تفسير القرطبي
القرطبي ج 8

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء الثامن أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم تفسير بقية سورة الانفال قوله تعالى: وأعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبد نا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير (41) قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله). فيه ست (1) وعشرون مسألة: الاولى: قوله تعالى " وأعلموا أنما غنمتم من شئ " الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي، ومن ذلك قول الشاعر: وقد طوفت في الآفاق حتى * رضيت من الغنيمة بالاياب وقال آخر: ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه * أنى توجه والمحروم محروم والمغنم والغنيمة بمعنى، يقال: غنم القوم غنما. وأعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: " غنمتم من شئ " مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر. ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيناه (2)، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وسمى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الاموال باسمين: غنيمة وفيئا. فالشئ الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف (3) الخيل والركاب يسمى غنيمة. ولزم هذا الاسم هذا (1) يلاحظ أن المسائل خمس وعشرون مسألة. (2) في ز: قدمناه. (3) الايجاف: سرعة السير، أي لم يعدوا في تحصيله خيلا ولا إبلا، بل حصل بلا قتال. والركاب: الابل التي يسافر عليها، لا واحد لها من لفظها. (*)
[ 2 ]
المعنى حتى صار عرفا. والفئ مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف. كخراج الارضين وجزية الجماجم وخمس الغنائم. ونحو هذا قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب. وقيل: إنهما واحد، وفيهما الخمس، قاله قتادة. وقيل: الفئ عبارة عن كل ما صار للمسلمين من الاموال بغير قهر. والمعنى متقارب. الثانية - هذه الآية ناسخة لاول السورة، عند الجمهور. وقد ادعى ابن عبد البر الاجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله: " يسألونك عن الانفال " [ الانفال: 1 ] وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، على ما يأتي بيانه. وأن قوله: " يسألونك عن الانفال " نزلت في حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر، على ما تقدم أول السورة. قلت: ومما يدل على صحة هذا ما ذكره إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان قال حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا) وكانوا قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، فجاء أبو اليسر بن عمرو بأسيرين، فقال: يا رسول الله إنك وعدتنا من قتل قتيلا فله كذا، وقد جئت بأسيرين. فقام سعد فقال: يا رسول الله، إنا لم يمنعنا زيادة في الاجر ولا جبن عن العدو ولكنا قمنا هذا المقام خشية أن يعطف المشركون، فإنك إن تعطي هؤلاء لا يبقى لاصحابك شئ. قال: وجعل هؤلاء يقولون وهؤلاء يقولون فنزلت " يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " [ الانفال: 1 ] فسلموا الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزلت " وأعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " الآية. وقد قيل: إنها محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مقسومة بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الائمة. كذا حكاه المازري عن كثير من أصحابنا، رضي الله عنهم، وأن للامام أن يخرجها عنهم. واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين. وكان أبو عبيد يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها عليهم فيئا. ورأى بعض الناس أن هذا جائز للائمة بعده.
[ 3 ]
قلت: وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " والاربعة الاخماس للامام، إن شاء حبسها وإن شاء قسمها بين الغانمين. وهذا ليس بشئ، لما ذكرناه، ولان الله سبحانه أضاف الغنيمة للغانمين فقال: " وأعلموا أنما غنمتم من شئ " ثم عين الخمس لمن سمى في كتابه، وسكت عن الاربعة الاخماس، كما سكت عن الثلثين في قوله: " وورثه أبواه فلامه الثلث " (1) [ النساء: 11 ] فكان للاب الثلثان اتفاقا. وكذا الاربعة الاخماس للغانمين إجماعا، على ما ذكره ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري أيضا والقاضي عياض وابن العربي. والاخبار بهذا المعنى متظاهرة، وسيأتي بعضها. ويكون معنى قوله: " يسئلونك عن الانفال " الآية، ما ينفله الامام لمن شاء لما يراه من المصلحة قبل القسمة. وقال عطاء والحسن: هي مخصوصة بما شذ من المشركين إلى المسلمين، من عبد أو أمة أو دابة، يقضي فيها الامام بما أحب. وقيل: المراد بها أنفال السرايا أي غنائمها، إن شاء خمسها الامام، وإن شاء نفلها كلها. وقال إبراهيم النخعي في الامام يبعث السرية فيصيبون المغنم: إن شاء الامام نفله كله، وإن شاء خمسه. وحكاه أبو عمر عن مكحول وعطاء. قال علي بن ثابت: سألت مكحول وعطاء عن الامام ينفل القوم ما أصابوا، قال: ذلك لهم. قال أبو عمر: من ذهب إلى هذا تأول قول الله عزوجل: " يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول " [ الانفال: 1 ] أن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء. ولم ير أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه ". وقيل: غير هذا مما قد أتينا عليه في كتاب (القبس في شرح موطأ مالك بن أنس). ولم يقل أحد من العلماء فيما أعلم أن قوله تعالى " يسئلونك عن الانفال " الآية، ناسخ لقوله: " وأعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " بل قال الجمهور على ما ذكرنا: إن قوله: " ما غنمتم " ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله تعالى. وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها. وقد قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شئ من البلدان من جهتين: إحداهما أن رسول (1) راجع ج 5 ص 71. (*)
[ 4 ]
الله صلى الله عليه وسلم كان الله قد خصه من الانفال والغنائم ما لم يجعله لغيره، وذلك لقوله: " يسألونك عن الانفال " [ الانفال: 1 ] الآية، فنرى أن هذا كان خاصا له. والجهة الاخرى أنه سن لمكة سننا ليست لشئ من البلاد. وأما قصة حنين فقد عوض الانصار لما قالوا: يعطي الغنائم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ! فقال لهم: (أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم). خرجه مسلم وغيره. وليس لغيره أن يقول هذا القول، مع أن ذلك خاص به على ما قاله بعض علمائنا. والله أعلم. الثالثة - لم يختلف العلماء أن قوله: " وأعلموا أنما غنمتم من شئ " ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص، فمما خصصوه بإجماع أن قالوا: سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الامام. وكذلك الرقاب، أعني الاسارى، الخيرة فيها إلى الامام بلا خلاف، على ما يأتي بيانه. ومما خص به أيضا الارض. والمعنى: ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الامتعة والسبي. وأما الارض فغير داخلة في عموم هذه الآية، لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لولا أخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر). ومما يصحح هذا المذهب ما رواه الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مدها ودينارها) الحديث. قال الطحاوي: " منعت " بمعنى ستمنع، فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين، لان ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز ولا درهم، ولو كانت الارض تقسم ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شئ. والله تعالى يقول: " والذين جاءوا من بعدهم " (1) [ الحشر: 10 ] بالعطف على قوله: " للفقراء المهاجرين " [ الحشر: 8 ]. قال: وإنما يقسم ما ينقل من موضع إلى موضع. وقال الشافعي: كل ما حصل من الغنائم من أهل دار الحرب من شئ قل أو كثر من دار أو أرض أو متاع أو غير ذلك قسم، إلا الرجال البالغين فإن الامام فيهم مخير أن يمن أو يقتل أو يسبي. وسبيل ما أخذ منهم وسبي سبيل الغنيمة. واحتج بعموم الآية. قال: والارض مغنومة لا محالة، فوجب أن تقسم كسائر الغنائم. وقد قسم (1) راجع ج 18 ص 31. (*)
[ 5 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفتتح عنوة من خيبر. قالوا: ولو جاز أن يدعى الخصوص في الارض جاز أن يدعى في غير الارض فيبطل حكم الآية. وأما آية " الحشر " فلا حجة فيها، لان ذلك إنما هو في الفئ لا في الغنيمة. وقوله: " والذين جاءوا من بعدهم " [ الحشر: 10 ] استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالايمان لا لغير ذلك. قالوا: وليس يخلو فعل عمر في توقيفه الارض من أحد وجهين: إما أن تكون غنيمة استطاب أنفس أهلها، وطابت بذلك فوقفها. وكذلك روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها. وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن، لما أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم. وإما أن يكون ما وقفه عمر فيئا فلم يحتج إلى مراضاة أحد. وذهب الكوفيون إلى تخيير الامام في قسمها أو إقرارها وتوظيف الخراج عليها، وتصير ملكا لهم كأرض الصلح: قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه: وكأن هذا جمع بين الدليلين ووسط بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعا، ولذلك قال: لولا أخر الناس، فلم يخبر بنسخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتخصيصه بهم، غير أن الكوفيين زادوا على ما فعل عمر، فإن عمر إنما وقفها على مصالح المسلمين ولم يملكها لاهل الصلح، وهم الذين قالوا للامام أن يملكها لاهل الصلح. الرابعة - ذهب مالك وأبو حنيفة والثوري إلى أن السلب ليس للقاتل، وأن حكمه حكم الغنيمة، إلا أن يقول الامير: من قتل قتيلا فله سلبه، فيكون حينئذ له. وقال الليث والاوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر: السلب للقاتل على كل حال، قاله الامام أو لم يقله. إلا أن الشافعي رضي الله عنه قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل قتيلا مقبلا عليه: وأما إذا قتله مدبرا عنه فلا. قال أبو العباس بن سريج من أصحاب الشافعي: ليس الحديث (من قتل قتيلا فله سلبه) على عمومه، لاجماع العلماء على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا أنه ليس له سلب واحد منهم. وكذلك من ذفف (1) على جريح، ومن قتل من قطعت يداه ورجلاه. قال: وكذلك المنهزم لا يمتنع في انهزامه، وهو (1) تذفيف الجريح: الاجهاز عليه. (*)
[ 6 ]
كالمكتوف (1). قال: فعلم بذلك أن الحديث إنما جعل السلب لمن لقتله معنى زائد، أو لمن في قتله فضيلة، وهو القاتل في الاقبال، لما في ذلك من المؤنة. وأما من أثخن (2) فلا. وقال الطبري: السلب للقاتل، مقبلا قتله أو مدبرا، هاربا أو مبارزا إذا كان في المعركة. وهذا يرده ما ذكره عبد الرزاق ومحمد بن بكر عن ابن جريج قال سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول: لم نزل نسمع إذا التقى المسلمون والكفار فقتل رجل من المسلمين رجلا من الكفار فإن سلبه له إلا أن يكون في معمعة القتال، لانه حينئذ لا يدري من قتل قتيلا. فظاهر هذا يرد قول الطبري لاشتراطه في السلب القتل في المعركة خاصة. وقال أبو ثور وابن المنذر: السلب للقاتل في معركة كان أو غير معركة، في الاقبال والادبار والهروب والانتهار، على كل الوجوه، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا فله سلبه). قلت: روى مسلم عن سلمة بن الاكوع قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ازن فبينا نحن نتضحى (3) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقا من حقبه (4) فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر (5)، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد (6)، فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء (7). قال سلمة: وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الارض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر (8)، ثم جئت بالجمل أقوده، عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال: (من قتل الرجل) ؟ قالوا: ابن الاكوع. قال: (له سلبه أجمع). فهذا سلمة قتله هاربا غير مقبل، وأعطاه سلبه. وفيه حجة لمالك من أن السلب لا يستحقه القاتل (1) في ز: المكفوف. (2) أي أثقل بالجراح. (3) أي نتغدى. (4) الطلق (بالتحريك): قيد من جلود. والحقب: الحبل المشدود على حقو البعير أو من حقيبته وهي الزيادة التي تجعل في مؤخر القتب، والوعاء الذي يجعل الرجل فيه زاده. (عن ابن الاثير). (5) أي حالة ضعف وهزال في الابل. (6) أي خرج مسرعا. (7) الاورق من الابل: الذي في لونه بياض إلى سواد. (8) ندر: سقط. (*)
[ 7 ]
إلا بإذن الامام، إذ لو كان واجبا له بنفس القتل لما احتاج إلى تكرير هذا القول. ومن حجته أيضا ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الاحوص عن الاسود بن قيس عن بشر بن علقمة قال: بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه، فأتيت سعدا فخطب سعد أصحابه ثم قال: هذا سلب بشر بن علقمة، فهو خير من أثني عشر ألف درهم، وإنا قد نفلناه إياه. فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ما احتاج الامر أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم باجتهاد هم، ولاخذه القاتل دون أمرهم. والله أعلم. وفي الصحيح أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ضربا أبا جهل بسيفيهما حتى قتلاه، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيكما قتله) ؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فنظر في السيفين فقال: (كلا كما قتله) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وهذا نص على أن السلب ليس للقاتل، إذ لو كان له لقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. وفي الصحيح أيضا عن عوف بن مالك قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي (1) من اليمن. وساق الحديث، وفيه: فقال عوف: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال: بلى، ولكني استكثر ته. وأخرجه أبو بكر البر قاني بإسناده الذي أخرجه به مسلم، وزاد فيه بيانا أن عوف بن مالك قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب، وإن مدديا كان رفيقا لهم في غزوة مؤتة في طرف من الشام، قال: فجعل رومي منهم يشتد على المسلمين وهو على فرس أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة وسيف محلى بذهب. قال: فيغري بهم، قال: فتلطف له المددي حتى مر به فضرب عرقوب فرسه فوقع، وعلاه بالسيف فقتله وأخذ سلاحه. قال: فأعطاه خالد بن الوليد وحبس منه، قال عوف: فقلت له أعطه كله، أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (السلب للقاتل) ! قال: بلى، ولكني استكثرته. قال عوف: وكان بيني وبينه كلام، فقلت له: لاخبرن رسول الله صلى الله (1) أي رجل من المدد الذين جاء وا يمدون جيش مؤتة ويسا عد ونهم. (*)
[ 8 ]
عليه وسلم. قال عوف: فلما اجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عوف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لخالد: (لم لم تعطه) ؟ قال فقال: استكثرته. قال: (فادفعه إليه) فقلت له: ألم أنجز لك ما وعدتك ؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا خالد لا تدفعه إليه هل أنتم تاركون لي أمرائي) (1). فهذا يدل دلالة واضحة على أن السلب لا يستحقه القاتل بنفس القتل بل برأي الامام ونظره. وقال أحمد ابن حنبل: لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة خاصة. الخامسة - اختلف العلماء في تخميس السلب، فقال الشافعي: لا يخمس. وقال إسحاق: إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل، وإن كان كثيرا خمس. وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله، فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا فخمس ذلك. أنس عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل إلا رجلا مبارزة، وأنهم لما غزوا الزارة (2) خرج دهقان الزارة فقال: رجل ورجل، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده، ثم أخذ السيف فذبحه، وأخذ سلاحه ومنطقته وأتى به عمر، فنفله السلاح وقوم المنطقة بثلاثين ألفا فخمسها، وقال: إنها مال. وقال الاوزاعي ومكحول: السلب مغنم وفيه الخمس. وروي نحوه عن عمر بن الخطاب. والحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الاشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب. السادسة - ذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل إلا أن يقيم البينة على قتله. قال أكثر هم: ويجزئ شاهد واحد، على حديث أبي قتادة. وقيل: شاهدان أو شاهد ويمين. وقال الاوزاعي: يعطاه بمجرد دعواه، وليست البينة شرطا في الاستحقاق، بل إن اتفق ذلك فهو الاولى دفعا للمنازعة. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا قتادة سلب مقتوله من غير شهادة ولا يمين. ولا تكفي شهادة واحد، ولا يناط بها حكم بمجرد ها. وبه قال الليث بن سعد. (1) في ب، ز: أسراى. (2) الزارة: قرية بالبحرين. (*)
[ 9 ]
قلت: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم يقول: إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السلب بشهادة الاسود بن خزاعي وعبد الله بن أنيس. وعلى هذا يندفع النزاع ويزول الاشكال، ويطرد الحكم. وأما المالكية فيخرج على قولهم أنه لا يحتاج الامام فيه إلى بينة، لانه من الامام ابتداء عطية، فإن شرط الشهادة كان له، وإن لم يشترط جاز أن يعطيه من غير شهادة. السابعة - واختلفوا في السلب ما هو، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا خلاف أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه. وقال أحمد في الفرس: ليس من السلب. وكذلك إن كان في هميانه (1) وفي منطقته دنانير أو جواهر أو نحو هذا، فلا خلاف أنه ليس من السلب. واختلفوا فيما يتزين به للحرب، فقال الاوزاعي: ذلك كله من السلب. وقالت فرقة: ليس من السلب. وهذا مروي عن سحنون رحمه الله، إلا المنطقة فإنها عنده من السلب. وقال ابن حبيب في الواضحة: والسواران من السلب. الثامنة - قوله تعالى: " فأن لله خمسه " قال أبو عبيد: هذا ناسخ لقوله عزوجل في أول السورة " قل الانفال لله والرسول " [ الانفال: 1 ] ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذا. إلا أنه يظهر من قول علي رضي الله عنه في صحيح مسلم " كان لي شارف (2) من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ " الحديث - أنه خمس، فإن كان هذا فقول أبي عبيد مردود. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكر علي من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد، فقد كانت غزوة بني (3) سليم وغزوة بني المصطلق وغزوة ذي أمر وغزوة بحران، ولم يحفظ فيها قتال، ولكن يمكن أن غنمت غنائم. والله أعلم. قلت: وهذا التأويل يرده قول علي يومئذ، وذلك إشارة إلى يوم قسم غنائم بدر، إلا أنه يحتمل أن يكون من الخمس إن كان لم يقع في بدر تخميس، من خمس سرية عبد الله بن جحش (1) الهميان: الذي تجعل فيه النفقة. وشداد السراويل. (2) الشارف: الناقة المسنة. (3) في شرح المواهب أن غزوة بني سليم هي غزوة البحران. (*)
[ 10 ]
فإنها أول غنيمة غنمت في الاسلام، وأول خمس كان في الاسلام، ثم نزل القرآن " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه ". وهذا أولى من التأويل الاول والله أعلم. التاسعة - " ما " في قوله: " ما غنمتم " بمعنى الذي والهاء محذوفة، أي الذي غنمتموه. ودخلت الفاء لان في الكلام معنى المجازاة. و " أن " الثانية توكيد للاولى، ويجوز كسرها، وروى عن أبي عمرو. قال الحسن (1): هذا مفتاح (2) كلام، الدنيا والآخرة لله، ذكره النسائي. واستفتح عزوجل الكلام في الفئ والخمس بذكر نفسه، لانهما أشرف الكسب، ولم ينسب الصدقة إليه لانها أوساخ الناس. العاشرة - واختلف العلماء في كيفية قسم الخمس على أقوال ستة: الاول - قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة، فيجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله. والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث لذوي القربى. والرابع لليتامى. والخامس للمساكين،. والسادس لابن السبيل. وقال بعض أصحاب هذا القول: يرد السهم الذي لله على ذوي الحاجة. الثاني - قال أبو العالية والربيع: تقسم الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد، وتقسم الاربعة على الناس، ثم يضرب بيده على السهم الذي عزله فما قبض عليه من شئ جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة، سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. الثالث - قال المنهال بن عمرو: سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقال: هو لنا. قلت لعلي: إن الله تعالى يقول: " واليتامى والمساكين وابن السبيل " فقال: أيتامنا ومساكيننا. الرابع - قال الشافعي: يقسم على خمسة. ورأى أن سهم الله ورسوله واحد، وأنه يصرف في مصالح المؤمنين، والاربعة الاخماس على الاربعة الاصناف المذكورين في الآية. (1) هو الحسن بن محمد بن علي المعروف بابن الحنفية. (2) أي قوله تعالى: (فأن لله خمسه) راجع الحديث في كتاب قسم الفئ في سنن النسائي. (*)
[ 11 ]
الخامس - قال أبو حنيفة: يقسم على ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل. وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع حكم سهمه. قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضا. السادس - قال مالك: هو موكول إلى نظر الامام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي منه القرابة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. وبه قال الخلفاء الاربعة، وبه عملوا. وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم). فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم، لانهم من أهم من يدفع إليه. قال الزجاج محتجا لمالك: قال الله عزوجل: " يسئلو نك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللو الدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل " (1) [ البقرة: 215 ] وللرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الاصناف إذا رأى ذلك. وذكر النسائي عن عطاء قال: خمس الله وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويعطي منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء. الحادية عشرة - قوله تعالى: " ولذي القربى " ليست اللام لبيان الاستحقاق والملك، وإنما هي لبيان المصرف والمحل. والدليل عليه ما رواه مسلم أن الفضل بن عباس وربيعة ابن عبد المطلب أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم أحدهما فقال: يا رسول الله، أنت أبر الناس، وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون. فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه، قال: وجعلت زينب تلمع (2) إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه، قال: ثم قال: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس أدعوا لي محمية (3) - وكان على الخمس - ونوفل بن الحارث بن (1) راجع ج 3 ص 26. (2) يقال: ألمع ولمع، إذا أشار بثوبه أو بيده. (3) هو محمية بن جزء، رجل من بني أسد. (*)
[ 12 ]
عبد المطلب) قال: فجاءاه فقال لمحمية: (أنكح هذا الغلام أبنتك) - للفضل بن عباس - فأنكحه. وقال لنوفل بن الحارث: (أنكح هذا الغلام أبنتك) يعني ربيعة بن عبد المطلب. وقال لمحمية: (أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم). وقد أعطى جميعه وبعضه، وأعطى منه المؤلفة قلوبهم، وليس ممن ذكرهم الله في التقسيم، فدل على ما ذكرناه، والموفق الاله. الثانية عشرة - واختلف العلماء في ذوي القربى على ثلاثة أقوال: قريش كلها، قاله بعض السلف، لان النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا جعل يهتف: (يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب يا بني كعب يا بني مرة يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار) الحديث. وسيأتي في " الشعراء " (1). وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد: بنو هاشم وبنو عبد المطلب، لان النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب قال: (إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه، أخرجه النسائي والبخاري. قال البخاري: قال الليث حدثني يونس، وزاد: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا. قال ابن إسحاق: وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لام، وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لابيهم. قال النسائي: وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، بينهم الغني والفقير. وقد قيل: إنه للفقير منهم دون الغني، كاليتامى وابن السبيل - وهو أشبه القولين بالصواب عندي. والله أعلم - والصغير والكبير والذكر والانثى سواء، لان الله تعالى جعل ذلك لهم، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم. وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على بعض. الثالث - بنو هاشم خاصة، قاله مجاهد وعلي بن الحسين. وهو قول مالك والثوري والاوزاعي وغيرهم. (1) راجع ج 13 ص 143. (*)
[ 13 ]
الثالثة عشرة - لما بين الله عزوجل حكم الخمس وسكت عن الاربعة الاخماس، دل ذلك على أنها ملك للغانمين. وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم). وهذا ما لا خلاف فيه بين الامة ولا بين الائمة، على ما حكاه ابن العربي في (أحكامه) وغيره. بيد أن الامام إن رأى أن يمن على الاسارى بالاطلاق فعل، وبطلت حقوق الغانمين فيهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بثمامة بن أثال وغيره، وقال: (لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى (1) - يعني أسارى بدر - لتركته له) أخرجه البخاري. مكافأة له لقيامه في شأن [ نقض ] الصحيفة (2). وله أن يقتل جميعهم، وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة ابن أبي معيط من بين الاسرى صبرا (3)، وكذلك النضر بن الحارث قتله بالصفراء (4) صبرا، وهذا ما لا خلاف فيه. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين، حضر أو غاب. وسهم الصفي، يصطفي سيفا أو سهما أو خادما أو دابة. وكانت صفية بنت حيي من الصفي من غنائم خيبر. وكذلك ذو الفقار (5) كان من الصفي. وقد انقطع بموته، إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقيا للامام يجعله مجعل سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت الحكمة في ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يرون للرئيس ربع الغنيمة. قال شاعر هم: لك المرباع منها والصفايا * وحكمك والنشيطة والفضول (6) وقال آخر: منا الذي ربع الجيوش، لصلبه * عشرون وهو يعد في الاحياء (1) النتنى: جمع نتن، كزمني وزمن. (2) أي الصحيفة التي كتبتها قريش في ألا يبايعوا الهاشمية ولا المطلبية ولا يناكحوهم. وهو مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف، مات كافرا في صفر قبل وقعة بدر بنحو سبعة أشهر. (عن شرح القسطلاني). (3) صبر الانسان وغيره على القتل: حبسه ورماه حتى يموت. (4) موضع قرب بدر. (5) ذو الفقار: اسم سيف النبي عليه السلام وسمى به لانه كانت فيه حفر صغار حسان ويقال للحفرة فقرة. (6) البيت لعبد الله بن عنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس. والنشيطة: ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصير إلى مجتمع الحي. والفضول: ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة كالبعير والفرس ونحوهما (عن اللسان). (*)
[ 14 ]
يقال: ربع الجيش يربعه رباعة إذا أخذ ربع الغنيمة. قال الاصمعي: ربع في الجاهلية وخمس في الاسلام، فكان يأخذ بغير شرع ولا دين الربع من الغنيمة، ويصطفي منها، ثم يتحكم بعد الصفي في أي شي أراد، وكان ما شذ منها وما فضل من خرثي (1) ومتاع له. فأحكم الله سبحانه الدين بقوله: " واعلموا أنما غنمتم من شي فأن لله خمسه ". وأبقى سهم الصفي لنبيه صلى الله عليه وسلم وأسقط حكم الجاهلية. وقال عامر الشعبي: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا أو أمة أو فرسا يختاره قبل الخمس، أخرجه أبو داود. وفي حديث أبي هريرة قال: فيلقى العبد فيقول: (أي فل (2) ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والابل وأذرك ترأس وتربع) الحديث. أخرجه مسلم. " تربع " بالباء الموحدة من تحتها: تأخذ المرباع، أي الربع مما يحصل لقومك من الغنائم والكسب. وقد ذهب بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى أن خمس الخمس كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه في كفاية أولاده ونسائه، ويدخر من ذلك قوت سنته، ويصرف الباقي في الكراع (3) والسلاح. وهذا يرده ما رواه عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على نفسه (4) منها قوت سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. أخرجه مسلم. وقال: (والخمس مردود عليكم). الرابعة عشرة - ليس في كتاب (5) الله تعالى دلالة (6) على تفضيل الفارس على الراجل، بل فيه أنهم سواء، لان الله تعالى جعل الاربعة أخماس لهم ولم يخص راجلا من فارس. ولولا الاخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان الفارس كالراجل، والعبد كالحر، والصبي كالبالغ. وقد اختلف العلماء في قسمة الاربعة الاخماس، فالذي عليه عامة أهل (1) الخرثي (بالضم): أثاث البيت أو أردأ المتاع والغنائم. (2) الحديث أورده مسلم في كتاب الزهد. قال النووي: بضم الفاء وسكون اللام ومعناه يا فلان وهو ترخيم على خلاف القياس. وقيل هي لغة بمعنى فلان وقال صاحب المرقاة بسكون اللام وتفتح وتضم. (3) الكراع (بالضم): الخيل. (4) الذي في صحيح مسلم: (... فكان ينفق على أهله نفقة سنة...) الخ. (5) في ز: ليس في الآية. (6) في ك: ما يدل. (*)
[ 15 ]
العلم فيما ذكر ابن المنذر أنه يسهم للفارس سهمان، وللراجل سهم. وممن قال ذلك مالك ابن أنس ومن تبعه من أهل المدينة. وكذلك قال الاوزاعي ومن وافقه من أهل الشام. وكذلك قال الثوري ومن وافقه من أهل العراق. وهو قول الليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر. وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال ابن المنذر: ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا النعمان فإنه خالف فيه السنن وما عليه جل أهل العلم في القديم والحديث. قال: لا يسهم للفارس إلا سهم واحد. قلت: ولعله شبه عليه بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين، وللراجل سهما. خرجه الدارقطني وقال: قال الرمادي كذا يقول ابن نمير قال لنا النيسابوري: هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة أو من الرمادي، لان أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن عمر (1) [ رضي الله عنهما ] بخلاف هذا، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين لفرسه، هكذا رواه عبد الرحمن ابن بشر عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، وذكر الحديث. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما. وهذا نص. وقد روى الدارقطني عن الزبير قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أسهم يوم بدر، سهمين لفرسي وسهما لي وسهما لامي من ذوي القرابة. وفي رواية: وسهما لامه سهم ذوي القربى. وخرج عن بشير بن عمرو ابن محصن قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي أربعة أسهم، ولي سهما، فأخذت خمسة أسهم. وقيل: إن ذلك راجع إلى اجتهاد الامام، فينفذ ما رأى. والله أعلم. الخامسة عشرة - لا يفاضل بين الفارس والراجل بأكثر من فرس واحد، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يسهم لاكثر من فرس واحد، لانه أكثر عنا وأعظم منفعة، (1) الذي في نسخة الدارقطني: (عن ابن نمير). (*)
[ 16 ]
وبه قال ابن الجهم من أصحابنا، ورواه سحنون عن ابن وهب. ودليلنا أنه لم ترد رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسهم لاكثر من فرس واحد، وكذلك الائمة بعده، ولان العدو لا يمكن أن يقاتل إلا على فرس واحد، وما زاد على ذلك فرفاهية وزيادة عدة، وذلك لا يؤثر في زيادة السهمان، كالذي معه زيادة سيوف أو رماح، واعتبارا بالثالث والرابع. وقد روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن كان عنده أفراس، لكل فرس سهم. السادسة عشرة - لا يسهم إلا للعتاق من الخيل، لما فيها من الكر والفر، وما كان من البراذين والهجن بمثابتها في ذلك. وما لم يكن كذلك لم يسهم له. وقيل: إن أجازهم الامام أسهم لها، لان الانتفاع بها يختلف بحسب الموضع، فالهجن والبراذين تصلح للمواضع المتوعرة كالشعاب والجبال، والعتاق تصلح للمواضع التي يتأتى فيها الكر والفر، فكان ذلك متعلقا برأي الامام. والعتاق: خيل العرب. والهجن والبراذين: خيل الروم. السابعة عشرة - واختلف علماؤنا في الفرس الضعيف، فقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له، لانه لا يمكن القتال عليه فأشبه الكسير. وقيل: يسهم له لانه يرجى برؤه. ولا يسهم للا عجف إذا كان في حيز ما لا ينتفع به، كما لا يسهم للكسير. فأما المريض مرضا خفيفا مثل الرهيص (1)، وما يجري مجراه مما لا يمنعه المرض عن حصول المنفعة المقصودة منه فإنه يسهم له. ويعطى الفرس المستعار والمستأجر، وكذلك المغصوب، وسهمه لصاحبه. ويستحق السهم للخيل وإن كانت في السفن ووقعت الغنيمة في البحر، لانها معدة لنزول إلى البر. الثامنة عشرة - لا حق في الغنائم للحشوة (2) كالاجراء والصناع الذين يصحبون الجيش للمعاش، لانهم لم يقصدوا قتالا ولا خرجوا مجاهدين. وقيل: يسهم لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الغنيمة لمن شهد الوقعة). أخرجه البخاري. وهذا لا حجة فيه لانه جاء بيانا (1) الرهيص: الذي أصابته الرهصة وهي وقرة - صدع - تصيب باطن حافر الفرس توهنه. (2) الحشوة (بضم الحاء وكسرها) رذالة الناس. (*)
[ 17 ]
لمن باشر الحرب وخرج إليه، وكفى ببيان الله عزوجل المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين حيث جعلهم فرقتين متميزتين، لكل واحدة حالها في حكمها، فقال: " علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله " (1) [ المزمل: 20 ] إلا أن هؤلاء إذا قاتلوا لا يضرهم كونهم على معاشهم، لان سبب الاستحقاق قد وجد منهم. وقال أشهب: لا يستحق أحد منهم وإن قاتل، وبه قال ابن القصار في الاجير: لا يسهم له وإن قاتل. وهذا يرده حديث سلمة بن الاكوع قال: كنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه (2) وأخدمه وآكل من طعامه، الحديث. وفيه: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين، سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي. خرجه مسلم. واحتج ابن القصار ومن قال بقوله بحديث عبد الرحمن بن عوف، ذكره عبد الرزاق، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: (هذه الثلاثة الدنانير حظه (3) ونصيبه من غزوته في أمر دنياه وآخرته). التاسعة عشرة - فأما العبيد والنساء فمذهب الكتاب أنه لا يسهم لهم ولا يرضخ (4). وقيل: يرضخ لهم، وبه قال جمهور العلماء. وقال الاوزاعي: إن قاتلت المرأة أسهم لها. وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء يوم خيبر. قال: وأخذ المسلمون بذلك عندنا. وإلى هذا القول مال ابن حبيب من أصحابنا. خرج مسلم عن ابن عباس أنه كان في كتابه إلى نجدة (5): تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء ؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين (6) من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن. وأما الصبيان فإن كان مطيقا للقتال ففيه عندنا ثلاثة أقوال: الاسهام ونفيه حتى يبلغ، لحديث ابن عمر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والتفرقة بين أن يقاتل فيسهم له أو يقاتل فلا يسهم له. والصحيح (1) راجع ج 19 ص 54. (2) أحسه: أزيل التراب عنه بالمحسة. (3) في ز: حصته. (4) الرضخ: العطاء ليس بالكثير. (5) هو نجدة بن عامر الحنفي كان من رؤساء الخوارج. (6) يحذين: يعطين الحذوة (بكسر الحاء وضمها) وهي العطية. (*)
[ 18 ]
الاول، لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أن يقتل منهم من أنبت ويخلي منهم من لم ينبت. وهذه مراعاة لا طاقة القتال لا للبلوغ. وقد روى أبو عمر في الاستيعاب عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الغلمان من الانصار فيلحق من أدرك منهم، فعرضت عليه عاما فألحق غلاما وردني، فقلت: يا رسول الله، ألحقته ورددتني، ولو صارعني صرعته قال: فصارعني فصرعته فألحقني. وأما العبيد فلا يسهم لهم أيضا ويرضخ لهم. الموفية عشرين - الكافر إذا حضر بإذن الامام وقاتل ففي الاسهام له عندنا ثلاثة أقوال: الاسهام ونفيه، وبه قال مالك وابن القاسم. زاد ابن حبيب: ولا نصيب لهم. ويفرق في الثالث - وهو لسحنون - بين أن يستقل المسلمون بأنفسهم فلا يسهم له، أو لا يستقلوا ويفتقروا إلى معونته فيسهم له. فإن لم يقاتل فلا يستحق شيئا. وكذلك العبيد مع الاحرار. وقال الثوري والاوزاعي: إذا استعين بأهل الذمة أسهم لهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يسهم لهم، ولكن يرضخ لهم. وقال الشافعي رضي الله عنه: يستأجرهم الامام من مال لا مالك له بعينه. فإن لم يفعل أعطاهم سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في موضع آخر: يرضخ للمشركين إذا قاتلوا مع المسلمين. قال أبو عمر: اتفق الجميع أن العبد، وهو ممن (1) يجوز أمانه، إذا قاتل لم يسهم له ولكن يرضخ، فالكافر بذلك أولى ألا يسهم له. الحادية والعشرون - لو خرج العبد وأهل الذمة لصوصا وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس، لانه لم يدخل في عموم قوله عزوجل: " وأعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " أحد منهم ولا من النساء. فأما الكفار فلا مدخل لهم من غير خلاف. وقال سحنون. لا يخمس ما ينوب العبد. وقال ابن القاسم: يخمس، لانه يجوز أن يأذن له سيده في القتال ويقاتل على الدين، بخلاف الكافر. وقال أشهب في كتاب محمد: إذا خرج العبد والذمي من الجيش وغنما فالغنيمة للجيش دونهم. (1) في ب: وهو مؤمن يجوز. الخ. (*)
[ 19 ]
