبلغ قبسا. (5) من ع. (*)
[ 91 ]
قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) أي ما نفهم، لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله. وقيل: قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقارا لكلامه، يقال: فقه يفقه إذا فهم فقها، وحكى الكسائي: فقه فقها وفقها إذا صار فقيها (1). (وإنا لنراك فينا ضعيفا) قيل: إنه كان مصابا ببصره (2)، قاله سعيد ابن جبير وقتادة. وقيل: كان ضعيف البصر، قاله الثوري، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا، أي قد ضعف بذهاب بصره، كما يقال، له ضرير، أي قد ضر بذهاب بصره، كما يقال له: مكفوف، أي قد كف عن النظر بذهاب بصره. قال الحسن: معناه مهين. وقيل: المعنى ضعيف البدن، حكاه علي بن عيسى. وقال السدي: وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا. وقيل: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و " ضعيفا " نصب على الحال. (ولولا رهطك) رفع بالابتداء، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم، ومنه الراهطاء لجحر اليربوع، لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده. ومعنى (لرجمناك) لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة، وكان رهطه من أهل ملتهم. وقيل: معنى " لرجمناك " لشتمناك، ومنه قول الجعدي: تراجمنا بمر القول حتى * نصير كأننا فرسا رهان والرجم أيضا اللعن، ومنه الشيطان الرجيم. (وما أنت علينا بعزيز) أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع. قوله تعالى: (قال يا قوم أرهطى) أرهطي " رفع بالابتداء، والمعنى أرهطي في قلوبكم (أعز عليكم من الله) وأعظم وأجل وهو يملككم. (واتخذتموه وراءكم ظهريا) أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا، أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي، (1) عبارة الإصول هنا مضطربة، وصوبت عن كتب اللغة، وعبارة الأصل: فقه يفقه إذا فهم فقهاوفقها وحكى الكسائي: فقها، وفقه فقها إذا صار فقيها، (2) ليس شعيب الرسول عليه السلام ضريرا لأن هذا الوصف ينافى العصمة مما يقدح وإنما شعيب الضرير هو صاحب موسى وليس بنبى وبينهما ثلاثمائة سنة. (*)
[ 92 ]
يقال: جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وقد مضى في " البقرة " (1)، (إن ربى بما تعملون) أي من الكفر والمعصية. (محيط) أي عليم وقيل حفيظ. قوله تعالى: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل سوف تعلمون) تهديد ووعيد، وقد تقدم في " الأنعام " (2). (من يأتيه عذاب يخزيه) أي يهلكه. و " من " في موضع نصب، مثل " يعلم المفسد من المصلح " (3) [ البقرة: 220 ]. (ومن هو كاذب) عطف عليها. وقيل: أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا. وقيل: في محل رفع، تقديره: ويخزي من هو كاذب. وقيل: تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه، ويذوق وبال أمره. وزعم الفراء أنهم إنما جاءوا ب " هو " في " ومن هو كاذب " لأنهم لا يقولون من قائم، إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم، فزادوا " هو " ليكون جملة تقوم مقام فعل يفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قوله (4): من رسولي إلى الثريا بأني * ضقت ذرعا بهجرها والكتاب (وارتقبوا إنى معكم رقيب) أي انتظروا العذاب والسخطة، فإني منتظر النصر والرحمة. قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا) قيل: صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم (نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة) أي صيحة جبريل. وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " فذكر على معنى الصياح. قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة، غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم. (فأصبحوا في دارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) تقدم معناه. وحكى الكسائي أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ " كما بعدت ثمود " بضم العين. قال النحاس: المعروف في اللغة إنما يقال بعد (1) راجع ج‍ 2 ص 40. (2) راجع ج‍ 7 ص 89. (3) راجع ج‍ 3 ص 62. (4) هو عمرو بن أبى ربيعة. (*)
[ 93 ]
يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي: من ضم العين من " بعدت " فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد، وبعدت تستعمل في الشر خاصة، يقال: بعد يبعد بعدا، فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى، فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني. قوله تعالى: ولقد أرسلنا موسى بايتنا وسلطن مبين (96) إلى فرعون وملاءيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (97) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود (99) قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) بين أنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة، وإزاحة كل علة " بآياتنا " أي بالتوراة. وقيل: بالمعجزات. (وسلطان مبين) أي حجة بينة، يعني العصا. وقد مضى في " آل عمران " (1) معنى السلطان واشتقاقه فلا معنى للإعادة. (إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون) أي شأنه وحاله، حتى اتخذوه إلها، وخالفوا أمر الله تعالى. (وما أمر فرعون برشيد) أي بسديد يؤدي إلى صواب: وقيل: " برشيد " أي بمرشد إلى خير. قوله تعالى: (يقدم قومه يوم القيامة) يعني أنه يتقدمهم إلى النار إذ هو رئيسهم. يقال: قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدمهم. (فأوردهم النار) أي أدخلهم فيها. ذكر بلفظ الماضي، والمعنى فيوردهم النار، وما تحقق وجوده فكأنه كائن، فلهذا يعبر عن المستقبل بالماضي. (وبئس الورد المورود) أي بئس المدخل المدخول، ولم يقل بئست لأن الكلام يرجع إلى المورود، وهو كما تقول: نعم المنزل دارك، ونعمت المنزل دارك والمورود الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد، وهو بمعنى المفعول. (1) راجع ج‍ 4 ص 233. (*)
[ 94 ]
قوله تعالى: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة) أي في الدنيا. (ويوم القيامة) أي ولعنة يوم القيامة، وقد تقدم هذا المعنى. (بئس الرفد المرفود) حكى الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفدا، أي أعنته وأعطيته. واسم العطية الرفد، أي بئس العطاء والإعانة. والرفد أيضا القدح الضخم، قاله الجوهري، والتقدير: بئس الرفد رفد المرفود. وذكر الماوردي: أن الرفد بفتح الراء القدح، والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب، حكى ذلك عن الأصمعي، فكأنه ذم بذلك ما يسقونه في النار. وقيل: إن الرفد الزيادة، أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار، قاله الكلبي. قوله تعالى: ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد (100) وما ظلمنهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادهم غير تتبيب (101) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظلمة إن أخذه أليم شديد (102) إن في ذلك لأية لمن خاف عذاب الأخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود (103) وما نؤخره إلا لأجل معدود (104) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد (105) فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق (106) خالدين فيها ما دامت السموت والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد (107) وأما الذين سعدوا ففى الجنة خلدين فيها ما دامت السموت والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (109)
[ 95 ]
قوله تعالى: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك) " ذلك " رفع على إضمار مبتدأ، أي الأمر ذلك. وإن شئت بالابتداء، والمعنى: ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى نقصه عليك. (منها قائم وحصيد) قال قتادة: القائم ما كان خاويا على عروشه، والحصيد ما لا أثر له. وقيل: القائم العامر، والحصيد الخراب، قاله ابن عباس: وقال مجاهد: قائم خاوية على عروشها، وحصيد مستأصل، يعني محصودا كالزرع إذا حصد، قال الشاعر: والناس في قسم المنية بينهم * كالزرع منه قائم وحصيد وقال آخر (1): إنما نحن مثل خامة زرع * فمتى يأن يأت محتصده قال الأخفش سعيد: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض، قال: يكون فيمن يعقل حصدى، مثل قتيل وقتلى. (وما ظلمناهم) أصل الظلم في اللغة وضع الشئ في غير موضعه، وقد تقدم في " البقرة " (2) مستوفى. (ولكن ظلموا أنفسهم) بالكفر والمعاصي. وحكى سيبويه أنه يقال: ظلم إياه (فما أغنت) أي دفعت. (عنهم آلهتهم التى يدعون من دون الله من شئ) في الكلام حذف، أي التي كانوا يعبدون، أي يدعون. (لما جاء أمر ربك وما زادهم غير تتبيب) أي غير تخسير، قاله مجاهد وقتاده. وقال لبيد: فلقد بليت وكل صاحب جده * لبلى يعود وذاكم التتبيب والتبات الهلاك والخسران، وفيه إضمار، أي ما زادتهم عبادة الأصنام، فحذف المضاف، أي كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة. (قوله تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى) أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة. وقرأ عاصم الجحدري وطلحة بن مصرف " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى " وعن الجحدري أيضا " وكذلك أخذ ربك " كالجماعة " إذ أخذ (1) البيت للطرماح كما في اللسان. (2) راجع ج‍ 1 ص 309 وما بعدها. (*)
[ 96 ]
القرى ". قال المهدوي من قرأ: " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ " فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم، والمعنى: وكذلك أخذ ربك من أخذه من الأمم المهلكة إذ أخذهم. وقراءة الجماعة على أنه مصدر، والمعنى: كذلك أخذ ربك من أراد إهلاكه متى أخذه، فإذ لما مضى، أي حين أخذ القرى، وإذا للمستقبل (وهى ظالمة) أي وأهلها ظالمون، فحذف المضاف مثل: " واسأل القرية " [ يوسف: 82 ]. (إن أخذه أليم شديد) أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة. وفي صحيح مسلم والترمذي حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى " الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. قوله تعالى: (إن في ذلك لآية) أي لعبرة وموعظة. (لمن خاف عذاب الآخرة). (ذلك يوم) ابتداء وخبر. (مجموع) من نعته. (له الناس) اسم ما لم يسم فاعله، ولهذا لم يقل مجموعون، فإن قدرت ارتفاع " الناس " بالابتداء، والخبر " مجموع له " فإنما لم يقل: مجموعون على هذا التقدير، لأن " له " يقوم مقام الفاعل. والجمع الحشر، أي يحشرون لذلك اليوم. (وذلك يوم مشهود) أي يشهده البر والفاجر، ويشهده أهل السماء. وقد ذكرنا هذين الاسمين مع غيرهما من أسماء القيامة في كتاب " التذكرة " وبينا هما والحمد الله. قوله تعالى: (وما نؤخره) أي ما نؤخر ذلك اليوم. (إلا لأجل معدود) أي لأجل سبق به قضاؤنا، وهو معدود عندنا. (يوم يأتي) وقرئ " يوم يأت " لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة، تقول: لا أدر، ذكره القشيري. قال النحاس: قرأه أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الإدراج، وحذفها في الوقف، وروي أن أبيا وابن مسعود قرأا " يوم يأتي " بالياء في الوقف والوصل. وقرأ الأعمش وحمزة " يوم يأت " بغير ياء في الوقف والوصل، قال أبو جعفر النحاس: الوجه في هذا ألا يوقف عليه، وأن يوصل بالياء، لأن جماعة من النحويين قالوا: لا تحذف الياء، ولا يجزم الشئ بغير جازم، فأما الوقف بغير ياء ففيه قول للكسائي، قال: لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم، فحذف الياء، كما
[ 97 ]
تحذف الضمة. وأما قراءة حمزة فقد احتج أبو عبيد لحذف الياء في الوصل والوقف بحجتين إحداهما - أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له إنه مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء. والحجة الأخرى - أنه حكى أنها لغة هذيل، تقول: ما أدر، قال النحاس: أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشئ يرده عليه أكثر العلماء، قال مالك بن أنس رحمه الله: سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقيل لي ذهب، وأما حجته بقولهم: " ما أدر " فلا حجة فيه، لأن هذا الحذف قد حكاه النحويون القدماء، وذكروا علته، وأنه لا يقاس عليه. وأنشد الفراء في حذف الياء. كفاك كف ما تليق درهما * جودا وأخرى تعط بالسيف الدما أي تعطي. وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول: لا أدر، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء، قال: والذي أراه اتباع المصحف وإجماع القراء، لأن القراءة سنة، وقد جاء مثله في كلام العرب. (لاتكلم نفس إلا بإذنه) الأصل تتكلم، حذفت إحدى التاءين تخفيفا. وفيه إضمار، أي لا تتكلم فيه نفس إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام، لأنهم ملجوءون إلى ترك القبيح. وقيل: المعنى لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه. وقيل: إن لهم في الموقف وقتا يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه. وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين. فيقول لم قال: " لاتكلم نفس إلا بإذنه " و " هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون " (1) [ المرسلات: 36 ]. وقال في موضع من ذكر القيامة: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " (2) [ الصافات: 27 ]. وقال: " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " (3) [ النحل: 111 ]. وقال: " وقفوهم إنهم مسئولون " (2) [ الصافات: 24 ]. وقال: " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " (4) [ الرحمن: 39 ]. والجواب ما ذكرناه، وأنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض، فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا، وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرا، وخطابه فارغ عن (1) راجع ج‍ 19 ص 164. (2) راجع ج‍ 15 ص 73 فما بعد، في الأصول " يتلاومون " وليست في المعنى المراد هنا. (3) راجع ج‍ 10 ص 193. (4) راجع ج‍ 17 ص 173. (*)
[ 98 ]
الحجة: ما تكلمت بشئ، وما نطقت بشئ، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم. وقال: قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام، فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه. (فمنهم شقى وسعيد) أي من الأنفس، أو من الناس، وقد ذكرهم قوله: " يوم مجموع له الناس ". والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة. والسعيد الذي كتبت عليه السعادة، قال لبيد: فمنهم سعيد آخذ بنصيبه * ومنهم شقي بالمعيشة قانع وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال لما نزلت هذه الآية " فمنهم شقي وسعيد " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله فعلام نعمل ؟ على شئ قد فرغ منه، أو على شئ لم يفرغ منه ؟ فقال: " بل على شئ قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له ". قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمر، وقد تقدم في " الأعراف " (1). قوله تعالى: (فأما الذين شقوا) ابتداء. (ففى النار) في موضع الخبر، وكذا (لهم فيها زفير وشهيق) قال أبو العالية: الزفير من الصدر. والشهيق من الحلق، وعنه أيضا ضد ذلك. وقال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، والشهيق من الأنين المرتفع جدا، قال: وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النهيق، والشهيق بمنزلة [ آخر ] صوت الحمار في النهيق. وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه، قال: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل: الزفير مثل أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته، قال الشاعر (2): حشرج في الجوف سحيلا (3) أو شهق * حتى يقال ناهق وما نهق وقيل: الزفير إخراج النفس، وهو أن يمتلئ الجوف غما فيخرج بالنفس، والشهيق رد النفس وقيل: الزفير ترديد النفس من شدة الحزن، مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته، (1) راجع ج‍ 7 ص 314. (2) هو العجاج والبيت من قصيدة له يصف فيها المفازة مطلعها: قاتم الأعماق خاوى المخترق * مشتبه الأعلام لماع الخفق (3) في ع: في الصدر، والسحيل: الصوت الذى يطور في صدر الحمار. (*)
[ 99 ]
والشهيق النفس الطويل الممتد، مأخوذ من قولهم: جبل شاهق، أي طويل (1). والزفير والشهيق من أصوات المحزونين. قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) " مادامت " في موضع نصب على الظرف، أي دوام السموات والأرض، والتقدير: وقت ذلك. واختلف في تأويل هذا، فقالت. طائفة منهم الضحاك: المعنى ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك، وفي التنزيل: " وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء " (2) [ الزمر: 74 ]. وقيل: أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار. عن دوام الشئ وتأبيده، كقولهم: لا آتيك ما جن ليل، أو سال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السموات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به طولا من غير نهاية، فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك. وإن كان قد أخبر بزوال السموات والأرض. وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السموات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتان أبدا في نور العرش. قوله تعالى: (إلا ما شاء ربك) في موضع نصب، لأنه استثناء ليس من الأول، وقد اختلف فيه على أقوال عشرة: الأولى - أنه استثناء من قوله: " ففي النار " كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما. وإنما لم يقل من شاء، لأن المراد العدد لا الأشخاص، كقوله: " ما طاب لكم " (3) [ النساء: 3 ]. وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية ". الثاني - أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار، وعلى هذا يكون قوله: " فأما الذين شقوا " عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من " خالدين "، قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل ناس (1) قال في النهاية: شاهق عال. (2) راجع ج‍ 15 ص 274. (3) راجع ج‍ 5 ص 12. (*)
[ 100 ]
جهنم حتى إذا صاروا كالحممة (1) أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميونن " وقد تقدم هذا المعنى في " النساء " (2) وغيرها. الثالث - أن الاستثناء من الزفير والشهيق، أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر. حكاه ابن الأنباري. الرابع - قال ابن مسعود: " خالدين فيها ما دامت السموات والأرض " لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها " إلا ما شاء ربك " وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم. قلت: وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق. الخامس - أن " إلا " بمعنى " سوى " كما تقول في الكلام: ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك (3). قيل: فالمعنى ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود. السادس - أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها. كما تقول في الكلام: أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل، فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة، قال: ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين: " خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك " من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب. والقول الآخر - وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره: " خالدين فيها ما دامت السموات ولأرض إلا ما شاء ربك " من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم. قلت: فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي (4) الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي، أي خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض، وذلك مدة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه: " يوم تبدل الأرض غير الأرض " (5) [ إبراهيم: 48 ] فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم (1) الحمم: الرماد والفحم وكل ما احترق من النار، والواحدة حمة. (2) راجع ج‍ 5 ص 332 (3) وعبارة البحر: لى عندك ألفا درهم إلا الألف التى كنت أسلفتك بعنى سوى تلك الألف. (4) يلاحظ أنه لم يذكر المصنف السابع ولعله هو هذا. (5) راجع ص 382 من هذا الجزء (*)
[ 101 ]
وأموالهم الجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفى بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السموات والأرض، فإنما دامتا للمعاملة، وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك، فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله، قال الله تعالى: " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق " [ الدخان: 39 ] فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة، ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية، فمن لقيه موحدا لأحديته بقي في داره أبدا، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا، فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال: " إلا ما شاء ربك " من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها، فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا. وقد قيل: إن " إلا " بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو - الثامن - والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السموات والأرض في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى: " إلا الذين ظلموا " (2) [ البقرة: 150 ] أي ولا الذين ظلموا. وقال الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان أي والفرقدان. وقال أبو محمد مكي: وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون " إلا " بمعنى الواو، وقد مضى في " البقرة " (2) بيانه. وقيل: معناه كما شاء ربك، كقوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " (4) [ النساء: 22 ] أي كما قد سلف، وهو - التاسع، العاشر - وهو أن قوله تعالى: " إلا ما شاء ربك " إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على حد قوله تعالى: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " (1) [ الفتح: 27 ] فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك، كأنه قال: إن شاء ربك، فليس يوصف بمتصل ولا منقطع، ويؤيده ويقويه قوله تعالى: " عطاء غير مجذوذ " ونحوه عن أبي عبيد قال: تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود (1) راجع ج‍ 16 ص 147 وص 289. (2) راجع ج‍ 2 ص 128. (3) البيت لعمرو ابن معدى كرب. وقيل هو لحضرمي بن عامر. ويجوز أن تكون " إلا " هنا بمعنى غير. قال سيبويه: كأنه قال وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، فقد نعت " كلا " بها. (4) راجع ج‍ 5 ص 103. (*)
[ 102 ]
الفريقين في الدارين، فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت في الخلود، قال: وهذا مثل قوله تعالى: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " [ الفتح: 27 ] وقد علم أنهم يدخلونه حتما، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا، إذ المشيئة قد تقدمة، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام، ونحوه عن الفراء. وقول: حادي عشر - وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم، وبيانه أن " ما " بمعنى " من " استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة. وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني، كأنه قال تعالى: " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك " ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخولهم الجنة يسمون السعداء، كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال: الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة. وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي " وأما الذين سعدوا " بضم السين. وقال أبو عمرو: والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا. قال النحاس: ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي " سعدوا " مع علمه بالعربية ! إذ كان هذا لحنا لا يجوز، لأنه إنما يقال: سعد فلان وأسعده الله، وأسعد مثل أمرض، وإنما احتج الكسائي بقولهم: مسعود ولا حجة له فيه، لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم يحذف فيه ويسمى به. قال المهدوي: ومن ضم السين من " سعدوا " فهو محمول على قولهم: مسعود وهو شاذ قليل، لأنه لا يقال: سعده الله، إنما يقال: أسعده الله. وقال الثعلبي: " سعدوا " بضم السين أي رزقوا السعادة، يقال: سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون " سعدوا " بفتح
[ 103 ]
السين قياسا على " شقوا " واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقال الجوهري: والسعادة خلاف الشقاوة، تقول: منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود، ولا يقال فيه: مسعد، كأنهم استغنوا عنه بمسعود. وقال القشيري أبو نصر عبد الرحيم: وقد ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد، فهذا يقوي قول الكوفيين وقال سيبويه: لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان، لأنه مما لا يتعدى. (عطاء غير مجذوذ) أي غير مقطوع، من جذه يجذه أي قطعه، قال النابغة: تجذ السلوقي المضاعف نسجه * وتوقد بالصفاح نار الحباحب (1) قوله تعالى: (فلاتك) جزم بالنهي، وحذفت النون لكثرة الاستعمال. (في مرية) أي في شك. (مما يعبد هؤلاء) من الآلهة أنها باطل. وأحسن من هذا: أي قل يا محمد لكل من شك " لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء " أن الله عز وجل ما أمرهم به، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم. (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) فيه ثلاثة أقوال: أحدها - نصيبهم من الرزق، قاله أبو العالية. الثاني - نصيبهم من العذاب، قال ابن زيد. الثالث - ما وعدوا به من خير أو شر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. قوله تعالى: ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب (110) قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك) الكلمة: أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح، ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر. قيل: المراد بين المختلفين في كتاب موسى، فإنهم كانوا بين مصدق [ به ] (2) ومكذب. وقيل: بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب، ولكن (1) البيت للنابغة الذبيانى يصف فيه السيوف. ويروى (تقد - ويوقدن). والسلوقي: الدرع المنسوب إلى سلوق، قرية باليمن. والمضاعف: الذى نسج حلقتين. والصفاح: الحجارة العراض. والحباحب: ذباب له شعاع بالليل، وقيل: نار الحباحب ما اقتدح من شرر النار في الهواء بتصادم حجرين. (2) من ا وو وى. (*)
[ 104 ]
سبق الحكم بتأخير العقاب هذه الأمة إلى يوم القيامة. (وإنهم لفى شك منه مريب) إن حملت على قوم موسى، أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن. قوله تعالى: وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير (111) قوله تعالى: (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم) أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم، فكذلك قومك يا محمد. واختلف القراء في قراءة " وإن كلا لما " فقرأ أهل الحرمين - نافع وابن كثير وأبو بكر معهم - " وإن كلا لما " بالتخفيف، على أنها " إن " المخففة من الثقيلة معملة، وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه، قال سيبويه: حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول: إن زيدا لمنطلق، وأنشد قول الشاعر (1): كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها، والبصريون يجوزون تخفيف " إن " المشددة مع إعمالها، وأنكر ذلك الكسائي وقال: ما أدري على أي شئ قرئ " وإن كلا " ! وزعم الفراء أنه نصب كلا " في قراءة من خفف بقوله: " ليوفينهم " أي وإن ليوفينهم كلا، وأنكر ذلك جميع النحويين، وقالوا: هذا من كبير الغلط، لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه (2). وشدد الباقون " إن " ونصبوا بها " كلا " على أصلها. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر " لما " بالتشديد. وخففها الباقون على معنى: وإن كلا ليوفينهم، جعلوا " ما " صلة. وقيل: دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما ب " ما ". وقال الزجاج: لام " لما " لام " إن " و " ما " زائدة مؤكدة، تقول: إن زيدا لمنطلق، فإن (1) هو: ابن صريم اليشكرى، وصدر البيت: ويوما توافينا بوجه مقسم يجوز نصب الظبية بكأن تشبيها بالفعل إذا حذف وعمل، والخبر محذوف لعلم السامع. ويجوز جر الظبية على تقدير: كظبية، وأن زائدة مؤكدة. (2) قال الطبري: وذلك أن العرب لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسما قبلها. (*)
[ 105 ]
تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك: إن الله لغفور رحيم، وقوله: " إن في ذلك لذكرى (1) ". واللام في " ليوفينهم " هي التي يتلقى بها القسم، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما ب " ما " و " ما " زائدة مؤكدة، وقال الفراء: " ما " بمعنى " من " كقوله: " وإن منكم لمن ليبطئن " [ النساء: 72 ] أي وإن كلا لمن ليوفينهم، واللام في " ليوفينهم " للقسم، وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج، غير أن " ما " عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى " من ". وقيل: ليست بزائدة، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد، وهي خبر " إن " و " ليوفينهم " جواب القسم، التقدير: وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم. وقيل: " ما " بمعنى " من " كقوله: " فانكحوا (2) ما طاب لكم من النساء " [ النساء: 3 ] أي من، وهذا كله هو قول الفراء بعينه. وأما من شدد " لما " وقرأ " وإن كلا لما " بالتشديد فيهما - وهو حمزة ومن وافقه - فقيل: إنه لحن، حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز، ولا يقال: إن زيدا إلا لأضربنه، ولا لما لضربته. وقال الكسائي: الله أعلم بهذه القراءة، وما أعرف لها وجها. وقال هو وأبو علي الفارسي: التشديد فيهما مشكل. قال النحاس وغيره: وللنحويين في ذلك أقوال: الأول - أن أصلها " لمن ما " فقلبت النون ميما، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت " لما " و " ما " على هذا القول بمعنى " من " تقديره: وإن كلا لمن الذين، كقولهم: وإني لما أصدر الأمر وجهه * إذا هو أعيا بالسبيل مصادره وزيف الزجاج هذا القول، وقال: " من " اسم على حرفين فلا يجوز حذفه. الثاني - أن الأصل. لمن ما، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات، والتقدير: وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. وقيل: " لما " مصدر " لم " وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف، فهي على هذا كقوله: " وتأكلون التراث أكلا لما " (3) [ الفجر: 19 ] أي جامعا للمال المأكول، فالتقدير على هذا: وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لما، أي جامعة لأعمالهم جمعا، فهو كقولك: قياما لأقومن. وقد قرأ الزهري " لما " بالتشديد والتنوين على هذا المعنى. الثالث - (1) راجع ج‍ 15 ص 245. (راجع ج‍ 5 ص 225 وص 12. (3) راجع ج‍ 20 ص 52. (*)
[ 106 ]
أن " لما " بمعنى " إلا " حكى أهل اللغة: سألتك بالله لما فعلت، بمعنى إلا فعلت، ومثله قوله تعالى: " إن كل نفس لما عليها حافظ " (1) [ الطارق: 4 ] أي إلا عليها، فمعنى الآية: ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم، قال القشيري: وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله: " وإن كلا لما " حتى تقدر " إلا " ولا يقال: ذهب الناس لما زيد. الرابع - قال أبو عثمان المازني: الأصل وإن كلا لما بتخفيف " لما " ثم ثقلت كقوله (2): لقد خشيت أن أرى جدبا * في عامنا ذا بعد ما أخصبا وقال أبو إسحاق الزجاج: هذا خطأ، إنما يخفف المثقل، ولا يثقل المخفف. الخامس - قال أبو عبيد القاسم بن سلام: يجوز أن يكون التشديد من قولهم: لممت الشئ ألمه لما إذا جمعته، ثم بني منه فعلى، كما قرئ " ثم أرسلنا رسلنا تترى " (3) [ المؤمنون: 44 ] بغير تنوين وبتنوين. فالألف على هذا للتأنيث، وتمال على هذا القول لأصحا الإمالة، قال أبو إسحاق: القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة، وتكون بمعنى " ما " مثل: " إن كل نفس لما عليها حافظ " [ الطارق: 4 ] وكذا أيضا تشدد على أصلها، وتكون بمعنى " ما " و " لما " بمعنى " إلا " حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين، وأن " لما " يستعمل بمعنى " إلا " قلت: هذا القول [ الذي ] (4) ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره، وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له، إلا أن ذلك القول صوابه (5) " إن " فيه نافية، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا (6) وبقيت قراءتان، قال أبو حاتم: وفي حرف أبي: " وإن كلا إلا ليوفينهم " (7) [ هود: 111 ] وروي عن الأعمش " وإن كل لما " بتخفيف " إن " ورفع " كل " وبتشديد " لما ". قال النحاس: وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها " إن " بمعنى " ما " لا غير، وتكون على التفسير، لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة. (إنه بما تعملون خبير) تهديد ووعيد. (1) راجع ج‍ 20 ص 3. (2) البيت لرؤبة. (3) راجع ج‍ 12 ص 124. (4) من ووى. (5) من ا وج‍ و و. (6) وردت العبارة الآتية بإحدى النسخ تصويبا لعبارة القرطبى، ومذيلة بكلمة. (حاشية): (صواب ما ذكره الشيخ رحمه الله أن يقول: إلا أن هذا القول " إن " فيه نافيه والقول المتقدم " إن " فيه مخففة من الثقيلة فافترقا). (7) في ى: وإن كلا إلا ليوفينهم. وفى الشواذ: وإن كل بفتح الكاف وتخفيف اللام لما. (*)
[ 107 ]
قوله تعالى: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير (112) قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته، قاله السدى. وقيل: " استقم " اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران [ منه ] (1). والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال، فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ! قال: " قل آمنت بالله ثم استقم ". وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني ! فقال: نعم ! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. (ومن تاب معك) أي استقم أنت وهم، يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب ! فقال: " شيبتني هود وأخواتها ". وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري (2) يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يارسول الله ! روي عنك أنك قلت: " شيبتني هود ". فقال: " نعم " فقلت له: ما الذي شيبك منها ؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم ! فقال: " لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت " (3). (ولا تطغوا) نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد، ومنه " إنا لما طغى الماء ". وقيل: أي لا تتجبروا على أحد. قوله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113) (1) من ا. (2) في الأصل (الشتوي) وصوب عن (الدر المنثور). (3) راجع ج‍ 18 ص 262. (*)
[ 108 ]
فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ولا تركنوا) الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشئ والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وكله متقارب. وقال ابن زيد: الركون هنا الإدهان (1) وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم. الثانية - قرأ الجمهور: " تركنوا " بفتح الكاف، قال أبو عمرو: هي لغة أهل الحجاز. وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما: " تركنوا " بضم الكاف، قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس. وجوز قوم ركن يركن مثل منع يمنع (2). الثالثة - قوله تعالى: (إلى الذين ظلموا) قيل: أهل الشرك. وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " (3) [ الأنعام: 68 ] الآية. وقد تقدم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم (4): عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في " آل عمران " (5) و " المائدة " (3). وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار. والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى: (فتمسكم النار) ي تحرقكم. بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم (6) وموافقتهم في أمورهم. قوله تعالى: وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذكرين (144) (1) الأدهان: المصانعة. (2) والآيه من باب تعب. (3) راجع ج‍ 6 ص 12 وج‍ 5 ص 417، وص 217. (4) هو طرفة بن العبد. (5) راجع ج‍ 4 ص 57. (6) في ى: أغراضهم ومرافقهم. (*)
[ 109 ]
فيه ست مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وأقم الصلوة طرفي النهار) لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النوائب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه (1) أمر فزع إلى الصلاة. وقال شيوخ الصوفية: إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادة فرضا ونفلا (2)، قال ابن العربي: وهذا ضعيف، فإن الأمر لم يتناول ذلك إلا واجبا لا نفلا، فإن الأوراد معلومة، وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة، وما سواها من الأوقات يسترسل عليها الندب على البدل لا على العموم، وليس ذلك في قوة بشر. الثانية - قوله تعالى: (طرفي النهار) قال مجاهد: الطرف الأول، صلاة الصبح، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر، واختاره ابن عطية. وقيل: الطرفان الصبح والمغرب، قال ابن عباس والحسن. وعن الحسن أيضا: الطرف الثاني العصر وحده، وقال قتادة والضحاك. وقيل: الطرفان الظهر والعصر. والزلف المغرب والعشاء والصبح، كأن هذا القائل راعى جهر القراءة. وحكى الماوردي أن الطرف الأول صلاة الصبح باتفاق. قلت: وهذا الاتفاق ينقصه القول الذي قبله. ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب، وأنه ظاهر، قال ابن عطية: ورد عليه بأن المغرب لا تدخل فيه لأنها من صلاة الليل. قال ابن العربي: والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب، وهما طرفا الليل ! فقلب القوس ركوة (3)، وحاد عن البرجاس (4) غلوة، قال الطبري: والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب، ولم يجمع معه على ذلك أحد. (1) (حزبه): نزل به مهم، أو أصابه غم. (2) كذا في ع و و. والذى في ابن العربي: لم يتناول ذلك لا واجبا فإنها خمس صلوات ولا نفلا. (3) لفظ المثل كما في الصحاح وغيره (صارت القوس ركوة) ويضرب في الإدبار وانقلاب الأمور. (4) البرجاس (بالضم): غرض على رأس رمح أو نحوه مولد. والغلوة: قدر رمية سهم. (*)
[ 110 ]
قلت: هذا تحامل من ابن العربي في الرد، وأنه لم يجمع معه على ذلك أحد، وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح، وقد وقع الاتفاق - إلا من شذ - بأن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه ذلك يوم فطر، وعليه القضاء والكفارة، وما ذلك إلا وما بعد طلوع الفجر من النهار، فدل على صحة ما قاله الطبري في الصبح، وتبقى عليه المغرب والرد عليه فيه ما تقدم. والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: (وزلفا من الليل) أي في زلف من الليل، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض، ومنه سميت المزدلفة، لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة. وقرأ ابن القعقاع وابن أبي إسحاق وغيرهما " وزلفا " بضم اللام جمع زليف، لأنه قد نطق بزليف، ويجوز أن يكون واحده " زلفة " لغة، كبسرة وبسر، في لغة من ضم السين. وقرأ ابن محيصن " وزلفا " من الليل بإسكان اللام، والواحدة زلفة تجمع جمع الأجناس التي هي أشخاص كدرة ودر وبرة وبر. وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضا " زلفى " مثل قربى. وقرأ الباقون " وزلفا " بفتح اللام كغرفة وغرف. قال ابن الأعرابي: الزلف الساعات، واحدها زلفة. وقال قوم: الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس، فعلى هذا يكون المراد بزلف الليل صلاة العتمة، قاله ابن عباس. وقال الحسن: المغرب والعشاء. وقيل: المغرب والعشاء والصبح، وقد تقدم. وقال الأخفش: يعني صلاة الليل ولم يعين. الرابعة - قوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين [ رضي الله عنهم أجمعين (1) ] إلى أن الحسنات هاهنا هي الصلوات الخمس وقال مجاهد: الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال ابن عطية: وهذا على جهة المثال في الحسنات، والذي يظهر أن اللفظ عام في الحسنات خاص في السيئات، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتنبت الكبائر ". قلت: سبب النزول يعضد قول الجمهور، نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو. وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج. روى (1) من ك (*)
[ 111 ]
الترمذي عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإنى أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله ! لو سترت على نفسك، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه: " أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: هذا له خاصة ؟ قال: " [ لا ] (1) بل للناس كافة ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرج أيضا عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت: " أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات " فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله ؟ فقال: " لك ولمن عمل بها من أمتي ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت: إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: " أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا " ؟ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار. قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه " أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ". قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه: يارسول الله ! ألهذا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال: " بل للناس عامة ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب (2)، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل جبريل عليه السلام عليه بالآية فدعاه فقال له: " أشهدت معنا (1) الزيادة عن الترمذي. (2) الذى في صحيح الترمذي (صحيح) بدل (غريب) (*)
[ 112 ]
الصلاة " ؟ قال نعم، قال: " اذهب فإنها كفارة لما فعلت ". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا عليه هذه الآية قال له: " قم فصل أربع ركعات ". والله أعلم. وخرج الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم، " إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " ". الخامسة - دلت الآية مع هذه الأحاديث على أن القبلة الحرام واللمس الحرام لا يجب فيهما الحد، وقد يستدل به على أن لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر، لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة ذكر هذا الحديث مشيرا إلى أنه لا يجب عليهما شئ، وسيأتي ما للعلماء في هذا في " النور " (1) إن شاء الله تعالى. السادسة - ذكر الله سبحانه في كتابه الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأسمائها فقال: " أقم الصلاة " الآية. وقال: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " (2) [ الإسراء: 78 ] الآية. وقال: " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون " (3) [ الروم: 17 - 18 ]. وقال: " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " (4) [ طه: 130 ]. وقال: " اركعوا واسجدوا " [ الحج: 77 ]. وقال: " وقوموا لله قانتين " (5) [ البقرة: 238 ]. وقال: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " (6) [ الأعراف: 204 ] على ما تقدم. وقال: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " (2) [ الإسراء: 110 ] أي بقراءتك، وهذا كله مجمل أجمله في كتابه، وأحال على نبيه في بيانه، فقال جل ذكره: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " (2) [ النحل: 44 ] فبين صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات فرضها وسننها، وما لا تصح [ الصلاة ] (7) إلا به من الفرائض وما يستحب فيها من السنن والفضائل، فقال في صحيح البخاري: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". ونقل ذلك عنه الكافة عن الكافة، على ما هو معلوم، ولم (1) راجع ج‍ 12 ص 161 وص 98. (2) راجع ج‍ 10 ص 303 وص 343 وص 108. (3) راجع ج‍ 14 ص 14. (4) راجع ج‍ 11 ص 260. (5) راجع ج‍ 3 ص 213. (6) راجع ج‍ 7 ص 353. (7) من ا وع. (*)
[ 113 ]
يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إليه، فكمل الدين، وأوضح السبيل، قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " (1) [ المائدة: 3 ]. قوله تعالى: (ذلك ذكرى للذاكرين) أي القرآن موعظة وتوبة لمن اتعظ وتذكر، وخص الذاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكرى. والذكرى مصدر جاء بألف التأنيث. قوله تعالى: واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (115) فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116) قوله تعالى: (واصبر) أي على الصلاة، كقوله: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " (2) [ طه: 132 ]. وقيل: المعنى واصبر يا محمد على ما تلقى من الأذى. (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) يعني المصلين. قوله تعالى (فلولا كان) أي فهلا كان. (من القرون من قبلكم) أي من الأمم التي قبلكم. (أولو بقية) أي أصحاب طاعة ودين وعقل وبصر. (ينهون) قومهم. (عن الفساد في الأرض) لما أعطاهم الله تعالى من العقول وأراهم من الآيات، وهذا توبيخ للكفار. وقيل: ولولا هاهنا للنفي، أي ماكان من قبلكم، كقوله: " فلولا كانت قرية آمنت " (3) [ يونس: 98 ] أي ما كانت. (إلا قليلا) استثناء منقطع، أي لكن قليلا. (ممن أنجينا منهم) نهوا عن الفساد في الأرض. قيل: هم قوم يونس، لقوله: " إلا قوم يونس ". وقيل: هم أتباع الأنبياء وأهل الحق. (واتبع الذين ظلموا) أي أشركوا وعصوا. (ما أترفوا فيه) أي من الاشتغال بالمال واللذات، وإيثار ذلك على الآخرة. (وكانوا مجرمين). * (هامش * (1) راجع ج‍ 6 ص 61. (2) راجع ج‍ 11 ص 263. (3) راجع ج‍ 8 ص 383.
[ 114 ]
قوله تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119) قوله تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى) أي أهل القرى. (بظلم) أي بشرك وكفر. (وأهلها مصلحون) أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق، أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط، ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ". وقد تقدم (1). وقيل: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح، لأنه تصرف في ملكه، دليله قوله: " إن الله لا يظلم الناس شيئا " (2) [ يونس: 44 ]. وقيل: المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون، أي مخلصون في الإيمان. فالظلم المعاصي على هذا. قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها. وقال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى. (ولا يزالون مختلفين) أي على أديان شتى، قاله مجاهد وقتادة. (إلا من رحم ربك) استثناء منقطع، أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف. وقيل: مختلفين في الرزق، فهذا (1) راجع ج‍ 6 ص 342 فما بعدها. (2) راجع ج‍ 8 ص 346. (*)
[ 115 ]
غني وهذا فقير. " إلا من رحم ربك " بالقناعة، قاله الحسن. (ولذلك خلقهم) قال الحسن ومقاتل، وعطاء [ ويمان ] (1): الإشارة للاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ولرحمته خلقهم، وإنما قال: " ولذلك " ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر، وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل. وقيل. الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشار ب " ذلك " إلى شيئين متضادين، كقوله تعالى: " لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك " (2) [ البقرة: 68 ] ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " (3) [ الفرقان: 67 ] وقال: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " (4) [ الإسراء: 110 ] وكذلك قوله: " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا " (5) [ يونس: 58 ] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى، لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم، وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب، قال أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنه وفريق في السعير، أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة. وروي عن ابن عباس أيضا قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. قال المهدوي: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير، المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم. وقيل: هو. متعلق بقوله " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " [ هود: 103 ] والمعنى: ولشهود ذلك اليوم خلقهم. وقيل: هو متعلق بقوله: " فمنهم شقي وسعيد " [ هود: 105 ] أي للسعادة والشقاوة خلقهم. قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك) معنى " تمت " ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله، وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل. (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) " من " لبيان الجنس، أي من جنس الجنة وجنس الناس. " أجمعين " تأكيد، وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه [ صلى الله (6) عليه وسلم ] أنه يملأ جنته بقوله: " ولكل واحدة منكما ملؤها ". خرجه البخاري من حديث أبى هريرة وقد تقدم. (1) من ع، ا، و، ى. (2) راجع ج‍ 1 ص 448. (3) راجع ج‍ 13 ص 72. (4) راجع ج‍ 10 ص 343. (5) راجع ج‍ 8 ص 353. (6) من ع. (*)
[ 116 ]
قوله تعالى: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120) قوله تعالى: (وكلا نقص عليك) " كلا " نصب ب " نقص " معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك. وقال الأخفش: " كلا " حال مقدمة، كقولك: كلا ضربت القوم. (من أنباء الرسل) أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم. (ما نثبت به فؤادك) أي على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى. وقيل: نزيدك به تثبيتا ويقينا. وقال ابن عباس: ما نشد به قلبك. وقال ابن جريج: نصبر به قلبك حتى لا تجزع. وقال أهل المعاني: نطيب، والمعنى متقارب. و " ما " بدل من " كلا " المعنى: نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. (وجاءك في هذه الحق) أي في هذه السورة، عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما، وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار. وقيل: خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن. وقال قتادة والحسن: المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة. (وموعظة وذكرى للمؤمنين) الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة، وهذا تشريف لهذه السورة، لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة (1) والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص. " وذكرى للمؤمنين " أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون، وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء. قوله تعالى: وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون (121) وانتظروا إنا منتظرون (122) ولله غيب السموت والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغفل عما تعملون (123) (1) في ع: المواعظ. (*)
[ 117 ]
قوله تعالى: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم) تهديد ووعيد. (إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون) تهديد آخر، وقد تقدم معناه. قوله تعالى: (ولله غيب السموات والأرض) أي غيبهما وشهادتهما، فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن عباس: خزائن السموات والأرض وقال الضحاك: جميع ما غاب عن العباد فيهما. وقال الباقون: غيب السموات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض. وقال أبو علي الفارسى: " ولله غيب السموات والأرض " أي علم ما غاب فيهما، أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا، لأنه حذف حرف الجر، تقول: غبت في الأرض وغبت ببلد كذا. (وإليه يرجع الأمر كله) أي يوم القيامة، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. وقرأ نافع وحفص " يرجع " بضم الياء وبفتح الجيم، أي يرد. (فاعبده وتوكل عليه) أي الجأ إليه وثق به. (وما ربك بغافل عما تعملون) أي يجازي كلا بعمله. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة. الباقون بياء على الخبر. قال الأخفش سعيد: " يعملون " إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم، قال: بعضهم وقال: " تعملون " بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهم " وما ربك بغافل عما تعملون ". وقال كعب الأحبار: خاتمة التوراة خاتمة " هود " من قول: " ولله غيب السموات والأرض " إلى آخر السورة. تمت سورة " هود " ويتلوها سورة " يوسف " عليه السلام.
[ 118 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة يوسف عليه السلام وهي مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة، وسيأتي. وقال سعد ابن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو قصصت علينا، فنزل: " نحن نقص عليك " [ يوسف: 3 ] فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو حدثتنا، فأنزل: " الله نزل أحسن الحديث " (1) [ الزمر: 23 ]. قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل. قوله تعالى: الر تلك ءايت الكتب المبين (1) قوله تعالى: (الر) (2) تقدم القول فيه، والتقدير هنا: تلك آيات الكتاب، على الابتداء والخبر. وقيل: " الر " اسم السورة، أي هذه السورة المسماة " الر " (تلك آيات الكتاب المبين) يعني [ بالكتاب (3) المبين ] القرآن المبين، أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته. وقيل: أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة. قوله تعالى: إنا أنزلنه قرءنا عربيا لعلكم تعقلون (2) قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) يجوز أن يكون المعنى: إنا أنزلنا القرآن عربيا، نصب " قرآنا " على الحال، أي مجموعا. و " عربيا " نعت لقوله " قرآنا ". ويجوز أن يكون توطئة للحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، و " عربيا " على الحال، (1) راجع ج‍ 15 ص 248. (2) راجع ج‍ 1 ص 154 فما بعد. (3) من ع. (*)
[ 119 ]
أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب. أعرب بين، ومنه الثيب تعرب عن نفسها. (لعلكم تعقلون) أي لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه. وبعض العرب يأتي بأن مع " لعل " تشبيها بعسى. واللام في " لعل " زائدة للتوكيد، كما قال الشاعر (1): يا أبتا علك أو عساكا وقيل: " لعلكم تعقلون " أي لتكونوا على رجاء من تدبره، فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب، ولا إلى الله عز وجل. وقيل: معنى " أنزلناه " أي أنزلنا خبر يوسف، قال النحاس: وهذا أشبه بالمعنى، لأنه يروى أن اليهود قالوا: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن خبر يوسف، فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه زيادة ليست عندهم. فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا [ قط ] (2) ولاهو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه. قوله تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3) قوله تعالى: (نحن نقص عليك) ابتداء وخبره. (أحسن القصص) بمعنى المصدر، والتقدير: قصصنا أحسن القصص. وأصل القصص تتبع الشئ، ومنه قول تعالى: " وقالت لأخته قصيه " (3) [ القصص: 11 ] أي تتبعي أثره، فالقاص يتبع الآثار فيخبر بها. والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة. يقال: فلان حسن الاقتصاص للحديث أي جيد السياقة له. وقيل: القصص ليس مصدرا، بل هو في معنى الاسم، كما يقال: الله رجاؤنا، أي مرجونا فالمعنى على هذا: نحن نخبرك بأحسن الأخبار. (بما أوحينا إليك) أي بوحينا ف‍ " ما " مع الفعل بمنزلة المصدر. (هذا القرآن) نصب القرآن على أنه نعت لهذا، أو بدل منه، أو عطف بيان. وأجاز الفراء الخفض، قال: على التكرير، وهو عند البصريين على البدل من " ما ". (1) الرجز للعجاج، وصدر البيت. تقول بنتى قد أنى أناكما (2) من ع. (3) راجع ج‍ 13 ص 254. (*)
[ 120 ]
وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ، كان سائلا سأله عن الوحى فقيل له: هو [ هذا ] (1) القرآن. (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) أي من الغافلين عما عرفناكه (1). مسألة: - وأختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص ؟ فقيل: لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة، وبيانه قوله في آخرها: " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " (2) [ يوسف: 111 ]. وقيل: سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم، حتى قال: " لا تثريب عليكم اليوم " (2) [ يوسف: 92 ]. وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين، والجن والإنس والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما. وقيل: " أحسن " هنا بمعنى أعجب. وقال بعض أهل المعاني: إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة، انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز، قيل: والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال: فما كان أمر الجميع إلا إلى خير. قوله تعالى: إذ قال يوسف لأبيه يأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين (4) قوله تعالى: (إذ قال يوسف) " أذ " في موضع نصب على الظرف، أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف " يؤسف " بالهمز وكسر السين. وحكى أبو زيد: " يؤسف " بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي، وقيل: هو عربي. وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن " يوسف " فقال: الأسف في اللغة (1) من ع وى. (2) راجع ص 277 وص 255 من هذا الجزء. (*)
[ 121 ]
الحزن، والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف، فلذلك سمي يوسف. (لأبيه يا أبت) بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال: رجل نكحة وهزأة، قال النحاس: إذا قلت " يا أبت " بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة، ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل: منها - أن قولك: " يا أبه " يؤدي عن معنى " يا أبي "، وأنه لا يقال: " يا أبت " إلا في المعرفة، ولا يقال: جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال: " يا أبتي " لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال: " يا أبت " فكسر دل على الياء لا غير، لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال: " يا أبتي " ؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبد الله بن عامر " يا أبت " بفتح التاء، قال البصريون: أرادوا " يا أبتي " بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت " يا أبتا " فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء. وقيل: الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال: يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء " يا أبت " بضم التاء. (أنى رأيت أحد عشر كوكبا) ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال: جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما، جعلوا الا سمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي: أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا، رواه الحارث بن أبي أسامة قال: جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال: " الحرثان (1) والطارق والذيال وقابس والمصبح (2) والضروح (3) وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان، رآها يوسف عليه السلام تسجد له ". قال ابن عباس وقتادة: الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه. وقال قتادة أيضا: الشمس خالته، لأن أمه كانت قد ماتت، وكانت خالته تحت (1) في حاشية الجمل: جريان - بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية منقول من اسم طوق القميص. وقابس مقتبس النار وعمودان تثنية عمود والفليق نجم منفرد والمصبح ما يطلع قبل الفجر والفرع بفاء وراء مهملة ساكنة وعين: نجم عند الدلو. ووثاب بتشديد المثلة سريع الحركة وذو الكتفين تثنية كتف نجم كبير. وهذه نجوم غير مرصودة. (2) كذا في " عقد الجمان " للعينى، وفى الأصل " النطح ". (3) وفى الجمل " الصروخ ". (*)
[ 122 ]
أبيه. (رأيتهم) توكيد. وقال: " رأيتهم لى ساجدين " فجاء مذكرا، فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة السجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنهما كما يخبر عمن يعقل. وقد تقدم هذا المعنى في قوله: " وتراهم ينظرون إليك (1) ". والعرب تجمع مالا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزله، وإن كان خارجا عن الأصل. قوله تعالى: قال يبنى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطن للإنسان عدو مبين (5) وفيه إحدى عشرة مسألة: الأولى - قوله تعالى: (فيكيدوا لك كيدا) أي يحتالون في هلاكك، لأن تأويلها ظاهر، فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ. واللام في " لك " تأكيد، كقوله: " إن كنتم للرؤيا تعبرون ". الثانية - الرؤيا حالة شريفة، ومنزلة رفيعة، قال صلى الله عليه وسلم: " لم يبق بعدى من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له ". وقال: أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ". وحكم صلى الله عليه وسلم بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وروى " من سبعين جزءا من النبوة ". وروى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما " جزءا من أربعين جزءا من النبوة ". ومن حديث ابن عمر " جزء من تسعة وأربعين جزءا ". ومن حديث العباس " جزء من خمسين جزءا من النبوة ". ومن حديث أنس " من ستة وعشرين " وعن عبادة بن الصامت " من أربعة وأربعين من النبوة ". والصحيح منها حديث الستة والأربعين، ويتلوه في الصحة حديث السبعين، ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ، قاله ابن بطال. قال أبو عبد الله المازوى: والأكثر والأصح عند أهل الحديث " من ستة وأربعين ". قال الطبري: والصواب أن (1) راجع ج‍ 7 ص 344. (*)
[ 123 ]
يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول، فأما قوله: " إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة " فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان، وأما قوله: " إنها من أربعين - أو - ستة وأربعين " فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التى ذكرت عن الصديق - رضى الله عنه - أنه كان بها، فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات (1)، والصبر في الله على المكروهات، وأنتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه صالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءا من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزءين، ما بين الأربعين إلى الستين، ولا تنقص عن سبعين، وتزيد على الأربعين، وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر ابن عبد البر فقال: اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي ختلاف متضاد متدافع - والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين، فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفناه تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد، فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه، كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب: كما أن الأنبياء يتفاضلون، قال الله تعالى: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض (2) ". قلت: فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون البعض وطرحه، ذكره أبو سعيد الأسفاقسى (3) عن بعض أهل العلم قال: معنى قوله: " جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا، وإلى هذا القول أشار المازرى في كتابه " المعلم " واختاره القونوى (4) في تفسيره من سورة " يونس " عند قوله تعالى: " لهم البشرى في الحياة الدنيا ". وهو فاسد من وجهين: (1) السبرات (جمع سبرة) بسكون الباء: شدة البرد. (2) راجع ج‍ 10 ص 278. (3) كذا في الأصول وصوابه: الصفاقسى. (4) في ع: الغزنوى. (4) راجع ج‍ 8 ص 458. (*)
[ 124 ]
أحدهما - ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحى كانت عشرين سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشر سنين، وهو قول عروة والشعبى وابن شهاب والحسن وعطاء والخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وهى رواية ربيعة وأبى غالب عن أنس، وإذا ثبت هذا الحديث (1) بطل ذلك التأويل - الثاني: أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى. الثالثة - إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة، لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شئ من علم الغيب، كما قال عليه السلام: " إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم " الحديث. وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة، قال صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا من الله والحلم من الشيطان " وأن التصديق بها حق، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه، ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأى والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشر ذمة من المعتزلة. الرابعة - إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من ا لنبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها ؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحه صادقة، كمنام رؤيا الملك الذى رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن، ورؤيا بختنصر، التى فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومنام عاتكة، عمة رسول الله صلى ا لله عليه وسلم في أمره وهى كافرة، وقد ترجم البخاري " باب رؤيا أهل السجن " - فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحى ولا من النبوة، إذ ليس كل من صدق في حديثه عن غيب يكون خبره ذلك نبوة، وقد تقدم في " الأنعام " (2) أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء، قال المهلب: إنما ترجم البخاري (1) في ع وى: هذا الخلاف. (2) راجع ج‍ 7 ص 3 فما بعدها. (*)
[ 125 ]
بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة. الخامسة - الرؤيا المضافة إلى الله تعالى التى خلصت من الأضغاث والأوهام، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ، والتى هي من خبر (1) الأضغاث هي الحلم، وهى المضافة إلى الشيطان، وإنما سميت ضغثا، لأن فيها أشياء متضادة، قال معناه المهلب. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقساما تغنى عن قول كل قائل، روى عوف ابن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة،. قال قلت: سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم ! سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. السادسة - قوله تعالى: (قال يبنى لا تقصص رؤياك على إخوتك) الآية. الرؤيا مصدر رأى في المنام، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى، وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف. وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا، فقيل: هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة، كالنوم المستغرق وغيره، ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم، فيخلق الله تعالى للرائى علما ناشئا، ويخلق له الذى يراه على ما يراه ليصح الإدراك، قال ابن العربي: ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال، وإنما يرى الجائزات المعتادات. وقيل إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورا محسوسه، فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفى الحالتين تكون مشرة أو منذرة، قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: " رأيت سوداء (2) ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة (3) فأولتها الحمى ". (1): ع حيز. (2) أي امرأة سوداء، كما في رواية النسائي. (3) المهيعة: هي الجحفة، ميقات أهل الشام. (*)
[ 126 ]
و " رأيت سيفى قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتها رجل من أهل بيتى يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون ". و " رأيت أنى أدخلت يدى في درع حصينة فأولتها المدينة ". و " رأيت في يدى سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدى ". إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال، ومنها ما يظهر معناه أولا [ فأول ] (1)، ومنها ما لا يظهر إلابعد التفكر، وقد رأى النائم في زمن يوسف عليه السلام بقرا فأولها يوسف السنين، ورأى أحد عشر كوكبا فأولها بإخوته وأبويه. السابعة - إن قيل: إن يوسف عليه السلام كان صغيرا حين رؤياه، والصغير لاحكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه: " لاتقصص رؤياك على إخوتك " ؟ فالجواب - أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام، وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض، ورى أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتى عشرة سنة. الثامنة - هذه الآية أصل في ألا نقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها، روى أبو رزين العقيلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة ". و " الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا " أخرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح، وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر. وقيل لمالك: أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال: أبالنبوة يلعب ؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت، قيل: فهل يعبرها على الخير وهى عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه ؟ فقال: لا ! ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة. التاسعة - وفى هذه الآيه دليل على أن مباحا أن يحذر المسلم (2) أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة، لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن (1) من ع وو وى. (2) في ع: الرجل. (*)
[ 127 ]
يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له، وفيها ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلتة حسدا وكيدا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " استعينوا على [ إنجاح ] (1) حوائجكم بالكتمان فإن كل ذى نعمة محسود ". وفيها دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا، فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم، ولم يبال بذلك من نفسه، فإن الرجل يود أن يكون ولده خير منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه. ويدل أيضا على أن يعقوب عليه السلام كان أحس من بنيه حسد يوسف وبغضه، فنهاه عن قصص (2) الرؤيا عليهم خوفا أن تغل بذلك صدورهم، فيعملوا الحيلة في هلاكه، ومن هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير انبياء في ذلك الوقت، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبى، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من الكبائر، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتى. العاشرة - روى البخاري عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لم يبق من النبوة إلا المبشرات " قالوا: وما المبشرات ؟ قال: " الرؤيا الصالحة " وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك، فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه، فإن أدرك تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك، وقد تقدم في " يونس " في تفسير قوله تعالى: " لهم البشرى في الحياة الدنيا " (3) [ يونس: 64 ] أنها الرؤيا الصالحة. وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب، والله أعلم. (1) الزيادة عن " الجامع الصغير ". (2) في ع: قص. (3) راجع ج‍ 8 ص 458. (*)
[ 128 ]
الحادية عشر - روى البخاري عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتاده يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ". قال علماؤنا: فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها، ألا ترى قول أبي قتادة: إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا. وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ". وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ". قال علماؤنا: وهذا كله ليس بمتعارض، وإنما هذا الأمر بالتحول، والصلاة زيادة، فعلى الرائي أن يفعل الجميع، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع، لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور، لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه، وإذا تمضمض تفل وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة، وذلك السحر من الليل. قوله تعالى: وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلئ ال يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبرهيم وأسحق أن ربك عليم حكيم (6) قوله تعالى: (وكذلك يجتبيك ربك) الكاف في موضع نصب، لأنها نعت لمصدر محذوف، وكذلك الكاف في قوله: " كما أتمها على أبويك من قبل " و " ما " كافة. وقيل: " وكذلك " أي كما أكرمك بالرؤيا فكذلك يجتبيك، ويحسن إليك بتحقيق الرؤيا. قال مقاتل: بالسجود لك. الحسن: بالنبوة. والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى، وأصله من جبيت
[ 129 ]
الشئ أي حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض، قال النحاس. وهذا ثناء من الله تعالى على يوسف عليه السلام، وتعديد فيما عدده عليه من النعم التي آتاه الله تعالى، من التمكين في الأرض، وتعليم تأويل الأحاديث، وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا. قال عبد الله بن شداد بن الهاد: كان تفسير رؤيا يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أربعين سنة، وذلك منتهى الرؤيا. وعنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام، وهي معجزة له، فإنه لم يلحقه فيها خطأ. وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم، والطبع والإحسان، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا. وقد قيل في تأويل قوله: (ويعلمك من تأويل الأحاديث) أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد، فهو إشارة إلى النبوة، وهو المقصود بقوله: (ويتم نعمته عليك) أي بالنبوة. وقيل: بإخراج إخوتك، إليك، وقيل: بإنجائك من كل مكروه. (كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم) بالخلة، وإنجائه من النار. (وإسحق) بالنبوة. وقيل: من الذبح (1)، قاله عكرمة. بما يعطيك. وأعلمه الله تعالى بقوله: " وعلى آل يعقوب " أنه سيعطى بنى يعقوب كلهم النبوة، قاله جماعة من المفسرين. (إن ربك عليم) بما يعطيك. (حكيم) في فعله بك. قوله تعالى: لقد كان في يوسف وإخوته ءايت للسائلين (7) إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلل مبين (8) اقتلوا يوسف إو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9) قوله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) يعني، من سأل عن حديثهم. وقرأ أهل مكة " آية " على التوحيد، واختار أبو عبيد " آيات " على الجمع، قال: لأنها خير كثير. قال النحاس: و " آية " هنا قراءة حسنة، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر (1) تقدم أن الذبيح هو إسماعيل وهو الحق وسيأتى في " والصافات " أيضا، وفى ع: والفدا من الذبح. (*)
[ 130 ]
يوسف آية فيما خبروا به، لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر، فبكى عليه حتى عمي ؟ - ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب، ولا من يعرف خبر الأنبياء، وإنما وجه اليهود [ إليهم ] (1) من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله عز وجل سورة " يوسف " جملة واحدة، فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة، فكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم، بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت. " آيات " (2) موعظة، وقيل: عبرة. وروي أنها في بعض المصاحف " عبرة ". وقيل: بصيرة. وقيل: عجب، تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب. قال الثعلبي في تفسيره: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه، وقال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه ! فبغوه بالعداوة، وقد تقدم رد هذا القول. قال الله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوته) وأسماؤهم: روبيل وهو أكبرهم، وشمعون ولاوى ويهوذا وزيالون ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان، وهي بنت خال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة نفر، دان ونفتالي وجاد وآشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. قال السهيلي: وأم يعقوب اسمها رفقا، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب. وقيل: في اسم الأمتين ليا وتلتا، كانت إحداهما لراحيل، والأخرى لأختها ليا، وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب، وكان يعقوب قد جمع بينهما، ولم يحل لأحد بعده، لقول الله تعالى: " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " (3) [ النساء: 23 ]. وقد تقدم الرد على ما قاله ابن زيد، والحمد لله. قوله تعالى: (إذ قالوا ليوسف) " يوسف " رفع بالابتداء، واللام للتأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم، أي والله ليوسف. (وأخوه) عطف عليه. (أحب إلى أبينا منا) خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل، وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده. (ونحن عصبة) أي جماعة، وكانوا عشرة. والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر. وقيل: ما بين الأربعين إلى العشرة، ولا واحد لها من لفظها كالنفر (1) من ع وز ك وى. (2) في ع: آية. بالتوحيد وهو المطابق للتفسير. راجع ج‍ 5 ص 116. (*)
[ 131 ]
والرهط. (إن أبانا لفى ظلال مبين) لم يريدوا ضلال الدين، إذ لو أرادوه لكانوا كفارا، بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير، في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه. وقيل: لفي خطأ ببن بإيثاره يوسف وأخاه علينا. قولته تعالى: (اقتلوا يوسف) في الكلام حذف، أي قال قائل منهم: " اقتلوا يوسف " ليكون أحسم لمادة الأمر. (أو اطرحوه أرضا) أي في أرض، فأسقط الخافض وانتصب الأرض، وأنشد سيبويه فيما حذف منه " في ": لدن بهز الكف يعسل متنه * فيه كما عسل الطريق الثعلب (1) قال النحاس: إلا أنه في الآية حسن كثير، لأنه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف، فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه. والقائل قيل: هو شمعون، قال وهب بن منبه. وقال كعب الأحبار، دان. وقال مقاتل: روبيل، والله أعلم. والمعنى أرضا تبعد عن أبيه، فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض (2). (يخل) جزم لأنه جواب الأمر، معناه: يخلص ويصفو. (لكم وجه أبيكم) فيقبل عليكم بكليته. (وتكونوا من بعده) أي من بعد الذنب، وقيل: من بعد يوسف. (قوما صالحين) أي تائبين، أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم، وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. وقيل: " صالحين " أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل. قوله تعالى: قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيبت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فعلين (10) (1) البيت لساعدة بن جؤية وقد وصف فيه رمحا لين الهز، فشبه اظطرابه في نفسه أو في حال هزه بعسلان الثعلب في سيره، والعسلان: سير سريع في اظطراب. واللدن الناعم اللين. ويروى: لذ أي مستلذ عند الهز للينه. (شواهد سيبويه). (2) في ع: أرضه. (*)
[ 132 ]
فيه ثلاث عشر مسألة: الأولى - قوله تعالى: (قال قائل منهم) القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب، قاله ابن عباس. وقيل: روبيل، وهو ابن خالته، وهو الذي قال: " فلن أبرح الأرض " [ يوسف: 80 ] [ الآية ] (2). وقيل: شمعون. (وألقوه في غيابة الجب) قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة " في غيابة الجب ". وقرأ أهل المدينة " في غيابات الجب " واختار أبو عبيد التوحيد، لأنه على موضع واحد ألقوه فيه، وأنكر الجمح لهذا. قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة، " وغيابات " على الجمع يجوز [ من وجهين ]: حكى سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات، يريد عشية وأصيلا، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا، فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة. [ والآخر - أن يكون في الجب غيابات (جماعة). ويقال: غاب يغيب ] غيبا وغيابة وغيابا، كما قال الشاعر: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث * أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا قال الهروي: والغيابة شبه لجف (3) أو طاق في البئر فويق الماء، يغيب الشئ عن العين. وقال ابن عزيز: كل شئ غيب عنك شيئا فهو غيابة. قلت: ومنه قيل للقبر غيابة، قال الشاعر: فإن أنا يوما غيبتني غيابتي * فسيروا بسيري في العشيرة والأهل والجب الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر، قال الأعشى: لئن كنت في جب ثمانين قامة * ورقيت أسباب السماء بسلم (4) وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا، وجمع الجب جببة وجباب وأجباب، وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين. قيل: (1) من ع. (2) الزيادة عن النحاس. (3) اللجف: الناحية من الحوض أو البئر يأكله الماء فيصير كالكهف. (4) بعده كما في الديوان: ليستدرجنك القول حتى تهره * وتعلم أنى عنك لست بمجرم وتشرق بالقول الذى قد أذعته * كما شرقت صدر القناة من الدم (*)
[ 133 ]
هو بئر بيت المقدس، وقيل: هو بالأردن، قال وهب بن منبه. مقاتل: وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. الثانية - قوله تعالى: (يلتقطه بعض السيارة) جزم على جواب الأمر. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة: " تلتقطه " بالتاء، وهذا محمول على المعنى، لأن بعض السيارة سيارة، وقال سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد (1): وتشرق بالقول الذي قد أذعته * كما شرقت صدر القناة من الدم وقال آخر: أرى مر السنين أخذن مني * كما أخذ السرار (2) من الهلال ولم يقل شرق ولا أخذت. والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر، وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود، فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد، وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم، فربما لا يأذن لهم أبوهم، وربما يطلع على قصدهم. الثالثة - وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولا ولا آخرا، لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا. وقيل: كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، فكانت هذه زلة منهم، وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه. وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله، وهذا أشبه، والله أعلم. الرابعة - قال ابن وهب قال مالك: طرح يوسف في الجب وهو غلام، وكذلك روى ابن القاسم عنه، يعني أنه كان صغيرا، والدليل عليه قوله تعالى: " لا تقتلوا يوسف وألقوه (1) البيت للأعشى، وهو يخاطب يزيد بن مسهر الشيباني، وكانت بينهما مباينة ومهاجات، فيقول له: يعود عليك مكروه ما أذعت عنى من القول ونسبته إلى من القبيح، فلا تجد منه مخلصا. والشرق بالماء كالغصص بالطعام. (2) سرار الشهر (بفتح السين المهملة وكسرها) وسرره: آخر ليلة منه.
[ 134 ]
في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة " قال: ولا يلتقط إلا الصغير، وقوله: " وأخاف أن يأكله الذئب " [ يوسف: 13 ] وذلك [ أمر ] (1) يختص بالصغار، وقولهم: " أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون " [ يوسف: 12 ]. الخامسة - الالتقاط تناول الشئ من الطريق، ومنه اللقيط واللقطة، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة، قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشئ على غير طلب، ومنه قوله تعالى: " يلتقطه بعض السيارة " أي يجده من غير أن يحتسبه. وقد اختلف العلماء في اللقيط، فقيل: أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد، وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر، وتلا " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة " [ يوسف: 20 ] وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك، وهو قول عمر بن الخطاب، وكذلك روي عن علي وجماعة. وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الحسبة فهو حر. وقال مالك في موطئه: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر، وأن ولاءه لجماعة المسلمين، هم يرثونه ويعقلون عنه، وبه قال الشافعي، واحتج بقوله عليه السلام: " وإنما الولاء لمن أعتق " قال: فنفى الولاء عن غير المعتق. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا، ولا يرثه أحد بالولاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين: اللقيط يوالي من شاء، فمن ولاه فهو يرثه ويعقل عنه، وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء، ما لم يعقل عنه الذي والاه، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: المنبوذ حر، فان أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه، ونحوه عن عطاء، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة، وهو حر. قال ابن العربي: إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد، فقضى بالغالب، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب، فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم: يحكم بالأغلب، فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني، وإلا فهو مسلم، إلا أن يكون أكثر أهل القرية (1) من ع وك وى. (*)
[ 135 ]
على غير الإسلام. وقال غيره: لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه، وهو مقتضى قول أشهب، قال أشهب: هو مسلم أبدا، لأني أجعله مسلما على كل حال، كما أجعله حرا على كل حال. واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل (1) البينة على أنه عبد، فقالت طائفة من أهل المدينة: لا يقبل قولها (2) في ذلك، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر: هو حر، ومن قضى بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد. وقال ابن القاسم: تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي. السادسة - قال مالك في اللقيط: إذا انفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شئ على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم. وقال الأوزاعي: كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق. وقال الشافعي: إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم يكن ففيه قولان: أحدهما - يستقرض له في ذمته. والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض. السابعة - وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما، فقالت طائفة من أهل العلم: اللقطة والضوال سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي (3)، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة غير الحيوان - وقال هذا غلط، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك للمسلمين: " إن أمكم ضلت قلادتها " فأطلق ذلك على القلادة. الثامنة - أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها، فأي ذلك تخير كان (1) في ع وك وو وى: تشهد. (2) كذا في الإصول. (3) في ع: الطبري. (*)
[ 136 ]
ذلك له بإجماع، ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة، ولا تصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها. التاسعة - واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها، فمن ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا. وقال في الشاة: " لك أو لأخيك أو للذئب " يحضه على أخذها، ولم يقل في شئ دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه. ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في ضالة الإبل، والله أعلم. وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة، إن شاء أخذها وإن شاء تركها، هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله. وقال المزني عن الشافعي: لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها، قال: وسواء قليل اللقطة وكثيرها. العاشرة - روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: " اعرف عفاصها (1) ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها " قال: فضالة الغنم يا رسول الله ؟ قال: " لك أو لأخيك أو للذئب " قال: فضالة الإبل ؟ قال: " ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ". وفي حديث أبي قال: " احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها " ففي هذا الحديث زيادة العدد، خرجه مسلم وغيره. وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها، فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له، قال ابن القاسم: يجبر على دفعها، فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا ؟ قولان: الأول لأشهب، والثاني لابن القاسم، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له، وهو بخلاف نص الحديث، (1) العفاص: الوعاء الذى سكون به النفقة، جلدا كان أو غيره. والوكاء هو الخيط الذى يشد به الوعاء. والمراد بالعفاص والوكاء أن يعلم الملتقط صدق واصفها من كذبه، وبالحذاء خفها، فهى تقوى بأخفافها على السير وورود الماء والشجر. (*)
[ 137 ]
ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى، فإنه يستحقها بالبينة على كل حال، ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة. والله أعلم. الحادية عشرة - نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما، وسكت عما عداهما من الحيوان. وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم ؟ قولان، وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط، وقال أشهب وابن كنانة: لا تلتقط، وقول ابن القاسم أصح، لقوله عليه السلام: " احفظ على أخيك المؤمن ضالته ". الثانية عشرة - واختلف العلماء في النفقة على الضوال، فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم: إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره، قال: وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن. وقال الشافعي: إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع، حكاه عنه الربيع. وقال المزني عنه: إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة. الثالثة عشرة - ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف: " فاستمتع بها " أو " فشأنك بها " أو " فهي لك " أو " فاستنفقها " أو " ثم كلها " أو " فهو مال الله يؤتيه من يشاء " على ما في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على التمليك، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها، فان في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن لم تعرف (1) (1) (إن لم تعرف): أي لم تعرف صاحبها. (*)
[ 138 ]
فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه " في رواية " ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه " خرجه البخاري ومسلم. وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف، لتلك الظواهر، ولا التفات لقوله، لمخالفة الناس، ولقوله عليه السلام: " فأدها إليه ". قوله تعالى: قالوا يأبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لنصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحفظون (12) قوله تعالى: (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف) قيل للحسن: أيحسد المؤمن ؟ قال: ما أنساك ببني يعقوب ! ولهذا قيل: الأب جلاب والأخ سلاب، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال. وقالوا ليعقوب: " يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف " وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول. وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبي علي ما يأتي. قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري " لا تأمنا " بالإدغام، وبغير إشمام وهو القياس، لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا. وقرأ طلحة بن مصرف " لا تأمننا " بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزبن - وروي عن الأعمش - " ولا تيمنا " بكسر التاء، وهي لغة تميم، يقولون: أنت تضرب، وقد تقدم. وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه. (وإنا له لناصحون) أي في حفظه [ وحيطته ] (1) حتى نرده إليك. قال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم: " أرسله معنا غدا " الآية، فحينئذ قال أبوهم: " إني ليحزنني أن تذهبوا به " [ يوسف: 13 ] فقالوا حينئذ جوابا لقول: " ما لك لا تأمنا على يوسف " الآية. (أرسله معنا غدا) إلى الصحراء. (يرتع ويلعب) " غدا " ظرف، والأصل عند سيبويه غدو، وقد نطق به على الأصل، قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة، (1) من ع وى. وفى ا و و: وغفلته. (*)
[ 139 ]
وكذا بكرة. " نرتع ونلعب " بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة. والمعروف من قراءة أهل مكة. " نرتع " بالنون وكسر العين. وقراءة أهل الكوفة. " يرتع ويلعب " بالياء وإسكان العين. وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين، القراءة الأولى من قول العرب رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا، والمعنى: نتسع في الخصب، وكل مخصب راتع، قال: فارعي فزارة لا هناك المرتع وقال آخر (1): ترتع ما غفلت حتى إذا أدكرت * فإنما هي إقبال وإدبار وقال آخر (2): أكفرا بعد رد الموت عني * وبعد عطائك المائة الرتاعا أي الراتعة لكثرة المرعى. وروى معمر عن قتادة " ترتع " تسعى، قال النحاس: أخذه من قوله: " إنا ذهبنا نستبق " لأن المعنى: نستبق في العدو إلى غاية بعينها، وكذا " يرتع " بإسكان العين، إلا أنه ليوسف وحده صلى الله عليه وسلم. و " يرتع " بكسر العين من رعي الغنم، أي ليتدرب بذلك ويترجل، فمرة يرتع، ومرة يلعب لصغره. وقال القتبي " نرتع " نتحارس ونتحافظ، ويرعى بعضنا بعضا، من قولك: رعاك الله، أي حفظك. " ونلعب " من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا " ونلعب " وهم أنبياء ؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء. وقيل: المراد باللعب المباح من الانبساط، لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق، ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم " ونلعب ". ومنه قوله عليه السلام: " فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك " (3). (1) البيت للخنساء ترثى بها أخاها صخرا. ومعنى: (ترتع) ترعى. تصف ناقة أو بقرة فقدت ولدها، فكلما غفلت عنه رتعت، فإذا أدكرته حنت إليه فأقبلت وأدبرت، فضربتها مثلا لفقدها أخاها صخرا. (2) هو القطامى. (3) الخطاب لجابر بن عبد الله، وذكر ملا على عن القرطبى: أن الملاعبة عبارة عن الإلفة التامة، فأن الثيب قد تكون معلقة القلب بالزوج الأول، فلم تكن محبتها كاملة، بخلاف البكر. ويروى: تداعبها وتداعبك. والدعابة الممازجة. (*)
[ 140 ]
وقرأ مجاهد وقتادة: " يرتع " (1) على معنى يرتع مطيته، فحذف المفعول، " ويلعب " بالرفع على الاستئناف، والمعنى: هو ممن يلعب. (وإنا له لحافظون) من كل ما تخاف عليه. ثم يحتمل أنهم كانوا يخرجون ركبانا، ويحتمل أنهم كانوا رجالة. وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به. قوله تعالى: قال إنى ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غفلون (13) قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون (14) قوله تعالى: (قال إنى ليحزنني أن تذهبوا به) في موضع رفع، أي ذهابكم به. أخبر عن حزنه لغيبته. (وأخاف أن يأكله الذئب) وذلك أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف، فلذلك خافه عليه، قاله الكلبي. وقيل: إنه رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكأن يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام، فكانت العشرة إخوته، لما تمالئوا على قتله، والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا، وتواريه في الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام. وقيل: إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب، فخوفه إنما كان من قتلهم له، فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم، قال ابن عباس: فسماهم ذئابا. وقيل: ما خافهم عليه، ولو خافهم لما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب، لأنه أغلب ما يخاف في الصحارى. والذئب مأخوذ من تذاءبت (2) الريح إذا جاءت من كل وجه، كذا قال أحمد بن يحيى، قال: والذئب مهموز (1) (يرتع)، والذى في تفسير ابن عطية والألوسى وأبى حيان عن مجاهد وقتادة هو (بالنون) وجزم (نلعب) قال ابن عطية: (وقراءة مجاهد وقتادة " نرتع " بضم النون وكسر التاء، " ونلعب " بالنون والجزم). (2) في ع: البراري، ورد في روح المعاني أن هذا الإشتقاق عند الزمخشري، وقال الأصمعى: إن تذاءبت مشتق من الذئب، لأن الذئب يفعله في عدوه، وتعقب بأن أخذ الفعل من الاسماء الجامدة قليل مخالف للقياس. (*)
[ 141 ]
لأنه يجئ من كل وجه. وروى ورش عن نافع " الذيب " بغير همز، لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كسرة فخففها صارت ياء. (وأنتم عنه غافلون) أي مشغلون بالرعي. قوله تعالى: (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة) أي جماعة نرى الذئب ثم لا نرده عنه. (إنا إذا لخاسرون) أي في حفظنا أغنامنا، أي إذا كنا لا نقدر على دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا. وقيل: " لخاسرون " لجاهلون بحقه. وقيل: لعاجزون. قوله تعالى: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيبت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15) قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه) " أن " في موضع نصب، أي على أن يجعلوه في غيابة الجب. قيل في القصة: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال: يا روبيل ! إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه، فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا (1) فاحمله ثم عجل برده إلي. قال: فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع، فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف، فاستغاث بروبيل وقال: " أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي علي، وأقرب الإخوة إلي، فارحمني وارحم ضعفي " فلطمه لطمة شديدة وقال: لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشرك كوكبا فلتنجك منا، فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال: يا أخي ! ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب، فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده، فرق قلب يهوذا فقال: والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا، ثم قال: يا إخوتاه ! إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده (1) أعيا الرجل في المشى: كل. (*)
[ 142 ]
ألا يحدث والده بشئ مما جرى أبدا، فقال له إخوته: والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال: فإن أبيتم إلا ذلك فهاهنا هذا الجب الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشئ من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد، فأجمع رأيهم على ذلك، فهو قول الله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب) وجواب " لما " محذوف، أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم. وقيل: جواب " لما " قولهم: " قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق " [ يوسف: 17 ]. وقيل: التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها، هذا على مذهب البصريين، وأما على قول الكوفيين فالجواب. " أوحينا " والواو مقحمة، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى، قال الله تعالى: " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " (1) [ الزمر: 73 ] أي فتحت وقوله: " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور " (2) [ هود: 40 ] أي فار. قال امرؤ القيس: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى (3) أي انتحى، ومنه قوله تعالى: " فلما أسلما وتله للجبين وناديناه " [ الصافات: 103 - 104 ] أي ناديناه (1). وفى قوله: (وأوحينا إليه) دليل على نبونة في ذلك الوقت. قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة: أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء. وقال الكلبى: ألقى في الجب وهو ابن ثمانى عشرة سنة، فما كان صغيرا، ومن قال كان صغيرا فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه. وقيل: كان وحى إلهام كقوله: " وأوحى ربك إلى النحل " (4). وقيل: كان مناما، والأول أظهر - والله أعلم - وأن جبريل جاءه بالوحى. قوله تعالى: (لتنبئنهم بأمرهم هذا) فيه وجهان: أحدهما - أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا، فعلى هذا يكون الوحى بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه، وتبشير له بالسلامة. الثاني - أنه أوحى إليه بالذى يصنعون به، فعلى هذا [ يكون ] الوحى قبل إلقائه (1) الصحيح أن الواو في هذه الآية ليس زائدا وإنما هو للحال مع تقدير قد وذلك لإفادة أن أهل الجنة هيأ الله لهم ما يزيد سرورهم بخلاف أهل النار فتحت لهم عند حضورهم زيادة في حسرتهم. راجع ج‍ 15 ص 284 وص 104 (2) راجع ج‍ 9 ص 30. (3) تمام البيت. بنا بطن خبت ذى قفاف عقنقل. (4) راجع ج‍ 10 ص 133. (5) من ع. (*)
[ 143 ]
في الجب إنذار له. (وهم لا يشعرون) أنك يوسف، وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر ألا يخبر أباه وأخوته بمكانه. وقيل: بوحى الله تعالى بالنبوة، قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: " الهاء " ليعقوب، أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنه سيعرفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه، والله أعلم. ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب - ما ذكره السدي وغيره - أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه ! ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب، فان مت كان كفني، وإن عشت أواري (1) به عورتي، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك، فقال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت، فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها. وقيل: إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة، وكان جبريل تحت ساق العرش، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي، قال جبريل: فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالما. وكان ذلك الجب مأوى الهوام، فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام، فلما وقع عريانا نزل جبريل إليه، وكان إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم، ثم ورثه إسحاق، ثم ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه، فكان لا يفارقه، فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل دلك القميص فألبسه إياه. قال وهب: فلما قام على الصخرة قال: يا إخوتاه إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا: وما هي ؟ قال: إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي، فقال له جبريل: يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله (1) في ع: أتوارى به وأستر عورتى. (*)
[ 144 ]
بمكان، ثم علمه فقال: قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملإ، يا حي يا قيوم ! أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شئ قدير، فقالت الملائكة: إلهنا ! نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي. وقال الضحاك: نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له: ألا أعلمك كلمات إذا انت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب ؟ فقال: نعم فقال له: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى، ويا حاضر كل ملإ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك، فرددها يوسف في ليلته مرارا، فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب. قوله تعالى: وجاءوا أباهم عشاء يبكون (16) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاء) أي ليلا، وهو ظرف يكون في موضع الحال، وإنما جاءوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار، فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بكم ؟ أجرى في الغنم شئ ؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف ؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال: اين قميصه ؟ على ما يأتي بيانه [ إن شاء الله ]. وقال السدي وابن حبان: إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، قال وهب: ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس، ولم يتحرك له عرق، فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديان يوم الدين ! ضيعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر، فأفاق ورأسه (1) من ع. (*)
[ 145 ]
في حجر روبيل، فقال: يا روبيل ! ألم آتمنك على ولدي ؟ ألم أعهد إليك عهدا ؟ فقال: يا أبت كف عني بكاءك أخبرك، فكف يعقوب بكاءه فقال: يا أبت " إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ". الثانية - قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا، فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر. وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى، كما قال حكيم: إذا اشتبكت دموع في خدود * تبين من بكى ممن تباكى قوله تعالى: قالوا يأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متعنا فأكله الذئب وما أنت بؤمن لنا ولو كنا صادقين (17) فيه سبع مسائل: الأولى - قوله تعالى " نستبق " نفتعل، من، المسابقة. وقيل: أي ننتضل، وكذا في قراءة عبد الله " إنا ذهبنا ننتضل " وهو نوع من المسابقة، قاله الزجاج. وقال الأزهري: النضال في السهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري أبو نصر: " نستبق " أي في الرمي، أو على الفرس، أو على الأقدام، والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو، لأنه الآلة في قتال العدو، ودفع الذئب عن الأغنام. وقال السدي وابن حبان: " نستبق " نشتد جريا لنرى أينا أسبق. قال ابن العربي: المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب، وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة رضي الله عنها على قدميه فسبقها، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته، فقال لها: " هذه بتلك ". قلت: وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي (1) قرد إلى المدينة فسبقه سلمة، خرجه مسلم. (1) ذى قرد: موضع قريب من المدينة أغاروا فيه على لقاح رسول الله عليه الصلاة والسلام فغزاهم. (*)
[ 146 ]
الثانية: وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت (1) [ من الحفياء ] (2) وكان أمدها ثنية (3) الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها، وهذ الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط، فلا تجوز المسابقة بدونها، وهي: أن المسافة لا بد أن تكون معلومة. الثاني - أن تكون الخيل متساوية الأحوال. الثالث - ألا يسابق المضمر مع غير المضمر في أمد واحد وغاية واحدة. والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها، وتقام هذه السنة فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن. الثالثة - وأما المسابقة بالنصال والإبل، فروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، وذكر الحديث. وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا سبق (4) إلا في نصل أو خف أو حافر ". وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة، ذكره النسائي، وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق. وروى البخاري عن أنس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد: أولا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال: " حق على الله ألا يرتفع شئ من الدنيا إلا وضعه ". الرابعة - أجمع المسلمون (5) على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف والحافر والنصل، قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار. وقد زاد أبو البختري (1) تضمير الخيل: هو أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن، ثم لا تعلف إلا قوتا لتخف. وقيل تشد عليها سروجها، وتجلل بالأجلة حتى تعرق تحتها، فيذهب رهلها ويشتد لحمها، ويكون ذلك لغزو أو سباق. (2) الزيادة عن (موطأ مالك). والحفياء (بالمد والقصر): موضع بالمدينة بينه وبين ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة. (3) الثنية في الجبل كالعقبة فيه، وقيل: هو الطريق العالي فيه، وقيل أعلى المسيل في رأسه، وثنية الوداع مشرفة على المدينة سميت بذلك، لأن من سافر إلى مكة يودع ثم، ومنها إلى مسجد بنى زريق ميل. (4) " لاسبق ": هو بفتح الباء ما يجعل للسابق على سبقه من المال، بالسكون مصدر. قال الخطابى: الصحيح رواية الفتح، أي لا يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في هذه الثلاثة. (5) في ع وك وى: العلماء. (*)
[ 147 ]
القاضي في حديث الخف والحافر والنصل " أو جناح " وهي لفظة وضعها للرشيد، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته، فلا يكتب العلماء حديثه بحال. وقد روي عن مالك أنه قال: لا سبق إلا في الخيل والرمي، لأنه قوة على أهل الحرب، قال: وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي. وظاهر الحديث يستوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل. وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شئ إلا في الخيل، لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها. وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شئ جائزة، وقد تؤول قوله، لأن حمله على العموم [ في كل شئ ] (1) يؤدي إلى، إجازة القمار، وهو محرم باتفاق. الخامسة - لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، كما ذكرنا، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم، ونوع من الإصابة، مشترط خسقا (2) أو إصابة بغير شرط. والأسباق ثلاثة: سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما، فمن سبق أخذه. وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سبقه صاحبه أخذه، وإن سبق هو صاحبه أخذه، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له، ولا يرجع إلى ماله، وهذا مما لا خلاف فيه. والسبق الثالث - اختلف فيه، وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه، وهذا الوجه (3) لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما، فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه، ولا شئ للمحلل فيه، ولا شئ عليه. وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما. وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي -: وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه، وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أو له. واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار، ولا يجوز. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله (1) في ع وك وو وى: تؤول عليه. (2) خسق السهم وخزق إذا أصاب الرمية ونفذ فيها. (3) في ع: السبق (*)
[ 148 ]
عليه وسلم قال: " من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار ". وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل، فإن سبق أخذ السبق، وإن سبق لم يكن عليه شئ، وبهذا قال الشافعي وجمهور أهل العلم. واختلف في ذلك قول مالك، فقال مرة لا يجب المحلل في الخيل، ولا نأخذ فيه بقول سعيد، ثم قال: لا يجوز إلا بالمحلل، وهو الأجود من قوله. السادسة - ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم، ولو ركبها أربابها كان أولى، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها. وقال الشافعي: وأقل السبق أن يسبق بالهادي (1) أو بعضه، أو بالكفل أو بعضه. والسبق من الرماة على هذا النحو عنده، وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي. السابعة - روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر وثلت عمر، ومعنى وصلى أبو بكر: يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلوان موضع العجز. قوله تعالى: (وتركنا يوسف عند متاعنا) أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها. (فأكله الذئب) وذلك أنهم ما سمعوا أباهم يقول: " وأخاف أن يأكله الذئب " أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به، لأنه كان أظهر المخاوف عليه. (وما أنت بمؤمن لنا) أي بمصدق. (ولو كنا) أي وإن كنا، قاله المبرد وابن إسحاق. (صادقين) في قولنا، ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي بيانه. وقيل: " ولو كنا صادقين " أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا، ولا تهمتنا في هذه القضية، لشدة محبتك في يوسف، قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما. (1) الهادى: العنق لتقدمه، والجمع (هواد)
[ 149 ]
قوله تعالى: وجاءو على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (18) قوله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب). فيه ثلاث مسائل الأولى - قوله تعالى: " بدم كذب " قال مجاهد: كان دم سخلة أو جدي ذبحوه (1). وقال قتادة: كان دم ظبية، أي جاءوا على قميصه بدم مكذوب فيه، فوصف الدم بالمصدر، فصار تقديره: بدم ذي كذب، مثل: " واسأل القرية [ يوسف: 82 ] والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر، يقال: هذا ضرب الأمير، أي مضروبه وماء سكب أي مسكوب، وماء غور أي غائر، ورجل عدل أي عادل. وقرأ الحسن وعائشة: " بدم كدب " بالدال غير المعجمة، أي بدم طري، يقال للدم الطري الكدب. وحكي أنه المتغير، قاله الشعبي. والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث، فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اختلاف اللونين. الثانية - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التنييب (2)، إذ لا يمكن أفتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق، ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان هذا الذئب حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص ! قاله ابن عباس وغيره، روى إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الدم دم سخلة. وروى سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نظر إليه قال كذبتم، لو كان الذئب أكله لخرق القميص. وحكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات: حين جاءوا عليه بدم كذب، وحين قد قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا. (1) في ع: أو نحوه. (2) في ع: التخريق. (*)
[ 150 ]
قلت: وهذا مردود، فإن القميص الذي جاءوا عليه بالدم غير القميص الذي قد، وغير القميص الذي أتاه البشير به. وقد قيل: إن القميص الذي قد هو الذي أتي به فارتد بصيرا، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى. وروي أنهم قالوا له: بل اللصوص قتلوه، فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب: تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق، وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه، هل يريدون إلا ثيابه ؟ ! فقالوا عند ذلك: " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " عن الحسن وغيره، أي لوكنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا. الثالثة - استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ستدل على كذبهم بصحة القميص، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة، ولا خلاف بالحكم بها، قاله بن العربي. قوله تعالى: (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل). فيه ثلاث مسائل: الأولى - روي أن يعقوب لما قالوا له: " فأكله الذئب " قال لهم: ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به ؟ ! ألم يترك لي ثوبا (1) أشم فيه رائحته ؟ قالوا: بلى ! هذا قميصه ملطوخ بدمه، فذلك قوله تعالى: " وجاءوا على قميصه بدم كذب " فبكى يعقوب عند ذلك وقال، لبنيه: أروني قميصه، فأروه فشمه وقبله، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه، أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه، وعلم أن الأمر ليس كما قالوا، وأن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال: يا معشر ولدي ! دلوني على ولدي، فإن كان حيا رددته إلي، وإن كان ميتا كفنته ودفنته، فقيل قالوا حينئذ: ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا ! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في ع: له. (*)
[ 151 ]
في مقالتنا ويقطع يأسه، فقال يهوذا: والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم، قالوا: فإذا منعتنا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبا، قال: فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم، وأوثقوه بالحبال، ثم جاءوا به يعقوب وقالوا: يا أبانا ! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه، وهذا دمه عليه، فقال يعقوب: اطلقوه، فاطلقوه، وتبصبص له الذئب، فأقبل يدنو [ منه ] (1) ويعقوب يقول له: ادن ادن، حتى ألصق خده بخده (2) فقال له يعقوب: أيها الذئب ! لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا ؟ ! ثم قال اللهم أنطقه، فأنطقه الله تعالى فقال: والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه، ولا مزقت جلده، ولا نتفت شعرة من شعراته، والله ! ما لي بولدك عهد، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فقد، فلا أدري أحي هو أم ميت، فاصطادني أولادك وأوثقوني، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش، وتالله ! لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش، فأطلقه يعقوب وقال: والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم، هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه، وأنتم ضيعتم أخاكم، وقد علمت أن الذئب برئ مما جئتم به. (بل سولت لكم) أي زينت. (لكم أنفسكم أمرا) غير ما تصفون وتذكرون. ثم قال توطئة لنفسه: (فصبر جميل) وهى: الثانية - قال الزجاج: أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل. وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل. وقيل: أي فصبر جميل أولى بي، فهو مبتدأ وخبره محذوف. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال: " هو الذي لا شكوى معه ". وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة إن شاء الله. قال أبو حاتم: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف " فصبرا جميلا " قال: وكذا قرأ الأشهب العقيلي، قال وكذا في مصحف أنس وأبي صالح. قال المبرد: " فصبر جميل " بالرفع أولى من النصب، لأن المعنى: قال رب عندي صبر جميل، قال: وإنما النصب على المصدر، أي فلأصبرن صبرا جميلا، قال: (1) من ع وك وى. (2) في ع وك و و: بفخذه. (*)
[ 152 ]
شكا إلي جملي طول السرى * صبرا (1) جميلا فكلانا مبتلى والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى. وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم، وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم. وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة، فقيل له: ما هذا ؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه أتشكوني يا يعقوب ؟ ! قال: يا رب ! خطيئة أخطأتها فاغفر لي. (والله المستعان) أبتداء وخبر. (على ما تصفون) أي على احتمال ما تصفون من الكذب. الثالثة - قال ابن أبى رفاعة ينبغى لأهل الرأى أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو نبى، حين قال له بنو ه: " إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب " قال: " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " فأصاب هنا، ثم قالوا له: " إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين " (2) قال: " بل سولت لكم أنفسكم أمرا " فلم يصب. قوله تعالى: وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يبشرى هذا غلم وأسروه بضعة والله عليم بما يعملون (19) قوله تعالى: (وجاءت سيارة) أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. (فأرسلوا واردهم) فذكر على المعنى، ولو قال: فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مئل " وجاءت ". والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم، وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر (3)، (1) ويروى (صبر جميل) في البيت، وتحمل على إظهار مبتدأ أو خبر. ويروى (صبرا جميل) على نداء الجمل. (2) راجع ص 244 من هذا الجزء. (3) دعر: هو بالدال المهله وبالذال تصحيف كما في القاموس. (*)
[ 153 ]
من العرب العاربة. (فأدلى دلوه) أي أرسله، يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلاها أي أخرجها: عن الأصمعي وغيره. ودلا - من ذات الواو - يدلو دلوا، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء، لأنها أخف من الواو، قاله الكوفيون. وقال الخليل وسيبويه: لما جاوز ثلاثة أحرف رجع (1) إلى الياء، اتباعا للمستقبل. وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت: دلي ودلي، فقلبت الواو ياء، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع، ودلاء أيضا. فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان. قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء من صحيح مسلم: " فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن ". وقال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، وقيل: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن، فلما رآه مالك بن دعر قال: " يا بشراي هذا غلام " وهذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة، إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ " يا بشري هذا غلام " فقلب الألف ياء، لأن هذه الياء يكسر ما قبلها، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا. وقرأ أهل الكوفة " يا بشرى " غير مضاف، وفي معناه قولان: أحدهما - اسم الغلام، والثاني - [ معناه ] (2) يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك. قال قتادة والسدي: لما أدلى المدلي دلوه تعلق بها يوسف فقال: يا بشرى هذا غلام، قال قتادة: بشر أصحابه بأنه وجد عبدا. وقال السدي: نادى رجلا اسمه بشرى. قال النحاس: قول قتادة أولى، لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا، وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل: " ويوم يعض الظالم على يديه " (3) [ الفرقان: 27 ] وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده " ياليتني لم أتخذ فلانا خليلا " [ الفرقان: 28 ] وهو أمية (1) في ع: ردوه. (2) من ع. (3) راجع ج‍ 13 ص 25. (*)
[ 154 ]
بن خلف، قال النحاس. والمعنى في نداء البشرى: التبشير لمن حضر، وهو أوكد من قولك تبشرت، كما تقول: يا عجباه ! أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك، فاحضر، وهذا مذهب سيبويه، وكذا قال السهيلي. وقيل: هو كما تقول: واسروراه ! وأن البشرى مصدر من الاستبشار: وهذا أصح، لأنه لو كان اسما علما لم يكن مضافا إلى ضمير المتكلم، وعلى هذا يكون " بشراي " في موضع نصب، لأنه نداء مضاف، ومعنى النداء هاهنا التنبيه، أي انتبهوا لفرحتي وسروري، وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول: يا زيد هذا غلام. ويجوز أن يكون محله نصبا كقولك: يا رجلا، وقوله: " يا حسرة على العباد " (1) [ يس: 30 ] ولكنه لم ينون " بشرى " لأنه لا ينصرف. (وأسروه بضاعة) الهاء كناية عن يوسف عليه السلام، فأما الواو فكناية عن إخوته. وقيل: عن التجار الذين اشتروه، وقيل: عن الوارد وأصحابه. " بضاعة " نصب على الحال. قال مجاهد: أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر، وإنما قالوا هذا خيفة الشركة. وقال ابن عباس: أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب، وذلك أنهم جاءوا فقالوا: بئس ما صنعتم ! هذا عبد لنا أبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء، وإما أن نأخذك فنقتلك، فقال: أنا أقر لكم بالعبودية، فأقر لهم فباعوه منهم. وقيل: إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل قتلوك، فلعل الله أن يجعل لك مخرجا، وتنجو من القتل، فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك: والله ما هذه سمة العبيد !، قالوا: هو تربى في حجورنا، وتخلق بأخلاقنا، وتأدب بآدابنا، فقال: ما تقول يا غلام ؟ قال: صدقوا ! تربيت في حجورهم، وتخلقت بأخلاقهم، فقال مالك: إن بعتموه مني أشتريته (2) منكم، فباعوه منه، فذلك: قوله تعالى: وشروه بثمن بخس درهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (20) (1) راجع ج‍ 15 ص 22. (2) في ع: أشتريتك منهم. أي على الإلتفات. (*)
[ 155 ]
فيه ست مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وشروه) يقال: شريت بمعنى اشتريت، وشريت بمعنى بعت لغة، قال الشاعر (1): وشريت بردا ليتنى * من بعد برد كنت هامه أي بعت. وقال آخر: فلما شراها فاضت العين عبرة * وفي الصدر حزاز من اللوم حامز (2) (بثمن بخس) أي نقص، وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم، أي باعوه بثمن مبخوس، أي منقوص. ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه. وقيل: إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاءوا وباعوه من الواردة. وقيل: لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا: هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم. وقال قتادة: " بخس " ظلم. وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء: " بخس " حرام. وقال ابن العربي: ولا وجه له، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة، لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستقيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه، وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا، أو قالوا (3) لأصحابهم: أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله. قلت: قوله " وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة " يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه (4) كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك، فدل على صحة ما قاله السدي وغيره، لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه. وقال عكرمة والشعبي: قليل. وقال ابن حيان: زيف. وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وكانوا عشرة، وقاله قتادة والسدي. وقال أبو العالية (1) هو يزيد بن مفزع الحميرى، و (برد) اسم عبد كان له ندم على بيعه. (2) البيت للشماخ، قاله في رجل باع قوسه من رجل. وحامز: عاصر، وقيل: أي ممض محرق. ويروى: من الوجد. (اللسان). (3) في ع وك و و: وقالوا. (4) في ع وك وى: وافية كاملة. (*)
[ 156 ]
ومقاتل: اثنين وعشرين درهما، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين، وقاله مجاهد. وقال عكرمة: أربعين درهما، وما روي عن الصحابة أولى. و " بخس " من نعت " ثمن ". (دراهم) على البدل والتفسير له. ويقال: دراهيم على أنه جمع درهام، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء، وليس هذا مثل مد المقصور، لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره. وأنشد النحويون: تنفي يداها الحصى في كل هاجرة * نفي الدراهيم تنقاد الصياريف (1) (معدودة) نعت، وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لاوزنا بوزن (2). وقيل: هو عبارة عن قلة الثمن، لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما [ كان ] (3) دون الأوقية، وهي أربعون درهما. الثانية - قال القاضي ابن العربي: وأصل النقدين الوزن، قال صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى ". والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار، فأما عينها فلا منفعة فيه، ولكن جرى فيها العد (4) تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة، فيشق الوزن، حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا (4) إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان، فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن، ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم. الثالة - واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا ؟ وقد أختلفت الرواية في ذلك عن مالك: فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين، وهو الظاهر من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة. وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين، وحكي عن الكرخي، وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال: بعتك، هذه الدنانير بهذه (1) البيت للفرزدق، وصف ناقة سريعة السير في الهواجر، قشبه خروج الحصى من تحت مناسمها بارتفاع الدراهم عن الأصابع إذا نقدت. (2) في ع وى: يوزن. (3) من ع وك وى. (4) في ع وك وو وى: العدد. (*)
[ 157 ]
الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها، والدراهم بذمة صاحبها، ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شئ، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها. الرابعة - روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى، في اللقيط أنه حر، وقرأ: " وشروره بثمن بخس دراهم معدودة " وقد مضى، القول فيه. الخامسة - قوله تعالى: (وكانوا فيه من الزاهدين) قيل: المراد إخوته. وقيل: السيارة. وقيل: الواردة، وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا، لا عند الإخوة، لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم، ورأوا أن القليل من ثمنه في الإنفراد أولى. السادسة - في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشئ الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما، ولهذا قال مالك: لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة (1) لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله وقيل: " وكانوا فيه من الزاهدين " أي في حسنه، لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له. وقيل: " وكانوا فيه من الزاهدين " لم يعلموا منزلته عند الله تعالى. وحكى سيبويه والكسائي: زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها. قوله تعالى: وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثوه عسى أن ينفعنا أو أن نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21) (1) المخشلبة: خرز أبيض يشاكل اللؤلؤ. (*)
[ 158 ]
قوله تعالى: (وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) قيل: الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال، أذا لم يكن ذلك عقدا، مثل: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " (1) [ البقرة: 16 ]. وقيل: إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن. قال الضحاك: هذا الذي اشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز. السهيلي: وأسمه قطفير. وقال ابن إسحاق: إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل، ذكره الماوردي. وقيل: كان اسمها زليخاء. وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز، فأوصى به أهله، ذكره القشيري. وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر، وهو الريان بن الوليد. وقيل: الوليد بن الريان، وهو رجل من العمالقة. وقيل: هو فرعون موسى، لقول موسى: " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " [ غافر: 34 ] وأنه عاش أربعمائة سنة. وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، على ما يأتي في " غافر " (2) بيانه. وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك، واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارا، وزاده حلة ونعلين. وقيل: اشتراه من أهل الرفقة. وقيل: تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلئ وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن، قاله وهب بن منبه. وقال وهب أيضا وغيره: ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابا: هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب، وهم فلان وفلان مملوكا لهم بعشرين درهما، وقد شرطوا له أنه آبق، وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا مسلسلا، وأعطاهم على ذلك عهد الله. قال: فودعهم يوسف عند ذلك، وجعل يقول: حفظكم الله وإن ضيعتموني، نصركم الله وإن خذلتموني، رحمكم الله وإن لم ترحموني، قالوا: فألقت الأغنام ما في بطونها دما عبيطا (3) لشدة هذا التوديع، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء، مقيدا مكبلا مسلسلا، فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه - وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود - فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ (1) راجع ج‍ 1 ص 21. (2) راجع ج‍ 15 ص 312. (3) الدم العبيط: الطرى. (*)
[ 159 ]
ويعتنق القبر ويضطرب ويقول: يا أماه ! ارفعي رأسك ترى ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا مغلولا، فرقوا بيني وبين والدي، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين، فتفقده الأسود على البعير فلم يره، فقفا أثره، فإذا هو بياض على قبر، فتأمله فإذا هو إياه، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا، فقال له: لا تفعل ! والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها، ولن أرجع إلى ما تكرهون، فقال الأسود: والله إنك لعبد سوء، تدعو أباك مرة وأمك أخرى ! فهلا كان هذا عند مواليك، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني، فضجت الملائكة في السماء، ونزل جبريل فقال له: يا يوسف ! غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء ! أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها ؟ قال: تثبت يا جبريل، فإن الله حليم لا يعجل، فضرب الأرض بجناحه فأظلمت، وارتفع الغبار، وكسفت الشمس، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضا، فقال رئيس القافلة: من أحدث منكم حدثا ؟ - فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا - فقال الأسود: أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لاأعرفه، ولا أشك أنه دعا علينا، فقال له: ما أردت إلا هلاكنا ! ايتنا به، فأتاه به، فقال له: يا غلام ! لقد لطمك فجاءنا ما رأيت، فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت، وإن كنت تعفو فهو الظن بك، قال: قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني، فانجلت الغبرة، وظهرت الشمس، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر، ورد عليه جماله، ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على الجدران، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك، قاله ابن عباس على ما تقدم. وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه، ثم مات الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض، فملك بعده قابوس وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى. (أكرمي مثواه) أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن، وهو
[ 160 ]
مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به، وقد تقدم في " آل عمران " (1) وغيره. (عسى أن ينفعنا) أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ. (أو أن نتخذه ولدا) قال ابن عباس: كان حصورا لا يولد له، وكذا قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له. فإن قيل: كيف قال " أو نتخذه ولدا " وهو ملكه، والولدية مع العبدية تتناقض ؟ قيل له: يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني، وكان التبني في الأمم معلوما عندهم، وكذلك كان في أول الإسلام، على ما يأتي بيانه في " الأحزاب " (2) إن شاء الله تعالى. وقال عبد الله بن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة، العزيز حين تفرس في يوسف فقال: " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا " وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى " استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " (3) [ القصص: 26 ]، وأبو بكر حين استخلف عمر. قال ابن العربي: عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر ! والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة " الحجر " (4) وليس كذلك فيما نقلوه، لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة، وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في " القصص " (4). وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة، لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة. والله أعلم. قوله تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف فيى الأرض) الكاف في موضع نصب، أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له، أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. (ولنعلمه من تأويل الاحاديث) أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب: " ويعلمك من تأويل الأحاديث ". وقيل: المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا، ونعلمه تأويله وتفسيره، وتأويل الرؤيا، وتم الكلام. (والله غالب على أمره) الهاء راجعة إلى الله تعالى، أي لا يغلب الله شئ، بل هو الغالب على أمر (1) راجع ج‍ 4 ص 233. (2) راجع ج‍ 14 ص 118 فما بعد وص 188 فما بعد. (3) ج‍ 10 ص 42 فما بعد. (4) راجع ج‍ 13 ص 271. (*)
[ 161 ]
نفسه فيما يريده أن يقول له: كن فيكون. وقيل: ترجع إلى يوسف، أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يطلعون على غيبه. وقيل: المراد بالاكثر الجميع، لان أحدا لا يعلم الغيب. وقيل: هو مجرى على ظاهره، إذ قد يطلع من يريد على بعض غيبه. وقيل: المعنى " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر. وقالت الحكماء في هذه الآية: " والله غالب على أمره " حيث، أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال: " يا أسفا على يوسف " ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم: " إنا كنا خاطئين " [ يوسف: 97 ] ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص [ فغلب أمر الله ] (1) فلم ينخدع، وقال: " بل سولت لكم أنفسكم أمرا " [ يوسف: 18 ] ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته، فغلب أمر الله حتى قال العزيز: " استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " [ يوسف: 29 ]، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي، ولبث يوسف في السجن بضع سنين. قوله تعالى: ولما بلغ أشده ءاتينه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين (22) قوله تعالى: (ولما بلغ أشده) " أشده " عند سيبويه جمع واحده شده. وقال الكسائي: واحده شد، كما قال الشاعر (1): (1) عهدي به شد النهار كأنما * خضب اللبان ورأسه بالعظلم (1) من ع وك وو وى. (2) هو عنترة العبسى وشد النهار: أي أشده، يعني أعلاه. واللبان: الصدر، وقيل: وسطه، وقيل: ما بين الثديين، ويروى: " البنان ". والعظلم عصارة شجر أو نبت يصبغ به، أو الوسمه، وهي شجرة ورقها خضاب. (*)
[ 162 ]
وزعم أبو عبيد أنه لا واحد له من لفظه عند العرب، ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد. وقال مجاهد وقتادة: الأشد ثلاث وثلاثون سنة. وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد بلوغ الحلم، وقد مضى ما للعلماء في هذا في " النساء " (1) و " الأنعام " (2) مستوفي. (آتيناه حكما وعلما) قيل: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك، أي وآتيناه علما بالحكم. وقال مجاهد: العقل والفهم والنبوة. وقيل: الحكم النبوة، والعلم علم الدين، وقيل: علم الرؤيا، ومن قال: أوتي النبوة صبيا قال: لما بلغ أشده زدناه فهما وعلما. (وكذلك نجزى المحسنين) يعني المؤمنين. وقيل: الصابرين على النوائب كما صبر يوسف، قاله الضحاك. وقال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: كما فعلت هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم أعطيته ما أعطيته، كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض. قوله تعالى: ورودته التى هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابوب وقالت هيت لك قال معاذ الله انه ربى أحسن مثواى أنه لا يفلح الظالمون (23) ولقد همت به وهم بها لولا أن رءا برهن ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء أنه من عبادنا المخلصين (24) قوله تعالى: (وراودته التى هو في بيتها عنه نفسه) وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين. والرود والرياد طلب الكلأ، وقيل: هي من رويد، يقال: فلان يمشي رويدا، أي برفق، فالمراودة الرفق في الطلب، يقال (1) راجع ج‍ 5 ص 34 فما بعد. (2) راجع ج‍ 7 ص 134 فما بعد. (*)
[ 163 ]
في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه. والرود التأني، يقال: أرودني أمهلني. (وغلقت الابواب) غلق للكثير، ولا يقال: غلق الباب، وأغلق يقع للكثير والقليل، كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء: ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها * حتى أتيت أبا عمرو بن عمار يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها. (وقالت هيت لك) أي هلم وأقبل وتعال، ولا مصدر له ولا تصريف. قال النحاس: فيها سبع قراءات، فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقرأ " هيت لك " قال فقلت: إن قوما يقرءونها " هيت لك " فقال: إنما أقرأ كما علمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد ذلك، لأن قوله: إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة، وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي. قال عبد الله ابن مسعود: لا تقطعوا في القرآن، فإنما هو مثل، قول أحدكم: هلم وتعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي " قالت هيت لك " بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن كثير " هيت لك " بفتح الهاء وضم التاء، قال طرفة: ليس قومي بالأبعدين إذا ما * وقال داع من العشيرة هيت فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع " وقالت هيت لك " بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ يحيى بن وثاب " وقالت هيت لك " بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة: " وقالت هئت، لك " بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة. وعن ابن عامر وأهل الشام: " وقالت هئت " بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء، قال أبو جعفر: " هئت لك " بفتح التاء لالتقاء الساكنين، لأنه صوت نحو مه وصه يجب ألا يعرب،
[ 164 ]
والفتح خفيف، لأن قبل التاء ياء مثل، أين وكيف، ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر، لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية، أي قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم، مثل حيث وبعد. وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما - أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر. والآخر - أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجئ، فيكون المعنى في " هئت " أي حسنت هيئتك، ويكون " لك " من كلام آخر، كما تقول: لك أعني. ومن همز وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك، وكذلك من قرأ " هيت لك ". وأنكر أبو عمرو هذه القراءة، قال أبو عبيدة - معمر بن المثنى: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو: باطل، جعلها من تهيأت ! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا ؟ ! وقال الكسائي أيضا: لم تحك " هئت " عن العرب. قال عكرمة: " هئت لك " أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية، لأنها لم تسمع في العربية. قال النحاس: وهي جيدة عند البصريين، لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجئ وهئت مثل جئت. وكسر الهاء في " هيت " لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال الزجاج: أجود القراءات " هيت " بفتح الهاء والتاء، قال طرفة: ليس قومي بالأبعدين إذا ما * وقال داع من العشيرة هيت بفتح الهاء والتاء. وقال الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أبلغ أمير المؤمنين * أخا العراق إذا أتيتا إن العراق وأهله * سلم إليك فهيت هيتا قال ابن عباس والحسن: " هيت " كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدي: معناها بالقبطية (1) هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال، قال أبو عبيد: فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها (1) في عين النبطية. (*)
[ 165 ]
لغتهم، وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء، قال الجوهري: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه، قال: قد رابني أن الكري أسكتا * لو كان معنيا بها لهيتا أي صاح، وقال آخر: يحدو بها كل فتى هيات قوله تعالى: (قال معاذ الله) أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه، وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذا، فيحذف المفعول وينتصب المصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول: مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو. (إنه ربي) يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه، قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي. وقال الزجاج: أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه. (إنه لا يفلح الظالمون) وفي الخبر أنها قالت له: يا يوسف ! ما أحسن صورة وجهك ! قال: في الرحم صورني ربي، قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك ! قال: هو أول شئ يبلى مني في قبري، قالت: يا يوسف ! ما أحسن عينيك ؟ قال: بهما أنظر إلى ربي. قالت: يا يوسف ! ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي. قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني ؟ ! قال: أريد بذلك القرب من ربي. قالت: يا يوسف ! القيطون (1) [ فرشته لك ] (2) فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي. قالت: يا يوسف ! فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال: إذا يذهب من الجنة نصيبي، إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها، إلى أن هم بها. وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. واختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها (1) القيطون: المخدع، أعجمي، وقيل: بلغة أهل مصر والبربر. (2) من ى. (*)
[ 166 ]
(لولا أن رأى برهان ربه) ولكن لما رأى البرهان ما هم، وهذا لوجوب العصمة للأنبياء، قال الله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) فإذا في الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان (1) ربه هم بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: " ولقد همت به وهم بها " الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به، فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه. قال جميل: هممت بهم من بثينة لو بدا * شفيت غليلات الهوى من فؤاديا آخر: هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله فهذا كله حديث نفس من غير عزم. وقيل: هم بها تمنى زوجيتها. وقيل: هم بها أي بضربها (2) ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب، إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. فال ابن عباس: حل الهميان (3) وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله. وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولما قال: " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " [ يوسف: 52 ] قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف ؟ ! فقال عند ذلك: " وما أبرئ نفسي " [ يوسف: 53 ]. قالوا: والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب. (1) في ع: رأى البرهان برهان. (2) هذا هو الائق بالمعصوم دون سواه من المعاني. (3) الهيمان شداد السراويل. (*)
[ 167 ]
قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب، ما يأتي بيانه في " ص " (1) إن شاء الله تعالى. وجواب " لولا " على هذا محذوف، اي لولا أن برهان ربه لأمضى ما هم به، ومثله " كلا لو تعلمون علم اليأقين " (2) [ التكاثر: 5 ] وجوابه لم تتنافسوا، قال ابن عطية: روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف، وقالوا: الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم، ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك، وهي قد استلقت له، حكاه الطبري. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم. وقال الحسن: إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها، ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة. قال الغزنوي: مع أن لزلة الأنبياء حكما: زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل. قال القشيري أبو نصر: وقال قوم جرى من يوسف هم، وكان ذلك [ الهم ] (3) حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل، وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد، وتناول الطعام اللذيذ، فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس، والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما. قلت: هذا قول حسن، وممن قال به الحسن. قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية، وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشئ دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الردئ على ما في ذلك من الخطيئة، وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شئ مما ذكر من حل تكته (1) راجع ج‍ 15 ص 218 وج‍ 11 ص 327 (2) راجع ج‍ 20 ص 173 (3) من ع وك و و. (*)
[ 168 ]
ونحوه، لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: " تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء ". فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد. قلت: ما ذكره من [ هذا ] (1) التفصيل صحيح، لكن قول تعالى: " وأوحينا إليه " [ يوسف: 15 ] يدل على أنه كان نبيا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء، وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر، وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه، ويكون قوله: " وما أبرئ نفسي " [ يوسف: 53 ] - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ، وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال: " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما " [ يوسف: 22 ] على ما تقدم بيانه، وخبر الله تعالى صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق، فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته، وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله، فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها، حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي " (2). وقال عليه السلام مخبرا عن ربه: " إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة ". فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب، وفي الصحيح: " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به " وقد تقدم. قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، - وأي إمام - يعرف بابن عطاء ! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ ! يا سيدنا ! فإذا يوسف هم وما تم ؟ قال: نعم ! لأن العناية من ثم. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، (1) من ع. (2) من جراى: أي من أجلى، وفى نسخة من صحيح مسلم " من جرائي ". (*)
[ 169 ]
وجواب العالم في اختصاره واستيفائه، ولذلك قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله: " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما " [ يوسف: 22 ] إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة. قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك، فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسا فقال: أنت يوسف ؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم ؟ ! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال، ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظا كهو، ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم. قوله تعالى: (لولا أن رأى برهان ربه) [ " أن " في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه ] (1) والجواب محذوف لعلم السامع، أي لكان ما كان. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين ؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في (2) هذه الصورة، فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله، وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل. وقيل: رأى مكتوبا في سقف البيت " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا " (3) [ الإسراء: 32 ]. وقال (4) ابن عباس: بدت كف مكتوب عليها " وإن عليكم لحافظين " (5) [ الانفطار: 10 ] وقال قوم: تذكر عهد. الله وميثاقه. وقيل: نودي يا يوسف ! أنت مكتوب في [ ديوان ] (6) الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ؟ ! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله، قال قتادة ومجاهد والحسن والضحاك وأبو صالح وسعيد بن جبير. وروى الأعمش عن مجاهد قال: حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: (1) من ع، ك. (2) في ع وك: على. (3) راجع ج‍ 10 ص 253. (4) في ع: وعن. (5) راجع ج‍ 19 ص 245. (6) من ع. (*)
[ 170 ]
يا يوسف ! فولى هاربا. وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال: مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده، وقيل غير هذا. وبالجملة: فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية. قوله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) الكاف من " كذلك " يجوز أن تكون رفعا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير.: البراهين كذلك، ويكون نعتا لمصدر محذوف، أي أريناه البراهين رؤية كذلك. والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة. وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى. وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " المخلصين " بكسر اللام، وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته، وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين، لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى. قوله تعالى: واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ألا أن يسجن أو عذاب أليم (25) قوله تعالى: (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر). فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (واستبقا الباب) قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. " وقدت قميصه من دبر " أي من خلفه، قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص.