الثانية والعشرون - سبب استحقاق السهم شهود الوقعة لنصر المسلمين، على ما تقدم. فلو شهد آخر الوقعة استحق. ولو حضر بعد أنقضاء القتال فلا. ولو غاب بانهزام فكذلك. فإن كان قصد التحيز إلى فئة فلا يسقط استحقاقه. روى البخاري وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها، وإن حزم خيلهم ليف، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله. قال أبو هريرة: [ فقلت ] (1) لا تقسم لهم يا رسول الله. فقال أبان: أنت بها يا وبرا (2) تحدر علينا من رأس ضال (2). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجلس يا أبان) ولم يقسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالثة والعشرون - واختلف العلماء فيمن خرج لشهود الوقعة فمنعه العذر منه كمرض، ففي ثبوت الاسهام له ونفيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، وهو المشهور، فيثبته إن كان الضلال قبل القتال وبعد الادراب (3)، وهو الاصح، قاله ابن العربي. وينفيه إن كان قبله. وكمن بعثه الامير من الجيش في أمر من مصلحة الجيش فشغله ذلك عن شهود الوقعة فإنه يسهم له، قاله ابن المواز، ورواه ابن وهب وابن نافع عن مالك. وروي لا يسهم له بل يرضخ له لعدم السبب الذي يستحق به السهم، والله أعلم. وقال أشهب: يسهم للاسير وإن كان في الحديد. والصحيح أنه لا يسهم له، لانه ملك مستحق بالقتال، فمن غاب أو حضر مريضا كمن لم يحضر. الرابعة والعشرون - الغائب المطلق لا يسهم له، ولم يسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغائب قط إلا يوم خيبر، فإنه أسهم لاهل الحديبية من حضر منهم ومن غاب، لقول الله عزوجل: " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها " (4) [ الفتح: 20 ]، قاله موسى بن عقبة. وروي ذلك عن جماعة من السلف. وقسم يوم بدر لعثمان ولسعيد بن زيد وطلحة، وكانوا غائبين، فهم (1) من ج، ز، ك. (2) الوبر: دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء حسنة العينين شديدة الحياء. والضال: شجر السدر من شجر الشوك، وفي ب تدلى علينا من قدوم ضال. (3) أدرب القوم: إذا دخلوا أرض العدو. (4) راجع ج 16 ص 278. (*)
[ 20 ]
كمن حضرها إن شاء الله تعالى. فأما عثمان فإنه تخلف على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره من أجل مرضها. فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها (1). وأما طلحة بن عبيد الله فكان بالشام في تجارة فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فيعد لذلك في أهل بدر. وأما سعيد بن زيد فكان غائبا بالشام أيضا فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره. فهو معدود في البدريين. قال ابن العربي: أما أهل الحديبية فكان ميعادا من الله اختص به أولئك النفر فلا يشاركهم فيه غيرهم. وأما عثمان وسعيد وطلحة فيحتمل أن يكون أسهم لهم من الخمس، لان الامة مجمعة على أن من بقي لعذر فلا يسهم له. قلت: الظاهر أن ذلك مخصوص بعثمان وطلحة وسعيد فلا يقاس عليهم غيرهم. وأن سهمهم كان من صلب الغنيمة كسائر من حضرها لا من الخمس. هذا الظاهر من الاحاديث والله أعلم. وقد روى البخاري عن ابن عمر قال: لما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه). الخامسة والعشرون - قوله تعالى " إن كنتم آمنتم بالله " قال الزجاج عن فرقة: المعنى فأعلموا أن الله مولاكم إن كنتم، ف‍ (إن) متعلقة بهذا الوعد. وقالت فرقة: إن (إن) متعلقة بقوله " وأعلموا أنما غنمتم ". قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، لان قوله " وأعلموا " يتضمن الامر بالانقياد والتسليم لامر الله في الغنائم، فعلق (إن) بقوله: " وأعلموا " على هذا المعنى، أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لامر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة. قوله تعالى: (وما أنزلنا على عبد نا يوم الفرقان) (2) (ما) في موضع خفض عطف على اسم الله " يوم الفرقان " أي اليوم الذي فرقت فيه بين الحق والباطل، وهو يوم بدر. (يوم التقى الجمعان) حزب الله وحزب الشيطان. (والله على كل شئ قدير). (1) في ب: فبعد لذلك في أهل بدر. (2) المتبادر أن المسألة السادسة والعشرين هي هذه الآية لانها من تمام الكلام. (*)
[ 21 ]
قوله تعالى: إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم (42) قوله تعالى: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى) أي أنزلنا إذ أنتم على هذه الصفة. أو يكون المعنى: واذكروا إذ أنتم. والعدوة: جانب الوادي. وقرئ بضم العين وكسرها، فعلى الضم يكون الجمع عدى وعلى الكسر عدى، مثل لحية ولحى، وفرية وفرى. والدنيا: تأنيث الادنى. والقصوى: تأنيث الاقصى. من دنا يدنو، وقصا يقصو. ويقال: القصيا، والاصل الواو، وهي لغة أهل الحجاز قصوى. فالدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة. أي إذ أنتم نزول بشفير الوادي بالجانب الادنى إلى المدينة، وعدوكم بالجانب الاقصى. (والركب أسفل منكم) يعني ركب أبي سفيان وغيره. كانوا في موضع أسفل منهم إلى ساحل البحر فيه الامتعة. وقيل: هي الابل التي كانت تحمل أمتعتهم، وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقا من الله عزوجل لهم، فذكرهم نعمه عليهم. " الركب " ابتداء " أسفل منكم " ظرف في موضع الخبر. أي مكانا أسفل منكم. وأجاز الاخفش والكسائي والفراء " والركب أسفل منكم " أي أشد تسفلا منكم. والركب جمع راكب. ولا تقول العرب: ركب إلا للجماعة الراكبي الابل. وحكى ابن السكيت وأكثر أهل اللغة أنه لا يقال راكب وركب إلا للذي على الابل، ولا يقال لمن كان على فرس أو غيرها راكب. والركب والاركب والركبان والراكبون لا يكونون إلا على جمال، عن ابن فارس. (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) أي لم يكن يقع الاتفاق لكثرتهم وقلتكم، فإنكم لو عرفتم كثرتهم لتأخرتم (1) فوفق الله عزوجل لكم. (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) من نصر المؤمنين وإظهار الدين. واللام في (ليقضي) متعلقة بمحذوف والمعنى: جمعهم ليقضي الله، ثم كررها فقال: " ليهلك " (1) في ج: لتخلفتم. (*)
[ 22 ]
أي جمعهم هنالك ليقضي أمرا. (ليهلك من هلك) (من) في موضع رفع. (ويحيا) في موضع نصب عطف على ليهلك. والبينة إقامة الحجة والبرهان. أي ليموت من يموت عن بينة رآها وعبرة عاينها، فقامت عليه الحجة. وكذلك حياة من يحيا. وقال ابن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على ذلك. وقرئ " من حيي " بيائين على الاصل. وبياء واحدة مشددة، الاولى قراءة أهل المدينة والبزي وأبي بكر. والثانية قراءة الباقين، وهي اختيار أبي عبيد، لانها كذلك وقعت في المصحف. قوله تعالى: إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور (43) قال مجاهد: رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه قليلا، فقص ذلك على أصحابه، فثبتهم الله بذلك. وقيل: عني بالمنام محل النوم وهو العين، أي في موضع منامك، فحذف، عن الحسن. قال الزجاج: وهذا مذهب حسن، ولكن الاولى أسوغ في العربية، لانه قد جاء " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم " فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم. ومعنى (لفشلتم) لجبنتم عن الحرب. (ولتنازعتم في الامر) اختلفتم. (ولكن الله سلم) أي سلمكم من المخالفة. ابن عباس: من الفشل. ويحتمل منهما. وقيل: سلم أي أتم أمر المسلمين بالظفر. قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) هذا في اليقظة. يجوز حمل الاولى على اليقظة أيضا إذا قلت: المنام موضع النوم، وهو العين، فتكون الاولى على هذا خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه للجميع. قال ابن مسعود: قلت لانسان كان بجانبي
[ 23 ]
يوم بدر: أتراهم سبعين ؟ فقال: هم نحو المائة. فأسرنا رجلا فقلنا: كم كنتم ؟ فقال: كنا ألفا. (ويقللكم في أعينهم) كان هذا في ابتداء القتال حتى قال أبو جهل في ذلك اليوم: إنما هم أكلة جزور (1)، خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال. فلما أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم فكثروا، كما قال: " يرونهم مثليهم رأي العين " [ آل عمران: 13 ] حسب ما تقدم في (آل عمران) (2) بيانه. (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) تكرر هذا، لان المعنى في الاول من اللقاء، وفي الثاني من قتل المشركين وإعزاز الدين، وهو إتمام النعمة على المسلمين. (وإلى الله ترجع الامور) أي مصيرها ومردها إليه. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45) قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) أي جماعة (فاثبتوا) أمر بالثبات عند قتال الكفار، كما في الآية قبلها النهي عن الفرار عنهم، فالتقى الامر والنهي على سواء. وهذا تأكيد على الوقوف للعدو والتجلد له. قوله تعالى: (واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال: الاول - اذكروا الله عند جزع قلوبكم، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد. الثاني - اثبتوا بقلوبكم، واذكروه بألسنتكم، فإن القلب لا يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين، ويثبت اللسان على الذكر، ويقول ما قاله أصحاب طالوت: " ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " (3) [ البقرة: 250 ]. وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس. الثالث - أذكروا ما عندكم من وعد الله لكم في ابتياعه أنفسكم ومثامنته لكم. (1) أي هم قليل، يشبعهم لحم ناقة. (2) راجع ج 4 ص 25. (3) راجع ج 3 ص 256. (*)
[ 24 ]
قلت: والاظهر أنه ذكر اللسان الموافق للجنان. قال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، يقول الله عز وجل: " ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا " (1) [ آل عمران: 41 ]. ولرخص للرجل يكون في الحرب، يقول الله عزوجل: " إذا لقيتم فئة فاثبوا واذكروا الله كثيرا ". وقال قتادة: افترض الله عزوجل ذكره على عباده، أشغل ما يكونون عند الضراب (2) بالسيوف. وحكم هذا الذكر أن يكون خفيا، لان رفع الصوت في مواطن القتال ردئ مكروه إذا كان الذاكر واحدا (3). فأما إذا كان من الجميع عند الحملة فحسن، لانه يفت في أعضاد العدو. وروى أبو داود عن قيس بن عباد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال. وروى أبو بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. قال ابن عباس: يكره التلثم عند القتال. قال ابن عطية: وبهذا والله أعلم استن (4) المرابطون بطرحه عند القتال على صيانتهم به. قوله تعالى: واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (46) قوله تعالى: (واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا) هذا استمرار على الوصية لهم، والاخذ على أيديهم في اختلافهم في أم بدر وتنازعهم. (فتفشلوا) نصب بالفاء في جواب النهي. ولا يجيز سيبويه حذف الفاء والجزم وأجازه الكسائي. وقرئ " تفشلوا " بكسر الشين. وهو غير معروف. (وتذهب ريحكم) أي قوتكم ونصركم، كما تقول: الريح لفلان، إذا كان غالبا في الامر قال الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها * فإن لكل خافقة سكون (5) (1) راجع ج 4 ص 80. (2) في ب وج وك وز والبحر: الضراب والسيوف. (3) اختلفت الاصول في هذه الجملة، ففي ج: (.. إذا كان ألغاطا..) وفي ب وك وابن عطية: (.. إذا كان ألفاظا فأما..) وفي ز ول: العائط واحدا. وكلها ذات معان. (4) في تفسير ابن عطية (تيمن) والظاهر أنه يريد أن المرابطين آثروا التبرك بطرح التلثم عملا بما ورد عن ابن عباس على الصيانة به. (5) القافية مرفوعة، واسم (إن) هاهنا ضمير الشان. وقوله (لكل خافقة سكون) خبرها. وفي ج وه‍: عاصفة. وهي رواية. ومن هذه القصيدة: ولا تغفل عن الاحسان فيها * فما تدرى السكون متى يكون (*)
[ 25 ]
وقال قتادة وابن زيد: إنه لم يكن نصر قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار. ومنه قوله عليه السلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) (1). قال الحكم: " وتذهب ريحكم " يعني الصبا، إذ بها نصر محمد عليه الصلاة والسلام وأمته. وقال مجاهد: وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد. قوله تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين) أمر بالصبر، وهو محمود في كل المواطن وخاصة موطن الحرب، كما قال: " إذا لقيتم فئة فاثبتوا ". قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط (47) يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير. خرجوا بالقيان (2) والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خفاف الكناني - وكان صديقا لابي جهل - بهدايا إليه مع ابن له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع من خف من قومي. فقال أبو جهل: إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة. وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا فتهابنا آخر الابد. فوردوا بدرا و [ لكن ] (3) جرى ما جرى من هلاكهم. والبطر في اللغة. التقوية بنعم الله عزوجل وما ألبسه من العافية على المعاصي. وهو مصدر في موضع الحال. أي خرجوا بطرين مراءين صادين. وصدهم إضلال الناس. (1) الصبا (بالفتح): الريح الشرقية. والدبور: الغربية. (2) القيان: جمع قينة، وهى الامة مغنية كانت أو غير مغنية. والمعازف: الملاهي. (3) من ج وك وى. (*)
[ 26 ]
قوله تعالى: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (48) روي أن الشيطان تمثل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، لانهم قتلوا رجلا منهم. فلما تمثل لهم قال ما أخبر الله به عنه. وقال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم. وعن ابن عباس قال: أمد الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة (1)، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: (يا رب إنك تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الارض أبدا). فقال جبريل: (خذ قبضة من التراب) فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه. فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال له الرجل: يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار، قال: إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون. ذكره البيهقي وغيره. وفي موطأ مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله (1) مجنبة الجيش: هي التي تكون في الميمنة والميسرة وهما مجنبتان والنون مكسورة. وقيل: هي الكتيبة التي تأخذ إحدى ناحيتي الطريق. (*)
[ 27 ]
عليه وسلم قال: (ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر) قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال (أما إنه رأى جبريل يزع (1) الملائكة). ومعنى نكص: رجع بلغة سليم، عن مؤرج (2) وغيره. وقال الشاعر: ليس النكوص على الادبار مكرمة * إن المكارم إقدام على الاسل (3) وقال آخر: وما ينفع المستأخرين نكوصهم * ولا ضر أهل السابقات التقدم وليس (4) ها هنا قهقري بل هو فرار، كما قال: (إذا سمع الاذان أدبر وله ضراط). (إني أخاف الله) قيل: خاف إبليس أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه. وقيل: كذب إبليس في قوله: " إني أخاف الله " ولكن علم أنه لا قوة له. ويجمع جار على أجوار وجيران، وفي القليل جيرة. قوله تعالى: إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غير هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (49) قيل: المنافقون: الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر. والذين في قلوبهم مرض: الشاكون، وهم دون المنافقين، لانهم حديثو عهد بالاسلام، وفيهم بعض ضعف نية. قالوا عند الخروج إلى القتال وعند التقاء الصفين: غر هؤلاء دينهم. وقيل: هما واحد، وهو أولى. ألا ترى إلى قوله عزوجل: " الذين يؤمنون بالغيب " [ البقرة: 3 ] ثم قال " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " (5) [ البقرة: 4 ] وهما لواحد. (1) يزع الملائكة: أي يرتبهم ويسو يهم ويصفهم للحرب. (2) هو مؤرج بن عمرو السدوسى يكنى أبا فيد مات سنة 195 ه‍. (3) الاسل: الرماح والنبل. (4) كذا في الاصول ما عدا نخ ز فيها: وليس التقدم هاهنا الخ ولعل الصواب: وليس النكوص. (5) راجع ج 1 ص 162. (*)
[ 28 ]
قوله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق (50) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (51) قيل: أراد من بقي ولم يقتل يوم بدر. وقيل: هي فيمن قتل ببدر. وجواب " لو " محذوف، تقديره: لرأيت أمرا عظيما. (يضربون) في موضع الحال. (وجوههم وأدبارهم) أي أستاههم، كنى عنها بالادبار، قاله مجاهد وسعيد بن جبير. الحسن: ظهورهم، وقال: إن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك ؟ (1) قال: (ذلك ضرب الملائكة). وقيل: هذا الضرب يكون عند الموت. وقد يكون يوم القيامة حين يصيرون بهم إلى النار. (وذوقوا عذاب الحريق) قال الفراء: المعنى ويقولون ذوقوا، فحذف. وقال الحسن: هذا يوم القيامة، تقول لهم خزنة جهنم: ذوقوا عذاب الحريق. وروي أن في بعض التفاسير أنه كان مع الملائكة مقامع من حديد، كلما ضربوا التهبت النار في الجراحات، فذلك قوله: " وذوقوا عذاب الحريق ". والذوق يكون محسوسا ومعنى. وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه. وأنظر فلانا فذق ما عنده. قال الشماخ يصف فرسا: فذاق فأعطته من اللين جانبا * كفى ولها أن يغرق السهم حاجز (2) وأصله من الذوق بالفم. (ذلك) في موضع رفع، أي الامر ذلك. أو " ذلك " جزاؤكم. (بما قدمت أيديكم) أي اكتسبتم من الآثام. (وأن الله ليس بظلام للعبيد) إذ قد أوضح السبيل وبعث الرسل، فلم خالفتم ؟. " وأن " في موضع خفض عطف على " ما " وإن شئت نصبت، بمعنى وبأن، وحذفت الباء. أو بمعنى: وذلك أن الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع نسقا على ذلك. (1) الشراك: سير النعل. (2) في اللسان: أي لها حاجز يمنع من إغراق. أي فيها لين وشدة. (*)
[ 29 ]
قوله تعالى: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب (52) الدأب العادة. وقد تقدم في " أل عمران " (1). أي العادة في تعذيبهم عند قبض الارواح وفي القبور كعادة آل فرعون. وقيل: المعنى جوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي آل فرعون بالغرق. أي دأبهم كدأب آل فرعون. قوله تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (53) تعليل. أي هذا العقاب، لانهم غيروا وبدلوا، ونعمة الله على قريش الخصب والسعة، والامن والعافية. " أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " (2) [ العنكبوت: 67 ] الآية. وقال السدي: نعمة الله عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، فنقل إلى المدينة وحل بالمشركين العقاب. قوله تعالى: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكنا هم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين (54) ليس هذا بتكرير، لان الاول للعادة في التكذيب، والثاني للعادة في التغيير، وباقي الآية بين. قوله تعالى: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون (56) (1) راجع ج 4 ص 22. (2) راجع ج 13 ص 363. (*)
[ 30 ]
قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله) أي من يدب على وجه الارض في علم الله وحكمه. (الذين كفروا فهم لا يؤمنون) نظيره " الصم البكم الذين لا يعقلون " (1) [ الانفال: 22 ]. ثم وصفهم فقال: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) أي لا يخافون الانتقام. " ومن " في قوله " منهم " للتبعيض، لان العهد إنما كان يجري مع أشرافهم ثم ينقضونه. والمعني بهم قريظة والنضير، في قول مجاهد وغيره. نقضوا العهد فأعانوا مشركي مكة بالسلاح، ثم اعتذروا فقالوا: نسينا، فعاهدهم عليه السلام ثانية فنقضوا يوم الخندق. قوله تعالى: فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون (57) شرط وجوابه. ودخلت النون توكيدا لما دخلت ما، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع " إما " في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير. ومعنى " تثقفنهم " تأسر هم وتجعلهم في ثقاف، أو تلقا هم بحال ضعف، تقدر عليهم فيها وتغلبهم. وهذا لازم من اللفظ، لقوله: " في الحرب ". وقال بعض الناس: تصادفنهم وتلقاهم. يقال: ثقفته أثقفه ثقفا، أي وجدته. وفلان ثقف لقف أي سريع الوجود لما يحاوله ويطلبه. وثقف لقف. وامرأة ثقاف. والقول الاول أولى، لارتباطه بالآية كما بينا. والمصادف قد يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب. والثقاف في اللغة: ما يشد به القناة ونحوها. ومنه قول النابغة: تدعو قعينا وقد عض الحديد بها * عض الثقاف على صم الانابيب (2) (فشرد بهم من خلفهم) قال سعيد بن جبير: المعنى أنذر بهم من خلفهم. قال أبو عبيد: هي لغة قريش، شرد بهم سمع بهم. وقال الضحاك: نكل بهم. الزجاج: افعل بهم فعلا (1) راجع ج 7 ص 388. (2) القعن (بالتحريك): قصر في الانف فاحش. وقعين: حي مشتق منه، وهما قعينان: قعين في بني أسد وقعين في قيس عيلان. والانابيب: جمع أنبوبة وهي كعب القصبة والرمح. (*)
[ 31 ]
من القتل تفرق به من خلفهم. والتشريد في اللغة: التبديد والتفريق، يقال: شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها. وكذلك الواحد، تقول: تركته شريدا عن وطنه وأهله. قال الشاعر من هذيل: أطوف في الاباطح كل يوم * مخافة أن يشرد بي حكيم ومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه. و " من " بمعنى الذي، قال الكسائي. وروى عن ابن مسعود " فشرذ " بالذال المعجمة، وهما لغتان. وقال قطرب: التشريذ (بالذال المعجمة) التنكيل. وبالدال المهملة التفريق، حكاه الثعلبي. وقال المهدوي: الذال لا وجه لها، إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما، ولا يعرف في اللغة " فشرذ ". وقرئ " من خلفهم " بكسر الميم والفاء. (لعلهم يدكرون) أي يتذكرون بوعدك إياهم. وقيل: هذا يرجع إلى من خلفهم، [ لان من قتل لا يتذكر أي شرد بهم من خلفهم ] (1) من عمل بمثل عملهم. قوله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين (58) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة) أي غشا ونقضا للعهد. (فآنبذ إليهم على سواء) وهذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. وحكاه الطبري عن مجاهد. قال ابن عطية: والذي يظهر في ألفاظ القرآن أن أم بني قريظة انقضى عند قوله " فشرد بهم من خلفهم " ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره فيما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، فتترتب فيهم هذه الآية. [ وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته ]، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة [ مشهورة ] (2). الثانية - قال ابن العربي: فإن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة. فالجواب من (1) من ج، ك، ز، ى. (2) التكملة عن تفسير ابن عطية. (*)
[ 32 ]
وجهين: أحدهما - أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين، كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم، قال الله تعالى: " ما لكم لا ترجون لله وقارا " (1) [ نوح: 13 ]. الثاني - إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة. وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عام الفتح، لما اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم عهدهم. والنبذ: الرمي والرفض. وقال الازهري: معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقى إليهم أنك قد نقضت العهد والموادعة، فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم. قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه. والمعنى: وإما تخافن من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فأنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا. ثم بين هذا بقوله: " إن الله لا يحب الخائنين ". قلت: ما ذكره الازهري والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فإنهم لما نقضوا لم يوجه إليهم بل قال: (اللهم اقطع خبر عنهم) وغزاهم. وهو أيضا معنى الآية، لان في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم. فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز. روى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا أنقضى العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، [ وفاء لا غدر ] (2)، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاومة فسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء) فرجع معاوية بالناس. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والسواء: المساواة والاعتدال. (1) راجع ج 18 ص 303. (2) زيادة عن سنن الترمذي وأبي داود. (*)
[ 33 ]
وقال الراجز فأضرب وجوه الغدر الاعداء * حتى يجيبوك إلى السواء وقال الكسائي: السواء العدل. وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى: " في سواء الجحيم " (1) [ الصافات: 55 ]. ومنه قول حسان: يا ويح أصحاب النبي ورهطه * بعد المغيب في سواء الملحد الفراء: ويقال " فأنبذ إليهم على سواء " جهرا لا سرا. الثالثة - روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الامام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنهم إذا غدروا وعلم ذلك منهم ولم ينبذوا بالعهد لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين. فأما إذا لم يكن للعدو عهد فينبغي أن يتحيل عليه بكل حيلة، وتدار عليه كل خديعة. وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة) (2). وقد اختلف العلماء هل يجاهد مع الامام الغادر (3)، على قولين. فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق. وذهب بعضهم إلى الجهاد معه. والقولان في مذهبنا. قوله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزون (59) قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا) أي من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة. ثم استأنف فقال: " إنهم لا يعجزون " أي في الدنيا حتى يظفرك الله بهم. وقيل: يعني في الآخرة. وهو قول الحسن. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة " يحسبن " بالياء والباقون بالتاء، على أن يكون في الفعل ضمير الفاعل. و " الذين كفروا " مفعول أول. و " سبقوا " مفعول ثان. وأما قراءة الياء فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم (1) راجع ج 15 ص 83. (2) في كشف الخفا: مثلت الخاء والفتح أشهر والدال ساكنة فيهن قالوا: أفصحها الفتح مع سكون الدال وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم. (3) العدو اليوم لا يعتد بعهد ولا ذمة ففاجأته من ضروب الفن الحربي. (*)
[ 34 ]
أن هذا لحن لا تحل القراءة به، ولا تسع لمن عرف الاعراب أو عرفه. قال أبو حاتم: لانه لم يأت ل‍ " - يحسبن " بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين. قال النحاس: وهذا تحامل شديد، والقراءة تجوز ويكون المعنى: ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما تقدم، إلا أن القراءة بالتاء أبين. المهدوي: ومن قرأ بالياء احتمل أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون " الذين كفروا سبقوا " المفعولين. ويجوز أن يكون " الذين كفروا " فاعلا، والمفعول الاول محذوف، المعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. مكي: ويجوز أن يضمر مع سبقوا أن، فيسد مسد المفعولين والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل " أحسب الناس أن يتركوا " (1) [ العنكبوت: 2 ] في سد أن مسد المفعولين. وقرأ ابن عامر " أنهم لا يعجزون " بفتح الهمزة. واستبعد هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. قال أبو عبيد: وإنما يجوز على أن يكون المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال النحاس: الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين، [ لا يجوز ] (2) حسبت زيدا أنه خارج، إلا بكسر الالف، وإنما لم يجز لانه في موضع المبتدأ، كما تقول: حسبت زيدا [ أبوه خارج، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا ] (2) خروجه. وهذا محال، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قاله يصح به معنى، إلا أن يجعل " لا " زائدة، ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله عزوجل إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها. والقراءة جيدة على أن يكون المعنى: لانهم لا يعجزون. مكي: فالمعنى لا يحسبن الكفار أنفسهم فأتوا لانهم لا يعجزون، أي لا يفوتون. ف‍ " - أن " في موضع نصب بحذف اللام، أو في موضع خفض على إعمال اللام لكثرة حذفها مع " أن "، وهو يروى عن الخليل والكسائي. وقرأ الباقون بكسر " إن " على الاستئناف والقطع مما قبله، وهو الاختيار، لما فيه من معنى التأكيد، ولان الجماعة عليه. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ " لا يعجزون " بالتشديد وكسر النون. النحاس: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما - (1) راجع ج 13 ص 323. (2) زيادة عن إعراب القرآن للنحاس يقتضيها السياق. *)
[ 35 ]
أن معنى عجزه ضعفه وضعف أمره. والآخر - أنه كان يجب أن يكون بنونين. ومعنى أعجزه سبقه وفاته حتى لم يقدر عليه. قوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وأعدوا لهم " أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للاعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. وكلما تعده لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عدتك. قال ابن عباس: القوة هاهنا السلاح والقسي. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي). وهذا نص رواه عن عقبة أبو علي ثمامة بن شفي الهمداني، وليس له في الصحيح غيره. وحديث آخر في الرمي عن عقبة أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه). وقال صلى الله عليه وسلم: (كل شئ يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنه من الحق). ومعنى هذا والله أعلم: أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة فهو باطل، والاعراض عنه أولى. وهذه الامور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعا من معاون (1) القتال. وملاعبة (1) من ج وك وز. وهو جمع معونة. وفي ا وب: تعاون. (*)
[ 36 ]
الاهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق. وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومنبله). وفضل الرمي عظيم ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين. قال صلى الله عليه وسلم: (يا بني إسماعيل أرموا فإن أباكم كان راميا). وتعلم الفروسية واستعمال الاسلحة فرض كفاية. وقد يتعين. الثانية - قوله تعالى: " ومن رباط الخيل " وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة " ومن ربط الخيل " بضم الراء والباء، جمع رباط، ككتاب وكتب قال أبو حاتم عن ابن زيد: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وجماعته ربط. وهي التي ترتبط، يقال منه: ربط يربط ربطا. وارتبط يرتبط ارتباطا. ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو. قال الشاعر: أمر الاله بربطها لعدوه * في الحرب إن الله خير موفق وقال مكحول بن عبد الله: تلوم على ربط الجياد وحبسها * وأوصى بها الله النبي محمدا ورباط الخيل فضل عظيم ومنزلة شريفة. وكان لعروة البارقي سبعون فرسا معدة للجهاد. والمستحب منها الاناث، قاله عكرمة وجماعة. وهو صحيح، فإن الانثى بطنها كنز وظهرها عز. وفرس جبريل كان أنثى. وروى الائمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر) الحديث. ولم يخص ذكرا من أنثى. وأجودها أعظمها أجرا وأكثرها نفعا. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل ؟ فقال: (أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها). وروى النسائي عن أبي وهب الجشمي - وكانت له صحبة - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسموا بأسماء الانبياء وأحب الاسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن وارتبطوا الخيل
[ 37 ]
وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الاوتار (1) وعليكم بكل كميت (2) أغر محجل أو أشقر أغر محجل أو أدهم أغر محجل). وروى الترمذي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الخيل الادهم الاقرح الارثم (3) [ ثم الاقرح المحجل ] (4) طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية). ورواه الدارمي عن أبي قتادة أيضا، أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أريد أن أشتري فرسا، فأيها أشتري ؟ قال: (أشتر أدهم أرثم محجلا طلق اليد اليمنى أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم). وكان صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل. والشكال: أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى. خرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويذكر أن الفرس الذي قتل عليه الحسين بن علي رضي الله عنهما كان أشكل. الثالثة - فإن قيل: إن قوله " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " كان يكفي، فلم خص الرمي والخيل بالذكر ؟ قيل له: إن الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها (6) التي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوة وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يجال في الميدان، خصها بالذكر تشريفا، وأقسم بغبارها تكريما. فقال: " والعاديات ضبحا " (7) [ العاديات: 1 ] الآية. ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدو وأقربها تناولا للارواح، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها والتنبيه عليها. ونظير هذا في التنزيل، " وجبريل وميكال " (8) [ البقرة: 98 ] ومثله كثير. الرابعة - وقد استدل بعض علمائنا بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزان لها عدة للاعداء. وقد اختلف العلماء (9) في جواز وقف الحيوان (1) الاوتار: جمع وتر (بالكسر) وهو الدم. والمعنى: لا تطلبوا عليها الاوتار والذحول التي وترتم بها في الجاهلية. وقيل: جمع وتر القوس فإنهم كانوا يعلقونها بأعناق الدواب لدفع العين. وهو من شعار الجاهلية، فكره ذلك. (2) كميت (بالتصغير): هو الذى لونه بين السواد والحمرة يستوى فيه المذكر والمؤنث. والاغر: هو الذي في وجهه بياض. والمحجل: هو الذي في قوائمه بياض. (3) الارثم: الذي أنفه أبيض وشفته العليا. (4) الاقرح: هو ما كان في جبهته قرحة وهي بياض يسير في وجه الفرس دون الغرة. (5) أي مطلقها ليس فيها تحجيل. (6) أوزار الحرب: أثقالها من آلة حرب وسلاح وغره. (7) راجع ج 20 ص 153. (8) راجع ج 2 ص 36. (9) في ج وز وه‍: عن مالك. (*)
[ 38 ]
كالخيل والابل على قولين: المنع، وبه قال أبو حنيفة. والصحة، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وهو أصح، لهذه الآية، ولحديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله وقوله عليه السلام في حق خالد: (وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده (1) في سبيل الله) الحديث. وما روي أن امرأة جعلت بعيرا في سبيل الله، فأراد زوجها الحج، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحج من سبيل الله). ولانه مال ينتفع به في وجه قربة، فجاز أن يوقف كالرباع. وقد ذكر السهيلي في هذه الآية تسمية خيل النبي صلى الله عليه وسلم، وآلة حربه. من أرادها وجدها في كتاب الاعلام (2). الخامسة - قوله تعالى: (ترهبون عدو الله وعدوكم) يعني تخيفون به [ عدو الله و ] (3) عدوكم من اليهود وقريش وكفار العرب. (وآخرين من دونهم) يعني فارس والروم، قاله السدي. وقيل: الجن. وهو اختيار الطبري. وقيل: المراد بذلك كل من لا تعرف عداوته. قال السهيلي: قيل لهم قريظة. وقيل: هم من الجن. وقيل غير ذلك. ولا ينبغي أن يقال فيهم شئ، لان الله سبحانه قال: " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم "، فكيف يدعي أحد علما بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله في هذه الآية: (هم الجن). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان لا يخبل أحدا في دار فيها فرس عتيق) وإنما سمي عتيقا لانه قد تخلص من الهجانة. وهذا الحديث أسنده الحارث بن أبي أسامة عن ابن المليكي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي: أن الجن لا تقرب دارا فيها فرس، وأنها تنفر من صهيل الخيل. السادسة - قوله تعالى: (وما تنفقوا من شئ) أي تتصدقوا. وقيل: تنفقوه على أنفسكم أو خيلكم. (في سبيل الله يوف إليكم) في الآخرة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة [ ضعف ] (4)، إلى أضعاف كثيرة. (وأنتم لا تظلمون). (1) الاعتاد، آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها. راجع الحديث وشرحه في صحيح مسلم، كتاب الزكاة (2) هو كتاب التعريف والاعلام فيما أبهم في القرآن من الاسماء الاعلام. وهو كتاب مخطوط محفوظ ردار الكتب تحت رقم 232 و 439 تفسير. (3) من ج، ه‍، ز، ك. (4) من ج، ه‍، ز. (*)
[ 39 ]
قوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " إنما قال " لها " لان السلم مؤنثة. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة. والجنوح الميل. يقول: إن مالوا - يعني الذين نبذ إليهم عهدهم - إلى المسالمة، أي الصلح، فمل إليها. وجنح الرجل إلى الآخر: مال إليه، ومنه قيل للاضلاع جوانح، لانها مالت على الحشوة (1). وجنحت الابل: إذا مالت أعناقها في السير. وقال ذو الرمة: إذا مات فوق الرحل أحييت روحه * بذكراك والعيس المراسيل (2) جنح وقال النابغة: (3) جوانح قد أيقن أن قبيله * إذا ما التقى الجمعان أول غالب يعني الطير. وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الارض. والسلم والسلام هو الصلح. وقرأ الاعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل " للسلم " بكسر السين. الباقون بالفتح. وقد تقدم معنى ذلك في " البقرة " (4) مستوفى. وقد يكون السلام من التسليم. وقرأ الجمهور " فاجنح " بفتح النون، وهي لغة تميم. وقرأ الاشهب العقيلي " فاجنح " بضم النون، وهي لغة قيس. قال ابن جني: وهذه اللغة هي القياس. الثانية - وقد اختلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعكرمة: نسخها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (5) [ التوبة: 5 ]. " وقاتلوا المشركين كافة " [ التوبة: 36 ] وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا لا إله إلا الله. ابن عباس: الناسخ لها " فلا تهنوا وتدعوا إلى (1) الحشوة (بالضم والكسر): الامعاء. (2) العيس: الابل البيض. والمراسيل: سهلة السير، وهي التي تعطيك ما عندها عفوا. وجنح: مائلة صدورها إلى الارض. وقيل: مائلة في سيرها من النشاط. (3) في الاصول: (وقال عنترة) والتوصيب عن كتاب البحر لابي حيان وديوان النابغة. (4) راجع ج 3 ص 22. (5) راجع ص 72 وص 136 من هذا الجزء. (*)