[ 171 ]
والاستباق طلب السبق إلى الشئ، ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا، قال النابغة (1): تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا. وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف " فلما رأى قميصه عط من دبر " أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح. وحذفت الألف من " استبقا " في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، كمايقال: جاءني عبد الله في التثنيه، ومن العرب من يقول: جاءني عبد الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين، لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبد الله بأثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف. الثانية - في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة، لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم، وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو (2) الأغلب. قوله تعالى: (وألفيا سيدها لدى الباب) أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا. يقال: ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد (3)، فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت ف (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) أي زنى. (إلا أن يسجن أو عذاب أليم) تقول: يضرب ضربا وجيعا. و " ما جزاء " ابتداء، وخبره " أن يسجن ". " أو عذاب " عطف على موضع " أن يسجن " لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما، قاله الكسائي. (1) يصف السيوف، وقد تقدم شرح البيت بهامش ص 103 من هذا الجزء. (2) في ع وك: في. (3) كذا العبارة في الإصول وفى " البحر المحيط " ولم نقف على مادة (وارط ووالط ولاط) بمعنى (ألفى) في معاجم اللغة. (4) من الكيد. (*)
[ 172 ]
قوله تعالى: قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصدقين (27) فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28) يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبك أنك كنت من الخاطئين (29) قوله تعالى: (قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من إهلها). فيه ثلاث مسائل: الأولى - قال العلماء: (1) لما برأت نفسها، ولم تكن صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال: " هي راودتني عن نفسي " نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه. قال نوف الشامي وغيره: كأن يوسف عليه السلام لم يبن عن كشف القضية، فلما بغت به غضب فقال الحق. الثانية - (شهد شاهد من أهلها) لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها. أي حكم حاكم من أهلها، لأنه حكم منه وليس بشهادة. وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة: الأول - أنه طفل في المهد تكلم، قال السهيلي: وهو الصحيح، للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة " وذكر فيهم شاهد يوسف. وقال القشيري أبو نصر: قيل [ فيه ] (2): كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تكلم أربعة وهم صغار " فذكر منهم شاهد يوسف، فهذا قول. الثاني - أن الشاهد قد القميص، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال، (1) في ع: الحسن. (2) من ع. (*)
[ 173 ]
وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات، وذلك كثير في أشعارها وكلامها، ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد لم تشقني ؟ قال له: سل من يدقني. إلا أن قول الله تعالى بعد " من أهلها " يبطل أن يكون القميص. الثالث - أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني، قاله مجاهد أيضا، وهذا يرده قول تعالى: " من أهلها ". الرابع - أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها فقال: قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء الباب، وشق القميص، فلا يدري أيكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف، هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا والسدي. قال السدي: كان ابن عمها، وروي عن ابن عباس، وهو الصحيح في الباب، والله أعلم. وروي عن ابن عباس - رواه [ عنه ] (2) إسرائيل عن سماك عن عكرمة - قال: كان رجلا ذا لحية. وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: كان من خاصة الملك. وقال عكرمة: لم يكن بصبي، ولكن كان رجلا حكيما. وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كان رجلا. قال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة، ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن أن يأتي بدليل من العادة، لأن كلام الطفل آية معجزة، فكادت أوضح من الاستدلال بالعادة، وليس هذا بمخالف للحديث " تكلم أربعة وهم صغار " منهم صاحب يوسف، يكون المعنى: صغيرا ليس بشيخ، وفي هذا دليل آخر وهو: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي. قلت: قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف (3) والضحاك أنه كان صبيا في المهد، إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى (1) في ع: سمعنا. (2) من ع وى. (3) هو بالكسر وقد يفتح. (*)
[ 174 ]
استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة، والله أعلم. وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة " البروج " (1) إن شاء الله. الثالثة - وإذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالإمارات كما ذكرنا، وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع، حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم (2) لهم في ذلك، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم. وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل: إن ماكان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات، وأصل ذلك هذه الآية، والله أعلم. قوله تعالى: (إن كان قميصه قد من قبل) كان في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل، لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان، فقال المبرد محمد بن يزيد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج: المعنى إن يكن، أي إن يعلم، والعلم لم يقع، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم. " قد من قبل " فخبر عن " كان " بالفعل الماضي، كما قال زهير: وكان طوى كشحا على مستكنة * فلا هو أبداها ولم يتقدم (3) وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق " من قبل " بضم القاف والباء واللام، وكذا " دبر " قال الزجاج: يجعلهما غايتين كقبل وبعد، كأنه قال: من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له. ويجوز " من قبل " " ومن دبر " بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف، لأنه معرفة ومزال عن بابه. وروى محبوب عن أبي عمرو " من قبل " " ومن دبر " مخففان مجروران. (1) راجع ج‍ 19 ص 287 (2) التلوم: التنظر للأمر تريده. (3) الكشح: الجنب، ويقال طوى كشحه على كذا إذا أضمره. والمستكنة: الحقد. ويروى: (ولم يتجمجم). (*)
[ 175 ]
قوله تعالى: (فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن) قيل: قال لها ذلك العزيز عند قولها: " ما جزاء من أراد بأ هلك سوءا " [ يوسف: 25 ]. وقيل: قاله لها الشاهد. والكيد: المكر والحيلة، وقد تقدم في [ الأنفال ] (1). (إن كيدكن عظيم) وإنما قال " عظيم " لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن. وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " (2) [ النساء: 76 ] وقال: " إن كيدكن عظيم ". قوله تعالى: (يوسف أعرض عن هذا) القائل هذا هو الشاهد. و " يوسف " نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف. " أعرض عن هذا " أي لا تذكره لأحد واكتمه. ثم أقبل عليها فقال: وأنت (استغفري لذنبك) يقول: استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك. (إنك كنت من الخاطئين) ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلب المذكر، والمعنى: من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين، مثل: " إنها كانت من قوم كافرين " (3) [ النمل: 43 ] " وكانت من القانتين " (4) [ التحريم: 12 ]. وقيل: إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك، وفيه قولان: أحدهما - أنه لم يكن غيورا، فلذلك، كان ساكنا. وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود. الثاني - أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا (5) عنها. قوله تعالى: وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز ترود فتها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنرها في ظلل مبين (30) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكا وءاتت كل وحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما راينه أكبرنه وقطعن أيديهن (1) راجع ج‍ 7 ص 386. (2) راجع ج‍ 5 ص 280. (3) راجع ج‍ 13 ص 207. (4) راجع ج‍ 18 ص 204. (5) في ع وك وى: حلم. (*)
[ 176 ]
وقلن حاشا لله ماهذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) قالت فذلك الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما ءامره ليسجنن وليكونا من الصغرين (32) قوله تعالى: (وقالت نسوة في المدينة) ويقال: " نسوة " بضم النون، وهي قراءة الأعمش والمفضل والسلمي، والجمع الكثير نساء. ويجوز: وقالت نسوة، وقال نسوة، مثل قالت الأعراب وقال الأعراب، وذلك أن القصة انتشرت في أهل مصر فتحدث النساء. قيل: امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه. وقيل: امرأة الحاجب، عن ابن عباس وغيره. (تراود فتاها عن نفسه) الفتى في كلام العرب الشاب، والمرأة فتاة. (قد شغفها حبا) قيل: شغفها غلبها. وقيل: دخل حبه في شغافها، عن مجاهد وغيره. وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل تحت شغافها. وقال الحسن: الشغف باطن القلب. السدي وأبو عبيد (1): شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه. وقيل: هو وسط القلب، والمعنى في هذه الأقوال متقارب، والمعنى: وصل حبه إلى شغافها فغلب عليه، قال النابغة: وقد حال هم دون ذلك داخل * دخول الشغاف تبتغيه الأصابع (2) وقد قيل: إن الشغاف داء، وأنشد الأصمعي للراجز: يتبعها وهي له شغاف وقرأ أبو جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن " شعفها " بالعين غير معجمة، قال ابن الأعرابي: معناه أحرق حبه قلبها، قال: وعلى الأول العمل. قال الجوهري: وشعفه الحب أحرق قلبه. وقال أبو زيد: أمرضه. وقد شعف بكذا فهو مشعوف. وقرأ الحسن " قد شعفها " قال: بطنها حبا. قال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب، (1) في ع وك وى: أبو عبيدة. (2) يعنى أصابع المطببين، يقول: قد حال عن البكاء على الديار هم دخل في الفؤاد، حتى أصابه منه داء. (*)
[ 177 ]
لأن شعاف الجبال. أعاليها، وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين إذا أولع به، إلا أن أبا عبيدة أنشد بيت أمرئ القيس: لتقتلني (1) وقد شعفت فؤادها * كما شعف المهنوءة (2) الرجل الطالي قال: فشبهت لوعة الحب وجواه بذلك. وروي عن الشعبي أنه قال: الشغف بالغا لمعجمة حب، والشعف بالعين غير المعجمة جنون. قال النحاس: وحكي " قد شغفها " بكسر الغين، ولا يعرف في كلام العرب إلا " شغفها " بفتح الغين، وكذا " شعفها " أي تركها مشعوفة. وقال سعيد بن أبي عروبة عن الحسن: الشغاف حجاب القلب، والشعاف سويداء القلب، فلو وصل الحب إلى الشعاف لماتت، وقال الحسن: ويقال إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالقلب (3) التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فلصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب (3). قوله تعالى: (إنا لنراها في ضلال مبين) أي في هذا الفعل. وقال قتادة: " فتاها " وهو فتى زوجها، لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذ أمرها فيه. وقال مقاتل عن أبى عثمان النهدي عن سلمان الفارسى قال: إن امرأة العزيز استوهبت زوجها يوسف فوهبه لها، وقال: ما تصنعين به ؟ قالت أتخذه ولدا، قال: هو لك، فربته حتى أيفع وفى نفسها منه مافى نفسها، فكانت تنكشف له وتتزين وتدعوه من وجه اللطف فعصمه الله. قوله تعالى: (فلما سمعت بمكرهن) أي بغيبتهن إياها، واحتيالهن في ذمها. وقيل: إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها، فسمي ذلك مكرا. وقوله: (أرسلت إليهن) في الكلام حذف، أي أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه، فقال مجاهد عن ابن عباس: إن امرأة العزيز قالت لزوجها إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء النسوة، فقال لها: افعلي، فاتخذت طعاما، ثم نجدت لهن البيوت، نجدت أي زينت، والنجد ما ينجد (1) في ى والطبري: أتقتلني. وهو الأشبه. (2) المهنوءة: المطلية بالقطران، وإذا هنئ البعير بالقطران يجد له لذة مع حرقة، كحرقة الهوى مع لذته. (3) في ع و و: الكبد. وليس بصحيح. (*)
[ 178 ]
به البيت من المتاع أي يزين، والجمع نجود عن أبي عبيد (1)، والتنجيد التزيين، وأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها، ولا تتخلف منكن امرأة ممن سميت. قال وهب بن منبه: إنهن كن أربعين امرأة فجئن على كره منهن، وقد قال فيهن أمية بن أبي الصلت: حتى إذا جئنها قسرا * ومهدت لهن أنضادا وكبابا (2) ويروى: أنماطا. قال وهب بن [ منبه ] (3): فجئن وأخذن مجالسهن. (وأعتدت لهن متكا) أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها. قال ابن جبير: في كل مجلس جام فيه عسل وأترج وسكين حاد. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير " متكا " مخففا غير مهموز، والمتك هو الأترج بلغة القبط، وكذلك فسره مجاهد. روى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: المتكأ مثقلا [ هو ] (3) الطعام، والمتك مخففا [ هو ] (3) الأترج، وقال الشاعر: نشرب الإثم بالصواع جهارا * وترى المتك بيننا مستعارا وقد تقول أزد شنوءة: الأترجة المتكة، قال الجوهري: المتك ما تبقيه الخاتنة. وأصل المتك الزماورد (4). والمتكاء من النساء التي لم تخفض (5). قال الفراء: حدثني شيخ من ثقات أهل البصرة أن المتك مخففا الزماورد. وقال بعضهم: إنه الأترج، حكاه الأخفش. ابن زيد: أترجا وعسلا يؤكل به، قال الشاعر: فظلنا بنعمة واتكأنا * وشربنا الحلال من قلله أي أكلنا. النحاس: قوله تعالى: " واعتدت " من العتاد، وهو كل ما جعلته عدة لشئ. " متكأ " أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مجلسا، وأما قول جماعة من أهل التفسير إنه الطعام فيجوز على تقدير: طعام متكأ، مثل: " واسأل القرية "، ودل على (1) كذا في الأصول: ولعل الصواب أبو عبيدة كما يؤخذ من اللسان. (2) كذا البيت في الأصول. (3) من ع. (4) الزماورد: الرقاق الملفوف باللحم وغيره، أو هو شئ يشبه الأترج. (5) خفض الجارية: ختنها، وكذا الصبى، والعرف أن الخفض للجارية خاصة والختان للصبى. (6) هو جميل ابن معمر، والقلل جمع قلة، والقلة الحب العظيم. وقيل: الجرة الكبيرة. وقيل: الكوز الصغير. وقيل غير ذلك. (*)
[ 179 ]
هذا الحذف " وآتت كل واحدة منهن سكينا " لأن حضور النساء معهن سكاكين إنما هو لطعام يقطع بالسكاكين، كذا قال في كتاب " إعراب القرآن " له. وقال في كتاب " معاني القرآن " [ له ] (1): وروى معمر عن قتادة قال: " المتكأ " الطعام. وقيل: " المتكأ " كل ما أتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، إلا أن الروايات قد صحت بذلك. وحكى القتبي أنه يقال: أتكأنا عند فلان أي أكلنا، والأصل في " متكأ " موتكأ، ومثله متزن ومتعد، لأنه من وزنت ووعدت ووكأت، ويقال: اتكأ يتكئ اتكاء. (كل واحدة منهن سكينا) مفعولان، وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكر ويؤنث، وأنشد الفراء: فعيث (2) في السنام غداة قر * بسكين موثقة النصاب الجوهري: والغالب عليه التذكير، وقال: يرى ناصحا فيما بدا فإذا خلا * فذلك سكين على الحلق حاذق الأصمعي: لايعرف في السكين إلا التذكير. قوله تعالى: (وقالت اخرج عليهن) بضم التاء لالتقاء الساكنين، لأن الكسرة تثقل إذا كان بعدها ضمة، وكسرت التاء على الأصل. قيل: إنها قالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن، ثم قالت لخادمها: إذا قلت لك ادع لى إيلا فادع يوسف، وإيل: صنم كانوا يعبدونه، وكان يوسف عليه السلام يعمل في الطين، وقد شد مئزره، وحسر عن ذراعيه، فقالت للخادم: ادع لي إيلا، أي ادع لي الرب، وإيل بالعبرانية الرب، قال: فتعجب النسوة وقلن: كيف يجئ ؟ ! فصعدت الخادم فدعت يوسف، فلما انحدر قالت لهن: أقطعن ما معكن. (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن) بالمدى حتى بلغت السكاكين إلى العظم، قاله وهب بن منبه. سعيد بن جبير: لم يخرج عليهن حتى زينته، فخرج عليهن فجأة فدهشن فيه، وتحيرن لحسن وجهه وزينته وما عليه، فجعلن يقطعن أيديهن، ويحسبن (1) من ع. (2) عيث في السنام بالسكين أثر. (*)
[ 180 ]
أنهن يقطعن الأترج، واختلف في معنى " أكبرنه " فروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أعظمنه (1) وهبنه، وعنه أيضا أمنين وأمذين من الدهش، وقال الشاعر: إذا ما رأين الفحل من فوق قارة * صهلن وأكبرن المني المدفقا وقال ابن سمعان عن عدة من أصحابه: إنهم قالوا أمذين عشقا، وهب بن منبه: عشقنه حتى مات منهن عشر في ذلك المجلس دهشا وحيرة ووجدا بيوسف. وقيل: معناه حضن من الدهش، قاله قتادة ومقاتل والسدي، قال الشاعر: نأتي النساء على أطهارهن * ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا: ليس ذلك في كلام العرب، ولكنه يجوز أن يكن حضن من شدة إعظامهن له، وقد تفزع المرأة فتسقط ولدها أو تحيض. قال الزجاج يقال أكبرنه، ولا يقال حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض، وأجاب الأزهري فقال: يجوز أكبرت بمعنى حاضت، لأن المرأة إذا حاضت في الابتداء خرجت من حيز الصغر إلى الكبر، قال: والهاء في " أكبرنه " يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية، وهذا مزيف، لأن هاء الوقف تسقط في الوصل، وأمثل منه قول ابن الأنباري: إن الهاء كناية عن مصدر الفعل، أي أكبرن إكبارا، بمعنى حضن حيضا. وعلى قول ابن عباس الأول تعود الهاء إلى يوسف، أي أعظمن يوسف وأجللنه. قوله تعالى: (وقطعن أيديهن) قال مجاهد: قطعنها حتى ألقينها. وقيل: خدشنها. وروى ابن أبي نجيح [ عن مجاهد ] (4) قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده. وقال عكرمة: " أيديهن " أكمامهن، وفيه بعد. وقيل: أناملهن، أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في مواضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن. (1) في هامش ع: معنى " أكبرنه " أي عظمنه ودهشن من حسنه. (2) القارة: الجبل الصغير المنقطع عن الجبال، وقيل: الصخره العظيمة، وقيل غير ذلك. (3) قال ابن عطية وقوله: " أكبرنه " معناه أعظمنه واستهولن جماله هذا قول المشهور. وقال عبد الصمد بن على الهاشمي عن أبيه عن جده: معناه حضن وأنشد: نأتى النساء على أطهارهن ولا نأتى النساء إذا أكبرن إكبارا قال القاضى أبو محمد: وهذا قول ضعيف ومعناه منكور والبيت مصنوع مختلق، لذلك قال الطبري وغيره من المحققين: ليس عبد الصمد من رواة العلم رحمه الله. من هامش ع. (4) من ع وك. (*)
[ 181 ]
قوله تعالى: (وقلن حاش لله) أي معاذ الله. وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء. " وقلن حاشا لله " بإثبات الألف وهو الأصل، ومن حذفها جعل اللام في " لله " عوضا منها. وفيها أربع لغات، يقال: حاشاك وحاشا لك وحاش لك وحشا لك. ويقال: حاشا زيد وحاشا زيدا، قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: النصب أولى، لأنه قد صح أنها فعل لقولهم حاش لزيد، والحرف لا يحذف منه، وقد قال، النابغة: ولا أحاشي من الأقوام من أحد (1) وقال بعضهم: حاش حرف، وأحاشى فعل. ويدل على كون حاشا فعلا وقوع حرف الجر بعدها. وحكى أبو زيد عن أعرابي: اللهم اغفر لي ولمن يسمع (2)، حاشا الشيطان وأبا الأصبغ (3)، فنصب بها. وقرأ الحسن " وقلن حاش لله " بإسكان الشين، وعنه أيضا " حاش الإله ". ابن مسعود وأبي: " حاش الله " بغير لام، ومنه قول الشاعر (4): حاشا أبي ثوبان إن به * ضنا عن الملحاة والشتم قال الزجاج: وأصل الكلمة من الحاشية، والحشا بمعنى الناحية، تقول: كنت في حشا فلان أي في ناحيته، فقولك: حاشا لزيد أي تنحى زيد من هذا وتباعد عنه، والاستثناء إخراج وتنحية عن جملة المذكورين. وقال أبو علي: هو فاعل من المحاشاة، أي حاشا يوسف وصار في حاشية وناحية مما قرف به، أو من أن يكون بشرا، فحاشا وحاش في الاستثناء حرف جر عند سيبويه، وعلى ما قال المبرد وأبو علي فعل. قوله تعالى: (ما هذا بشرا) قال الخليل وسيبويه: " ما " بمنزلة ليس، تقول: ليس زيد قائما، و " ما هذا بشر " و " ما هن أمهاتهم " (5) [ المجادلة: 2 ]. وقال الكوفيون: لما حذفت الباء (1) صدر البيت: ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه وهو من قصيدة يمدح بها النعمان ويعتذر إليه. (2) في ع ك و و: سمع. (3) كلام منثور. (4) هو سبرة بن عمرو الأسدى، وقيل: هو للجميح الأسدى، واسمه منقذ بن الطماح. والملحاة: اللوم. وفى ع: ابن مروان. كذا في إحدى روايتي اللسان: أبى مروان. وفى ك وى: ثروان. (5) راجع ج‍ 17 ص 272. (*)
[ 182 ]
نصبت، وشرح هذا - فيما قاله أحمد بن يحيى، - إنك إذا قلت: ما زيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض، فلما حذفت الباء نصبت لتدل على محلها، قال: وهذا قول الفراء، قال: ولم تعمل " ما " شيئا، فألزمهم البصريون أن يقولوا: زيد القمر، لأن المعنى كالقمر ! فرد أحمد بن يحيى بأن قال: الباء أدخل في حروف الخفض من الكاف، لأن الكاف تكون اسما. قال النحاس: لا يصح إلا قول البصريين، وهذا القول يتناقض، لأن الفراء أجاز (1) نصا ما بمنطلق زيد، وأنشد: أما والله أن لو كنت حرا * وما بالحر أنت ولا العتيق ومنع (1) نصا النصب، ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز: ما فيك براغب زيد، وما إليك بقاصد عمرو، ثم يحذفون الباء ويرفعون. وحكى البصريون والكوفيون ما زيد منطلق بالرفع، وحكى البصريون أنها لغة تميم، وأنشدوا: أتيما تجعلون إلي ندا * وما تيم لذي حسب نديد الند والنديد والنديدة المثل والنظير. وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد. وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين: قال أبو إسحاق: وهذا غلط، كتاب الله عز وجل ولغة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى وأولى. قلت: وفي مصحف حفصة رضي الله عنها " ما هذا ببشر " ذكره الغزنوي. قال القشيري أبو نصر: وذكرت النسوة أن [ صورة ] يوسف أحسن، من صورة (2) البشر، بل هو في صورة ملك، وقال الله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (3) " [ التين: 4 ] والجمع بين الآيتين أن قولهن: " حاش لله " تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز من المراودة، أي بعد يوسف عن هذا، وقولهن: " لله " أي لخوفه، أي براءة لله من هذا، أي قد نجا يوسف من ذلك، فليس هذا من الصورة في شئ، والمعنى: أنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة، فعلى هذا لا تناقض. وقيل: المراد تنزيهه عن مشابهة البشر في الصورة، لفرط جماله. وقوله: " لله " تأكيد لهذا المعنى، فعلى هذا المعنى قالت النسوة ذلك ظنا منهن أن صورة الملك أحسن، وما بلغهن قوله (1) في ع: أجاز أيضا. (2) في ع: إن يوسف أحسن صورة من البشر. (3) راجع ج‍ 20 ص 113. (*)
[ 183 ]
تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " [ التين: 4 ] فإنه من كتابنا. وقد ظن بعض الضعفة أن هذا القول لو كان ظنا باطلا منهن لوجب على الله أن يرد عليهن، ويبين كذبهن، وهذا باطل، إذ لا وجوب على الله تعالى، وليس كل ما يخبر به الله سبحانه من كفر الكافرين وكذب الكاذبين يجب عليه أن يقرن به الرد عليه، وأيضا أهل العرف قد يقولون في القبيح كأنه شيطان، وفي الحسن كأنه ملك، أي لم ير مثله، لأن الناس لا يرون الملائكة، فهو بناء على ظن في أن صورة الملك أحسن، أو على الإخبار بطهارة أخلاقه وبعده عن التهم. (إن هذا إلا ملك) أي ما هذا إلا ملك، وقال الشاعر (1): فلست لإنسي ولكن لملاك * تنزل من جو السماء يصوب وروي عن الحسن: " ماهذا بشرى " بكسر الباء والشين، أي ما هذا عبدا مشترى، أي ما ينبغي لمثل هذا أن يباع، فوضع المصدر موضع اسم المفعول، كما قال: " أحل لكم صيد البحر " (2) [ المائدة: 96 ] أي مصيده، وشبهه كثير. ويجوز أن يكون المعنى: ما هذا بثمن، أي مثله لا يثمن ولا يقوم، فيراد بالشراء على هذا الثمن المشترى به: كقولك: ما هذا بألف إذا نفيت قول القائل: هذا بألف. فالباء على هذا متعلقة بمحذوف هو الخبر، كأنه قال: ما هذا مقدرا بشراء. وقراءة العامة أشبه، لأن بعده " إن هذا إلا ملك كريم " مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيما لشأنه، ولأن مثل " بشرى " يكتب في المصحف بالياء. قوله تعالى: (قالت فذلكن الذى لمتننى فيه) لما رأت افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها: " لمتنني فيه " أي بحبه، و " ذلك " بمعنى " هذا " وهو اختيار الطبري. وقيل: الهاء للحب، و " ذلك " عل بابه، والمعنى: ذلكن الحب الذي لمتنني فيه، أي حب هذا هو ذلك الحب. واللوم الوصف بالقبيح. ثم أقرت وقالت: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) أي أمتنع (3)، (1) هو رجل من عبد القيس جاهلي، يمدح بعض الملوك، قيل: هو النعمان، وقال ابن السيرافى: هو لأبى وجزة يمدح به عبد الله بن الزبير. وملك - كما قال الكسائي - أصله مألك بتقديم الهمزة، من الألوكة، وهى الرسالة، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل: ملاك، ثم تركت همزته لكثرة الإستعمال فقيل: ملك، فلما جمعوه ردوها إليه فقالوا: ملائكة وملائك أيضا. (اللسان). (2) راجع ج‍ 6 ص 317. (3) في ه‍ ع: واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت: ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. (*)
[ 184 ]
وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية. وقيل: " استعصم " أي استعصى، والمعنى واحد. (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن) عاودته المراودة بمحضر منهن، وهتكت جلباب (1) الحياء، ووعدت بالسجن إن لم يفعل، وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها. (وليكونا من الصاغرين) أي الأذلاء. وخط المصحف " وليكونا " بالألف وتقرأ بنون مخففة للتأكيد، ونون التأكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله: " ليسجنن " بالنون لأنها مثقلة، وعلى " ليكونا " بالألف لأنها مخففة، وهي تشبه نون الإعراب في قولك: رأيت رجلا وزيدا وعمرا، ومثله قوله: " لنسفعا بالناصية " (2) ونحوها الوقف عليها بالألف، كقول الأعشى: ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا أي أراد فاعبدا، فلما وقف عليه كان الوقف بالألف. قوله تعالى: قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34) قوله تعالى: (قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه) أي دخول السجن، فحذف المضاف، قاله الزجاج والنحاس. " أحب إلي " أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية، لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق. وحكي أن يوسف عليه السلام لما قال: " السجن أحب إلي " أوحى الله إليه " يا يوسف ! أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب إلي، ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت ". وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ: " السجن " بفتح السين وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق (1) في ع: حجاب (2) راجع ج‍ 20 ص 125. (3) صدر البيت: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه وهو من قصيدة يمدح بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (*)
[ 185 ]
وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب، وهو مصدر سجنه سجنا. (وإلا تصرف عنى كيدهن) أي كيد النسوان. وقيل: كيد النسوة اللاتي رأينه ؟ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز، وقلن له: هي مظلومة وقد ظلمتها. وقيل: طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز، والقصد بذلك أن تعذله في حقها، وتأمره بمساعدتها، فلعله يجيب، فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له: يا يوسف ! اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك، تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده، فقال: يا رب كانت واحدة فصرن جماعة. وقيل: كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة، وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والكيد الاحتيال والاجتهاد، ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها، قال عمر بن لجأ: تراءت كي تكيدك أم بشر * وكيد بالتبرج ما تكيد (أصب إليهن) جواب الشرط، أي أمل إليهن، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة، قال (1): إلى هند صبا قلبى * وهند مثلها يصبي أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها. (واكن من الجاهلين) أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال، ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله، ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه. قوله تعالى: (فاستجاب له ربه) لما قال. " وإلا تصرف عن كيدهن " تعرض للدعاء، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن، فاستجاب له دعاءه، ولطف به وعصمه عن الوقوع في الزنى. " كيدهن " قيل: لأنهن جمع قد راودنه عن نفسه. وقيل: يعني كيد النساء. وقيل: يعني كيد امرأة العزيز، على ما ذكر في الآية قبل، والعموم أولى. (1) هو زيد بن ضبة. (*)
[ 186 ]
قوله تعالى: ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الأيت ليسجننه حتى حين (35) فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ثم بدا لهم) أي ظهر للعزيز وأهل مشورته " من بعد أن رأوا الآيات " أي علامات براءة يوسف - من قد القميص من دبر، وشهادة الشاهد، وحز الأيدي، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف - أن يسجنوه كتمانا للقصة ألا تشيع في العامة، وللحيلولة بينه وبينها. وقيل: هي البركات التي كانت تنفتح عليهم ما دام يوسف فيهم، والأول أصح. قال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس في قول: " ثم بدا لهم من بعد ما رءوا الآيات " قال: القميص من الآيات، وشهادة الشاهد من الآيات، وقطع الأيدي من الآيات، وإعظام النساء إياه من الآيات. وقيل: ألجأها الخجل من الناس، والوجل من اليأس إلى أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب، لتشتفي إذا منعت من نظره، قال: وما صبابة مشتاق على أمل * من اللقاء كمشتاق بلا أمل أو كادته رجاء أن يمل حبسه فيبذل نفسه. قوله تعالى: (ليسجننه) " يسجننه " في موضع الفاعل، أي ظهر لهم أن يسجنوه، هذا قول سيبويه. قال المبرد: وهذا غلط، لا يكون الفاعل جملة، ولكن الفاعل ما دل عليه " بدا " وهو مصدر، أي بدا لهم بداء، فحذف لأن الفعل يدل عليه، كما قال الشاعر: وحق لمن أبو موسى أبوه * يوفقه الذي نصب الجبالا أي وحق الحق، فحذف. وقيل: المعنى ثم بدا لهم رأي لم يكونوا يعرفونه، وحذف هذا لأن في الكلام دليلا عليه، وحذف أيضا القول، أي قالوا: ليسجننه، واللام جواب ليمين مضمر، قاله الفراء، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث، ولو كان فعلا مؤنثا لكان يسجنانه،
[ 187 ]
ويدل على هذا قوله " لهم " ولم يقل لهن، فكأنه أخبر عن النسوة وأعوانهن فغلب المذكر، قاله أبو علي. وقال السدي: كان سبب حبس يوسف أن امرأة العزيز شكت إليه أنه شهرها ونشر خبرها، فالضمير على هذا في " لهم " للملك. الثالثة - قوله تعالى: (حتى حين) أي إلى مدة غير معلومة، قاله كثير من المفسرين. وقال ابن عباس: إلى انقطاع ما شاع في المدينة. وقال سعيد بن جبير: إلى ستة أشهر. وحكى الكيا أنه عنى ثلاثة عشر شهرا. عكرمة: تسع سنين. الكلبي: خمس سنين. مقاتل: [ سبع ] (1). وقد مضى في " البقرة " (2) القول في الحين وما يرتبط به من الأحكام. وقال وهب: أقام في السجن اثنتي عشرة سنة. و " حتى " بمعنى إلى، كقوله: " حتى مطلع الفجر " (3) [ القدر: 5 ]. وجحل الله الحبس تطهيرا ليوسف صلى الله (4) عليه وسلم من همه بالمرأة. وكأن العزيز - وإن عرف براءة يوسف - أطاع المرأة في سجن يوسف. قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن، وحين قال للفتى: " اذكرني عند ربك " [ يوسف: 42 ] فلبث في السجن بضع سنين، وحين قال لإخوته: " إنكم لسارقون " [ يوسف: 70 ] فقالوا: " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ". [ يوسف: 77 ]. الرابعة - أكره يوسف عليه السلام على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره، ولو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا. فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحده. وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف، فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين، فإنه من أعظم الحرج في الدين. " وما جعل عليكم في الدين من حرج ". (5) [ الحج: 78 ]. وسيأتي بيان هذا في " النحل " (6) إن شاء الله. وصبر يوسف، واستعاذ به من الكيد، فاستجاب له على ما تقدم. (1) من ع. وفى روح المعاني والفخر الرازي عن مقاتل اثنى عشر سنة. (2) راجع ج‍ 1 ص 321. فما بعد. (3) راجع ج‍ 20 ص 134. (4) من ع. (5) راجع ج‍ 12 ص 99. (6) راجع ج‍ 10 ص 182 فما بعد. (*)
[ 188 ]
قوله تعالى: ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إنى أرنى أعصر خمرا وقال الآخر إنى أرنى أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين (36) قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربى إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالأخرة هم كافرون (37) واتبعت ملة ءاباءى إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38) قوله تعالى: (ودخل معه السجن فتيان) " فتيان " تثنية فتى، وهو من ذوات الياء، وقولهم: الفتو شاذ (1). قال وهب وغيره: حمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار، وطيف به " هذا جزاء من يعصي سيدته " وهو يقول: هذا أيسر من مقطعات (2) النيران، وسرابيل القطران، وشراب الحميم، وأكل الزقوم. فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم، فجعل يقول لهم: اصبروا وابشروا تؤجروا، فقالوا له: يا فتى ! ما أحسن حديثك ! لقد بورك لنا في جوارك، من أنت يا فتى ؟ قال: أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح (3) الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم. وقال ابن عباس: لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني، وأنا أريد أن تسجنه، فسجنه في السجن، فكان يعزي فيه الحزين، ويعود فيه المريض، ويداوي فيه الجريح، ويصلي الليل كله، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب، وطهر به السجن، واستأنس به أهل السجن، فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن (1) في ع وك وى: الفتو شاذة. (2) مقطعات النيران: هي على نحو قوله تعالى: " قطعت لهم ثياب من نار " أي خيطت وسويت وجعلت لبوسا لهم. (3) هذا دليل الوضع لأن الذبيح قطعا إسماعيل عليه السلام. (4) في ع: يحبس. (*)
[ 189 ]
مع يوسف، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه، ثم قال [ له ] (1): يا يوسف ! لقد أحببتك حبا لم أحب شيئا حبك، فقال: أعوذ بالله من حبك، قال: ولم ذلك ؟ فقال: أحبني أبي ففعل بي إخوتي ما فعلوه، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خبازه وصاحب شرابه، وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعا، فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب، فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك، فأمر الملك بحبسهما، فاستأنسا بيوسف، فذلك قوله: " ودخل معه السجن فتيان " وقد قيل: إن الخباز وضع السم في الطعام، فلما حضر الطعام قال الساقي: أيها الملك ! لا تأكل فإن الطعام مسموم. وقال الخباز: أيها (1) الملك لا تشرب ! فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب ! فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل، فأبى، فجرب الطعام على حيوان فنفق مكانه، فحبسهما سنة، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف. واسم الساقي منجا، والآخر مجلث، ذكره الثعلبي عن كعب. وقال النقاش: اسم أحدهما شرهم، والآخر سرهم، الأول بالشين المعجمة، والآخر بالسين المهملة. وقال الطبري: الذي رأى أنه يعصر خمرا هو نبو، قال السهيلي: وذكر اسم الآخر ولم أقيده. وقال " فتيان " لأنهما كانا عبدين، والعبد يسمى فتى، صغيرا كان أو كبيرا، ذكره الماوردي. وقال القشيري: ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم، ولهذا قال: " تراود فتاها عن نفسه " [ يوسف: 30 ]. ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا. ويمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه. " قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا " أي عنبا، كان يوسف قال لأهل السجن: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: تعال حتى نجرب هذا العبد العبراني، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، قاله ابن مسعود. وحكى الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال: إني أعبر الرؤيا، فسألاه عن رؤياهما. قال ابن عباس ومجاهد: كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها، ولذلك صدق تأويلها. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أصدقكم رؤيا أصدقكم (1) من ع. (*)
[ 190 ]
حديثا ". وقيل: إنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجريبا، وهذا قول ابن مسعود والسدي. وقيل: إن المصلوب منهما كان كاذبا، والآخر صادقا، قاله أبو مجلز. وروى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين [ ولن يعقد (1) بينهما ] ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة ". قال: حديث حسن. قال ابن عباس: لما رأيا رؤياهما أصبحا مكروبين، فقال لهما يوسف: مالي أراكما مكروبين ؟ قالا: يا سيدنا ! إنا رأينا ما كرهنا، قال: فقصا علي، فقصا عليه، قالا: نبئنا بتأويل ما رأينا، وهذا يدل على أنها كانت رؤيا منام. (إنا نراك من المحسنين) فإحسانه، أنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويعزي الحزاني، قال الضحاك: كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به، وإذا ضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له، وسأل له. وقيل: " من المحسنين " أي العالمين الذين أحسنوا العلم، قاله الفراء. وقال ابن إسحاق: " من المحسنين " لنا إن فسرته، كما يقول: افعل كذا وأنت محسن. قال: فما رأيتما ؟ قال الخباز: رأيت كأنى اختبزت في ثلاث تنانير، وجعلته في ثلاث سلال، فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منه. وقال الآخر: رأيت كأنى أخذت عناقيد من عنب أبيض، فعصرتهن في ثلاث أوان، ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى، فذلك قوله: " إنى أرانى أعصر خمرا " أي عنبا، بلغة عمان، قاله الضحاك. وقرأ ابن مسعود: " إنى أرانى أعصر عنبا ". وقال الأصمعى: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقى أعرابيا ومعه عنب فقال له: ما معك ؟ قال: خمر. وقيل: معنى. " أعصر خمرا " أي عنب، فحذف المضاف. ويقال خمرة وخمر وخمور، مثل تمرة وتمر وتمور. " قال " لهما يوسف: (لا يأتيكما طعام (1) الزيادة عن صحيح الترمذي، قال شارحه: لما تبعته نظرى ظهر إلى أن المخبر بما لم ير عقد من الكلام عقدا باطلا لم يشعر به. أي لم يعلمه، فقيل له: اعقد بين شعيرتين ولا ينعقد له ذلك أبدا، عقوبة لعقده بين كلمات لم يكن منها شئ، لتكون العقوبة من جنس المعصية. (*)
[ 191 ]
ترزقانه) يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما (إلا نبأتكما بتأويله) لتعلما أني أعلم تأويل رؤياكما، فقالا: افعل ! فقال لهما: يجيئكما كذا وكذا، فكان على ما قال، وكان هذا من علم الغيب خص به يوسف. وبين أن الله خصه بهذا العلم لأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله، يعني دين الملك. ومعنى الكلام عندي: العلم بتأويل رؤياكما، والعلم بما يأتيكما من طعامكما والعلم بدين الله، فاسمعوا أولا ما يتعلق بالدين لتهتدوا، ولهذا لم يعبر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام، فقال: " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون " [ يوسف: 39 - 40 ] الآية كلها، على ما يأتي. وقيل: علم أن أحدهما مقتول فدعاهما إلى الإسلام ليسعدا (1) به. وقيل: إن يوسف كره أن يعبر لهما ما سألاه لما علمه من المكروه على أحدهما فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره فقال: " لا يأتيكما طعام ترزقانه " في النوم " إلا نبأتكما " بتفسيره في اليقظة، قاله السدي، فقالا له: هذا من فعل العرافين والكهنة، فقال لهما يوسف عليه السلام: ما أنا بكاهن، وإنما ذلك مما علمنيه ربي، إني لا أخبركما به تكهنا وتنجيما، بل هو بوحي من الله عز وجل. وقال ابن جريج: كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معروفا فأرسل به إليه، فالمعنى: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة، فعلى هذا " ترزقانه " أي يجري عليكما من جهة الملك أو غيره. ويحتمل يرزقكما الله. قال الحسن: كان يخبرهما بما غاب، كعيسى عليه السلام. وقيل: إنما دعاهما بذلك إلى الإسلام، وجعل المعجزة التي يستدلان بها إخبارهما بالغيوب. قوله تعالى: (واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحق ويعقوب) لأنهم أنبياء على الحق. (ماكان) أي ما ينبغي لنا. (لنا أن نشرك بالله من شئ) " من " للتأكيد، كقولك: ما جاءني من أحد. وقوله تعالى: (ذلك من فضل الله علينا) إشارة إلى عصمته من الزنى. (وعلى الناس) أي على المؤمنين الذين عصمهم الله من الشرك. وقيل: " ذلك من فضل الله علينا " إذ جعلنا أنبياء، " وعلى الناس " إذ جعلنا الرسل إليهم. (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) على نعمة (2) التوحيد والإيمان. (1) من ى. وفى أ وح‍ وك وع: ليستعدا به. (2) كذا في ع. وفى ا وك وى: نعمه بالتوحيد. (*)
[ 192 ]
قوله تعالى: يصحبى السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله من سلطن إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (40) قوله تعالى: (يا صاحبي السجن) أي يا ساكني السجن، وذكر الصحبة لطول مقامهما فيه، كقولك: أصحاب الجنة، وأصحاب النار. (أأرباب متفرقون) أي في الصغر والكبر والتوسط، أو متفرقون في العدد. (خير أم الله الواحد القهار) وقيل: الخطاب لهما ولأهل السجن، وكان بين أيديهم أصنام يعبدونها من دون الله تعالى، فقال ذلك إلزاما للحجة، أي آلهة شتى لا تضر ولا تنفع. " خير أم الله الواحد القهار " الذي قهر كل شئ. نظيره: " الله خير أما يشركون " (1) [ النمل: 59 ]. وقيل: أشار بالتفرق إلى أنه لو تعدد الإله لتفرقوا في الإرادة ولعلا بعضهم على بعض، وبين أنها إذا تفرقت لم تكن آلهة. قوله تعالى: (ما تعبدون من دون الله إلا أسماء) بين عجز الأصنام وضعفها فقال: " ما تعبدون من دونه " أي من دون الله إلا ذوات أسماء لامعاني لها. (سميتموها) من تلقاء أنفسكم. وقيل: عنى بالأسماء المسميات، أي ما تعبدون إلا أصناما ليس لها من الإلهية شئ إلا الاسم، لأنها جمادات. وقال: " ما تعبدون " وقد ابتدأ بخطاب الاثنين، لأنه قصد جميع من هو على مثل حالهما من الشرك. (إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) فحذف، المفعول الثاني للدلالة، والمعنى: سميتموها آلهة من عند أنفسكم. (ما أنزل الله) ذلك في كتاب. قال سعيد بن جبير: (من سلطان) أي من حجة. (إن الحكم إلا لله) الذي هو خالق الكل. (أمر ألا تعبدوا إلا إياه). (ذلك الدين القيم). أي القويم. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (1) راجع ج‍ 13 ص 219. (*)
[ 193 ]
قوله تعالى: يصحبى السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الأمر الذى فيه تستفتيان (41) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (أما إحدكما فيسقى ربه خمرا) أي قال للساقي: إنك ترد على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك بعد ثلاثة أيام، وقال للآخر: وأما أنت فتدعى إلى ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك، قال: والله ما رأيت شيئا، قال: رأيت أو لم تر (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان). وحكى أهل اللغة أن سقى وأسقى لغتان بمعنى واحد، كما قال الشاعر (1): سقى قومي بني مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال قال النحاس: الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب، أو صب الماء في حلقه ومعنى أسقاه جعل له سقيا، قال الله تعالى: " وأسقيناكم ماء فراتا " (2) [ المرسلات: 27 ]. الثانية - قال علماؤنا: إن قيل من كذب في رؤياه ففسرها العابر له أيلزمه حكمها ؟ قلنا: لا يلزمه، وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي، وتعبير النبي حكم، وقد قال: إنه يكون كذا وكذا فأوجد الله تعالى ما أخبر كما قال تحقيقا لنبوته، فإن قيل: فقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني رأيت كأني أعشبت ثم أجدبت ثم أعشبت ثم أجدبت، فقال له عمر: أنت رجل تؤمن ثم تكفر، ثم تؤمن ثم تكفر، ثم تموت كافرا، فقال الرجل: ما رأيت شيئا، فقال له عمر: قد قضى لك ما قضى لصاحب يوسف، قلنا: ليست لأحد بعد عمر، لأن عمر كان محدثا (3)، [ وكان إذا ظن (4) ظنا كان ] (1) هو لبيد، ومجد: ابنة تيم بن غالب بن فهر، وهى أم كلاب وكليب بنى ربيعة. وفاعل سقى هو المطر. (2) راجع ج‍ 29 ص 158. (3) محدث: ملهم، أو يلقى في روعه الشئ، أو يجرى الصواب على لسانه من غير قصد. (القسطلانى). والمحدث: الذى يحدثه الملك ايضا. أي يلقى في نفسه. (4) من ع وك وو وى. (*)
[ 194 ]
وإذا تكلم به وقع، على ما ورد في أخباره، وهي كثيرة، منها - أنه دخل عليه رجل فقال له: أظنك كاهنا فكان كما ظن، خرجه البخاري. ومنها - أنه سأل رجلا عن اسمه فقال له فيه أسماء النار كلها، فقال له: أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال: خرجه الموطأ. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الحجر " (1) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنسه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين (42) فيه خمس مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وقال للذى ظن) " ظن " هنا بمعنى أيقن، في قول أكثر المفسرين وفسره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين، قال: إنما ظن يوسف نجاته لأن العابر يظن ظنا وربك يخلق ما يشاء، والأول أصح وأشبه بحال الأنبياء وأن ما قاله للفتيين في تعبير الرؤيا كان عن وحي، وإنما يكون ظنا في حكم الناس، وأما في حق الأنبياء فإن حكمهم حق كيفما وقع. الثانية - قوله تعالى: (اذكرني عند ربك) أي سيدك، وذلك معروف في اللغة أن يقال للسيد رب، قال الأعشى: ربي كريم لا يكدر نعمة * وإذا تنوشد (2) في المهارق أنشدا أي اذكر ما رأيته، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب. وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقل أحدكم اسق ربك أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي مولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي ". وفي القرآن: " اذكرني عند ربك " " إلى (1) راجع ج‍ 10 ص 42. (2) ويروى: (يناشد بالمهارق) يقول: إذا نوشد بما في الكتب أجاب، أي إذا سئل أعطى. والمهرق: الصحيفة. (*)
[ 195 ]
ربك " " إنه ربي أحسن مثواي " [ يوسف: 23 ] أي صاحبي، يعني العزيز. ويقال لكل من قام بإصلاح شئ وإتمامه: قد ربه يربه، فهو رب له. قال العلماء قول عليه السلام: " لا يقل أحدكم " " وليقل " من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى، لا أن إطلاق ذلك الاسم محرم، ولأنه قد جاء عنه عليه السلام " أن تلد الأمة ربها " أي مالكها وسيدها، وهذا موافق للقرآن في إطلاق ذلك اللفظ، فكان محل النهي في هذا الباب ألا نتخذ هذه الأسماء عادة فنترك الأولى والأحسن. وقد قيل: إن قول الرجل عبدي وأمتي يجمع معنيين: أحدهما - أن العبودية بالحقيقة إنما هي لله تعالى، ففي قول الواحد من الناس لمملوكه عبدي وأمتي تعظيم عليه، وإضافة له إلى نفسه بما أضافه الله تعالى به إلى نفسه، وذلك غير جائز. والثاني - أن المملوك يدخله من ذلك شئ في استصغاره بتلك التسمية، فيحمله ذلك على سوء الطاعة. وقال ابن شعبان في " الزاهي ": " لا يقل السيد عبدي وأمتي ولا يقل المملوك ربي ولا ربتي " وهذا محمول على ما ذكرناه. وقيل: إنما قال صلى الله عليه وسلم " لا يقل العبد ربي وليقل سيدي " لأن الرب من أسماء الله تعالى المستعملة بالاتفاق، وأختلف في السيد هل هو من أسماالله تعالى أم لا ؟ فإذا قلنا ليس من أسماء الله فالفرق واضح، إذ لا التباس ولا إشكال، وإذا قلنا إنه من أسمائه فليس في الشهرة ولا الاستعمال كلفظ الرب، فيحصل الفرق. وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون ذلك جائزا في شرع يوسف عليه السلام. الثالثة - قوله تعالى: (فأنساه الشيطان ذكر ربه) الضمير في " فأنساه " فيه قولان: أحدهما - أنه عائد إلى يوسف عليه السلام، أي أنساه الشيطان ذكر الله عز وجل، وذلك أنه لما قال يوسف لساقي الملك - حين علم أنه سينجو ويعود إلى حالته الأولى مع الملك - " اذكرني عند ربك " نسي في ذلك الوقت أن يشكو إلى الله ويستغيث به، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق، فعقب باللبث. قال عبد العزيز بن عمير الكندي: دخل جبريل على يوسف النبي عليه السلام في السجن فعرفه يوسف، فقال: يا أخا المنذرين ! مالي أراك بين الخاطئين ؟ ! فقال جبريل عليه السلام: يا طاهر [ ابن ] (1) الطاهرين ! يقرئك (1) من ع. (*)
[ 196 ]
السلام رب العالمين ويقول: أما استحيت إذ استغثت (1) بالآدميين ؟ ! وعزتي ! لألبثنك في السجن بضع سنين، فقال: يا جبريل ! أهو عني راض ؟ قال: نعم ! قال: لا أبالي الساعة. وروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله تعالى في ذلك وطول سجنه، وقال له: يا يوسف ! من خلصك من القتل من أيدي إخوتك ؟ ! قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجب ؟ قال: الله تعالى قال: فمن عصمك من الفاحشة ؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء ؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف وثقت بمخلوق وتركت ربك فلم تسأله ؟ ! قال: يا رب كلمة زلت مني ! أسألك يا إله إبراهيم وإسحاق والشيخ يعقوب عليهم السلام أن (2) ترحمني، فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله يوسف لو لا الكلمة التي قال: " اذكرني عند ربك " ما لبث في السجن بضع سنين ". وقال ابن عباس: عوقب يوسف بطول الحبس بضع سنين لما قال للذي نجا منهما " اذكرني عند ربك " ولو ذكر يوسف ربه لخلصه. وروى إسماعيل بن إبراهيم عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا كلمة يوسف - يعني قوله: " اذكرني عند ربك " - ما لبث في السجن ما لبث " قال: ثم يبكي الحسن ويقول: نحن ينزل بنا الأمر فنشكو إلى الناس. وقيل: إن الهاء تعود على الناجي، فهو الناسي، أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه، أي لسيده، وفيه حذف، أي أنساه الشيطان ذكره لربه، وقد رجح بعض العلماء هذا القول فقال: لولا أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله لما استحق العقاب باللبث في السجن، إذ الناسي غير مؤاخذ. وأجاب أهل القول الأول بأن النسيان قد يكون بمعنى الترك، فلما ترك ذكر الله ودعاه الشيطان إلى ذلك عوقب، رد عليهم أهل القول الثاني بقوله تعالى: " وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة " [ يوسف: 45 ] فدل على أن الناسي [ هو ] (3) الساقي لا يوسف، مع قوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " (4) [ الحجر: 42 ] فكيف يصح أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطنة ؟ ! قيل: أما (1) فاستشفعت. (2) في ع وى: إلا رحمتني. (3) من ع. (4) راجع ج‍ 10 ص 28. (*)
[ 197 ]
النسيان فلا عصمة للأنبياء عنه إلا في وجه واحد، وهو الخبر عن الله تعالى فيما يبلغونه، فإنهم معصومون فيه، وإذا وقع منهم النسيان حيث يجوز وقوعه فإنه ينسب إلى الشيطان إطلاقا، وذلك إنما يكون فيما أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم، قال صلى الله عليه وسلم: " نسي أدم فنسيت ذريته ". وقال: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ". وقد تقدم. الرابعة - قوله تعالى: (فلبث في السجن بضع سنين) البضع قطعة من الدهر مختلف فيها، قال يعقوب عن أبي زيد (1): يقال بضع وبضع بفتح الباء وكسرها، قال أكثرهم: ولا يقال بضع ومائة، وإنما هو إلى التسعين. وقال الهروي: العرب تستعمل البضع فيما بين الثلاث إلى التسع. والبضع والبضعة واحد، ومعناهما القطعة من العدد. وحكى أبو عبيدة أنه قال: البضع ما دون نصف العقد، يريد ما بين الواحد إلى أربعة، وهذا ليس بشئ. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: " وكم البضع " فقال: ما بين الثلاث إلى السبع. فقال: " اذهب فزائد في الخطر " (2). وعلى هذا أكثر المفسرين، أن البضع سبع، حكاه الثعلبي. قال الماوردي: وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقطرب. وقال مجاهد: من ثلاث إلى تسع، وقال الأصمعي. ابن عباس: من ثلاث إلى عشرة. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس. قال الفراء: والبضع لا يذكر العشرة والعشرين إلى التسعين، ولا يذكر بعد المائة. وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجونا ثلاثة أقاويل: أحدها - سبع سنين، قاله ابن جريج وقتادة ووهب بن منه، قال وهب: أقام أيوب في البلاء سبع سنين، وأقام يوسف في السجن سبع سنين. الثاني - اثنتا عشرة سنة، قال ابن عباس. الثالث - أربع عشرة (1) كذا في ع وك. وهو الذى عليه اللسان. وفى ا وى: ابن زيد. (2) الخطر (بالتحريك): الرهن والحظ والحديث في شأن مراهنة أبى بكر الصديق رضى الله عنه لقريش على غلبة الروم، وكان المسلمون يحبون غلبة الروم على فارس، لأنهم وإياهم أهل كتاب، وكانت قريش لا تحب ذلك، لأنهم وفارس ليسوا بإهل كتاب ولا إيمان يبعث، وقد جعل أبو بكر الأجل بينه وبينهم ست سنين على رواية، وثلاث سنين على إخرى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " اذهب فزائد في الخطر ومادد في الأجل " وكان ذلك قبل تحريم الرهان. راجع صحيح الترمذي في تفسير أول سورة الروم. (*)
[ 198 ]
سنة، قاله الضحاك. وقال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس قال: مكث يوسف في السجن خمسا وبضعا. واشتقاقه من بضعت الشئ أي قطعته، فهو قطعة من العدد، فعاقب الله يوسف بأن حبس سبع سنين أو تسع سنين بعد الخمس التي مضت، فالبضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله. قال وهب بن منبه: حبس يوسف في السجن سبع سنين، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين، وعذب بختنصر بالمسخ سبع سنين. وقال عبد الله بن راشد البصري عن سعيد بن أبي عروبة: إن البضع ما بين الخمس إلى الاثنتي عشرة سنة. الخامسة - في هذه الآية دليل على جواز التعلق بالأسباب وإن كان اليقين حاصلا فإن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلة، وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يقين. والذي يدل على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان كما جرى لموسى في لقيا الخضر، وهذا بين فتأملوه. قوله تعالى: وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابست يأيها الملأ أفتوني في رءيى إن كنتم للرءيا تعبرون (43) قوله تعالى: (وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان) لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى الملك رؤياه، فنزل جبريل فسلم على يوسف وبشره بالفرج وقال: إن الله مخرجك من سجنك، وممكن لك في الأرض، يذل لك ملوكها، ويطيعك جبابرتها، ومعطيك الكلمة العليا على إخوتك، وذلك بسبب رؤيا رآها الملك، وهي كيت وكيت، وتأويلها كذا وكذا، فما لبث في السجن أكثر مما رأى الملك الرؤيا حتى خرج، فجعل الله الرؤيا أولا ليوسف بلاء وشدة، وجعلها آخرا بشرى ورحمة، وذلك أن الملك الأكبر الريان بن الوليد رأى في نومه كأنما خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان، في أثرهن سبع عجاف - أي مهازيل - وقد أقبلت العجاف على السمان فأخذن بآذانهن فأكلنهن، إلا القرنين، ورأى سبع سنبلات خضر قد أقبل
[ 199 ]
عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن فلم يبق منهن شئ وهن يابسات، وكذلك البقر كن عجافا فلم يزد فيهن شئ من أكلهن السمان، فهالته الرؤيا، فأرسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر، وأشراف قومه، فقال: " يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي " فقص عليهم، فقال القوم: " أضغاث أحلام " [ يوسف: 44 ] قال ابن جريج قال لي عطاء: إن أضغاث الأحلام الكاذبة المخطئة من الرؤيا. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن الرؤيا منها حق، ومنها أضغاث أحلام، يعني بها الكاذبة. وقال الهروي: قوله تعالى: " أضغاث أحلام " أي أخلاط أحلام. والضغث في اللغة الحزمة من الشئ كالبقل والكلإ وما أشبههما، أي قالوا: ليست رؤياك ببينة، والأحلام الرؤيا المختلطة. وقال مجاهد: أضغاث الرؤيا أهاويلها. وقال أبو عبيدة: الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا. قوله تعالى: " سبع بقرات سمان " حذفت الهاء من " سبع " فرقا بين المذكر والمؤنث " سمان " من نعت البقرات، ويجوز في غير القرآن سبع بقرات سمانا، نعت للسبع، وكذا خضرا، قال الفراء: ومثله. " سبع سموات طباقا " (1) [ نوح: 15 ]. وقد مضى في سورة " البقرة " (2) اشتقاقها (3) ومعناها. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المعز والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانا فهي سني (4) رخاء، وإن كانت عجافا كانت شدادا، وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان سفر قدمت سفن على عددها وحالها، وإلا كانت فتنا مترادفة، كأنها وجوه البقر، كما في الخبر " يشبه بعضها بعضا ". وفي خبر آخر في الفتن " كأنها صياصي البقر " (5) يريد لتشابهها، إلا أن تكون صفرا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس، وإن كانت مختلفة الألوان، شنيعة القرون وكان الناس ينفرون منها، أو كأن النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة، أو عدو يضرب عليهم، وينزل بساحتهم. وقد تدل البقرة على الزوجة والخادم والغلة والسنة، لما يكون فيها من الولد والغلة والنبات. (يأكلهن سبع عجاف) من عجف يعجف، على وزن عظم يعظم، وروي عجف يعجف على وزن حمد يحمد. (1) راجع ج‍ 18 ص 208. (2) راجع ج‍ 1 ص 216. (3) في ع: اشتقاق البقرة. (4) في ع و و: سنين رخاء. (5) صياصى البقر: قرونها. (*)
[ 200 ]
قوله تعالى: (يأيها الملأ أفتوني في رؤياي) جمع الرؤيا رؤى: أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا. (إن كنتم للرؤيا تعبرون) العبارة مشتقة من عبور النهر، فمتى عبرت النهر، بلغت شاطئه، فعابر، الرؤيا (1) يعبر بما يؤول إليه أمرها. واللام في " للرؤيا " للتبيين، أي إن كنتم تعبرون، ثم بين فقال: للرؤيا، قاله الزجاج. قوله تعالى: قالوا أضغث أحلام وما نحن بتأويل الأحلم بعلمين (44) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (أضغاث أحلام) قال الفراء: ويجوز " أضغاث أحلام " قال النحاس: النصب بعيد، لأن المعنى: لم تر شيئا له تأويل، إنما هي أضغاث أحلام، أي أخلاط. وواحد الأضغاث ضغث، يقال لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ضغث، قال الشاعر: كضغث حلم غر منه حالمه (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) قال الزجاج: المعنى بتأويل الأحلام المختلطه، نفوا عن إنفسهم علم ما لا تأويل له، لا أنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل. وقيل: نفوا عن أنفسهم علم التعبير. والأضغاث على هذا الجماعات من الرؤيا التى منها صحيحة ومنها باطلة، ولهذا قال ا لساقي: " أنا أنبئكم بتأويله " فعلم أن القوم عجزوا عن التأويل، لا أنهم ادعوا ألا تأويل لها. وقيل: إنهم لم يقصدوا تفسيرا، وإنما أرادوا محوها من صدر الملك حتى لا تشغل باله، وعلى هذا أيضا فعندهم علم. و " الأحلام " جمع حلم، والحلم بالضم ما يراه النائم، تقول منه: حلم بالفتح واحتلم، وتقول: حلمت بكذا وحلمته، قال: فحملتها وبنو رفيدة (2) دونها * لا يبعدن خيالها المحلوم أصله الأناة، ومنه الحلم ضد الطيش، فقيل لما يرى في النوم حلم لأن النوم حالة أناة وسكون ودعة (1) في ع وى: يخبر. (2) رفيدة: أبو حى من العرب، يقال لهم الرفيدات، كما يقال لآل هبيرة الهبيرات. اللسان. (*)
[ 201 ]
الثانية - في الآية دليل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على أول ما تعبر، لأن القوم قالوا: " أضغاث أحلام " ولم تقع كذلك، فإن يوسف فسرها على سني الجدب والخصب، فكان كما عبر، وفيها دليل على فساد أن الرؤيا على رجل طائر، فإذا عبرت وقعت. قوله تعالى: وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة انا أنبئكم بتأويله فأرسلون (45) يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابست لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون (46) قوله تعالى: (وقال الذى نجا منهما) يعني ساقي الملك. " وادكر بعد أمة " أي بعد حين، عن ابن عباس وغيره، ومنه " إلى أمة معدودة " (1) [ هود: 8 ] وأصله الجملة من الحين. وقال ابن درستويه (2): والأمة لا تكون الحين إلا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال - والله أعلم -: وادكر بعد حين أمة، أو بعد زمن أمة، وما أشبه ذلك، والأمة الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش: هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة، وفي الحديث: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ". قوله تعالى: (وادكر) أي تذكر حاجة يوسف، وهو قول: " اذكرني عند ربك ". وقرأ ابن عباس - فيما روى عفان عن همام عن قتادة عن عكرمة عنه - " وادكر بعه أمة ". النحاس: المعروف من قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك " وادكر بعد أمه " بفتح الهمزة وتخفيف الميم، أي بعد نسيان، قال الشاعر: أمهت وكنت لا أنسى حديثا * كذاك الدهر يودي بالعقول وعن شبيل بن عزرة الضبعي: " بعد أمه " بفتح الألف وإسكان الميم وهاء خالصة، وهو مثل الأمه، وهما لغتان، ومعناهما النسيان، ويقال: أمه يأمه أمها إذا نسي، فعلى هذا (1) راجع ص 9 من هذا الجزء. (2) هو عبد الله بن جعفر بن درستويه (بضم الدال والراء) وضبطه ابن ماكولا (بفتحها). (*)
[ 202 ]
" وادكر بعد أمه "، ذكره النحاس، ورجل أمه (1) ذاهب العقل. قال الجوهري: وأما ما في حديث الزهري " أمه " بمعنى أقر واعترف فهي لغة غير مشهورة. وقرأ الأشهب العقيلي - " بعد إمة " أي بعد نعمة، أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة. ثم قيل: نسي الفتى يوسف لقضاء الله تعالى في بقائه في السجن مدة. وقيل: ما نسي، ولكنه خاف أن يذكر الملك الذنب الذي بسببه حبس هو والخباز، فقوله: " وادكر " أي ذكر وأخبر. قال النحاس: أصل ادكر اذتكر، والذال قريبة المخرج من التاء، ولم يجز إدغامها فيها لأن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، فلو أدغموا ذهب الجهر، فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال، وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة، فصار أذدكر، فأدغموا الذال في الدال لرخاوة الدال ولينها، ثم قال: (أنا أنبئكم بتأويله) أي أنا أخبركم. وقرأ الحسن " أنا آتيكم بتأويله " وقال: كيف ينبئهم العلج ؟ ! (2) قال النحاس: ومعنى " أنبئكم " صحيح حسن، أي أنا أخبركم إذا سألت. (فأرسلون) خاطب الملك ولكن بلفظ التعظيم، أو خاطب الملك وأهل مجلسه. (يوسف) نداء مفرد، وكذا (الصديق) أي الكثير الصدق. (أفتنا) أي فأرسلوه، فجاء إلى يوسف فقال: أيها الصديق ! وسأله عن رؤيا الملك. (لعلى أرجع إلى الناس) أي إلى الملك وأصحابه. (لعلهم يعلمون) التعبير، أو " لعلهم يعلمون " مكانك من الفضل والعلم فتخرج. ويحتمل أن يريد بالناس الملك وحده تعظيما له. قوله تعالى: قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (قال تزرعون) لما أعلمه بالرؤيا جعل يفسرها له، فقال: السبع من البقرات السمان والسنبلات الخضر سبع سنين مخصبات، وأما البقرات العجاف (1) في ع: أمه ووامه. ذاهب العقل. والذى في اللسان: أمه الرجل فهو مأموه وهو الذى ليس عقله معه. (2) العلج: الكافر من العجم. (*)
[ 203 ]
والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبات، فذلك قوله: (تزرعون سبع سنين دأبا) أي متوالية متتابعة، وهو مصدر على غير المصدر، لأن معنى " تزرعون " تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين. وقيل: هو حال، أي دائبين. وقيل: صفة لسبع سنين، أي دائبة. وحكى أبو حاتم عن يعقوب " دأبا " بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم، وهما لغتان (1)، وفيه قولان، قول أبي حاتم: إنه من دئب. قال النحاس: ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر - إنه حرك لأن فيه حرفا من حروف الحلق، قاله الفراء، قال: وكذلك كل حرف فتح أوله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة، أو هاء، أو عينا، أو غينا، أو حاء، أو خاء، وأصله العادة، قال (2): كدأبك من أم الحويرث قبلها وقد مضى في " آل عمران " القول فيه. (فما حصدتم فذروه في سنبله) قيل: لئلا يتسوس (4)، وليكون أبقى، وهكذا الأمر في ديار مصر. (إلا قليلا مما تأكلون) أي استخرجوا ما تحتاجون إليه بقدر الحاجة، وهذا القول منه أمر، والأول خبر. ويحتمل أن يكون الأول أيضا أمرا، وإن كان الأظهر منه الخبر، فيكو معنى: " تزرعون " أي ازرعوا. الثانية - هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال، فكل ما تضمن تحصيل شئ من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة، ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق، هذا مذهب كافة المحققين من أهل السنة أجمعين، وبسطه في أصول الفقه. (1) اللغتان " دأبا " بتحريك الهمزة و " دأبا " بسكونها وهى قراءة الجمهور من السبعة كما في تفسير ابن عطية. (2) هو امرؤ القيس، وتمام البيت: وجارتها أم الرباب بمأسل (3) راجع ج‍ 4 ص 22 فما بعد. (4) كذا في ا وع ك وى. (*)
[ 204 ]
قوله تعالى: ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (سبع شداد) يعني السنين المجدبات. (يأكلن) مجاز، والمعنى يأكل أهلهن. (ما قدمتم لهن) أي ما ادخرتم لأجلهن، ونحوه قول القائل: نهارك يا مغرور سهو وغفلة * وليلك نوم والردى لك لازم والنهار لا يسهو، والليل لا ينام، وإنما يسهى في النهار، وينام في الليل. وحكى زيد بن أسلم عن أبيه: أن يوسف كان يضع طعام الاثنين فيقربه إلى رجل واحد فيأكل بعضه، حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله، فقال يوسف: هذا أول يوم من السبع الشداد. (إلا قليلا) نصب على الاستثناء. (مما تحصنون) أي مما تحبسون لتزرعوا، لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وقال أبو عبيدة: تحرزون. وقال قتادة: " تحصنون " تدخرون، والمعنى واحد، وهو يدل على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة (1). الثانية - هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرج على حسب ما رأى، لاسيما إذا تعلقت بمؤمن، فكيف إذا كانت آية لنبي. ومعجزة لرسول، وتصديقا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله - جل جلال - [ وبين ] (2) عباده. قوله تعالى: ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه ويعصرون (49) قوله تعالى: (ثم يأتي من بعد ذلك عام) هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله. قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه (1) هذا فيه نظر إن كان المراد الغلاء، لما روى عنه عليه الصلاة والسلام " من احتكر حكرة يريد أن يغلى بها على المسلمين فهو خاطئ وقد برئت منه ذمة الله ورسوله " رواه أحمد والحاكم عن أبى هريرة في روايات في النهى عن الأحتكار. (2) من ع. (*)
[ 205 ]
عنها إظهارا لفضله، وإعلاما لمكانه من العلم وبمعرفته. (فيه يغاث الناس) من الإغاثة أو الغوث، غوث الرجل فال واغوثاه، والاسم الغوث والغواث والغواث، واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغياث، صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والغيث المطر، وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها، وغاث الله البلاد يغيثها غيثا، وغيثت الأرض تغاث غيثا، فهي أرض مغيثة ومغيوثة، فمعنى " يغاث الناس " يمطرون. (وفيه يعصرون) قال ابن عباس: يعصرون الأعناب والدهن، ذكره البخاري. وروى حجاج عن ابن جريح قال: يعصرون العنب خمرا والسمسم دهنا، والزيتون زيتا. وقيل: أراد حلب الألبان لكثرتها، ويدل ذلك على كثرة النبات. وقيل: " يعصرون " أي ينجون، وهو من العصرة، وهي المنجاة. قال أبو عبيدة: والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة، وكذلك العصرة، قال أبو زبيد (1): صاديا يستغيث غير مغاث * ولقد كان عصره المنجود والمنجود الفزع. واعتصرت بفلان وتعصرت أي التجأت إليه. قال أبو الغوث: " يعصرون " يستغلون، وهو من عصر العنب. واعتصرت ماله أي استخرجته من يده. وقرأ عيسى " تعصرون " بضم التاء وفتح الصاد، ومعناه: تمطرون، من قول [ الله ] (2): " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا " (3) [ النبأ: 14 ] وكذلك معنى " تعصرون " بضم التاء وكسر الصاد، فيمن قرأه كذلك. قوله تعالى: وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسله ما بال النسوة التى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم (50) قال ما خطبكن إذ رودتن يوسف عن نفسه قلن حش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الن حصحص الحق أنا رودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51) (1) قاله في رثاء ابن أخته وكان مات عطشا في طريق مكة. (2) من ع. (3) راجع ج‍ 19 ص 169. (*)
[ 206 ]