[ 40 ]
السلم " (1) [ محمد: 35 ]. وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية. وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الائمة كثيرا من بلاد العجم، على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من أهل البلاد على مال يؤدونه، من ذلك خيبر، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف. قال ابن إسحاق: قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة، لان الجزية تقبل منهم، فأما المشركون فلا يقبل منهم شئ. وقال السدي وابن زيد.: معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم. ولا نسخ فيها. قال ابن العربي: وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عزوجل: " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم " (1) [ محمد: 35 ]. فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة فلا صلح، كما قال: فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا * وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون [ به ] (2) إذا احتاجوا إليه. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم. وقد صالح الضمري (3) وأكيدر دومة وأهل نجران، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده. وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة. قال القشيري: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة. وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة. وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين. قال ابن النذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وبين أهل مكة عام الحديبية، فقال عروة: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت (1) راجع ج 16 ص 255. (2) من ك وز وى وه‍. (3) الضمري: هو مخشى بن عمرو الضمري، من بني ضمرة بن بكر. وكان هذا في غزوة الابواء. وأكيدر: هو أكيدر بن عبد الملك: رجل من كندة. ودومة: هي دومة الجندل مدينة قريبة من دمشق. (*)
[ 41 ]
عشر سنين. وقال الشافعي رحمه الله: لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة، لان الاصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك رضي الله عنه: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة. قال المهلب: إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، حين توجه إليها فبركت. وقال: (حبسها حابس الفيل). على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة. ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم، إذا رأى ذلك الامام وجها. ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف (1) المري يوم الاحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا، ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة (2) ولم تكن عقدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شئ أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا ؟ فقال: (بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الاوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أنتم وذاك). وقال لعيينة والحارث: (انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف). وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة [ أن لا إله إلا الله ] (3) فمحاها. (1) في الاصول: (... بن نوفل) والتصويب عن كتب السيرة. (2) المراوضة: المداراة والمخاتلة. (3) من ز. (*)
[ 42 ]
قوله تعالى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (63) قوله تعالى: (وإن يريدوا أن يخدعوك) أي بأن يظهروا لك السلم، ويبطنوا الغدر والخيانة، فاجنح فما عليك من نياتهم الفاسدة. (فإن حسبك الله) كافيك الله، أي يتولى كفايتك وحياطتك. قال الشاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا * فحسبك والضحاك سيف مهند أي كافيك وكافي الضحاك سيف. قوله تعالى: (هو الذى أيدك بنصره) أي قواك بنصره. يريد يوم بدر. (وبالمؤمنين) قال النعمان بن بشير: نزلت في الانصار. (وألف بين قلوبهم) أي جمع بين قلوب الاوس والخزرج. وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لان أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها. وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالايمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والانصار. والمعنى متقارب. قوله تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64) ليس هذا تكريرا فإنه قال فيما سبق: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) وهذه كفاية خاصة. وفي قوله: (يأيها النبي حسبك الله) أراد التعميم، أي حسبك الله في كل حال وقال ابن عباس: نزلت في إسلام عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، فأسلم عمر وصاروا أربعين. والآية مكية، كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة مدنية، ذكره القشيري.
[ 43 ]
قلت: ما ذكره من إسلام عمر رضي الله عنه عن ابن عباس، فقد وقع في السيرة خلافه. عن عبد الله بن مسعود قال: (ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه. وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة. قال ابن إسحاق: وكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر منهم. وهو يشك فيه. وقال الكلبي: نزلت الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال. قوله تعالى: (ومن اتبعك من المؤمنين) قيل: المعنى حسبك الله، وحسبك المهاجرون والانصار. وقيل: المعنى كافيك الله، وكافي من تبعك، قاله الشعبي وابن زيد. والاول عن الحسن. وأختاره النحاس وغيره. ف‍ " - من " على القول الاول في موضع رفع، عطفا على اسم الله تعالى. على معنى: فإن حسبك الله وأتباعك من المؤمنين. وعلى الثاني على إضمار. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (يكفينيه الله وأبناء قيلة) (1). وقيل: يجوز أن يكون [ المعنى ] (2) " ومن اتبعك من المؤمنين " حسبهم الله، فيضمر الخبر. ويجوز أن يكون " من " في موضع نصب، على معنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك (3). (1) يريد الاوس والخزرج، قبيلتي الانصار. وقيلة اسم أم لهم قديمة، وهي قيلة بنت كاهل. (2) من ج وك وه‍. (3) اضطربت عبارة الاصول هنا. والذي في إعراب القرآن للنحاس: (يأيها النبي حسبك الله). ابتداء وخبر، أي كافيك الله. ويقال: أحسبه إذا كفاه. (ومن اتبعك) في موضع نصب معطوف على الكاف في التأويل، أي يكفيك الله عزوجل ويكفى من اتبعك كما قال: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا * فحسبك والضحاك سيف مهند ويجوز أن (من اتبعك) في موضع رفع، وللنحويين فيه ثلاثة أقوال: قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: يكون عطفا على اسم الله عزوجل، أي حسبك الله ومن اتبعك. قال: ومثله قول النبي عليه السلام: (يكفينيه الله عزوجل وأبناء قيلة). والقول الثاني - أن يكون التقدير: ومن اتبعك من المؤمنين كذلك، على الابتداء والخبر، كما قال الفرزدق: وعض زمان يابن مروان لم يدع * من المال إلا مسحتا أو مجلف والقول الثالث أحسنها - أنه يكون على إضمار، بمعنى وحسبك من اتبعك. وهكذا الحديث على إضمار. وتركنا القول الاول لانه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقال: ما شاء الله وشئت. والثاني - فالشاعر مضطر، إذ كانت القصيدة مرفوعة. وإن كان فيه غير هذا. (*)
[ 44 ]
قوله تعالى: يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (65) ألآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (66) قوله تعالى: (يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال) أي حثهم وحضهم. يقال: حارض على الامر وواظب وواصب وأكب بمعنى واحد. والحارض: الذي قد قارب الهلاك، ومنه قوله عزوجل: " حتى تكون حرضا " (1) [ يوسف: 85 ] أي تذوب غما، فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) لفظ خبر، ضمنه وعد بشرط، لان معناه إن يصبر منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين. وعشرون وثلاثون وأربعون كل واحد منها اسم موضوع على صورة الجمع لهذا العدد. ويجري هذا الاسم مجرى فلسطين. فإن قال قائل: لم كسر أول عشرين وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى الثمانين إلا ستين ؟ فالجواب عند سيبويه أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد، فكسر أول عشرين كما كسر اثنان. والدليل على هذا قولهم: ستون وتسعون، كما قيل: ستة وتسعة. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين " فشق ذلك على المسلمين، حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم إنه جاء التخفيف فقال: " ألآن خفف الله عنكم " [ قرأ أبو (2) توبة ] إلى قوله: " مائة صابرة يغلبوا مائتين ". قال: فلما خفف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم. وقال ابن العربي: قال قوم إن هذا كان يوم بدر ونسخ. وهذا خطأ من قائله. ولم ينقل قط أن المشركين صافوا المسلمين (1) راجع ج 9 ص 249 فما بعد. (2) من ب وج وز وه‍ وك. (*)
[ 45 ]
عليها، ولكن الباري عزوجل فرض ذلك عليهم أولا، وعلق (1) ذلك بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب. وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه. قلت: وحديث ابن عباس يدل على أن ذلك فرض. ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين، فخفف عنهم وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين، فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ. وهذا حسن. وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه، أو غير عدده فجائز أن يقال إنه نسخ، لانه حينئذ ليس بالاول، بل هو غيره. وذكر في ذلك خلافا. قوله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " أسرى " جمع أسير، مثل قتيل وقتلى وجريح وجرحى. ويقال في جمع أسير أيضا: أسارى (بضم الهمزة) وأسارى (بفتحها) وليست بالعالية. وكانوا يشدون الاسير بالقد وهو الاسار، فسمي كل أخيذ وإن لم يؤسر أسيرا. قال الاعشى: وقيدني الشعر في بيته * كما قيد الآسرات الحمارا وقد مضى هذا في سورة " البقرة " (2). وقال أبو عمر بن العلاء: الاسرى هم غير الموثقين عند ما يؤخذون، والاسارى هم الموثقون ربطا. وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب. الثانية - هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله عزوجل لاصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم. والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي (1) هكذا في نسخ الاصل، والذي في ابن العربي: (وعلله بأنكم.. الخ). (2) راجع ج ص 21. (*)
[ 46 ]
صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الاثخان (1). ولهم هذا الاخبار بقوله " تريدون عرض الدنيا ". والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية. هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره. وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم ينه عنه حين رآه من العريش وإذ كره سعد ابن معاذ وعمر بن الخطاب وعبد الله بن رواحة، ولكنه عليه السلام شغله بغت الامر ونزول النصر فترك النهي عن الاستبقاء، ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات. والله أعلم. روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدم أوله في " آل عمران " (2) وهذا تمامه. قال أبو زميل: قال ابن عباس فلما أسروا الاسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي بكر وعمر: (ما ترون في هؤلاء الاسارى) ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للاسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا بن الخطاب) ؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان (نسيبا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شئ تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة) (شجرة قريبة كانت من نبي الله صلى الله عليه وسلم) وأنزل الله عزوجل " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض " إلى قوله تعالى: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " [ الانفال: 69 ] فأحل الله الغنيمة لهم. وروى يزيد بن هارون (1) الاثخان في الشئ: المبالغة فيه والاكثار منه، والمراد به هنا: المبالغة في قتل الكفار. (2) راجع ج 4 ص 193. (*)
[ 47 ]
قال: أخبرنا يحيى قال حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر جئ بالاسارى وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترون في هؤلاء الاسارى) فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فأضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: أنظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم. فقال العباس وهو يسمع: قطعت رحمك. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا. فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه. وقال أناس: يأخذ بقول عمر. وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة). مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " (1) [ إبراهيم: 36 ] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " (2) [ المائدة: 118 ]. ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " (3) [ نوح: 26 ]. ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم " (4) [ يونس: 88 ] أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق). فقال عبد الله: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الاسلام. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما رأيتني أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم. فأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض " إلى آخر الآيتين. في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر). وروى أبو داود عن عمر قال: لما كان يوم بدر وأخذ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - الفداء، أنزل الله عزوجل " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض " إلى قوله " لمسكم فيما أخذتم - من الفداء - عذاب عظيم " [ الانفال: 68 ]. ثم أحل الغنائم. وذكر القشيري أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله، إنه أول وقعة لنا مع المشركين (1) راجع ج 9 ص 368. (2) راجع ج 6 ص 377. (3) راجع ج 18 ص 312. (4) راجع ج 8 ص 374. (*)
[ 48 ]
فكان الاثخان أحب إلي. والاثخان: كثرة القتل، عن مجاهد وغيره. أي يبالغ في قتل المشركين. تقول العرب: أثخن فلان في هذا الامر أي بالغ. وقال بعضهم: حتى يقهر ويقتل. وأنشد المفضل: تصلي الضحى ما دهرها بتعبد * وقد أثخنت فرعون في كفره كفرا وقيل: " حتى يثخن " يتمكن. وقيل: الاثخان القوة والشدة. فأعلم الله سبحانه وتعالى أن قتل الاسرى الذين فودوا ببدر كان أولى من فدائهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله عزوجل بعد هذا في الاسارى: " فإما منا بعد وإما فداء " (1) [ محمد: 4 ] على ما يأتي بيانه في سورة " القتال " إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إنما عوتبوا لان قضية بدر كانت عظيمة الموقع والتصريف في صناديد قريش وأشرافهم وساداتهم وأمو الهم بالقتل والاسترقاق والتملك. وذلك كله عظيم الموقع فكان حقهم أن ينتظروا الوحي ولا يستعجلوا، فلما استعجلوا ولم ينتظروا توجه عليهم ما توجه. والله أعلم. الثالثة - أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: (إن شئتم أخذتم فداء الاسارى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قتلوا وسلمتم). فقالوا: نأخذ الفداء ويستشهد منا سبعون. وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا. وقد مضى في " آل عمران " (2) القول في هذا. وقال عبيدة السلماني: طلبوا الخيرتين كلتيهما، فقتل منهم يوم أحد سبعون. وينشأ هنا إشكال وهى: - الرابعة - وهو أن يقال: إذا كان التخيير فكيف وقع التوبيخ بقوله " لمسكم ". فالجواب - أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء، ثم وقع التخيير بعد ذلك. ومما يدل على ذلك أن المقداد قال حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط: أسيري يا رسول الله. وقال مصعب بن عمير الذي أسر أخاه: شد عليه يدك، فإن له أما (1) راجع ج 16 ص 226. (2) راجع ج 4 ص 193. (*)
[ 49 ]
موسرة. إلى غير ذلك من قصصهم وحرصهم على أخذ الفداء. فلما تحصل الاسارى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة وغيرهما وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله عزوجل، فأستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حينئذ، فمر عمر على أول رأيه في القتل، ورأى أبو بكر المصلحة في قوه المسلمين بمال الفداء. ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر. وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير. فلم ينزل بعد على هذا شئ من تعنيت (1). والله أعلم. الخامسة - قال ابن وهب: قال مالك كان ببدر أسارى مشر كون فأنزل الله " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض ". وكانوا يومئذ مشركين وفادوا ورجعوا، ولو كانوا مسلمين لاقاموا ولم يرجعوا. وكان عدة من قتل منهم أربعة وأربعين رجلا، ومثلهم أسروا. وكان الشهداء قليلا. وقال عمرو بن العلاء: إن القتلى كانوا سبعين، والاسرى كذلك. وكذلك قال ابن عباس وابن المسيب وغيرهم. وهو الصحيح كما في صحيح مسلم، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر البيهقي قالوا: فجئ بالاسارى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا، وهم سبعون في الاصل، مجتمع عليه لا شك فيه. قال ابن العربي: إنما قال مالك " وكانوا مشركين " لان المفسرين رووا أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مسلم. وفي رواية أن الاسارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بك. وهذا كله ضعفه مالك، واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم وزيادة عليه أنهم غزوه في أحد. قال أبو عمر بن عبد البر: اختلفوا في وقت إسلام العباس، فقيل: أسلم قبل يوم بدر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لقي العباس فلا يقتله فإنما أخرج كرها). وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (إن أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها) وذكر الحديث. وذكر أنه أسلم حين أسر يوم بدر. وذكر أنه أسلم عام خيبر، وكان يكتب (1) كذا في ج، ك، ه‍. وفي ا، ب: تعنيته. وفي ى: تعييب. (*)
[ 50 ]
لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا). قوله تعالى: لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: " لولا كتاب من الله سبق " في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون. واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال، أصحها ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا. فلما كان يوم بدر، أسرع الناس إلى الغنائم فأنزل الله عزوجل " لولا كتاب من الله سبق " أي بتحليل الغنائم. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا سلام عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغنيمة لا تحل لاحد سود الرؤوس غيركم). فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها (1)، فأنزل الله تعالى: " لولا كتاب من الله سبق " إلى آخر الآيتين. وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقاله مجاهد والحسن. وعنهما أيضا وسعيد بن جبير: الكتاب السابق هو مغفرة الله لاهل بدر، ما تقدم أو تأخر من ذنوبهم. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب، معينا. والعموم أصح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). خرجه مسلم. وقيل: الكتاب السابق هو ألا يعذبهم ومحمد عليه السلام فيهم. وقيل: الكتاب السابق هو ألا يعذب أحدا بذنب أتاه جاهلا حتى يتقدم إليه. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى. (1) المشهور أن هذا كان في الامم السالفة فليتأمل. (*)
[ 51 ]
الثانية - ابن العربي: وفي الآية دليل على أن العبد إذا أقتحم ما يعتقده حراما مما هو في علم الله حلال له لا عقوبة عليه، كالصائم إذا قال: هذا يوم نوبي (1) فأفطر الآن. أو تقول المرأة: هذا يوم حيضتي فأفطر، ففعلا ذلك، وكان النوب والحيض الموجبان للفطر، ففي المشهور من المذهب فيه الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه، وهي الرواية الاخرى. وجه الرواية الاولى أن طرو الاباحة لا يثبت عذرا في عقوبة التحريم عند الهتك، كما لو وطئ امرأة ثم نكحها. وجه الرواية الثانية أن حرمة اليوم ساقطة عند الله عزوجل فصادف الهتك محلا لا حرمة له في علم الله، فكان بمنزلة ما لو قصد وطئ امرأة قد زفت إليه وهو يعتقدها أنها ليست بزوجته فإذا هي زوجته. وهذا أصح. والتعليل الاول لا يلزم، لان علم الله سبحانه وتعالى مع علمنا قد استوى في مسألة التحريم، وفي مسألتنا اختلف فيها علمنا وعلم الله فكان المعول على علم الله. كما قال: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ". قوله تعالى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69) يقتضي ظاهره أن تكون الغنيمة كلها للغانمين، وأن يكونوا مشتركين فيها على السواء، إلا أن قوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " [ الانفال: 41 ] بين وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى الوجوه المذكورة. وقد تقدم القول في هذا مستوفى. قوله تعالى: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسارى إن يعلم الله في قلو بكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم (70) وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم (71) فيه ثلاث مسائل: (1) النوب: ما كان منك مسيرة يوم وليلة، وقيل: على ثلاثة أيام. وقيل: ما كان على فرسخين أو ثلاثة. (*)
[ 52 ]
الاولى - قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى) قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقيل: له وحده. وقال ابن عباس رضي الله عنه: الاسرى في هذه الآية عباس وأصحابه. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومك، فنزلت هذه الآية. وقد تقدم بطلان هذا من قول مالك. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة. وعن ابن إسحاق: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا. وقال العباس: يارسول الله، إني قد كنت مسلما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر). وقال: ما ذاك عندي يا رسول الله. قال: (فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبد الله وقثم) ؟ فقال: يا رسول الله، إني لاعلم أنك رسول الله، إن هذا لشئ ما علمه غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ذاك شئ أعطانا الله منك). ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله فيه: " يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى " الآية. قال ابن إسحاق: وكان أكثر الاسارى فداء العباس بن عبد المطلب، لانه كان رجلا موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية من ذهب. وفي البخاري: وقال موسى بن عقبة قال ابن شهاب: حدثني أنس بن مالك أن رجالا من الانصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يارسول الله، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. فقال: (لا والله لا تذرون درهما). وذكر النقاش وغيره أن فداء كل واحد من الاسارى كان أربعين أوقية، إلا العباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أضعفوا الفداء على العباس) وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل
[ 53 ]
ابن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون [ أوقية ] (1) وقت الحرب. وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضمنوا الاطعام لاهل بدر، فبلغت النوبة إليه يوم بدر فاقتتلوا قبل أن يطعم، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية. فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل) ؟ فقال العباس: أي ذهب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك قلت لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك) فقال: يا بن أخي، من أخبرك بهذا ؟ قال: (الله أخبرني). قال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قط إلا اليوم، وقد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وكفرت بما سواه. وأمر ابني أخويه فأسلما، ففيهما نزلت " يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى ". وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان رجلا قصيرا، وكان العباس ضخما طويلا، فلما جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لقد أعانك عليه ملك). الثانية - قوله تعالى: (إن يعلم الله في قلو بكم خيرا) أي إسلاما. يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) أي من الفدية. قيل في الدنيا. وقيل في الآخرة. وفي صحيح مسلم أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس: إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذ) فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله. مختصر. في غير الصحيح: فقال له العباس هذا خير مما أخذ مني، وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي. قال العباس: وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة. وأسند الطبري إلى العباس أنه قال: في نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى. وقال: (ذلك فئ) فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي. وفي مصنف أبي داود عن (1) من ج وه‍. والجمل عن القرطبي. (*)
[ 54 ]
عائشة رضي الله عنها قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص. قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها) ؟ فقالوا: نعم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الانصار فقال: (كونا ببطن يأجج (1) حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها). قال ابن إسحاق: وذلك بعد بدر بشهر. قال عبد الله بن أبي بكر: حدثت عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما قدم أبو العاص مكة قال لي: تجهزي، فالحقي بأبيك. قالت: فخرجت أتجهز فلقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ؟ فقلت لها: ما أردت ذلك. فقالت، أي بنت عم، لا تفعلي، إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك، فإن أردت سلعة بعتكها، أو قرضا من نفقة أقرضتك، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال. قالت: فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، فخفتها فكتمتها وقلت: ما أريد ذلك. فلما فرغت زينب من جهازها ارتحلت وخرج بها حموها يقود بها نهارا كنانة بن الربيع. وتسامع بذلك أهل مكة، وخرج في طلبها هبار بن الاسود ونافع بن عبد القيس الفهري، وكان أول من مبق إليها هبار فروعها بالرمح وهي في هودجها. وبرك كنانة ونثر نبله، ثم أخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما. وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش فقال: يا هذا، أمسك عنا نبلك حتى نكلمك، فوقف عليه أبو سفيان وقال: إنك لم تصنع شيئا، خرجت بالمرأة على رءوس الناس، وقد عرفت مصيبتنا التي أصابتنا ببدر فتظن العرب وتتحدث أن هذا وهن منا وضعف خروجك إليه بابنته على رءوس الناس من بين أظهرنا. أرجع بالمرأة فأقم بها أياما، ثم سلها (2) سلا رفيقا في الليل فألحقها بأبيها، فلعمري ما لنا (1) يأجج (كيسمع وينصر ويضرب): موضع بمكة. (2) انطلق بها في استخفاء. (*)
[ 55 ]
بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك الآن من ثؤرة (1) فيما أصاب منا، ففعل فلما مر به يومان أو ثلاثة سلها، فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكروا أنها قد كانت ألقت - للروعة التي أصابتها حين روعها هبار بن أم درهم - ما في بطنها. الثالثة - قال ابن العربي: " لما أسر من أسر من المشركين تكلم قوم منهم بالاسلام ولم يمضوا فيه عزيمة ولا اعترفوا به اعترافا جازما. ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين. قال علماؤنا: إن تكلم الكافر بالايمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا، إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها. وقد بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الحقيقة فقال: (وإن يريدوا خيانتك) أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا " فقد خانوا الله من قبل " بكفرهم ومكر هم بك وقتالهم لك. وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم ". وجمع خيانة خيائن، وكان يجب أن يقال: خوائن لانه من ذوات الواو، إلا أنهم فرقوا بينه وبين جمع خائنة. ويقال: خائن وخوان وخونة وخانة. قوله تعالى: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأمو الهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض (1) الثؤرة (بالضم): الثأر. (*)
[ 56 ]
إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير (73) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم (74) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم (75) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إن الذين آمنوا) ختم السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به. وقد تقدم معنى الهجرة والجهاد (1) لغة ومعنى. (والذين آووا ونصروا) معطوف عليه. وهم الانصار الذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم، وانضوى إليهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون. (أولئك) رفع بالابتداء. (بعضهم) ابتداء ثان (أولياء بعض) خبره، والجميع خبر " إن ". قال ابن عباس: " أولياء بعض " في الميراث، فكانوا يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر من هاجر فنسخ الله ذلك بقوله: " وأولوا الارحام " الآية. أخرجه أبو داود. وصار الميراث لذوي الارحام من المؤمنين. ولا يتوارث أهل ملتين شيئا. ثم جاء قوله عليه السلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها) على ما تقدم بيانه في آية المواريث. وقيل: ليس هنا نسخ، وإنما معناه في النصرة والمعونة، كما تقدم في " النساء " (2). (والذين آمنوا) ابتداء والخبر (مالكم من ولايتهم من شئ) وقرأ يحيى بن وثاب والاعمش وحمزة " من ولايتهم " بكسر الواو. وقيل هي لغة. وقيل: هي من وليت الشئ، يقال: ولي بين الولاية. ووال بين الولاية. والفتح في هذا أبين وأحسن، لانه بمعنى النصرة والنسب. وقد تطلق الولاية والولاية بمعنى الامارة. (1) راجع ج 3 ص 49. (2) راجع ج 5 ص 80. (*)
[ 57 ]
الثانية - قوله تعالى: (وإن استنصروكم في الدين) يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم. إلا أن يستنصر وكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصر وهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته. ابن العربي: إلا أن يكونوا [ أسراء ] (1) مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة، حتى لا تبقى منا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذ هم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لاحد درهم. كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الاموال، وفضول الاحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد. الزجاج: ويجوز " فعليكم النصر " بالنصب على الاغراء. الثالثة - قوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم. قال علماؤنا في الكافرة يكون لها الاخ المسلم: لا يزوجها، إذ لا ولاية بينهما، ويزوجها أهل ملتها. فكما لا يزوج المسلمة إلا مسلم فكذلك الكافرة لا يزوجها إلا كافر قريب لها، أو أسقف، ولو من مسلم، إلا أن تكون معتقة، فإن عقد على غير المعتقة فسخ إن كان لمسلم، ولا يعرض للنصراني. وقال أصبغ: لا يفسخ، عقد المسلم أولى وأفضل. الرابعة - قوله تعالى: (إلا تفعلوه) الضمير عائد على الموارثة والتزامها. المعنى: إلا تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، قاله ابن زيد. وقيل: هي عائدة على التناصر والمؤازرة والمعاونة واتصال الايدي. ابن جريج وغيره: وهذا إن لم يفعل تقع الفتنة عنه عن قريب، فهو آكد من الاول. وذكر الترمذي عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن محمد وسعد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون (1) زيادة عن ابن العربي (*)
[ 58 ]
دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير). قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه ؟ قال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. قال: حديث غريب. وقيل: يعود على حفظ العهد والميثاق الذي تضمنه قوله: " إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ". وهذا وإن لم يفعل فهو الفتنة نفسها. وقيل: يعود على النصر للمسلمين في الدين. وهو معنى القول الثاني. قال ابن إسحاق: جعل الله المهاجرين والانصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض. ثم قال: " إلا تفعلوه " وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين. " تكن فتنة " أي محنة بالحرب، وما أنجر معها من الغارات والجلاء والاسر. والفساد الكبير: ظهور الشرك. قال الكسائي: ويجوز النصب في قوله: " تكن فتنة " على معنى تكن فعلتكم فتنة وفسادا كبيرا. (حقا) مصدر، أي حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة. وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله: (لهم مغفرة ورزق كريم) أي ثواب عظيم في الجنة. الخامسة - قوله تعالى: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا) يريد من بعد الحديبية وبيعة الرضوان. وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الاولى. والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصلح، ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة. ولهذا قال عليه السلام: (لا هجرة بعد الفتح). فبين أن من آمن وهاجر من بعد يلتحق بهم. ومعنى " منكم " أي مثلكم في النصر والموالاة. السادسة - قوله تعالى: (وأولوا الارحام) ابتداء. والواحد ذو، والرحم مؤنثة، والجمع أرحام. والمراد بها ها هنا العصبات دون المولود بالرحم. ومما يبين أن المراد بالرحم العصبات قول العرب: وصلتك رحم. لا يريدون قرابة الام. قالت قتيلة بنت الحارث - أخت النضر بن الحارث - كذا قال ابن هشام. قال السهيلي: الصحيح أنها بنت النضر لا أخته، كذا وقع في كتاب الدلائل - ترثي أباها حين قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا - بالصفراء: (1) (1) بقعة بين مكة والمدينة وتسمى وادى الصفراء. (*)
[ 59 ]
يا راكبا إن الاثيل مظنة * من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية * ما إن تزال بها النجائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة * جادت بواكفها وأخرى تخنق هل يسمعني النضر إن ناديته * أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضن ء (1) كريمة * في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما * من الفتى وهو المغيط المحنق لو كنت قابل فدية لفديته * بأعز ما يفدى به ما ينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة * وأحقهم إن كان عتق يعتق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه * لله أرحام هناك تشقق صبرا يقاد إلى المنية متعبا * رسف المقيد وهو عان موثق السابعة - واختلف السلف ومن بعدهم في توريث ذوي الارحام - وهو من لا سهم له في الكتاب - من قرابة الميت وليس بعصبة، كأولاد البنات، وأولاد الاخوات، وبنات الاخ، والعمة والخالة، والعم أخ الاب للام، والجد أبي الام، والجدة أم الام، ومن أدلى بهم. فقال قوم: لا يرث من لا فرض له من ذوي الارحام. وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر، ورواية عن علي، وهو قول أهل المدينة، وروي عن مكحول والاوزاعي، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وقال بتوريثهم: عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة وعلي في رواية عنه، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق. واحتجوا بالآية، وقالوا: وقد اجتمع في ذوي الارحام سببان القرابة والاسلام، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الاسلام. أجاب الاولون فقالوا: هذه آية مجملة جامعة، والظاهر بكل رحم قرب أو بعد، وآيات المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين. قالوا: وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الولاء سببا ثابتا، أقام (1) الضن ء (بالكسر): الاصل. (*)
[ 60 ]
المولى فيه مقام العصبة فقال: (الولاء لمن أعتق). ونهى عن بيع الولاء وعن هبته. احتج الآخرون بما روى أبو داود والدار قطني عن المقدام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك كلا فإلي - وربما قال فإلى الله وإلى رسوله - ومن ترك مالا فلورثته فأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وأرث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه). وروى الدار قطني عن طاوس قال قالت عائشة رضي الله عنها: (الله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له). موقوف. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخال وارث). وروي عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال (لا أدري حتى يأتيني جبريل) ثم قال: (أين السائل عن ميراث العمة والخالة) ؟ قال: فأتى الرجل فقال: (سارني جبريل أنه لا شئ لهما). قال الدارقطني: لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف، والصواب مرسل. وروي عن الشعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه: هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة ؟ قال لا. قال: إني لاعلم خلق الله كيف قضى فيهما عمر، جعل الخالة بمنزلة الام، والعمة بمنزلة الاب.