قوله تعالى: (وقال الملك ائتونى به) أي فذهب الرسول فأخبر الملك، فقال: ائتوني به. (فلما جاءه الرسول) أي يأمره بالخروج قال: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة) أي حال النسوة. (اللاتى قطعن أيديهن) فأبى أن يخرج إلا أن تصح براءته [ عند ] (1) الملك مما قذف به، وأنه حبس بلا جرم. وروى الترمذي عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم [ ابن الكريم ] (2) يوسف بن يعقوب بن إسحق ابن إبراهيم - قال - ولو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت - ثم قرأ - " فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن " - قال - ورحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد [ إذ قال " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ] فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه ". وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق من إبراهيم إذ قال له " أو لم تؤمن قال بلى ولكني ليطمئن قلبي " [ البقرة: 260 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يرحم الله أخي يوسف لقد كان صابر حليما ولو لبثت في السجن ما لبثه أجبت الداعي ولم ألتمس العذر ". وروي نحو هذا الحديث من طريق (3) عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك، في كتاب التفسير من صحيح البخاري، وليس لابن القاسم في الديوان غيره. وفي رواية الطبري " يرحم الله يوسف لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا أن كان لحليما ذا أناة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات لو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين آتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ". قال ابن عطية: كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا، وطلبا لبراءة الساحة، وذلك أنه - (1) من ع. وفى ا وك وى: للملك. (2) الزيادة عن صحيح الترمذي. (3) كذا في ع وك وى. (4) الحديث في تفسير الطبري يختلف في اللفظ عما هنا. (*)
[ 207 ]
فيما روي - خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون: هذا الذي واود امرأة مولاه، فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته، ويحقق منزلته من العفة والخير، وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة، فلهذا قال للرسول: ارجع إلى ربك وقل له ما بال النسوة، ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان: وقل له يستقصي عن ذنبي، وينظر في أمري هل سجنت بحق أو بظلم، ونكب عن امرأة العزيز حسن عشرة، ورعاية لذمام الملك العزيز له. فإن قيل: كيف مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوسف بالصبر والأناة وترك المبادرة إلى الخروج، ثم هو يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره ؟ فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي، له جهة أيضا من الجودة، يقول: لو كنت أنا لبادرت بالخروج، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك، وذلك أن هذه القصص والنوازل هي معرضة لأن يقتدي الناس بها إلى يوم القيامة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور، وذلك أن تارك الحزم في مثل هذه النازلة، التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن، ربما نتج له البقاء في سجنه، وانصرفت نفس مخرجه عنه، وإن كان يوسف، عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله، فغيره من الناس لا يأمن ذلك، فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد. قوله تعالى: (فاسأله ما بال النسوة) ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح، وذلك حسن عشرة وأدب، وفى الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. قال ابن عباس: فأرسل الملك إلى النسوة وإلى امرأة العزيز - وكان قد مات العزيز فدعاهن ف‍ (قال ما خطبكن) أي ما شأنكن. (إذ راودتن يوسف عن نفسه) وذلك أن كل واحدة منهن كلمت يوسف في حق نفسها، على ما تقدم، أو أراد قول كل واحدة قد ظلمت امرأة العزيز، فكان ذلك مراودة منهن. (قلن حاشا لله) أي معاذ الله. (ما علمنا عليه من سوء) أي زنى. (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق) لما رأت إقرارهن ببراءة يوسف، وخافت أن يشهدن عليها إن أنكرت أقرت
[ 208 ]
هي أيضا، وكان ذلك لطفا من الله بيوسف. و " حصحص الحق " أي تبين وظهر، وأصله حصص، فقيل: حصحص، كما قال: كبكبوا في كببوا، وكفكف في كفف، قال الزجاج وغيره. وأصل الحص استئصال الشئ، يقال: حص شعره إذا استأصله جزا، قال أبو القيس بن الأسلت: قد حصت البيضة رأسي فما * أطعم نوما غير تهجاع (1) وسنة حصاء أي جرداء لا خير فيها، قال جرير: يأوي إليكم بلا من ولا جحد * من ساقه السنة الحصاء والذيب كأنه أراد أن يقول: والضبع، وهي السنة المجدبة، فوضع الذئب موضعه لأجل القافية، فمعنى " حصحص الحق " أي انقطع عن الباطل، بظهوره وثباته (2)، قال: ألا مبلغ عني خداشا فإنه * كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم وقيل: هو مشتق من الحصة، فالمعنى: بانت حصة الحق من حصة الباطل. وقال مجاهد وقتادة: وأصله مأخوذ من قولهم، حص شعره إذا استأصل قطعه، ومنه الحصة (3) من الأرض إذا قطعت منها. والحصحص بالكسر التراب والحجارة، ذكره الجوهري. (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وهذا القول منها - وإن لم يكن سأل عنه - إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف وكرامته، لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه، فجمع الله تعالى ليوسف لإظهار صدقه الشهادة والإقرار، حتى لا يخامر نفسا ظن، ولا يخالطها شك. وشددت النون في " خطبكن " و " راودتن " لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر. قوله تعالى: ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين (52) وما أبرى نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم (53) (1) البيضة: الخوذة، والتهجاع: النومة الخفيفة. (2) في ع: بيانة. (3) في ع: في. (*)
[ 209 ]
قوله تعالى: (ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب) اختلف فيمن قاله، فقيل: هو من قول امرأة العزيز، وهو متصل بقولها: " الأن حصحص الحق " أي أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب (1) أي بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت (2) عن الخيانة، ثم قالت: " وما أبرئ نفسي " بل أنا راودته، وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع، ولهذا قالت: " إن ربي غفور رحيم ". وقيل: هو من قول يوسف، أي قال يوسف: ذلك الأمر الذي فعلته، من رد الرسول " ليعلم " العزيز " أني لم أخنه بالغيب " قاله الحسن وقتادة وغيرهما. ومعنى " بالغيب " وهو غائب. وإنما قال يوسف ذلك بحضرة الملك، وقال: " ليعلم " على الغائب توقيرا للملك. وقيل: قاله إذ عاد إليه الرسول وهو في السجن بعد، قال ابن عباس: جاء الرسول إلى يوسف عليه السلام بالخبر وجبريل معه يحدثه، فقال يوسف: " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " أي لم أخن سيدي بالغيب، فقال له جبريل عليه السلام: يا يوسف ! ولا حين حللت الإزار، وجلست مجلس الرجل من المرأة ؟ ! فقال يوسف: " وما أبرئ نفسي " الآية. وقال السدي: إنما قالت له امرأة العزيز ولا حين حللت سراويلك يا يوسف ؟ ! فقال يوسف: " وما أبرئ نفسي ". وقيل: " ذلك ليعلم " من قول العزيز، أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني لم أغفل عن مجازاته على أمانته. (وأن الله لا يهدى كيد الخائنين) معناه: أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم. قوله تعالى: (وما أبرى نفسي) قيل: هو من قول المرأة. وقال القشيري: فالظاهر أن قوله: " ذلك ليعلم " وقوله: " وما أبرئ نفسي " من قول يوسف. قلت: إذا أحتمل أن يكون من قول المرأة فالقول به أولى حتى نبرئ يوسف من حل الإزار والسراويل، وإذا قدرناه من قول يوسف فيكون مما خطر بقلبه، على ما قدمناه من القول المختار في قوله: " وهم بها ". قال أبو بكر الأنباري: من الناس من يقول: " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " إلى قوله: " إن ربي غفور رحيم " من كلام امرأة العزيز، (1) من ع. (2) في ع: خرجت. (*)
[ 210 ]
لأنه متصل بقولها: " أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " [ يوسف: 51 ] وهذا مذهب الذين ينفون الهم عن يوسف عليه السلام، فمن بنى على قولهم قال: من قوله: " قالت امرأة العزيز " [ يوسف: 51 ] إلى قوله: " إن ربي غفور رحيم " كلام متصل بعضه ببعض، ولا يكون فيه وقف تام على حقيقة، ولسنا نختار هذا القول ولا نذهب إليه. وقال الحسن: لما قال يوسف " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال: " وما أبرئ نفسي " لأن (1) تزكية النفس مذمومة، قال الله تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم " (2) [ النجم: 32 ] وقد بيناه في " النساء " (3). وقيل: هو من قول العزيز، أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف. (إن النفس لأمارة بالسوء) أي مشتهية له. (إلا ما رحم ربى) في موضع نصب بالاستثناء، و " ما " بمعنى من، أي إلا من رحم ربي فعصمه، و " ما " بمعنى من كثير، قال الله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " (3) [ النساء: 3 ] وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء، وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما تقولون في صاحب لكم إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شر غاية وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية " قالوا: يا رسول الله ! هذا شر صاحب في الأرض. قال: " فوالذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم ". قوله تعالى: وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين (54) قوله تعالى: (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسي) لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده، وتيقن حسن خلاله قال: " ائتوني به استخلصه لنفسي " فانظر إلى قول الملك أولا - حين تحقق علمه - " ائتوني به " فقط، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا (4) قال: " ائتوني به استخلصه لنفسي " وروي عن وهب بن منبه قال: لما دعي يوسف وقف بالباب فقال: حسبي ربي من خلقه، (1) من ع. (2) راجع ج‍ 17 ص 110. (3) راجع ج‍ 5 ص 246 فما بعد وص 12. (4) في ع وو وى: قال ثانيا. (*)
[ 211 ]
عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره. ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا، ثم أقعده الملك معه على سريره فقال. " إنك اليوم لدينا مكين أمين " قال له يوسف " اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ " [ يوسف: 55 ] للخزائن " عليم " بوجوه تصرفاتها. وقيل: حافظ للحساب، عليم بالألسن. وفي الخبر: " يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سنة ". وقيل: إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله. وقد قيل في هذه القصة: إن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شره وشر غيره، ثم سلم على الملك بالعربية فقال: ما هذا اللسان ؟ قال: هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا [ له ] (1) بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان ؟ قال: لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما [ تكلم الملك (2) ] بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأعجب الملك أمره، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، ثم أجلسه على سريره وقال: أحب أن أسمع منك رؤياي، قال يوسف نعم أيها الملك ! رأيت سبع بقرات سمان شهبا غرا حسانا، كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب (3) أخلافها لبنا، فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه، وبدا أسه (4)، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف،، لهن أنياب وأضراس، وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السباع، فأكلن لحومهن، ومزقن جلودهن، وحطمن عظامهن، ومشمشن مخهن، فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل ! ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن ! إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء، وإلى جانبهن سبع يابسات ليس فيهن ماء ولا خضرة في منبت واحد، عروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أي شئ هذا ؟ ! هؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، وأصولهن (1) من ع وى. (2) من ع. (3) تشخب: تسيل. (4) في ع وى: يبسه. (*)
[ 212 ]
في الماء، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن، فصرن سودا مغبرات، فانتبهت مذعورا أيها الملك، فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا بأعجب مما سمعت منك ! فما ترى في رؤياي (1) أيها الصديق ؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، فإنك لو زرعت على حجر أو مدر لنبت، وأظهر الله فيه النماء والبركة، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام (2)، فيكون القصب والسنبل علفا للدواب، وحبه للناس، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أهرائك (3) الخمس، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بتدبير هذه الأمور ؟ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء، فقال يوسف عليه السلام [ عند ذلك ] (4): " اجعلني على خزائن الأرض " [ يوسف: 55 ] أي على خزائن أرضك، وهي جمع خزانة، ودخلت الألف واللام عوضا من الإضافة، كقول النابغة: لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم * من الجود والأحلام غير كواذب قوله تعالى: (استخلصه لنفسي) جزم لأنه جواب الأمر، وهذا يدل على أن قوله: " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " جرى في السجن. ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر: " ائتوني به " [ يوسف: 50 ] تأكيدا " استخلصه لنفسي " أي اجعله خالصا لنفسي، أفوض إليه أمر مملكتي، فذهبوا فجاءوا به، ودل على هذا: (فلما كلمه) أي كلم الملك يوسف، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف، ف‍ (قال) الملك: (إنك اليوم لدينا مكين أمين) أي متمكن نافذ القول، " أمين " لا تخاف غدرا. قوله تعالى: قال اجعلني على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم (55) (1) في ع: فما ترى في هذه الرؤيا. (2) في ع: العظمى. (3) كذا في ع وى وك: هو بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان. وهى مخازن الحبوب اليوم. وفى ا وح‍ أمرائك. (4) من ع وى. (*)
[ 213 ]
فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (قال اجعلني على خزائن الأرض) قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض، أما سمعت إلى قوله: " اجعلني على خزائن الأرض " أي على حفظها، فحذف المضاف. (إني حفيظ) لما وليت (عليم) بأمره. وفي التفسير: إني حاسب كاتب، وأنه أول من كتب في القراطيس. وقيل: " حفيظ " لتقدير الأقوات " عليم " بسني المجاعات. قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك عنه سنة ". قال ابن عباس: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه ورداه (1) بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكللا بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة من إستبرق، وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون مرفقه (2)، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا، لونه كالثلج، ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه من صفاء لون وجهه، فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن زيد: كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وهلك قطفير تلك الليالي، فزوج الملك يوسف راعيل امرأة العزيز، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين ؟ ! فقالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله من الحسن فغلبتني نفسي. فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: إفراثيم بن يوسف، ومنشا بن يوسف. وقال وهب بن منبه: إنما كان تزويجه زليخاء امرأة العزيز بين دخلتي الإخوة، وذلك أن زليخاء مات زوجها ويوسف في السجن، وذهب مالها وعمي بصرها بكاء على يوسف، فصارت تتكفف الناس، فمنهم من يرحمها ومنهم من لا يرحمها، (1) رداه بسيفه: قلده به. (2) المرفقة (بالكسر): المتكأ والمخدة (*)
[ 214 ]
وكان يوسف يركب في كل أسبوع مرة في موكب زهاء مائة ألف من عظماء قومه، فقيل لها: لو تعرضت له لعله يسعفك بشئ، ثم قيل لها: لا تفعلي، فربما ذكر بعض ما كان منك من المراودة والسجن فيسئ إليك، فقالت: أنا أعلم بخلق حبيبي منكم، ثم تركته حتى إذا ركب في موكبه، [ قامت ] فنادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم، فقال يوسف: ما هذه ؟ فأتوا بها، فقالت: أنا التي كنت أخدمك (2) على صدور قدمي، وأرجل جمتك بيدي، وتربيت في بيتي، وأكرمت مثواك، لكن فرط ما فرط من جهلي وعتوي فذقت وبال أمري، فذهب مالي، وتضعضع ركني، وطال ذلي، وعمي بصري، وبعدما كنت مغبوطة أهل مصر صرت مرحومتهم، أتكفف الناس، فمنهم من يرحمني، ومنهم من لا يرحمني، وهذا جزاء المفسدين، فبكى يوسف بكاء شديدا، ثم قال لها: هل بقيت تجدين مما كان في نفسك من حبك لي شيئا ؟ فقالت: والله لنظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، لكن ناولني صدر سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد للسوط في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها، فبكى ثم مضى إلى منزله فأرسل إليها رسولا: إن كنت أيما تزوجناك، وإن كنت ذات بعل أغنيناك، فقالت للرسول: أعوذ بالله أن يستهزئ بي الملك ! لم يردني أيام شبابي وغناي ومالي وعزي أفيريدني اليوم وأنا عجوز عمياء فقيرة ؟ ! فأعلمه الرسول بمقالتها، فلما ركب في الأسبوع الثاني تعرضت له، فقال لها: ألم يبلغك الرسول ؟ فقالت: قد أخبرتك أن نظرة واحدة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا وما فيها، فأمر بها فأصلح من شأنها وهيئت، ثم زفت إليه، فقام يوسف يصلي ويدعو الله، وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد إليها شبابها وجمالها وبصرها، فرد الله عليها شبابها وجمالها وبصرها حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكراما ليوسف عليه السلام لما عف عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء، فسألها، فقالت: يا نبي الله إن زوجي كان عنينا لا يأتي النساء، وكنت أنت من الحسن والجمال بما لا يوصف، قال: فعاشا في خفض (3) عيش، في كل يوم يجدد الله لهما خيرا، وولدت له ولدين، إفراثيم ومنشا. وفيما روي (1) من ع، ك، ى. (2) في ع: أقدمك على صدور قومي. (3) خفض عيش: في سعة وراحة. (*)
[ 215 ]
أن الله تعالى ألقى في قلب يوسف من محبتها أضعاف ما كان في قلبها، فقال لها: ما شأنك لا تحبينني كما كنت في أول مرة ؟ فقالت [ له ] (1): لما ذقت محبة الله تعالى شغلني ذلك عن كل شئ. الثانية - قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك. وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز، والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه. والله أعلم. قال الماوردي: فان كان المولي ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما - جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده، لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني - أنه لا يجوز ذلك، لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم، فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين: أحدهما - أن فرعون يوسف كان صالحا، وإنما الطاغي فرعون موسى. الثاني - أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه. قال الماوردي: والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام: أحدها - ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات، فيجوز توليه من جهة الظالم، لأن النص على مستحقه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التقليد. والقسم الثاني - ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفئ، فلا يجوز توليه من جهة الظالم، لأنه يتصرف بغير حق، ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث - ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذا للحكم بين متراضيين، وتوسطا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز. الثالثة - ودلت الآية أيضا على جواز أن يخطب الإنسان عملا يكون له أهلا، فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1) من ع. (*)
[ 216 ]
" يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ". وعن أبي بردة قال قال أبو موسى: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فقال: " ما تقول يا أبا موسى - أو يا عبد الله بن قيس ". قال قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني علما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت (1)، فقال: " لن - أو - لا نستعمل على عملنا من أراده " وذكر الحديث، خرجه مسلم أيضا وغيره، فالجواب: أولا - أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب، لقول عليه السلام لعبد الرحمن: " لا تسأل الإمارة " [ وأيضا ] (2) فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك، وهذا معنى قوله عليه السلام: " وكل إليها " ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله: " أعين عليها ". الثاني - أنه لم يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الكريم ابن الكريم ابن الكريم [ ابن الكريم ] (3) يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال: " إني حفيظ عليم " فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال. الثالث - إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى (1) قلصت: انقبضت وانزوت. (2) من ع. (3) من ع وى. (*)
[ 217 ]
من قوله تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم ". الرابع - أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه، لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم. [ الرابعة ] (1) ودلت الآية أيضا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل، قال الماوردي: وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله، فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله. قوله تعالى: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين (56) ولأجر الآخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون (57) قوله تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء) أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض، [ أي ] (1) أقدرناه على ما يريد. وقال الكيا الطبري قول تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض " دليل على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق، ومثله قول تعالى: " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " (2) [ ص: 44 ] وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر، والذي أداه من التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله (3). قلت: وهذا مردود على ما يأتي. يقال: مكناه ومكنا له، قال الله تعالى: " مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " (4) [ الأنعام: 6 ]. قال الطبري: استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريان يوسف على عمل إطفير وعزله، قال مجاهد: وأسلم على يديه. قال ابن عباس: ملكه بعد سنة (1) من ع، ك، ى. (2) راجع ج‍ 15 ص 212. (3) الحديث: هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، وهو نوع جيد من أنواع التمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل تمر خيبر هكذا " فقال لا والله يارسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين بالثلاثة، فقال: " لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ". (البخاري). (4) راجع ج‍ 6 ص 391.
[ 218 ]
ونصف. وروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ". ثم مات إطفير فزوجه الوليد بزوجة إطفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء، وولدت له ولدين: إفراثيم ومنشا، ابني يوسف، ومن زعم أنها زليخاء قال: لم يتزوجها يوسف، وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا، فضمها إليه، فكانت من عياله حتى ماتت عنده، ولم يتزوجها، ذكره الماوردي، وهو خلاف ما تقدم عن وهب، وذكره الثعلبي، فالله أعلم. ولما فوض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطف بالناس، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل، فأحبه الرجال والنساء، قال وهب والسدي وابن عباس وغيرهم: ثم دخلت السنون المخصبة، فأمر يوسف بإصلاح المزارع، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة، فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت، ثم بنى لها الأهراء، فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها، ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال: يا أهل مصر جوعوا، فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين. وقال بعض أهل الحكمة: للجوع والقحط علامتان: إحداهما - أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية. والثانية - أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية، فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع ! ! ويأكلون ولا يشبعون، وانتبه الملك، ينادى الجوع الجوع ! ! قال: فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك، ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها، معاشر الناس ! لا يزرع أحد زرعا فيضيع الذر ولا يطلع شئ. وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف، قال ابن عباس: لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك يا يوسف ! الجوع الجوع ! ! فقال يوسف: هذا أوان القحط، فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شئ أعدوه في السنين
[ 219 ]
المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف، فباعهم أول سنة بالنقود، حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شئ، وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب، حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء، حتى احتوى على الكل، وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع، حتى ملكها كلها، وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم، حتى لم يبق [ في السنة السابعة ] بمصر حر ولا عبد إلا صار عبدا له، فقال الناس: والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا، فقال يوسف لملك مصر: كيف رأيت صنع ربي فيما خولني ! والآن كل هذا لك، فما ترى فيه ؟ فقال: فوضت إليك الأمر فافعل ما شئت، وإنما نحن لك تبع، وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك، ولا أنا إلا من بعض مماليكك، وخول من خولك، فقال يوسف عليه السلام: إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم، ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء، وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أموالهم وأملاكهم، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي. ويروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنين، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع، وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار، حتى يذوق الملك طعم الجوع. فلا ينسى الجائعين، فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار. قوله تعالى: (نصيب برحمتنا من نشاء) أي بإحساننا، والرحمة النعمة والإحسان. (ولا نضيع أجر المحسنين) أي ثوابهم. وقال ابن عباس ووهب: يعني الصابرين، لصبره في الجب، وفي الرق، وفي السجن، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة. وقال الماوردي: واختلف فيما أوتيه يوسف من هذه الحال على قولين: أحدهما - أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه. الثاني - أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه، وثوابه باق على حاله في الآخرة. (1) من ع. (*)
[ 220 ]
قوله تعالى: (ولأجر الآخرة خير) أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا، لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا ينقطع، وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متق، وأنشدوا: أما في رسول الله يوسف أسوة * لمثلك محبوسا على الظلم والإفك أقام جميل الصبر في الحبس برهة * فآل به الصبر الجميل إلى الملك وكتب بعضهم إلى صديق له: وراء مضيق الخوف متسع الأمن * وأول مفروح به آخر الحزن فلا تيئسن فالله ملك يوسفا * خزائنه بعد الخلاص من السجن وأنشد بعضهم: إذا الحادثات بلغن النهي * وكادت تذوب لهن المهج وحل البلاء وقل العزاء * فعند التناهي يكون الفرج والشعر في هذا المعنى كثير. قوله تعالى: وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون (58) قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف) أي جاءوا إلى مصر لما أصابهم القحط ليمتاروا، وهذا من اختصار القرآن المعجز. قال ابن عباس وغيره: لما أصاب الناس القحط والشدة، ونزل ذلك بأرض كنعان بعث يعقوب عليه السلام ولده للميرة، وذاع أمر يوسف عليه السلام في الآفاق، للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدله وسيرته، وكان يوسف عليه السلام حين نزلت الشدة بالناس يجلس [ للناس ] (1) عند البيع بنفسه، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم، لكل رأس وسقا (2). (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم) يوسف (وهم له منكرون) لأنهم خلفوه صبيا، ولم يتوهموا أنه بعد العبودية يبلغ إلى تلك الحال من المملكة، مع طول المدة، وهي أربعون سنة. وقيل: أنكروه لأنهم اعتقدوا أنه ملك كافر: وقيل: رأوه لابس حرير، وفي عنقه طوق ذهب، وعلى رأسه تاج، وقد تزيا بزي فرعون مصر، ويوسف (1) من ع وك وو وى. (2) الوسق ستون صاعا، والأصل في الوسق الحمل. (*)
[ 221 ]
رآهم على ما كان عهدهم في الملبس والحلية. ويحتمل أنهم رأوه وراء ستر فلم يعرفوه. وقيل: أنكروه لأمر خارق امتحانا امتحن الله به يعقوب. قوله تعالى: ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60) قالوا سنرود عنه أباه وإنا لفعلون (61) قوله تعالى: (ولما جهزهم بجهازهم) يقال: جهزت القوم تجهيزا أي تكلفت لهم بجهازهم للسفر، وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الإهداء إلى الزوج، وجوز بعض الكوفيين الجهاز بكسر الجيم، والجهاز في هذه الآية الطعام الذي امتاروه من عنده. قال السدي: وكان مع إخوة يوسف أحد عشر بعيرا، وهم عشرة، فقالوا ليوسف: إن لنا أخا تخلف عنا، وبعيره معنا، فسألهم لم تخلف ؟ فقالوا: لحب أبيه إياه، وذكروا له أنه كان له أخ أكبر منه فخرج إلى البرية فهلك، فقال لهم: أردت أن أرى أخاكم هذا الذي ذكرتم، لأعلم وجه محبة أبيكم إياه، وأعلم صدقكم، ويروى أنهم تركوا عنده شمعون رهينة، حتى يأتوا بأخيه بنيامين. وقال ابن عباس: قال [ يوسف ] (1) للترجمان قل لهم: لغتكم مخالفة للغتنا، وزيكم مخالف لزينا، فلعلكم جواسيس، فقالوا: والله ! ما نحن بجواسيس، بل نحن بنو أب واحد، فهو شيخ صديق، قال: فكم عدتكم ؟ قالوا: كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها، قال: فأين الآخر ؟ قالوا: عند أبينا، قال: فمن يعلم صدقكم ؟ قالوا: لا يعرفنا هاهنا أحد، وقد عرفناك أنسابنا، فبأي شئ تسكن نفسك إلينا ؟ فقال يوسف: (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك " ألا ترون أنى أوف الكيل " أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير لأخيكم " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي " توعدهم ألا يبيعهم الطعام إن لم يأتوا به. قوله تعالى: (ألا ترون أنى أوف الكيل) يحتمل وجهين: أحدهما - أنه رخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل. والثاني - أنه كال لهم بمكيال واف. (وأنا خير (1) من ع وك وى. (*)
[ 222 ]
المنزلين) فيه وجهان: أحدهما - أنه خير المضيفين، لأنه أحسن ضيافتهم، قاله مجاهد. الثاني - وهو محتمل، أي خير من نزلتم عليه من المأمونين، وهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام، وعلى الثاني من المنزل وهو الدار. قوله تعالى: (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي) أي فلا أبيعكم شيئا فيما بعد، لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال. (ولا تقربون) أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب، ولم يرد أنهم يبعدون (1) منه ولا يعودون إليه، لأنه على العود حثهم. قال السدي: وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا، فارتهن شمعون عنده، قال الكلبي: إنما اختار شمعون منهم لأنه كان يوم الجب أجملهم قولا، وأحسنهم رأيا. و " تقربون " في موضع جزم بالنهي، فلذلك حذفت منه [ النون وحذفت ] (2) الياء، لأنه رأس آية، ولو كان خبرا لكان " تقربون " بفتح النون. قوله تعالى: (قالوا سنراود عنه أباه) أي سنطلبه منه، ونسأله أن يرسله معنا. (وإنا لفاعلون) أي لضامنون المجئ به، ومحتالون في ذلك. مسألة - إن قيل: كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه ؟ قيل له: عن هذا أربعة أجوبة: أحدها - يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب، ليعظم له الثواب، فاتبع أمره فيه. الثاني - يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف عليهما السلام. الثالث - لتتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه. الرابع - ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته، لميل كان منه إليه، والأول أظهر. والله أعلم. قوله تعالى: وقال لفتينه اجعلوا بضعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهليهم لعلهم يرجعون (62) قوله تعالى: (وقال لفتيته) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وهي اختيار أبي حاتم والنحاس وغيرهما. وقرأ سائر الكوفيين " لفتيانه " وهو اختيار أبي عبيد، وقال: (1) في الإصول: يبعدوا، يعودوا. ولم يظهر وجه لحذف النون. (2) من ع وك و و. (*)
[ 223 ]
هو في مصحف عبد الله كذلك. قال الثعلبي: وهما لغتان جيدتان، مثل الصبيان والصبية قال النحاس: " لفتيانه " مخالف للسواد الأعظم، لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون، ولا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع، وأيضا فإن فتية أشبه من فتيان، لأن فتية عند العرب لأقل العدد، والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. وكان هؤلاء الفتية يسوون جهازهم، ولهذا أمكنهم جعل بضاعتهم في رحالهم. ويجوز أن يكونوا أحرارا (1)، وكانو أعوانا له، وبضاعتهم أثمان ما اشتروه من الطعام. وقيل: كانت دراهم ودنانير. وقال ابن عباس: النعال والأدم ومتاع المسافر، ويسمى رحلا، قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل، وللبيت رحل. وقال: (لعلهم يعرفونها) لجواز ألا تسلم في الطريق. وقيل: إنما فعل ذلك ليرجعوا إذا وجدوا ذلك، لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمنه (2). قيل: ليستعينوا بذلك على الرجوع لشراء الطعام. وقيل: استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام. وقيل: ليروا فضله، ويرغبوا في الرجوع إليه. قوله تعالى: فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يأبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحفظون (63) قال هل ءامنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (64) ولما فتحوا متعهم وجدوا بضعتهم ردت إليهم قالوا يأبانا ما نبغى هذه بضعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير (65) قوله تعالى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل) لأنه قال لهم: " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي " وأخبروه بما كان من أمرهم وإكرامهم إياه، وأن شمعون مرتهن حتى يعلم صدق قولهم. (فأرسل معنا أخانا نكتل) أي قالوا عند ذلك: (1) في ع: أجراء أو كانوا. وهو الحق. (2) في ع وك: بثمن. (*)
[ 224 ]
" فأرسل معنا أخانا نكتل " والأصل نكتال، فحذفت الضمة من اللام للجزم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين. وقراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم " نكتل " بالنون وقرأ سائر الكوفيين " يكتل " بالياء، والأول اختيار أبي عبيد، ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده. قال النحاس: وهذا لا يلزم، لأنه لا يخلو الكلام من أحد جهتين، أن يكون المعنى: فأرسل أخانا يكتل معنا، فيكون للجميع، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير، فيكون في الكلام دليل على الجميع، لقوله: " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ". (وإنا له لحافظون) من أن يناله سوء. قوله تعالى: (قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل) أي قد فرطتم في يوسف فكيف آمنكم على أخيه !. (فالله خير حفظا) نصب على البيان، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين " حافظا " على الحال. وقال الزجاج: على البيان، وفي هذا دليل على أنه أجابهم إلى إرسال معهم، ومعنى الآية: حفظ الله له خير من حفظكم إياه. قال كعب الأحبار: لما قال يعقوب: " فالله خير حافظا " قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأردن عليك ابنيك كليهما بعدما توكلت علي قوله تعالى: (ولما فتحوا متاعهم) الآية ليس فيها معنى يشكل. (ما نبغى) " ما " استفهام في موضع نصب، والمعنى: أي شئ نطلب وراء هذا ؟ ! وفى لنا الكيل، ورد علينا الثمن، أرادوا بذلك أن يطيبوا نفس أبيهم. وقيل: هي نافية، أي لا نبغي منك دراهم ولا بضاعة، بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا. وروي عن علقمة " ردت إلينا " بكسر الراء، لأن الأصل، رددت، فلما أدغم قلبت حركة الدال على الراء. وقوله: (ونمير أهلنا) أي نجلب لهم الطعام، قال الشاعر: بعثتك مائرا فمكثت حولا * متى يأتي غياثك من تغيث وقرأ السلمي بضم النون، أي نعينهم على الميرة. (ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير) أي حمل بعير لبنيامين.
[ 225 ]
قوله تعالى: قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما ءاتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل (66) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (تؤتون) أي تعطوني. (موثقا من الله) أي عهدا يوثق به. قال السدي: حلفوا بالله ليردنه إليه ولا يسلمونه، واللام في (لتأتنني) لام القسم. (إلا أن يحاط بكم) قال مجاهد: إلا أن تهلكوا أو تموتوا. وقال قتادة: إلا أن تغلبوا عليه. قال الزجاج: وهو في موضع نصب. (فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل) أي حافظ للحلف. وقيل: حفيظ للعهد قائم بالتدبير والعدل. الثانية - هذه الآية أصل في جواز الحمالة (1) بالعين والوثيقة بالنفس، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك وجميع أصحابه وأكثر العلماء: هي جائزة إذا كان المتحمل به مالا وقد ضعف الشافعي الحمالة بالوجه في المال، وله قول كقول مالك. وقال عثمان البتي: إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح فإنه إن لم يجئ به لزمه الدية وأرش الجراح، وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل، فهذه ثلاثة أقوال في الحمالة بالوجه. والصواب تفرقة مالك في ذلك، وأنها تكون في المال، ولا تكون في حد أو تعزير، على ما يأتي بيانه: قوله تعالى: وقال يبنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شئ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون (67) (1) الحمالة: الكفالة. (*)
[ 226 ]
فيه سبع مسائل: الأولى - لما عزموا على الخروج خشي عليهم العين، فأمرهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد، وكانت مصر لها أربعة أبواب، وإنما خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلا لرجل واحد، وكانوا أهل جمال وكمال وبسطة، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم. الثانية - إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرز من العين، والعين حق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ". وفي تعوذه عليه السلام: " أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " ما يدل على ذلك. وروى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار (1) فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلا ابيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء ! فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: " علام يقتل أحدكم أخاه (2) ألا بركت إن العين حق توضأ له " فتوضأ عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس، في رواية " اغتسل " فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه، فراح سهل مع رسول (3) الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس. وركب سعد بن أبي وقاص يوما فنظرت إليه امرأة فقالت: إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين، فرجع إلى منزله فسقط، فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له، ففي هذين الحديثين أن العين حق، وأنها تقتل كما قال [ النبي ] (4) صلى الله عليه وسلم، وهذا قول علماء الأمة، ومذهب أهل السنة، وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالسنة وإجماع علماء هذه الأمة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود، فكم من رجل (1) الخرار: ماء بالمدينة. (2) برك: قال بارك الله فيه، وهذا القول يبطل تأثير العين وسيأتى معناها. (3) في ع: مع الناس. (4) من ع. (*)
[ 227 ]
أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " (1) [ البقرة: 102 ]. قال الأصمعي: رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه شخبها فقال: أيتهن هذه ؟ فقالوا: الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعا، المورى بها والمورى عنها. قال الأصمعي. وسمعته يقول: إذا رأيت الشئ يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني. الثالثة - واجب على كل مسلم أعجبه شئ أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، ألا ترى قوله عليه السلام لعامر: " ألا بركت " فدل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن، وأنها إنما تعدو إذا لم يبرك. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين ! اللهم بارك فيه. الرابعة - العائن إذا أصاب بعينه ولم يبرك فإنه يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه، لأن الأمر على الوجوب، لا سيما هذا (2)، فإنه قد يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، ولا سيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه. الخامسة - من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعا لضرره، وقد قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته، وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، ويكف أذاه عن الناس. وقد قيل: إنه ينفى، وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال، فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائنا، وأنه لا يقدح فيه ولا يفسق به، ومن قال: يحبس ويؤمر بلزوم بيته. فذلك احتياط ودفع ضرر، والله أعلم. السادسة - روى مالك عن حميد بن قيس المكي أنه قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما: " ما لي أراهما ضارعين " (3) فقالت حاضنتهما: يا رسول الله ! إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استرقوا لهما فإنه (1) راجع ج‍ 2 ص 55. (2) في ع وك وى: هنا. (3) الضارع: النحيف الضاوى الجسم. (*)
[ 228 ]
لو سبق شئ القدر سبقته العين ". وهذا الحديث منقطع، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عميس الخثعمية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابته متصلة صحاح، وفيه أن الرقي مما يستدفع به البلاء، وأن العين تؤثر في الإنسان وتضرعه، أي تضعفه وتنحله، وذلك بقضاء الله تعالى وقدره. ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار، والله أعلم. السابعة - أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر هنا بالاسترقاء، قال علماؤنا: إنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن، وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء على حديث أبي أمامة، والله أعلم. قوله تعالى: (وما أغنى عنكم من الله من شئ) أي من شئ أحذره عليكم، أي لا ينفع الحذر مع القدر. (إن الحكم) أي الأمر والقضاء لله. (إلا لله عليه توكلت) أي اعتمدت ووثقت. (وعليه فليتوكل المتوكلين). قوله تعالى: ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضها وإنه لذو علم لما علمنه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (68) ولما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون (69) فلما جهزهم بجهازهم جعل السقايه في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70) قوله تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) أي من أبواب شتى. (ماكان يغنى عنهم من الله من شئ) إن أراد إيقاع مكروه بهم. (إلا حاجة) استثناء ليس من الأول. (في نفس يعقوب قضاها) أي خاطر خطر بقلبه، وهو وصيته أن يتفرقوا، قال مجاهد: خشية العين، وقد تقدم القول فيه. وقيل: لئلا يرى الملك عددهم وقوتهم
[ 229 ]
فيبطش بهم حسدا أو حذرا، قاله بعض المتأخرين، واختاره النحاس، وقال: ولا معنى للعين هاهنا. ودلت هذه الآية على أن المسلم يجب عليه أن يحذر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة، فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم. قوله تعالى: (وإنه) يعني يعقوب. (لذو علم لما علمناه) أي بأمر دينه. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يعلمون ما يعلم يعقوب عليه السلام من أمر دينه. وقيل: " لذو علم " أي عمل، فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما (1) هو بسببه. قوله تعالى: (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) قال قتادة: ضمه إليه، وأنزله معه. وقيل: أمر أن ينزل كل اثنين في منزل، فبقى أخوه منفردا فضمه إليه وقال: أشفقت عليه من الوحدة، قال له سرا من إخوته: (إني أنا أخوك فلا تبتئس) أي لا تحزن (بما كانوا يعملون). قوله تعالى: (فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه) لما عرف بنيامين أنه يوسف قال له: لا تردني إليهم، فقال: قد علمت اغتمام يعقوب بي فيزداد غمه، فأبى بنيامين الخروج، فقال يوسف: لا يمكن حبسك إلا بعد أن أنسبك إلى ما لا يجمل بك: فقال: لا أبالي ! فدس الصاع في رحله، إما بنفسه من حيث لم يطلع عليه أحد، أو أمر بعض خواصه بذلك. والتجهيز التسريح وتنجيز الأمر، ومنه جهز على الجريح أي قتله، ونجز أمره. والسقاية والصواع شئ واحد، إناء له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشرب منه من الرأس الواحد، ويكال الطعام بالرأس الآخر، قاله النقاش عن ابن عباس، وكل شئ يشرب به فهو صواع، وأنشد: نشرب الخمر بالصواع جهارا (2) واختلف في جنسه، فروى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان صواع الملك شئ من فضة يشبه المكوك، من فضة مرصع بالجوهر، يجعل على الرأس، (1) من ع. (2) البيت تقدم في ص 178 من هذا الجزء. برواية: نشرب الإثم. (*)
[ 230 ]
وكان للعباس واحد في الجاهلية، وسأل نافع بن الأزرق ما الصواع ؟ قال: الإناء، قال فيه الأعشى: له درمك في رأسه ومشارب * وقدر وطباخ وصاع وديسق (2) وقال عكرمة: كان من فضة. وقال عبد الرحمن بن زيد: كان من ذهب، وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم. وقيل: إنما كان يكال به لعزة الطعام. والصاع يذكر ويؤنث، فمن أنثه قال: أصوع، مثل أدور، ومن ذكره قال أصواع، مثل أثواب. وقال مجاهد وأبو صالح: الصاع الطرجهالة بلغة حمير. وفيه قراءات: " صواع " قراءة العامة، و " صوغ " بالغين المعجمة، وهي قراءة يحيى بن يعمر، قال: وكان إناء أصيغ من ذهب. " وصوع " بالعين غير المعجمة قراءة أبي رجا. " وصوع " بصاد مضمومة وواو ساكنة وعين غير معجمة قراءة أبي. " وصياع " بياء بين الصاد والألف، قراءة (3) سعيد بن جبير. " وصاع " بألف بين الصاد والعين، وهي قراءة أبي هريرة. قوله تعالى: (ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) أي نادى مناد وأعلم. " وأذن " للتكثير، فكأنه نادى مرارا " أيتها العير ". والعير ما امتير عليه من الحمير والإبل والبغال. قال مجاهد: كان عيرهم حميرا. قال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة، والمعنى: يا أصحاب العير، كقوله: " واسأل القرية " [ يوسف: 82 ] ويا خيل الله اركبي: أي يا أصحاب خيل الله، وسيأتي. وهنا اعتراضان: الأول - إن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعا وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف ؟ وكيف نسب يوسف السرقة إلى إخوته وهم براء وهو - الثاني - فالجواب عن الأول: أن الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثر فيه فقد بنيامين كل التأثير، أولا تراه لما فقده قال: " يا أسفا على يوسف " [ يوسف: 84 ] ولم يعرج على بنيامين، ولعل يوسف إنما وافقه على القعود بوحي، فلا اعتراض. وأما نسبة (1) كذا في ا وع وك وى. ولعله الأشبه، وفى و: مالك. (2) الديسق: خوان من فضه. والبيت من قصيدة يمدح بها المحلق مطلعها. أرقت وما هذا السهاد المورق * وما بى من سقم وما بى معشق (3) في ع: أبى جعفر. والذى في شواذ ابن خالويه: صواغ سعيد بن جبير. بغين معجمة، وابن عطية. (*)
[ 231 ]
يوسف السرقة إلى إخوته فالجواب: أن القوم كانوا قد سرقوه من أبيه فألقوه في الجب، ثم باعوه، فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل، فصدق إطلاق ذلك عليهم. جواب آخر - وهو أنه أراد أيتها العير حالكم حال السراق، والمعنى: إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه. جواب آخر - وهو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناء على أن بنيامين لم يعلم بدس الصاع في رحله، ولا أخبره بنفسه. وقد قيل: إن معنى الكلام الاستفهام، أي أو إنكم لسارقون ؟ كقوله: " وتلك نعمة " (1) [ الشعراء: 22 ] أي أو تلك نعمة تمنها علي ؟ والغرض ألا يعزى إلى يوسف صلى الله عليه وسلم الكذب. قوله تعالى: قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72) فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم). البعير هنا الجمل في قول أكثر المفسرين. وقيل: إنه الحمار، وهي لغة لبعض العرب، قاله مجاهد واختاره. وقال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي قال: " أيتها العير ". والزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء والزعيم الرئيس. قال (2): وإني زعيم إن رجعت مملكا * بسير ترى منه الفرانق أزورا وقالت ليلى الأخيلية ترثي أخاها (3): ومخرق عنه القميص تخاله * يوم اللقاء من الحياء سقيما راجع ج‍ 13 ص 93. (2) هو امرؤ القيس. والفرانق: سبع يصيح بين يدى الأسد كأنه ينذر الناس به، وهو فارسي معرب. والأزور: المائل في شق، أي إن ملكني قيصر فإنى أسير سيرا شديدا يميل منه الفرانق من شدته بجانب. (3) كذا في الأصل ولعله ترثى توبة. وفى صفته بخرق القميص أقوال: الأول - أن ذلك إشارة إلى جذب العفاة له. الثاني - أنه يؤثر بجيذ ثيابه فيكسوها ويكتفى بمعاوزها. الثالث - أنه غليظ المناكب، وإذا كان كذلك أسرع الخرق إلى قميصه. الرابع - أنه كثير الغزوات متصل في الأسفار، فقميصه منخرق لذلك. (*)
[ 232 ]
حتى إذا رفع اللواء رأيته * [ تحت اللواء ] (1) على الخميس زعيما الثانية - إن قيل: كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح ؟ قيل له: حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق، فصح ضمانه، غير أنه [ كان ] (2) بدل مال للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصح في شرعهم أو كان هذا جعالة، وبذل مال لمن [ كان ] يفتش ويطلب. الثالثة - قال بعض العلماء: في هذه الآية دليلان: أحدهما - جواز الجعل وقد أجيز للضرورة، فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره، فإذا قال الرجل: من فعل كذا فله كذا صح. وشأن الجعل أن يكون أحد الطرفين معلوما والآخر مجهولا للضرورة إليه، بخلاف الإجارة، فإنه يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين، وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه، إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. ولا يشترط في عقد الجعل حضور المتعاقدين، كسائر العقود، لقوله: " ولمن جاء به حمل بعير " وبهذا كله قال الشافعي. الرابعة - متى قال الإنسان، من جاء بعبدي الآبق فله دينار لزمه ما جعله فيه إذا جاء به، فلو جاء به من غير ضمان لزمه إذا جاء به على طلب الأجرة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من جاء بآبق فله أربعون درهما " ولم يفصل بين من جاء به من عقد ضمان أو غير عقد. قال ابن خويز منداد ولهذا قال أصحابنا: إن من فعل بالإنسان ما يجب عليه أن يفعله بنفسه ممصالحه لزمه ذلك، وكان له أجر مثله إن كان ممن يفعل ذلك بالأجر. قلت: وخالفنا في هذا كله الشافعي. (1) كذا في " أمالى القالى " والشعر والشعراء " و " الحماسة ". وفى الإصول: يوم الهياج. (2) من ع. (*)
[ 233 ]
الخامسة - الدليل الثاني - جواز الكفالة على الرجل، لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف عليه السلام، قال علماؤنا: إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي فذلك كله حمالة لازمة، وقد اختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال أم لا ؟ فقال الكوفيون: من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب إن مات، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه. وقال مالك والليث والأوزاعي: إذا تكفل بنفسه وعليه مال فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال: لا أضمن المال فلا شئ عليه من المال، والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم، وإنما يطلب بمال، فإذا ضمنه له ولم يأته به فكأنه فوته عليه، وعزه منه، فلذلك لزمه المال. واحتج الطحاوي للكوفيين فقال: أما ضمان المال بموت المكفول [ به ] (1) فلا معنى له، لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به. السادسة - وأختلف العلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما ؟ فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: يأخذ من شاء حتى يستوفي حقه، وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال: لا يؤخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب، لأن التبدية بالذي عليه الحق أولى، إلا أن يكون معدما فإنه يؤخذ من الحميل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة، وهذا قول حسن. والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء. وقال ابن أبي ليلى: إذا ضمن الرجل عن صاحبه مالا تحول على الكفيل وبرئ صاحب الأصل، إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء، واحتج ببراءة الميت من الدين، بضمان أبي قتادة (2)، وبنحوه قال أبو ثور. (1) من ع وى. (2) الحديث: روى سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجنازه فقال: " هل عليه من دين " قالوا: نعم، قال: " هل ترك شيئا " قالوا: لا، قال: " صلوا على صاحبكم " قال أبو قتادة: صل عليه يارسول الله وعلى دينه، فصلى عليه. (*)
[ 234 ]
السابعة - الزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز (1) النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان ثابتا مستقرا، فلا تصح الحمالة بالكتابة لأنها ليست بدين ثابت مستقر، لأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة، وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره. وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص، وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعي القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام، واحتج لهم الطحاوي بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبد الله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة. قوله تعالى: قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73) قالوا فما جزؤه إن كنتم كذبين (74) قالوا جزؤه من وجد في رحله فهو جزؤه كذلك نجزى الظلمين (75) قوله تعالى: (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) يروى أنهم كانوا لا ينزلون على أحد ظلما، ولا يرعون زرع أحد، وأنهم جمعوا على أفواه إبلهم الأكمة لئلا تعيث في زروع الناس. ثم قال: (وما كنا سارقين) يروى أنهم ردوا البضاعة التي كانت في رحالهم، أي فمن رد ما وجد فكيف يكون سارقا ؟ !. قوله تعالى: (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) المعنى: فما جزاء الفاعل إن بان كذبكم ؟ فأجاب إخوة يوسف: (جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) أي يستعبد ويسترق. " فجزاؤه " مبتدأ، و " من وجد في رحله " خبره، والتقدير: جزاؤه استعباد من وجد في رحله، فهو كناية عن الاستعباد، وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع فهذا جزاؤه. (كذلك نجزى الظالمين) أي كذلك نفعل في الظالمين إذا سرقوا أن يسترقوا، وكان هذا من دين يعقوب عليه السلام وحكمه. وقولهم هذا قول من لم يسترب نفسه، (1) في ع: تجب. (*)
[ 235 ]
لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله، وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ، قاله الحسن والسدي وغيرهما. مسألة - قد تقدم في سورة " المائدة " (1) أن القطع في السرقة ناسخ لما تقدم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق، والله أعلم. قوله تعالى: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم (76) قوله تعالى: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه) إنما بدأ يوسف برحالهم لنفي التهمة والريبة من قلوبهم إن بدأ بوعاء أخيه. والوعاء يقال بضم الواو وكسرها، لغتان، وهو ما يحفظ فيه المتاع ويصونه. (ثم استخرجها من وعاء أخيه) يعني بنيامين، أي استخرج السقاية أو الصواع عند من يؤنث، وقال: " ولمن جاء به " [ يوسف: 72 ] فذكر فلما رأى ذلك إخوته نكسوا رؤوسهم، وظنوا الظنون كلها، وأقبلوا عليه وقالوا ويلك يا بنيامين ! ما رأينا كاليوم قط، ولدت أمك " راحيل " أخوين لصين ! قال لهم أخوهم: والله ما سرقته، ولا علم لي بمن وضعه في متاعي. ويروى (2) أنهم قالوا له: يا بنيامين ! أسرقت ؟ قال: لا والله، قالوا: فمن جعل الصواع في رحلك ؟ قال: الذي جعل البضاعة في رحالكم. ويقال: إن المفتش كان إذا فرغ من رحل رحل استغفر الله عز وجل تائبا من فعله ذلك، وظاهر كلام قتادة وغيره أن المستغفر كان يوسف، لأنه كان يفتشهم ويعلم أين الصواع حتى فرغ منهم، وانتهى إلى رحل بنيامين فقال: ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ولا أخذ شيئا، فقال له إخوته: والله لا نبرح حتى تفتشه، فهو أطيب لنفسك ونفوسنا، ففتش فأخرج السقاية، وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن سرقهم برأيه، فيقال: إن جميع ذلك كان أمر من الله تعالى، ويقوي ذلك قوله تعالى: " كذلك كدنا ليوسف ". (1) راجع ج‍ 6 ص 162. (2) في ع: ويقال. (*)
[ 236 ]
قوله تعالى: (كذلك كدنا ليوسف). فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: " كدنا " معناه صنعنا، عن ابن عباس. القتبي: دبرنا. ابن الأنباري: أردنا، قال الشاعر: كادت وكدت وتلك خير إرادة * لو عاد من عهد الصبا ما قد مضى وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا، خلافا لأبي حنيفة في تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل. الثانية - أجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة، وأجمعوا على أنه إذا حال الحول وأظل الساعي أنه لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرق بين مجتمع، ولا أن يجمع بين متفرق. وقال مالك: إذا فوت (1) من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول، أخذا منه بقوله عليه السلام: " خشية الصدقة ". وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفريقه (2) الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضره، لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله: " خشية الصدقة " إلا حينئذ. قال ابن العربي: سمعت أبا بكر محمد بن الوليد الفهري وغيره يقول: كان شيخنا قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني صاحب عشرات آلاف [ دينار ] (3) من المال، فكان إذا جاء رأس الحول دعا بنيه فقال لهم: كبرت سني، وضعفت قوتي، وهذا مال لاأحتاجه فهو لكم، ثم يخرجه فيحمله الرجال على أعناقهم إلى دور بنيه، فإذا جاء رأس الحول ودعا بنية لأمر قالوا: يا أبانا ! إنما أملنا حياتك، وأما المال فأي رغبة لنا فيه ما دمت حيا، أنت ومالك لنا، فخذه إليك، ويسير الرجال به حتى يضعوه بين يديه، فيرده إلى موضعه، يريد بتبديل الملك إسقاط الزكاة على رأي أبي حنيفة في التفريق بين المجتمع، والجمع بين المتفرق، وهذا خطب عظيم وقد صنف البخاري رضي الله عنه في جامعه كتابا مقصود فقال: " كتاب الحيل ". (1) في ع: فرق. (2) في ع: بتفويته. (3) من ع وى. (*)
[ 237 ]
قلت: وترجم فيه أبوابا منها: " باب الزكاة وألا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ". وأدخل فيه حديث أنس بن مالك، وأن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة، وحديث طلحة ابن عبيدالله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس. الحديث، وفي آخره: " أفلح إن صدق " أو " دخل الجنة إن صدق ". وقال بعض الناس: في عشرين ومائة بعير حقتان، فإن أهلكها متعمدا أو وهبها أو احتال فيها فرارا من الزكاة فلا شئ عليه، ثم أردف بحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ويقول أنا كنزك " الحديث، قال المهلب: إنما قصد البخاري في هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد في إسقاط الزكاة فإن إثم ذلك عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم وتفريقها خشية الصدقة فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله: " أفلح إن صدق " أن من رام أن ينقض شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح، ولا يقوم بذلك عذره عند الله، وما أجازه الفقهاء من تصرف صاحب المال في ماله قرب حلول الحول إنما هو ما لم يرد بذلك الهرب من الزكاة، ومن نوى ذلك فالإثم، عنه غير ساقط، والله حسيبه، وهو كمن فر من صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم، واستعمل سفرا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله الذي كتبه الله على المؤمنين، فالوعيد متوجه عليه، ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأي وجه متعمدا (1) كيف تطؤه الإبل، ويمثل له ماله شجاعا أقرع ! ؟ وهذا يدل على أن الفرار من الزكاة لا يحل، وهو مطالب بذلك في الآخرة. الثالثة - قال ابن العربي: قال بعض علماء الشافعية في قوله تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه ". دليل على وجه الحيلة إلى المباح، واستخراج الحقوق، وهذا وهم عظيم، وقوله تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض " قيل فيه: كما مكنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكنا له ملك الأرض عن العزيز، أو مثله مما لا يشبه ما ذكره. قال الشفعوي: ومثله قوله عز وجل: " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " (2) [ ص: 44 ] وهذا ليس (1) في ع وى: بأى وجه منعها. (2) راجع ج‍ 15 ص 212. (*)
[ 238 ]
حيلة، إنما هو حمل لليمين على الألفاظ أو على المقاصد. قال الشفعوي: ومثله حديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيب، الحديث، ومقصود الشافعية من هذا الحديث أنه عليه السلام أمره أن يبيع جمعا (1) ويبتاع جنيبا من الذي باع منه الجمع أو من غيره. وقالت المالكية: معناه من غيره، لئلا يكون جنيبا بجمع، والدراهم ربا، كما قال ابن عباس: جريرة بجريرة (2) والدراهم ربا. قوله تعالى: (في دين الملك) أي سلطانه، عن ابن عباس. ابن عيسى: عاداته، أي يظلم بلا حجة. مجاهد: في حكمه، وهو استرقاق السراق. (إلا أن يشاء الله) أي إلا بأن يشاء الله أن يجعل السقاية في رحله تعلة وعذرا له. وقال قتادة: بل كان حكم الملك الضرب والغرم ضعفين، ولكن شاء الله أن يجري على ألسنتهم حكم بني إسرائيل، على ما تقدم. قوله تعالى: (نرفع درجات من نشاء) أي بالعلم والإيمان. وقرئ " نرفع درجات من نشاء " بمعنى: نرفع من نشاء درجات، وقد مضى في " الأنعام " (3) وقوله: (وفوق كل ذى علم عليم) روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: يكون ذا أعلم من ذا وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عالم. وروى سفيان عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس رحمه الله فتحدث بحديث فتعجب منه رجل فقال: سبحان الله ! وفوق كل ذي علم عليم، فقال ابن عباس: بئس ما قلت، الله العليم وهو فوق كل عالم. قوله تعالى: قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77) قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا فخذ أحدنا مكانه إنا نرك من المحسنين (78) قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متعنا عنده إنا إذا لظلمون (79) (1) الجمع: تمر مختلط من انواع متفرقة، وليس مرغوبا فيه. (2) كذا في الأصل وفى " أحكام القرآن لابن العربي " ولعل العبارة كما في ع: حريرة بالمهملة. (3) راجع ج‍ 7 ص 30 فما بعدها. (*)
[ 239 ]
قوله تعالى: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) المعنى: أي اقتدى بأخيه، ولو اقتدى بنا ما سرق، وإنما قالوا ذلك ليبرءوا من فعله، لأنه ليس من أمهم، وأنه إن سرق فقد جذبه عرق أخيه السارق، لأن الاشتراك في الأنساب يشاكل في الأخلاق. وقد اختلفوا في السرقة التي نسبوا إلى يوسف، فروي عن مجاهد وغيره أن عمة يوسف بنت إسحاق كانت أكبر من يعقوب، وكانت صارت إليها منطقة إسحاق لسنها، لأنهم كانوا يتوارثون بالسن، وهذا مما نسخ حكمه بشرعنا، وكان من سرق استعبد. وكانت عمة يوسف حضنته وأحبته حبا شديدا، فلما ترعرع وشب قال لها يعقوب: سلمي يوسف إلي، فلست أقدر أن يغيب عني ساعة، فولعت به، وأشفقت من فراقه، فقالت له: دعه عندي أياما أنظر إليه فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها، فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوا، فوجدت مع يوسف. فقالت: إنه والله لي سلم أصنع فيه ما شئت، ثم أتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، فأمسكته حتى ماتت، فبذلك عيره إخوته في قولهم: " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " ومن هاهنا تعلم يوسف وضع السقاية في رحل أخيه كما عملت به عمته. وقال سعيد بن جبير: إنما أمرته أن يسرق صنما كان لجده أبي أمه، فسرقه وكسره وألقاه على الطريق، وكان ذلك منهما تغييرا للمنكر، فرموه بالسرقة وعيروه بها، وقاله قتادة. وفي كتاب الزجاج: أنه كان صنم ذهب. وقال عطية العوفي: إنه كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق (1) فخبأه فغيره بذلك. وقيل: إنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين، حكاه ابن عسى. وقيل: إنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه، قاله الحسن. قوله تعالى: (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) أي أسر في نفسه قولهم: " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " قاله ابن شجرة وابن عيسى. وقيل: إنه أسر في نفسه قوله: " أنتم شر مكانا " ثم جهر فقال: " والله أعلم بما تصفون ". (1) العرق (بالفتح) هنا القطعة من اللحم المطبوخ. (*)
[ 240 ]
[ قاله ابن عباس، أي أنتم شر مكانا ممن نسبتموه إلى هذه السرقة. ومعنى قوله " والله أعلم بما تصفون " (1) ] أي الله أعلم أن ما قلتم كذب، وإن كانت لله رضا. وقد قيل: إن إخوة يوسف في ذلك الوقت ما كانوا أنبياء. قوله تعالى: (قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه) خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول (2) أو موته. وقولهم: " إن له أبا شيخا كبيرا " أي كبير القدر، ولم يريدوا كبر السن، لأن ذلك معروف من حال الشيخ. " فخذ أحدنا مكانه " أي عبدا بدله، وقد قيل: إن هذا مجاز، لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه، وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله: أقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله. ويحتمل أن يكون قولهم: " فخذ أحدنا مكانه " حقيقة، وبعيد عليهم وهم أنبياء (3) أن يروا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة، أي خذ أحدنا مكانه. حتى ينصرف إليك صاحبك، ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه، ويعرف يعقوب جلية الأمر، فمنع يوسف عليه السلام من ذلك، إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي، غير لازمة إذا أبى الطالب، وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة، فلا يجوز إجماعا. وفي " الواضحة ": إن الحمالة في الوجه فقط في [ جميع ] (4) الحدود جائزة، إلا في النفس. وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس. وأختلف فيها عن الشافعي، فمرة ضعفها، ومرة أجازها. قوله تعالى: (إنا نراك من المحسنين) يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم، ويحتمل أن يريدوا: إنا نرى لك إحسانا علينا في هذه اليد أن أسديتها إلينا، وهذا تأويل ابن إسحاق. قوله تعالى: (قال معاذ الله) مصدر. (أن نأخذ) في موضع نصب، أي من أن نأخذ. (إلا من وجدنا) في موضع نصب ب " نأخذ ". (متاعنا عنده) أي معاذ الله أن نأخذ البرئ بالمجرم ونخالف ما تعاقدنا عليه. (إنا إذا لظلمون) أي أن نأخذ غيره. (1) من ع. (2) هو قطفير. (3) قد مضى أنهم ليسوا بأنبياء على الصحيح. (4) من ع. (*)
[ 241 ]
قوله تعالى: فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لى أبى أو يحكم الله وهو خير الحاكمين (80) قوله تعالى: (فلما استيئسوا منه) أي يئسوا، مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر. (خلصوا) أي انفردوا وليس هو معهم. (نحيا) نصب على الحال من المضمر في " خلصوا " وهو واحد يؤدي عن جمع، كما في هذه الآية، ويقع على الواحد كقوله تعالى: " وقربنه نجيا " (1) [ مريم: 52 ] وجمعه أنجية، قال الشاعر: إني إذا ما القوم كانوا أنجية * واضطرب القوم اضطراب الأرشية * هناك أوصيني ولا توصي بيه وقرأ ابن كثير: " استايسوا " " ولا تايسوا " " إنه لا يايس " " أفلم يايس " بألف من غير همز على القلب، قدمت الهمزة وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة، والأصل قراءة الجماعة، لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء - يأسا - والإياس ليس بمصدر أيس، بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته. وقال قوم: أيس ويئس لغتان، أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس، يتناجون فيما عرض لهم. والنجي فعيل بمعنى المناجي. قوله تعالى: (قال كبيرهم) قال قتادة: وهو روبيل، كان أكبرهم في السن. مجاهد: هو شمعون، كان أكبرهم في الرأي. وقال الكلبي: يهوذا، وكان أعقلهم. وقال محمد بن كعب وابن إسحاق: هو لاوى، وهو أبو الأنبياء. (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم (1) راجع ج‍ 11 ص 113. (2) هو سحيم بن وثيل اليربوعي يصف قوما اتعبهم السير والسفر فرقدوا على ركابهم واظطربوا عليها، وشد بعضهم على ناقته حذار سقوطه. وقيل: إنما ضربه مثلا لنزول الأمر المهم. والأرشيه الحبال التى يستقى بها، والمواد أنه ثابت الجأش. و (أوصيني ولا توصى) بالياء لأنه يخاطب مؤنثا.