[ 61 ]
تفسير سورة براءة مدنية باتفاق قوله تعالى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فيه خمس مسائل: الاولى - في أسمائها قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة ما زال ينزل: ومنهم ومنهم، حتى خفنا ألا تدع أحدا. قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم: هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها. وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم. وفي السورة كشف أسرار المنافقين. وتسمى الفاضحة والبحوث، لانها تبحث عن أسرار المنافقين. وتسمى المبعثرة والبعثرة: البحث. الثانية - واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة: الاول - أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمش ركين بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عاد تهم في نقض العهد من ترك البسملة. وقول ثان - روى النسائي قال حدثنا أحمد قال حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا يزيد الرقاشي (1) قال قال (1) في ب وج وك وز وه‍: (الرواسي). والذي في صحيح الترمذي: (الفارسي). قال الترمذي تعقيبا عليه: (... حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس. ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث. ويقال: هو يزيد بن هرمز، ويزيد الرقاشي هو يزيد بن أبان الرقاشي ولم يدرك ابن عباس، إنما روى عن أنس بن مالك وكلاهما من البصرة. ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي). (*)
[ 62 ]
لنا ابن عباس: قلت لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى [ الانفال ] وهي من المثاني وإلى " براءة " وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول (1) فما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشئ يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: (ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا). وتنزل عليه الآيات فيقول: (ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا). وكانت " الانفال " من أوائل ما أنزل (2)، و " براءة " من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وخرجه أبو عيسى الترمذي وقال: هذا حديث حسن. وقول ثالث - روي عن عثمان أيضا. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أو لها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه. وروي ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة " براءة " كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها فلذلك لم يكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم. وقال سعيد بن جبير: كانت مثل سورة البقرة. وقول رابع - قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا: لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: براءة والانفال سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان. فتركت بينهما فرجة لقول من قال أنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان معا وثبتت حجتاهما في المصحف. وقول خامس - قال عبد الله بن عباس: سألت على بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال: لان بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. وروي معناه عن المبرد قال: ولذلك لم يجمع بينهما فإن بسم الله الرحمن الرحيم رحمة وبراءة نزلت سخطة (3). ومثله عن سفيان. قال سفيان بن عيينة: إنما لم (1) السبع الطول: سبع سور وهي سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والانعام، والاعراف فهذه ست سور متواليات. واختلفوا في السابعة فمنهم من قال: السابعة الانفال وبراءة وعدهما سورة واحدة. ومنهم من جعل السابعة سورة يونس. (2) أي بعد الهجرة. (3) في الجمل عن القرطبي: بسخطه. (*)
[ 63 ]
تكتب في صدر هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم لان التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين. والصحيح أن التسمية لم تكتب لان جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة قاله القشيري. وفي قول عثمان: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن براءة وحدها ضمت إلى الانفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الاخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي. الثالثة - قال ابن العربي: هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الانفال " فألحقوها بها ؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الاحكام. الرابعة - قوله تعالى: " براءة " تقول: برئت من الشئ أبرأ براءة فأنا منه برئ إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه. و " براءة " رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه براءة. ويصح أن ترفع بالابتداء. والخبر في قوله: " إلى الذين ". وجاز الابتداء بالنكرة لانها موصوفة فتعرفت تعريفا ما وجاز الاخبار عنها. وقرأ عيسى ابن عمر " براءة " بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الاغراء. وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة. الخامسة - قوله تعالى: (إلى الذين عاهدتم من المشركين) يعني إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لانه كان المتولي للعقود وأصحا به بذلك كلهم راضون فكأنهم عاقد وا وعاهد وا فنسب العقد إليهم. وكذلك ما عقده أئمة الكفر على قومهم منسوب إليهم محسوب عليهم يؤاخذون به إذ لا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضا من الجميع متعذر فإذا عقد الامام لما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا.
[ 64 ]
قوله تعالى: فسيحوا في الارض أربعة أشهر وا علموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فسيحوا " رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم سيحوا أي سيروا في الارض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر. يقال ساح فلان في الارض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ومنه السيح في الماء الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد: لو خفت هذا منك ما نلتني * حتى ترى أمامي تسيح الثانية - واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله. فقال محمد بن إسحاق وغيره: هما صنفان من المشركين أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه. ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث ما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب. وابتداء هذا الاجل يوم الحج الاكبر وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر. فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الاربعة الاشهر الحرم. وذلك خمسون يوما: عشرون من ذي الحجة والمحرم. وقال الكلبي: إنما كانت الاربعة الاشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله " فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم " [ التوبة: 4 ] وهذا اختيار الطبري وغيره. وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: أن هذه الآية نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش، فعدت
[ 65 ]
بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم. وكان سبب ذلك دما كان لبني بكر عند خزاعة قبل الاسلام بمدة، فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية، امن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر - وهم الذين كان الدم لهم - تلك الفرصة وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بني الاسود بن رزن (1)، الذين قتلهم خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الد يلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة، حتى بيتوا (2) خزاعة واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم، فانهزمت خزاعة إلى الحرم على ما هو مشهور مسطور (3)، فكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين به فيما أصا بهم به بنو بكر وقريش، وأنشده عمرو بن سالم فقال: يا رب إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه ألا تلدا كنت لنا أبا وكنا ولدا * ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا عتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا * أبيض مثل الشمس ينمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا * في فليق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو أحدا * وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير (4) هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نصرت إن لم أنصر كعب). ثم نظر إلى سحابة فقال: (إنها لتستهل لنصر بني كعب) يعني خزاعة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) في هامش تاريخ الطبري طبع أوربا قسم 1 ص 1619: (رزين). (2) بيت القوم والعدو أوقع بهم ليلا. (3) راجع تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام في فتح مكة. (4) في الاصول: (الحطيم). والتصويب عن سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري ومعجم ياقوت وكتب الصحابة في ترجمة (عمرو بن سالم الخزاعي). والوتير: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة. (*)
[ 66 ]
لبديل بن ورقاء ومن معه: (إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح (1) وسينصرف بغير حاجة). فندمت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح، فرجع بغير حاجة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما هو معروف من خبره. وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها الله، وذلك في سنة ثمان من الهجرة. فلما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري، على ما هو معروف مشهور من غزاة حنين. وسيأتي بعضها. وكان الظفر والنصر للمسلمين على الكافرين. وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوال من السنة الثامنة من الهجرة. وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم من الاموال والنساء، فلم يقسمها حتى أتى الطائف، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة. وقيل غير ذلك. ونصب عليهم المنجنيق ورما هم به، على ما هو معروف من تلك الغزاة. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، وقسم غنائم حنين، على ما هو مشهور من أمرها وخبرها. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا، وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة. وهو أول أمير أقام الحج في الاسلام. وحج المشر كون على مشاعرهم. وكان عتاب بن أسيد خيرا فاضلا ورعا. وقدم كعب بن زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتدحه، وأقام على رأسه بقصيدته التي أولها: * بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * وأنشد ها إلى آخر ها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم - وكان قبل دلك قد حفظ له هجاء في النبي صلى الله عليه وسلم - فعاب عليه الانصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة يمتدح فيها الانصار فقال: من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالحي الانصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر * إن الخيار هم بنو الاخيار المكرهين السمهري بأذرع * كسوافل الهندي غير قصار (3) (1) في ابن هشام: (في المدة). (2) المقنب: الجماعة من الفوارس. (3) السمهري: الرمح. وسافلة القناة: أعظمها وأقصر ها كعوبا. والهندي: الرماح. (*)
[ 67 ]
والناظرين بأعين محمرة * كالجمر غير كليلة الابصار والبائعين نفوسهم لنبيهم * للموت يوم تعانق وكرار يتطهرون يرونه نسكا لهم * بدماء من علقوا من الكفار دربوا كما دربت ببطن خفية * غلب الرقاب من الاسود ضوار (1) وإذا حللت ليمنعوك إليهم * أصبحت عند معاقل الاغفار (2) ضربوا عليا يوم بدر ضربة * دانت لوقعتها جميع نزار (3) لو يعلم الاقوام علمي كله * فيهم لصدقني الذين أماري قوم إذا خوت النجوم فإنهم * للطارقين النازلين مقاري (4) ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الاول وربيع الآخر وجمادى الاول وجمادى الآخرة، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الروم غزوة تبوك. وهي آخر غزوة غزا ها. قال ابن جريج عن مجاهد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك أراد الحج ثم قال: (إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك). فأرسل أبا بكر أميرا على الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر " براءة " ليقرأها على أهل الموسم. فلما خرج دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وقال: (أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا). فخرج علي على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بذي الحليفة. فقال له أبو بكر لما رآه: أمير أو مأمور ؟ فقال: بل مأمور ثم نهضا، فأقام أبو بكر للناس الحج على مناز لهم التي كانوا عليها في الجاهلية. في كتاب النسائي عن جابر: وأن عليا قرأ على الناس " براءة " حتى ختمها قبل يوم التروية بيوم. (1) دربوا: اعتادوا. وخفية: موضع كثير الاسد. والغلب: الغلاظ الرقاب. والضواري: اللواتي قد ضرين بأكل لحوم الناس الواحد ضار. (2) المعاقل: الحصون. والاغفار: أولاد الاروية (الوعل) واحد ها غفر. (3) علي: هو علي بن بكر بن وائل. ويقال: هو على أخو عبد مناة بن خزيمة من أمه. وقالوا: هو علي بن مسعود بن مازن. (4) خوت: إذا لم يكن لها مطر. والمقاري: جمع مقرى الذي يقرى الضيف. (*)
[ 68 ]
وفي يوم عرفة وفي يوم النحر عند انقضاء خطبة أبي بكر في الثلاثة الايام. فلما كان يوم النفر الاول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون، يعلمهم مناسكهم. فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس " براءة " حتى ختمها. وقال سليمان بن موسى: لما خطب أبو بكر بعرفة قال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي ففعل. قال: ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر. وروى الترمذي عن زيد بن يثيع قال: سألت عليا بأي شئ بعثت في الحج ؟ قال: بعثت بأربع: ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشر كون بعد عامهم هذا. قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي وقال: فكنت أنادي حتى صحل (1) صوتي. قال أبو عمر: بعث علي لينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر. ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل حجته التي لم يحج غير ها من المدينة، فوقعت حجته في ذي الحجة. فقال: (إن الزمان قد استدار...) الحديث، على ما يأتي في آية النسئ بيانه (2). وثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. وذكر مجاهد: أن أبا بكر حج في ذي القعدة من سنة تسع. ابن العربي: وكانت الحكمة في إعطاء " براءة " لعلي أن براءة تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرة العرب ألا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم. قال معناه الزجاج. الثالثة - قال العلماء: وتضمنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين. ولذلك حالتان: حالة تنقضي المدة بيننا وبينهم فنؤذنهم بالحرب. والايذان اختيار. (1) الصحل: حدة الصوت مع بحح. (2) راجع ج 136 ص ؟ ؟ ؟ (*)
[ 69 ]
والثانية - أن نخاف منهم غدرا، فننبذ إليهم عهد هم كما سبق. ابن عباس: والاية منسوخة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد ثم نبذ العهد لما أمر بالقتال. قوله تعالى: وأذن من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم (3) فيه ثلاث مائل: الاولى - قوله تعالى: " وأذ ان " الاذ ان: الاعلام لغة من غير خلاف. وهو عطف على " براءة ". " إلى الناس " الناس هنا جميع الخلق. " يوم الحج الاكبر " ظرف، والعامل فيه " أذ ان ". وإن كان قد وصف بقوله: " من الله "، فإن رائحة الفعل فيه باقية، وهي عاملة في الظروف. وقيل: العامل فيه " مخزي " ولا يصح عمل " أذان "، لانه قد وصف فخرج عن حكم الفعل. الثانية - واختلف العلماء في الحج الاكبر، فقيل: يوم عرفة. روي عن عمر وعثمان وابن عباس وطاوس ومجاهد. وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال الشافعي. وعن علي وابن عباس أيضا وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة أنه يوم النحر. واختاره الطبري. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال: (أي يوم هذا) فقالوا: يوم النحر فقال: هذا يوم الحج الاكبر). أخرجه أبو داود. وخرج البخاري عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ويوم الحج الاكبر يوم النحر. وإنما قيل الاكبر من أجل قول الناس: الحج الاصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك. وقال ابن أبي أوفى: يوم النحر يوم الحج الاكبر، يهراق فيه الدم، ويوضع فيه الشعر، ويلقى فيه التفث،
[ 70 ]
وتحل فيه الحرم. وهذا مذهب مالك، لان يوم النحر فيه كالحج كله، لان الوقوف إنما هو ليلته، والرمي والنحر والحلق والطواف في صبيحته. احتج الاولون بحديث مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم الحج الاكبر يوم عرفة). رواه إسماعيل القاضي. وقال الثوري وابن جريج: الحج الاكبر أيام منى كلها. وهذا كما يقال: يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث (1)، فيراد به الحين والزمان لا نفس اليوم. وروي عن مجاهد: الحج الاكبر القران (2)، والاصغر الافراد. وهذا ليس من الآية في شئ. وعنه وعن عطاء: الحج الاكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والاصغر العمرة. وعن مجاهد أيضا: أيام الحج كلها. وقال الحسن وعبد الله بن الحارث بن نوفل: إنما سمي يوم الحج الاكبر لانه حج ذلك العام المسلمون والمشر كون، واتفقت فيه يومئذ أعياد الملل: اليهود والنصارى والمجوس. قال ابن عطية: وهذا ضعيف أن يصفه الله عزوجل في كتابه بالاكبر لهذا. وعن الحسن أيضا: إنما سمي الاكبر لانه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود. وهذا الذي يشبه نظر الحسن. وقال ابن سيرين: يوم الحج الاكبر العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وحجت معه فيه الامم. الثالثة - قوله تعالى: (أن الله برئ من المشركين ورسوله) " أن " بالفتح في موضع نصب. والتقدير بأن الله. ومن قرأ بالكسر قدره بمعنى قال إن الله. " برئ " خبر أن. " ورسوله " عطف على الموضع، وإن شئت على المضمر المرفوع في " برئ ". كلاهما حسن، لانه قد طال الكلام. وإن شئت على الابتداء والخبر محذوف، التقدير: ورسوله برئ منهم. ومن قرأ " ورسوله " بالنصب - وهو الحسن وغيره - عطفه على اسم الله عزوجل (1) صفين (بكسرتين وتشديد الفاء): موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات. كان فيه وقعة بين علي رضى الله عنه ومعاوية في سنة 37 ه‍. ويوم الجمل كان فيه وقعة بين علي وعائشة أم المؤمنين رضى الله عنهما، قتل فيه عدة من الصحابة وغير هم. وكان في سنة 36 ه‍. يوم بعاث (بضم أوله والعين المهملة، وحكاه بعضهم بالغين المعجمة): موضع من المدينة على ليلتين. كانت به وقائع بين الاوس والخزرج في الجاهلية. (2) القران (بالكسر): الجمع بين الحج والعمرة. والافراد: هو أن يحرم بالحج وحده. (*)
[ 71 ]
على اللفظ. وفي الشواذ " ورسوله " بالخفض على القسم، أي وحق رسوله، ورويت عن الحسن. وقد تقدمت قصة عمر فيها أول (1) الكتاب. (فإن تبتم) أي عن الشرك. (فهو خير لكم) أي أنفع لكم. (وإن توليتم) أي عن الايمان. (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) أي فائتيه، فإنه محيط بكم ومنزل عقابه عليكم. قوله تعالى: إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصو كم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهد هم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4) قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين) في موضع نصب بالاستثناء المتصل، المعنى: أن الله برئ من المشركين إلا من المعاهدين في مدة عهد هم. وقيل: الاستثناء منقطع، أي أن الله برئ منهم ولكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد فأتموا إليهم عهد هم. وقوله: (ثم لم ينقصو كم) يدل على أنه كان من أهل العهد من خاس (2) بعهده ومنهم من ثبت على الوفاء، فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم في نقض عهد من خاس، وأمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته. ومعنى " لم ينقصو كم " أي من شروط العهد شيئا. (ولم يظاهروا) لم يعاونوا. وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار " ثم لم ينقضو كم " بالضاد معجمة على حذف مضاف، التقدير ثم لم ينقضوا عهدهم (3). يقال: إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة. ثم قال: (فأتموا إليهم عهد هم إلى مدتهم) أي وإن كانت أكثر من أربعة أشهر. قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشر كين حيث وجد تمو هم وخذوهم واحصر وهم واقعد والهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلوة وآتوا الزكوة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (5) فيه ست مسائل: (1) راجع ج 1 ص 24. (2) خاس عهده وبعهده: نقضه. (3) في ج وك وز: عهد كم. (*)
[ 72 ]
الاولى - قوله تعالى: (فإذا انسلخ الاشهر الحرم) أي خرج. وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه. وقال الشاعر: إذا ما سلخت الشهر أهللت قبله (1) * كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل. وسلخت المرأة درعها نزعته. وفي التنزيل: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار " (2) [ يس: 37 ]. ونخلة مسلاخ، وهي التي ينتثر بسر ها أخضر. والاشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الاشهر المعروفة، ثلاثة سرد وواحد فرد. قال الاصم: أريد به من لا عقد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس، لان النداء كان بذلك يوم النحر. وقد تقدم هذا. وقيل: شهور العهد أربعة، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب. وقيل لها حرم لان الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير. الثانية - قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) عام في كل مشرك، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة " البقرة " (3) من امرأة وراهب وصبي وغيرهم. وقال الله تعالى في أهل الكتاب: " حتى يعطوا الجزية " (4). إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب (5)، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الاوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه. واعلم أن مطلق قوله: " اقتلوا المشركين " يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الاخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالاحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رءوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية. وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ. والله أعلم. (1) في اللسان والبحر المحيط: (أهللت مثله). (2) راجع ج 15 ص 26. (3) راجع ج 2 ص 348. (4) راجع ص 109 فما بعد من هذا الجزء. (5) في ب وج وز وك وه‍: للكتابين. (*)
[ 73 ]
الثالثة - قوله تعالى: (حيث وجدتمو هم) عام في كل موضع. وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام، كما سبق في سورة " البقرة " (1). ثم اختلفوا، فقال الحسين بن الفضل: نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الاعراض والصبر على أذى الاعداء. وقال الضحاك والسدي وعطاء: هي منسوخة بقوله: " فإما منا بعد وإما فداء " (2) [ محمد: 4 ]. وأنه لا يقتل أسير صبرا، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى. وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله تعالى: " فإما منا بعد وإما فداء " وأنه لا يجوز في الاسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. وهو الصحيح، لان المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق. وقوله: (وخذوهم) يدل عليه. والاخذ هو الاسر. والاسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الامام. ومعنى (احصرو هم) يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم، إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان. الرابعة - قوله تعالى: (واقعدوا لهم كل مرصد) المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلانا أرصده، أي رقبته. أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدون. قال عامر بن الطفيل: ولقد علمت وما إخالك ناسيا * أن المنية للفتى بالمرصد وقال عدي: (3) أعاذل إن الجاهل من لذة الفتى * وإن المنايا للنفوس بمرصد وفي هذا دليل على جواز اغتيا لهم قبل الدعوة. ونصب " كل " على الظرف، وهو اختيار الزجاج، ويقال: ذهبت طريقا وذهبت كل طريق. أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كل مرصد وعلى كل مرصد، فيجعل المرصد اسما للطريق. وخطأ أبو علي الزجاج (1) راجع ج 2 ص 351. (2) راجع ج 16 ص 225. (3) في الاصول: (النابغة) والتصويب عن اللسان. (*)
[ 74 ]
في جعله الطريق ظرفا وقال: الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد، فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعا، كما حكى سيبويه: دخلت الشام ودخلت البيت، وكما قيل: * كما عسل الطريق الثعلب (1) * الخامسة - قوله تعالى: (فإن تابوا) أي من الشرك. (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال: " فإن تابوا ". والاصل أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة. وهذا بين في هذا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما. نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماء هم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وقال ابن العربي: فانتظم القرآن والسنة واطردا. ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ومن ترك السنن متهاونا فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج، إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لانه يصير رادا على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه. واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جحد لها ولا استحلال، فروى يونس ابن عبد الا على قال: سمعت ابن وهب يقول قال مالك: من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل، وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي. وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكيع. وقال أبو حنيفة: يسجن ويضرب ولا يقتل، وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود ابن علي. ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله (1) القائل هو ساعدة بن جؤية: وتمامه كما في اللسان وكتاب سيبويه: لدن بهز الكف بعسل متنه * فيه كما عسل......... (*)
[ 75 ]
إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماء هم وأموالهم إلا بحقها). وقالوا: حقها الثلاث التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإ حدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس). وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر، وأبى من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فإنه كافر، ودمه وماله حلالان، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وحكم ماله كحكم مال المرتد، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا. وقال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا متى يقتل تارك الصلاة، فقال بعضهم في آخر الوقت المختار، وقال بعضهم آخر وقت الضرورة، وهو الصحيح من ذلك. وذلك أن يبقى من وقت العصر (1) أربع ركعات إلى مغيب الشمس، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس. وقال إسحاق: وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر. السادسة - هذه الآية دالة على أن من قال: قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة، لان الله عزوجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة. وقال في آية الربا " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " (2) [ البقرة: 279 ]. وقال: " إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا " [ البقرة: 160 ] وقد تقدم معنى هذا في سورة البقرة (3). قوله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين) أي من الذين أمرتك بقتالهم. " استجارك " أي سأل جوارك، أي أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم (1) في ب: من وقت الصلاة. (2) راجع ج 3 ص 365. (3) راجع ج 2 ص 187. (*)
[ 76 ]
أحكامه وأوامره ونواهيه. فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه. وهذا ما لا خلاف فيه. والله أعلم (1). قال مالك: إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال: جئت أطلب الامان. قال مالك: هذه أمور مشتبهة، وأرى أن يرد إلى مأمنه. وقال ابن القاسم: وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول: ظننت ألا تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع. وظاهر الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الاسلام، فأما الاجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته. الثانية - ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز، لانه مقدم للنظر والمصلحة، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة، فالحر يمضي أمانه عند كافة العلماء. إلا أن ابن حبيب قال: ينظر الامام فيه. وأما العبد فله الامان في مشهور المذهب، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق والاوزاعي والثوري وأبو ثور وداود ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: لا أمان له، وهو القول الثاني لعلمائنا. والاول أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤ هم ويسعى بذمتهم أدنا هم). قالوا: فلما قال (أدنا هم) جاز أمان العبد، وكانت المرأة الحرة أحرى بذلك، ولا اعتبار بعلة (لا يسهم له). وقال عبد الملك بن الماجشون: لا يجوز أمان المرأة إلا أن يجيزه الامام، فشذ بقوله عن الجمهور. وأما الصبي فإذا أطاق القتال جاز أمانه، لانه من جملة المقاتلة، ودخل في الفئة الحامية. وقد ذهب الضحاك والسدي إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: " فاقتلوا المشركين ". وقال الحسن: هي محكمة سنة (2) إلى يوم القيامة، وقاله مجاهد. وقيل: هذه الآية إنما كان حكمها باقيا مدة الاربعة الاشهر التي ضربت لهم أجلا، وليس بشئ. وقال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الاربعة الاشهر فيسمع كلام الله أو يأتيه بحاجة قتل ! (1) في ج وك وه‍ وى: والحمد لله. (2) كذا في الاصول وتفسير ابن عطية. إلا ب، ففيها: محكمة مثبتة. ولا وجود لهذه الكلمة في قول الحسن في المراجع. (*)
[ 77 ]
فقال علي بن أبي طالب: لا، لان الله تبارك وتعالى يقول: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ". وهذا هو صحيح. والآية محكمة. " الثالثة - قوله تعالى: (وإن أحد) " أحد " مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده. وهذا حسن في " إن " وقبيح في أخواتها. ومذهب سيبويه في الفرق بين " إن " وأخواتها، أنها لما كانت أم حروف الشرط خصت بهذا، ولانها لا تكون في غيره. وقال محمد بن يزيد: أما قوله - لانها لا تكون في غيره - فغلط، لانها تكون بمعنى (ما) ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة، وليس كذا غير ها. وأنشد سيبويه: لا تجزعي إن منفسا أهلكته * وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (1) الرابعة - قال العلماء: في قوله تعالى: " حتى يسمع كلام الله " دليل على أن كلام الله عزوجل مسموع عند قراءة القارئ، قاله الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو بكر وأبو العباس القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الاسفر ايني وغير هم، لقوله تعالى: " حتى يسمع كلام الله ". فنص على أن كلامه مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدل عليه إجماع المسلمين على أن القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا: سمعنا كلام الله. وفرقوا بين أن يقرأ كلام الله تعالى وبين أن يقرأ شعر امرئ القيس. وقد مضى في سورة " البقرة " (2) معنى كلام الله تعالى، وأنه ليس بحرف ولا صوت، والحمد لله. قوله تعالى: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7) (1) البيت للنمر بن تولب. وصف أن امرأته لامته على إتلاف ماله جزعا من الفقر، فقال لها: لا تجزعي من إهلاكي لنفيس المال، فإني كفيل بإخلافه بعد التلف، وإذا هلكت فاجزعي فلا خلف لك مني. (عن شرح الشواهد). (2) راجع ج 2 ص 1. (*)
[ 78 ]
قوله تعالى: (كيف يكون للمشر كين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) كيف هنا للتعجب، كما تقول: كيف يسبقني فلان أي لا ينبغي أن يسبقني. و " عهد " اسم يكون. وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر، كما قال: وخبر تماني إنما الموت بالقرى * فكيف وهاتا هضبة (1) وكثيب التقدير: فكيف مات، عن الزجاج. وقيل: المعنى كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به عذابه غدا، وكيف يكون لهم عند رسوله عهد يأمنون به عذاب الدنيا. ثم استثنى فقال: " إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ". قال محمد بن إسحاق: هم بنو بكر، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا. قوله تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) أي فما أقاموا على الوفاء بعهد كم فأقيموا لهم على مثل ذلك. ابن زيد: فلم يستقيموا فضرب لهم أجلا أربعة أشهر. فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب. قوله تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم) أعاد التعجب من أن يكون لهم عهد مع خبث أعمالهم، أي كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة. يقال: ظهرت على فلان أي غلبته، وظهرت البيت علوته، ومنه " فما اسطاعوا أن يظهروه " (2) [ الكهف: 97 ] أي يعلوا عليه. (1) كذا في الاصول والبحر. والذي في شواهد سيبويه وجمهرة أشعار العرب: (وقليب) قال الشنتمري: (وأراد بالقليب القبر وأصله البئر. كأنه حذر من وباء الامصار وهي القرى فخرج إلى البادية فرأى قبرا فعلم أن الموت لا ينجى منه فقال هذا منكرا على من حذره من الاقامة بالقرى). (2) راجع ج 11 ص 62. (*)
[ 79 ]
قوله تعالى: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) " يرقبوا " يحافظوا. والرقيب الحافظ. وقد تقدم (1). (إلا) عهدا، عن مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا: هو اسم من أسماء الله عزوجل. ابن عباس والضحاك: قرابة. الحسن: جوارا. قتادة: حلفا، و " ذمة " عهدا. أبو عبيدة: يمينا. وعنه أيضا: إلا العهد، والذمة التذمم. الازهري: اسم الله بالعبرانية، وأصله من الاليل وهو البريق، يقال أل لونه يؤل ألا، أي صفا ولمع. وقيل: أصله من الحدة، ومنه الالة للحربة، ومنه أذن مؤللة أي محددة. ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب. مؤللتان تعرف العتق فيهما * كسامعتي شاة بحومل مفرد (2) فإذا قيل للعهد والجوار والقرابة " إل " فمعناه أن الاذن تصرف إلى تلك الجهة، أي تحدد لها. والعهد يسمى " إلا " لصفائه وظهوره. ويجمع في القلة الآل. وفي الكثرة إلال. وقال الجوهري وغيره: الال بالكسر هو الله عزوجل، والال أيضا العهد والقرابة. قال حسان: لعمرك إن إلك من قريش * كإل السقب من رأل النعام (3) قوله تعالى: (ولا ذمة) أي عهدا. وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب. قال ابن عباس والضحاك وابن زيد: الذمة العهد. ومن جعل الال العهد فالتكرير لاختلاف اللفظين. وقال أبو عبيدة معمر: الذمة التذمم. وقال أبو عبيد: الذمة الامان في قوله عليه السلام: (ويسعى بذمتهم أدناهم). وجمع ذمة ذمم. وبئر ذمة (بفتح الذال) قليلة الماء، وجمعها ذمام. قال ذو الرمة: (1) راجع ج 5 ص 8. (2) السامعتان: الاذنان. والمراد بالشاة هنا: الثور الوحشى وحومل: اسم رملة. شبة أذنيها بأذني ثور وحشي لتحد يدهما وصدق سمعهما، وأذن الوحشي أصدق من عينيه وجعله (مفردا) لانه أشد لسمعه وارتياعه. (عن شرح الديو ان). (3) السقب: ولد الناقة. والرال: ولد النعام. (*)
[ 80 ]
على حمير يات كأن عيونها * ذمام الركايا أنكزتها المواتح (1) أنكزتها أذهبت ماءها. وأهل الذمة أهل العقد. قوله تعالى: (يرضونكم بأفوا ههم) أي يقولون بألسنتهم ما يرضي (2) ظاهره. (وتأبى قلوبهم وأكثر هم فاسقون) أي ناقضون العهد. وكل كافر فاسق، ولكنه أراد ها هنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد. قوله تعالى: اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون (9) يعني المشركين في نقضهم العهود بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان، قاله مجاهد. وقيل: إنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا. (فصدوا عن سبيله) أي أعرضوا، من الصدود. أو منعوا عن سبيل الله، من الصد. قوله تعالى: لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون (10) قال النحاس: ليس هذا تكريرا، ولكن الاول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة. والدليل على هذا " اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا " يعني اليهود، باعوا حجج الله عزوجل وبيانه بطلب الرياسة وطمع في شئ. (وأولئك هم المعتدون) أي المجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد. قوله تعالى: فإن تابوا وأقاموا الصلوة وآتوا الزكوة فإخوانكم في الدين ونفصل الايات لقوم يعلمون (11) (1) الحميريات: إبل منسوبة إلى حمير، وهي قبيلة من اليمن. الذمام: القليلة الماء. والركايا: جمع ركية، وهي البئر. أنكزتها - بزاي - يقال: نكزت الركية قل ماؤها. والمواتح: جمع ماتح، وهو الذي يسقى من البئر. وصف إبلا غارت عيونها من الكلال. (2) في الاصول: (ما لا يرضى) وهو تحريف. (*)
[ 81 ]
قوله تعالى: (فإن تابوا) أي عن الشرك والتزموا أحكام الاسلام. (فإخوانكم) أي فهم إخوانكم (في الدين). قال ابن عباس: حرمت هذه دماء أهل القبلة. وقد تقدم هذا المعنى. وقال ابن زيد: افترض الله الصلاة والزكاة وأبى أن يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له. وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فرق بين ثلاث فرق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة من قال أطيع الله ولا أطيع الرسول والله تعالى يقول: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " [ النساء: 59 ] ومن قال أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة والله تعالى يقول: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " [ البقرة: 43 ] ومن فرق بين شكر الله وشكر والديه والله عزوجل يقول: " أن اشكر لي ولوالديك " [ لقمان: 14 ]). قوله تعالى: (ونفصل الآيات) أي نبينها. (لقوم يعلمون) خصهم لانهم هم المنتفعون بها. والله أعلم. قوله تعالى: وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإن نكثوا) النكث النقض، وأصله في كل ما فتل ثم حل. فهي في الايمان والعهود مستعارة. قال: وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها * فليس لمخضوب البنان يمين أي عهد. وقوله: (وطعنوا في دينكم) أي بالاستنقاض والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك. يقال: طعنه بالرمح وطعن بالقول السئ فيه يطعن، بضم العين فيهما. وقيل: يطعن بالرمح (بالضم) ويطعن بالقول (بالفتح). وهي هنا استعارة، ومنه قوله صلى الله
[ 82 ]
عليه وسلم حين أمر أسامة: (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للامارة). خرجه الصحيح (1). الثانية - استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين، لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه. وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل. وممن قال ذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وقد حكي عن النعمان أنه قال: لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، على ما يأتي. وروي أن رجلا قال في مجلس علي: ما قتل كعب بن الاشرف إلا غدرا، فأمر علي بضرب عنقه. وقاله آخر في مجلس معاوية فقام محمد بن مسلمة فقال: أيقال هذا في مجلسك وتسكت ! والله لا أساكنك تحت سقف (2) أبدا، ولئن خلوت به لاقتلنه. قال علماؤنا: هذا يقتل ولا يستتاب إن نسب الغدر للنبي صلى الله عليه وسلم. وهو الذي فهمه علي ومحمد بن مسلمة رضوان الله عليهما من قائل ذلك، لان ذلك زندقة. فأما إن نسبه للمباشرين لقتله بحيث يقول: إنهم أمنوه ثم غدروه لكانت هذه النسبة كذبا محضا، فإنه ليس في كلامهم معه ما يدل على أنهم أمنوه ولا صرحوا له بذلك، ولو فعلوا ذلك لما كان أمانا، لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما وجههم لقتله لا لتأمينه، وأذن لمحمد بن مسلمة في أن يقول. وعلى هذا فيكون في قتل من نسب ذلك لهم نظر وتردد. وسببه هل يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، لانه قد صوب فعلهم ورضى به فيلزم منه أنه قد رضي بالغدر ومن صرح بذلك قتل، أولا يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتل. وإذا قلنا لا يقتل، فلا بد من تنكيل ذلك القائل وعقوبته بالسجن، والضرب الشديد والاهانة العظيمة. (1) راجع صحيح مسلم (كتاب الفضائل). (2) في ب: سقيفة. (*)
[ 83 ]
الثالثة - فأما الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله: " وإن نكثوا أيمانهم " الآية. فأمر بقتلهم وقتالهم. وهو مذهب الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة في هذا: إنه يستتاب، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، لان الله عزوجل إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما نقضهم العهد، والثاني طعنهم في الدين. قلنا: إن عملوا بما يخالف العهد انتقض عهدهم، وذكر الامرين لا يقتضي توقف قتاله على وجود هما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا. وتقدير الآية عندنا: فإن نكثوا عهدهم حل قتالهم، وإن لم ينكثوا بل طعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم. وقد روي أن عمر رفع إليه: ذمي نخس دابة عليها امرأة مسلمة فرمحت فأسقطتها فانكشفت بعض عورتها، فأمر بصلبه في الموضع. الرابعة - إذا حارب الذمي نقض عهده وكان ماله وولده فيئا معه. وقال محمد ابن مسلمة: لا يؤاخذ ولده به، لانه نقض وحده. وقال: أما ماله فيؤخذ. وهذا تعارض لا يشبه منصب محمد بن مسلمة، لان عهده هو الذي حمى ماله وولده، فإذا ذهب عنه ماله ذهب عنه ولده. وقال أشهب: إذا نقض الذمي العهد فهو على عهده ولا يعود في الرق أبدا. وهذا من العجب، وكأنه رأى العهد معنى محسوسا. وإنما العهد حكم اقتضاه النظر، والتزمه المسلمون له، فإذا نقضه انتقض كسائر العقود. الخامسة - أكثر العلماء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة أو عرض أو استخف (1) بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فإنه يقتل، فإنا (2) لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا: لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر. والحجة عليه قوله تعالى: " وإن نكثوا " الآية. واستدل عليه بعضهم بأمره صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الاشرف وكان معاهدا. وتغيظ أبو بكر على رجل من أصحابه فقال أبو برزة: ألا أضرب عنقه ! فقال: ما كانت لاحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني عن ابن عباس: أن رجلا أعمى كانت له (1) في ب: فاستخف. (2) في ى: لانا. (*)
[ 84 ]
أم ولد، له منها ابنان مثل اللؤلؤتين، فكانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلم تنته، ويزجرها فلم تنزجر، فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم فما صبر سيدها أن قام إلى معول فوضعه في بطنها ثم اتكأ عليها حتى أنفذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا اشهدوا إن دمها هدر). وفي رواية عن ابن عباس: فقتلها، فلما أصبح قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقام الاعمى فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك (1) فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فقتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا اشهدوا إن دمها هدر). السادسة - واختلفوا إذا سبه ثم أسلم تقية من القتل، فقيل: يسقط إسلامه قتله، وهو المشهور من المذهب، لان الاسلام يجب ما قبله. بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب قال الله عزوجل: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " (2) [ الانفال: 38 ]. وقيل: لا يسقط الاسلام قتله، قاله في العتبية لانه حق للنبي صلى الله عليه وسلم وجب لانتهاكه حرمته وقصده إلحاق النقيصة والمعرة به، فلم يكن رجوعه إلى الاسلام بالذي يسقطه، ولا يكون أحسن حالا من المسلم. السابعة - قوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر) " أئمة " جمع إمام، والمراد صناديد قريش - في قول بعض العلماء - كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف. وهذا بعيد، فإن الآية في سورة " براءة " وحين نزلت وقرئت على الناس كان الله قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم، فيحتمل أن يكون المراد " فقاتلوا أئمة الكفر " (3). أي من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين يكون أصلا ورأسا في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا. ويحتمل أن يعنى به المتقدمون والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال لاتبا عهم وأنهم لا حرمة لهم. والاصل أأممة كمثال وأمثلة، ثم أدغمت الميم في الميم وقلبت الحركة على الهمزة فاجتمعت (1) في ج: في حقك. (2) راجع ج 7 ص 401. (3) في ب وج: وك أن يكون المراد بقاتلوا... أن من أقدم... الخ. (*)
[ 85 ]
همزتان، فأبدلت من الثانية ياء. وزعم الاخفش أنك تقول: هذا أيم من هذا، بالياء. وقال المازني: أوم من هذا، بالواو. وقرأ حمزة " أئمة ". وأكثر النحويين يذهب إلى أن هذا لحن (1)، لانه جمع بين همزتين في كلمة واحدة. (إنهم لا أيمان لهم) أي لا عهود لهم، أي ليست عهود هم صادقة يوفون بها. وقرأ ابن عامر " لا إيمان لهم " بكسر الهمزة من الايمان، أي لا إسلام لهم. ويحتمل أن يكون مصدر آمنته إيمانا، من الامن الذي ضده الخوف، أي لا يؤمنون، من آمنته إيمانا أي أجرته، فلهذا قال: " فقاتلوا أئمة الكفر ". " لعلهم ينتهون " أي عن الشرك. قال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم وادع أهل مكة سنة وهو بالحديبية فحبسوه عن البيت، ثم صالحوه على أن يرجع فمكثوا ما شاء الله، ثم قاتل حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة حلفاء بني أمية من كنانة، فأمدت بنو أمية حلفاء هم بالسلاح والطعام، فاستعانت (2) خزاعة برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعين حلفاءه كما سبق. وفى البخاري عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة فقال ما بقي من أصحاب هذه الآية - يعني " فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم " - إلا ثلاثة، ولا بقي من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبرون أخبارا لا ندري ما هي ! تزعمون ألا منافق إلا أربعة، فما بال هؤلاء الذين يبقرون (3) بيوتنا ويسرقون أعلاقنا (4). قال: أولئك الفساق. أجل لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده (5). (1) قال الزمخشري في كشافه: (فإن قلت كيف لفظ أئمة ؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أي بين مخرج الهمزة والياء، وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف). وعقب على هذا أبو حيان في البحر بقوله: (وذلك دأبه في تلحين المقرئين وكيف يكون ذلك لحنا وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء وقارئ مكة ابن كثير وقارئ مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم نافع). وقال الالوسى في روح المعاني: (... وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (أئمة) بهمزتين ثانيتهما بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء والالف بينهما. والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما من غير إدخال ألف وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما الالف. هذا هو المشهور عن القراء السبعة...). (2) في ج وز: استغاثه. (3) بقره شقه وفتحه. (4) الاعلاق: نفائس الاموال. (5) قال القسطلاني: (لذهاب شهوته وفساد معدته بسبب عقوبة الله له في الدنيا، فلا يفرق بين الاشياء). (*)
[ 86 ]
قوله تعالى: (لعلهم ينتهون) أي عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين. وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا. قوله تعالى: ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتحشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13) قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) توبيخ وفيه معنى التحضيض. نزلت في كفار مكة كما ذكرنا آنفا. (وهموا بإخراج الرسول) أي كان منهم سبب الخروج، فأضيف الاخراج إليهم. وقيل: أخرجوا الرسول عليه السلام من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي كان منهم: عن الحسن. (وهم بدءوكم) بالقتال. (أول مرة) أي نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة. وقيل: بدءوكم بالقتال يوم بدر، لان النبي صلى الله عليه وسلم خرج للعير ولما أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف، فأبوا إلا الوصول إلى بدر وشرب الخمر بها، كما تقدم. (فالله أحق أن تخشوه) أي تخافوا عقابه في ترك قتالهم من أن تخافوا أن ينالكم في قتالهم مكروه. وقيل: إخراجهم الرسول منعهم إياه من الحج والعمرة والطواف، وهو ابتداؤهم. والله أعلم. قوله تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم وبشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم (15) قوله تعالى: " قاتلوهم " أمر. " يعذبهم الله " جوابه. وهو جزم بمعنى المجازاة. والتقدير: إن تقاتلو هم يعذبهم الله بأيديكم ويخز هم وينصر كم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. (ويذهب غيظ قلوبهم) دليل على أن غيظهم كان قد اشتد. وقال مجاهد:
[ 87 ]
يعني خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكله عطف، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الاول. ويجوز النصب على إضمار (أن) وهو الصرف عند الكوفيين، كما قال: فإن يهلك أبو قابوس يهلك * ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش * أجب الظهر ليس له سنام (1) وإن شئت رفعت (ونأخذ) وإن شئت نصبته. والمراد بقوله: (ويشف صدور قوم مؤمنين) بنو خزاعة على ما ذكرنا عن مجاهد. فإن قريشا أعانت بني بكر عليهم وكانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم. فأنشد رجل من بني بكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له بعض خزاعة: لئن أعدته لاكسرن فمك فأعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال فقتلوا من الخزاعيين أقواما فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره به فدخل منزل ميمونة وقال: (اسكبوا إلي ماء) فجعل يغتسل وهو يقول: (لا نصرت إن لم أنصر بني كعب) (2). ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجهز والخروج إلى مكة فكان الفتح. قوله تعالى: (ويتوب الله على من يشاء) القراءة بالرفع على الاستئناف لانه ليس من جنس الاول ولهذا لم يقل (ويتب) بالجزم لان القتال غير موجب لهم التوبة من الله عزوجل وهو موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره: " فإن يشإ الله يختم على قلبك " [ الشورى: 24 ] تم الكلام. ثم قال: " ويمح الله الباطل " (3) [ الشورى: 24 ]. والذين تاب الله عليهم مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو، فإنهم أسلموا. وقرأ ابن أبي إسحاق " ويتوب " بالنصب. وكذا روي عن عيسى الثقفي والاعرج، وعليه فتكون التوبة داخلة في جواب الشرط، لان المعنى: إن تقاتلو هم يعذبهم الله. (1) الذناب (بكسر الذال): عقب كل شئ ومؤخره. والاجب: الجمل المقطوع السنام. والبيتان للنابغة الذبياني. وصف مرض النعمان بن المنذر وأنه أن هلك صار الناس بعده في أسوأ حال وأضيق عيش وتمسكوا منه مثل ذنب بعير أجب. وفي البيت شاهد آخر. راجع خزانة الادب للبغدادي في الشاهد السادس والخمسين بعد السبعمائة وشواهد سيبويه ج 1 ص 100 طبع بولاق. (2) بنو كعب في خزاعة وهم قوم عمرو. (3) راجع ج 16 ص 24 فما بعد. (*)
[ 88 ]
وكذلك ما عطف عليه. ثم قال: " ويتوب الله " أي إن تقاتلو هم. فجمع بين تعذيبهم بأيديكم وشفاء صدوركم وإذهاب غيظ قلوبكم والتوبة عليكم. والرفع أحسن، لان التوبة لا يكون سببها القتال، إذ قد توجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال. قوله تعالى: أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون (16) قوله تعالى: (أم حسبتم) خروج من شئ إلى شئ. (أن تتركوا) في موضع المفعولين على قول سيبويه. وعند المبرد أنه قد حذف الثاني. ومعنى الكلام: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب. وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. " ولما يعلم " جزم بلما وإن كانت ما زائدة، فإنها تكون عند سيبويه جوابا لقولك: قد فعل كما تقدم (1). وكسرت الميم لالتقاء الساكنين. " وليجة " بطانة ومداخلة من الولوج وهو الدخول ومنه سمي الكناس (2) الذي تلج فيه الوحوش تولجا. ولج يلج ولوجا إذا دخل. والمعنى: دخيلة مودة من دون الله ورسوله. وقال أبو عبيدة: كل شئ أدخلته في شئ ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة. وقال ابن زيد: الوليجة الدخيلة والولجاء الدخلاء فوليجة الرجل من يختص بدخلة أمره دون الناس. تقول: هو وليجتي وهم وليجتي الواحد والجمع فيه سواء. قال أبان بن تغلب رحمه الله: فبئس الوليجة للهاربين * والمعتدين وأهل الريب وقيل: وليجة بطانة، والمعنى واحد، نظيره " لا تتخذوا بطانة من دونكم " (1) [ آل عمران: 118 ]. وقال الفراء: وليجة بطانة من المشركين يتخذو نهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمو نهم أمور هم. (1) راجع ج 4 ص 220 وص 178. (2) مكانها في الادغال. (*)
[ 89 ]
قوله تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون (17) قوله تعالى: (ما كان للمشر كين أن يعمروا مساجد الله) الجملة من " أن يعمروا " في موضع رفع اسم كان. " شاهدين " على الحال. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرفادة إلى المشركين، فبين أنهم ليسوا أهلا لذلك، بل أهله المؤمنون. وقيل: إن العباس لما أسر وعير بالكفر وقطيعة الرحم قال: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا. فقال علي: ألكم محاسن ؟ قال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقى الحاج ونفك العاني، فنزلت هذه الآية ردا عليه. فيجب إذا على المسلمين تولى أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها. وقراءة العامة " يعمر " بفتح الياء وضم الميم، من عمر يعمر. وقرأ ابن السميقع بضم الياء وكسر الميم أي يجعلوه عامرا أو يعينوا على عمارته. وقرئ " مسجد الله " على التوحيد أي المسجد الحرام. وهي قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبي عمرو وابن محيصن ويعقوب. والباقون " مساجد " على التعميم. وهو اختيار أبي عبيد، لانه أعم والخاص يدخل تحت العام. وقد يحتمل أن يراد بقراءة الجمع المسجد الحرام خاصة. وهذا جائز فيما كان من أسماء الجنس، كما يقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا. والقراءة " مساجد " أصوب، لانه يحتمل المعنيين. وقد أجمعوا على قراءة قوله: " إنما يعمر مساجد الله " على الجمع، قاله النحاس. وقال الحسن: إنما قال مساجد وهو المسجد الحرام، لانه قبلة المساجد كلها وإمامها. قوله تعالى: (شاهدين). قيل: أراد وهم شاهدون فلما طرح " وهم " نصب. قال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لاصنامهم، وإقر ارهم أنها مخلوقة.
[ 90 ]
وقال السدي: شهادتهم بالكفر هو أن النصراني تقول (1) له ما دينك ؟ فيقول نصراني، واليهودي فيقول يهودي والصابئ فيقول صابئ. ويقال للمشرك ما دينك فيقول مشرك. (أولئك حبطت أعما لهم وفي النار هم خالدون) تقدم معناه. قوله تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلوة وآتى الزكوة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (18) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " إنما يعمر مساجد الله " دليل على أن الشهادة لعمار المساجد بالايمان صحيحة لان الله سبحانه ربطه بها وأخبر عنه بملازمتها. وقد قال بعض السلف: إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به الظن. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان) قال الله تعالى: " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ". وفي رواية: (يتعاهد المسجد). قال: حديث حسن غريب. قال ابن العربي: وهذا في ظاهر الصلاح ليس في مقاطع الشهادات، فإن الشهادات لها أحوال عند العارفين بها فإن منهم الذكي الفطن المحصل لما يعلم اعتقادا وإخبارا ومنهم المغفل، وكل واحد ينزل على منزلته ويقدر على صفته. الثانية - قوله تعالى: (ولم يخش إلا الله) إن قيل: ما من مؤمن إلا وقد خشي غير الله، وما زال المؤمنون والانبياء (2) يخشون الاعداء من غير هم. قيل له: المعنى ولم يخش إلا الله مما يعبد: فإن المشركين كانوا يعبدون الاوثان ويخشونها ويرجونها. جواب ثان - أي لم يخف في باب الدين إلا الله. الثالثة - فإن قيل: فقد أثبت الايمان في الآية لمن عمر المساجد بالصلاة فيها، وتنظيفها وإصلاح ما وهى منها، وآمن بالله. ولم يذكر الايمان بالرسول فيها ولا إيمان لمن لم يؤمن (1) في ج وك: يسأل وفي ب وى: تسأله. (2) في ك: الاولياء. (*)
[ 91 ]
بالرسول. قيل له: دل على الرسول ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها لانه مما جاء به، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول، فلهذا لم يفرده بالذكر. و (عسى) من الله واجبة، عن ابن عباس وغيره. وقيل: عسى بمعنى خليق أي فحليق " أن يكونوا من المهتدين ". قوله تعالى: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19) فيه مسألتان (1): الاولى - قوله تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج " التقدير في العربية: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج أو أهل سقاية الحاج مثل من آمن بالله وجاهد في سبيله. ويصح أن يقدر الحذف في " من آمن " أي أجعلتم عمل سقى الحاج كعمل من آمن. وقيل: التقدير كإيمان من آمن. والسقاية مصدر كالسعاية والحماية. فجعل الاسم بموضع المصدر إذ علم معناه، مثل إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير. وعمارة المسجد الحرام مثل " واسأل القرية " [ يوسف: 82 ]. وقرأ أبو (2) وجزة " أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام " سقاة جمع ساق والاصل سقية على فعلة، كذا يجمع المعتل من هذا، نحو قاض وقضاة وناس ونساة. فإن لم يكن معتلا جمع على فعلة نحو ناسئ ونسأة، للذين كانوا ينسئون الشهور. وكذا قرأ ابن الزبير وسعيد بن جبير " سقاة وعمرة " إلا أن ابن جبير نصب " المسجد " على إرادة التنوين في " عمرة ". وقال الضحاك: سقاية بضم السين، وهي لغة. والحاج اسم جنس الحجاج. وعمارة المسجد الحرام: معاهدته والقيام بمصالحه. وظاهر هذه الآية أنها مبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كما ذكره السدي. قال: افتخر عباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعلي بالاسلام والجهاد، فصدق الله عليا وكذبهما، وأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر، (1) كذا في جميع الاصول. (2) في نسخ الاصل: (ابن أبي وجزة) إلا ى: وجزة. وهو تحريف. (*)
[ 92 ]
وإنما تكون بالايمان والعبادة وأداء الطاعة. وهذا بين لا غبار عليه. ويقال: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه ؟ فقالت لهم اليهود عنادا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أفضل. وقد اعترض هنا إشكال وهو ما جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجر هم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عزوجل: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر " إلى آخر الآية. وهذا المساق يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الافضل من هذه الاعمال. وحينئذ لا يليق أن يقال لهم في آخر الآية: " والله لا يهدي القوم الظالمين " فتعين الاشكال. وإزالته بأن يقال: إن بعض الرواة تسامح في قوله، فأنزل الله الآية. وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية على عمر حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذ. واستدل بها النبي صلى الله عليه وسلم على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء. والله أعلم. فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة. قيل له: لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين. وقد قال عمر: إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق (1) وشواء وتوضع صحفة وترفع أخرى ولكنا سمعنا قول الله تعالى: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " (2) [ الاحقاف: 20 ]. وهذه الآية نص في الكفار، ومع ذلك ففهم منها عمر الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع. وهذا نفيس وبه يزول الاشكال ويرتفع الابهام، والله أعلم. (1) سلائق: الحملان المشوية ويروى بالصاد. (2) راجع ج 16 ص 199. (*)
[ 93 ]
قوله تعالى: الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (20) قوله تعالى: " الذين آمنوا " في موضع رفع بالابتداء. وخبره " أعظم درجة عند الله ". و " درجة " نصب على البيان، أي من الذين افتخروا بالسقي والعمارة. وليس للكافرين درجة عند الله حتى يقال: المؤمن أعظم درجة. والمراد أنهم قدروا لانفسهم الدرجة بالعمارة والسقي فخاطبهم على ما قدروه في أنفسهم وإن كان التقدير خطأ كقوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا " (1) [ الفرقان: 24 ]. وقيل: " أعظم درجة " من كل ذي درجة، أي لهم المزية والمرتبة العلية. " وأولئك هم الفائزون " بذلك. قوله تعالى: يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (22) قوله تعالى: " يبشر هم ربهم " أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. والنعيم: لين العيش ورغده. (خالدين) نصب على الحال. والخلود الاقامة. (إن الله عنده أجر عظيم) أي أعد لهم في دار كرامته ذلك الثواب. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الايمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون (23) ظاهر هذه الآية أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفرة. فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها (1) راجع ج 13 ص 21 فما بعد. (*)
[ 94 ]
من بلاد العرب، خوطبوا بألا يوالوا الآباء والاخوة فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. " إن استحبوا " أي أحبوا، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب. أي لا تطيعو هم ولا تخصو هم. وخص الله سبحانه الآباء والاخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " (1) [ المائدة: 51 ] ليبين أن القرب قرب الاديان لا قرب الابدان. وفي مثله تنشد الصوفية: يقولون لي دار الاحبة قد دنت * وأنت كئيب إن ذا لعجيب فقلت وما تغني ديار قريبة * إذا لم يكن بين القلوب قريب فكم من بعيد الدار نال مراده * وآخر جار الجنب مات كئيب ولم يذكر الابناء في هذه الآية إذ الاغلب من البشر أن الابناء هم التبع للآباء. والاحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها ؟ قال: (صلي أمك) خرجه البخاري. قوله تعالى: (ومن يتو لهم منكم فأولئك هم الظالمون) قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم لان من رضي بالشرك فهو مشرك. قوله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين (24) لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة جعل الرجل يقول لابيه والاب لابنه والاخ لاخيه والرجل لزوجته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من تسارع (1) راجع ج 6 ص 216. (*)
[ 95 ]
لذلك، ومنهم من أبى أن يهاجر، فيقول: والله لئن لم تخرجوا إلى دار الهجرة لا أنفعكم ولا أنفق عليكم شيئا أبدا. ومنهم من تتعلق به امرأته وولده ويقولون له: أنشدك بالله ألا تخرج فنضيع بعدك، فمنهم من يرق فيدع الهجرة ويقيم معهم، فنزلت " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الايمان ". يقول: [ إن اختاروا ] الاقامة على الكفر بمكة على الايمان بالله والهجرة إلى المدينة. " ومن يتولهم منكم " بعد نزول الآية " فأولئك هم الظالمون ". ثم نزل في الذين تخلفوا ولم يهاجروا: " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم " وهي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد كعقد العشرة فما زاد، ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على الشئ. (وأموال أقتر فتموها) يقول: اكتسبتمو ها بمكة. وأصل الاقتراف اقتطاع الشئ من مكانه إلى غيره. (وتجارة تخشون كسادها) قال ابن المبارك: هي البنات والاخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا. قال الشاعر: كسدن من الفقر في قومهن * وقد زادهن مقامي كسودا (ومساكن ترضونها) يقول: ومنازل تعجبكم الاقامة فيها. (أحب إليكم) من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة. " وأحب " خبر كان. ويجوز في غير القرآن رفع " أحب " على الابتداء والخبر، واسم كان مضمر فيها. وأنشد سيبويه: إذا مت كان الناس صنفان: شامت * وآخر مثن بالذي كنت أصنع (1) وأنشد: هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها * وليس منها شفاء الداء مبذول (2) وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الامة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. وقد مضى في " آل عمران " (3) معنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله. (وجهاد في سبيله فتربصوا) صيغته صيغة أمر ومعناه التهديد. يقول: انتظروا. (حتى (1) البيت للعجير السلولي. (2) البيت لهشام أخى ذي الرمة. (عن كتاب سيبويه). (3) راجع ج 4 ص 59. (*)
[ 96 ]
يأتي الله بأمره) يعني بالقتال وفتح مكة عن مجاهد. الحسن: بعقوبة آجلة أو عاجلة، وفي قوله: " وجهاد في سبيله " دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالاهل والمال. وسيأتي فضل الجهاد في آخر السورة. وقد مضى من أحكام الهجرة في " النساء " (1) ما فيه كفاية، والحمد لله. وفي الحديث الصحيح (إن الشيطان قعد لابن آدم ثلاث مقاعد قعد له في طريق الاسلام فقال لم تذر دينك ودين آبائك فخالفه وأسلم وقعد له في طريق الهجرة فقال له أتذر مالك وأهلك فخالفه وهاجر ثم قعد في طريق الجهاد فقال له تجاهد فتقتل فينكح أهلك ويقسم مالك فخالفه وجاهد فحق على الله أن يدخله الجنة). وأخرجه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان...) فذكره. قال البخاري: (ابن الفاكه) ولم يذكر فيه اختلافا. وقال ابن أبي عدي: يقال ابن الفاكه وابن أبي الفاكه. انتهى. قوله تعالى: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (27) فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) لما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري من بنى نصر بن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إليه، (1) راجع ج 5 ص 308، 350. (*)
[ 97 ]
وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساء هم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم وتشتد في القتال عند ذلك شوكتهم. وكانوا ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد. وقيل: أربعة آلاف، من هوازن وثقيف. وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف كنانة بن عبد، فنزلوا بأوطاس (1). وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الاسلمي عينا، فأتاه وأخبره بما شاهد منهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صفوان ابن أمية بن خلف الجمحي دروعا. قيل: مائة درع. وقيل: أربعمائة درع. واستسلف من ربيعة المخزومي ثلاثين ألفا أو أربعين ألفا، فلما قدم قضاه إياها. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد) خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء إلى من انضاف إليه من الاعراب، من سليم وبني كلاب وعبس وذبيان. واستعمل على مكة عتاب بن أسيد. وفي مخرجه هذا رأى جهال الاعراب شجرة خضراء وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط يخرج إليها الكفار يوما معلوما في السنة يعظمونها، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه السلام: (الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هو ازن قد كمنت في جنبتي الوادي وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو (2) أحد على أحد، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد - وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذ بحنين - وربيعة (1) أرطاس: واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين. (2) أي لم يلتفت ولم يعطف. (*)
[ 98 ]
ابن الحارث، والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان: قثم بن العباس. فهؤلاء عشرة رجال، ولهذا قال العباس: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة * وقد فر من قد فر عنه (1) وأقشعوا وعاشرنا لا قى الحمام بنفسه * بما مسه في الله لا يتوجع وثبتت أم سليم في جملة من ثبت محتزمة ممسكة بعيرا لابي طلحة وفي يدها خنجر. ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء واسمها دلدل. وفي صحيح مسلم عن أنس قال عباس (2): وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي عباس ناد أصحاب السمرة) (3). فقال عباس - وكان رجلا صيتا. ويروى من شدة صوته أنه أغير يوما على مكة فنادى واصباحاه ! فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها -: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة ؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار...) الحديث. وفيه: (قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار). ثم قال: (انهزموا ورب محمد). قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. قال أبو عمر: روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا أنه قال - وقد سئل عن يوم حنين -: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى انتهينا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصى (4) وترابا فرمى به وقال: (شاهت الوجوه) فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا. وقال سعيد بن جبير: حدثنا (1) في الاصول: (منهم) والتصويب عن المواهب اللدنية. (2) في ا، ج، ح، ل، ه‍، ز. قال ابن عباس: والصواب ما أثبتناه من ك، ب، ى. (3) أي أصحاب الشجرة المسماة بالسمرة، وهي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية. (4) في ب وج: أو ترابا. (*)
[ 99 ]
رجل من المشركين، يوم حنين قال: لما التقينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها. يعني الملائكة. قلت: ولا تعارض فإنه يحتمل أن يكون شاهت الوجوه من قوله صلى الله عليه وسلم ومن قول الملائكة معا ويدل على أن الملائكة قاتلت يوم حنين. فالله أعلم. وقتل علي رضي الله عنه يوم حنين أربعين رجلا بيده. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف، واثنتي عشرة ألف ناقة سوى ما لا يعلم من الغنائم. الثانية - قال العلماء في هذه الغزاة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه). وقد مضى في " الانفال " (1) بيانه. قال ابن العربي: ولهذه النكتة وغيرها أدخل الاحكاميون هذه الآية في الاحكام. قلت: وفيه أيضا جواز استعارة السلاح وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار له مثله، وجواز استلاف الامام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه. وحديث صفوان أصل في هذا الباب. وفي هذه الغزاة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة). وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة. وقد مضى بيانه في سورة " النساء " مستوفى (2). وفي حديث مالك أن صفوان خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنينا والطائف وامرأته مسلمة. الحديث. قال مالك: ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين إلا أن يكونوا خدما أو نواتية. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والاوزاعي: (1) راجع ج 7 ص 363. (2) راجع ج 5 ص 121. (*)
[ 100 ]