[ 242 ]
موثقا من الله) أي عهدا من الله في حفظ ابنه، ورده إليه. (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) " ما " في محل نصب عطفا على " أن " والمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، وتعلموا تفريطكم في يوسف، ذكره النحاس وغيره. و " من " في قوله: " ومن قبل " متعلقة ب " تعلموا ". ويجوز أن تكون " ما " زائدة، فيتعلق الظرفان اللذان هما " من قبل " و " في يوسف " بالفعل وهو " فرطتم ". ويجوز أن تكون " ما " والفعل مصدرا، و " من قبل " متعلقا بفعل مضمر، التقدير: تفريطكم في يوسف واقع من قبل، فما والفعل في موضع رفع بالابتداء، والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به " من قبل ". (فلن أبرح الأرض) (1) أي ألزمها، ولا أبرح مقيما فيها، يقال: برح براحا وبروحا أي زال، فإذا دخل النفي صار مثبتا. (حتى يأذن لى أبى) بالرجوع فإني أستحي منه. (أو يحكم الله لى) بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي. وقيل: المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب واخذ أخي، أو أعجز فانصرف بعذر، وذلك أن يعقوب قال: " لتأتنني به إلا أن يحاط بكم " [ يوسف: 66 ] ومن حارب وعجز فقد أحيط به، وقال ابن عباس: وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف، يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه. وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته - وكان أشدهم غضبا -: إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر، وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه، قالوا: بل أكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر، فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق، فأخذ كل، واحد منهم سوقا، ثم إن يهوذا دخل على يوسف وقال: أيها الملك ! لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها، وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب، فأغضبه يوسف وأسمعه كلمه، فغضب يهوذا واشتد غضبه، وانتفجت (2) شعراته، وكذا كان كل واحد من بني يعقوب، كان إذا غضب، اقشعر جلده، وانتفخ جسده، وظهرت شعرات ظهره، من تحت الثوب، حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم، وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان، وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم (1) في ى: أي من الأرض. (2) نفجت: ثارت بقوة. (*)
[ 243 ]
والطير إلا وضعت ما في بطنها، تماما أو غير تمام، فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما، أو تمسكه يد من نسل يعقوب، فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية، وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه، ففعل فسكن غضبه (1) وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره، فخرج مسرعا إلى إخوته وقال: هل حضرني منكم أحد ؟ قالوا: لا ! قال: فأين ذهب شمعون ؟ قالوا: ذهب إلى الجبل، فخرج فلقيه، وقد أحتمل صخرة عظيمة، قال: ما تصنع بهذه ؟ قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رءوس كل من فيه، قال: فارجع فردها أو ألقها في البحر، ولا تحدثن حدثا، فو الذي أتخذ إبراهيم خليلا ! لقد مسني كف من نسل يعقوب. ثم دخلوا على يوسف، وكان يوسف أشدهم بطشا، فقال: يا معشر العبرانيين ! أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة، ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار - الركل الضرب بالرجل الواحدة، وقد ركله يركله، قال الجوهري - ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه [ لجنبه ]، وقال: هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم، ثم صعد على سريره وجلس على فراشه، وأمر بصواعه فوضع بين يديه، ثم نقره نقرة فخرج طنينه، فالتفت إليهم وقال: أتدرون ما يقول ؟ قالوا: لا ! قال: فإنه يقول: إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم، ثم نقر نقرة ثانية وقال: إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه، فقالوا: أيها العزيز ! أستر علينا ستر الله عليك، وامنن علينا من الله عليك، فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول: إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب، ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس، وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله، ثم نقره رابعة وقال: إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه، ولم تتوبوا إليه، ثم نقره خامسة وقال إنه يقول: إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا، ثم نقره سادسة وقال إنه يقول: لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم، لأجعلنكم نكالا للعالمين. ايتوني بالحدادين أقطع (1) في ى: غيظه. (2) في ع وى: لجنبه وفى و: لحينه. (*)
[ 244 ]
أيديهم وأرجلهم، فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا: لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده، وترابا يطأ علينا برجله، فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم: اخرجوا عني ! قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم، ولولا هو لجعلتكم نكالا. قوله تعالى: ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حفظين (81) قوله تعالى: (ارجعوا إلى أبيكم) قاله الذي قال: " فلن أبرح الأرض ". (فقولوا يا ابانا إن ابنك سرق) وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين " إن ابنك سرق ". النحاس: وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا ابن شاذان (1) قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال: سمعت، الكسائي يقرأ: " يا أبانا إن ابنك سرق " بضم السين وتشديد الراء مكسورة، على ما لم يسم فاعله، أي نسب إلى السرقة ورمي بها، مثل خونته وفسقته وجرته إذا نسبته إلى هذه الخلال. وقال الزجاج: " سرق " يحتمل معنيين: أحدهما - علم منه السرق، والآخر - اتهم بالسرق. قال الجوهري: والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشئ المسروق، والمصدر يسرق سرقا بالفتح. قوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا). فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: " وما شهدنا إلا بما علمنا " يريدون ما شهدنا قط إلا بما علمنا، وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب، كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين: دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم، قال معناه ابن إسحاق. وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك، قاله ابن زيد. (وما كنا للغيب حافظين) أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه. وقال مجاهد وقتادة: ما كنا (1) هو العباس بن الفضل بن شاذان، كما في " غاية النهاية ". (*)
[ 245 ]
نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا، وإنما قلنا: نحفظ أخانا فيما نطيق. وقال ابن عباس: يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام، والغيب هو الليل بلغة حمير، وعنه: ماكنا نعلم ما يصنع في ليله ونهاره وذهابه وإيابه. وقيل: ما دام بمرأى منا لم يجز خلل، فلما غاب عنا خفيت عنا حالاته. وقيل معناه: قد أخذت السرقة من رحله، ونحن أخرجناها وننظر إليها، ولا علم لنا بالغيب، فلعلهم سرقوه ولم يسرق. الثانية - تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها، فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات، ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة، وكذلك الشهادة على الخط - إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان - صحيحة فكل من حصل له العلم بشئ جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه، قال الله تعالى: " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " (1) [ الزخرف: 86 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بخير الشهداء خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " وقد مضى في " البقرة " (2). الثالثة - اختلف قول مالك في شهادة المرور، وهو أن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن أستوعب القول شهد في أحد قوليه، وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه. والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب، وبه قال جماعة العلماء، وهو الحق، لأنه [ قد ] (3) حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم، فكان خير الشهداء إذا أعلم المشهود له، وشر الشهداء إذا كتمها [ والله أعلم ] (4). الرابعة - إذا أدعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت، لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهر. قوله تعالى: وسئل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها وإنا لصادقون (82) (1) راجع ج‍ 16 ص 122. (2) راجع ج‍ 3 ص 399. (3) من ع. (4) من ك وى. (*)
[ 246 ]
فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها والعير) حققوا بها شهادتهم عنده، ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم. فقولهم: (وأسأل القرية) أي أهلها، فحذف، ويريدون بالقرية مصر. وقيل: قرية من قراها نزلوا بها وامتاروا منها. وقيل المعنى " واسأل القرية " وإن كانت جمادا، فأنت نبي الله، وهو (1) ينطق الجماد له، وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار، قال سيبويه: ولا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند، لأن هذا يشكل. والقول في العير كالقول في القرية سواء. (وإنا لصادقون) في قولنا. الثانية - في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح (2) بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد متكلم، وقد فعل هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله للرجلين اللذين مرا وهو قد خرج مع صفية يقلبها (3) من المسجد: " على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي " فقالا: سبحان الله وكبر عليهما فقال النبي: " إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا " رواه البخاري ومسلم. قوله تعالى: قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبرا جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (قال بل سولت) أي زينت. (لكم أنفسكم) أن ابني سرق وما سرق، وإنما ذلك لأمر يريده الله. (فصبر جميل) أي فشأني صبر جميل، أو صبر جميل أولى بي، على ما تقدم أول السورة. (1) في ى: أنت نبى والله ينطق الجماد لك. (2) كذا في الأصول. ولعل الواو زائدة فيكون يصرح خير أن. (3) يقلبها: يردها. (*)
[ 247 ]
الثانية - الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل، والرضا والتسليم لمجريه عليه وهو العليم الحكيم، ويقتدي [ بنبي الله (1) ] يعقوب وسائر النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال سعيد بن أبي عروبه عن قتادة عن الحسن قال: ما من جرعتين يتجرعهما العبد أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو. وقال ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: " فصبر جميل " أي لا أشكو ذلك إلى أحد. وروى قاتل بن سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من بث لم يصبر ". وقد تقدم في " البقرة " (2) أن الصبر عند أول الصدمة، وثواب من ذكر مصيبته واسترجع وأن تقادم عهدها. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن يعقوب أعطى على يوسف أجر مائة شهيد، وكذلك من احتسب من هذه الأمة في مصيبته فله [ مثل (3) ] أجر يعقوب عليه السلام. قوله تعالى: (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) لأنه كان عنده أن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يمت، وإنما غاب عنه خبره، لأن يوسف حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا، ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس، ثم حبس، فلما تمكن احتال في أن يعلم أبوه خبره، ولم يوجه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إليه. وقال: " بهم " لأنهم ثلاثة، يوسف وأخوه، والمتخلف من أجل أخيه، وهو القائل: " فلن أبرح الأرض ". (إنه هو العليم) بحالي. (الحكيم) فيما يقضي. قوله تعالى: وتولى عنهم وقال يأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وتولى عنهم) أي أعرض عنهم، وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه، وبلغ جهده، وجدد الله مصيبته له في يوسف فقال: (يا أسفا (1) من ع. وفى ى: بأيوب، بدل يعقوب. وهو من أغلاط الناسخ. (2) راجع ج‍ 2 ص 174، 175. (3) من ع وك وى. (*)
[ 248 ]
على يوسف) ونسى ابنه بنيامين فلم يذكره، عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: لم يكن عند يعقوب ما في كتابنا من الاسترجاع، ولو كان عنده لما قال: " يا أسفا على يوسف ". قال قتادة والحسن: والمعنى يا حزناه (1) ! وقال مجاهد والضحاك: يا جزعاه !، قال كثير: فيا أسفا للقلب كيف انصرافه * وللنفس لما سليت فتسلت والأسف شدة الحزن على ما فات. والنداء على معنى: تعال يا أسف فإنه من أوقاتك. وقال الزجاج: الأصل يا أسفي، فأبدل من الياء ألف لخفة الفتحة. (وابيضت عيناه من الحزن) قيل: لم يبصر بهما ست سنين، وأنه عمي، قال مقاتل. وقيل: قد تبيض العين ويبقى شئ من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب، وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال: " من الحزن ". وقيل: إن يعقوب كان يصلي، ويوسف نائما معترضا ببن يديه، فغط في نومه، فالتفت يعقوب إليه، ثم غط ثانية فالتفت إليه، ثم غط ثالثة فالتفت إليه سرورا به وبغطيطه، فأوحى الله تعالى إلى ملائكته: " أنظروا إلى صفيي وابن خليلي قائما في مناجاتي يلتفت إلى غيري، وعزتي وجلالي ! لأنزعن الحدقتين اللتين التفت بهما، ولأفرقن بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة، ليعلم العاملون أن من قام بين يدي يجب عليه مراقبة نظري ". هذا يدل على أن الالتفات في الصلاة - وإن لم يبطل - يدل على العقوبة عليها، والنقص فيها، وقد روى البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ". وسيأتي ما للعلماء في هذا في أول سورة " المؤمنون " موعبا إن شاء الله تعالى. الثالثة - قال النحاس: فإن سأل قوم عن معنى شدة حزن يعقوب - صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا - فللعلماء في هذا ثلاثة أجوبة: منها - أن يعقوب صلى الله عليه وسلم لما علم أن يوسف صلى الله عليه وسلم حي خاف على دينه، فاشتد حزنه لذلك. وقيل: إنما حزن لأنه سلمه إليهم صغيرا، فندم على ذلك. والجواب الثالث - وهو أبينها - هو أن (1) في ووى: واحزناه. (*)
[ 249 ]
الحزن ليس بمحظور، وإنما المحظور الولولة وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ". وقد بين الله جل وعز ذلك بقوله: (فهو كظيم) أي مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه، قال الله تعالى: " إذ نادى وهو مكظوم " (1) [ القلم: 48 ] أي مملوء كربا. ويجوز أن يكون المكظوم بمعنى الكاظم، وهو المشتمل على حزنه. وعن ابن عباس: كظيم مغموم، قال الشاعر: فإن أك كاظما لمصاب شاس * فإني اليوم منطلق لساني وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذهبت عيناه من الحزن " فهو كظيم " قال: فهو مكروب. وقال مقاتل بن سليمان عن عطاء عن ابن عباس في قوله: " فهو كظيم " قال: فهو كمد، يقول: يعلم أن يوسف حي، وأنه لا يدري أين هو، فهو كمد من ذلك. قال الجوهري: الكمد الحزن المكتوم، تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد. النحاس. يقال فلان كظيم وكاظم، أي حزين لا يشكو حزنه، قال الشاعر: فحضضت قومي واحتسبت قتالهم * والقوم من خوف المنايا كظم قوله تعالى: قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين (85) قال إنما أشكوا بثى وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (86) قوله تعالى: (قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف) أي قال له ولده: " تالله تفتا تذكر يوسف " قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت. وزعم الفراء أن " لا " مضمرة، أي لا تفتأ، وأنشد (2): فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (1) راجع ج‍ 18 ص 253. (2) البيت لامرى القيس و " يمين " بالرفع على الأبتداء وأضمار الخبر، والتقدير: يمين الله لازمني، وبالنصب على إضمار فعل، وهو كثير في كلام العرب كقولهم: أمانة الله. وقد وصف أنه طوق محبوبته فخوفته الرقباء، وأمرته بالإنصراف، فقال لها هذا، وأراد: لا أبرح فحذف " لا ". والأوصال (جمع وصل) وهى المفاصل. (*)
[ 250 ]
أي لا أبرح، قال النحاس: والذي قال حسن صحيح. وزعم الخليل وسيبويه أن " لا " تضمر في القسم، لأنه ليس فيه إشكال، ولو كان (1) واجبا لكان باللام والنون، وإنما قالوا له لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك، يقال: ما زال يفعل كذا، وما فتئ وفتأ فهما لغتان، ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر: فما فتئت حتى كأن غبارها (3) * سرادق يوم ذي رياح ترفع أي ما برحت فتفتأ تبرح. وقال ابن عباس: تزال. (حتى تكون حرضا) أي تالفا. وقال ابن عباس ومجاهد: دنفا من المرض، وهو ما دون الموت، قال الشاعر: سرى همي فأمرضني * وقدما زادني مرضا كذا الحب قبل اليو * م مما يورث الحرضا وقال قتادة: هرما. الضحاك: باليا داثرا. محمد بن إسحاق: فاسدا لا عقل لك. الفراء: الحارض الفاسد الجسم والعقل، وكذا الحرض. ابن زيد: الحرص الذي قد رد إلى أرذل العمر. الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم. المؤرج: ذائبا من الهم. وقال الأخفش: ذاهبا. ابن الأنباري: هالكا، وكلها متقاربة. وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، عن أبي عبيدة وغيره، وقال العرجي: إني امرؤ لج بي حب فأحرضني * حتى بليت وحتى شفني السقم قال النحاس: يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضة إذا بليي وسقم، ورجل حارض وحرض، إلا أن حرضا لا يثني ولا يجمع، ومثله قمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان. الثعلبي: ومن العرب من يقول حارض للمذكر، والمؤنثة حارضة، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث. ويقال: حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض. ويقال: رجل محرض، وينشد: طلبته الخيل يوما كاملا * ولو الفته لأضحى محرضا (1) في ع: موجبا. (2) هو أوس بن حجر التميمي الجاهلي. (3) الضمير للخيل. (*)
[ 251 ]
وقال امرؤ القيس: أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا كإحراض بكر في الديار مريض (1) قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض أي أحمق. وقرأ أنس: " حرضا " بضم الحاء وسكون الراء، أي مثل عود الأشنان. وقرأ الحسن بضم الحاء والراء. قال الجوهري: الحرض والحرض الأشنان. (أو تكون من الهالكين) أي الميتين، وهو قول الجميع، وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه، وإن كانوا السبب في ذلك. قوله تعالى: (قال إنما أشكو بثى) حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها، وهو من بثثته أي فرقته، فسميت المصيبة بثا مجازا، قال ذو الرمة: وقفت على ربع لمية ناقتي * فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه (2) حتى كاد مما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه وقال ابن عباس: " بثي " همي. الحسن: حاجتي. وقيل: أشد الحزن، وحقيقة ما ذكرناه. (وحزني إلى الله) معطوف عليه، أعاده بغير لفظه. (وأعلم من الله مالا تعلمون) أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له. قاله ابن عباس. قتادة: إني أعلم من إحسان الله تعالى إلى ما يوجب حسن ظني به. وقيل: قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف ؟ قال: لا، فأكد هذا رجاءه. وقال السدي: أعلم أن يوسف حي، وذلك أنه لما أخبره ولده بسيرة الملك وعدله وخلقه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع، وقال: لعله يوسف. [ وقال: لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ. وقيل: أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون (3) ]. قوله تعالى: يبنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايسوا من روح الله إنه لا يا يس من روح الله إلا القوم الكفرون (87) الأذواد: جمع ذود، وهو القطيع من الإبل الثلاث إلى التسع. والبكر: الفتى من الإبل، يقول: أرى المرء ذا المال يدركه الهرم والمرض، والفناء بعد ذلك فلا تغنى كثرة ماله، كما أن البكر يدركه ذلك. (3) أسقيه أدعو له بالسقيا. (3) من ووى. (*)
[ 252 ]
قوله تعالى: (يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) هذا يدل على أنه تيقن حياته، إما بالرؤيا، وإما بإنطاق الله تعالى الذئب كما في أول القصة، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه، وهو أظهر. والتحسس طلب الشئ بالحواس، فهو تفعل من الحس، أي اذهبوا إلى هذا الذى طلب منكم أخاكم، واحتال عليكم في أخذه فاسألوا عنه وعن مذهبه. ويروى أن ملك الموت قال له: اطلبه من هاهنا ! وأشار إلى ناحية مصر. وقيل: إن يعقوب تنبه على يوسف برد البضاعة، واحتباس أخيه، وإظهار الكرامة، فلذلك وجههم الى جهة مصر دون غيرها. (ولا تيئسوا من روح الله) أي لا تقنطوا من فرج الله، قاله ابن زيد، يريد: أن المؤمن يرجو فرج الله، والكافر يقنط في الشدة. وقال قتادة والضحاك: من رحمة الله. (إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون) دليل على أن القنوط من الكبائر، وهو اليأس، وسيأتى في " الزمر " (1) بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضعة مزجة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا أن الله يجزى المتصدقين (88) قوله تعالى: (فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز) أي الممتنع. (مسنا وأهلنا الضر) هذه المرة الثالثة من عودهم إلى مصر، وفي الكلام حذف، أي فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف قالوا: " مسنا " أي أصابنا " وأهلنا الضر " أي الجوع والحاجة، وفي هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر، أي الجوع، بل واجب عليه إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع، كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه، ولا يكون ذلك قدحا في التوكل، وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط، والصبر والتجلد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل، وأحسن الكلام (1) راجع ج‍ 15 ص 267. (*)
[ 253 ]
في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى، وذلك قول يعقوب: " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " [ يوسف: 86 ] أي من جميل صنعه، وغريب لطفه، وعائدته على عباده، فأما الشكوى على غير مشك فهو السفه، إلا أن يكون على وجه البث والتسلي، كما قال ابن دريد: لا تحسبن يا دهر أني ضارع * لنكبة تعرقني عرق المدى مارست من لو (1) هوت الأفلاك من * جوانب الجو عليه ما شكا لكنها نفثة مصدور إذا * جاش لغام (2) من نواحيها غما قوله تعالى: (وجئنا ببضاعة) البضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شئ، تقول: أبضعت الشئ واستبضعته أي جعلته بضاعة، وفي المثل: كمستبضع التمر إلى هجر (3). قوله تعالى: (مزجاة) صفة لبضاعة، والإزجاء السوق بدفع، ومنه قوله تعالى: " ألم تر أن الله يزجي سحابا " (4) [ النور: 43 ] والمعنى أنها بضاعة تدفع، ولا يقبلها كل أحد. قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. واختلفت في تعيينها هنا (5)، فقيل: كانت قديدا وحيسا (6)، ذكره الواقدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل: خلق الغرائر والحبال، روى عن ابن عباس. وقيل: متاع الأعراب صوف وسمن، قال عبد الله بن الحارث. وقيل: الحبة الخضراء والصنوبر وهو البطم، حب شجرة بالشام، يؤكل ويعصر الزيت منه لعمل الصابون، قاله أبو صالح، فباعوها بدراهم لا تنفق في الطعام، وتنفق فيما بين الناس، فقالوا: خذها منا بحساب جياد تنفق في الطعام. وقيل: دراهم رديئه، قاله ابن عباس أيضا. وقيل: ليس عليها صورة يوسف، وكانت دراهم مصر عليهم صورة يوسف. وقال الضحاك: النعال والأدم، وعنه: كانت سويقا منخلا. والله أعلم. (1) من ع. (2) الزبد، وهوما يلقيه البعير من فمه، وغما: سقط، يقال: غما البعير إذا رماه ينفض رأسه ومشفره. (3) هجر: مدينة بالبحرين. (4) راجع ج‍ 12 ص 287. (5) من ع وى. (6) كذا في الإصول وفى البحر: قديد وحش. (*)
[ 254 ]
قوله تعالى: (فأوف لنا الكيل وتصدق علينا) فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: " فأوف لنا الكيل " يريدون كما تبيع بالدراهم الجياد لا تنقصنا بمكان دراهمنا، هذا قول أكثرا المفسرين. وقال ابن جريج. " فأوف لنا الكيل " يريدون الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم. " وتصدق علينا " أي تفضل علينا بما بين سعر الجياد والرديئة. قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن: لأن الصدقة تحرم على الأنبياء. وقيل المعنى: " تصدق علينا " بالزيادة على حقنا، قاله سفيان بن عيينة. قال مجاهد: ولم تحرم الصدقة إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جريج: المعنى " تصدق علينا " برد أخينا إلينا. وقال ابن شجرة: " تصدق علينا " تجوز عنا، واستشهد بقول الشاعر: تصدق علينا يا ابن عفان (1) واحتسب * وأمر علينا الأشعري لياليا (إن الله يجزى المتصدقين) يعنى في الآخرة، يقال: هذا من معاريض الكلام، لأنه لم يكن عندهم أنه على دينهم، لذلك لم يقولوا: إن الله يجزيك بصدقتك، فقالوا لفظا يوهمه أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه بالتأويل، قاله النقاش وفى الحديث: " إن في المعاريض (2) لمندوحة عن الكذب ". الثانية - استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع، قال ابن القاسم وابن نافع قال مالك: قالوا ليوسف " فأوف لنا الكيل " فكان يوسف هو الذي يكيل، وكذلك الوزان والعداد وغيرهم، لأن الرجل إذا باع عدة معلومة من طعامه، وأوجب العقد عليه، وجب عليه أن يبرزها ويميز حق المشتري من حقه، إلا أن يبيع منه معينا - صبره (3) أو ما لا حق توفيه فيه - فخلى [ ما ] (4) بينه وبينه، فما جرى على المبيع فهو علي المبتاع، وليس كذلك ما فيه حق توفيه من كيل أو وزن، ألا ترى أنه لا يستحق البائع الثمن إلا بعد التوفية، وإن تلف فهو منه قبل التوفية. (1) في ى: يابن حسان. (2) المعاريض: جمع معراض، من التعريض وهو خلاف التصريح من القول. (3) الصبرة: الطعام المجتمع كالكومة. (4) من ع. (*)
[ 255 ]
الثالثة - وأما أجرة النقد فعلى البائع أيضا، لأن المبتاع الدافع لدراهمه يقول: إنها طيبة، فأنت الذي تدعي الرداءة فانظر لنفسك، وأيضا فإن النفع يقع له فصار الأجر عليه، وكذلك لا يجب على الذي [ يجب ] (1) عليه القصاص، لأنه لا يجب عليه أن يقطع يد نفسه، إلا أن يمكن من ذلك طائعا، ألا ترى أن فرضا عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه إذا طلب المقتص ذلك منه، فأجر القطاع على المقتص. وقال الشافعي في المشهور عنه: إنها على المقتص منه كالبائع. الرابعة - يكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدق علي، لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم لا رب غيره، وسمع الحسن رجلا يقول: اللهم تصدق علي، فقال الحسن: يا هذا ! إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبتغي الثواب، أما سمعت قول الله تعالى: " إن الله يجزي المتصدقين " قل: اللهم أعطني وتفضل علي. قوله تعالى: قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جهلون (89) قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذآ أخى قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (90) قالوا تالله لقد ءاثرك الله علينا وإن كنا لخاطين (91) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين (93) قوله تعالى: (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) استفهام بمعنى التذكير والتوبيخ، وهو الذي قال (2) الله: " لتنبئنهم بأمرهم هذا " [ يوسف: 15 ] الآية (3). (إذ أنتم جاهلون) دليل على أنهم (1) من ع وو وى. (2) أي تصديق قول الله، كما في تفسير الفخر وفى ع: قال الرب. (3) من ع. (*)
[ 256 ]
كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف، غير أنبياء، لأنه لا يوصف بالجهل إلا من كانت هذه صفته، ويدل على أنه حسنت حالهم الأن، أي فعلتم ذلك إذ أنتم صغار جهال، قال معناه ابن عباس والحسن، ويكون قولهم: " وإن كنا لخاطئين " على هذا، لأنهم كبروا ولم يخبروا أباهم بما فعلوا حياء وخوفا منه. وقيل: جاهلون بما تؤول إليه العاقبة. والله أعلم. قوله تعالى: (قالوا أئنك لأنت يوسف) لما دخلوا عليه فقالوا: " مسنا وأهلنا الضر " فخضعوا له وتواضعوا رق لهم، وعرفهم بنفسه، فقال: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه " فتنبهوا فقالوا: " أإنك لأنت يوسف " قاله ابن إسحاق. وقيل: إن يوسف تبسم فشبهوه بيوسف واستفهموا. قال ابن عباس لما قال لهم: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف " الآية، ثم تبسم يوسف - وكان إذا تبسم كأن ثناياه اللؤلؤ المنظوم - فشبهوه بيوسف، فقالوا له على جهة الاستفهام: " أئنك لأنت يوسف ". وعن ابن عباس أيضا: أن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة، فلما قال لهم: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف " رفع التاج عنه فعرفوه، فقالوا: " أئنك لأنت يوسف ". وقال ابن عباس: كتب يعقوب إليه يطلب رد ابنه، وفي الكتاب: من يعقوب صفي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر - أما بعد - فإنا أهل بيت بلاء ومحن، ابتلى الله جدي إبراهيم بنمروذ وناره، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح، ثم ابتلاني بولد كان لي أحب أولادي إلي حتى كف بصري من البكاء، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعر جلده، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره فباح بالسر. وقرأ ابن كثير " إنك " على الخبر، ويجوز أن تكون هذه القراءة استفهاما كقوله: " وتلك نعمة " (1) [ الشعراء: 22 ]. (قال أنا يوسف) أي أنا المظلوم والمراد قتله، ولم يقل أنا هو تعظيما للقصة. (قد من الله علينا) أي بالنجاة والملك. (إنه من يتق ويصبر) أي يتق الله ويصبر على المصائب، وعن المعاصي. (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) أي الصابرين في بلائه، القائمين بطاعته. وقرأ ابن كثير: " إنه من يتقي " بإثبات الياء، والقراءة بها جائزة على أن تجعل (1) راجع ج‍ 13 ص 93. (*)
[ 257 ]
" من " بمعنى الذي، وتدخل " يتقي " في الصلة، فتثبت الياء لاغير، وترفع " ويصبر ". وقد يجوز أن تجزم " ويصبر " على أن تجعل " يتقي " في موضع جزم و " من " للشرط، وتثبت الياء، وتجعل علامة الجزم حذف الضمة التي كانت في الياء على الأصل، كما قال: ثم نادي إذا دخلت دمشقا * يا يزيد بن خالد بن يزيد وقال آخر: ألم يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد وقراءة الجماعة ظاهرة، والهاء في " إنه " كناية عن الحديث، والجملة الخبر. قوله تعالى: (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا) الأصل همزتان خففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، واسم الفاعل مؤثر، والمصدر إيثار. ويقال: أثرت التراب إثارة فأنا مثير، وهو أيضا على أفعل ثم أعل، والأصل أثير (1) نقلت حركة الياء على الثاء، فانقلبت الياء ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. وأثرت الحديث على فعلت فأنا آثر، والمعنى: لقد فضلك الله علينا، واختارك بالعلم والحلم والحكم والعقل والملك. (وإن كنا لخاطئين) أي مذنبين من خطئ يخطأ إذا أتى الخطيئة، وفي ضمن هذا سؤال العفو. وقيل لابن عباس: كيف قالوا " وإن كنا لخاطئين " وقد تعمدوا لذلك ؟ قال: وإن تعمدوا لذلك، فما تعمدوا حتى أخطئوا الحق، وكذلك كل من أتى ذنبا تخطى المنهاج الذي عليه من الحق، حتى يقع في الشبهة والمعصية. قوله تعالى: (لاتثريب عليكم اليوم) أي قال يوسف - وكان حليما موفقا -: " لا تثريب عليكم اليوم " وتم الكلام. ومعنى " اليوم ": الوقت. والتثريب التعيير والتوبيخ، أي لا تعيير ولا توبيخ ولا لوم عليكم اليوم، قال سفيان الثوري وغيره، ومنه قوله عليه السلام: " إذا زنت أمه أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها " أي لا يعيرها، وقال بشر: فعفوت عنهم عفو غير مثرب * وتركتهم لعقاب يوم سرمد (1) كذا في الأصل وأعراب القرآن للنحاس. ويلاحظ أن عين الفعل واو لا ياء، وعليه فالأصل أثور، نقلت حركة الواو إلى ما قبلها فقلبت ألفا، ثم حذفت - عند اتصال الفعل بضمير متحرك - لا لتقاء الساكنين. (*)
[ 258 ]
وقال الأصمعي: ثربت عليه وعربت عليه بمعنى إذا قبحت عليه فعله. وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة، وحق الإخوة، ولكم عندي العفو والصفح، وأصل التثريب الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال: " الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم قال: " ماذا تظنون يا معشر قريش " قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم وقد قدرت، قال: " وأنا أقول كما قال أخي يوسف " لا تثريب عليكم اليوم " " فقال عمر رضي الله عنه: ففضت عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم ونفعل، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي. (يغفر الله لكم) مستقبل فيه معنى الدعاء، سأل الله أن يستر عليهم ويرحمهم. وأجاز الأخفش الوقف على " عليكم " والأول هو المستعمل، فإن في الوقف على " عليكم " والابتداء ب " اليوم يغفر الله لكم " جزم بالمغفرة في اليوم، وذلك لا يكون إلا عن وحي، وهذا بين. وقال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ، ألم تر قول يوسف: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم " وقال يعقوب: " سوف أستغفر لكم ربي ". قوله تعالى: (اذهبوا بقميصي هذا) نعت للقميص، والقميص مذكر، فأما قول الشاعر (1): تدعو هوازن والقميص مفاضة * فوق النطاق تشد بالأزرار فتقديره: [ والقميص ] (2) درع مفاضة. قاله النحاس. وقال ابن السدي عن أبيه عن مجاهد: قال لهم يوسف: " اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا " قال: كان يوسف أعلم بالله من أن يعلم أن قميصه يرد على يعقوب بصره، ولكن ذلك قميص إبراهيم الذي البسه الله في النار من حرير الجنة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب، وكان يعقوب أدرج ذلك القميص في قصبة من فضة وعلقة في عنق يوسف، لما كان يخاف عليه من (1) هو جرير. (2) الزيادة عن النحاس. (*)
[ 259 ]
العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، و [ إن ] (1) ريح الجنة لا يقع على سقيم (2) ولا مبتلى إلا عوفي. وقال الحسن: لولا أن الله تعالى أعلم يوسف بذلك لم يعلم أنه يرجع إليه بصره، وكان الذى حمل قميصه يهوذا، قال ليوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته، وأنا الذي أحمله الأن لأسره، وليعود إليه بصره، فحمله، حكاه السدي. (وأتوني بأهلكم أجمعين) لتتخذوا مصر دارا. قال مسروق: فكانوا ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة. وقد قيل: إن القميص الذي بعثه هو القميص الذي قد من دبره، ليعلم يعقوب أنه عصم من الزنى، والقول الأول أصح، وقد روى مرفوعا من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره القشيري والله أعلم. قوله تعالى: ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون (94) قالوا تالله إنك لفى ضللك القديم (95) فلما أن جاء البشير ألقه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنى اعلم من الله ما لا تعلمون (96) قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خطئين (97) قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم (98) فلما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله ءامنين (99) قوله تعالى: (ولما فصلت العير) أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال: فصل فصولا، وفصلته فصلا، فهو لازم ومتعد. (قال أبوهم) أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده: (إنى لأجد ريح يوسف). وقد يحتمل أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي: " إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون ". قال ابن عباس: هاجت (1) ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وقال الحسن: مسيرة عشر ليال، (1) من ى. (2) في ى: هبت. (*)
[ 260 ]
وعنه أيضا مسيرة شهر. وقال مالك [ بن أنس ] (1) رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان عليه السلام طرفه. وقال مجاهد: هبت ريح فصفقت (2) القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال: " إني لأجد " أي أشم، فهو وجود بحاسة الشم. (لولا أن تفندون) قال ابن عباس ومجاهد: لولا أن تسفهون، ومنه قول النابغة: إلا سليمان إذ قال المليك له * قم في البرية فاحددها عن الفند أي عن السفه. وقال سعيد بن جبير والضحاك: لولا أن تكذبون. والفند الكذب. وقد أفند إفنادا كذب، ومنه قول الشاعر: هل في افتخار الكريم من أود * أم هل لقول الصدوق من فند أي من كذب. وقيل: لولا أن تقبحون، قاله أبو عمرو، والتفنيد التقبيح، قال الشاعر: يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي * فليس ما فات من أمري بمردود وقال ابن الأعرابي: " لولا أن تفندون " لو لا أن تضعفوا رأي، وقاله ابن إسحاق. والفند ضعف الرأي من كبر. وقول رابع: تضللون، قاله أبو عبيدة. وقال الأخفش: تلوموني، والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وقال الحسن وقتادة ومجاهد أيضا: تهرمون، وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي، يقال: فنده تفنيدا إذا أعجزه، كما قال: أهلكني باللوم والتفنيد ويقال: أفند إذا تكلم بالخطأ، والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة: فاحددها عن الفند أي امنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل: اللوم تفنيد، قال الشاعر: يا عاذلي دعا الملام وأقصرا * طال الهوى وأطلتما التفنيدا (1) من ووى. (2) صفقت الريح الشئ وصفقته إذا قلبته يمينا وشمالا ورددته. (3) شبه الشاعر النعمان بسيدنا سليمان عليه السلام لعظم ملكه، وقبل البيت: ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه * ولا أحاشى من الأقوام من أحد ويروى: فارددها. واحددها: احبسها. والفند أيضا الخطأ في الرأى. والظلم أيضا. (4) أود: عوج. (*)
[ 261 ]
ويقال: أفند فلانا الدهر إذا أفسده، ومنه قول ابن مقبل: دع الدهر يفعل ما أراد فإنه * إذا كلف الإفناد بالناس أفندا قوله تعالى: (قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم) أي لفي ذهاب عن طريق الصواب. وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئك الماضي من حب يوسف لا تنساه. وقال سعيد بن جبير: لفي جنونك القديم. قال الحسن: وهذا عقوق. وقال قتادة وسفيان: لفي محبتك القديمة. وقيل: إنما قالوا هذا، لأن يوسف عندهم كان قد مات. وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر. وقيل: قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته. وقيل: بنو بنيه وكانوا صغارا، فالله أعلم. قوله تعالى: (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجه) أي على عينيه. (فارتد بصيرا) " أن " زائدة، والبشير قيل هو شمعون. وقيل: يهوذا قال: أنا أذهب بالقميص اليوم كما ذهبت به ملطخا بالدم، قاله ابن عباس. وعن السدي أنه قال لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة. وقال يحيى بن يمان عن سفيان: لما جاء البشير إلى يعقوب قال له: على أي دين تركت يوسف ؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة، وقال الحسن: لما ورد البشير على يعقوب لم يجد عنده شيئا يثيبه به، فقال: والله ما أصبت عندنا شيئا، وما خبزنا شيئا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. قلت: وهذا الدعاء من أعظم ما يكون من الجوائز، وأفضل العطايا والذخائر. ودلت هذه الآية على جواز البذل والهبات عند البشائر. وفي الباب حديث كعب بن مالك - الطويل - وفيه: " فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته " وذكر الحديث، وقد تقدم بكماله في قصة الثلاثة الذين خلفوا (1)، وكسوة كعب ثوبيه للبشير مع كونه ليس له غيرهما دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به. وهو دليل على (1) راجع ج‍ 8 ص 282 فما بعد. (*)
[ 262 ]
جواز إظهار الفرح بعد زوال الغم والترح. ومن هذا الباب جواز حذاقة (1) الصبيان، وإطعام الطعام فيها، وقد نحر عمر بعد [ حفظه ] (1) سورة " البقرة " جزورا. والله أعلم. قوله تعالى: (قال ألم أقل لكم إنى أعلم من الله ما لا تعلمون) ذكرهم قوله: " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " [ يوسف: 86 ]. قوله تعالى: (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) في الكلام حذف، التقدير: فلما رجعوا من مصر قالوا يا أبانا، وهذا يدل على أن الذي قال له: " تالله إنك لفي ضلالك " القديم " بنو بنيه أو غيرهم من قرابته وأهله لا ولده، فإنهم كانوا غيبا، وكان يكون ذلك زيادة في العقوق. والله أعلم. وإنما سألوه المغفرة، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله. قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له، فإنه يجب عليه أن يتحلل له (3) ويخبره بالمظلمة (4) وقدرها، وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا ؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينفع، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها. والله أعلم. وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: " من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شئ فليحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " قال المهلب فقوله صلى الله عليه وسلم: " أخذ منه بقدر مظلمته " يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر مشارا إليها مبينة، والله أعلم. قوله تعالى: (قال سوف استغفر لكم ربى) قال ابن عباس: أخر دعاءه إلى السحر. وقال المثنى بن الصباح عن طاوس قال: سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. وفي دعاء الحفظ - من كتاب الترمذي - عن ابن عباس أنه قال: بينما نحن عند رسول الله (1) حذق الغلام القرآن: مهر فيه. في ع: جواز الفرح بحذاق الصبيان. (2) من ا، ع، ك، و، ى. (3) في ع وك: منه. (4) مظلمة (بكسر اللام) وحكى فتحها. (*)
[ 263 ]
صلى الله عليه وسلم إذ جاءه علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - فقال: - بأبي أنت وأمي - تفلت هذا القرآن من صدري، فما أجدني أقدر عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع بهن من علمته ويثبت ما تعلمت في صدرك " قال: أجل يا رسول الله ! فعلمني، قال: " إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب وقد قال أخي يعقوب لبنيه " سوف أستغفر لكم ربي " يقول حتى تأتي ليلة الجمعة " وذكر الحديث. وقال أيوب بن أبى تميمة السختياني عن سعيد بن جبير قال: " سوف استغفر لكم ربي " في الليالي البيض، في الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة فإن الدعاء فيها مستجاب. وعن عامر الشعبي قال: " سوف استغفر لكم ربي " أي أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفرت لكم ربي، وذكر سنيد بن داود قال: حدثنا هشيم قال حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن عمه قال: كنت آتي المسجد في السحر فأمر بدار ابن مسعود فأسمعه يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي، فلقيت ابن مسعود فقلت: كلمات أسمعك تقولهن في السحر فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: " سوف استغفر لكم ربي ". قوله تعالى: (فلما دخلوا على يوسف) أي قصرا كان له هناك. (آوى إليه أبويه) قيل: إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة وجهازا، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده جميعا، فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه، أي ضم، ويعني بأبويه أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت في ولادة أخيه بنيامين. وقيل: أحيا الله [ له ] (1) أمه تحقيقا للرؤيا حتى سجدت له، قاله الحسن، وقد تقدم في " البقرة " أن الله تعالى أحيا لنبيه عليه السلام أباه وأمه فآمنا به. قوله تعالى: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) قال ابن جريج: أي سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله، قال: وهذا من تقديم القرآن وتأخيره، قال النحاس: يذهب ابن جريج إلى أنهم قد دخلوا مصر فكيف يقول: " ادخلوا مصر إن شاء الله ". وقيل: إنما قال: " إن شاء الله " تبركا وجزما. " امنين " من القحط، أو من فرعون، وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه. (1) من ا وع وى. (*)
[ 264 ]
قوله تعالى: ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يأبت هذا تأويل رءيى من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطن بينى وبين إخوتى إن ربى لطيف لما يشاء إنه هو العزيز الحكيم (100) قوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش) قال قتادة: يريد السرير، وقد تقدمت محامله، قد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه، ومنه قول النابغة الذبياني: عروش تفانوا بعد وأمنة وقد تقدم (1). قوله تعالى: (وخروا له سجدا). فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: " وخروا له سجدا " الهاء في " خروا له " قيل: إنها تعود على الله تعالى، المعنى: وخروا شكرا لله سجدا، ويوسف كالقبلة لتحقيق روياه، وروي عن الحسن، قال النقاش: وهذا خطأ، والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة: " رأيتهم لي ساجدين " [ يوسف: 4 ]. وكان تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف، والصغير للكبير، سجد يعقوب وخالته وإخوته ليوسف عليه السلام، فاقشعر جلده وقال: " هذا تأويل روياي من قبل " وكان بين رؤيا يوسف وبين تأويلها اثنتان وعشرون سنة. وقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد: أربعون سنة، قال عبد الله بن شداد: وذلك أخر ما تبطئ الرؤيا. وقال قتادة: خمس وثلاثون سنة. وقال السدي وسعيد بن جبير وعكرمة: ست وثلاثون سنة. وقال الحسن وجسر بن فرقد وفضيل ابن عياض: ثمانون سنة. وقال وهب بن منبه: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد أن التقى بأبيه ثلاثا وعشرين (1) راجع ج‍ 7 ص 220. (*)
[ 265 ]
سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وفي التوراة مائة وست وعشرون سنة. وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشا ورحمة امرأة أيوب. وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة. وقيل: إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة، ثم توفي صلى الله عليه وسلم. وقيل: أقام عنده ثماني عشرة سنة. وقال بعض المحدثين: بعضا وأربعين سنة، وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله. وقال ابن إسحاق: ثماني عشرة سنة، والله أعلم. الثاني - قال سعيد بن جبير عن قتاده عن الحسن: في قوله: " وخروا له سجدا " - قال: لم يكن سجودا، لكنه سنة كانت فيهم، يومئون برؤوسهم إيماء، كذلك كانت تحيتهم. وقال الثوري والضحاك وغيرهما: كان سجودا كالسجود المعهود عندنا، وهو كان تحيتهم. وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن خرورا على الأرض، وهكذا كان سلامهم بالتكفي والانحناء، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. قلت: هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية، وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض، حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به، وأنه لا قدر له، وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض، عادة مستمرة، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء. نكبوا عن السنن، وأعرضوا عن السنن. وروى أنس بن مالك قال: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا ؟ قال: " لا "، قلنا: أفيعتنق بعضنا بعضا ؟ قال " لا ". قلنا: أفيصافح بعضنا بعضا ؟ قال " نعم ". خرجه أبو عمر في " التمهيد " فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قوموا إلى سيدكم وخيركم " - يعني سعد بن معاذ - قلنا: ذلك مخصوص بسعد لما تقتضيه الحال المعينة، وقد قيل: إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار، وأيضا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثر ذلك في نفسه، فإن أثر فيه وأعجب به ورأى لنفسه حظا لم يجز عونه على ذلك،
[ 266 ]
لقوله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ". وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنه لم يكن وجه أكرم عليهم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له إذا رأوه، لما يعرفون من كراهته لذلك. الثالثة - فإن قيل: فما تقول في الإشارة بالإصبع ؟ قيل له: ذلك جائز إذا بعد عنك، لتعين له به وقت السلام، فإن كان دانيا فلا، وقد قيل بالمنع في القرب والبعد، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تشبه بغيرنا فليس منا ". وقال: " لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكف والنصارى بالإشارة ". وإذا سلم فإنه لا ينحني، ولا أن يقبل مع السلام يده، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبرائهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رءوس أكاسرتها " فهذا مثله. ولا بأس بالمصافحة، فقد صافح النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها، وقال: " تصافحوا يذهب الغل " وروى غالب التمار عن الشعبي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا التقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا، فإن قيل: فقد كره مالك المصافحة ؟ قلنا: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وغيره من أصحابنا، وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ، وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف. قال ابن العربي: إنما كره مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين، ولا منقولا نقل السلام، ولو كانت منه (2) لاستوى معه. قلت: قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها، والدأب عليها والمحافظة، وهو ما رواه البراء بن عازب قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقلت: يا رسول الله ! أن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم ؟ فقال: " نحن أحق بالمصافحة منهم مامن مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبها بينهما ". (1) في ا وع وك وى: الرابعة. ويلاحظ أن المسائل ثلاث. (2) في ع، و، ى: سنة. (*)
[ 267 ]
قوله تعالى: (وقد احسن بى إذ أخرجنى من السجن) ولم يقل من الجب أستعمالا للكرم، لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه [ عنهم ] (1) بقوله: " لا تثريب عليكم ". قلت: وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية: ذكر الجفا في وقت الصفا جفا، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب. وقيل: لأن في دخول السجن كان باختياره بقوله: " رب السجن حب إلي مما يدعونني إليه " [ يوسف: 33 ] وكان في الجب بإرادة الله تعالى له. وقيل: لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة، وفي الجب مع الله تعالى، وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر، لأنه دخله بسبب أمرهم به، وأيضا دخله باختياره إذ قال: " رب السجن أحب إلي " فكان الكرب فيه أكثر، وقال فيه أيضا: " اذكرني عند ربك " [ يوسف: 42 ] فعوقب فيه. (وجاء بكم من البدو) يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواش وبرية، وقيل: كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل: إنه كان خرج إلى بدا، وهو موضع، وإياه عنى جميل بقوله: وأنت التي حببت شغبا إلى بدا * إلي وأوطاني بلاد سواهما وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا، كما يقال: غاروا غورا أي أتوا الغور، والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا، ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس. (من بعد ما نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى) بإيقاع الحسد، قاله ابن عباس. وقيل: أفسد ما بيني وبين إخوتي، أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه. (إن ربى لطيف لما يشاء) أي رفيق بعباده. وقال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون، كقوله: " الله لطيف بعباده يرزق من يشاء (3) " [ الشورى: 19 ]. وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور، والمراد هنا الإكرام والرفق. قال قتادة، لطف بيوسف بإ خراجه من السجن، وجاءه بأهله من البدو، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان. ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف أستأذن فرعون - واسمه الريان - أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب، وأخبره (1) من ع وك. (2) شغب: موضع بين المدينة والشام. و (بدا) يروى منونا وغير منون. (3) راجع ج‍ 16 ص 16. (*)
[ 268 ]
قدومه فأذن له، وأمر الملا من أصحابه بالركوب معه، فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خلق الله أعلم بهم، وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فكان يعقوب يمشي متكئا على يد يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال: يا يهوذا ! هذا فرعون مصر ؟ قال: لا، بل هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع (1) من ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل، فابتدأ يعقوب بالسلام فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، وبكى وبكى معه يوسف، فبكى يعقوب فرحا، وبكى يوسف لما رأى بأبيه من الحزن، قال ابن عباس: فالبكاء أربعة، بكاء من الخوف، وبكاء من الجزع، وبكاء من الفرح، وبكاء رياء. ثم قال يعقوب: الحمد لله الذي أقر عيني بعد الهموم والأحزان، ودخل مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته، فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف، وقطعوا البحر مع موسى عليه السلام، رواه عكرمة عن ابن عباس. وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة [ ألف ] (2) وسبعون ألفا. وقال الربيع بن خيثم: دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفا، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف. وقال وهب: [ بن منبه ] (2) دخل يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وصغير، وخرجوا منها مع موسى فرارا من فرعون، وهم ستمائة ألف وخسمائة وبضع وسبعون رجل مقاتلين، سوى الذرية والهرمى والزمنى، وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة، وقال أهل التواريخ: أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة، ومات بمصر، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل، ثم انصرف إلى مصر. قال سعيد بن جبير: نقل يعقوب صلى الله عليه وسلم في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، ووافق ذلك يوم مات عيصو، فدفنا في قبر واحد، فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس، من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا (3) وأربعين سنة. (1) أي منعه يعقوب عليه السلام لأن القادم يسلم، قاله العينى في " عقد الجمان ". وقال الألوسى: ليعلم أن يعقوب أكرم على الله منه. (2) من ع. (3) في ع وك ى: تسعا. والمشهور ما ذكر. (*)
[ 269 ]
قوله تعالى: رب قد ءاتيتنى من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموت والأرض أنت ولى في الدنيا والأخرة توفنى مسلما وألحقني بالصالحين (101) قوله تعالى: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث) قال قتادة: لم يتمن الموت أحد، نبي ولا غيره إلا يوسف عليه السلام، حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل. وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام، أي إذا جاء أجلي توفني مسلما، وهذا قول الجمهور. وقال سهل بن عبد الله التستري: لا يتمنى الموت إلا ثلاث: رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه، أو مشتاق محب للقاء الله عز وجل. وثبت في الصحيح عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفقني إذا كانت الوفاة خيرا لي " رواه مسلم. وفيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع (1) به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ". وإذا ثبت هذا فكيف يقال: إن يوسف عليه السلام تمنى الموت والخروج من الدنيا وقطع العمل ؟ هذا بعيد ! إلا أن يقال: إن ذلك كان جائزا في شرعه، أما أنه يجوز تمني الموت والدعاء به عند ظهور الفتن وغلبتها، وخوف ذهاب الدين، على ما بيناه في كتاب " التذكرة ". " ومن " من قوله: " من الملك " للتبعيض، وكذلك قوله: " وعلمتني من تأويل الأحاديث " لأن ملك مصر ما كان كل الملك، وعلم التعبير ما كان كل العلوم. وقيل: " من " للجنس كقوله: " فاجتنبوا الرجس من (2) الأوثان " [ الحج: 30 ] وقيل: للتأكد. أي آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث (1) قيل: وجه صحة عطفه على النفى من حيث إنه بمعنى النهى. وقال ابن حجر: فيه إيماء إلى أن الأول نهى على بابه، ويكون قد جمع بين لغتي حذف حرف العلة وإثباته. (2) راجع ج‍ 12 ص 54. (*)
[ 270 ]
قوله تعالى: (فاطر السموات والأرض) نصب على النعت للنداء، وهو رب، وهو نداء مضاف، والتقدير: يا رب ! ويجوز أن يكون نداء ثانيا. والفاطر الخالق، فهو سبحانه فاطر الموجودات، أي خالقها ومبدئها ومنشئها ومخترعها على الإطلاق من غير شئ، ولا مثال سبق، وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " مستوفى (1)، عند قوله: " بديع السموات والأرض " [ البقرة: 117 ] وزدناه بيانا في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. (أنت وليى) أي ناصري ومتولي أموري في الدنيا والآخرة. (توفنى مسلما والحقني بالصالحين) يريد آباءه الثلاثة، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فتوفاه الله - طاهرا طيبا صلى الله عليه وسلم - بمصر، ودفن في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه، كل يحب أن يدفن في محلتهم، لما يرجون من بركته، واجتمعوا على ذلك حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل من حيث مفرق الماء بمصر، فيمر عليه الماء، ثم يتفرق في جميع مصر، فيكونوا فيه شرعا ففعلوا، فلما خرج موسى ببني إسرائيل أخرجه من النيل: ونقل تابوته بعد أربعمائة سنة إلى بيت المقدس، فدفنوه مع آبائه لدعوته: " وألحقني بالصالحين " وكان عمره مائة عام وسبعة أعوام. وعن الحسن قال: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، ثم جمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنه، وكان له من الولد إفراثيم، ومنشا، ورحمة، زوجة أيوب، في قول ابن لهيعة. قال الزهري: وولد لإفراثيم - بن يوسف - نون بن إفراثيم، وولد لنون يوشع، فهو يوشع بن نون، وهو فتى موسى الذي كان معه صاحب أمره، ونبأه الله في زمن موسى عليه السلام، فكان بعده نبيا، وهو الذي افتتح أريحا، وقتل من كان بها من الجبابرة، واستوقفت له الشمس حسب ما تقدم في " المائدة " (2). وولد لمنشا بن يوسف موسى بن منشا، قبل موسى بن عمران. وأهل التوراة يزعمون أنه هو الذي طلب العالم ليتعلم منه حتى أدركه، والعالم هو الذي خرق (1) راجع ج‍ 2 ص 86 فما بعد. (2) راجع ج‍ 60 ص 130 فما بعد. (*)
[ 271 ]
السفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، وموسى بن منشا معه حتى بلغه معه حيث بلغ، وكان ابن عباس ينكر ذلك، والحق الذي قاله ابن عباس، وكذلك في القرآن. ثم كان بين يوسف وموسى أمم وقرون، وكان فيما بينهما شعيب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. قوله تعالى: ذلك من أنبا ء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (102) وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (103) وما تسئلهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعلمين (104) قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب) ابتداء وخبر. (نوحيه إليك) خبر ثان. قال الزجاج: ويجوز أن يكون " ذلك " بمعنى الذي، " نوحيه إليك " خبره، أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك، يعني هو الذي قصصنا عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب " نوحيه إليك " أي نعلمك بوحي هذا إليك. (وما كنت لديهم) أي مع إخوة يوسف (إذ إجمعوا أمرهم) في إلقاء يوسف في الجب. (وهم يمكرون) أي بيوسف في إلقائه في الجب. وقيل: " يمكرون " بيعقوب حين جاءوه بالقميص ملطخا بالدم، أي ما شاهدت تلك الأحوال، ولكن الله أطلعك عليها. قوله تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) ظن أن العرب لما سألته عن هذه القصة وأخبرهم يؤمنون، فلم يؤمنوا، فنزلت الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي ليس تقدر على هداية من أردت هدايته، تقول: حرص يحرص، مثل: ضرب يضرب. وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد. والحرص طلب الشئ باختيار (1). قوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر) " من " صلة، أي ما تسألهم جعلا. (إن هو) أي ما هو، يعني القرآن والوحي. (إلا ذكر) أي عظة وتذكرة (للعالمين). (1) قال الراغب في مفردات القرآن: الحرص فرط الشره وفرط الإرادة. (*)
[ 272 ]
قوله تعالى: وكأين من ءاية في السموت والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (105) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106) أفأمنوا أن تأتيهم غشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون (107) قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحن الله وما أنا من المشركين (108) قوله تعالى: (وكأين من آية في السموات والأرض) قال الخليل وسيبويه: هي " أي " دخل عليها كاف التشبيه وبنيت معها، فصار في الكلام معنى كم، وقد مضي في " آل عمران " (1) القول فيها مستوفى. ومضى القول في آية " السموات والأرض " في " البقرة " (2). وقيل: الآيات آثار عقوبات الأمم السالفة، أي هم غافلون معرضون عن تأملها. وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد " والأرض " رفعا ابتداء، وخبره. (يمرون عليها). وقرأ السدي " والأرض " نصبا بإضمار فعل، والوقف على هاتين القراءتين على " السموات ". وقرأ ابن مسعود: " يمشون عليها ". قوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها، وهم يعبدون الأوثان، قاله الحسن ومجاهد وعامر الشعبي وأكثر المفسرين. وقال عكرمة هو قوله: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " (3) [ الزخرف: 87 ] ثم يصفونه بغير صفته ويجعلون له أندادا، وعن الحسن أيضا: أنهم أهل كتاب معهم شرك وإيمان، آمنوا بالله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا يصح إيمانهم، حكاه ابن الأنباري. وقال ابن عباس: نزلت في تلبية مشركي العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وعنه أيضا أنهم النصارى. وعنه أيضا أنهم المشبهة، آمنوا مجملا وأشركوا (1) راجع ج‍ 4 ص 228 فما بعد. (2) راجع ج‍ 2 ص 192 فما بعد. (3) راجع ج‍ 16 ص 123. (*)
[ 273 ]
مفصلا. وقيل: نزلت في المنافقين، المعنى: " وما يؤمن أكثرهم بالله " أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه، ذكره الماوردي عن الحسن أيضا. وقال عطاء: هذا في الدعاء، وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، بيانه: " وظنوا أنهم أحيط بهم " (1) [ يونس: 22 ] الآية. وقوله: " وإذا مس الإنسان الضر دعان الجنبه " (1) [ يونس: 12 ] الآية. وفي آية أخرى: " وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " (2) [ فصلت: 51 ]. وقيل: معناها أنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة، فإذا أنجاهم قال قائلهم: لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص، ونحو هذا، فيجعلون نعمة الله منسوبة إلى فلان، ووقايته منسوبة إلى الكلب. قلت: وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقيل: نزلت هذه الآية في قصة الدخان، وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا: " ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون " (3) [ الدخان: 12 ] فذلك إيمانهم، وشركهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب، بيانه قوله: " إنكم عائدون " [ الدخان: 15 ] والعود لا يكون إلا بعد أبتداء، فيكون معنى: " إلا وهم مشركون " أي إلا وهم عائدون [ إلى الشرك ] (4)، والله أعلم. قوله تعالى: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) قال ابن عباس: مجللة (5). وقال مجاهد: عذاب يغشاهم، نظيره. " يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم " (6) [ العنكبوت: 55 ]. وقال قتادة: وقيعة تقع لهم. وقال الضحاك: يعني الصواعق والقوارع. (أو تأتيهم الساعة) يعني القيامة. (بغتة) نصب على الحال، وأصله المصدر. وقال المبرد: جاء عن العرب حال بعد نكرة، وهو قولهم: وقع أمر بغتة وفجأة، قال النحاس: ومعنى " بغتة " إصابة (4) من حيث لم يتوقع. (وهم لا يشعرون) وهو توكيد. وقوله: " بغتة " قال ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم ومواضعهم، كما قال: " تأخذهم وهم يخصمون " [ يس: 49 ] على ما يأتي (2). (1) راجع ج‍ 8 ص 325 وص 317. (2) راجع ج‍ 15 ص 373 وص 38. (3) راجع ج‍ 16 ص 132. (4) من ع، وفى ع: أصابهم. (5) مجللة: عامة التغطية. (6) راجع ج‍ 13 ص. (*)
[ 274 ]
قوله تعالى: (قل هذه سبيلى) ابتداء وخبر، أي قل يا محمد هذه طريقي وسنتي ومنهاجي، قاله ابن زيد. وقال الربيع: دعوتي، مقاتل: ديني، والمعنى واحد، أي الذي أنا عليه وأدعو إليه يؤدي إلى الجنة. (على بصيرة) أي على يقين وحق، ومنه: فلان مستبصر بهذا. (أنا) توكيد. (ومن اتبعني) عطف على المضمر. (وسبحان الله) أي قل يا محمد: " وسبحان الله ". (وما أنا من المشركين) الذين يتخذون من دون الله أندادا. قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم ولدار الأخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109) حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110) قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي (1) إليهم من أهل القرى) هذا رد على القائلين: " لولا أنزل عليه ملك " (2) [ الأنعام: 8 ] أي أرسلنا رجالا ليس فيهم امرأه ولا جني ولا ملك، وهذا يرد ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن في النساء أربع نبيات حواء واسية وأم موسى ومريم ". وقد تقدم في " آل عمران " (3) شئ من هذا. " من أهل القرى " يريد المدائن، ولم يبعث الله نبيا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو، ولأن أهل الأمصار أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن: لم يبعث الله نبيا من أهل البادية قط، ولا من النساء، ولا من الجن. وقال قتادة: " من أهل القرى " أي من أهل الأمصار، لأنهم أعلم وأحلم. وقال العلماء: من شرط الرسول أن يكون رجلا آدميا مدنيا، وإنما قالوا آدميا تحرزا، من قوله: " يعوذون برجال من الجن " (4) [ الجن: 6 ] والله أعلم. (1) وقراءة نافع والجمهور: يوحى. بالبناء للمجهول. (2) راجع ج‍ 6 ص 393. (3) راجع ج‍ 4 ص 82 فما بعد. وج‍ 6 ص 251. (4) راجع ج‍ 19 ص 8 فما بعد. (*)
[ 275 ]
قوله تعالى: (افلم يسيروا في الأرض فينظروا) إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم فيعتبروا. (ولدار الآخرة خير) ابتداء وخبره. وزعم الفراء أن الدار هي الآخرة، وأضيف الشئ إلى نفسه لاختلاف اللفظ، كيوم الخميس، وبارحة الأولى، قال الشاعر: ولو أقوت عليك ديار عبس (1) * عرفت الذل عرفان اليقين أي عرفانا يقينا، واحتج الكسائي بقولهم: صلاة الأولى، واحتج الأخفش بمسجد الجامع. قال النحاس: إضافة الشئ إلى نفسه محال، لأنه إنما يضاف الشئ إلى غيره ليتعرف به، والأجود الصلاة الأولى، ومن قال صلاة الأولى فمعناه: عند صلاة الفريضة الأولى، وإنما سميت الأولى لأنها أول ما صلي حين فرضت الصلاة، وأول ما أظهر، فلذلك قيل لها أيضا الظهر. والتقدير: ولدار الحال الآخرة خير، وهذا قول البصريين، والمراد بهذه الدار الجنة، أي هي خير للمتقين. وقرئ: " وللدار الآخرة ". وقرأ نافع وعاصم ويعقوب وغيرهم (أفلا تعقلون) بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. قوله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل) تقدم القراءة فيه ومعناه (2). (وظنوا أنهم كذبوا) وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم. وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف، عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم. المعنى: وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب. (3) " حتى إذا استياس الرسل " أي يئسوا من إيمان قومهم. " وظنوا أنهم قد كذبوا " بالتشديد، أي أيقنوا أن قومهم كذبوهم. وقيل المعنى: حسبواأن من آمن بهم من قومهم كذبوهم، لا أن القوم كذبوا، ولكن الأنبياء ظنوا وحسبوا أنهم يكذبونهم، أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك، فيكون " وظنوا " على بابه في هذا التأويل. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف " كذبوا " بالتخفيف، أي ظن القوم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، (1) وفى رواية: " فإنك لو حللت ديار عبس " في ع وك وى: عرفت الدار. (2) راجع ص 241 من هذا الجزء. (3) من ع وح‍ الجمل عن القرطبى. وفى ا وح‍ وك ى: بالعقاب. (*)
[ 276 ]
ولم يصدقوا. وقيل: المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم. وفي رواية عن ابن عباس، ظن الرسل أن الله أخلف ما وعدهم. وقيل: لم تصح هذه الرواية، لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر، فكيف قال: (جاءهم نصرنا) ؟ ! قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل (1) هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم، وفي الخبر: " إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به ". ويجوز أن يقال: قربوا من ذلك الظن، كقولك: بلغت المنزل، أي قربت منه. وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال: كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا، ثم تلا: " حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله " (2) [ البقرة: 214 ]. وقال الترمذي الحكيم: وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر، لا من تهمة لوعد الله، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت، حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم، فكانت إذا طالت [ عليهم ] (1) المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه. وقال المهدوي عن ابن عباس: ظنت الرسل أنهم قد أخلفوا على ما يلحق البشر، واستشهد بقول إبراهيم عليه السلام: " رب أرني كيف تحيى الموتى " (2) [ البقرة: 260 ] الآية. والقراءة الأولى أولى. وقرأ مجاهد وحميد - " قد كذبوا " بفتح الكاف والذال مخففا، على معنى: وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا، لما رأوا من تفضل الله عز وجل في تأخير العذاب. ويجوز أن يكون المعنى: و [ لما ] أيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم جاء الرسل نصرنا. وفي البخاري عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل: " حتى إذا استيأس الرسل " قال قلت: أكذبوا أم كذبوا ؟ قالت عائشة: كذبوا. قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ؟ قالت: أجل ! لعمري ! لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها: " وظنوا أنهم قد كذبوا " قالت: معاذ الله ! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية ؟ قالت: هم أتباع الرسل [ الذين امنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، وأستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل (3) ] (1) من ع. وهو الصواب، وفى غيرها البشر. (2) راجع ج‍ 3 ص 33 فما بعد، وص 273. (3) الزيادة من صحيح البخاري. (*)
[ 277 ]
ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم [ قد ] (1) كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك. وفي قوله تعالى: " جاءهم نصرنا " قولان: أحدهما - جاء الرسل نصر الله، قاله مجاهد. الثاني - جاء قومهم عذاب الله، قاله ابن عباس. (فننجى من نشاء) قيل: الأنبياء ومن آمن معهم. وروي عن عاصم " فنجي من نشاء " بنون واحدة مفتوحة الياء، و " من " في موضع رفع، أسم ما لم يسم فاعله، وأختار أبو عبيد هذه القراءة لأنها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة (3). وقرأ ابن محيصن " فنجا " فعل ماض، و " من " في موضع رفع لأنه الفاعل، وعلى قراءة الباقين نصبا على المفعول. (ولا يرد بأسنا) أي عذابنا. (عن القوم المجرمين) أي الكافرين المشركين. قوله تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألبب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111) قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم) أي في قصة يوسف وأبيه وإخوته، أو في قصص الأمم. (عبرة) أي فكرة وتذكرة وعظة. (لأولى الألباب) أي العقول. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: إن يعقوب عاش مائة سنة وسبعا وأربعين سنة، وتوفي أخوه عيصو معه في يوم واحد، وقبرا في قبر واحد، فذلك قوله: " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " إلى آخر السورة. (ماكان حديثا يفترى) أي ما كان القرآن حديثا يفترى، أو ما كانت هذه القصة حديثا يفترى. (ولكن تصديق الذى بين يديه) أي [ ولكن كان (4) تصديق، ويجوز الرفع بمعنى لكن هو تصديق الذي بين يديه أي ] ما كان قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى، وهذا تأويل من زعم أنه القرآن. (وتفصيل كل شئ) مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام، والشرائع والأحكام. (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). (1) من ع. (2) قراءة نافع وكذا باقى السبعة بنونين ما عدا عاصما كما يأتي. (3) يعنى في الرسم. (4) من ع وك. (*)
[ 278 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الرعد مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا آيتين منها نزلتا بمكة، وهما قوله عز وجل: " ولو أن قرءانا سيرت به الجبال " [ الرعد: 31 ] [ إلى آخرهما ] (1). قوله تعالى: المر تلك ءايت الكتب والذى أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (1) قوله تعالى: (المر تلك آيات الكتاب) تقدم القول فيها. (والذى أنزل إليك) يعنى وهذا القرآن الذي أنزل إليك. (من ربك الحق) لا كما يقول المشركون: إنك تأتي به من تلقاء نفسك، فاعتصم به، وأعمل بما فيه. قال مقاتل: نزلت حين قال المشركون: إن محمدا أتى بالقرآن من تلقاء نفسه. " والذي " في موضع رفع عطفا على " آيات " أو على الابتداء، و " الحق " خبره، ويجوز أن يكون موضعه جرا على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، وارتفاع " الحق " على هذا على إضمار مبتدأ، تقديره: ذلك الحق، كقوله تعالى: " وهم يعلمون. الحق " (2) [ البقرة: 146 - 147 ] يعني ذلك الحق. قال الفراء: وإن شئت جعلت " الذي " خفضا نعتا للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما يقال: أتانا هذا الكتاب عن أبي حفص والفاروق، ومنه قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم (3) يريد: إلى الملك القرم بن الهمام، ليث الكتيبة. (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون). (1) الزيادة من تفسير البحر. (2) راجع ج‍ 2 ص 162 فما بعد. (3) القرم (بفتح القاف): السيد، والكتيبة: الجيش، المزدحم: محل الأزدحام. (*)