لا بأس بذلك إذا كان حكم الاسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر. وقد مضى القول في الاسهام لهم في " الانفال " (1) الثالثة - قوله تعالى (ويوم حنين) " حنين " واد بين مكة والطائف، وانصرف لانه اسم مذكر، وهي لغة القرآن. ومن العرب من لا يصرفه، يجعله أسما للبقعة. وأنشد: نصروا نبيهم وشدوا أزره * بحنين يوم تواكل الابطال (2) " ويوم " ظرف، وانتصب هنا على معنى: ونصركم يوم حنين. وقال الفراء: لم تنصرف " مواطن " لانه ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع، إلا أن الشاعر ربما اضطر فجمع، وليس يجوز في الكلام كلما يجوز في الشعر. وأنشد: * فهن يعلكن حدائداتها * وقال النحاس: رأيت أبا إسحاق يتعجب من هذا قال: أخذ قول الخليل وأخطأ فيه، لان الخليل يقول فيه: لم ينصرف لانه جمع لا نظير له في الواحد، ولا يجمع جمع التكسير، وأما بالالف والتاء فلا يمتنع. الرابعة - قوله تعالى: (إذ أعجبتكم كثرتكم) قيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقيل: أحد عشر ألفا وخمسمائة. وقيل: ستة عشر ألفا. فقال بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة. فوكلوا إلى هذه الكلمة، فكان ما ذكرناه من الهزيمة في الابتداء إلى أن تراجعوا، فكان النصر والظفر للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فبين الله عزوجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة وقد قال: " وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده " (3) [ آل عمران: 160 ]. الخامسة - قوله تعالى: (وضاقت عليكم الارض بما رحبت) أي من الخوف، كما قال: كأن بلاد الله وهي عريضة * على الخائف المطلوب كفة حابل (4) (1) راجع المسألة الموفية العشرين ص 18 من هذا الجزء. (2) البيت لحسان بن ثابت. (3) راجع ج 4 ص 253 فما بعد (4) الكفة (بالكسر): حبالة الصائد. والحابل: الذي ينصب الحبالة. (*)
[ 101 ]
والرحب (بضم الراء) السعة. تقول منه: فلان رحب الصدر. والرحب (بالفتح): الواسع. تقول منه: بلد رحب، وأرض رحبة. وقد رحبت ترحب رحبا ورحابة. وقيل: الباء بمعنى مع أي مع رحبها. وقيل: بمعنى على، أي على رحبها. وقيل: المعنى برحبها، ف‍ " - ما " مصدرية. السادسة - قوله تعالى: (ثم وليتم مدبرين) روى مسلم عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة. فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء (1) من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن. وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: (أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك). قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. السابعة - قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) أي أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم، حتى اجترءوا على قتال المشركين بعد أن ولوا. (وأنزل جنودا لم تروها) وهم الملائكة، يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، لان الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. وروي أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم. أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (تلك الملائكة). (وعذب الذين كفروا) (1) أخفاء: جمع خفيف كطبيب وأطباء. وأراد بهم المتعجلين. والحسر: جمع حاسر كساجد وسجد. وهو من لا درع له ولا مغفر. أي ليس عليهم سلاح. والرشق (بالكسر): اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة. والرجل (بالكسر): القطعة. وقوله (احمر البأس) أي اشتد الحرب. (راجع شرح النووي على صحيح مسلم كتاب المغازي). (*)
[ 102 ]
أي بأسيافكم. (وذلك جزاء الكافرين. ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء) أي على من انهزم فيهديه إلى الاسلام. كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه. الثانية - ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة (1)، أتاه وفد هو ازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والاحسان إليهم، وقالوا: يا رسول الله، انك خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا. فقال لهم: (إني قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم وعندي من ترون وإن خير القول أصدقه فاختاروا إما ذراريكم وإما أموالكم). فقالوا: لا نعدل بالانساب شيئا. فقام خطيبا وقال: (هؤلاء جاءونا مسلمين وقد خيرناهم فلم يعدلوا بالانساب فرضوا برد الذرية وما كان لي ولبني عبد المطلب وبني هاشم فهو لهم). وقال المهاجرون والانصار: أما ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وامتنع الاقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما من أن يردوا عليهم شيئا مما وقع لهم في سهامهم. وامتنع العباس بن مرداس السلمي كذلك، وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الاقرع وعيينة قومهما. فأبت بنو سليم وقالوا: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه). فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء هم وأولادهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها. وقال قتادة: ذكر لنا أن ظئر النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين فسألته سبايا حنين. فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لا أملك إلا ما يصيبني منهم ولكن ايتيني غدا فاسأليني والناس عندي فإذا أعطيتك حصتي أعطاك الناس). فجاءت الغد فبسط لها ثوبه فأقعد ها عليه. ثم سألته فأعطا ها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطو ها أنصباء هم. وكان عدد سبي هو زان في قول سعيد بن المسيب ستة آلاف رأس. وقيل: أربعة آلاف قال أبو عمر: فيهن الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبد العزى من بنى سعد بن بكر [ وبنت ] حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطا ها وأحسن إليها، ورجعت مسرورة (1) الجعرانة: موضع على سبعة أميال من مكة إلى الطائف. (*)
[ 103 ]
إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها. قال ابن عباس: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أوطاس امرأة تعدو وتصيح ولا تستقر، فسأل عنها فقيل: فقدت بنيا لها. ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه، فدعاها وقال لاصحابه: (أطارحة هذه ولدها في النار) ؟ قالوا: لا. قال: (لم) ؟ قالوا: لشفقتها. قال: (الله أرحم بكم منها). وخرجه مسلم بمعناه، والحمد لله. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (28) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) ابتداء وخبر. واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغير هما: لانه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري من صافح مشركا فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب، لان الاسلام يهدم ما كان قبله. وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد. وأسقطه الشافعي وقال: أحب إلي أن يغتسل. ونحوه لابن القاسم. ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس. وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الاقوال. رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده. وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم فبعث به إلى حائط (1) أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حسن إسلام صاحبكم) وأخرجه مسلم بمعناه. وفيه: أن ثمامة (1) الحائط: البستان. (*)
[ 104 ]
لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل. وأمر قيس ابن عاصم أن يغتسل بماء وسدر. فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب. ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة. هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب. وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه إذا اعتقد الاسلام بقلبه وهو قول ضعيف في النظر مخالف للاثر. وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول. هذا قول جماعة أهل السنة في الايمان: إنه قول باللسان وتصديق بالقلب، ويزكو بالعمل. قال الله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح (1) يرفعه " [ فاطر: 10 ]. الثانية - قوله تعالى: (فلا يقربوا المسجد الحرام) " فلا يقربوا " نهي، ولذلك حذفت منه النون. " المسجد الحرام " هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم، وهو مذهب عطاء فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع. فإذا جاءنا رسول منهم خرج الامام إلى الحل ليسمع ما يقول. ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات نبش قبره وأخرجت عظامه. فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز. وأما جزيرة العرب، وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها (2)، فقال مالك: يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الاسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين. وكذلك قال الشافعي رحمه الله، غير أنه استثنى من ذلك اليمن. ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم. ولا يدفنون فيها ويلجئون إلى الحل. الثالثة - واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال، فقال أهل المدينة: الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد. وبذلك كتب عمر ابن عبد العزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية. ويؤيد ذلك قوله تعالى: " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه " (3) [ النور: 36 ]. ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها. وفي صحيح مسلم وغيره: (إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من البول والقذر). الحديث. والكافر لا يخلو عن (1) راجع ج 14 ص 328. (2) مخاليف جمع مخلاف، وهي قرى اليمن. (3) راجع ج 12 ص 264. (*)
[ 105 ]
ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) والكافر جنب. وقوله تعالى: " إنما المشركون نجس " فسماه الله تعالى نجسا. فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم. وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب لان العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد. يقال: رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، لا يثنى ولا يجمع لانه مصدر. فأما النجس (بكسر النون وجزم الجيم) فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس. فإذا أفرد قيل نجس (بفتح النون وكسر الجيم) ونجس (بضم الجيم). وقال الشافعي رحمه الله: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر، لان قوله عزوجل: " إنما المشركون نجس " تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة. فإن قيل: فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك. قيل له: أجاب علماؤنا عن هذا الحديث - وإن كان صحيحا - بأجوبة: أحدها - أنه كان متقدما على نزول الآية. الثاني - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه. الثالث - أن ذلك قضية في عين فلا ينبغي أن تدفع بها الادلة التي ذكرناها، لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية. وقد يمكن أن يقال: إنما ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدا بهم في جلوسهم في المسجد، فيستأنس بذلك ويسلم، وكذلك كان. ويمكن أن يقال: إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشر كون وأهل الاوثان. وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها. قال الكيا الطبري: ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة. وقال الشافعي: تعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام. وقال عطاء بن أبي رباح: الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا من دخول
[ 106 ]
الحرم، لقوله تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام " (1) [ الاسراء: 1 ]. وإنما رفع من بيت أم هانئ. وقال قتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم. وروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقرب المسجد مشرك إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة). وبهذا قال جابر بن عبد الله فإنه قال: العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد والامة. الرابعة - قوله تعالى: (بعد عامهم هذا) فيه قولان: أحد هما - أنه سنة تسع التي حج فيها أبو بكر. الثاني - سنة عشر قاله قتادة. ابن العربي: " وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ وإن من العجب أن يقال: إنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الاذان. ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه ". الخامسة - قوله تعالى: (وإن خفتم عيلة) قال عمرو بن فائد: المعنى وإذ خفتم. وهذه عجمة، والمعنى بارع ب‍ " - أن ". وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون الاطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا: من أين نعيش. فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله عزوجل: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " [ التوبة: 29 ] الآية. وقال عكرمة: أغنا هم الله بإدرار المطر والنبات وخصب الارض. فأخصبت تبالة (2) وجرش وحملوا إلى مكة الطعام والودك (3) وكثر الخير. وأسلمت العرب: أهل نجد وصنعاء وغيرهم فتمادى حجهم وتجرهم. وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الامم. والعيلة: الفقر. يقال: عال الرجل يعيل إذا افتقر. قال الشاعر: (4) وما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل (1) راجع ج 10 ص 204. (2) تبالة: بلد باليمن خصبة. وجرش كزفر من مخاليف اليمن. (3) الودك: هو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. (4) هو أحيحة كما في اللسان. (*)
[ 107 ]
وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود " عائلة " وهو مصدر كالقائلة من قال يقيل. وكالعافية. ويحتمل أن يكون نعتا لمحذوف تقديره: حالا عائلة، ومعناه خصلة شاقة. يقال منه: عالني الامر يعولني: أي شق علي واشتد. وحكى الطبري أنه يقال: عال يعول إذا افتقر. السادسة - في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالاسباب في الرزق جائز وليس ذلك بمناف للتوكل وإن كان الرزق مقدرا وأمر الله وقسمه مفعولا ولكنه علقه بالاسباب حكمة ليعلم القلوب التي تتعلق بالاسباب من القلوب التي تتوكل على رب الارباب. وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل. قال صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا) (1). أخرجه البخاري. فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق. ابن العربي: ولكن شيوخ الصوفية قالوا: إنما يغدو ويروح في الطاعات فهو [ السبب ] (2) الذي يجلب الرزق ". قالوا: والدليل عليه أمران: أحدهما - قوله تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك " (3) [ طه: 132 ] الثاني - قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " (4) [ فاطر: 10 ]. فليس ينزل الرزق من محله، وهو السماء، إلا ما يصعد وهو الذكر الطيب والعمل الصالح وليس بالسعي في الارض فإنه ليس فيها رزق. والصحيح ما أحكمته السنة عند فقهاء الظاهر وهو العمل بالاسباب الدنيوية من الحرث والتجارة في الاسواق والعمارة للاموال وغرس الثمار. وقد كانت الصحابة تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهر هم. قال أبو الحسن بن بطال: أمر الله سبحانه عباده بالانفاق من طيبات ما كسبوا، إلى غير ذلك من الآي. وقال: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه " (5) [ البقرة: 173 ]. فأحل للمضطر (1) الخمص والمخمصة: الجوع. والبطنة: امتلاء البطن من الطعام. أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشية وهي ممتلئة الاجواف. (2) زيادة عن ابن العربي. (3) راجع ج 11 ص 263. (4) راجع ص 104 من هذا الجزء. (5) راجع ج 2 ص 216. (*)
[ 108 ]
ما كان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذي أمره باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعي في ترك ما يتغذى به لكان لنفسه قاتلا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع ما يجد ما يأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء، وكان يدخر لاهله قوت سنته حتى فتح الله عليه الفتوح. وقد روى أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببعير فقال: يارسول الله، أعقله وأتوكل أو أطلقه وأتوكل ؟ قال: (اعقله وتوكل). قلت: ولا حجة لهم في أهل الصفة، فإنهم كانوا فقراء يقعدون في المسجد ما يحرثون ولا يتجرون، ليس لهم كسب ولا مال، إنما هم أضياف الاسلام عند ضيق البلدان، ومع ذلك فإنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويسوقون الماء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرءون القرآن بالليل ويصلون. هكذا وصفهم البخاري وغيره. فكانوا يتسببون. وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءته هدية أكلها معهم، وإن كانت صدقة خصهم بها، فلما كثر الفتح وانتشر الاسلام خرجوا وتأمروا - كأبي هريرة وغيره - وما قعدوا. ثم قيل: الاسباب التي يطلب بها الرزق ستة أنواع: أعلاها كسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: (جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري). خرجه الترمذي وصححه. فجعل الله رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في كسبه لفضله، وخصه بأفضل أنواع الكسب، وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه. الثاني - أكل الرجل من عمل يده، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) خرجه البخاري. وفي التنزيل " وعلمناه صنعة لبوس لكم " (1) [ الانبياء: 80 ]، وروي أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه. الثالث - التجارة، وهي كانت عمل جل الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة المهاجرين، وقد دل عليها التنزيل في غير موضع. (1) راجع ج 11 ص 320. (*)
[ 109 ]
الرابع - الحرث والغرس. وقد بيناه في سورة " البقرة " (1) الخامس - إقراء القرآن وتعليمه والرقية، وقد مضى في الفاتحة (2). السادس - يأخذ بنية الاداء إذا احتاج، قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله). خرجه البخاري. رواه أبو هريرة رضي الله عنه. السابعة - قوله تعالى: (إن شاء) دليل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو من فضل الله تولى قسمته بين عباده وذلك بين في قوله تعالى: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " (3) [ الزخرف: 32 ] الآية. قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29) فيه خمس مسألة: الاولى - قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشر كون يوافون بها، قال الله عزوجل: " وإن خفتم عيلة " [ التوبة: 28 ] الآية. على ما تقدم. ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم. فقال الله عزوجل: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الآية. فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لاصفاقهم (4) على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراما لكتابهم، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل (1) راجع ج 3 ص 17. (2) راجع ج 1 ص 112، 113. (3) راجع ج 16 ص 82. (4) أصفق القوم على أمر واحد: أجمعوا عليه. (*)
[ 110 ]
والشرائع والملل، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته. فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل. وهو الصحيح. قال ابن العربي: سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها. فقال: " قاتلوا " وذلك أمر بالعقوبة. ثم قال: " الذين لا يؤمنون " وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة. وقوله: " ولا باليوم الآخر " تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد. ثم قال: " ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله " زيادة للذنب في مخالفة الاعمال. ثم قال: " ولا يدينون دين الحق " إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والانفة عن الاستسلام. ثم قال: " من الذين أوتوا الكتاب " تأكيد للحجة، لانهم كانوا يجدونه مكتوبا عند هم في التوراة والانجيل. ثم قال: " حتى يعطوا الجزية عن يد " فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به. الثانية - وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية، قال الشافعي رحمه الله: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة عربا كانوا أو عجما لهذه الآية، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سوا هم لقوله عزوجل: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتمو هم " (1) [ التوبة: 5 ]. ولم يقل: حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب. وقال: وتقبل من المجوس بالسنة (2)، وبه قال أحمد وأبو ثور. وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقال الاوزاعي: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب. وكذلك مذهب مالك، فإنه رأى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربيا أو عجميا، تغلبيا أو قرشيا، كائنا من كان، إلا المرتد. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: تؤخذ الجزية من مجوس العرب والامم كلها. وأما عبدة الاوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية، ولا يبقى على الارض منهم أحد، وإنما لهم القتال أو الاسلام. ويوجد لابن القاسم: أن الجزية تؤخذ منهم، كما يقول مالك. وذلك في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص. وقال ابن وهب: (1) راجع ص 72 من هذا الجزء. (2) لقوله عليه الصلاة والسلام: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ". (*)
[ 111 ]
لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم. قال: لانه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم، فمن وجد منهم بخلاف الاسلام فهو مرتد، يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا تقبل منهم جزية. وقال ابن الجهم: تقبل الجزية من كل من دان بغير الاسلام إلا ما أجمع عليه من كفار قريش. وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: إنما ذلك لان جميعهم أسلم يوم فتح مكة. والله أعلم. الثالثة - وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم. وفي الموطأ: مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب). قال أبو عمر: يعني في الجزية خاصة. وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب. وعلى هذا جمهور الفقهاء. وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا. وأظنه ذهب في ذلك إلى شئ روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف، يدور على أبي سعيد البقال، ذكره عبد الرزاق وغيره. قال ابن عطية: وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت. والله أعلم. الرابعة - لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم. وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم، فقال عطاء بن أبي رباح: لا توقيت فيها، وإنما هو على ما صولحوا عليه. وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري، إلا أن الطبري قال: أقله دينار وأكثره لا حد له. واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية. وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الاحرار البالغين لا ينقص منه شئ واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم
[ 112 ]
دينارا في الجزية. قال الشافعي: وهو المبين عن الله تعالى مراده. وهو قول أبي ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن (1) والادام، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر. وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا. لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره. وقد قيل: إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الامام. وقال ابن القاسم: لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى. قال أبو عمر: ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما. وإلى هذا رجع مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وأربعون. قال الثوري: جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذمة. وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير. الخامسة - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، لانه تعالى قال: " قاتلوا الذين " إلى قوله: " حتى يعطوا الجزية " فيقتضي ذلك وجو بها على من يقاتل. ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا، لانه لا مال له، ولانه تعالى قال: " حتى يعطوا ". ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي. وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الاحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني. واختلف في الرهبان، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم. قال مطرف وابن الماجشون: هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه. السادسة - إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شئ من ثمار هم ولا تجارتهم ولا زروعهم إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها. فإن خرجوا (1) كذا في ب، ج، ه‍، ى. وفي ك: التين. (*)
[ 113 ]
تجارا عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غير ها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض (1) ثمن ذلك بأيديهم ولو كان ذلك في السنة مرارا إلا في حملهم الطعام الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة خاصة، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر على ما فعل عمر. ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول، مثل ما يؤخذ من المسلمين. وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وجماعة من أئمة الفقهاء. والاول قول مالك وأصحابه. السابعة - إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها، وبين كرومهم وعصر ها ما ستروا خمور هم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم، وأدب من أظهر الخنزير. وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى، ويجب عليه الضمان. وقيل: لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها. ولا يعترض لهم في أحكا مهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا. فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخير، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض. وقيل: يحكم بينهم في المظالم على كل حال، ويؤخذ من قويهم لضعيفهم، لانه من باب الدفع عنهم وعلى الامام أن يقاتل عنهم عدو هم ويستعين بهم في قتالهم. ولا حظ لهم في الفئ، وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها. ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون (2) به من المسلمين، ويمنعون من التشبه بأهل الاسلام. ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة. ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده (3) وأخذت منه صاغرا. الثامنة - اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه، فقال علماء المالكية: وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر. وقال الشافعي: وجبت بدلا عن الدم وسكنى الدار. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك. وعند الشافعي أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه (1) نض المال: صار عينا بعد أن كان متاعا. (2) في ج: ما يتبينون. (3) اللدد: الخصومة الشديدة. (*)
[ 114 ]
الاسلام كأجرة الدار. وقال بعض الحنفية بقولنا. وقال بعضهم: إنما وجبت بدلا عن النصر والجهاد. واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة. وقول مالك أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس على مسلم جزية). قال سفيان: معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه. أخرجه الترمذي وأبو داود. قال علماؤنا: وعليه يدل قوله تعالى: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " لان بالاسلام يزول هذا المعنى. ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون. والشافعي لا يأخذ بعد الاسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى. وإنما يقول: إن الجزية دين، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل، فصارت كالد يون كلها. التاسعة - لو عاهد الامام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغير ها وامتنعوا من حكم الاسلام من غير أن يظلموا وكان الامام غير جائر عليهم وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم. فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء. وقد قيل: هم ونساؤهم فئ ولا خمس فيهم، وهو مذهب. العاشرة - فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية. ولو خرجوا متظلمين نظر في أمر هم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار. فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده، ولا يؤخذ بنقض غيره وتعرف إقامتهم على العهد بإنكار هم على الناقضين. الحادية عشرة - الجزية وزنها فعلة، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الامن، وهي كالقعدة والجلسة. ومن هذا المعنى قول الشاعر: يجزيك أو يثني عليك وإن من * أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
[ 115 ]
الثانية عشرة - روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الانباط (1) بالشأم قد أقيموا في الشمس - في رواية: وصب على رؤوسهم الزيت - فقال: ما شأنهم ؟ فقال يحبسون في الجزية. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا). في رواية: وأمير هم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا. قال علماؤنا: أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لان من عجز عن الجزية سقطت عنه. ولا يكلف الاغنياء أداءها عن الفقراء. وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة). الثالثة عشرة - قوله تعالى: " عن يد " قال ابن عباس: يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا. روى أبو البختري عن سلمان قال: مذمومين. وروى معمر عن قتادة قال: عن قهر وقيل: " عن يد " عن إنعام منكم عليهم، لانهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك. عكرمة: يدفعها وهو قائم والآخذ جالس وقاله سعيد بن جبير. ابن العربي: وهذا ليس من قوله: " عن يد " وإنما هو من قوله: " وهم صاغرون ". الرابعة عشرة - روى الائمة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة) وروى: (واليد العليا هي المعطية). فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى. ويد الآخذ عليا، ذلك بأنه الرافع الخافض، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، لا إله غيره. الخامسة عشرة - عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمر ها وأزرعها وأؤدي خراجها ؟ فقال: لا. وجاءه آخر (1) الانباط: فلاحو العجم. (*)
[ 116 ]
فقال له ذلك فقال: لا وتلا قوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " إلى قوله: " وهم صاغرون " أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه ! وقال كليب بن وائل: قلت لابن عمر اشتريت أرضا قال الشراء حسن. قلت: فإني أعطي عن كل جريب (1) أرض درهما وقفيز طعام. قال: لا تجعل في عنقك صغارا. وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما يسرني أن لي الارض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها بالصغار على نفسي. قوله تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) فيه سبع مسائل: الاولى - قرأ عاصم والكسائي " عزير ابن الله " بتنوين عزير. والمعنى أن " ابنا " على هذا خبر ابتداء عن عزير و " عزير " ينصرف عجميا كان أو عربيا. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر " عزير ابن " بترك التنوين لاجتماع الساكنين، ومنه قراءة من قرأ " قل هو الله أحد الله الصمد " (2) [ الاخلاص: 1 - 2 ]. قال أبو علي: وهو كثير في الشعر. وأنشد الطبري في ذلك: لتجدني بالامير برا * وبالقناة مدعسا (3) مكرا * إذا غطيف السلمي فرا * الثانية - قوله تعالى: (وقالت اليهود) هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص، لان ليس كل اليهود قالوا ذلك. وهذا مثل قوله تعالى: " الذين قال لهم (1) الجريب من الارض: قال بعضهم عشرة آلاف ذراع. راجع المصباح ففيه الخلاف. والقفيز: مكيال، وهو ثمانية مكاكيك. (2) راجع ج 20 ص 244. (3) رجل مدعس (بالسين والصاد): طعان. (*)
[ 117 ]
الناس " (1) [ آل عمران: 173 ] ولم يقل ذلك كل الناس. وقيل: إن قائل ما حكى عن اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم. قال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا فإذا قالها واحد فيتوجه أن تلزم الجماعة شنعة المقالة، لاجل نباهة القائل فيهم. وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها. فمن ها هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيهها. والله أعلم. وقد روي أن سبب ذلك القول أن اليهود قتلوا الانبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير يسيح في الارض، فأتاه جبريل فقال: (أين تذهب) ؟ قال: أطلب العلم، فعلمه التوراة كلها فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم. وقيل: بل حفظها الله عزيرا كرامة منه له، فقال لبني إسرائيل: إن الله قد حفظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده. وكانت التوراة مدفونة، كان دفنها علماؤ هم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ما أصاب وقتل بختنصر إياهم. ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي متساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا: إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله حكاه الطبري. وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله، إنما أرادوا بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة. وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغير هما. وهذا أشنع الكفر. قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وإنه ابن إله. قال ابن عطية: ويقال إن بعضهم يعتقد ها بنوة حنو ورحمة. وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه وهو كفر. الثالثة - قال ابن العربي: في هذا دليل من قول ربنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لاحد أن يبتدئ به لا حرج عليه، لانه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والرد عليه ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد، فإذا مكن من إطلاق الالسن به فقد أذن بالاخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان والرد عليه بالحجة والبرهان. (1) راجع ج 4 ص 279. (*)
[ 118 ]
الرابعة - قوله تعالى: (ذلك قولهم بأفواههم) قيل: معناه التأكيد، كما قال تعالى: " يكتبون الكتاب بأيديهم " (1) [ البقرة: 79 ] وقوله: " ولا طائر يطير بجناحيه " (2) [ الانعام: 38 ] وقوله: " فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة " (3) [ الحاقة: 13 ] ومثله كثير. وقيل: المعنى أنه لما كان قول ساذج ليس فيه بيان ولا برهان، وإنما هو قول بالفم مجرد نفس دعوى لا معنى تحته صحيح لانهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدا، فهو كذب وقول لساني فقط بخلاف الاقوال الصحيحة التي تعضد ها الادلة ويقوم عليها البرهان. قال أهل المعاني: إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الافواه والالسن إلا وكان قولا زورا، كقوله: " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " (4) [ آل عمران: 167 ] و " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " (5) [ الكهف: 5 ] و " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " [ الفتح: 11 ] (6). الخامسة - قوله تعالى: (يضاهئون الذين كفروا من قبل) " يضاهئون " يشابهون، ومنه قول العرب: امرأة ضهيأ للتي لا تحيض أو التي لا ثدي لها، كأنها أشبهت الرجال. وللعلماء في " قول الذين كفروا " ثلاثة أقوال: الاول - قول عبدة الاوثان: اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى. الثاني - قول الكفرة: الملائكة بنات الله. الثالث - قول أسلافهم، فقلدو هم في الباطل واتبعوهم على الكفر، كما أخبر عنهم بقوله تعالى: " إنا وجدنا آباءنا على أمة " (7) [ الزخرف: 23 ]. السادسة - اختلف العلماء (8) في " ضهيأ " هل يمد أو لا، فقال ابن ولاد: امرأة ضهيأ، وهي التي لا تحيض، مهموز غير ممدود. ومنهم من يمد وهو سيبويه فيجعلها على فعلاء بالمد، والهمزة فيها زائدة لانهم يقولون نساء ضهي فيحذفون الهمزة. قال أبو الحسن قال لي (1) راجع ج 2 ص 7. (2) راجع ج 6 ص 419. (3) راجع ج 18 ص 264. (4) راجع ج 4 ص 265 فما بعد. (5) راجع ج 10 ص 353. (6) راجع ج 16 ص 268 وص 74. (7) راجع ج 16 ص 74. (8) في ج: النحاة. (*)
[ 119 ]