[ 279 ]
قوله تعالى: الله الذى رفع السموت بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيت لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2) قوله تعالى: (الله الذى رفع السموات بغير عمد ترونها) الآية. لما بين تعالى أن القرآن حق، بين أن من أنزله قادر على الكمال، فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته، وقد تقدم هذا المعنى. وفي قوله: " بغير عمد ترونها " قولان: أحدهما - أنها مرفوعة بغير عمد ترونها، قاله قتادة وإياس بن معاوية وغيرهما. الثاني - لها عمد، ولكنا لا نراه، قال ابن عباس: لها عمد على جبل قاف، ويمكن أن يقال على هذا القول: العمد قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، وهي غير مرئية لنا، ذكره الزجاج. وقال ابن عباس أيضا: هي توحيد المؤمن. أعمدت السماء حين كادت تنفطر من كفر الكافر، ذكره الغزنوي. والعمد جمع عمود، قال النابغة: وخيس الجن إني قد أذنت لهم * يبنون تدمر بالصفاح والعمد (1) (ثم استوى على العرش) تقدم الكلام فيه (2). (وسخر الشمس والقمر) أي ذللهما لمنافع خلقه ومصالح عباده، وكل مخلوق مذلل للخالق. (كل يجرى لأجل مسمى) أي إلى وقت معلوم، وهو فناء الدنيا، وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم، وتنتثر الكواكب. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلها التي ينتهيان إليها لا يجاوز انها. وقيل: معنى الأجل المسمى أن القمر يقطع فلكه في شهر، والشمس في سنة. (يدبر الأمر) أي يصرفه على ما يريد. (يفصل الآيات) أي يبينها أي من قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة، ولهذا قال: (لعلكم بلقاء ربكم توقنون). (1) ويروى: وخبر الجن. وخيس: ذلل، وتدمر: بلد بالشام بناها سيدنا سليمان عليه السلام. والصفاح حجارة عراض رقاق. وعمد: جمع عمود. (2) راجع ج‍ 7 ص 219. (*)
[ 280 ]
قوله تعالى: وهو الذى مد الأرض وجعل فيها روسى وأنهرا ومن كل الثمرت جعل فيها زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن في ذلك لأيت لقوم يتفكرون (3) قوله تعالى: (وهو الذى مد الأرض) لما بين آيات السماوات بين آيات الأرض، أي بسط الأرض طولا وعرضا. (وجعل فيها رواسي) أي جبالا ثوابت، واحدها راسية، لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت، والإرساء الثبوت، قال عنترة: فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسوا إذا نفس الجبان تطلع (1) وقال جميل: أحبها والذي أرسى قواعده * حبا إذا ظهرت آياته بطنا وقال ابن عباس وعطاء: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس (2). مسألة: في هذه الآية رد على من زعم أن الأرض كالكرة، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبوابها عليها، وزعم ابن الراوندي أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجرم والقوة فتوافقا. وزعم آخرون أن الأرض مركب من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها. وقوله تعالى: (وأنهارا) أي مياها جارية في الأرض، فيها منافع الخلق. (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) بمعنى صنفين. قال أبو عبيدة: الزوج واحد، ويكون اثنين. الفراء: يعني بالزوجين هاهنا الذكر والأنثى، وهذا خلاف (1) قبل البيت: وعرفت أن منيتى إن تأتني * لا ينجنى منها الفرار الأسرع (2) أبو قبيس: جبل مشرف على مسجد مكة. (*)
[ 281 ]
النص. وقيل: معنى " زوجين " نوعان، كالحلو والحامض، والرطب واليابس، والأبيض والأسود، والصغير والكبير. (إن في ذلك لآيات) أي دلالات وعلامات (لقوم يتفكرون) قوله تعالى: وفى الأرض قطع متجورت وجنت من أعنب وزروع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لأيت لقوم يعقلون (4) فيه خمس مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وفى الأرض قطع متجاورات) في الكلام حذف، المعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات، كما قال: " سرابيل تقيكم الحر " (1) والمعنى: وتقيكم البرد، ثم حذف لعلم السامع. والمتجاورات المدن وما كان عامرا، وغير متجاورات الصحارى وما كان غير عامر. الثانية - قوله تعالى: " متجاورات " أي قرى متدانيات، ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زروع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار والتمر، فيكون البعض حلوا، والبعض حامضا، والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد، وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضل عن معرفته، فإنه نبه سبحانه بقوله: " تسقى بماء واحد " على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته، وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع، إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف. وقيل: وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع، فمن تربة عذبة، ومن تربة سبخة مع تجاورهما، وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته، جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. (1) راجع ج‍ 10 ص 159 فما بعد. (*)
[ 282 ]
الثالثة - ذهبت الكفرة - لعنهم الله - إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع، وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار، وقد أقروا بحدوثها، وأنكروا محدثها، وأنكروا الأعراض. وقالت فرقة: بحدوث الثمار لامن صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلا، والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت أخر، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به لوجب أن يحدث في وقته كل ما هومن جنسه، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده، واستيفاء هذا في علم الكلام. الرابعة - قوله تعالى: (وجنات من اعناب) قرأ الحسن " وجنات " بكسر التاء، على التقدير: وجعل فيها جنات، فهو محمول على قوله: " وجعل فيها رواسي ". ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على " كل " التقدير: ومن كل الثمرات، ومن جنات. الباقون: " جنات " بالرفع على تقدير: وبينهما جنات. (وزروع ونخيل صنوان وغير صنوان) بالرفع. ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفا على الجنات، أي على تقدير: وفي الأرض زرع ونخيل. وخفضها الباقون نسقا على الأعناب، فيكون الزرع والنخيل من الجنات، ويجوز أن يكون معطوفا على " كل " حسب ما تقدم في " وجنات ". وقرأ مجاهد والسلمي وغيرهما " صنوان " بضم الصاد، الباقون بالكسر، وهما لغتان، وهما جمع صنو، وهي النخلات والنخلتان، يجمعهن أصل واحد، وتتشعب منه رءوس فتصير نخيلا، نظيرها قنوان، واحدها قنو. وروى أبو إسحاق عن البراء قال: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق، النحاس: وكذلك هو في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان. والصنو المثل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " عم الرجل صنو أبيه ". ولا فرق فيها بين التثنية والجمع، ولا بالإعراب، فتعرب نون الجمع، وتكسر نون التثنية، قال الشاعر: العلم والحلم خلتا كرم * للمرء زين إذا هما اجتمعا صنوان لا يستتم حسنهما * إلا بجمع ذا وذاك معا
[ 283 ]
الخامسة - قوله تعالى: (يسقى بماء واحد) كصالح بني آدم وخبيثهم، أبوهم واحد، قاله النحاس والبخاري. وقرأ عاصم وابن عامر: " يسقى " بالياء، أي يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالتاء، لقوله: " جنات " واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة، قال أبو عمرو: والتأنيث أحسن، لقوله: (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما " ويفضل " بالياء ردا على قوله: " يدبر الأمر " [ الرعد: 2 ] و " يفصل " [ الرعد: 2 ] و " يغشي " [ الرعد: 3 ] الباقون بالنون على معنى: ونحن نفضل. وروى جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله عنه: " الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة " ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " وفي الأرض قطع متجاورات " حتى بلغ قوله: " يسقى بماء واحد " و " الأكل " الثمر. قال ابن عباس: يعني الحلو والحامض والفارسي (1) والدقل (2). وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول تعالى: " ونفضل بعضها على بعض في الأكل " قال: " الفارسي والدقل والحلو والحامض " ذكره الثعلبي. قال الحسن: المراد بهذه الآية المثل، ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشر. والإيمان والكفر، كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد، ومنه قول الشاعر: الناس كالنبت والنبت ألوان * منها شجر الصندل والكافور والبان * ومنها شجر ينضج طول الدهر قطران (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) أي لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن الله تعالى. قوله تعالى: وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا تربا أءنا لفى خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلل في أعناقهم وأولئك أصحب النار هم فيها خالدون (5) (1) التمر الفارسى: نوع جيد نسبة إلى فارس. (2) الدقل: ردئ التمر. (*)
[ 284 ]
قوله تعالى: (وإن تعجب فعجب قولهم) أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث، والله تعالى لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب، لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه (1)، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. وقيل المعنى: أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السماوات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق، لأن الإعادة في معنى الابتداء. وقيل: الآية في منكري الصانع، أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب، ونظم الآية يدل على الأول والثاني، لقوله: (أئذا كنا ترابا) أي أنبعث إذا كنا ترابا ؟ !. (أئنا لفى خلق جديد) وقرئ " إنا ". و (الأغلال) جمع غل، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون يوم القيامة، بدليل قوله: " إذ الأغلال في أعناقهم " (2) [ غافر: 71 ] إلى قوله: " ثم في النار يسجرون " [ غافر: 72 ]. وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم. قوله تعالى: ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلت وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6) ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (7) قوله تعالى: (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب، قيل هو قولهم: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " (3) [ الأنفال: 32 ]. قال قتادة: طلبوا العقوبة قبل العافية، وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. وقيل: " قبل الحسنة " أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات. (والمثلات) العقوبات، الواحدة مثلة. ورى عن الأعمش أنه قرأ " المثلات " بضم الميم وإسكان الثاء، وهذا جمع مثلة، ويجوز (1) في حالجمل عن القرطبى: العجب تغير النفس بما تخفى أسبابه وذلك في حق الله تعالى محال. (2) راجع ج‍ 15 ص 332. (3) راجع ج‍ 7 ص 398. (*)
[ 285 ]
" المثلات " تبدل من الضمة فتحة لثقلها، وقيل: يؤتى بالفتحة عوضا من الهاء. وروي عن الأعمش أنه قرأ " المثلات " بفتح الميم وإسكان الثاء، فهذا جمع مثلة، ثم حذف الضمة لثقلها، ذكره جميعه النحاس رحمه الله. وعلى قراءة الجماعة واحدة مثلة، نحو صدقة [ وصدقة ] (1)، وتميم تضم الثاء والميم جميعا، واحدها على لغتهم مثلة، بضم الميم وجزم الثاء، مثل: غرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا، بفتح الميم وسكون الثاء. (وإن ربك لذو مغفرة) أي لذو تجاوز عن المشركين إذا أمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا. وقال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ". (وإن ربك لشديد العقاب) إذا أصروا على الكفر. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحد عيش ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد ". قوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لولا) أي هلا (أنزل عليه آية من ربه). لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت منذر) أي معلم. (ولكل قوم هاد) أي نبي يدعوهم إلى الله. وقيل: الهادي الله، أي عليك الإنذار، والله هادي كل قوم إن أراد هدايتهم. قوله تعالى: الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار (8) علم الغيب والشهدة الكبير المتعال (9) فيه ثمان مسائل: الأولى - قوله تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) أي من ذكر وأنثى، صبيح وقبيح، صالح وطالح، وقد تقدم في سورة " الأنعام " (2) أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده (1) من ا. (2) راجع ج‍ 7 ص 1 فما بعد. (*)
[ 286 ]
لا شريك له، وذكرنا هناك حديث البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مفاتيح الغيب خمس " الحديث. وفيه " لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ". واختلف العلماء في تأويل قول: (وما تغيض الأرحام وما تزداد) فقال قتادة: المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر، وما تزداد فوق التسعة، وكذلك قال ابن عباس. وقال مجاهد: إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها، فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص، وعنه: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداد منه. وقيل: الغيض والزياد. يرجعان إلى الولد، كنقصان إصبع أو غيرها، وزيادة إصبع أو غيرها. وقيل: الغيض انقطاع دم الحيض. " وما تزداد " بدم النفاس بعد الوضع. الثانية - في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض، وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه. وقال عطاء والشعبي وغيرهما: لا تحيض، وبه قال أبو حنيفة، ودليله الآية. قال ابن عباس في تأويلها: إنه حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد، وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة، والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع، قاله (1) ابن القصار. وذكر أن رجلين تنازعا ولدا، فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فعرضه على القافة، فألحقه القافة بهما، فعلاه عمر بالدرة، وسأل نسوة من قريش فقال: انظرن ما شأن هذا الولد ؟ فقلن: إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل، فظنت أن عدتها انقضت، فدخل بها الثاني، فانتعش الولد بماء الثاني، فقال عمر: الله أكبر ! وألحقه بالأول، ولم يقل إن الحامل لا تحيض، ولا قال ذلك أحد من الصحابة، فدل أنه إجماع، والله أعلم. احتج المخالف بأن قال لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض، وهو إجماع. وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض. الثالثة - في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر. (1) في الطبعة الأولى: قاله ابن عباس قال ابن القصار. وليست عبارة الأصول كذلك لهذا حذفناها. (*)
[ 287 ]
الرابعة - وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة، ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها، حكاه ابن عطية. الخامسة - واختلف العلماء في أكثر الحمل، فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل، ذكره الدارقطني. وقالت جميلة بنت سعد - أخت عبيد بن سعد، وعن الليث بن سعد -: إن أكثره ثلاث سنين. وعن الشافعي أربع سنين، وروي عن مالك في إحدى روايتيه، والمشهور عنه خمس سنين، وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة الأعوام، وهي الرواية الثالثة عنه. وعن الزهري ست وسبع. قال أبو عمر: ومن الصحابة من يجعله إلى سبع، والشافعي: مدة الغاية منها أربع سنين. والكوفيون يقولون: سنتان لا غير. ومحمد بن عبد الحكم يقول: سنة لا أكثر. وداود يقول: تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها. قال أبو عمر: وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق. روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله ! من يقول هذا ؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين. وذكره عن (1) المبارك ابن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد ابن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل. وروى أيضا قال: بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى ! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء ! ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها [ بها ] (1) غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك (1) من ا. وفى و: ابن المبارك. (*)
[ 288 ]
أم الكتاب، ورفع مالك يده، ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط (1)، ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره، وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين ! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى، فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين ! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتى تضع، فتركها، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه، فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة !، فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل: ثلاث سنين. ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه. وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا. عباد بن العوام: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه، فمر به طير فقال: كش. السادسة - قال ابن خويز منداد: أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد، لأن علم ذلك استأثر الله به، فلا يجوز أن يحكم في شئ منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا، ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن (3). السابعة - قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر، وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل (1) جعد قطط، شديد الجعودة. (2) سرر الصبى: ما تقطعه القابلة. (3) قال محققه: ورد في الحديث أقل الحيض وأكثره، روى الطبراني عن أبى أمامة عنه صلى الله عليه وسلم " أقل الحيض ثلاث وأكثره عشرة " ورواه بن الربيع بن حبيب في مسنده عن أنس. (*)
[ 289 ]
في الرحم الكواكب السبعة، تأخذه شهراشهرا، ويكون الشهر الرابع منها للشمس، ولذلك يتحرك ويضطرب، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل، فيبقله ببرده، فياليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم ! ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره ؟ الله أخبركم بهذا أم على الله تفترون ؟ ! وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا ؟ ! ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة !. الثامنة - قوله تعالى: (وكل شئ عنده بمقدار) يعني من النقصان والزيادة. ويقال: " بمقدار " قدر خروج الولد من بطن أمه، وقد مكثه في بطنها إلى خروجه. وقال قتادة: في الرزق والأجل. والمقدار القدر، وعموم الآية يتناول كل ذلك، والله سبحانه أعلم. قلت: هذه الآية تمدح الله سبحانه وتعالى بها بأنه (عالم الغيب والشهادة) أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب. والشهادة مصدر بمعنى الشاهد، فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد، فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح، فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله. و (الكبير) الذي كل شئ دونه. (المتعال) عما يقول المشركون، المستعلي على كل شئ بقدرته وقهره، وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى، والحمد لله. قوله تعالى: سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار (10) قوله تعالى: (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) إسرار القول: ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره، والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من
[ 290 ]
خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر. و " منكم " يحتمل أن يكون وصفا ل " سواء " التقدير: سر من أسر وجهر من جهر سواء منكم، ويجوز أن يتعلق " بسواء " على معنى: يستوي منكم، كقولك: مررت بزيد. ويجوز أن يكون على تقدير: سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم. ويجوز أن يكون التقدير: ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل. وقيل: " سواء " أي مستو، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف. (ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) أي يستوي في علم الله السر والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات. وقال الأخفش وقطرب: المستخفي بالليل الظاهر، ومنه خفيت الشئ وأخفيته أي أظهرته، وأخفيت الشئ أي استخرجته، ومنه قيل للنباش: المختفي. وقال امرؤ القيس: خفاهن من أنفاقهن كأنما * خفاهن ودق من عشي مجلب والسارب المتواري، أي الداخل سربا، ومنه قولهم: انسرب الوحشي إذا دخل في كناسه. وقال ابن عباس: " مستخف " مستتر، " وسارب " ظاهر. مجاهد: " مستخف " بالمعاصي، " وسارب " ظاهر. وقيل: معنى " سارب " ذاهب، [ قال ] (2) الكسائي: سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب، وقال الشاعر (3): وكل أناس قاربوا قيد فحلهم * ونحن خلعنا قيدة فهو سارب أي ذاهب. وقال أبو رجاء: السارب الذاهب على وجهه في الأرض، قال الشاعر (4): أني سربت وكنت غير سروب وقال القتبي: " سارب بالنهار " أي منصرف في حوائجه بسرعة، من قولهم: أنسرب الماء. وقال الأصمعي: خل سربه أي طريقه. (1) أنفاق (جمع نفق): وهو سرب في الأرض إلى موضع آخر، واستعاره امرؤ القيس لحجرة الفئرة والودق: المطر. وغيث مجلب: مصوت، ويروى محلب (بالحاء). (2) من ا وح‍ و و (3) هو الأخنس ابن شهاب التغلبي ويريد أن الناس أقاموا في موضع واحد لا يجترئون على النقلة، وحبسوا فحلهم عن أن يتقدم فتبعه إبلهم خوفا أن يغار عليها، ونحن أعزاء خلعنا قيد فحلنا ليذهب حيث شاء. (4) هو قيس بن الحطيم، وتمام البيت: وتقرب الأحلام غير قريب.
[ 291 ]
قوله تعالى: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (11) قوله تعالى: (له معقبات) أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار. وقال: " معقبات " والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة، يقال: ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم معقبات جمع الجمع. وقرأ بعضهم - " له معاقيب من بين يديه ومن خلفه ". ومعاقيب جمع معقب (1)، وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة. وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم، نحو نسابة وعلامة وراوية، قال الجوهري وغيره. والتعقب العود بعد البدء، قال الله تعالى: " ولى مدبرا ولم يعقب " (2) [ النمل: 10 ] أي لم يرجع، وفي الحديث (3): " معقبات لا يخيب قائلهن - أو - فاعلهن " فذكر التسبيح والتحميد والتكبير. قال أبو الهيثم: سمين " معقبات " لأنهن عادت مرة بعد مرة، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب. والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض، فإذا أنصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى. وقوله: (من بين يديه) أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار. (يحفظونه من أمر الله) اختلف في [ هذا ] (4) الحفظ، فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياءالمضرة، لطفا منه به، فإذا جاء القدر. خلوا بينه وبينه، قاله ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد (5) إلى علي فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك، فقال: إن مع كل (1) قال الزمخشري: جمع معقب أو معقبة بتشديد القاف فيهما، والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير. وقال ابن جنى: إنه تكسير معقب كمطعم ومطاعيم، كأنه جمع على معاقبة، ثم حذفت الهاء من الجمع وعوضت الياء عنها، قال الآلوسي: ولعله الأظهر. " روح المعاني " (2) راجع ج‍ 13 ص 160. (3) الحديث في الدعاء وهو بتمامه في " صحيح مسلم " معقبات لا يخيب قائلهن دبر كل صلاة مكتوبة ثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة وأربع وثلاثون تكبيرة ". سميت معقبات لأنها عادت مرة بعد مرة، أو لأنها تقال عقب كل صلات. (4) من ا وح‍ و و. (5) مراد (بالضم وآخره دال مهملة): قبيلة من قبائل العرب سميت باسم أبيها. (*)
[ 292 ]
رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة، وعلى هذا، " يحفظونه من أمر الله " أي بأمر الله وبإذنه، ف " من " بمعنى الباء، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: " من " بمعنى عن، أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأول، أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم، وهذا قول الحسن، تقول: كسوته عن عري ومن عري، ومنه قوله عز وجل: " أطعمهم من جوع " (1) [ قريش: 4 ] أي عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحل به عقوبة، لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات. وقيل: يحفظونه من الجن، قال كعب: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن. وملائكة العذاب من أمر الله، وخصهم بأن قال: " من أمر الله " لأنهم غير معاينين، كما قال: " قل الروح من أمر ربي " (2) [ الإسراء: 85 ] أي ليس مما تشاهدونه أنتم. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه، وهو مروي عن مجاهد وأبن جريج والنخعي، وعلى أن ملائكة العذاب والجن من امر الله لا تقديم فيه ولا تأخير. وقال ابن جريج: إن المعنى يحفظون عليه عمله، فحذف المضاف. وقال قتاده: يكتبون أقواله وأفعاله. ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في " له " لله عز وجل، كما ذكرنا، ويجوز أن تكون للمستخفي، فهذا قول. وقيل: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه " يعني به النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه، وقد جرى ذكر الرسول في قوله: " لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر " [ الرعد: 7 ] أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي صلى الله عليه وسلم، بل له معقبات يحفظونه عليه السلام، ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل، لأنه قد قال: " ولكل قوم هاد " [ الرعد: 7 ] أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه. وقول رابع - أن المراد. بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم (1) راجع ج‍ 20 ص 209. (2) راجع ج‍ 10 ص 323. (*)
[ 293 ]
يحفظونهم، فإذا جاء أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا، قاله ابن عباس وعكرمة، وكذلك قال الضحاك: هو السلطان المتحرس من أمر الله، المشرك. وقد قيل: إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا، تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى، ذكره الماوردي. قال المهدوي: ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه. وقيل: سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي، ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ، قال القشيري: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة، فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه، فقوله: " يحفظونه من أمر الله " أي من امتثال أمر الله. وقال عبد الرحمن بن زيد: المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده، قال الماوردي: ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله: " يحفظونه من أمر الله " وجهان: أحدهما - يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل، قاله الضحاك. الثاني - يحفظونه من الجن والهوام المؤذية، ما لم يأت قدر، - قاله أبو أمامة وكعب الأحبار - فإذا جاء المقدور خلوا عنه، والصحيح أن المعقبات الملائكة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج، وروي عن ابن عباس، واختاره النحاس، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يتعاقبون (1) فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " الحديث، رواه الأئمة. وروى الأئمة عن عمرو عن ابن عباس قرأ - " معقبات من بين يديه ورقباء من خلفه [ من أمر الله ] (2) يحفظونه " فهذا قد بين المعنى. وقال كنانة العدوي: دخل عثمان رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال: " ملك عن يمينك يكتب الحسنات واخر عن الشمال يكتب السيئات والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب قال لا لعله يستغفر الله تعالى أو يتوب إليه فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه (1) الحديث في ابن عطية: " يتعاقب فيكم ملائكة " والبحث في رواية القرطبى سندا ومتنا في العسقلاني ج‍ 2 ص 28. (2) الزيادة من تفسير الطبري. (*)
[ 294 ]
فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه منا يقول الله تعالى " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " (1) [ ق: 18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " [ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك ] (2) وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة لنهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع ابن آدم بالنهار وولده بالليل ". ذكره الثعلبي. قال الحسن: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. واختيار الطبري: أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم، والهاء في " له " لهن، على ما تقدم. وقال العلماء رضوان الله عليهم: إن الله سبحانه جعل أوامره على وجهين: أحدهما - قضى حلوله ووقوعه بصاحبه، فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره. والآخر - قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ. قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب، كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة، فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، كما قال صلى الله عليه وسلم - وقد سئل أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال - نعم إذا كثر الخبث " (3). والله أعلم. قوله تعالى: (وإذا أراد الله بقوم سوءا) أي هلاكا وعذابا، (فلا مرد له) وقيل: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه. وقيل: إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى (1) راجع ج‍ 17 ص 11. (2) الزيادة من تفسير الطبري وغيره. (3) المراد بالخبث الفسق والفجور. (*)
[ 295 ]
أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه، فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. (وما لهم من وال) أي ملجأ، وهو معنى قول السدي. وقيل: من ناصر يمنعهم من عذابه، وقال الشاعر: ما في السماء سوى الرحمن من وال ووال وولي كقادر وقدير. قوله تعالى: هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصوعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13) قوله تعالى: (هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال) أي بالمطر. " والسحاب " جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا. (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق) قد مضى في " البقرة " (1) القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة، والمراد بالآية بيان كمال قدرته، وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز، أي يريكم البرق في السماء خوفا للمسافر، فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق، قال الله تعالى: " أذى من مطر " (2) [ النساء: 102 ] وطمعا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب، قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما. وقال الحسن: خوفا من صواعق البرق، وطمعا في غيثه المزيل للقحط. " وينشئ السحاب الثقال " قال مجاهد: أي بالماء. " ويسبح الرعد بحمده " من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه، ودليل صحة هذا القول قوله: " والملائكة من خيفته " فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة. ومن قال إنه ملك قال: معنى. " من خيفته " من خيفة الله، قاله الطبري وغيره. قال ابن عباس: إن الملائكة (1) راجع ج‍ 1 ص 216 فما بعد. (2) راجع ج‍ 5 ص 372. (*)
[ 296 ]
خائفون من الله ليس كخوف ابن ادم، لا يعرف واحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغلهم عن عبادة الله طعام ولا شراب، وعنه قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه، وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر، وإنه يسبح الله، فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر، وعنه أيضا كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وروى مالك عن عامر بن عبد الله عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحانه الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد. وقيل: إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض، وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك، فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف الله، وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف الله. (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد: نزلت في يهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني ! من أي شئ ربك، أمن لؤلؤ أم من ياقوت ؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. وقيل: نزلت في بعض كفار العرب، قال الحسن: كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام فقال لهم: أخبروني عن رب محمد ما هو، ومم هو، أمن فضة أم من حديد أم نحاس ؟ فاستعظم القوم مقالته، فقال: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه ! فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه مرارا وهو يقول مثل هذا، فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة، فأحرقت الكافر وهم جلوس، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أحترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمتم ؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ". ذكره الثعلبي عن الحسن، والقشيري بمعناه عن أنس، وسيأتي. وقيل: نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة، وفي عامر بن الطفيل، قال ابن عباس: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة
[ 297 ]
العامريان يريدان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك، فقال: " دعه فإن يرد الله به خيرا يهده " فأقبل حتى قام عليه فقال، يا محمد مالي إن أسلمت ؟ فقال: " لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين ". قال: أتجعل لي الأمر من بعدك ؟ قال: " ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء ". قال: أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر ؟ قال: " لا ". قال: فما تجعل لي ؟ قال: " أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله ". قال: أو ليس لي أعنة الخيل اليوم ؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر أومأ إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ويراجعه، فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه، وأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولى عامر هاربا وقال: يا محمد ! دعوت ربك على أربد حتى قتلته، والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا، فقال عليه السلام: " يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة " يعني الأوس والخزرج، فنزل عامر بيت امرأة سلولية، وأصبح وهو يقول: والله لئن أصحر (1) لي محمد وصاحبه - يريد ملك الموت - لأنفذتهما برمحي، فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه (2) في التراب، وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية، ثم ركب على فرسه فمات على ظهره. ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال: يا عين هلا بكيت أربد إذ قم‍ * نا وقام الخصوم في كبد (3) أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد فجعني الرعد والصواعق بالفا * رس يوم الكريهة النجد (4) (1) أصحر الرجل: إذا خرج الى الصحراء. (2) أذراه: قلعه ورمى به. (3) كبد: شدة وعناء. (4) النجد: السريع الإجابة. (*)
[ 298 ]
وفيه قال: إن الرزية لا رزية مثلها * فقدان كل أخ كضوء الكوكب يا أربد الخير الكريم جدوده * أفردتني أمشي بقرن أعضب (1) وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه. مسألة - روى أبان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تأخذ الصاعقة ذاكرا لله عز وجل ". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول: " سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شئ قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته (2) ". وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال: كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد، ففعلنا فعوفينا، ثم لقيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فإذا بردة (3) قد أصابت أنفه فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا ؟ قال بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد، فقلنا فعوفينا، فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها ؟ وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " (4). قوله تعالى: (وهم يجادلون في الله) يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى: من أي شئ هو ؟ قال مجاهد. وقال ابن جريج: جدال أربد فيما هم به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون، " وهم يجادلون في الله " حالا، ويجوز أن يكون منقطعا. وروى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل، فقال لرسول الله: أخبرني عن إلهك هذا ؟ أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس ؟ (1) قرن أعضب: مكسور. (2) في العبارة سقط والذى في تفسسير البغوي: عن ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال. الحديث ثم قال: فإن أصابته صاعقة فعلى ديته. محققه. (3) البرد (بالتحريك): حب الغمام. (4) راجع ج‍ 1 ص 216 فما بعد. (*)
[ 299 ]
فاستعظم ذلك، فرجع إليه فأعلمه، فقال: " ارجع إليه فادعه " فرجع إليه وقد أصابته صاعقة، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل: " وهم يجادلون في الله ". (وهو شديد المحال) قال ابن الأعرابي: " المحال " المكر، والمكر من الله عز وجل التدبير بالحق. النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وروى ابن اليزيدي عن أبي زيد " وهو شديد المحال " أي النقمة. وقال الأزهري: " المحال " أي القوة والشدة. والمحل: الشدة، الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد. وقال أبو عبيد: " المحال " العقوبة والمكروه. وقال ابن عرفة: " المحال " الجدال، يقال: ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتيبي: أي شديد الكيد، وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم المكان، وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وقال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة، بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية، مثل: مهاد وملاك ومراس، وغير ذلك من الحروف. ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجئ بإظهار الواو (1) مثل: مزود ومحول ومحور، وغيرها من الحروف، وقال (2): وقرأ الأعرج - " وهو شديد المحال " بفتح الميم، وجاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول، ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي، إلا ما ذكرناه أولا عن ابن الأعرابي، وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها، وهي ثمانية: أولها - شديد العداوة، قاله ابن عباس. وثانيها - شديد الحول، قاله ابن عباس أيضا. وثالثها - شديد الأخذ، قاله علي بن أبي طالب. ورابعها - شديد الحقد، قاله ابن عباس. وخامسها - شديد القوة، قاله مجاهد. وسادسها - شديد الغضب، قاله وهب بن منبه. وسابعها - شديد الهلاك بالمحل، وهو القحط، قاله الحسن أيضا. وثامنها - شديد الحيلة، قاله قتادة. وقال أبو عبيدة معمر: المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة، وأنشد للأعشى. فرع نبع يهتز في غصن المج‍ * - د كثير الندى شديد المحال (1) أي والياء في ذوات الياء كالمعير والمزيل. كما في اللسان. (2) أي الأزهري كما في اللسان مادة " محل ". (*)
[ 300 ]
وقال أخر: ولبس بين أقوام فكل * أعد له الشغازب والمحالا وقال عبد المطلب: لا هم إن المرء يم‍ * نع رحله فامنع حلالك (2) لا يغلبن صليبهم ومحا * لهم عدوا محالك قوله تعالى: له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ إلا كبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببلغه وما دعاء الكفرين إلا في ضلل (14) قوله تعالى: (له دعوة الحق) أي لله دعوة الصدق. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: لا إله إلا الله. وقال الحسن: إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل: إن الإخلاص في الدعاء هو دعوة الحق، قاله بعض المتأخرين. وقيل: دعوة الحق دعاؤه عند الخوف، فإنه لا يدعى فيه إلا إياه. كما قال: " ضل من تدعون إلا إياه " (2) [ الإسراء: 67 ]، قال الماوردي: وهو أشبه بسياق الآية، لأنه قال: (والذين يدعون من دونه) يعني الأصنام والأوثان. (لا يستجيبون لهم بشئ) أي لا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء. (إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) ضرب الله عز وجل الماء مثلا ليأسهم من الإجابة لدعائهم، لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد، قال: فأصبحت فيما كان بيني وبينها * من الود مثل القابض الماء باليد (1) هو ذو الرمة، والبيت من قصيدة يمدح بها بلال بن أبى بردة بن أبى موسى. واللبس: الأختلاط. والشغازب، قال الأصمعى: الشغزبية ضرب من الحيلة في الصراع، وهو أن يدخل الرجل بين رجلى صاحبه فيصرعه، والمعنى: فكل رجل من القوم أعد له حجة وكيدا. (2) الحلال (بالكسر): القوم المقيمون المتجاورون، يريد بهم سكان الحرم. ويروى: غدوا: الغدو أصل الغدو وهو اليوم الذى يأتي بعد يومك فحذفت لامه. اللسان. ويروى: أبدأ محالك. البحر. (3) راجع ج‍ 10 ص 291. (*)
[ 301 ]
وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه: أحدها - أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا، لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه، قاله مجاهد. الثاني - أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه، وفساد توهمه، قاله ابن عباس. الثالث - أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شئ منه. وزعم الفراء أن المراد بالماء هاهنا البئر، لأنها معدن للماء، وأن المثل كمن مد يده إلى البئر بغير رشاء، وشاهده قول الشاعر: فإن الماء ماء أبي وجدي * وبئري ذو حفرت وذو طويت قال علي رضي الله عنه: هو كالعطشان على شفة البئر، فلا يبلغ قعر البئر، ولا الماء يرتفع إليه، ومعنى " إلا كباسط " إلا كاستجابة باسط كفيه " إلى الماء " فالمصدر مضاف إلى الباسط، ثم حذف المضاف، وفاعل المصدر المضاف مراد في المعنى وهو الماء، والمعنى: إلا كإجابة باسط كفيه إلى الماء، واللام في قوله: " ليبلغ فاه " متعلقة بالبسط، وقوله: " وما هو ببالغه " كناية عن الماء، أي وما الماء ببالغ فاه. ويجوز أن يكون " هو " كناية عن الفم، أي ما الفم ببالغ الماء. (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال، لأنها شرك. وقيل: إلا في ضلال أي يضل عنهم ذلك الدعاء، فلا يجدون منه سبيلا، كما قال: " أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا " (1) [ الأعراف: 37 ] وقال ابن عباس: أي أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاءهم. قوله تعالى: ولله يسجد من في السموت والأرض طوعا وكرها وظللهم بالغدو والأصال (15) قوله تعالى: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها) قال الحسن وقتادة وغيرهما: المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجر كرها بالسيف. وعن قتادة أيضا: يسجد الكافر كارها حين لا ينفعه الإيمان. وقال الزجاج: سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة. (1) راجع ج‍ 7 ص 203. (*)
[ 302 ]
وقال ابن زيد: " طوعا " من دخل في الإسلام رغبة، و " كرها " من دخل فيه رهبة بالسيف. وقيل: " طوعا " من طالت مدة إسلامه فألف السجود، و " كرها " من يكره نفسه لله تعالى، فالآية في المؤمنين، وعلى هذا يكون معنى " والأرض " وبعض من في الأرض. قال القشيري: وفي الآية مسلكان: أحدهما - أنها عامة والمراد بها التخصيص، فالمؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين، فالآية محمولة على هؤلاء، ذكره الفراء. وقيل على هذا القول: الآية في المؤمنين، منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه، لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا، إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه. والمسلك الثاني - وهو الصحيح - إجراء الآية على التعميم، وعلى هذا طريقان: أحدهما - أن المؤمن يسجد طوعا، وأما الكافر فمأمور: السجود مؤاخذ به. والثاني - وهو الحق - أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق، يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع، وهذا كقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " (1) [ الإسراء: 44 ] وهو تسبيح دلالة لا تسبيح عبادة. (وظلالهم بالغدو والآصال) أي ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال، لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية، وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء، وهو كقوله تعالى: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " [ النحل: 48 ] قاله ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد كرها وهو كاره. وقال ابن الأنباري: يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت. قال القشيري: في هذا نظر، لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، والسجود بمعنى الميل، فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب، يقال: سجدت النخلة أي مالت. و " الأصال " جمع أصل، والأصل جمع أصيل، وهو ما بين العصر إلى الغروب، ثم أصائل جمع الجمع، قال أبو ذؤيب الهذلي: لعمري لأنت البيت أكرم أهله * وأقعد في أفيائه بالأصائل (1) راجع ج‍ 10 ص 266 وص 111. (*)
[ 303 ]
و " ظلالهم " يجوز أن يكون معطوفا على " من " ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف، التقدير: وظلالهم سجد بالغدو والآصال و " بالغدو " يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون جمع غداة، يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به. قوله تعالى: قل من رب السموت والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوى الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمت والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشبه الخلق عليهم قل الله خلق كل شئ وهو الوحد القهر (16) قوله تعالى: (قل من رب السموات والأرض) أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: " قل من رب السماوات والأرض " ثم أمره أن يقول [ لهم ] (1): هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو. (قل أفأتخذتم من دونه أولياء) هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق [ وإلا ] لم يكن للاحتجاج بقوله: " قل أفاتخذتم من دونه أولياء " معنى، دليله قوله: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " (2) [ الزمر: 38 ] أي فإذا اعترفتم فلم تعبدون غيره ؟ ! وذلك الغير لا ينفع ولا يضر، وهو إلزام صحيح. ثم ضرب لهم مثلا فقال: (قل هل يستوي الأعمى والبصير) فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق، والمشرك الذي لا يبصر الحق. وقيل: الأعمى مثل لما عبدوه من دون الله، والبصير مثل الله تعالى: (أم هل تستوى الظلمات والنور) أي الشرك والإيمان. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي " يسوي " بالياء لتقدم الفعل، ولأن تأنيث " الظلمات " ليس بحقيقي. الباقون بالتاء، واختاره أبو عبيد، قال: لأنه لم يحل بين المؤنث والفعل حائل. و " الظلمات والنور " مثل الإيمان والكفر، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) هذا من تمام الاحتجاج، أي خلق غير الله مثل (1) من ا وو وح‍. (2) راجع ج‍ 15 ص 358. (*)
[ 304 ]
خلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. (قل الله خالق كل شئ) أي قل لهم يا محمد: " الله خالق كل شئ "، فلزم لذلك أن يعبده كل شئ. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. (وهو الواحد) قبل كل شئ. " القهار " الغالب لكل شئ، الذي يغلب في مراده كل مريد. قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع، أي سلهم عن خالق السماوات والأرض، فإنه يسهل تقرير الحجة فيه عليهم، ويقرب الأمر من الضرورة، فإن عجز الجماد وعجز كل مخلوق عن خلق السماوات والأرض معلوم، وإذا تقرر هذا وبان أن الصانع هو الله فكيف يجوز اعتداد الشريك له ؟ ! وبين في أثناء الكلام أنه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين ؟ !. قوله تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت أوديه بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17) للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأوئهم جهنم وبئس المهاد (18) أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألبب (19) قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا) ضرب مثلا للحق والباطل، فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، على ما نبينه. قال مجاهد:
[ 305 ]
" فسالت أودية بقدرها " قال: بقدر ملئها. وقال ابن جريج: بقدر صغرها وكبرها. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن " بقدرها " بسكون الدال، والمعنى واحد. وقيل: معناها بما قدر لها. والأودية. جمع الوادي، وسمي واديا لخروجه وسيلانه، فالوادي على هذا اسم للماء السائل. وقال أبو علي: " فسالت أودية " توسع، أي سال ماؤها فحذف، قال: ومعنى " بقدرها " بقدر مياهها، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. " فاحتمل السيل زبدا رابيا " أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء، وتم الكلام، قاله مجاهد. ثم قال: (ومما يوقدون عليه في النار) وهو المثل الثاني. (ابتغاء حلية) أي حلية الذهب والفضة. (أو متاع زبد مثله) قال مجاهد: الحديد والنحاس والرصاص. وقوله: " زبد مثله " أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل، وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب، فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض. وقوله: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء) قال مجاهد: جمودا. وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء: أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب (1) زبدها، وإذا جمد في أسفلها. والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ " جفالا " قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) قال مجاهد: هو الماء الخالص الصافي. وقيل: الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، وهو أن المثلين ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد والخبث. وقيل: المراد مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب، فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس: " أنزل من الماء ماء " قال: قرآنا، " فسالت أودية بقدرها " قال: الأودية قلوب العباد. قال صاحب (1) في زوى: ينضب. بالمعجمة. (*)
[ 306 ]
" سوق العروس " (1) إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء. ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي، ومثل المتشابه بالزبد. وقيل: الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها، كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا، وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال السنية. والأخلاق الزكية، التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء. وبهما قيمة الأشياء. وقرأ حميد وابن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، " يوقدون " بالياء واختاره أبو عبيد، لقوله: " ينفع الناس " فأخبر، ولا مخاطبة هاهنا. الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام: " أفاتخذتم من دونه أولياء " [ الرعد: 16 ] الآية. وقوله: " في النار " متعلق بمحذوف، وهو في موضع الحال، وذو الحال الهاء التي في " عليه " التقدير: ومما توقدون عليه ثابتا في النار أو كائنا. وفي قوله: " في النار " ضمير مرفوع يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال ولا يستقيم أن يتعلق " في النار " ب‍ " يوقدون " من حيث لا يستقيم أوقدت عليه في النار، لأن الموقد عليه يكون في النار، فيصير قوله: " في النار " غير مقيد. وقوله: " أبتغاء حلية " مفعول له. " زبد مثله " ابتداء وخبر، أي زبد مثل زبد السيل. وقيل: إن خبر " زبد " قوله: " في النار " الكسائي: " زبد " ابتداء، و " مثله " نعت له، والخبر في الجملة التي قبله، وهو " مما يوقدون ". (كذلك يضرب الله الأمثال) أي كما بين لكم هذه الأمثال فكذلك يضربها بينات. تم الكلام، ثم قال: (للذين استجابوا لربهم) أي أجابوا، واستجاب بمعنى أجاب، قال (2): فلم يستجبه عند ذاك مجيب وقد تقدم، أي أجاب إلى ما دعاه الله من التوحيد والنبوات. (الحسنى) لأنها في نهاية الحسن. وقيل: من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا. (والذين لم يستجيبوا له) (1) هو: أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري، نزيل مكة المكرمة، المتوفى بها سنة 478 وكتابه " سوق العروس " في علم القراءات. (كشف الظنون). (2) هو كعب بن سعد الغنوى يرثى أخاه أبا المغوار، وصدر البيت: وداع دعا يامن يجيب إلى الندى. (*)
[ 307 ]
أي لم يجيبوا إلى الإيمان به. (لو أن لهم ما في الأرض جميعا) أي من الأموال. (ومثله معه) ملك لهم. (لافتدوا به) من عذاب يوم القيامة، نظيره في " آل عمران " " إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا " (1) [ آل عمران: 10 ]، " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم مل ء الأرض ذهبا ولو افتدى به " [ آل عمران: 91 ] حسب ما تقدم بيانه هناك. (أولئك لهم سوء الحساب) أي لا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة. وقال فرقد السبخي (2) قال [ لي ] (3) إبراهيم النخعي: يا فرقد ! أتدري ما سوء الحساب ؟ قلت لا ! قال أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يفقد منه شئ. (ومأواهم) أي مسكنهم ومقامهم. (جهنم وبئس المهاد) أي الفراش الذي مهدوا لأنفسهم. قوله تعالى: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وروي أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبي جهل لعنه الله. والمراد بالعمى عمى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب. (إنما يتذكر أولو الألباب). قوله تعالى: الذين يوفون بعهد الله ولا ينقصون الميثق (20) فيه مسألتان الأولى - قوله تعالى: (الذين يوفون بعهد الله) هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله. والعهد اسم الجنس، أي بجميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: (ولا ينقضون الميثاق) يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية، ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه، هو الذي أخذه (1) راجع ج‍ 4 ص 21 فما بعد. (2) السبخى: (بفتحتين) نسبة إلى السبخة موضع بالبصرة. (3) من ى. (*)
[ 308 ]
الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم. وقال القفال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات. الثانية - روى أبو داود وغيره عن عوف بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكنا حديث عهد ببيعة (1) فقلنا: قد بايعناك [ حتى قالها ثلاثا، فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل: يا رسول الله ! إنا قد بايعناك (2) ] فعلى ماذا نبايعك ؟ قال: " أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا - وأسر كلمة خفية - قال: لا تسألوا الناس شيئا ". قال: ولقد كان بعض أولئك النفر يسقط - سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله إياه. قال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر ألا يسأل سواه، فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العباد سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يسألوا أحدا شيئا، الحديث، فقال أبو حمزة: رب ! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا، قال: فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم، فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق، فلما حل في قعره قال: استغيث لعل أحدا يسمعني. ثم قال: إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، والله ! لا تكلمت بحرف للبشر، ثم لم يلبث إلا يسيرا إذ مر بذلك البئر نفر، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا: إنه لينبغي سد هذا البئر، ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب، فلما رأى ذلك أبو حمزة قال: هذه مهلكة، ثم أراد أن يستغيث بهم، ثم قال: والله ! لا أخرج منها أبدا، ثم رجع إلى نفسه فقال: أليس قد عاهدت من يراك ؟ فسكت وتوكل، ثم استند في قعر البئر مفكرا في أمره، فإذا بالتراب يقع عليه، والخشب يرفع عنه، وسمع في أثناء ذلك من يقول: هات يدك ! قال: فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى فم البئر، فخرجت فلم أر أحدا، فسمعت هاتفا يقول: كيف رأيت ثمرة التوكل، وأنشد: (1) في و: ببيعته. (2) الزيادة من كتب الحديث. (*)
[ 309 ]
نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى * فأغنيتني بالعلم منك عن الكشف تلطفت في أمري فأبديت شاهدي * إلى غائبي واللطف يدرك باللطف تراءيت لي بالعلم حتى كأنما * تخبرني بالغيب أنك في كف أراني وبي من هيبتي لك وحشة * فتؤنسني باللطف منك وبالعطف وتحيي محبا أنت في الحب حتفه * وذا عجب كيف الحياة مع الحتف قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال، فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا. قال أبو الفرج الجوزي: سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه، وذلك لا يحل، ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة، كما لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة، واستئجاره دليلا، واستكتامه ذلك الأمر، واستتاره في الغار، وقوله لسراقة: " اخف عنا ". فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محظور، وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، وبيان ذلك أن الله تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر، وآلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل، وردا لحكمة التواضع، لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله تعالى، وليس من ضرورته قطع الأسباب، ولو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار، قاله سفيان الثوري وغيره، لأنه قد دل على طريقة السلامة، فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه. وقال أبو الفرج: ولا التفات إلى قول أبي حمزة: " فجاء أسد فأخرجني " فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله أتفاقا، وقد يكون لطفا من الله تعالى بالعبد الجاهل، ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به، إنما ينكر فعله الذي هو كسبه، وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة لله تعالى عنده، وقد أمره بحفظها. قوله تعالى: والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب (21) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية ويدرءون
[ 310 ]
بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار (22) جنت عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذريتهم والملئكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (24) قوله تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. (ويخشون ربهم) قيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي. (ويخافون سوء الحساب). سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة، ومن نوقش الحساب عذب. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: معنى. " يصلون ما أمر الله به " الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل رابعا: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح، " ويخشون ربهم " فيما أمرهم بوصله، " ويخافون سوء الحساب " في تركه، والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وبالله توفيقنا. قوله تعالى: (والذين صبروا إبتغاء وجه ربهم) قيل: " الذين " مستأنف، لأن " صبروا " ماض فلا ينعطف على " يوفون " وقيل.: هو من وصف من تقدم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل، لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا، ولما كان " الذين " يتضمن الشرط، [ و ] الماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك، ولهذا قال: " الذين يوفون " ثم قال: " والذين صبروا " ثم عطف عليه فقال: " ويدرءون بالحسنة السيئة " قال ابن زيد: صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله. (وأقاموا الصلاة) أدوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها. (وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) يعني الزكاة المفروضة، عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في " البقرة " وغيرها. (ويدرءون بالحسنة السيئة) أي يدفعون بالعمل (1) راجع ج‍ 1 ص 179. (*)
[ 311 ]
الصالح السئ من الأعمال، قاله ابن عباس. ابن زيد: يدفعون الشر بالخير. سعيد بن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. الضحاك: يدفعون الفحش بالسلام. جويبر: يدفعون الظلم بالعفو. ابن شجرة: يدفعون الذنب بالتوبة. القتبي: يدفعون سفه الجاهل بالحلم، فالسفه السيئة، والحلم الحسنة. وقيل: إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا. وقيل: يدفعون الشرك بشهادة أن لا اله إلا الله، فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم، ونظيره: " إن الحسنات يذهبن السيئات " (1) [ هود: 114 ] ومنه قول عليه السلام لمعاذ: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ". قوله تعالى: (أولئك لهم عقبى الدار) أي عاقبة الآخرة، وهي الجنة بدل النار، والدار غدا داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي، فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة. وقيل: عني بالدار دار الدنيا، أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا. قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها) أي لهم جنات عدن، ف‍ " جنات عدن " بدل من " عقبي " ويجوز أن تكون تفسيرا ل‍ " عقبى الدار " أي لهم دخول جنات عدن، لأن " عقبى الدار " حدث و " جنات عدن " عين، والحدث إنما يفسر بحدث مثله، فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول. ويجوز أن يكون " جنات عدن " خبر ابتداء محذوف. و " جنات عدن " وسط الجنة وقصبتها، وسقفها عرش الرحمن، قال القشيري أبو نصر عبد الملك. وفي صحيح البخاري: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " فيحتمل أن يكون " جنات " كذلك إن صح فذلك خبر (2). وقال عبد الله بن عمرو: إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج، فيه ألف باب، على كل باب خمسة آلاف حبرة (3) لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. و " عدن " مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام فيه، على ما يأتي بيانه في سورة " الكهف " (4) إن شاء الله تعالى. (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) يجوز أن (1) راجع ص 110 من هذا الجزء. (2) في ى: خير. (3) الحبرة (بكسر الحاء المهملة وفتحها): ضروب من البرود اليمنية المخطط. (4) راجع ج‍ 10 ص 395 فما بعد. (*)
[ 312 ]
يكون معطوفا على " أولئك " المعنى: أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لهم عقبى الدار. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المرفوع في " يدخلونها " وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما. ويجوز أن يكون المعنى: يدخلونها ويدخلها من صلح من آبائهم، أي من كان صالحا، لا يدخلونها بالأنساب. ويجوز أن يكون موضع " من " نصبا على تقدير: يدخلونها مع من صلح من آبائهم، وإن لم يعمل مثل أعمالهم يلحقه الله بهم كرامة لهم. وقال ابن عباس: هذا الصلاح الإيمان بالله والرسول، ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعية. قال القشيري: وفي هذا نظر، لأنه لا بد من الإيمان، فالقول في اشتراط العمل الصالح كالقول في اشتراط الإيمان. فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال، والمعنى: أن النعمة غدا تتم عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة، وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه، بل برحمة الله تعالى. قوله تعالى: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) أي بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم. (سلام عليكم) أي يقولون: سلام عليكم، فأضمر القول، أي قد سلمتم من الآفات والمحن. وقيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم الله، فهو خبر معناه الدعاء، ويتضمن الاعتراف بالعبودية. (بما صبرتم) أي بصبركم، ف " ما " مع الفعل بمعنى المصدر، والباء في " بما " متعلقة بمعنى. " سلام عليكم " ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي هذه الكرامة بصبركم، أي على أمر الله تعالى ونهيه، قاله سعيد بن جبير. وقيل: على الفقر في الدنيا، قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على الجهاد في سبيل الله، كما روي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله " ؟ قالوا: الله ورسول أعلم، قال: " المجاهدون الذين تسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ". وقال محمد بن إبراهيم: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم
[ 313 ]
عقبى الدار " وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان، وذكره البيهقي عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ". ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبى بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله. وقال الحسن البصري رحمه الله: " بما صبرتم " عن فضول الدنيا. وقيل: " بما صبرتم " على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية، قال معناه الفضيل بن عياض. ابن زيد: " بما صبرتم " عما تحبونه إذا فقدتموه. ويحتمل سابعا - " بما صبرتم " عن اتباع الشهوات. وعن عبد الله بن سلام وعلي بن الحسين رضي الله عنهم [ أنهما قالا ]: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين ؟ فيقولون: إلى الجنة، قالوا: قبل الحساب ؟ قالوا نعم ! فيقولون: من أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم ؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا. قال علي بن الحسين: فتقول لهم الملائكة: آدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وقال ابن سلام: فتقول لهم الملائكة: " سلام عليكم بما صبرتم ". " فنعم عقبى الدار " أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها، عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه، فالعقبي على هذا اسم، و " الدار " هي الدنيا. وقال أبو عمران الجوني: " فنعم عقبى الدار " الجنة عن النار. وعنه: " فنعم عقبى الدار " الجنة عن الدنيا قوله تعالى: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار (25) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحو ا بالحيوة الدنيا وما الحيوة الدنيا في الآخرة ألا متع (26) (1) فرضة الشعب: فوهته. والشعب: ما انفرج بين جبلين. والشهداء كانوا بجبل أحد. (2) في الأصل: " أنه قال ". (*)
[ 314 ]
قوله تعالى: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) لما ذكر الموفين بعهده، والمواصلين لأمره، وذكر ما لهم ذكر عكسهم. نقض الميثاق: ترك أمره. وقيل: إهمال عقولهم، فلا يتدبرون بها ليعرفوا الله تعالى. (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) أي من الأرحام. والإيمان بجميع الأنبياء. (ويفسدون في الأرض) أي بالكفر وارتكاب المعاصي (أولئك لهم اللعنة) أي الطرد والإبعاد من الرحمة. (ولهم سوء الدار) أي سوء المنقلب، وهو جهنم. وقال سعد بن أبي وقاص: والله الذي لاإله إلا هو ! إنهم الحرورية. قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) لما ذكر عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك بين أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا، لأنها دار امتحان، فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم. " ويقدر " أي يضيق، ومنه " ومن قدر عليه رزقه " (1) [ الطلاق: 7 ] أي ضيق. وقيل: " يقدر " يعطي بقدر الكفاية. (وفرحوا بالحياة الدنيا) يعني مشركي مكة، فرحوا بالدنيا ولم يعرفوا غيرها، وجهلوا ما عند الله، وهو معطوف على " ويفسدون في الأرض ". وفي الآية تقديم وتأخير، التقدير: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا. (وما الحياة الدنيا في الآخرة) أي في جنبها. (إلامتاع) أي متاع من الأمتعة، كالقصعة والسكرجة (2). وقال مجاهد: شئ قليل ذاهب، من متع النهار إذا ارتفع، فلا بد له من زوال. ابن عباس: زاد كزاد الراعي. وقيل: متاع الحياة الدنيا ما يستمتع بها منها. وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة، من التقوى والعمل الصالح، " ولهم سوء الدار " ثم ابتدأ. " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " أي يوسع ويضيق. قوله تعالى: ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدى إليه من أناب (27) الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) (1) راجع ج‍ 18 ص 170. (2) السكرجه: إناء صغير يؤكل فيه الشئ القليل من الأدم، وهى فارسية. (*)
[ 315 ]
قوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) بين في مواضع أن آقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق، والقائل عبد الله ابن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات. (قل إن الله) عز وجل (يضل من يشاء) أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها. (ويهدى إليه من أناب) أي من رجع. والهاء في " إليه " للحق، أو للإسلام، أو لله عز وجل، على تقدير: ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه. وقيل: هي للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: (الذين آمنوا) " الذين " في موضع نصب، لأنه مفعول، أي يهدي الله الذين أمنوا. وقيل بدل من قول: " من أناب " فهو في محل نصب أيضا. (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) أي تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن، قال: أي وهم تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله بألسنتهم، قاله قتادة: وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: بالقرآن. وقال سفيان بن عيينة: بأمره. مقاتل: بوعده. ابن عباس: بالحلف باسمه، أو تطمئن بذكر فضله وإنعامه، كما توجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه. وقيل: " بذكر الله " أي يذكرون الله ويتأملون آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة. (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) أي قلوب المؤمنين. قال ابن عباس: هذا في الحلف، فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه. وقيل: " بذكر الله " أي بطاعة الله. وقيل بثواب الله. وقيل: بوعد الله. وقال مجاهد: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: الذين ءامنوا وعملوا الصلحت طوبى لهم وحسن مئاب (29) قوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم) ابتداء وخبره. وقيل: معناه لهم طوبى، ف " طوبى " رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير: جعل
[ 316 ]
لهم طوبى، ويعطف عليه " وحسن مآب " على الوجهين المذكورين، فترفع أو تنصب. وذكر عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن أبي يزيد البكالي عن عتبة ابن عبدالسلمي قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال: فيها فاكهة ؟ قال: " نعم شجرة تدعى طوبى " قال: يا رسول الله ! أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال " لا تشبه شيئا من شجر أرضك أأتيت الشام هناك شجرة تدعي الجوزة تنبت على ساق ويفترش أعلاها ". قال يا رسول الله ! فما عظم أصلها ! قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما ". وذكر الحديث، وقد كتبناه بكمال في أبواب الجنة من كتاب " التذكرة "، والحمد لله. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن الأشعث عن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: في الجنة شجرة يقال لها طوبى، يقول الله تعالى لها: تفتقي لعبدي عما شاء، فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء، وتفتق عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء، وعن النجائب والثياب. وذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال: " طوبى " شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، ولا ثمرة إلا هي منها، وقد قيل: إن أصلها في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة، كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا. وقال ابن عباس: " طوبى لهم " فرح لهم وقرة عين، وعنه أيضا أن " طوبي " اسم الجنة بالحبشية، وقال سعيد بن جبير. الربيع بن أنس: هو البستان بلغة الهند، قال القشيري: إن صح هذا فهو وفاق بين اللغتين. وقال قتادة: " طوبى لهم " حسنى لهم. عكرمة: نعمى لهم. إبراهيم النخعي: خير لهم، وعنه أيضا كرامة من الله لهم. الضحاك: غبطة لهم. النحاس: وهذه الأقوال متقاربة، لأن طوبى فعلى من الطيب، أي العيش الطيب لهم، وهذه الأشياء ترجع إلى الشئ الطيب. وقال الزجاج: طوبى فعلى من الطيب، وهي الحالة المستطابة لهم، والأصل طيبي، فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها، كما قالوا: موسر وموقن.