النجيرمي: ضهيأة بالمد والهاء. جمع بين علامتي تأنيث، حكاه عن أبي عمرو الشيباني في النوادر. وأنشد: * ضهيأة أو عاقر جماد (1) * ابن عطية: من قال " يضاهئون " مأخوذ من قولهم: امرأة ضهياء فقوله خطأ، قاله أبو علي، لان الهمزة في (ضاهأ) أصلية، وفي (ضهياء) زائدة كحمراء. السابعة - قوله تعالى: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) أي لعنهم الله، يعني اليهود والنصارى، لان الملعون كالمقتول. قال ابن جريج: " قاتلهم الله " هو بمعنى التعجب. وقال ابن عباس: كل شئ في القرآن قتل فهو لعن، ومنه قول أبان ابن تغلب: قاتلها الله تلحاني وقد علمت * أني لنفسي إفسادي وإصلاحي وحكى النقاش أن أصل " قاتل الله " الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الاصمعي: يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني * واخبر الناس أني لا أباليها قوله تعالى: اتخذوا أحبار هم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31) قوله تعالى: (اتخذوا أحبار هم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم) الاحبار جمع حبر، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه. ومنه ثوب محبر أي جمع الزينة. وقد قيل في واحد الاحبار: حبر بكسر الحاء، والمفسرون على فتحها. وأهل اللغة على كسرها. قال يونس: لم أسمعه إلا بكسر الحاء، والدليل على ذلك أنهم قالوا: [ مداد ] (2) حبر يريدون مداد عالم، ثم كثر الاستعمال حتى قالوا للمداد حبر. قال الفراء: الكسر (1) في الاصول (جناد) بالنون، وهو تحريف. والجماد: الناقة التي لا لبن بها. (2) من ج وك وه‍ وى. (*)
[ 120 ]
والفتح لغتان. وقال ابن السكيت: الحبر بالكسر المداد، والحبر بالفتح العالم. والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهو الذي حمله خوف الله تعالى على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له وعمله معه وأنسه به. قوله تعالى: (أربابا من دون الله) قال أهل المعاني: جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالارباب حيث أطاعوهم في كل شئ، ومنه قوله تعالى: " قال انفخوا حتى إذا جعله نارا " (1) [ الكهف: 96 ] أي كالنار. قال عبد الله بن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك * وأحبار سوء ورهبانها روى الاعمش وسفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن أبى البختري قال: سئل حذيفة عن قول الله عزوجل: " أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " هل عبد وهم ؟ فقال لا، ولكن أحلوا لهم الحرام فاستحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه. وروى الترمذي عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: (ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن) وسمعته يقرأ في سورة " براءه " " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " ثم قال: (أما إنهم لم يكونوا يعبد ونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه). قال: هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث عبد السلام بن حرب. وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. قوله تعالى: (والمسيح بن مريم) مضى الكلام في اشتقاقه في [ آل عمران ] (2). والمسيح: العرق يسيل من الجبين. ولقد أحسن بعض المتأخرين فقال: افرح فسوف تألف الاحزانا * إذا شهدت الحشر والميزانا وسال من جبينك المسيح * كأنه جداول تسيح ومضى في [ النساء ] معنى إضافته إلى مريم أمه. (1) راجع ج 11 ص 55 فما بعد. (2) راجع ج 4 ص 88. (3) راجع ج 6 ص 21. (*)
[ 121 ]
قوله تعالى: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) قوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله) أي دلالته وحججه على توحيده. جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان. وقيل: المعنى نور الاسلام، أي أن يخمدوا دين الله بتكذيبهم. (بأفواههم) جمع فوه على الاصل، لان الاصل في فم فوه، مثل حوض وأحواض. (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) يقال: كيف دخلت " إلا " وليس في الكلام حرف نفي، ولا يجوز ضربت إلا زيدا. فزعم الفراء أن " إلا " إنما دخلت لان في الكلام طرفا من الجحد. قال الزجاج: الجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف. وأدوات الجحد: ما، ولا، وإن، وليس: وهذه لا أطراف لها ينطق بها ولو كان الامر كما أراد لجاز كرهت إلا زيدا، ولكن الجواب أن العرب تحذف مع أبى. والتقدير: ويأبى الله كل شئ إلا أن يتم نوره. وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في " أبى " لانها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال النحاس: فهذا حسن، كما قال الشاعر: وهل لي أم غيرها إن تركتها * أبى الله إلا أن أكون لها ابنما قوله تعالى: هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33) قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله) يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. (بالهدى) أي بالفرقان. (ودين الحق ليظهره على الدين كله) أي بالحجة والبراهين. وقد أظهره على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شئ منها، عن ابن عباس وغيره. وقيل: " ليظهره " أي ليظهر الدين دين الاسلام على كل دين. قال أبو هريرة والضحاك: هذا عند نزول عيسى عليه السلام. وقال السدي: ذاك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلا دخل في الاسلام أو أدى الجزية. وقيل: المهدي هو عيسى فقط وهو غير صحيح لان الاخبار الصحاح قد
[ 122 ]
تواترت على أن المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز حمله على عيسى. والحديث الذي ورد في أنه (لا مهدي إلا عيسى) غير صحيح. قال البيهقي في كتاب البعث والنشور: لان راويه محمد بن خالد الجندي وهو مجهول، يروي عن أبان بن أبي عياش - وهو متروك - عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منقطع. والاحاديث التي قبله في التنصيص على خروج المهدي، وفيها بيان كون المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح إسنادا. قلت: قد ذكرنا هذا وزدناه بيانا في كتابنا (كتاب التذكرة) وذكرنا أخبار المهدي مستوفاة والحمد لله. وقيل: أراد " ليظهره على الدين كله " في جزيرة العرب، وقد فعل. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن كثير من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى " ليأ كلون أموال الناس بالباطل " دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فعل لمضارعة يفعل الاسماء. والاحبار علماء اليهود. والرهبان مجتهدو النصارى في العبادة. " بالباطل " قيل: إنهم كانوا يأخذون من أموال أتبا عهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك، مما يوهمو نهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله تعالى، وهم خلال ذلك يحجبون تلك الاموال، كالذي ذكره سلمان الفارسي عن الراهب الذي استخرج كنزه، ذكره ابن إسحاق في السير. وقيل: كانوا يأخذون من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع. وقيل: كانوا يرتشون في الاحكام، كما يفعله اليوم
[ 123 ]
كثير من الولاة والحكام. وقوله: " بالباطل " يجمع ذلك كله. (ويصدون عن سبيل الله) أي يمنعون أهل دينهم عن الدخول في دين الاسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم. الثانية - قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) الكنز أصله في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. ألا ترى قوله عليه السلام: (ألا أخبر كم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة). أي يضمه لنفسه ويجمعه. قال: ولم تزود من جميع الكنز * غير خيوط ورثيث بز (1) وقال آخر: لا در دري إن أطعمت جائعهم * قرف الحتي وعندي البر مكنوز قرف الحتي هو سويق المقل (2). يقول: إنه نزل بقوم فكان قراه عندهم سويق المقل، وهو الحتي، فلما نزلوا به قال هو: لا در دري... البيت. وخص الذهب والفضة بالذكر لانه مما لا يطلع عليه، بخلاف سائر الاموال. قال الطبري: الكنز كل شئ مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الارض كان أو على ظهرها. وسمي الذهب ذهبا لانه يذهب، والفضة لانها تنفض فتتفرق، ومنه قوله تعالى: " انفضوا إليها " (3) [ الجمعة: 11 ] - لانفضوا من حولك " (4) [ آل عمران: 159 ] وقد مضى هذا المعنى في [ آل عمران ] الثالثة - واختلفت الصحابة (5) في المراد بهذه الآية، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب وإليه ذهب الاصم لان قوله: " والذين يكنزون " مذكور بعد قوله: " إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأ كلون أموال لناس بالباطل ". وقال أبو ذر وغيره: المراد بها أهل الكتاب وغير هم من المسلمين. وهو الصحيح، لانه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال: ويكنزون، بغير والذين. فلما قال: " والذين " فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة. فالذين يكنزون كلام مستأنف، وهو رفع على الابتداء. قال السدي: عنى أهل القبلة. فهذه ثلاثة أقوال. وعلى قول الصحابة فيه دليل على أن الكفار عند هم (1) الرثيث: البالي، والبز: نوع من الثياب (2) المقل ثمر شجر الدوم ينضج ويؤكل (3) راجع ج 18 ص 109. (4) راجع ج 4 ص 249. (5) في ج وز: من ؟. (*)
[ 124 ]
مخاطبون بفروع الشريعة. روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة (1) فإذا أنا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في " الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله "، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك. فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت. الرابعة - قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط: حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا. أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر وأخرج ربع العشر من هذا وربع العشر من هذا. وإنما قلنا إن الحرية شرط، فلان العبد ناقص الملك. وإنما قلنا إن الاسلام شرط، فلان الزكاة طهرة والكافر لا تلحقه طهرة، ولان الله تعالى قال: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (2) [ البقرة: 43 ] فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة. وإنما قلنا إن الحول شرط، فلان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول). وإنما قلنا إن النصاب شرط، فلان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في أقل من مائتي درهم زكاة وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة). ولا يراعى كمال النصاب في أول الحول، وإنما يراعى عند آخر الحول، لاتفاقهم أن الربح في حكم الاصل. يدل على هذا أن من كانت معه مائتا درهم فتجر فيها فصارت آخر الحول ألفا أنه يؤدي زكاة الالف، ولا يستأنف للربح حولا. فإذا كان كذلك لم يختلف حكم الربح، كان صادرا عن نصاب أو دونه. وكذلك اتفقوا أنه لو كان له أربعون من الغنم، فتوالدت له رأس الحول ثم ماتت الامهات إلا واحدة منها، وكانت السخال تتمة النصاب فإن الزكاة تخرج عنها. (1) الربذة: موضع قريب من المدينة. (2) راجع ج 1 ص 342 فما بعد. (*)
[ 125 ]
الخامسة - واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا ؟ فقال قوم: نعم. ورواه أبو الضحا عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه، قال علي: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ولا يصح. وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز. قال ابن عمر: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الارض. ومثله عن جابر، وهو الصحيح. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا - " ولا يحسبن الذين يبخلون " (1) [ آل عمران: 180 ] الآية. وفيه أيضا عن أبي ذر، قال: انتهيت إليه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده - أو والذي لا إله غيره أو كما حلف - ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس). فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى، قال له أعرابي: أخبرني عن قول الله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة " قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للاموال. وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة. روى عن أبي ذر، وهو مما نقل من مذهبه، وهو من شدائده ومما انفرد به رضي الله عنه. قلت: ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا، ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شئ من المال إلا على قدر الحاجة ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت. (1) راجع ج 4 ص 290. (*)
[ 126 ]
فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار ولم يوجب الكل واعتبر مدة الاستنماء، فكان ذلك منه بيانا صلى الله عليه وسلم. وقيل: الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الاسير وإطعام الجائع وغير ذلك. وقيل: الكنز لغة المجموع من النقدين، وغير هما من المال محمول عليهما بالقياس. وقيل: المجموع منهما ما لم يكن حليا، لان الحلي مأذون في اتخاذه ولا حق فيه. والصحيح ما بدأنا بذكره، وأن ذلك كله يسمى كنزا لغة وشرعا. والله أعلم. السادسة - واختلف العلماء في زكاة الحلي، فذهب مالك وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد إلى أن لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراق، ووقف فيه بعد ذلك بمصر وقال: استخير الله فيه. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والاوزاعي: في ذلك كله الزكاة. احتج الاولون فقالوا: قصد النماء يوجب الزكاة في العروض وهي ليست بمحل لايجاب الزكاة، كذلك قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذهما حليا للقنية (1) يسقط الزكاة. احتج أبو حنيفة بعموم الالفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين، ولم يفرق بين حلي وغيره. وفرق الليث بن سعد فأوجب الزكاة فيما صنع حليا ليفر به من الزكاة وأسقطها فيما كان منه يلبس ويعار. وفي المذهب في الحلي تفصيل بيانه في كتب الفروع. السابعة - روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية " والذين يكنزون الذهب والفضة " قال: كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال: (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث - وذكر (2) كلمة - لتكون لمن بعدكم) قال: فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته). وروى (1) الفنية: ما يقتنيه المرء لنفسه لا للتجارة. (2) ما بين الخطين موجود في نسخ الاصل غير موجود في سنن أبي داود. والذي في كتاب الدر المنثور للسيوطي: (... وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم). (*)
[ 127 ]
الترمذي وغيره عن ثوبان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: قد ذم الله سبحانه الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه. فقال عمر: أنا أسأل لكم رسول الله صلى اله عليه وسلم، فسأله فقال: (لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المرء على دينه). قال حديث حسن. الثامنة - قوله تعالى: (ولا ينفقونها في سبيل الله) ولم يقل ينفقونهما، ففيه أجوبة ستة: الاول - قال ابن الانباري: قصد الاغلب والاعم وهي الفضة، ومثله قوله: " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة " (1) [ البقرة: 45 ] رد الكناية إلى الصلاة لانها أعم. ومثله " وإذا رأو تجارة أو لهوا انفضوا (2) إليها " [ الجمعة: 11 ] فأعاد الهاء إلى التجارة لانها الاهم وترك اللهو قاله كثير من المفسرين. وأباه بعضهم وقال: لا يشبهها، لان " أو " قد فصلت التجارة من اللهو فحسن عود الضمير على أحد هما. الثاني - العكس وهو أن يكون " ينفقو نها " للذهب والثاني معطوفا عليه. والذهب تؤنثه العرب تقول: هي الذهب الحمراء. وقد تذكر والتأنيث أشهر. الثالث - أن يكون الضمير للكنوز. الرابع - للاموال المكنوزة. الخامس - للزكاة التقدير ولا ينفقون زكاة الاموال المكنوزة. السادس - الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهم المعنى، وهذا كثير في كلام العرب. أنشد سيبويه: نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف (3) ولم يقل راضون. وقال آخر. (4) رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا ومن أجل الطوي رماني ولم يقل بريئين. ونحوه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: (1) راجع ج 1 ص 371. (2) راجع ج 18 ص 109. (3) البيت لقيس بن الخطيم. (4) هو ابن أحمر واسمه عمرو وصف في البيت رجلا كان بينه وبينه مشاجرة في بئر - وهو الطوى - فذكر أنه رماه بأمر يكرهه ورمى أباه بمثله على برأتهما منه من أجل المشاجرة التي كانت بينهما. (عن شرح الشواهد). (*)
[ 128 ]
إن شرخ الشباب والشعر الاس‍ * - ود ما لم يعاص كان جنونا ولم يقل يعاصيا. التاسعة - إن قيل: من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله وأنفق في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم ينفق في سبيل الله. قيل له: إن ذلك أشد، فإن من بذر ماله في المعاصي عصى من جهتين: بالانفاق والتناول، كشراء الخمر وشربها. بل من جهات إذا كانت المعصية مما تتعدى، كمن أعان على ظلم مسلم من قتله أو أخذ ماله إلى غير ذلك. والكانز عصى من جهتين، وهما منع الزكاة وحبس المال لا غير. وقد لا يراعى حبس المال، والله أعلم. العاشرة - قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) قد تقدم معناه. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا العذاب بقوله: (بشر الكنازين بكي في ظهور هم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جبا ههم) الحديث. أخرجه مسلم. رواه أبو ذر في رواية: (بشر الكنازين برضف (1) يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحد هم حتى يخرج من نغض (2) كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه فيتزلزل) الحديث. قال علماؤنا: فخروج الرضف من حلمة ثديه إلى نغض كتفه لتعذيب قلبه وباطنه حين امتلا بالفرح بالكثرة في المال والسرور في الدنيا، فعوقب في الآخرة بالهم والعذاب. الحادية عشرة - قال علماؤنا: ظاهر الآية تعليق الوعيد على من كنز ولا ينفق في سبيل الله ويتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الانفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك، إلا أن الذي يخبأ تحت الارض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفا، فلذلك خص الوعيد به. والله أعلم. (1) الرضف: الحجارة المحماة. (2) النغض (بالضم والفتح): أعلى الكتف وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه. (*)
[ 129 ]
قوله تعالى: يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم) " يوم " ظرف، والتقدير يعذبون يوم يحمى. ولا يصح أن يكون على تقدير: فبشر هم يوم يحمى عليها، لان البشارة لا تكون حينئذ. يقال: أحميت الحديدة في النار، أي أوقدت عليها. ويقال: أحميته، ولا يقال: أحميت عليه. وها هنا قال عليها، لانه جعل " على " من صلة معنى الاحماء، ومعنى الاحماء الايقاد. أي يوقد عليها فتكوى. الكي: إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد. والجباه جمع الجبهة، وهو مستوى ما بين الحاجب إلى الناصية. وجبهت فلانا بكذا، أي استقبلته به وضربت جبهته. والجنوب جمع الجنب. والكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الجنب والظهر آلم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الاعضاء. وقال علماء الصوفية: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا (1) عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم، ولما أسندوا ظهور هم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها كويت ظهور هم. وقال علماء الظاهر: إنما خص هذه الاعضاء لان الغني إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه (2) وقبض وجهه. كما قال: (3) يزيد يغض الطرف عني (4) كأنما * زوى بين عينيه علي المحاجم فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى * ولا تلقني إلا وأنفك راغم وإذا سأله طوى كشحه، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاه ظهره. فرتب الله العقوبة على حال المعصية. (1) طوى كشحه عنه: إذا أعرض عنه. (2) جمعه وقبضه. (3) القائل هو الاعشى كما في ديوانه. (4) وفيه: يغض الطرف دوني. (*)
[ 130 ]
الثانية - واختلفت الآثار في كيفية الكي بذلك، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر ما ذكرنا من ذكر الرضف. وفيه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). الحديث. وفي البخاري: أنه يمثل له كنزه شجاعا أقرع. وقد تقدم في غير الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (من كان له مال فلم يؤد زكاته طوقه يوم القيامة شجاعا أقرع ينقر رأسه. قلت: ولعل هذا يكون في مواطن: موطن يمثل المال فيه ثعبانا، وموطن يكون صفائح وموطن يكون رضفا. فتتغير الصفات والجسمية واحدة، فالشجاع جسم والمال جسم. وهذا التمثيل حقيقة، بخلاف قوله: (يؤتى بالموت كأنه كبش أملح) فإن تلك طريقة أخرى، ولله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء. وخص الشجاع بالذكر لانه العدو الثاني للخلق. والشجاع من الحيات هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبه وربما بلغ الفارس، ويكون في الصحارى. وقيل: هو الثعبان. قال اللحياني: يقال للحية شجاع، وثلاثة أشجعة، ثم شجعان. والاقرع من الحيات هو الذي تمعط رأسه وابيض من السم. في الموطأ: له زبيبتان، أي نقطتان منتفختان في شدقيه كالر غوتين. ويكون ذلك في شدقي الانسان إذا غضب وأكثر من الكلام. قالت [ أم ] غيلان بنت جرير ربما أنشدت أبي حتى يتزبب شدقاي. ضرب مثلا للشجاع الذي كثر سمه فيمثل المال بهذا الحيوان فيلقى صاحبه غضبان. وقال ابن دريد: نقطتان سوداوان فوق عينيه. في رواية: مثل له شجاع يتبعه فيضطره فيعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل. وقال ابن مسعود: والله لا يعذب الله أحدا بكنز فيمس درهم درهما ولا دينار دينارا، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم ودينار على حدته. وهذا إنما يصح في الكافر - كما ورد في الحديث - لا في المؤمن. والله أعلم.
[ 131 ]
الثالثة - أسند الطبري إلى أبي أمامة الباهلي قال: مات رجل من أهل الصفة فوجد في بردته دينار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كية). ثم مات آخر فوجد له ديناران. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كيتان). وهذا إما لانهما كانا يعيشان من الصدقة وعندهما التبر، وإما لان هذا كان في صدر الاسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه. ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الامة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأمو الهم رضوان الله عليهم. وأما ما ذكر عن أبي ذر فهو مذهب له، رضي الله عنه. وقد روى موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جمع دينارا أو در هما أو تبرا أو فضة ولا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة). قلت: هذا الذي يليق بأبي ذر رضي الله عنه أن يقول به، وأن ما فضل عن الحاجة فليس بكنز إذا كان معدا لسبيل الله. وقال أبو أمامة: من خلف بيضا أو صفرا كوي بها مغفورا له أو غير مغفور له، ألا إن حلية السيف من ذلك. وروى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله له بكل قيراط صفيحة يكوى بها من فرقه (1) إلى قدمه مغفورا له بعد ذلك أو معذبا). قلت: وهذا محمول على ما لم تؤد زكاته بدليل ما ذكرنا في الآية قبل هذا. فيكون التقدير: وعنده أحمر أو أبيض لم يؤد زكاته. وكذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: من ترك عشرة آلاف جعلت صفائح يعذب بها صاحبها يوم القيامة. أي إن لم يؤد زكاتها، لئلا تتناقض الاحاديث. والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى: (هذا ما كنزتم لانفسكم) أي يقال لهم هذا ما كنزتم، فحذف. (فذوقوا ما كنتم تكنزون) أي عذاب ما كنتم تكنزون. (1) الفرق: الطريق في شعر الرأس. (*)
[ 132 ]
قوله تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلو نكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36) قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم). فيه ثمان مسائل (1): الاولى - قوله تعالى: (إن عدة الشهور) جمع شهر. فإذا قال الرجل لاخيه: لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حولا، قاله بعض العلماء. وقيل: لا يكلمه أبدا. ابن العربي: وأرى إن لم تكن له نية أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر لانه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة فعول في جمع فعل. ومعنى (عند الله) أي في حكم الله وفيما كتب في اللوح المحفوظ. (اثنا عشر شهرا) أعربت " اثنا عشر شهرا " دون نظائر ها، لان فيها حرف الاعراب ودليله. وقرأ العامة " عشر " بفتح العين والشين. وقرأ أبو جعفر " عشر " بجزم الشين. (في كتاب الله) يريد اللوح المحفوظ. وأعاده بعد أن قال " عند الله " لان كثيرا من الاشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله، كقوله: " إن الله عنده علم الساعة " (2) [ لقمان: 34 ]. الثانية - قوله تعالى: (يوم خلق السموات والارض) إنما قال " يوم خلق السموات والارض " ليبين أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والارض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وهو معنى قوله تعالى: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ". وحكمها باق (1) يلاحظ أن في الاصول سبع مسائل وهو خطأ. (2) راجع ج 14 ص 82. (*)
[ 133 ]
على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لاسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها. والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الاحكام على الاسماء التي رتبوها عليه، ولذلك قال عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: (أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض) على ما يأتي بيانه. وأن الذي فعل أهل الجاهلية من جعل المحرم صفرا وصفر محرما ليس يتغير به ما وصفه الله تعالى. والعامل في " يوم " المصدر الذي هو " في كتاب الله " وليس يعنى به واحد الكتب، لان الا عيان لا تعمل في الظروف. والتقدير: فيما كتب الله يوم خلق السموات والارض. و " عند " متعلق بالمصدر الذي هو العدة، وهو العامل فيه. و " في " من قوله: " في كتاب الله " متعلقة بمحذوف، هو صفة لقوله: " أثنا عشر ". والتقدير: اثنا عشر شهرا معدودة أو مكتوبة في كتاب الله. ولا يجوز أن تتعلق بعدة لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر إن. الثالثة - هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الاحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبر ها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرا، لانها مختلفة الاعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج. الرابعة - قوله تعالى: (منها أربعة حرم) الاشهر الحرم المذكورة في هذه الآية ذوالقعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وهو رجب مضر، وقيل له رجب مضر لان ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا. وكانت مضر تحرم رجبا نفسه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (الذي بين جمادى وشعبان) ورفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان. وكانت العرب أيضا تسميه منصل الاسنة (1)، (1) منصل الاسنة: مخرجها من أماكنها. كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام إبطالا للقتال فيه، وقطعا لاسباب الفتن لحرمته. (*)
[ 134 ]
روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي - واسمه عمران بن ملحان وقيل عمران بن تيم - قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الاسنة، فلم ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها فألقيناه. الخامسة - قوله تعالى: (ذلك الدين القيم) أي الحساب الصحيح والعدد المستوفى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: " ذلك الدين " أي ذلك القضاء. مقاتل: الحق. ابن عطية: والاصوب عندي أن يكون الدين ها هنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة. " القيم " أي القائم المستقيم، من قام يقوم. بمنزلة سيد، من ساد يسود. أصله قيوم. السادسة - قوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) على قول ابن عباس راجع إلى جميع الشهور. وعلى قول بعضهم إلى الاشهر الحرم خاصة، لانه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم، لقوله تعالى: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " (1) [ البقرة: 197 ] لا أن الظلم في غير هذه الايام جائز على ما نبينه. ثم قيل: في الظلم قولان: أحدهما لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور، قاله قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري. وقال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الاشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت. والصحيح الاول، لان النبي صلى الله عليه وسلم غزا هو ازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصر هم في شوال وبعض ذي القعدة. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. الثاني (2) - لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لان الله سبحانه إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح. فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس (1) راجع ج 2 ص 404 فما بعد. (2) راجع ج 3 ص 43. (*)
[ 135 ]
ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام. ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال. وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " (1) [ الاحزاب: 30 ]. السابعة - وقد اختلف العلماء من هذا المعنى فيمن قتل في الشهر الحرام خطأ، هل تغلظ عليه الدية أم لا، فقال الاوزاعي: القتل في الشهر الحرام تغلظ فيه الدية فيما بلغنا وفي الحرم فتجعل دية وثلثا. ويزاد في شبه العمد في أسنان الابل. قال الشافعي: تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم. وروي عن القاسم ابن محمد وسالم بن عبد الله وابن شهاب وأبان بن عثمان: من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها. وروي ذلك عن عثمان بن عفان أيضا. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى: القتل في الحل والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، وهو قول جماعة من التابعين. وهو الصحيح، لان النبي صلى الله عليه وسلم سن الديات ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام. وأجمعوا أن الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء. فالقياس أن تكون الدية كذلك. والله أعلم. الثامنة - خص الله تعالى الاربعة الاشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها وإن كان منهيا عنه في كل الزمان. كما قال: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " [ البقرة: 197 ] على هذا أكثر أهل التأويل. أي لا تظلموا في الاربعة الاشهر أنفسكم. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " في الاثني عشر. وروى قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية قال: فيهن كلهن. فإن قيل على القول الاول: لم قال فيهن ولم يقل فيها ؟ وذلك أن العرب يقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هن وهؤلاء فإذا جاوزوا العشرة قالوا: هي وهذه، إرادة أن تعرف تسمية القليل من الكثير. وروي عن الكسائي أنه قال: إني لا تعجب من فعل (1) راجع ج 14 ص 173 فما بعد. (*)
[ 136 ]
العرب هذا. وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي: خلون. وفيما فوقها خلت. لا يقال: كيف جعل بعض الازمنة أعظم حرمة من بعض، فإنا نقول: للبارئ تعالى أن يفعل ما يشاء، ويخص بالفضيلة ما يشاء، ليس لعمله علة ولا عليه حجر، بل يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى. قوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة) فيه مسألة واحدة: قوله تعالى: " قاتلوا " أمر بالقتال. و " كافة " معناه جميعا، وهو مصدر في موضع الحال. أي محيطين بهم ومجتمعين. قال الزجاج: مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية وعاقبه عاقبة. ولا يثنى ولا يجمع، وكذا عامة وخاصة. قال بعض العلماء: كان الغرض بهذه الآية قد توجه على الا عيان ثم نسخ ذلك وجعل فرض كفاية. قال ابن عطية: وهذا الذي قاله لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الامة جميعا النفر، وإنما معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة. ثم قيدها بقوله: " كما يقاتلو نكم كافة " فبحسب قتالهم واجتما عهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم. والله أعلم. قوله تعالى: إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين (37) قوله تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر) هكذا يقرأ أكثر الائمة. قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه " إنما النسي " بلا همز إلا ورش وحده. وهو مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخره، حكى اللغتين الكسائي. الجوهري: النسئ فعيل بمعنى مفعول، من قولك: نسأت الشئ فهو منسوء إذا أخرته. ثم يحول منسوء إلى نسئ كما يحول مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة. قال الطبري: النسئ بالهمزة معناه الزيادة، يقال: نسأ ينسأ إذا زاد. قال: ولا يكون بترك الهمز إلا من النسيان، كما قال تعالى:
[ 137 ]
" نسوا الله (1) فنسيهم " [ التوبة: 67 ]، ورد على نافع قراءته، واحتج بأن قال: إنه يتعدى بحرف الجر يقال: نسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره (2) فليصل رحمه). قال الازهري: أنسأت الشئ إنساء ونسيئا اسم وضع موضع المصدر الحقيقي. وكانوا يحرمون القتال في المحرم فإذا احتاجوا إلى ذلك حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم. وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن. فكانوا إذا صدروا عن منى يقوم من بني كنانة، ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس، فيقول أنا الذي لا يرد لي قضاء. فيقولون: أنسئنا شهرا، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم. فكانوا كذلك شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الاسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. وهذا معنى قوله عليه السلام: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض). وقال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله في خطبته: (إن الزمان قد استدار) الحديث. أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسئ. وقول ثالث. قال إياس بن معاوية: كان المشركون يحسبون السنة اثني عشر شهرا وخمسة عشر يوما، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوما فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة (1) راجع ص 199 من هذا الجزء. (2) الاثر: الاجل، وسمى به لانه يتبع العمر، وأصله من أثر مشيه في الارض فإن من مات لا تبقى له حركة فلا يبقى لاقدامه في الارض أثر. (عن شرح القسطلاني). (*)
[ 138 ]
في العشر، ووافق ذلك الاهلة. وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار). أي زمان الحج عاد إلى وقته الاصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والارض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه. ثم قال: السنة اثنا عشر شهرا. ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة - وهي الخمسة عشر يوما - بتحكمهم، فتعين الوقت الاصلي وبطل التحكم الجهلي. وحكى الامام المازري عن الخوارزمي أنه قال: أول ما خلق الله الشمس أجراها في برج الحمل، وكان الزمان الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس برج الحمل. وهذا يحتاج إلى توقيف، فإنه لا يتوصل إليه إلا بالنقل عن الانبياء، ولا نقل صحيحا عنهم بذلك، ومن ادعاه فليسنده. ثم إن العقل يجوز خلاف ما قال، وهو أن يخلق الله الشمس قبل البروج، ويجوز أن يخلق ذلك كله دفعة واحدة. ثم إن علماء التعديل قد اختبروا ذلك فوجدوا الشمس في برج الحوت وقت قوله عليه السلام: (إن الزمان قد استدار) بينها وبين الحمل عشرون درجة. ومنهم من قال عشر درجات. والله أعلم. واختلف أهل التأويل في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك: بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة. وروى جويبر (1) عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، ثم كان بعده رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزهري: حي من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس واسمه حذيفة بن عبيد. وفي رواية: مالك بن كنانة. وكان الذي يلي النسئ يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه. وفي ذلك يقول شاعر هم: * ومنا ناسئ الشهر القلمس * وقال الكميت (2): ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما (1) في نسخ الاصل: (جرير) وهو تحريف. (2) في اللسان لعمير بن قيس بن جذل الطعان. (*)
[ 139 ]