[ 317 ]
قلت: والصحيح أنها شجرة، للحديث المرفوع الذي ذكرناه، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي، ذكره أبو عمر في التمهيد، ومنه نقلناه، وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره، وذكر أيضا المهدوي والقشيري عن معاويه بن قرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة " ومن أراد زيادة على هذه الأخبار فليطالع الثعلبي. وقال ابن عباس: " طوبى " شجرة في الجنة أصلها في دار علي، وفي دار كل مؤمن منها غصن. وقال أبو جعفر محمد بن علي: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: " طوبى لهم وحسن مآب " قال: " شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة " ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: " شجرة أصلها في دار على وفروعها في الجنة ". فقيل له: يا رسول الله ! سئلت عنها فقلت: " أصلها في داري وفروعها في الجنة " ثم سئلت عنها فقلت: " أصلها في دار علي وفروعها في الجنة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد " وعنه صلى الله عليه وسلم: " هي شجرة أصلها في داري وما من دار من دوركم إلا مدلى فيها غصن منها " (وحسن مآب) آب إذا رجع. وقيل: تقدير الكلام الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله وعملوا الصالحات طوبى لهم. قوله تعالى: كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذى أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربى لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب (30) قوله تعالى: (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم) أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك، قاله الحسن. وقيل: شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد عليه السلام بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله. (لتتلوا عليهم الذى أوحينا إليك) يعني القرآن. (وهم يكفرون بالرحمن) قال مقاتل وابن جريج: نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا
[ 318 ]
أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، اكتب باسمك اللهم، وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: " اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله " فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد ابن عبد الله، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: دعنا نقاتلهم، فقال: " لا ولكن اكتب ما يريدون " فنزلت. وقال ابن عباس: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " اسجدوا للرحمن " (1) [ الفرقان: 60 ] قالوا وما الرحمن ؟ فنزلت. (قل) لهم يا محمد: الذى أنكرتم. (هو ربي لا إله إلا هو) ولا معبود سواه، هو واحد بذاته، وإن اختلفت أسماء صفاته. (عليه توكلت) واعتمدت ووثقت. (وإليه متاب) أي مرجعي غدا، واليوم أيضا عليه توكلت ووثقت، رضا بقضائه، وتسليما لأمره. وقيل: سمع أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول: " يا الله يا رحمن " فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين، فنزلت هذه الآية، ونزل. " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " (2) [ الإسراء: 110 ]. قوله تعالى: ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم يايس الذين ءامنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد (31) قوله تعالى: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) هذا متصل بقول: " لولا أنزل عليه آية من ربه " [ يونس: 20 ]. وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية المخزوميان (1) راجع ج‍ 10 ص 342. (2) راجع ج‍ 13 ص 64. (*)
[ 319 ]
جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إلى رسول الله فأتاهم، فقال له عبد الله: إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تنفسح، فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، حتى نغرس ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا، فقد كان سليمان سخرت له الريح كما زعمت، فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود، وأحي لنا قصيا (1) جدك، أو من شئت أنت من موتانا نسأله، أحق ما تقول أنت أم باطل ؟ فإن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله تعالى: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " الآية، قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك، والجواب محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكن حذف إيجازا، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه، كما قال امرؤ القيس: فلو أنها نفس تموت جميعة * ولكنها نفس تساقط أنفسا يعني لهان علي، هذا معنى قول قتادة، قال: لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم. وقيل: الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير، أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا. الفراء: يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن. الزجاج: " ولو أن قرآنا " إلى قوله: " الموتى " لما آمنوا، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " [ الأنعام: 111 ] إلى قوله: " ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " (2) [ الأنعام: 111 ]. (بل لله الأمر جميعا) أي هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله. قوله تعالى: (أفلم ييئس الذين آمنوا) قال الفراء قال الكلبي: " ييأس " بمعنى يعلم، لغة النخع، وحكاه القشيري عن ابن عباس، أي أفلم يعلموا، وقاله الجوهري في الصحاح. (1) هو قصى بن كلاب. (2) راجع ج‍ 7 ص 66. (*)
[ 320 ]
وقيل: هو لغة هوازن، أي أفلم يعلم، عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وقال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري (1): أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني * ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم ييسرونني من الميسر، وقد تقدم في " البقرة " (2) ويروى يأسرونني من الأسر. وقال رباح بن عدي: ألم ييأس الأقوام أني [ أنا ] ابنه * وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا في كتاب الرد " أني أنا ابنه " وكذا ذكره الغزنوي: ألم يعلم، والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات. وقيل: هو من اليأس المعروف، أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم، لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار. وقرأ علي وابن عباس: " أفلم يتبين الذين آمنوا " من البيان. قال القشيري: وقيل لابن عباس المكتوب " أفلم ييئس " قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس، أي زاد بعض الحروف حتى صار " ييئس ". قال أبو بكر الأنباري: روي عن عكرمة عن ابن أبي نجيح أنه قرأ - " أفلم يتبين الذين آمنوا " وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة، وهو باطل عن بن عباس، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس، ثم إن معناه: أفلم يتبين، فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها، وتأتي بتأويلها، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا، (1) ذكر في " لسان العرب " أن قائل البيت هو سحيم بن وثيل اليربوعي،: وذكر بعض العلماء أنه قال لولده جابر ابن سحيم بدليل قوله فيه: " أنى ابن فارس زهدم " وزهدم: فرس سحيم. وقوله: ييسروننى من إيسار الجزور، أي يجتزروننى ويقتسمونني، وذكر ذلك لأنه كان قد وقع عليه سباء فضربوا عليه بالميسر يتحاسبون على قسمة فدائه. (2) راجع ج‍ 3 ص 53. (3) من البحر لأبى حيان، وكتاب الرد. (*)
[ 321 ]
وأما سقوطه يبطل القرآن، ولزوم أصحابه البهتان. (أن لو يشاء الله) " أن " مخففة من الثقيلة، أي أنه لو يشاء الله (لهدى الناس جميعا) وهو يرد على القدرية وغيرهم. قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) أي داهية تفجؤهم بكفرهم وعتوهم، ويقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع الضرب، قال (1): أفنى تلادي وما جمعت من نشب * قرع القواقيز أفواه الأباريق أي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد أو من قتل أو من أسر أو جدب، أو غير ذلك من العذاب والبلاء، كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء المشركين. وقال عكرمة عن ابن عباس: القارعة النكبة. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة: القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم (أو تحل) أي القارعة. (قريبا من دارهم) قاله قتادة والحسن. وقال ابن عباس: أو تحل أنت قريبا من دارهم. وقيل: نزلت الآية بالمدينة، أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة. (حتى يأتي وعد الله) في فتح مكة، قاله مجاهد وقتادة. وقيل: نزلت بمكة، أي تصيبهم القوارع، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد، فتحل قريبا من دارهم، أو تحل بهم محاصرا لهم، وهذه المحاصرة لأهل الطائف، ولقلاع خيبر، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم. وقال الحسن: وعد الله يوم القيامة. قوله تعالى: ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب (32) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا (1) هو الأقيشر الأسدى، واسمه المغيرة بن عبد الله. والتلاد: المال القديم الموروث. والنشب: الضياع والبساتين وما جدده بعمله. والقوافيز (جمع قافوزة) وهى أوان يشرب بها الخمر. (*)
[ 322 ]
عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد (33) لهم عذاب في الحيوة الدنيا ولعذاب الأخرة أشق وما لهم من الله من واق (34) قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم) تقدم معنى الاستهزاء في " البقرة " (1) ومعنى الإملاء في " آل عمران " (2) أي سخر بهم، وأزري عليهم، فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم، فلما حق القضاء أخذتهم بالعقوبة. (فكيف كان عقاب) أي فكيف رأيتم ما صنعت بهم، فكذلك أصنع بمشركي قومك. قوله تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود، بل هو بمعنى التولي لأمور الخلق، كما يقال: قام فلان بشغل كذا، فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها، فالمعنى: أنه حافظ لا يغفل، والجواب محذوف، والمعنى: أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل. وقيل: " أفمن هو قائم " أي عالم، قاله الأعمش. قال الشاعر: فلولا رجال من قريش أعزة * سرقتم ثياب البيت والله قائم أي عالم، فالله عالم بكسب كل نفس. وقيل: المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم، عن الضحاك. (وجعلوا) حال، أي أوقد جعلوا، أو عطف على " استهزئ " أي استهزءوا وجعلوا، أي سموا (لله شركاء) يعني أصناما جعلوها آلهة. (قل سموهم) أي قل لهم يا محمد: " سموهم " أي بينوا أسماءهم، على جهة التهديد، أي إنما يسمون: اللات والعزي ومناة وهبل. (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض) " أم " استفهام توبيخ، أي أتنبئونه، وهو على التحقيق عطف على استفهام متقدم في المعنى، لأن قوله: " سموهم " معناه: ألهم أسماء الخالقين. " أم تبئونه بما لا يعلم في الأرض " ؟. وقيل: المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه. " أم بظاهر من القول " يعلمه ؟ فإن قالوا: بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: (1) راجع ج‍ 1 ص 207 فما بعد. (2) راجع ج‍ 4 ص 286 فما بعد. (*)
[ 323 ]
بظاهر يعلمه فقل لهم: سموهم، فإذا سموهم اللات والعزي فقل لهم: إن الله لا يعلم لنفسه شريكا. وقيل: " أم تنبئونه " عطف على قوله: " أفمن هو قائم " أي أفمن هو قائم، أم تنبئون الله بما لا يعلم، أي أنتم تدعون لله شريكا، والله لا يعلم لنفسه شريكا، أفتنبئونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه ! وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم آدعو له شركاء في الأرض. ومعنى. (أم بظاهر من القول): الذي أنزل الله على أنبيائه. وقال قتادة: معناه بباطل من القول، ومنه قول الشاعر: أعيرتنا ألبانها ولحومها * وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر أي باطل. وقال الضحاك: بكذب من القول. ويحتمل خامسا (1) - أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم، ويكون معنى الكلام: أتجبرونه بذلك مشاهدين، أم تقولون محتجين. (بل زين للذين كفروا مكرهم) أي دع هذا ! بل زين للذين كفروا مكرهم قيل: استدراك على هذا الوجه، أي ليس لله شريك، لكن زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس ومجاهد - " بل زين للذين كفروا مكرهم " مسمى الفاعل، وعلى قراءة الجماعة فالذي زين للكافرين مكرهم الله تعالى، وقيل: الشيطان. ويجوز أن يسمى الكفر مكرا، لأن مكرهم بالرسول كان كفرا. (وصدوا عن السبيل) أي صدهم الله، وهي قراءة حمزة والكسائي. الباقون بالفتح، أي صدوا غيرهم، واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله: " ويصدون عن سبيل الله " (2) [ الأنفال: 47 ] وقوله: " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام " (3) [ الفتح: 25 ]. وقراءة الضم أيضا حسنة في " زين " و " صدوا " لأنه معلوم أن الله فاعل ذلك في مذهب أهل السنة، ففيه إثبات القدر، وهو اختيار أبي عبيد. وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة - " وصدوا " بكسر الصاد، وكذلك. " هذه بضاعتنا ردت إلينا " (4) [ يوسف: 65 ] بكسر الراء أيضا على ما لم يسم فاعله، وأصلها صددوا ورددت، فلما أدغمت الدال الأولى في الثانية نقلت حركتها على ما قبلها فانكسر. (ومن يضلل الله) بخذلانه. (فما له من هاد) أي موفق، وفي هذا إثبات قراءة الكوفيين (1) كذا في الإصول. ويبدو أن في العبارة نقصا، ولعل الرابع ما في البحر: وقيل.. أم متصلة والتقدير أم تنبؤنه بظاهر من القول لا حقيقة له. (2) راجع ج‍ 8 ص 25. (3) راجع ج‍ 16 ص 283. (4) راجع ص 223 من هذا الجزء. (*)
[ 324 ]
ومن تابعهم، لقوله: " ومن يضلل الله " فكذلك قوله: " وصدوا ". ومعظم القراء يقفون على الدال من غير الياء، وكذلك " وال " و " واق "، لأنك تقول في الرجل: هذا قاض ووال وهاد، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين. وقرئ " فما له من هادي "، " والي " و " واقي " بالياء، وهو على لغة من يقول: هذا داعي ووالى وواقي بالياء، لأن حذف الياء في حالة الوصل لالتقائها مع التنوين، وقد أمنا هذا في الوقف، فردت الياء فصار هادي ووالي وواقي. وقال الخليل في نداء قاض: يا قاضي بإثبات الياء، إذ لا تنوين مع النداء، كما لا تنوين في نحو الداعي والمتعالي. قوله تعالى: (لهم عذاب في الحياة الدنيا) أي للمشركين الصادين، بالقتل والسبي والإسار، وغير ذلك من الأسقام والمصائب. (ولعذاب الآخرة أشق) أي أشد، من قولك: شق علي كذا يشق. (وما لهم من الله من واق) أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع. و " من " زائدة. قوله تعالى: مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكفرين النار (35) قوله تعالى: (مثل الجنة التى وعد المتقون) اختلف النحاة في رفع " مثل " فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر محذوف، والتقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الجنة. وقال الخليل: ارتفع بالابتداء وخبره " تجري من تحتها الأنهار " أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، كقولك: قولي يقوم زيد، فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره، والمثل بمعنى الصفة موجود، قال الله تعالى: " ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل " (1) [ الفتح: 29 ] وقال: " ولله المثل الأعلى " (2) [ النحل: 60 ] أي الصفة العليا، وأنكره أبو علي وقال: لم يسمع مثل بمعنى الصفة، إنما معناه الشبه، ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولهم: مررت برجل مثلك، كما تقول: مررت برجل شبهك، قال: ويفسد أيضا من جهة المعنى، لأن مثلا (1) راجع ج‍ 16 ص 192. (2) راجع ج‍ 10 ص 119. (*)
[ 325 ]
أذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام: صفة الجنة التي فيها أنهار، وذلك غير مستقيم، لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها. وقال الزجاج: مثل الله عز وجل لنا ما غاب عنا بما نراه، والمعنى: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، وأنكره أبو علي فقال: لا يخلو المثل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله، لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح، لأنك إذا قلت: صفة الجنة جنة، فجعلت الجنة خبرا لم يستقم ذلك، لأن الجنة لا تكون الصفة، وكذلك أيضا شبه الجنة جنة، ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حدث، والجنة غير حدث، فلا يكون الأول الثاني. وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد، والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل، كقوله: " ليس كمثله شئ " (1) [ الشورى: 11 ]: أي ليس هو كشئ (2). وقيل التقدير: صفة الجنة التي وعد المتقون صفة جنة " تجري من تحتها الأنهار ". وقيل معناه: شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدة والخلود، قاله مقاتل. (أكلها دائم) لا ينقطع، وفي الخبر: " إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى " وقد بيناه في " التذكرة ". (وظلها) أي وظلها كذلك، فحذف، أي ثمرها لا ينقطع، وظلها لا يزول، وهذا رد على الجهمية في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفني. (تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار) أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها. قوله تعالى: والذين ءاتينهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مئاب (36) قوله تعالى: (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سلام وسلمان، والذين جاءوا من الحبشة، فاللفظ عام، والمراد الخصوص. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن، وقاله مجاهد (1) راجع ج‍ 16 ص 8. (2) في ى: ليس كهو سئ. (*)
[ 326 ]
وابن زيد. وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم. وقال أكثر العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فسألوا النبي عن ذلك، فأنزل الله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " (1) [ الإسراء: 110 ] فقالت قريس: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرحمن ! والله ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فنزلت: " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " (2) [ الأنبياء: 36 ] " وهم يكفرون بالرحمن " [ الرعد: 30 ] ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن، فأنزل الله تعالى: " والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ". (ومن الأحزاب) يعني مشركي مكة، ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس. وقيل: هم العرب المتحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: ومن أعداء المسلمون من ينكر بعض ما في القرآن، لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السماوات والأرض. (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به) قراءة الجماعة بالنصب عطفا على " أعبد ". وقرأ أبو خالد (3) بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأتبرأ عن المشركين، ومن قال: المسيح ابن الله وعزير ابن الله، ومن اعتقد التشبيه كاليهود. (إليه أدعو) أي إلى عبادته أدعو الناس. (وإليه مآب) أي أرجع في أموري كلها. قوله تعالى: وكذلك أنزلنه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا واق (37) قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عربيا، وإنما وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا. وقيل نظم الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب، ويريد بالحكم ما فيه (1) راجع ج‍ 10 ص 342. (2) راجع ج‍ 11 ص 287. (3) في ح‍ وا وى: أبو خليد: وهو عتبة بن حماد الحكمى وروى عن نافع. غاية النهاية. (*)
[ 327 ]
من الأحكام. وقيل: أراد بالحكم العربي القرآن كله، لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. (ولئن اتبعت أهواءهم) أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله، وفي التوجيه إلى غير الكعبة. (بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولى) أي ناصر ينصرك. (ولا واق) يمنعك من عذابه، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة. قوله تعالى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بأية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38) فيه مسئلتان: الأولى - قيل: إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله هذه والآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) أي جعلناهم بشرا يقضون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي. الثانية - هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهي عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها، قال صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم) الحديث. وقد تقدم في " آل عمران " (1) وقال: (من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني) (2). ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزني، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة فقال: " من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه " خرجه الموطأ وغيره. وفي صحيح البخاري عن أنس قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي (1) راجع ج 4 ص 72 فما بعد. (2) روى ابن الجوزى في العلل " ومن تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي " وراجع الحديث بطرقه في ج‍ 2 كشف الخفا ص 239 ففيه بحث. (*)
[ 328 ]
صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: إني أصوم الدهر فلا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إليهم ] (1) فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ". خرجه مسلم بمعناه، وهذا أبين. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا، وقد تقدم في " آل عمران " (2) الحض على طلب الولد والرد على من جهل ذلك. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: إني لا تزوج المرأة وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها، قيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال: حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة، وإني سمعته يقول: " عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " يعني بقول: " أنتق أرحاما " أقبل للولد، ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق، لأنها ترمي بالأولاد رميا. وخرج أبو داود عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت آمرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها ؟ قال " لا " ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ". صححه أبو محمد عبد الحق وحسبك. قوله تعالى: (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل [ الله ] (3) ذلك فيهم، وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي، لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. (لكل أجل كتاب) أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله، قال الحسن. وقيل: فيه تقديم وتأخير، المعنى: لكل كتاب أجل، قال الفراء (1) من ى. (2) راجع ج‍ 4 ص 72، وج‍ 6 ص 260 فما بعد. (3) من ع. (*)
[ 329 ]
والضحاك، أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت، ووقت معلوم، نظيره. " لكل نبإ مستقر " (1) [ الأنعام: 67 ]، بين أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب، بل لكل أجل كتاب. وقيل: المعنى لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مقدر لا تقف عليه الملائكة. وذكر الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى صلوات الله عليه وسلامه طور سيناء رأى الجبار في إصبعه خاتما، فقال: يا موسى ما هذا ؟ وهو أعلم به، قال: شئ من حلي الرجال، قال: فهل عليه شئ من أسمائي مكتوب أو كلامي ؟ قال: لا، قال: فاكتب عليه " لكل أجل كتاب ". قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39) قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به. " ويثبت " ما يشاء، أي يؤخره إلى وقته، يقال: محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره. " ويثبت " أي ويثبته، كقوله: " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (2) [ الأحزاب: 35 ] أي والذاكرات الله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم " ويثبت " بالتخفيف، وشدد الباقون، وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها، لقول: " يثبت الله الذين آمنوا " (3) [ إبراهيم: 27 ]. وقال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت ". وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء (4)، الخلق والخلق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة، وعنه: هما كتابان سوى أم الكتاب، يمحو الله منهما ما يشاء ويثبت. (وعنده أم الكتاب) الذي لا يتغير منه شئ. قال القشيري: وقيل السعادة والشقاوة والخلق والخلق والرزق لا تتغير، فالآية فيما عدا هذه الأشياء، وفي هذا القول نوع تحكم. قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم، وهذا (1) راجع ج‍ 7 ص 11. (2) راجع ج‍ 14 ص 185. (3) راجع ص 362 من هذا الجزء. (4) في ا و و: إلا ستا. (*)
[ 330 ]
يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي. وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وقال ابن مسعود: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء، فإنك: تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وكان أبو وائل يكثر أن يدعو: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال كعب لعمر بن الخطاب: لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ". وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها: اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره (1) فليصل رحمه ". ومثله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب " فذكره بلفظه سواء، وفيه تأويلان: أحدهما - معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت. والآخر - يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ، والذي في علم الله ثابت لا تبدل له، كما قال: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ". وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه " كيف يزاد في العمر والأجل ؟ ! فقال: قال الله عز وجل: " هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده " (2) [ الأنعام: 2 ]. فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل (1) الأثر: الأجل. سمى به لأنه يتبع العمر. وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن مات لا يبقى له أثر ولا يرى لأقدامه في الأرض أثر النهاية. (2) راجع ج‍ 6 ص 387. (*)
[ 331 ]
الثاني - يعني المسمى عنده - من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله، فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ، ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في أجل البرزخ فإذا تحتم الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان، لقوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " (1) [ الأعراف: 34 ] فتوافق الخبر والآية، وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في أختيار حبر الأمة، والله أعلم. وقال مجاهد: يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة، وقد مضى القول فيه. وقال الضحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شئ ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب. وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب، ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس، قال النحاس: وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، " يمحو الله ما يشاء " يقول: يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، " ويثبت " ما يشاء فلا يبدله، " وعنده أم الكتاب " يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ. وقال سعيد بن جبير أيضا: يغفر ما يشاء - يعني - من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. وقال عكرمة: يمحو ما يشاء - يعني بالتوبة - جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات [ قال تعالى ] (2): " إلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا " (3) [ الفرقان: 70 ] الآية. وقال (1) راجع ج‍ 7 ص 201. (2) الزيادة من " البحر المحيط ". (3) راجع ج‍ 13 ص 77. (*)
[ 332 ]
الحسن: " يمحو الله ما يشاء " من جاء أجله، " ويثبت " من لم يأت أجله. وقال الحسن: يمحو الآباء، ويثبت الأبناء. وعنه أيضا. ينسي الحفظة من الذنوب ولا ينسى. وقال السدي: " يمحو الله ما يشاء " يعني: القمر، " ويثبت " يعني: الشمس، بيانه قوله: " فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة " (1) [ الإسراء: 12 ] وقال الربيع بن أنس: هذا في الأرواح حالة النوم، يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه، بيانه قوله: " الله يتوفى الأنفس حين موتها " (2) الآية [ الزمر: 42 ]. وقال علي بن أبي طالب يمحو الله ما يشاء من القرون، كقوله: " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون " (2) [ يس: 31 ] ويثبت ما يشاء منها، كقوله: " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " (3) [ المؤمنون: 31 ] فيمحو قرنا، ويثبت قرنا. وقيل: هو الرجل يعمل الزمن الطويل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصية الله فيموت على ضلاله، فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بمعصية الله الزمان الطويل ثم يتوب، فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات، ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس. وقيل: يمحو الله ما يشاء - يعني الدنيا - ويثبت الآخرة. وقال قيس بن عباد في اليوم العاشر من رجب: هو اليوم الذي يمحو الله فيه ما يشاء، ويثبت فيه ما يشاء، وقد تقدم عن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان. وقال ابن عباس: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوتة حمراء، لله فيه (4) كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله سبحانه يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء ". والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء الله، وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعا محتوما، وهو الثابت، ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو، والله أعلم. وقال الغزنوي: وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة، فيحتمل التبديل، لأن إحاطة الخلق بجميع علم الله محال، وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل. " وعنده أم الكتاب " أصل ما كتب من الآجال (1) راجع ج‍ 10 ص 227. (2) راجع ج‍ 15 ص 265 وص 22. (3) راجع ج‍ 12 ص 120 فما بعد. (4) من ى. (*)
[ 333 ]
وغيرها. وقيل: أم الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وقد قيل: إنه يجري فيه التبديل. وقيل: إنما يجري في الجرائد الأخر. وسئل ابن عباس عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم الله، وعنه أنه الذكر، دليله قوله تعالى: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " (1) [ الأنبياء: 105 ] وهذا يرجع معناه إلى الأول، وهو معنى قول كعب. قال كعب الأحبار: أم الكتاب علم الله تعالى بما خلق وبما هو خالق. قوله تعالى: وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلغ وعلينا الحساب (40) أو لم يروا أنا نأتى الأرض ننقصا من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41) قوله تعالى: (وإما نرينك بعض الذى نعدهم) " ما " زائدة، والتقدير: وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله: " لهم عذاب في الحياة الدنيا " [ الرعد: 34 ] وقوله: " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة " [ الرعد: 31 ] أي إن أريناك بعض ما وعدناهم (أو نتفوينك فإنما عليك البلاغ) فليس عليك إلا البلاغ، أي التبليغ، (وعلينا الحساب) أي الجزاء والعقوبة. قوله تعالى: (أو لم يروا) يعني، أهل مكة، (أنا نأتى الأرض) أي نقصدها. (ننقصها من من أطرافها) اختلف فيه، فقال ابن عباس ومجاهد: " ننقصها من أطرافها " موت علمائها وصلحائها قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف، وقد قال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم، ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز، إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصاري. وقال مجاهد أيضا (1) راجع ج‍ 11 ص 349. (*)
[ 334 ]
وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين، وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها، وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها. وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى: " أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال أبو عمر بن عبد البر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا، تلقاه أهل العلم بالقبول. قلت: وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، " ننقصها من أطرفها " قال: موت الفقهاء والعلماء، ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شئ، وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم من قول ابن عباس. وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس. قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك (1). وقال الآخر: لضاق عليك حش تتبرز فيه. قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم، والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم ؟ ! أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها. وقيل: [ نقصها ] (2) بجور ولاتها. قلت: وهذا صحيح معنى، فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم. قوله تعالى: (والله يحكم لا معقب لحكمه) أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغيير. (وهو سريع الحساب) أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن. وقيل: لا يحتاج في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان، حسب ما تقدم في " البقرة " (3) بيانه. (1) الحش: موضع قضاء الحاجة. (2) من ى. (3) راجع ج‍ 2 ص 434 فما بعد. (*)
[ 335 ]
قوله تعالى: وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفر لمن عقبى الدار (42) ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب (43) قوله تعالى: (وقد مكر الذين من قبلهم) أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. (فلله المكر جميعا) أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه. وقيل: فلله خير المكر، أي يجازيهم به. (يعلم ما تكسب كل نفس) من خير وشر، فيجازي عليه. (وسيعلم الكافر) كذا قراءه نافع وابن كثير وأبي عمرو. الباقون " الكفار " على الجمع. وقيل: عني [ به ] (1) أبو جهل. (لمن عقبى الدار) أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة، وهذا تهديد ووعيد. قوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) قال قتادة: هم مشركو العرب، أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول، أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك. (قل كفى بالله) أي قل لهم يا محمد: " كفى بالله " أي كفى الله (شهيدا بيني وبينكم) بصدقي وكذبكم. (ومن عنده علم الكتاب) وهذا إحجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب - من آمن منهم - في التفاسير. وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم، وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير. وروى الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: لما أريد [ قتل ] عثمان جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك ؟ قال: جئت في نصرتك، قال: أخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل، [ قال ] (1) فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس فقال: أيها الناس ! إنه كان اسمي في الجاهلية فلان (2)، فسماني (1) من ى. (2) في ى: ولعله تحريف عن حصين. (*)
[ 336 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ونزلت في آيات من كتاب الله، فنزلت في. " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " (1) [ الأحقاف: 10 ] ونزلت في. " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " الحديث. وقد كتبناه بكماله في كتاب " التذكرة ". وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وكان اسمه في الجاهلية حصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله. وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير " ومن عنده علم الكتاب " ؟ قال: هو عبد الله بن سلام. قلت: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية (1) وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة ؟ ! ذكره الثعلبي. وقال القشيري: وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة، فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام، فمن عنده علم الكتاب جبريل، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضحاك: هو الله تعالى، وكانوا يقرءون " ومن عنده علم الكتاب " وينكرون على من يقول: هو عبد الله بن سلام وسلمان، لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ " ومن عنده علم الكتاب " وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك - " ومن عنده " بكسر الميم والعين والدال " علم الكتاب " بضم العين ورفع الكتاب. وقال عبد الله بن عطاء: قلت، لأبي جعفر بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك قال محمد ابن الحنفية. وقيل: جميع المؤمنين، والله أعلم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك، بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم. " أنا مدينة العلم وعلي بابها " وهو حديث باطل (2)، النبي صلى الله عليه وسلم مدينة علم وأصحابه أبوابها، فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم. وأما من قال (1) قيل: السورة مدنية إلا " ولو أن قرآنا " الآيتين. قاله قتادة. وفيها مدنى كثير كقصه بن الطفيل وأربد. ابن عطية. (2) في كشف الخفا بحث، قيم في هذا الحديث ج‍ 1 ص 203 فما بعد. وجزم ابن تيميه بأنه من وضع الشيعة. (*)
[ 337 ]
إنهم جميع المؤمنين فصدق، لأن كل مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بصدقه. قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن. وأما من قال هو عبد الله بن سلام فعول على حديث الترمذي، وليس يمتنع أن ينزل في عبد الله بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا، ويعضده من النظام أن قوله تعالى: " ويقول الذين كفروا " يعني قريشا، فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان. قال النحاس: وقول من قال هو عبد الله بن سلام وغيره يحتمل أيضا، لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا، والله أعلم بحقيقة ذلك.
[ 338 ]
بسم الله الرحمن الرحيم [ صلى الله على محمد وآله وسلم تسليما (1) ] تفسير سورة إبراهيم مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها مدنيتين وقيل: ثلاث، نزلت في الذين حاربوا الله ورسوله وهي قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا " [ إبراهيم: 28 ] إلى قوله: " فإن مصيركم إلى النار " [ إبراهيم: 30 ]. قوله تعالى: الر كتب أنزلنه إليك لتخرج الناس من الظلمت إلى النور بإذن ربهم إلى صرط العزيز الحميد (1) قوله تعالى: (الر كتاب أنزلناه إليك) تقدم معناه. (لتخرج الناس) أي بالكتاب، وهو القرآن، أي بدعائك إليه. (من الظلمات إلى النور) أي من ظلمات الكفر الضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وهذا على التمثيل، لأن الكفر بمنزلة الظلمة، والإسلام بمنزلة النور. وقيل: من البدعة إلى السنة، ومن الشك إلى اليقين، والمعنى متقارب. (بإذن ربهم) أي بتوفيقه إياهم ولطفه بهم، والباء في " بإذن ربهم " متعلقة ب " تخرج " وأضيف الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الداعي والمنذر الهادي. (إلى صراط العزيز الحميد) هو كقولك: خرجت إلى زيد العاقل الفاضل من غير واو، لأنهما شئ واحد، والله هو العزيز الذي لا مثل له ولا شبيه. وقيل: " العزيز " الذي لا يغلبه غالب. وقيل: " العزيز " المنيع في ملكه وسلطانه. " الحميد " أي المحمود بكل لسان، والممجد في كل مكان على كل حال. وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان قوم آمنوا بعيسى ابن مريم، وقوم كفروا به، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر الذين آمنوا بعيسى، فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي. (1) في ووى. (*)
[ 339 ]
قوله تعالى: الله الذى له ما في السموت وما في الأرض وويل للكفرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحيوة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلل بعيد (3) قوله تعالى: (الله الذى له ما في السموات وما الأرض) أي ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا. وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما: " الله " بالرفع على الابتداء " الذي " خبره. وقيل: " الذي " صفة، والخبر مضمر، أي الله الذي له ما في السموات وما في الأرض قادر على كل شئ. الباقون بالخفض نعتا للعزيز الحميد فقدم النعت على المنعوت، كقولك: مررت بالظريف زيد. وقيل: على البدل من " الحميد " وليس صفة، لأن أسم الله صار كالعلم فلا يوصف، كما لا يوصف بزيد وعمرو، بل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى، لأن معناه أنه المنفرد بقدرة الإيجاد. وقال أبو عمرو: والخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما في الأرض. وكان يعقوب إذا وقف على " الحميد " رفع، وإذا وصل خفض على النعت. قال ابن الأنباري: من خفض وقف على " وما في الأرض ". قوله تعالى: (وويل للكافرين من عذاب شديد) قد تقدم معنى الويل في " البقرة " (1) وقال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلكة. " من عذاب شديد " أي من جهنم. (الذين يستحبون الحيوة الدنيا) أي يختارونها على الآخرة، والكافرون يفعلون ذلك. ف‍ " الذين " في موضع خفض صفة لهم. وقيل: في موضع رفع خبر ابتداء مضمر، أي هم الذين. وقيل: " الذين يستحبون " مبتدأ وخبره. " أولئك ". وكل من آثر الدنيا وزهرتها، واستحب (1) راجع ج‍ 2 ص 7 فما بعد. (*)
[ 340 ]
البقاء في نعيمها على النعيم في الآخرة، وصد عن سبيل الله - أي صرف الناس عنه وهو دين الله، الذي جاءت به الرسل، في قول ابن عباس وغيره - فهو داخل في هذه الآية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون " وهو حديث صحيح. وما أكثر ما هم في هذه الأزمان، والله المستعان. وقيل: " يستحبون " أي يلتمسون الدنيا من غير وجهها، لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته. (ويبغونها عوجا) أي يطلبون لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم. والسبيل تذكر وتؤنث. والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرضي، وفي كل ما لم يكن قائما، وبفتح العين في كل ما كان قائما، كالحائط والرمح ونحوه، وقد تقدم في " آل عمران " وغيرها. (أولئك في ضلال بعيد) أي ذهاب عن الحق بعيد عنه. قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم (4) قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول) أي قبلك يا محمد (إلا بلسان قومه) أي بلغتهم، ليبينوا لهم أمر دينهم، ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأن المراد اللغة، فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير، ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية، لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى: " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا " (2) [ سبأ: 28 ]. وقال صلى الله عليه وسلم: " أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ". خرجه مسلم، وقد تقدم. (فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء) رد على القدرية في نفوذ المشيئة، وهو مستأنف، وليس بمعطوف على (1) راجع ج‍ 4 ص 154. (2) راجع ج‍ 14 ص 300. (*)
[ 341 ]
" ليبين " لأن الإرسال إنما وقع للتبيين لا للإضلال. ويجوز النصب في " يضل " لأن الإرسال صار سببا للإضلال، فيكون كقوله: " ليكون لهم عدوا وحزنا " (1) [ القصص: 8 ] وإنما صار الإرسال سببا للإضلال لأنهم كفروا به لما جاءهم، فصار كأنه سبب لكفرهم (والعزيز) تقدم معناه. قوله تعالى: ولقد أرسلنا موسى بايتنا أن أخرج قومك من الظلمت إلى النور وذكرهم بأيم الله إن في ذلك لأيت لكل صبار شكور (5) قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) أي بحجتنا وبراهيننا، أي بالمعجزات الدالة على صدقه. قال مجاهد: هي التسع الآيات (2). (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور " نظيره قوله تعالى: لنبينا عليه السلام أول السورة: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور): " أن " هنا بمعنى أي، كقوله تعالى: " وانطلق الملأ منهم أن امشوا " [ ص: 6 ] أي أمشوا. قوله تعالى: (وذكرهم بأيام الله) أي قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله تعالى. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: بنعم الله عليهم، وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا، أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم، وقد تسمى النعم الأيام، ومنه قول عمرو بن كلثوم (4): وأيام لنا غر طوال (1) راجع ج‍ 13 ص 252. (2) الآيات التسع هي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والسنين ونقص من الثمرات. (3) راجع ج‍ 15 ص 151. (4) البيت من معلقته وتمامه: عصينا الملك فيها أن ندينا وقد يكون تسميتها غرا لعلوهم على الملك وامتناعهم منه، فأيامهم غر لهم، وطوال على أعدائهم، وعليه فلا دليل في البيت على أن الأيام بمعنى النعم. وأيام بالجر عطف على (بأنا) في البيت قبله، ويجوز أن تجعل الواو بدلا من رب. (*)
[ 342 ]
وعن ابن عباس أيضا ومقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة، يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعها. قال ابن زيد: يعني الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية، وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال: بلاؤه. وقال الطبري: وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم، أي بما كان في أيام الله من النعمة (1) والمحنة، وقد كانوا عبيدا مستذلين، واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام الله بلاؤه ونعماؤه " وذكر حديث الخضر، ودل هذا على جواز الوعظ المرفق للقلوب، المقوي لليقين. الخالي من كل بدعة، والمنزه عن كل ضلالة وشبهة. (إن في ذلك) أي في التذكير بأيام الله (لآيات) أي دلالات. (لكل صبار) أي كثير الصبر على طاعة الله، وعن معاصيه. (شكور) لنعم الله. وقال قتادة: هو العبد، إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر - ثم تلا هذه الآية - " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " ". ونحوه عن الشعبي موقوفا. وتواري الحسن البصري عن الحجاج سبع سنين، فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمته فأمت سنته، وسجد شكرا، وقرأ: " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ". وإنما خص بالآيات كل صبار شكور، لأنه يعتبر بها ولا يغفل عنها، كما قال: " إنما أنت منذر من يخشاها " (2) [ النازعات: 45 ] وإن كان منذرا للجميع. قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم (6) وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7) * (هامش) (1) في ا و و: النقمة والمحنة. (2) راجع ج‍ 19 ص 207. (*)
[ 343 ]
قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم) تقدم في " البقرة " مستوفى والحمد لله. قوله تعالى: (وإذ تأذن ربكم) قيل: هو من قول موسى لقومه. وقيل هو من قول الله، أي وأذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. و " تأذن " وأذن بمعنى أعلم، مثل أوعد وتوعد، روي معنى ذلك عن الحسن وغيره. ومنه الأذان، لأنه إعلام، قال الشاعر: فلم نشعر بضوء الصبح حتى * سمعنا في مجالسنا الأذينا وكان ابن مسعود يقرأ: " وإذ قال ربكم " والمعنى واحد. (لئن شكرتم لأزيدنكم) أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي. الحسن: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي. ابن عباس: لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم من الثواب، والمعنى متقارب في هذه الأقوال، والآية تنص في أن الشكر سبب المزيد، وقد تقدم في " البقرة " (2) ما للعلماء في معنى الشكر. وسئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: ألا تتقوى بنعمه على معاصيه. وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة مجددة منك علي. قال: يا داود الآن شكرتني. قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم. وألا يصرفها في غير طاعته، وأنشد الهادي وهو يأكل: أنالك رزقه لتقوم فيه * بطاعته وتشكر بعض حقه فلم تشكر لنعمته ولكن * قويت على معاصيه برزقه فغص باللقمة، وخنقته العبرة. وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة الشكر فتأهب للمزيد. (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) أي جحدتم حقي. وقيل: نعمي، وعد بالعذاب على الكفر، كما وعد بالزيادة على الشكر، وحذفت الفاء التي في جواب الشرط من " إن " للشهرة. (1) راجع ج‍ 1 ص 331. (2) راجع ج‍ 2 ص 171 فما بعد. (*)
[ 344 ]
قوله تعالى: وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنى حميد (8) ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينت فردوا أيديهم في أفوههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب (9) قوله تعالى: (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنى حميد) أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني. " الحميد " أي المحمود. قوله تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود) النبأ الخبر، والجمع الأنباء، قال (1): ألم يأتيك والأنباء تنمي ثم قيل: هو من قول موسى. وقيل: من قول الله، أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى. وخبر قوم نوح وعاد وثمود مشهور قصه الله في كتابه. وقوله: (والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) أي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يعرف نسبهم إلا الله، والنسابون وإن نسبوا إلى آدم فلا يدعون إحصاء جميع الأمم، وإنما ينسبون البعض، ويمسكون عن نسب البعض، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع النسابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا فقال: " كذب النسابون إن الله يقول: " لا يعلمهم إلا الله " ". وقد روي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل. وقال بن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون (1) القائل هو: قيس بن زهير، وتمام البيت: بما لاقت لبون بنى زياد * وبعده: ومحبسها على القرشى تشرى * بأدرع وأسياف حداد وبنو زياد: الربيع بن زياد وإخوته، أخذ لقيس درعا فاستاق قيس إبل الربيع لمكة وباعها لعبد الله بن جدعان - وهو مراده بالقرشى - بدروع وسيوف. (*)
[ 345 ]
أبا لا يعرفون. وكان ابن مسعود يقول حين يقرأ: " لا يعلمهم إلا الله ". كذب النسابون. (جاءتهم رسلهم بالبينات) أي بالحجج والدلالات. (فردوا أيديهم في أفواههم) أي جعل أولئك القوم أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوها غيظا (1) مما جاء به الرسل، إذ كان فيه تسفيه أحلامهم، وشتم أصنامهم، قاله بن مسعود، ومثله قاله عبد الرحمن بن زيد، وقرأ: " عضوا عليكم الأنامل من " الغيظ " (2) [ آل عمران: 119 ]. وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال أبو صالح: كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم: أن أسكت، تكذيبا له، وردا لقوله، وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. والضميران للكفار، والقول الأول أصحها إسنادا، قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص [ عن ] (3) عبد الله في قوله تعالى: " فردوا أيديهم في أفواههم " قال: عضوا عليها غيظا، وقال الشاعر: لو أن سلمى أبصرت تخددي (4) * ودقة في عظم ساقي ويدي وبعد أهلي وجفاء عودي * عضت من الوجد بأطراف اليد وقد مضى هذا المعنى في " آل عمران " (2) مجودا، والحمد لله. وقال مجاهد وقتادة: ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم، فالضمير الأول للرسل، والثاني للكفار. وقال الحسن وغيره: جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم، فالضمير الأول على هذا للكفار، والثاني للرسل. وقيل معناه: أومأوا للرسل أن يسكتوا. وقال مقاتل: أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. وقيل: رد الرسل أيدي القوم في أفواههم. وقيل: إن الأيدي هنا النعم، أي ردوا نعم الرسل بأفواههم، أي بالنطق والتكذيب، ومجئ الرسل بالشرائع نعم، والمعنى: كذبوا بأفواههم ما جاءت به الرسل. و " في " بمعنى الباء، يقال: جلست في البيت وبالبيت، وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض. وقال أبو عبيدة: هو ضرب مثل، أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن (1) من ى، وهى رواية ابن عباس. وفى ا وح‍ و و: عضا. (2) راجع ج‍ 4 ص 182. (3) من ى. (4) التخدد: أن يضطرب اللحم من الهزال. (*)
[ 346 ]
الجواب وسكت: قد رد يده في فيه. وقاله الأخفش أيضا. وقال القتبي: لم نسمع أحدا من العرب يقول: رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به، وقاله المغني: عضوا على الأيدي حنقا وغيظا، لقول الشاعر: تردون في فيه غش الحسو * د حتى يعض علي الأكفا يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه. وقال آخر: قد أفني أنامل أزمة (1) * فأضحى يعض علي الوظيفا وقالوا: - يعني الأمم للرسل: (إنا كفرنا بما أرسلتم به) أي بالإرسال على زعمكم، لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا. (وإنا لفى شك) أي في ريب ومرية. (مما تدعوننا إليه) من التوحيد. (مريب) أي موجب للريبة، يقال: أربته إذ فعلت أمرا أوجب ريبة وشكا، أي نظن أنكم تطلبون الملك والدنيا. قوله تعالى: قالت لهم رسلهم أفى الله شك فاطر السموت والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءاباؤنا فأتونا بسلطن مبين (10) قوله تعالى: (قالت لهم رسلهم) استفهام معناه الإنكار، أي لاشك في الله، أي في توحيده، قال قتادة. وقيل: في طاعته. ويحتمل وجها ثالثا: أفي قدرة الله شك ؟ ! لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها، يدل عليه قوله: (فاطر السموات والأرض) خالقها ومخترعها ومنشئها وموجدها بعد العدم، لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له. (يدعوكم) أي إلى طاعته بالرسل والكتب. (ليغفر لكم من ذنوبكم) قال أبو عبيد: " من " زائدة. وقال سيبويه: هي للتبعيض، ويجوز أن يذكر البعض والمراد منه الجميع. (1) أزمة: عضا، والوظيف لكل ذى أربع: ما فوق الرسغ إلى مفصل الساق. (*)
[ 347 ]
وقيل: " من " للبدل وليست بزائدة ولا مبعضة، أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب. (ويؤخركم إلى أجل مسمى) يعني الموت، فلا يعذبكم في الدنيا. (قالوا إن أنتم) أي ما أنتم. (إلا بشر مثلنا) في الهيئة والصورة، تأكلون مما نأكل، وتشربون مما نشرب، ولستم ملائكة. (تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا) من الأصنام والأوثان (فأتونا بسلطان مبين) أي بحجة ظاهرة، وكان محالا منهم، فإن الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات. قوله تعالى: قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطن إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدنا سبلنا ولنصبرن على ماء اذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (12) قوله تعالى: (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم) أي في الصورة والهيئة كما قلتم. (ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) أي يتفضل عليه بالنبوة. وقيل، بالتوفيق والحكمة والمعرفة والهداية. وقال سهل بن عبد الله: بتلاوة القرآن وفهم ما فيه. قلت: وهذا قول حسن، وقد خرج الطبري من حديث ابن عمر قال قلت لأبي ذر: يا عم أوصني، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: " ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيه صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما من الله تعالى على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره ". (وما كان لنا إن نأتيكم بسلطان) أي بحجة وآية. (إلا بإذن الله) أي بمشيئته، وليس ذلك في قدرتنا، أي لا نستطيع أن نأتي بحجة كما تطلبون إلا بأمره وقدرته، فلفظه لفظ الخبر، ومعناه النفي، لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) تقدم معناه.
[ 348 ]
قوله تعالى: (وما لنا ألا نتوكل على الله) " ما " استفهام في موضع رفع بالابتداء، و " لنا " الخبر، وما بعدها في موضع الحال، التقدير: أي شئ لنا في ترك التوكل على الله. (وقد هدانا سبلنا) أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته، وينجي من سخطه ونقمته. (ولنصبرن) لام قسم، مجازه: والله لنصبرن (على ما آذيتمونا) به، أي من الإهانة والضرب، والتكذيب والقتل، ثقة بالله أنه يكفينا ويثيبنا. (وعلى الله فليتوكل المتوكلون). قوله تعالى: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظلمين (13) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (14) قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا) اللام لام قسم، أي والله لنخرجنكم. (أو لتعودن) أي حتى تعودوا أو إلا أن تعودوا، قاله الطبري وغيره. قال ابن العربي: وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير، فإن " أو " على بابها من التخيير، خير الكفار الرسل بين أن يعودوا في ملتهم أو يخرجوهم من أرضهم، وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده، ألا ترى إلى قوله: " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا. سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا " (1) [ الإسراء: 76 - 77 ] وقد تقدم هذا المعنى في " الأعراف " (2) وغيرها. (في ملتنا) أي إلى ديننا، (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين. ولنسكننكم الأرض من بعدهم). قوله تعالى: (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) أي مقامه بين يدي يوم القيامة، فأضيف المصدر إلى الفاعل. والمقام مصدر كالقيام، يقال: قام قياما ومقاما، وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به. والمقام بفتح الميم مكان الإمامة، وبالضم فعل الإقامة، و " ذلك لمن خاف مقامي " أي قيامي عليه، ومراقبتي له، قال الله تعالى: " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " (3) [ الرعد 33 ]. وقال الأخفش: " ذلك لمن خاف مقامي " أي عذابي، " وخاف وعيد " أي القرآن وزواجره. وقيل: إنه العذاب. والوعيد الاسم من الوعد. (1) راجع ج‍ 10 ص 301. (2) راجع ج‍ 7 ص 350. (3) راجع ص 322 من هذا الجزء. (*)
[ 349 ]
قوله تعالى: واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15) من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد (16) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ (17) قوله تعالى: (واستفتحوا) أي واستنصروا، أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم، قاله ابن عباس وغيره، وقد مضى في " البقرة " (1). ومنه الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر. وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " (2) [ الأنفال: 32 ] الآية. وروي عن ابن عباس. وقيل قال الرسول: " إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا " وقالت الأمم: إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا، عن ابن عباس أيضا، نظيره " ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين " (3) [ العنكبوت: 29 ] " ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " (4) [ الأعراف: 77 ]. (وخاب كل جبار عنيد) الجبار المتكبر الذي لا يري لأحد عليه حقا، هكذا هو عند أهل اللغة، ذكره النحاس. والعنيد المعاند للحق والمجانب له، عن ابن عباس وغيره، يقال: عند عن قومه أي تباعد عنهم. وقيل: هو من العند، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا، قال الشاعر: إذا نزلت فاجعلوني وسطا * إني كبير لا أطيق العندا وقال الهروي قوله تعالى: " جبار عنيد " أي جائر عن القصد، وهو العنود والعنيد والعاند، وفي حديث ابن عباس وسئل عن المستحاضة فقال: إنه عرق عاند. قال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى كالإنسان يعاند، فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته. وقال شمر: العاند الذي لا يرقأ. وقال عمر يذكر سيرته: أضم العنود، قال الليث: العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا، أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به إليها. وقال مقاتل: العنيد المتكبر. وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه. وقيل: العنود والعنيد الذي (1) راجع ج‍ 2 ص 26 فما بعد. (2) راجع ج‍ 7 ص 398. (3) راجع ج‍ 13 ص. 341 (4) راجع ج‍ 7 ص 240. (*)
[ 350 ]
يتكبر على الرسل ويذهب عن طريق الحق فلا يسلكها، تقول العرب: شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق. وقيل: العنيد العاصي. وقال قتادة: العنيد الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله. قلت: والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفا، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر. وقيل: إن المراد به في الآية أبو جهل، ذكره المهدوي. وحكى الماوردي في كتاب { أدب الدنيا والدين } أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله عز وجل: " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " فمزق المصحف وأنشأ يقول: أتوعد كل جبار عنيد * فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد فلم يلبث [ إلا ] (1) أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده. قوله تعالى: (من ورائه جهنم) أي من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعد، قال النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وليس وراء الله للمرء مذهب (2) أي بعد الله جل جلاله، وكذلك قول تعالى: " ومن ورائه عذاب غليظ " أي من بعده، وقوله تعالى: " ويكفرون بما وراءه " [ البقرة: 91 ] (3) أي بما سواه، قاله الفراء. وقال أبو عبيد: بما بعده: وقيل: " من وراثه " أي من أمامه، ومنه قول الشاعر: ومن ورائك يوم أنت بالغه * لا حاضر معجز عنه ولا بادي وقال آخر: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي * وقومي تميم والفلاة ورائيا وقال لبيد: ليس ورائي إن [ تراخت (1) ] منيتي * لزوم العصا تحني عليها الأصابع (1) من و. (2) ويروى: مهرب. (3) راجع ج‍ 2 ص 29. (4) كذا في ديوانه واللسان، وفى الأصل: " إن بلغت منيتى ". (*)
[ 351 ]
يريد أمامي. وفي التنزيل: " كان وراءهم ملك " (1) [ الكهف: 79 ] أي أمامهم، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما. وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك، أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فإن أي في طلبه وسأصل إليه. وقال النحاس في قول " من ورائه جهنم " أي من أمامه، وليس من الأضداد ولكنه من تواري، أي استتر. وقال الأزهري: إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد، وقاله أبو عبيدة أيضا، واشتقاقهما مما توارى واستتر، فجهنم توارى ولا تظهر، فصارت من وراء لأنها لا ترى، حكاه ابن الأنباري وهو حسن. قوله تعالى: (ويسقى من ماء صديد) أي من ماء مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع أسد، أي مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه. وقيل: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم. وقال محمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني. وقيل: هو من ماء كرهته تصد عنه، فيكون الصديد مأخوذا من الصد. وذكر ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ويسقي من ماء صديد يتجرعه " قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله: " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " [ محمد: 15 ] (2) ويقول الله: " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب " [ الكهف: 29 ] " خرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبد الله بن بسر. (يتجرعه) أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته. (ولا يكاد يستسيغه) أي يبتلعه، يقال: جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى. وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا، وأساغه الله إساغة. و " يكاد " صلة، أي يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى: " وما كادوا يفعلون " (4) [ البقرة: 71 ] أي فعلوا بعد إبطاء، ولهذا قال: " يصهر به ما في بطونهم والجلود " [ الحج: 20 ] فهذا يدل على الإساغة. وقال ابن عباس: يجيزه ولا يمر به (6). (ويأتيه الموت (1) راجع ج‍ 11 ص 34. (2) راجع ج‍ 16 ص 237. (3) راجع ج‍ 10 ص 39. (4) راجع ج‍ 1 ص 455. (5) راجع ج‍ 12 ص 27. (6) كذا في الأصل، ولعله " لا يجيزه ولا يمر به ". (*)
[ 352 ]
من كل مكان) قال ابن عباس: أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه، كقوله: " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " (1) [ الزمر: 16 ]. وقال إبراهيم التيمي: يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره، للآلام التي في كل مكان من جسد. وقال الضحاك: إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه. وقال الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا، وهي من أعظم الموت. وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب، لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة، إما حية تنهشه، أو عقرب تلسبه (2)، أو نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب، وقال محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتات، فذلك قوله: " ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ". قال الضحاك: لا يموت فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، ونظيره قوله: " لا يموت فيها ولا يحيا (3) " [ طه: 74 ]. وقيل: يخلق الله في جسده آلاما كل واحد منها كألم الموت. وقيل: " وما هو بميت " لتطاول شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه، ليكون ذلك زيادة في عذابه. قلت: ويظهر من هذا أنه يموت، وليس كذلك، لقول تعالى: " لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها " (4) [ فاطر: 36 ] وبذلك وردت السنة، فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما، والله أعلم. (ومن ورائه) أي من أمامه. (عذاب غليظ) أي شديد متواصل الآلام من غير فتور، ومنه قوله: " وليجدوا فيكم غلظة " (5) [ التوبة: 123 ] أي شدة وقوة. وقال فضيل بن عياض في قول الله تعالى: " ومن ورائه عذاب غليظ " قال: حبس الأنفاس. (1) راجع ج‍ 15 ص 242. (2) تلسبه: تلدغه، وتسفعه تسود وجهه. (3) راجع ج‍ 11 ص 225. (4) راجع ج‍ 14 ص. (5) راجع ج‍ 8 ص 298 فما بعد. (*)
[ 353 ]
قوله تعالى: مثل الذين كفروا بربهم أعملهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلل البعيد (18) ألم تر أن الله خلق السموت والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز (20) قوله تعالى: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد) اختلف النحويون في رفع " مثل " فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: وفيما يتلي عليكم أو يقص " مثل الذين كفروا بربهم " ثم ابتدأ فقال: " أعمالهم كرماد " أي كمثل رماد (اشتدت به الريح). وقال الزجاج: أي مثل الذين كفروا فيما يتلي عليكم أعمالهم كرماد، وهو عند الفراء على إلغاء المثل، التقدير: والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد. وعنه أيضا أنه على حذف مضاف، التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، وذكر الأول عنه المهدوي، والثاني القشيري والثعلبي ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال: صفة فلان أسمر، ف " مثل " بمعنى صفة. ويجوز في الكلام جر " أعمالهم " على بدل الاشتمال من " الذين " واتصل هذا بقوله: " وخاب جبار عنيد " والمعنى: أعمالهم محبطة غير مقبولة. والرماد ما بقي بعد احتراق الشئ، فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف شدة الريح، وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى. وفي وصف اليوم بالعصوف ثلاثة أقاويل: أحدها - أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به، لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما. والثاني - أن يريد " في يوم عاصف " الريح، لأنها ذكرت في أول الكلمة، كما قال الشاعر: إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف يريد كاسف الشمس فحذف، لأنه قد مر ذكره، ذكرهما الهروي. والثالث - أنه من نعت الريح، غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب، ذكره
[ 354 ]
الثعلبي والماوردي. وقرأ ابن [ أبي ] (1) إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر " في يوم عاصف (2) ". (لا يقدرون) يعني الكفار. (مما كسبوا على شئ) يريد في الأخرة، أي من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا، لإحباطه بالكفر. (ذلك هو الضلال البعيد) أي الخسران الكبير، وإنما جعله كبيرا بعيدا لفوات استدراكه بالموت. قوله تعالى: (ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق) الرؤية هنا رؤية القلب، لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه ؟. وقرأ حمزة والكسائي - " خالق السموات والأرض ". ومعنى " بالحق " ليستدل بها على قدرته. (إن يشأ يذهبكم) أيها الناس، أي هو قادر على الإفناء كما قدر على إيجاد الأشياء، فلا تعصوه فإنكم إن عصيتموه (يذهبكم ويأت بخلق جديد) أفضل وأطوع منكم، إذ لو كانوا مثل الأولين فلافائدة في الإبدال. (وما ذلك على الله بعزيز) أي منيع متعذر. قوله تعالى: وبرزوا لله جميعا فقال الضعفؤا للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدنا الله لهدينكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص (21) وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إنى كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظلمين لهم عذاب أليم (22) (1) من ا وز وو وى والبحر. (2) هذه القراءة بإضافة يوم إلى عاصف، ومن قرأ بها أقام الصفة مقام الموصوف، أي في يوم ريح عاصف. وقراءة نافع وابن جعفر: الرياح. على الجميع. (*)
[ 355 ]
قوله تعالى: (وبرزوا لله جميعا) أي برزوا من قبورهم، يعني يوم القيامة. والبروز الظهور. والبراز المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة أي تظهر (1) للناس، فمعنى، " برزوا " ظهروا من قبورهم. وجاء بلفظ، الماضي ومعناه الاستقبال، وأتصل هذا بقوله: " وخاب كل جبار عنيد " أي وقاربوا لما أستفتحوا فأهلكوا، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر. " لله " لأجل أمر الله إياهم بالبروز. (فقال الضعفاء) يعني الأتباع (للذين استكبروا) وهم القادة. (إنا كنا لكم تبعا) يجوز أن يكون تبع مصدرا، التقدير: ذوي تبع. ويجوز أن يكون تابع، مثل حارس وحرس، وخادم وخدم، وراصد ورصد، وباقر وبقر (2). (فهل أنتم مغنون) أي دافعون (عنا من عذاب الله من شئ) أي شيئا، و " من " صلة، يقال: أغني عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. (قالوا لو هدانا الله لهديناكم) أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه. وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل، لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. (سواء علينا) هذا ابتداء خبره " أجزعنا " أي: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) أي من مهرب وملجأ. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر، وبمعنى الاسم، يقال: حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا، والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول أهل النار إذا أشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " ". وقال محمد بن كعب القرظي: ذكر لما أن أهل النار يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء ! قد نزل بكم من البلا والعذاب ما قد ترون، فهلم فلنصبر، فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا، فطال صبرهم فجزعوا، فنادوا: " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا (1) قال في المصباح: امرأة برزه عفيفة تبرز للرجال وتتحدث معهم وهى المرأة التى أسنت وخرجت عن حد المحجوبات. وامرأة برزة بارزة المحاسن. قال الراغب: لأن رفعتها بالعفة لا إن اللفظة ا قتضت ذلك. (2) بقر: شق ووسع (*)
[ 356 ]
ما لنا من محيص " أي منجي، فقام إبليس عند ذلك فقال: " إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم " يقول: لست بمغن عنكم شيئا " وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل " الحديث بطوله، وقد كتبناه في كتاب " التذكرة " بكماله. قوله تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الأمر) قال الحسن: يقف أبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا. ومعنى: " لما قضي الأمر " أي حصل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، على ما يأتي بيانه في " مريم " (1) عليها السلام. (إن الله وعدكم وعد الحق) يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم. وروي ابن المبارك من حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: " فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون قد وجه المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحدثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك: " إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم " الآية. " وعد الحق " هو إضافة الشئ إلى نعته (2) كقولهم: مسجد الجامع، قال الفراء قال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد الحق فصدقكم، فحذف المصدر لدلالة الحال. (وما كان لي عليكم من سلطان) أي من حجة وبيان، أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا، (إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) أي أغويتكم فتابعتموني. وقيل: لم أقهركم على ما دعوتكم إليه. " إلا أن دعوتكم " هو استثناء منقطع، أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم، " فلا تلوموني ولوموا أنفسكم " وقيل: " وما كان لي عليكم من سلطان " أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن (1) راجع ج‍ 11 ص 105. (2) كذا في الإصول. (*)
[ 357 ]
دعوتكم فاستجبتم لي، وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر الجاحد، وفيه نظر، لقوله: " لما قضي الأمر " فإنه يدل على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين، والله أعلم. (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) إذا جئتموني من غير حجة. (ما أنا بمصرخكم) أي بمغيثكم. (وما أنتم بمصرخي) أي بمغيثي. والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث. قال سلامة بن جندل. كنا إذا ما أتانا صارخ فزع * وكان الصراخ له قرع الظنابيب (1) وقال أمية بن أبي الصلت: ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ * وليس لكم عندي غناء ولا نصر يقال: صرخ فلان أي استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. واصطرخ بمعنى صرخ. والتصرخ تكلف الصراخ. والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث، تقول منه: استصرخني فأصرخته. والصريخ صوت المستصرخ. والصريخ أيضا الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من الأضداد، قاله الجوهري. وقراءة العامة " بمصرخي " بفتح الياء. وقرأ الأعمش وحمزة " بمصرخي " بكسر الياء. والأصل فيها بمصرخيين فذهبت النون للإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف، ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل: هواي وعصاي، فإن تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان، مثل: غلامي وغلامتي، ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة. وقال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم منهم (2) عن خطأ. وقال الزجاج: هذه قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال قطرب: هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء. القشيري: والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو ردئ، بل هو في القرآن فصيح، وفيه ما هو أفصح منه، فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح. (إنى كفرت بما أشركتموني (1) الظنابيب (جمع) ظنبوب، وهو حرف الساق اليابس من قدم. وقرع الظنبوب أن يقرع الرجل ظنبوب البعير لينوخ له فيركبه، والمراد هنا سرعة الإجابة. (2) أي من الفراء (*)
[ 358 ]
من قبل) أي كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة، ف " ما " بمعنى المصدر. وقال ابن جريج (1): إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من الشرك بالله تعالى. قتادة: إني عصيت الله. الثوري: كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا. (إن الظالمين لهم عذاب أليم). وفي هذه الأيات رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم، انظر إلى قول المتبوعين: " لو هدانا الله لهديناكم " وقول إبليس: " إن الله وعدكم وعد الحق " كيف اعترفوا بالحق في صفات الله تعالى وهم في دركات النار، كما قال في موضع آخر: " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها " [ الملك: 8 ] إلى قوله: " فاعترفوا بذنبهم " (2) [ الملك: 11 ] واعترافهم في دركات لظي بالحق ليس بنافع، وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا، قال الله عز وجل: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم " (3) [ التوبة: 102 ] و " عسى " من الله واجبة (4). قوله تعالى: وأدخل الذين ءامنوا وعملموا الصلحت جنت تجرى من تحتها الأنهار خلدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلم (23) قوله تعالى: (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات) أي في جنات لأن دخلت لا يتعدى، كما لا يتعدى نقيضه وهو خرجت، ولا يقاس عليه، قاله المهدوي. ولما أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة أيضا. وقراءة الجماعة " أدخل " على أنه فعل مبني للمفعول. وقرأ الحسن " وأدخل " على الاستقبال والاستئناف. (بإذن ربهم) أي بأمره. وقيل: بمشيئته وتيسيره. وقال: " بإذن ربهم " ولم يقل: بإذني تعظيما وتفخيما. (تحيتهم فيها سلام) تقدم في " يونس " (3). والحمد لله. قوله تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) (1) كذا في ع، وفى ا وج‍ و و: ابن بجر. (2) راجع ج‍ 18 ص 212. (3) راجع ج‍ 8 ص 241 وص 313. (4) أي ما دلت عليه محقق الحصول من الله. (*)
[ 359 ]
فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا) لما ذكر تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ذكر مثل أقوال المؤمنين وغيرها، ثم فسر ذلك المثل فقال: (كلمة طيبة) الثمر، فحذف لدلالة الكلام عليه. قال ابن عباس: الكلمة الطيبة لا إله إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن. وقال مجاهد وابن جريج: الكلمة الطيبة الإيمان. عطية العوفي والربيع بن أنس: هي المؤمن نفسه. وقال مجاهد أيضا وعكرمة: الشجرة النخلة، فيجوز أن يكون المعنى: أصل الكلمة في قلب المؤمن - وهو الإيمان - شبهه بالنخلة في المنبت، وشبه ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة، وثواب الله له بالثمر. وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة الإيمان عروقها والصلاة أصلها والزكاة فروعها والصيام أغصانها والتأذي الله نباتها وحسن الخلق ورقها والكف عن محارم الله ثمرتها ". ويجوز أن يكون المعنى: أصل النخلة ثابت في الأرض، أي عروقها تشرب من الأرض وتسقيها السماء من فوقها، فهي زاكية نامية. وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع (1) فيه رطب، فقال: " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها - قال - هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار - قال - هي الحنظل ". وروي عن أنس قوله [ وقال ]: وهو أصح (2). وخرج الدارقطني عن ابن عمر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدرون ما هي " فوقع في نفسي أنها النخلة. قال السهيلي ولا يصح فيها ما روي عن علي بن أبي طالب أنها جوزة الهند، لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر " إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي - ثم قال - هي النخلة " خرجه مالك في " الموطأ " من رواية ابن القاسم وغيره إلا يحيى فإنه أسقطه من روايته. وخرجه أهل الصحيح وزاد (1) القناع: الطبق من عسب النخل يوضع فيه الطعام والفاكهة. (2) أي قال الترمذي: والحديث الموقوف أصح. (*)
[ 360 ]
فيه الحارث بن أسامة زيادة تساوي رحلة (1)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وهى النخلة لا تسقط لها أنملة وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة ". فبين معنى الحديث والمماثلة وذكر الغزنوي عنه عليه السلام: " مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك وإن جالسته نفعك وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شئ منها ينتفع به ". وقال: " كلوا من عمتكم " يعني النخلة خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام، وكذلك أنها برأسها تبقي، وبقلبها تحيا، وثمرها بامتزاج الذكر والأنثى. وقد قيل: إنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به، وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت الغصون من جوانبها، والنخلة إذا قطع رأسها يبست وذهبت أصلا، ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوان في الالتقاح لأنها لا تحمل حتى تلقح قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة (2) ". والإبار اللقاح وسيأتي في سورة " الحجر " (3) بيانه. ولأنها من فضلة طينة آدم. ويقال: إن الله عز وجل لما صور آدم من الطين فضلت قطعة طين فصورها بيده وغرسها في جنة عدن. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أكرموا عمتكم " قالوا: ومن عمتنا يا رسول الله ؟ قال: " النخلة ". (تؤتي أكلها كل حين) قال الربيع: " كل حين " غدوة وعشية كذلك يصعد عمل المؤمن أول النهار وآخره، وقاله ابن عباس. وعنه " تؤتى أكلها كل حين " قال: هو شجرة [ جورة ] (4) الهند لا تتعطل من ثمرة، تحمل في كل شهر، شبه عمل المؤمن لله عز وجل في كل وقت: بالنخلة التي تؤتي أكلها في أوقات مختلفة. وقال الضحاك: كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يوكل في جميع الأوقات، وكذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها. وقال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة، لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي بيت النابغة: تناذرها الراقون من سوء سمها * تطلقه حينا وحينا تراجع (1) أي يجب أن يرحل إليها لروايتها. (2) السكة: الطريقة المصطفة من النخل، والمهرة المأمورة الكثيرة النسل والنتاج، أراد خير المال نتاج أو زرع. (3) راجع ج‍ 10 ص 15. (4) من ى. (5) البيت في وصف حيه، و " تناذرها الراقون " أي أنذر بعضهم بعضا ألا يتعرضوا لها. ومعنى: " تطلقه حينا وحينا تراجع " أنها تخفى الأوجاع عن السليم تارة، وتارة تشتد عليه. ويروى: " من سوء سمعها " أي لا تجيب الراقي لا أنها صماء، لقولهم: أسمع من حية. (*)
[ 361 ]
فهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت، فالإيمان ثابت في قلب المؤمن، وعمله وقوله وتسبيحه عال مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها، من الرطب والبسر والبلح (1) والزهو والتمر والطلع. وفي رواية عن ابن عباس: إن الشجرة شجرة في الجنة تثمر في كل وقت. و " مثلا " مفعول ب " ضرب "، " وكلمة " بدل منه والكاف في قوله: " كشجرة " في موضع نصب على الحال من " كلمة " التقدير: كلمة طيبة مشبهة بشجرة طيبة. الثانية - قوله تعالى: " تؤتى أكلها كل حين " لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين، ولهذا قلنا: من حلف ألا يكلم فلانا حينا، ولا يقول كذا حينا إن الحين سنة. وقد ورد الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " (2) [ الإنسان: 1 ] قيل في " التفسير ": أربعون عاما. وحكى عكرمة أن رجلا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى عمر بن عبد العزيز فسأل، فسألني عنها فقلت: إن من الحين حينا لا يدرك، قوله: " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " (3) [ الأنبياء: 111 ] فأرى أن تمسك ما بين صرام (4) النخلة إلى حملها، فكأنه أعجبه، وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا لعكرمة وغيره. وقد مضى ما للعلماء في الحين في " البقرة " (5) مستوفي والحمد لله. (ويضرب الله الأمثال) أي الأشباه (للناس لعلهم يتذكرون) ويعتبرون، وقد تقدم. قوله تعالى: ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (26) قوله تعالى: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة) الكلمة الخبيثة كلمة الكفر. وقيل: الكافر نفسه. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد (1) الزهو: البسر الملون. (2) راجع ج‍ 19 ص 119. (3) راجع ج‍ 11 ص 350. (4) صرام النخلة: حين يقطع ثمرها. (5) راجع ج‍ 1 ص 321 فما بعد. (*)
[ 362 ]
وغيرهما، وعن ابن عباس أيضا: أنها شجرة لم تخلق على الأرض. وقيل: هي شجرة الثوم، عن ابن عباس أيضا. وقيل: الكمأة أو الطحلبة. وقيل: الكشوث، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض، قال الشاعر: وهم كشوث فلا أصل ولا ورق (1) (أجتثت من فوق الأرض) أقتلعت من أصلها، قال ابن عباس، ومنه قول لقيط: (2) هو الجلاء الذي تجتث أصلكم * فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا وقال المؤرج: أخذت جثتها وهي نفسها، والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما. وجثه قلعه، واجتثه اقتلعه من فوق الأرض، أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض. (ما لها من قرار) أي من أصل في الأرض. وقيل: من ثبات، فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات ولا خير فيه، وما يصعد له قول طيب ولاعمل صالح. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة في قوله تعالى: " ضرب الله مثلا كلمة طيبة " قال: لا إله إلا الله " كشجرة طيبة " قال: المؤمن، " أصلها ثابت " لاإله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن، " ومثل كلمة خبيثة " قال: الشرك، " شجرة خبيثة " قال: المشرك، " اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار " أي ليس للمشرك أصل يعمل عليه. وقيل: يرجع المثل إلى الدعاء إلى الإيمان، والدعاء إلى الشرك، لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشئ. قوله تعالى: يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفى الأخرة ويضل الله الظلمين ويفعل الله ما يشاء (27) قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) قال ابن عباس: هو لا إله إلا الله. وروى النسائي عن البراء قال قال: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت (1) تمامه: ولا نسيم ولا ظل ولا تمر يريد أنهم لا حسب لهم ولا نسب. رواية اللسان والتاج: هو الكشوث. (2) هو لقيط بن معمر الأيادي، والبيت من قصيدة بعث بها إلى قومه يحذرهم كسرى وجيشه، فلم يلتفتوا إلى قوله، فظفر بهم كسرى وهزمهم. (*)
[ 363 ]
في الحياة الدنيا وفي الآخرة " نزلت في عذاب القبر، يقال: من ربك ؟ فيقول: ربي الله وديني دين محمد، فذلك قوله: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ". قلت: وقد جاء هكذا موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء [ أنه ] قوله (1)، والصحيح فيه الرفع كما في صحيح مسلم وكتاب النسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم، عن (2) البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر البخاري، حدثنا جعفر بن عمر، قال حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ". وقد بينا هذا الباب في كتاب " التذكرة " وبينا هناك من يفتن في قبره ويسأل، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك. وقال سهل بن عمار: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك ؟ فقال: أتاني في قبري ملكان فظان غليظان، فقالا: ما دينك ومن ربك ومن نبيك ؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت: المثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة ؟ ! فذهبا وقالا (3): أكتبت عن حريز بن عثمان ؟ قلت نعم ! فقالا: إنه كان يبغض [ عليا ] فأبغضه الله. وقيل: معنى، " يثبت الله " يديمهم الله على القول الثابت، ومنه قول عبد الله بن رواحة: يثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذي نصرا وقيل: يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت. وقال القفال وجماعة: " في الحياة الدنيا " أي في القبر، لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا، " وفي الآخرة " أي عند الحساب، وحكاه الماوردي عن البراء قال: المراد بالحياة الدنيا المسألة في القبر، وبالآخرة المسألة في القيامة: ويضل الله الظالمين) أي عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا (1) أي قول البراء. (2) في ى: قال البراء. (3) في التهذيب غير هذا فليراجع. (4) في الأصول " عثمان " ومثله في كتاب " التذكرة " للمؤلف. والذى في " تهذيب التهذيب " أنه كان يبغض عليا. (*)
[ 364 ]
بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري، فيقول: لا دريت ولا تليت (1)، وعند ذلك يضرب بالمقامع (2) على ما ثبت في الأخبار، وقد ذكرنا ذلك في كتاب " التذكرة ". وقيل: يمهلهم حتى يزدادوا ضلالا في الدنيا. (ويفعل الله ما يشاء) من عذاب قوم وإضلال قوم. وقيل: إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مسألة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر: يا رسول الله إيكون معي عقلي ؟ قال: " نعم " قال: كفيت إذا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. قوله تعالى: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (30) قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) أي جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا، والمراد مشركو قريش وأن الآية نزلت فيهم، عن ابن عباس وعلي وغيرهما. وقيل: نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر. قال أبو الطفيل: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هم قريش الذين نحروا يوم بدر. وقيل: نزلت في الأفجرين من قريش بني محزوم وبني أمية، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر، قاله علي بن أبي طالب وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما. وقول رابع: أنهم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم فجعل له عمر القصاص بمثلها، فلم يرض وأنف فارتد متنصرا ولحق بالروم في جماعة من قومه، عن ابن عباس وقتادة. ولما صار إلى بلد الروم ندم فقال: (1) قيل في معنى " ولاتليت ": ولا تلوت، أي لا قرأت، من تلا يتلوا، وقالوا تليت بالياء ليعاقب بها الياء في دريت. (2) المقامع: سياط من حديد رؤوسها معوجة. (*)
[ 365 ]
تنصرت الأشراف من عار لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر كنفني منها لجاج ونخوة * وبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليتني أرعى المخاض ببلدة * ولم أنكر القول الذي قاله عمر وقال الحسن: إنها عامة في جميع المشركين. (وأحلوا قومهم) أي أنزلوهم. قال ابن عباس: هم قادة المشركين يوم بدر. " أحلوا قومهم " أي الذين أتبعوهم. (دار البوار) قيل: جهنم، قاله ابن زيد. وقيل: يوم بدر، قاله علي بن أبي طالب ومجاهد. والبوار الهلاك، ومنه قول الشاعر: فلم أر مثلهم أبطال حرب * غداة الحرب إذ خيف البوار (جهنم يصلونها) بين أن دار البوار جهنم كما قال ابن زيد، وعلى هذا لا يجوز الوقف على " دار البوار " لأن جهنم منصوبة على الترجمة عن " دار البوار " فلو رفعها رافع بإضمار، على معنى: هي جهنم، أو بما عاد من الضمير في " يصلونها " لحسن الوقف على " دار البوار ". (وبئس القرار) أي المستقر. قوله تعالى: (وجعلوا لله أندادا) أي أصناما عبدوها، وقد تقدم في " البقرة " (1). (ليضلوا عن سبيله) أي عن دينه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، وكذلك في الحج " ليضل عن سبيل الله " (2) [ الحج: 9 ] ومثله في " لقمان " (2) و " الزمر " (2) وضمها الباقون على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وأما من فتح فعلى معنى أنهم هم يضلون عن سبيل الله على اللزوم، أي عاقبتم إلى الإضلال والضلال، فهذه لام العاقبة. (قل تمتعوا) وعيد لهم، وهو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ الدنيا إذ هو منقطع. (فإن مصيركم إلى النار) أي مردكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم. قوله تعالى: قل لعبادي الذين ءامنوا يقيموا الصلوة وينفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلل (31) (1) راجع ج‍ 1 ص 230 فما بعدها. (2) راجع ج‍ 12 ص 16، وج‍ 56، وج‍ 15 ص 237. (*)
[ 366 ]
قوله تعالى: (قل لعبادي الذين آمنوا) أي إن أهل مكة بدلوا نعمة الله بالكفر، فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن (يقيموا الصلاة) يعني الصلوات الخمس، أي قل لهم أقيموا، والأمر معه شرط مقدر، تقول: أطع الله يدخلك الجنة، أي إن أطعته يدخلك الجنة، هذا قول الفراء. وقال الزجاج: " يقيموا " مجزوم بمعنى اللام، أي ليقيموا فأسقطت اللام لأن الأمر دل على الغائب ب " قل ". قال: ويحتمل أن يقال: " يقيموا " جواب أمر محذوف، أي قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة. (وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) يعني الزكاة، عن ابن عباس وغيره. وقال الجمهور: السر ما خفي والعلانية ما ظهر. وقال القاسم ابن يحيى: إن السر التطوع والعلانية الفرض، وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " (1) مجودا عند قوله: " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " [ البقرة: 271 ]. (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) تقدم في " البقرة " (1) أيضا. و " خلال " جمع خلة كقلة وقلال. قال (2): فلست بمقلي الخلال ولا قالي قوله تعالى: الله الذى خلق السموت والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرت رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهر (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم اليل والنهار (33) وءاتكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار (34) قوله تعالى: (الله الذى خلق السموات والأرض) أي أبدعها واخترعها على غير مثال سبق. (وأنزل من السماء) أي من السحاب. (ماء فأخرج به من الثمرات) أي من الشجر (1) راجع ج‍ 3 ص 332 فما بعد وص 266 فما بعد. (2) قاله امرء القيس، وصدر البيت: صرفت الهوى عنهن من خشية الردى. (*)
[ 367 ]
ثمرات (رزقا لكم). (وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره) تقدم معناه في " البقرة " (1). (وسخر لكم الأنهار) يعني البحار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا، والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات. (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) أي في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، والدؤوب مرور الشئ في العمل على عادة جارية. وقيل: دائبين في السير امتثالا لأمر الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران، روي معناه عن ابن عباس. (وسخر لكم الليل والنهار) أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، كما قال: " ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله " (2) [ القصص: 73 ]. قوله تعالى: (وآتاكم من كل ما سألتموه) أي أعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئا، فحذف، عن الأخفش. وقيل: المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه، ومن كل ما لم تسألوه فحذف، فلم نسأله شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من نعمه التي ابتدأنا بها. وهذا كما قال: " سرابيل تقيكم الحر " (3) [ النحل: 81 ] على ما يأتي. وقيل: " من " زائدة، أي أتاكم كل ما سألتموه. وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما " وآتاكم من كل " بالتنوين " ما سألتموه " وقد رويت هذه القراءة عن الحسن والضحاك وقتادة، هي على النفي أي من كل ما لم تسألوه، كالشمس والقمر وغيرهما. وقيل: من كل شئ ما سألتموه أي الذي ما سألتموه. (وإن تعدوا نعمة الله) أي نعم الله. (لا تحصوها) ولا تطيقوا عدها، ولا تقوموا بحصرها لكثرتها، كالسمع والبصر وتقويم الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق، [ نعم لا تحصى ] (4) وهذه النعم من الله، فلم تبدلون نعمة الله بالكفر ؟ ! وهلا استعنتم بها على الطاعة ؟ ! (إن الإنسان لظلوم كفار) الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص، قال ابن عباس: أراد أبا جهل. وقيل: جميع الكفار. قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم ربى اجعل هذا البلد ءامنا واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36) (1) راجع ج‍ 2 ص 194. (2) راجع ج‍ 13 ص 108. (3) راجع ج‍ 10 ص 160. (4) من ا وج‍ وو وى. (*)
[ 368 ]
قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا) يعني مكة وقد مضى في " البقرة " (1). (واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام) أي أجعلني جانبا عن عبادتها، وأراد بقوله: " بني " بنيه من صلبه وكانوا ثمانية، فما عبد أحد منهم صنما. وقيل: هو دعاء لمن أراد الله أن يدعو له. وقرأ الجحدري وعيسى " وأجنبني " بقطع الألف والمعنى واحد، يقال: جنبت ذلك الأمر، وأجنبته وجنبته إياه فتجانبه وأجتنبه أي تركه. وكان إبراهيم التيمي يقول في قصصه: من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول " وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام " كما عبدها أبي وقومي. قوله تعالى: (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) لما كانت سببا للإضلال أضاف الفعل إليهن مجازا، فإن الأصنام جمادات لا تفعل (2). (فمن تبعني) في التوحيد. (فانه مني) أي من أهل ديني. (ومن عصاني) أي أصر على الشرك. (فإنك غفور رحيم) قيل: قال هذا قبل أن يعرفه الله أن الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل: غفور رحيم لمن تاب من معصيته قبل الموت. وقال مقاتل بن حيان: " ومن عصاني " فيما دون الشرك. قوله تعالى: ربنا إنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) فيه ست مسائل: الأولى - روى البخاري عن ابن عباس: أول ما آتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، أتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس (1) راجع ج‍ 2 ص 117 فما بعد. (2) ف ى: لاتعقل. (3) المنطق: النطاق وهو أن تلبس المرأة ثوبها ثم تشد وسطها بشئ، وترفع وسط ثوبها وترسله على الأسفل عند معاناة الأشغال لئلا تعثر في ذيلها (*)
[ 369 ]
بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم ! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس (1) ولا شئ، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا ؟ قال: نعم. قالت إذا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم. حتى إذا كان عند التثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع " [ إبراهيم: 37 ] حتى بلغ " يشكرون " وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط (2) - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فذلك سعي الناس بينهما " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه ! تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت، إن كان عندك غواث ! (3) فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول (4) بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا " قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله وذكر الحديث بطوله. (1) في ى و و: أنيس. (2) يتلبط: يتمرغ. (3) غواث: (بالفتح) كالغياث (بالكسر) من الإغاثة وهى الإعانة. (4) " وتقول بيدها هكذا ": هو حكاية فعلها وهو من إطلاق القول على الفعل. (قسطلاني). (*)
[ 370 ]
مسألة - لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله في الحديث: الله أمرك بهذا ؟ قال: نعم. وقد روي أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه وأمته هنالك وركب منصرفا من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بضمن هذه الآية. الثانية - لما أراد الله تأسيس الحال، وتمهيد المقام، وخط الموضع للبيت المكرم، والبلد المحرم، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء، وفي الصحيح: أن أبا ذر رضي الله عنه أجتزا به ثلاثين بين يوم وليلة، قال أبو ذر: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني (1)، وما أجد على كبدي سخفة جوع (2)، وذكر الحديث. وروي الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة (3) جبريل وسقيا الله إسماعيل ". وروي أيضا عن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء. قال ابن العربي: وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذبا، ولا يشربه مجربا، فإن الله مع المتوكلين، وهو يفضح المجربين. وقال أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال: دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر (4) حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج، فذكرت هذا الحديث، فدخلت زمزم فتضلعت (5) منه، فذهب عني إلى الصباح. وروي عن عبد الله بن عمرو: إن في زمزم عينا في الجنة من قبل الركن. (1) جمع عكنة: وهى ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنا. (2) سخفة الجوع: رقته وهزاله. (3) هزمة جبريل: أي ضربها برجله فنبع الماء. (4) العصر: المنع والحبس. (5) تضلع: أكثر من الشرب حتى تمدد جنبه وأضلاعه. (*)
[ 371 ]
الثالثة - قوله تعالى: (ومن ذريتي) " من " في قوله تعالى: " من ذريتي " للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي، يعني إسماعيل وأمه، لأن إسحاق كان بالشام. وقيل: هي صلة، أي أسكنت ذريتي. الرابعة - قوله تعالى: (عند بيتك المحرم) يدل على أن البيت كان قديما على ماروي قبل الطوفان، وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة " (1) واضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره، ووصفه بأنه محرم، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال. وقيل: محرم على الجبابرة، وأن تنتهك حرمته، ويستخف بحقه، قاله قتادة وغيره. وقد مضى القول في هذا في " المائدة " (2). الخامسة - قوله تعالى: (ربنا ليقيموا الصلاة) خصها من جملة الدين لفضلها فيه، ومكانها منه، وهي عهد الله عند العباد، قال صلى الله عليه وسلم: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد ". الحديث. واللام في " ليقيموا الصلاة " لام كي، هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة ب " أسكنت " ويصح أن تكون لام أمر، كأنه رغب إلى الله [ أن يأتمنهم (3) و ] أن يوفقهم لإقامة الصلاة. السادسة - تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها، لأن معنى " ربنا ليقيموا الصلاة " أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه. وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة مسجدي هذا بمائة صلاة ". قال الإمام الحافظ أبو عمر: وأسند هذا الحديث حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله ابن الزبير وجوده، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه، وكان ثقة. قال ابن أبي خيثمة سمعت (1) راجع ج‍ 2 ص 120 فما بعد. (2) راجع ج‍ 6 ص 325. (3) من ى. (*)
[ 372 ]
يحيى بن معين يقول: حبيب المعلم ثقة. وذكر عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول: حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه ! وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال: بصري ثقة. قلت - وقد خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف. والحمد لله. قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير، رواه موسى الجهني عن نافع عن ابن عمرو، وموسى الجهني [ الكوفي ] (1) ثقة، أثني عليه القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم. وروى عنه شعبة. والثوري ويحيى بن سعيد. وروى حكيم بن سيف، حدثنا عبيدالله بن عمر، عن عبد الكريم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه ". وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازي، وأخذ عنه ابن وضاح، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به. فإن كان (2) حفظ فهما حديثان، وإلا فالقول قول حبيب المعلم. وروى محمد بن وضاح، حدثنا يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل ". قال أبو عمر: وهذا كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به عصبيته. وذكر ابن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب. وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلي في المسجد الحرام. وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم، وإلى هذا ذهب الشافعي. وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين، وروي مثله عن مالك، ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن (1) من ى. هو موسى بن عبد الله الجهنى الكوفى. (2) في ى: حفظ فيهما حديثان. (*)
[ 373 ]
آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض قال: يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها ؟ قال: بل مكة. والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك، فطائفة تقول مكة، وطائفة تقول المدينة. قوله تعالى: (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر: وإن فؤادا قادني بصبابة * إليك على طول المدى لصبور وقيل: جمع وفد، والأصل أوفدة، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال: واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم، أي تنزع، يقال: هوي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر، وقوله: " تهوي إليهم " مأخوذ منه. قال ابن عباس ومجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال: " من الناس " فهم المسلمون، فقوله: " تهوي إليهم " أي تحن إليهم، وتحن إلى زيارة البيت. وقرأ مجاهد " تهوى (1) إليهم " أي تهواهم وتجلهم. (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه: " فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد ! قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشئ: قالت: أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ألحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: (1) قال الألوسى: مضارع هوى بمعنى أحب عدى بإلى. (2) أي كأنه أبصر ورأى شيئا لم يعهده. (*)
[ 374 ]
كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال: ما طعامكم ؟ قالت: اللحم. قال فما شرابكم ؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ". قال: فهما لا يخلو (1) عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وذكر الحديث. وقال ابن عباس: قول إبراهيم " فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم " سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان والحمد لله. وأول من سكنه جرهم. ففي البخاري - بعد قوله: وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كذا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا (2) فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء ! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين (3) فإذا هم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " [ فألفي ] " (4) ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس " فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شب الغلام، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، الحديث. قوله تعالى: ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسمعيل وإسحق إن ربى لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لى ولولدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41) (1) في و: عنهما. (2) العائف هنا هو الذى يتردد على الماء ولا يمضى. (3) الجرى: الرسول. (4) ألفى أي وجد ذلك الحى الجرهمى أم إسماعيل، أو ألفى استئذان جرهم بالنزول أم إسماعيل والحال أنها تحب الأنس، ففاعل ألفى (ذلك) و (ذلك) إشارة إلى الأستئذان. (*)
[ 375 ]
قوله تعالى: (ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن) أي، ليس يخفي عليك شئ من أحوالنا. وقال ابن عباس ومقاتل: تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أسكنا بواد غير ذي زرع. (وما يخفي على الله من شئ في الأرض ولا في السماء) قيل: هو من قول إبراهيم. وقيل: هو من قول الله تعالى لما قال إبراهيم: " ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن " قال الله: " وما يخفي على الله من شئ في الأرض ولا في السماء ". (الحمد لله الذى وهب لى على الكبر) أي على كبر سني وسن امرأتي، قال ابن عباس: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة. وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد عشر ومائة سنة. (إن ربي لسميع الدعاء). قوله تعالى: (رب اجعلني مقيم الصلاة) أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه. (ومن ذريتي) أي واجعل من ذريتي من يقيمها. (ربنا وتقبل دعاء) أي عبادتي كما قال: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " (1) [ غافر: 60 ]. وقال عليه السلام: " الدعاء مخ العبادة " وقد تقدم في " البقرة " (2). (ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين) قيل: استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله. قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه. قلت: وعلى هذا قراءة سعيد بن جبير، " رب أغفر لي ولوالدي " يعني. أباه. وقيل: استغفر لهما طمعا في إيمانهما. وقيل: استغفر لهما بشرط أن يسلما وقيل: أراد آدم وحواء. وقد روي أن العبد إذا قال: اللهم أغفر لي ولوالدي وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع. وقيل: إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم النخعي يقرأ: " ولولدي " يعني ابنيه، وكذلك قرأ يحيى بن يعمر، ذكره الماوردى والنحاس. (وللمؤمنين) قال ابن عباس: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: " للمؤمنين " كلهم وهو أظهر. (يوم يقوم الحساب) أي يوم يقوم الناس للحساب. (1) راجع ج‍ 15 ص 326. (2) راجع ج‍ 2 ص 309 فما بعد. (*)
[ 376 ]
قوله تعالى: ولا تحسبن الله غفلا عما يعمل الظلمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصر (42) مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43) قوله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم، أي أصبر كما صبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم. (إنما يؤخرهم) يعني مشركي مكة يمهلهم ويؤخر عذابهم. وقراءة العامة " يؤخرهم " بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: " ولا تحسبن الله ". وقرأ الحسن والسلمي وروي عن أبي عمرو أيضا " نؤخرهم " بالنون للتعظيم. (ليوم تشخص فيه الأبصار) أي لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، قاله الفراء. يقال: شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه أي سما وطمح من هول ما يرى. قال ابن عباس: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون. (مهطعين) أي مسرعين، قاله الحسن وقتادة وسعيد بن حبير، مأخوذ من أهطع يهطع إهطاعا إذا أسرع ومنه قوله تعالى: " مهطعين إلى الداع " (1) [ القمر: 8 ] أي مسرعين. قال الشاعر: بدجلة دارهم ولقد أراهم * بدجلة مهطعين إلى السماع وقيل: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع، أي ناظرين من غير أن يطرفوا، قاله ابن عباس، وقال مجاهد والضحاك: " مهطعين " أي مديمي النظر. وقال النحاس: والمعروف في اللغة أن يقال: أهطع إذا أسرع، قال أبو عبيد: وقد يكون الوجهان جميعا يعني الإسراع مع إدامة النظر. وقال ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه. (مقنعي رؤوسهم) أي رافعي رؤسهم ينظرون في ذل. وإقناع الرأس رفعه، قاله ابن عباس ومجاهد. قال ابن عرفة والقتبي وغيرهما: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه، ومنه الإقناع في الصلاة (2) (1) راجع ج‍ 17 ص 130. (2) الإقناع في الصلاة أن يرفع المصلى رأسه حتى يكون أعلى من ظهره. (*)
[ 377 ]
وأقنع صوته إذا رفعه. وقال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وقيل: ناكسي رؤوسهم، قال المهدوي: ويقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا طأطأ رأسه ذلة وخضوعا، والآية محتملة الوجهين، وقاله المبرد، والقول الأول أعرف في اللغة، قال الراجز: أنغض (1) نحوي رأسه وأقنعا * كأنما أبصر شيئا أطمعا وقال الشماخ يصف إبلا: يباكرن العضاه (2) بمقنعات * نواجذهن كالحدإ الوقيع يعني: برؤوس مرفوعات إليها لتتناولهن. ومنه قيل: مقنعة (3) لارتفاعها. ومنه قنع الرجل إذا رضي، أي رفع رأسه عن السؤال. وقنع إذا سأل أي أتى ما يتقنع منه، عن النحاس. وفم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخل. ورجل مقنع بالتشديد، أي عليه بيضة قاله الجوهري. (لا يرتد إليهم طرفهم) أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر. يقال: طرف الرجل يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر، فسمي النظر طرفا لأنه به يكون. والطرف العين. قال عنترة: وأغض طرفي ما بدت لى جارتي * حتى يواري جارتي مأواها وقال جميل: أقصر طرفي دون جمل كرامة * لجمل وللطرف الذي أنا قاصره (وأفئدتهم هواء) أي لا تغني شيئا من شدة الخوف. ابن عباس: خالية من كل خير. السدي: خرجت قلوبهم من صدورهم فنشبت في حلوقهم، وقال مجاهد ومرة وابن زيد: خاوية خربة متخرقة (4) ليس فيها خير ولا عقل، كقولك في البيت الذي ليس فيه شئ: إنما هو هواء، وقاله ابن عباس: والهواء في اللغة المجوف الخالي، ومنه قول حسان: ألا أبلغ أبا سفيان عني * فأنت مجوف (5) نخب هواء (1) إنغض رأسه: حركه. (2) العضاة: كل شجر يعظم وله شوك. والحدأ (بفتح الحاء) وقيل (بكسرها) جمع حدأة، وهى الفأس ذات الرأسين، والوقيع: المحدد. شبه الشاعر أسنان الإبل بالفؤس في الحدة. (3) إى على الرأس من المرأة. (4) في و: محترقة. (5) المجوف والمجوف: الجبان الذى لا قلب له. والنخب: من النخب بمعنى النزع. يقال: رجل نخب أي جبان، كأنه منتزع الفؤاد. (*)
[ 378 ]
وقال زهير يصف ناقة صغيرة الرأس: كأن الرجل منها فوق صعل * من الظلمان جؤجؤه هواء فارغ أي خال، وفي التنزيل: " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا " (2) [ القصص: 10 ] أي من كل شئ إلا من هم موسى. وقيل: في الكلام إضمار، أي ذات هواء وخلاء. قوله تعالى: وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) قوله تعالى: (وأنذر الناس) قال ابن عباس: أراد أهل مكة. (يوم يأتيهم العذاب) وهو يوم القيامة، أي خوفهم ذلك اليوم. وإنما خصهم بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي. (فيقول الذين ظلموا) أي في ذلك اليوم (ربنا أخرنا) أي أمهلنا. (إلى أجل قريب) سألوه الرجوع إلى الدنيا حين ظهر الحق في الآخرة. (نجب دعوتك) أي إلى الإسلام. (ونتبع الرسل). فيجابوا: (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل) يعني في دار الدنيا. قال مجاهد: هو قسم قريش أنهم لا يبعثون. ابن جريج: هو ما حكاه عنهم في قوله: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " (3) [ النحل: 38 ]. " ما لكم من زوال " فيه تأويلان: أحدهما - ما لكم من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة، أي لا تبعثون ولا تحشرون، وهذا قول مجاهد. الثاني - " ما لكم من زوال " أي من العذاب. وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربعة، فإذا كان في الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل " (4) [ غافر: 11 ] فيجيبهم الله " ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وأن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير " [ غافر: 12 ]. (1) " فوق صعل " شبه الناقة في سرعتها بالظليم وهو ذكر النعام، فكأن رحلها فوقه. والصعل: الصغير الرأس، وبذلك يوصف الظليم والجؤجؤ الصدر. (2) راجع ج‍ 13 ص 254. (3) راجع ج‍ 10 ص 105. (4) راجع ج‍ 15 ص 296. (*)
[ 379 ]
ثم يقولون: " ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " (1) [ السجدة: 12 ] فيجيبهم الله تعالى: " فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون " [ السجدة: 14 ] ثم يقولون: " ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل " فيجيبهم الله تعالى " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال " فيقولون: " ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل " [ فاطر: 37 ] فيجيبهم الله تعالى: " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير " (1) [ فاطر: 37 ]. ويقولون: " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين " [ المؤمنون: 106 ] فيجيبهم الله تعالى: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " (2) [ المؤمنون: 108 ] فلا يتكلمون بعدها أبدا، خرجه ابن المبارك في " دقائقه " بأطول من هذا - وقد كتبناه في كتاب " التذكرة " - وزاد في الحديث " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال. وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " [ إبراهيم: 44 - 45 ] قال هذه الثالثة، وذكر الحديث وزاد بعد قوله: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " [ المؤمنون: 108 ] فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعضهم في وجه بعض، وأطبقت عليهم، قال: فحدثني الأزهر ابن أبي الأزهر أنه ذكر له أن ذلك قوله: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " (3) [ المرسلات: 35 - 36 ]. قوله تعالى: وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46) قوله تعالى: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) أي في بلاد ثمود ونحوها فهلا اعتبرتم بمساكنهم، بعد ما تبين لكم ما فعلنا بهم، وبعد أن ضربنا لكم الأمثال في القرآن. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " ونبين لكم " بنون والجزم على أنه مستقبل ومعناه الماضي، وليناسب قوله: " كيف فعلنا بهم ". وقراءة الجماعة، " وتبين " وهي مثلها في المعنى، لأن ذلك لا يتبين لهم إلا بتبيين الله إياهم. * (هامش) (1) راجع ج‍ 14 ص 95 وص 351. (2) راجع ج‍ 12 ص 153. (3) راجع ج‍ 19 ص 164. (*)
[ 380 ]
قوله تعالى: (وقد مكروا مكرهم) أي بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة، عن ابن عباس وغيره. (وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) " إن " بمعنى " ما " أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال لضعفه ووهنه، " وإن " بمعنى " ما " في القرآن في مواضع خمسة: أحدها هذا. الثاني - " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك " (1) [ يونس: 94 ]. الثالث - " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا " (2) [ الأنبياء: 17 ] أي ما كنا. الرابع - " قل إن كان للرحمن ولد " (3) [ الزخرف: 81 ]. الخامس - " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه " (3) [ الأحقاف: 26 ]. وقرا الجماعة " وإن كان " بالنون. وقرأ عمرو بن علي وابن مسعود وأبي " وإن كاد " بالدال. والعامة على كسر اللام في " لتزول " على أنها لام الجحود وفتح اللام الثانية نصبا. وقرأ بن محيصن وابن جريج والكسائي " لتزول " بفتح اللام الأول على أنها لام الابتداء ورفع الثانية " وإن " مخففة من الثقيلة، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم، أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه، قال الطبري: الاختيار القراءة الأولى، لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة، قال أبو بكر الأنباري: ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدثناه أحمد بن الحسين: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن دانيل (4) قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن جبارا من الجبابرة قال لا أنتهى حتى أعلم من في السموات، فعمد إلى فراخ نسور، فأمر أن تطعم اللحم، حتى اشتدت وعضلت واستعلجت (5) أمر بأن يتخذ تابوت يسع فيه رجلين، وأن يجعل فيه عصا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يستوثق من أرجل النسور بالأوتاد، وتشد إلى قوائم التابوت، ثم جلس هو وصاحب له من التابوت وأثار النسور، فلما رأت اللحم طلبته، فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى ؟ فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، فقال: أغلق الباب، ثم صعدت بالتابوب ما شاء الله أن تصعد، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى ؟ فقال: ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدا، فقال: نكس العصا فنكسها، فانقضت النسور. فلما وقع التابوت على الأرض سمعت له هدة كادت الجبال تزول عن (1) راجع ج‍ 8 ص 382. (2) راجع ج‍ 11 ص 275. (3) راجع ج‍ 16 ص 119 وص 208. (4) هذا السند في كل الإصول ولم نقف عليه رغم البحث. استعجلت: غلطت. (*)
[ 381 ]
مراتبها (1) منها، قال: فسمعت عليا رضي الله عنه يقرأ " وإن كان مكرهم لتزول " بفتح اللام الأولى من " لتزول " وضم الثانية. وقد ذكر الثعلبي هذا الخبر بمعناه، وأن الجبار هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، وقال عكرمة: كان معه في التابوت غلام أمرد، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخا بالدماء وقال: كفيت نفسك (2) إله السماء. قال عكرمة: تلطخ بدم سمكة من السماء، قفذفت نفسها إليه من بحر في الهواء معلق. وقيل: طائر من الطير أصابه السهم ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء، وأن الساعة قد قامت، فذلك قوله: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ". قال القشيري: وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال. وذكر الماوردي عن ابن عباس: أن النمرود بن كنعان بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة، وجعل طول خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعا، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعا، وصعد منه مع النسور، فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنا، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه. فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعي الصرح عليهم فهلكوا جميعا، فهذا معنى " وقد مكروا مكرهم " وفي الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان: أحدهما - جبال الأرض. الثاني - الإسلام والقرآن، لأنه لثبوته ورسوخه كالجبال. وقال القشيري: " وعند الله مكرهم " أي هو عالم بذلك فيجازيهم أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف. " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " بكسر اللام، أي ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى، فالجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: " وإن كان مكرهم " في تقديرهم " لتزول منه الجبال " وتؤثر في إبطال الإسلام. وقرئ " لتزول منه الجبال " بفتح اللام الأولى وضم الثانية، أي كان مكرا عظيما تزول منه الجبال، ولكن الله حفظ رسول الله صلى الله (1) تعقب هذه القصة ابن عطية في تفسيره بعد أن حكاها عن الطبري بقوله: " وذلك عندي لا يصح عن على بن ابى طالب رضى الله عنه، وفى هذه القصة ضعف من طريق المعنى، وذلك إنه من غير الممكن أن تصعد الأنسر كما وصف، وبعيد أن يغرر احد بنفسه في مثل هذا ". (2) عبارة الثعلبي في " قصص الأنبياء ": (كفيت شغل إله السماء). (*)
[ 382 ]
عليه وسلم، وهو كقوله تعالى: " ومكروا مكرا كبارا " (1) [ نوح: 22 ] والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشئ هكذا تكون. قوله تعالى: فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو إنتقام (47) قوله تعالى: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) اسم الله تعالى و " مخلف " مفعولا تحسب، و " رسله " مفعول " وعده " وهو على الاتساع، والمعنى: مخلف وعده رسله، قال الشاعر: ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه * وسائره باد إلى الشمس أجمع (2) قال القتبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير، والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وسواء في قولك: مخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده. (إن الله عزيز ذو انتقام) أي من أعدائه. ومن أسمائه المنتقم وقد بيناه في " الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ". قوله تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموت وبرزوا لله الواحد القهار (48) وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار (50) ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب (51) هذا بلغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب (52) قوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض) أي أذكر يوم تبدل الأرض، فتكون متعلقة بما قبله. وقيل: هو صفة لقوله: " يوم يقوم الحساب " [ إبراهيم: 41 ]. واختلف في كيفية تبديل (1) راجع ج‍ 18 ص 306. (2) يصف الشاعر هاجرة قد ألجأت الثيران إلى كنسها، فترى الثور مدخلا رأسه في ظل كناسه لما يجده من الحرارة، وسائره بارز للشمس. (*)
[ 383 ]
الأرض، فقال كثير من الناس: إن تبدل الأرض عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومد أرضها، ورواه ابن مسعود رضي الله عنه، خرجه ابن ماجة في سننه وذكره ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب، قال حدثني ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا، وذكر الحديث. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي (1) لا ترى فيها عوجا وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها ففي بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها (2) " ذكره الغزنوي. وتبديل السماء تكوير شمسها وقمرها، وتناثر نجومها، قاله ابن عباس. وقيل: اختلاف أحوالها، فمرة كالمهل (3) ومرة كالدهان (4)، حكاه ابن الأنباري، وقد ذكرنا هذا الباب مبينا في كتاب " التذكرة " وذكرنا ما للعلماء في ذلك، وأن الصحيح إزالة هذه الأرض حسب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك، وذكر الحديث، وفيه، فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في الظلمة دون الجسر " (5). وذكر الحديث. وخرج عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات " فأين يكون الناس يومئذ ؟ قال " على الصراط ". خرجه ابن ماجه بإسناد مسلم سواء، وخرجه الترمذي عن عائشة وأنها هي السائلة، قال: هذا حديث حسن صحيح، فهذه الأحاديث تنص على أن السموات والأرض تبدل وتزال، ويخلق الله أرضا أخرى يكون الناس عليها بعد كونهم على الجسر. وفى صحيح مسلم عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه * (هامش (* (1) أديم عكاظى: منسوب إلى عكاظ، وهو مما حمل إليها فبيع فيها. وعكاظ: إسم سوق من أسواق الجاهلية مشهورة كانت بقرب مكة. والأمت: المكان المرتفع والتلال الصغار والأنخفاض والأرتفاع. (2) عباره الأصل هنا ناقصه ومحرفة، والزيادة والتصويب من تفسير الطبري وكتاب " التذكرة " للمؤلف. (3) راجع ج‍ 18 ص 284. (4) راجع ج‍ 17 ص 173. (5) الجسر: الصراط. (*)
[ 384 ]
وسلم: " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقى (1) ليس فيها علم لأحد ". وقال جابر: سألت أبا جعفر محمد بن على عن قول الله عز وجل: " يوم تبدل الأرض غير الأرض " قال تبدل خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ: " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام (2) ". وقال ابن مسعود: إنها تبدل بأرض غيرها بيضاء لم يعمل عليها خطيئة. وقال ابن عباس: بأرض من فضة بيضاء. وقال على رضى الله عنه: تبدل الأرض يومئذ من فضة والسماء من ذهب وهذا تبديل للعين، وحسبك. (وبرزوا لله الواحد القهار) أي من قبورهم، وقد تقدم. قوله تعالى: (وترى المجرمين) وهم المشركون. (يومئذ) أي يوم القيامة. (مقرنين) أي مشدودين (في الأصفاد) وهى الأغلال والقيود واحدها صفد وصفد. ويقال: صفدته صفدا أي قيدته والاسم الصفد، فإذا أردت التكثير قلت: صفدته تصفيدا، قال عمر بن كلثوم: فآبوا بالنهاب وبالسبايا * وأبنا بالملوك مصفدينا أي مقيدينا. وقال حسان: من كل مأسور يشد صفاده * صقر إذا لاقى الكريهه حام أي غله، وأصفدته إصفادا أعطيته. وقيل: صفدته وأصفدته جاريان في القيد والإعطاء جميعا، قال النابغة: فلم أعرض أبيت اللعن (2) بالصفد فالصفد العطاء، لأنه يقيد ويعبد، قال أبو الطيب: وقيدت نفسي في ذراك محبة * ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا (1) النقى: الدقيق الحوارى. والحوارى: ما حور أي بيض. والعلم الأثر (2) راجع ج‍ 11 ص 272. (3) معنى أبيت اللعن: أي أبيت أن تأتى شيئا تلعن عليه، وصدر البيت: هذا الثناء فإن تسمع لقائله (4) الذرا (بالفتح): الدار ونواحيها، وكل ما استترت به، تقول: أنا في ذرا فلان أي في كنفه وستره. (*)
[ 385 ]
قيل: يقرن كل كافر مع شيطان في غل، بيانه قوله: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم (1) يعنى قرناءهم من الشياطين. وقيل أنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي. (سرابيلهم من قطران) أي قمصهم، عن ابن دريد وغيره، واحدها سربال، والفعل تسربلت وسربلت غيرى، قال كعب بن مالك: تلقاكم عصب حول النبي لهم * من نسج داود في الهيجا سراويل " من قطران " يعنى قطران الإبل الذى تهنأ به (2)، قاله الحسن. وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم وفى الصحيح: إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب. وروى عن حماد أنهم قالوا: هو النحاس. وقرأ عيسى بن عمر " قطران " بفتح القاف وتسكين الطاء. وفيه قراءه ثالثة: كسر القاف وجزم الطاء، ومنه قول أبى النجم: جون كأن العرق المنتوحا (3) * لبسه القطران والمسوحا وقراءة رابعة: " من قطران " رويت عن ابن عباس وأبى هريرة وعكرمه وسعيد بن جبير ويعقوب، والقطر النحاس والصفر المذاب، ومنه قوله تعالى: " آتونى أفرغ عليه قطرا " (5). والآن: الذى قد انتهى إلى حره، ومنه قوله تعالى: " وبين حميم آن " (6). (وتغشى) أي تضرب (وجوههم النار) فتغشيها. (ليجزى كل نفس ما كسبت) أي بما اكتسبت. (إن الله سريع الحساب) تقدم. قوله تعالى: (هذا بلاغ للناس) أي هذا الذى أنزلنا إليك بلاغ، أي تبليغ وعظة. (ولينذروا به) أي ليخوفوا عقاب الله عز وجل، وقرئ. " ولينذروا " بفتح الياء والذال، يقال: نذرت بالشئ أنذر إذا علمت به فاستعددت له، ولم يستعملوا منه مصدرا كما لم يستعملوا من عسى وليس، وكأنهم استغنوا بأن والفعل كقولك: سرنى أن نذرت بالشئ. (وليعلموا (1) راجع ج‍ 25 ص 72. (2) تهنأ به: ترهن. (3) نتح العرق خرج من الجلد. (4) " قطر " ضبطه في " روح المعاني " بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء، ومثله في " البحر المحيط "، وضبط بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء، ففيه ثلاث لغات. (5) راجع ج‍ 11 ص 62. (6) راجع ج‍ 17 ص 175. (*)
[ 386 ]
أي تضرب (وجوههم النار) فتغشيها. (ليجزى كل نفس ما كسبت) أي بما اكتسبت. (إن الله سريع الحساب) تقدم. قوله تعالى: (هذا بلاغ للناس) أي هذا الذى أنزلنا إليك بلاغ، أي تبليغ وعظة. (ولينذروا به) أي ليخوفوا عقاب الله عز وجل، وقرئ. " ولينذروا " بفتح الياء والذال، يقال: نذرت بالشئ أنذر إذا علمت به فاستعددت له، ولم يستعملوا منه مصدرا كما لم يستعملوا من عسى وليس، وكأنهم استغنوا بأن والفعل كقولك: سرنى أن نذرت بالشئ. (وليعلموا (1) راجع ج‍ 25 ص 72. (2) تهنأ به: ترهن. (3) نتح العرق خرج من الجلد. (4) " قطر " ضبطه في " روح المعاني " بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء، ومثله في " البحر المحيط "، وضبط بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء، ففيه ثلاث لغات. (5) راجع ج‍ 11 ص 62. (6) راجع ج‍ 17 ص 175. (*)
[ 386 ]
أنما هو إله واحد) أي وليعلموا وحدانيه الله بما أقام من الحجج والبراهين. (وليذكر أولو الألباب) أي وليتعظ أصحاب العقول. وهذه اللامات في " ولينذروا " " وليعلموا " " وليذكر " متعلقة بمحذوف، التقدير: ولذلك أنزلناه. وروى يمان بن رئاب أن هذه الآيه نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه. وسئل بعضهم هل لكتاب الله عنوان ؟ فقال: نعم، قيل: وأين هو ؟ قال قوله تعالى: " هذا بلاغ للناس ولينذروا به " إلى آخرها. تم تفسير سورة إبراهيم عليه السلام والحمد لله. محققه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء التاسع من تفسير القرطبى يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء العاشر، وأوله: سورة " الحجر "