قوله تعالى: (زيادة في الكفر) بيان لما فعلته العرب من جمعها من أنواع الكفر فإنها أنكرت وجود البارئ تعالى فقالت: " وما الرحمن " (1) [ الفرقان: 0 ] في أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت: " قال من يحيي العظام وهي رميم " (2) [ يس: 78 ]. وأنكرت بعثة الرسل فقالوا: " أبشرا منا واحدا نتبعه " (3) [ القمر: 24 ]. وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرم الله. ولا مبدل لكلماته ولو كره المشر كون. قوله تعالى: (يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) فيه ثلاث قراءات. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو " يضل " وقرأ الكوفيون " يضل " على الفعل المجهول. وقرأ الحسن وأبو رجاء " يضل " والقراءات الثلاث كل واحدة منها تؤدي عن معنى، إلا أن القراءة الثالثة حذف منها المفعول. والتقدير: ويضل به الذين كفروا من يقبل منهم. و " الذين " في محل رفع. ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الله عزوجل. التقدير: يضل الله به الذين كفروا، كقوله تعالى: " يضل من يشاء " (4) [ الرعد: 27 ]، وكقوله في آخر الآية: " والله لا يهدي القوم الكافرين ". والقراءة الثانية " يضل به الذين كفروا " يعني المحسوب لهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله تعالى: " زين لهم سوء أعمالهم ". والقراءة الاولى اختارها أبو حاتم، لانهم كانوا ضالين به أي بالنسئ لانهم كانوا يحسبونه فيضلون به. والهاء في " يحلونه " ترجع إلى النسئ. وروي عن أبي رجاء " يضل " بفتح الياء والضاد. وهي لغة، يقال: ضللت أضل، وضللت أضل. " ليواطئوا " نصب بلام كي أي ليوافقوا. تواطأ القوم على كذا أي اجتمعوا عليه، أي لم يحلوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الاشهر الحرم أربعة. وهذا هو الصحيح، لا ما يذكر أنهم جعلوا الاشهر خمسة. قال قتادة: إنهم عمدوا إلى صفر فزادوه في الاشهر الحرم، وقرنوه بالمحرم في التحريم، وقاله عنه قطرب والطبري. وعليه يكون النسئ بمعنى الزيادة. والله أعلم. (1) راجع ج 13 ص 64. (2) راجع ج 15 ص 58. (3) راجع ج 17 ص 137 فما بعد. (4) راجع ج 14 ص 324 فما بعد. (*)
[ 140 ]
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحيوة الدنيا من الآخرة فما متاع الحيوة الدنيا في الاخرة إلا قليل (38) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (ما لكم) " ما " حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ التقدير: أي شئ يمنعكم عن كذا كما تقول: مالك عن فلان معرضا. ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، وسيأتي ذكرها في آخر السورة إن شاء الله. والنفر: هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لامر يحدث، يقال في ابن آدم: نفر إلى الام ينفر نفورا. وقوم نفور، ومنه قوله تعالى: " ولوا على أدبار هم نفورا " (1) [ الاسراء: 46 ]. ويقال في الدابة: نفرت تنفر (بضم الفاء وكسر ها) نفارا ونفورا. يقال: في الدابة نفار، وهو اسم مثل الحران. ونفر الحاج من منى نفرا. الثانية - قوله تعالى: (اثاقلتم إلى الارض) قال المفسرون: معناه أثاقلتم إلى نعيم الارض، أو إلى الاقامة بالارض. وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب على التقاعد عن المبادرة إلى الخروج، وهو نحو من أخلد إلى الارض. وأصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن، ومثله " اداركوا " (2) [ الاعراف: 38 ] و " ادارأتم " (3) [ البقرة: 72 ] و " اطيرنا " (4) [ النمل: 47 ] و " ازينت " (5) [ يونس: 24 ]. وأنشد الكسائي: تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا * عذب المذاق إذا ما أتابع القبل (6) (1) راجع ج 10 ص 721. (2) راجع ج 7 ص 204. (3) راجع ج 1 ص 455. (4) راجع ج 13 ص 214. (5) راجع ج 8 ص 326. (6) ساف الشئ يسوفه ويسافه سوفا وساوفه واستافه كله شمه. والخصر: البارد من كل شئ. (*)
[ 141 ]
وقرأ الاعمش " تثاقلتم " على الاصل. حكاه المهدوي. وكانت تبوك - ودعا الناس إليها (1) - في حرارة القيظ وطيب الثمار وبرد الظلال - كما جاء في الحديث الصحيح على ما يأتي - فاستولى على الناس الكسل فتقاعدوا وتثاقلوا فوبخهم الله بقوله هذا وعاب عليهم الايثار للدنيا على الآخرة. ومعنى (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أي بدلا، التقدير: أرضيتم بنعيم الدنيا بدلا من نعيم الآخرة ف‍ " - من " تتضمن معنى البدل، كقوله تعالى: " ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الارض يخلفون " (2) [ الزخرف: 60 ] أي بدلا منكم. وقال الشاعر: (3) فليت لنا من ماء زمزم شربة * مبردة باتت على طهيان ويروى من ماء حمنان (4). أراد: ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة مبردة. والطهيان: عود ينصب في ناحية الدار للهواء، يعلق عليه الماء حتى يبرد. عاتبهم الله على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد طافت راكبة: (أجرك على قدر نصبك). خرجه البخاري. قوله تعالى: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير (39) فيه مسألة واحدة - وهو أن قوله تعالى: " إلا تنفروا " شرط، فلذلك حذفت منه النون. والجواب " يعذبكم "، " ويستبدل قوما غيركم " وهذا تهديد شديد ووعيد مؤكد في ترك النفير. قال ابن العربي: ومن محققات الاصول أن الامر إذا ورد فليس في وروده أكثر من اقتضاء الفعل. فأما العقاب عند الترك فلا يؤخذ من نفس الامر ولا يقتضيه (1) قوله: (ودعا الناس إليها) قال ابن إسحاق:.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان.. الخ. (2) راجع ج 16 ص 194. (3) هو يعلى بن مسلم بن قيس الشكري، كما في اللسان. وقيل أنه الاحول الكندي. (4) حمنان: مكة. (*)
[ 142 ]
الاقتضاء، وإنما يكون العقاب بالخبر عنه، كقوله: إن لم تفعل كذا عذبتك بكذا، كما ورد في هذه الآية. فوجب بمقتضاها النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما " و " ما كان لاهل المدينة - إلى قوله - يعملون " (1) [ التوبة: 120 ] نسختها الآية التي تليها: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " [ التوبة: 122 ]. وهو قول الضحاك والحسن وعكرمة. " يعذبكم " قال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم. قال ابن العربي: فإن صح ذلك عنه فهو أعلم من أين قاله، وإلا فالعذاب الاليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة. قلت: قول ابن عباس خرجه الامام أبو داود في سننه عن ابن نفيع قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما " قال: فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم. وذكره الامام أبو محمد بن عطية مرفوعا عن ابن عباس قال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت، فأمسك الله عنهم المطر وعذبها به. و " أليم " بمعنى مؤلم، أي موجع. وقد تقدم. (ويستبدل قوما غيركم) توعد بأن يبدل لرسوله قوما لا يقعدون عند استنفاره إيا هم. قيل: أبناء فارس. وقيل: أهل اليمن. (ولا تضروه شيئا) عطف. والهاء قيل لله تعالى، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم. والتثاقل عن الجهاد مع إظهار الكراهة حرام على كل أحد. فأما من غير كراهة فمن عينه النبي صلى الله عليه وسلم حرم عليه التثاقل وإن أمن منهما فالفرض فرض كفاية، ذكره القشيري. وقد قيل: إن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم. وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء، لانه متعين. وإذا ثبت ذلك فالاستدعاء والاستنفار يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل إلا أن الامام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عند التعيين ويصير بتعيينه فرضا على من عينه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الامام. والله أعلم. (1) راجع ص 290 من هذا الجزء. (2) راجع ج 1 ص 198. (*)
[ 143 ]
قوله تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثان اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40) فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى قوله تعالى: (إلا تنصروه) يقول: تعينوه بالنفر معه في غزوة تبوك. عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السلام من تبوك. قال النقاش: هذه أول آية نزلت من سورة [ براءة ]. والمعنى: إن تركتم نصره فالله يتكفل به، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة. وقيل: فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه، وبوفائه ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله. قال الليث بن سعد: ما صحب الانبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق. وقال سفيان بن عيينة. خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: " إلا تنصروه " الثانية - قوله تعالى: (إذ أخرجه الذين كفروا) وهو خرج بنفسه فارا، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالاكراه، لالجائه القاتل والمتلف إلى القتل والاتلاف. الثالثة - قوله تعالى: (ثاني اثنين) أي أحد اثنين. وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة. فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة وخامس أربعة، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والاربعة خمسة. وهو منصوب على الحال، أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر. والعامل فيها " نصره الله " أي نصره منفردا ونصره أحد اثنين. وقال علي بن سليمان: التقدير فخرج ثاني اثنين، مثل " والله أنبتكم من الارض (1) نباتا " [ نوح: 17 ]. وقرأ جمهور الناس (1) راجع ج 18 ص 305. (*)
[ 144 ]
" ثاني " بنصب الياء. قال أبو حاتم: لا يعرف غير هذا. وقرأت فرقة " ثاني " بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالالف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن " ما بقي من الربا " وكقول جرير: هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم * ماضي العزيمة ما في حكمه جنف (1) الرابعة - قوله تعالى: (إذ هما في الغار) الغار: ثقب في الجبل، يعني غار ثور. ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا: هذا شر شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط. ويقال ابن أريقط، وكان كافرا لكنهما وثقا به، وكان دليلا بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ونهضا نحو الغار في جبل ثور، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها (2) عليهما ليلا فيأخذ منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالاخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيعفي آثار هما. فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الاثر، حتى وقف على الغار فقال: هنا انقطع الاثر. فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن رده عليهم. (1) راجع ج 3 ص 369. (2) يريحها: يردها. (*)
[ 145 ]
الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة. وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان [ رضي الله عنهما ] (1): أن الله عزوجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار. الخامسة - روى البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل ها ديا خريتا (2)، وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وارتحل (3) معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل (4). قال المهلب: فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك (5) على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين. وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق. وقال البخاري في ترجمته: [ باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الاسلام ] قال ابن بطال: إنما قال البخاري في ترجمته [ أو إذا لم يوجد أهل الاسلام ] من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الارض، حتى قوي الاسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر. وعامة الفقهاء يجيزون استئجار هم عند الضرورة وغير ها. وفيه: استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما. وفيه: دليل على جواز الفرار بالدين خوفا من العدو، والاستخفاء في الغيران وغير ها ألا يلقي الانسان بيده إلى العدو توكلا على الله واستسلاما له. ولو شاء ربكم لعصمه مع كونه معهم ولكنها سنة الله في الانبياء وغير هم، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال: من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله، ولم يؤمن بالقدر. وهذا كله في معنى الآية، ولله الحمد والهداية (1) من ه‍. (2) الخريت: الدليل الحاذق والماهر بطرق المفاوز. (3) في ج وك وه‍ وز: وانطلق. (4) الساحل: موضع بعينه ولم يرد به ساحل البحر. (5) في ج: الكفر. (*)
[ 146 ]
السادسة - قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه. روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك " ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " هو الصديق. فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه. قال بعض العلماء: من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع. ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لانه رد نص القرآن. ومعنى " إن الله معنا " أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة. روى الترمذي والحارث بن أبي أسامة قالا: حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحد هم نظر إلى قدميه لابصرنا تحت قدميه، فقال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما). قال المحاسبي: يعني معهما بالنصر والدفاع، لا على معنى ما عم به الخلائق، فقال: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " (1) [ المجادلة: 7 ]. فمعناه العموم أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين. السابعة - قال ابن العربي: قالت الامامية قبحها الله: حزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وخرقه (2). وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص، كما لم ينقص إبراهيم حين قال عنه: " نكر هم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف " (3) [ هود: 70 ]. ولم ينقص موسى قوله: " فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف " (4) [ طه 67، 68 ]. وفى لوط: " ولا تحزن إنا منجوك وأهلك " (5) [ العنكبوت: 33 ]. فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التقية نصا ولم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص، وكذلك في أبي بكر. ثم هي عند الصديق احتمال، فإنه قال: لو أن أحد هم نظر تحت قدميه لابصرنا. جواب ثان - إن حزن الصديق إنما كان خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر، (1) راجع ج 18 ص 289. (2) الخرق (بالضم): الحمق وضعف الرأى. (3) راجع ج 9 ص 62. (4) راجع ج 11 ص 221 فما بعد. (5) راجع ج 13 ص 341 فما بعد (*)
[ 147 ]
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصوما وإنما نزل عليه " والله يعصمك من الناس " (1) [ المائدة: 67 [ بالمدينة ] (2). الثامنة - قال ابن العربي: قال لنا أبو الفضائل العدل (3) قال لنا جمال الاسلام أبو القاسم قال موسى صلى الله عليه وسلم: " كلا إن معي ربي سيهدين " (4) [ الشعراء: 62 ] وقال في محمد صلى الله عليه وسلم: " لا تحزن إن الله معنا " لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع من عند ربه ووجد هم يعبدون العجل. ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم " لا تحزن إن الله معنا " بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالامر ولم يتطرق إليه اختلال. التاسعة - خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد - له صحبة - قال: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم...، الحديث. وفيه: واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الانصار ندخلهم معنا في هذا الامر. فقالت الانصار: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر رضي الله عنه: من له مثل هذه الثلاث " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " من " هما " ؟ قال: ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة. قلت: ولهذا قال بعض العلماء: في قوله تعالى: " ثاني اثنين إذ هما في الغار " ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق [ رضي الله عنه ] (5)، لان الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا. وسمعت شيخنا الامام أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالامر، كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها، ولم يبق الاسلام إلا بالمد ينة ومكة وجواثا (6)، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الاسلام ويقا تلهم على (1) راجع ج 6 ص 242. (2) من ب وج وزوك وى. (3) من ب وك وى. واضطربت الاصول في هذا الاسم. والذي في أحكام القرآن لابن العربي المطبوع: (أبو الفضائل بن المعدل) وفي المخطوطة منه (أبو الفضائل المعدل). (4) راجع ج 13 ص 100 فما بعد. (5) من ج وه‍. (6) موضع بالبحرين. (*)
[ 148 ]
الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين. قلت - وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الاجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف. والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه. وهل يكفر أم لا، يختلف فيه، والاظهر تكفيره. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة [ الفتح ] (1) إن شاء الله. والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الامة ويجب أن تؤمن به القلوب والافئدة فضل الصديق على جميع الصحابة. ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته. ثم بعد الصديق عمر الفاروق، ثم بعده عثمان. روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. واختلف أئمة أهل السلف (2) في عثمان وعلي، فالجمهور منهم على تقديم عثمان. وروي عن مالك أنه توقف في ذلك. وروي عنه [ أيضا ] (3) أنه رجع إلى ما عليه الجمهور. وهو الاصح إن شاء الله. العاشرة - قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه) فيه قولان: أحد هما: على النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: على أبي بكر. ابن العربي: قال علماؤنا وهو الاقوى، لانه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الامن وأنبت الله سبحانه ثمامة، (4) وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل (5) العنكبوت فنسجت بيتا عليه. فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ! ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر (6) مع الصديق: (هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت) رواه أبو الدرداء. (1) راجع ج 16 ص 297. (2) في ج: أهل السنة. وفي ز: التفسير. (3) من ه‍. (4) الثمام: نبت معروف في البادية. (5) في ه‍: وألهم. (6) المغامرة: المخاصمة. راجع الحديث بطوله في صحيح البخاري في باب مناقب أبي بكر رضى الله عنه. (*)
[ 149 ]
الحادية عشرة - قوله تعالى: (وأيده بجنود لم تروها) أي من الملائكة. والكناية في قوله " وأيده " ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والضميران يختلفان، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب. (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) أي كلمة الشرك. (وكلمة الله هي العليا) قيل: لا إله إلا الله. وقيل: وعد النصر. وقرأ الاعمش ويعقوب " وكلمة الله " بالنصب حملا على " جعل " والباقون بالرفع على الاستئناف. وزعم الفراء أن قراءة النصب بعيدة، قال: لانك تقول أعتق فلان غلام أبيه، ولا تقول غلام أبي فلان. وقال أبو حاتم نحوا من هذا. قال: كان يجب أن يقال وكلمته هي العليا. قال النحاس: الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية، ولكن يشبهها ما أنشد سيبويه: لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فهذا حسن جيد لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحذاق: في إعادة الذكر في مثل هذا فائدة وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله تعالى: " إذا زلزلت الارض زلزالها. وأخرجت الارض أثقالها " (1) [ الزلزلة: 1، 2 ] فهذا لا إشكال فيه. وجمع الكلمة كلم. وتميم تقول: هي كلمة بكسر الكاف. وحكى الفراء فيها ثلاث لغات: كلمة وكلمة وكلمة مثل كبد وكبد وكبد، وورق وورق وورق. والكلمة أيضا القصيدة بطولها، قاله الجوهري. قوله تعالى: انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (41) فيه سبع مسائل: الاولى - روى سفيان عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري قال: أول ما نزل من سورة براءة " انفروا خفافا وثقالا ". وقال أبو الضحا كذلك أيضا. قال: ثم نزل أولها وآخرها. (1) راجع ج 20 ص 147. (*)
[ 150 ]
الثانية - قوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا) نصب على الحال، وفيه عشرة أقوال: الاول - يذكر عن ابن عباس " انفروا ثبات " (1) [ النساء: 71 ]: سرايا متفرقين. [ الثاني ] روي عن ابن عباس أيضا وقتادة: نشاطا وغير نشاط. [ الثالث ] الخفيف: الغني، والثقيل: الفقير، قاله مجاهد. [ الرابع ] الخفيف: الشاب، والثقيل: الشيخ، قاله الحسن. [ الخامس ] مشاغيل وغير مشاغيل، قاله زيد بن علي والحكم بن عتبة. [ السادس ] الثقيل: الذي له عيال، والخفيف: الذي لا عيال له، قاله زيد بن أسلم. [ السابع ] الثقيل: الذي له ضيعة يكره أن يدعها، والخفيف: الذي لا ضيعة له، قاله ابن زيد. [ الثامن ] الخفاف: الرجال، والثقال: الفرسان، قاله الاوزاعي. [ التاسع ] الخفاف: الذين يسبقون إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش والثقال: الجيش بأسره [ العاشر ] الخفيف: الشجاع، والثقيل: الجبان، حكاه النقاش. والصحيح في معنى الآية أن الناس أمروا جملة أي انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت. وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أعلي أن أنفر ؟ فقال: (نعم) حتى أنزل الله تعالى " ليس على الاعمى حرج " (2) [ النور: 61 ]. وهذه الاقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة. الثالثة - واختلف في هذه الآية، فقيل إنها منسوخة بقوله تعالى: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى " (3) [ التوبة: 91 ]. وقيل: الناسخ لها قوله: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة " (3) [ التوبة: 122 ]. والصحيح أنها ليست بمنسوخة. روى ابن عباس عن أبي طلحة في قوله تعالى: " انفروا خفافا وثقالا " قال شبانا وكهولا، ما سمع الله عذر أحد. فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات رضي الله عنه. وروى حماد عن ثابت وعلي بن زيد عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة [ براءة ] فأتى على هذه الآية " انفروا خفافا وثقالا " فقال: أي بني جهزوني جهزوني فقال بنوه: يرحمك الله ! لقد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى (1) كذا في جميع الاصول. ويلاحظ ان المؤلف رحمه الله عرض لآية النساء وهي قوله تعالى: (انفروا ثبات أو انفروا جميعا) راجع ج 5 ص 273. وثبات: جمع ثبة، وهي الجماعة من الناس. (2) راجع ج 12 ص 311 فما بعد. (3) ص 225 وص 293 من هذا الجزء. (*)
[ 151 ]
مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك. قال. لا، جهزوني. فغزا في البحر فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها، ولم يتغير رضي الله عنه. وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الاسود بحمص على تابوت صراف، وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو. فقيل له: لقد عذرك الله. فقال: أتت علينا سورة البعوث " انفروا خفافا وثقالا ". وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليل. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشأم رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عم إن الله قد عذرك فقال: يا بن أخي، قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا. ولقد قال ابن أم مكتوم رضي الله عنه - واسمه عمرو - يوم أحد: أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء، فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح فأخذ اللواء يومئذ مصعب ابن عمير على ما تقدم في [ آل عمران ] بيانه (1). فلهذا وما كان مثله مما روي عن الصحابة والتابعين. قلنا: إن النسخ لا يصح. وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكل، وهي: الرابعة - وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الاقطار، أو بحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا، شبابا وشيوخا، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج، من مقاتل أو مكثر. فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدو هم كان على من قاربهم وجاور هم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم. وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدو هم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين. ولو قارب العدو (1) راجع ج 4 ص 234 فما بعد. (*)
[ 152 ]
دار الاسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو. ولا خلاف في هذا. وقسم ثان من واجب الجهاد - فرض أيضا على الامام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعو هم إلى الاسلام ويرغبهم (1)، ويكف أذا هم ويظهر دين الله عليهم حتى يدخلوا في الاسلام أو يعطوا الجزية عن يد. ومن الجهاد أيضا ما هو نافلة وهو إخراج الامام طائفة بعد طائفة وبعث السرايا في أوقات الغرة وعند إمكان الفرصة والارصاد لهم بالرباط في موضع الخوف وإظهار القوة. فإن قيل: كيف يصنع الواحد إذا قصر الجميع، وهي: الخامسة - قيل له: يعمد إلى أسير واحد فيفديه، فإنه إذا فدى الواحد فقد أدى في الواحد أكثر مما كان يلزمه في الجماعة، فإن الاغنياء لو اقتسموا فداء الاسارى ما أدى كل واحد منهم إلا أقل من درهم. ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازيا. قال صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) أخرجه الصحيح. وذلك لان مكانه لا يغني وماله لا يكفي. السادسة - روي أن بعض الملوك عاهد كفارا على ألا يحبسوا أسيرا، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري فلما اجتمع به واستطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث انتهى الخبر إلى هذه المعذبة فما أكمل حديثه حتى قام الامير على قدميه وخرج غازيا من فوره ومشى إلى الثغر حتى أخرج الاسيرة واستولى على الموضع رضي الله عنه. ذكره ابن العربي وقال: ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله - سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجاس ديارنا وأسر خيرتنا وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه. فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الاقطار فيحاط (1) ب وج وى: يرغمهم وفي ز وك: يردعهم. (*)
[ 153 ]
به فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له فغلبت الذنوب ورجفت القلوب بالمعاصي وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره (1) وإن رأى المكيدة بجاره. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وحسبنا الله ونعم الوكيل). السابعة - قوله تعالى: (وجاهدوا) أمر بالجهاد، وهو مشتق من الجهد (بأمو الكم وأنفسكم) روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم). وهذا وصف لاكمل ما يكون من الجهاد وأنقعه عند الله تعالى. فحض على كمال الاوصاف، وقدم الاموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز. فرتب الامر كما هو نفسه. قوله تعالى: لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (42) لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم. والعرض: ما يعرض من منافع الدنيا. والمعنى: غنيمة قريبة. أخبر عنهم أنهم لو دعوا إلى غنيمة لاتبعوه. " عرضا " خبر كان. " قريبا " نعته. " وسفرا قاصدا " عطف عليه. وحذف اسم كان لدلالة الكلام عليه. التقدير: لو كان المدعو إليه عرضا قريبا وسفرا قاصدا - أي سهلا معلوم الطرق - لاتبعوك. وهذه الكناية للمنافقين كما ذكرنا، لانهم داخلون في جملة من خوطب بالنفير. وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالاضمار عائدا على بعضها، كما قيل في قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها " (2) [ مريم: 71 ] أنها القيامة. ثم قال جل وعز: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " (2) [ مريم: 72 ] يعني عزوجل جهنم. ونظير هذه الآية من السنة في المعنى قوله عليه السلام: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا (1) الوجار (بكسر وفتح) حجر الضبع وغيره. (2) راجع ج 11 ص 131 فما بعد. (*)
[ 154 ]
أو مرماتين (1) حسنتين لشهد العشاء). يقول: لو علم أحدهم أنه يجد شيئا حاضرا معجلا يأخذه لاتى المسجد من أجله. (ولكن بعدت عليهم الشقة) حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة السفر إلى أرض بعيدة. يقال: منه شقة شاقة. والمراد بذلك كله غزوة تبوك. وحكى الكسائي أنه يقال: شقة وشقة. قال الجوهري: الشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضا السفر البعيد وربما قالوه بالكسر. والشقة شظية تشظى من لوح أو خشبة. يقال للغضبان: احتد فطارت منه شقة، بالكسر. (وسيحلفون بالله لو استطعنا) أي لو كان لنا سعة في الظهر والمال. (لخرجنا معكم) نظيره " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " [ آل عمران: 97 ] فسرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (زاد وراحلة) وقد تقدم (2). (يهلكون أنفسهم) أي بالكذب والنفاق. (والله يعلم إنهم لكاذبون) في الاعتلال. قوله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43) قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) قيل: هو افتتاح كلام، كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك ! كان كذا وكذا. وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على قوله: " عفا الله عنك "، حكاه مكي والمهدوي والنحاس. وأخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقا (3). وقيل: المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم، فلا يحسن الوقف على قوله: " عفا الله عنك " على هذا التقدير، حكاه المهدوي واختاره النحاس. ثم قيل: في الاذن قولان: [ الاول ] " لم أذنت لهم " في الخروج معك، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة فساد. [ الثاني ] - " لم أذنت لهم " في القعود لما اعتلوا بأعذار، ذكرهما القشيري قال: وهذا عتاب تلطف إذ قال: " عفا الله عنك ". وكان عليه السلام أذن من غير وحي نزل فيه. قال قتادة وعمرو بن ميمون: ثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم [ و ] (4) لم يؤمر (1) مرماتين (بكسر الميم) وقد تفتح. تثنية مرماة، وهي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفها من اللحم. (2) راجع ج 4 ص 153. (3) الفرق بالتحريك: الخوف والجزع. (4) من ج. (*)
[ 155 ]
بهما: إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي وأخذه من الاسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون. قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الاولى فقدم الله له العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب. قوله تعالى: (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) أي ليتبين لك من صدق ممن نافق. قال ابن عباس: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ يعرف المنافقين وإنما عرفهم بعد نزول سورة [ التوبة ]. وقال مجاهد: هؤلاء قوم قالوا: نستأذن في الجلوس فإن أذن لنا جلسنا وإن لم يؤذن لنا جلسنا. وقال قتادة: نسخ هذه الآية بقوله في سورة " النور ": " فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم " (1) [ النور: 62 ]. ذكره النحاس في معاني القرآن له. قوله تعالى: لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين (44) إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وأرتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (45) قوله تعالى: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر) أي في القعود ولا في الخروج، بل إذا أمرت بشئ ابتدروه، فكان الاستئذان في ذلك الوقت من علامات النفاق لغير عذر، ولذلك قال: (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون). روى أبو داود عن ابن عباس قال: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) نسختها التي في (النور) (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله - إلى قوله - غفور رحيم) (1) " أن يجاهدوا " في موضع نصب بإضمار في، عن الزجاج. وقيل: التقدير (1) راجع ج 12 ص 320 فما بعد. (*)
[ 156 ]
كراهية أن يجاهدوا، كقوله: " يبين الله لكم أن تضلوا " (1) [ النساء: 176 ]. (وارتابت قلوبهم) شكت في الدين. (فهم في ريبهم يترددون) أي في شكهم يذهبون ويرجعون. قوله تعالى: ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) قوله تعالى: (ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة) أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر. فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف. (ولكن كره الله انبعاثهم) أي خروجهم معك. (فثبطهم) أي حبسهم عنك وخذلهم، لانهم قالوا: إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا على المؤمنين. ويدل على هذا أن بعده " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ". (وقيل اقعدوا مع القاعدين) قيل: هو من قول بعضهم لبعض. وقيل: هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا هو الاذن الذي تقدم ذكره. قيل: قاله النبي صلى الله عليه وسلم غضبا فأخذوا بظاهر لفظه وقالوا. قد أذن لنا. وقيل: هو عبارة عن الخذلان، أي أوقع الله في قلوبهم القعود. ومعنى (مع القاعدين) أي مع أولى الضرر والعميان والزمنى والنسوان والصبيان. قوله تعالى: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47) قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) هو تسلية للمؤمنين في تخلف المنافقين عنهم. والخبال: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والاراجيف. وهذا استثناء منقطع، أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال. وقيل: المعنى لا يزيدو نكم فيما يترددون [ فيه ] (2) من الرأي إلا خبالا، فلا يكون الاستثناء منقطعا. (1) راجع ج 6 ص 28. (2) من ج وز ى. (*)
[ 157 ]
قوله تعالى: (ولاوضعوا خلالكم) المعنى لاسرعوا فيما بينكم بالافساد. والايضاع، سرعة السير. وقال الراجز: (1) ياليتني فيها جذع * أخب فيها وأضع يقال: وضع البعير إذا عدا، يضع وضعا ووضوعا (2) إذا أسرع السير. وأوضعته حملته على العدو. وقيل: الايضاع سير مثل الخبب. والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال، أي الفرج التي تكون بين الصفوف. أي لاوضعوا خلالكم بالنميمة وإفساد ذات البين. (يبغونكم الفتنة) مفعول ثان. والمعنى يطلبون لكم الفتنة، أي الافساد والتحريض. ويقال: أبغيته كذا أعنته على طلبه، وبغيته كذا طلبته له. وقيل: الفتنة هنا الشرك. (وفيكم سماعون لهم) أي عيون لهم ينقلون إليهم الاخبار منكم. قتادة: وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم. النحاس: القول الاول أولى، لانه الاغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام: ومثله " سماعون للكذب " (3) [ المائدة: 41 ]. والقول الثاني: لا يكاد يقال فيه إلا سامع، مثل قائل. قوله تعالى: لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (4) قوله تعالى: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) أي لقد طلبوا الافساد والخبال من قبل أن يظهر أمرهم، وينزل الوحي بما أسروه وبما سيفعلونه. وقال ابن جريج: أراد اثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا على ثنية (4) الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. (وقلبوا لك الامور) أي صرفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت به (حتى جاء الحق وظهر أمر الله) أي دينه " وهم كارهون " (1) هو دريد بن الصمة، كما في اللسان. (2) الذي في كتب اللغة أنه يقال: وضع البعير وضعا وموضوعا. أما الوضوع فهو من مصادر قولهم: وضع الرجل نفسه وضعا وضوعا وضعة (بفتح الضاد وكسرها) إذا أذلها. (3) راجع ج 6 ص 182. (4) الثنية: الطريقة في الجبل كالنقب، وقيل: الطريق العالي فيه. والواداع، واد بمكة وثنية الوداع منسوبة إليه. (*)
[ 158 ]
قوله تعالى: ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49) إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (50) قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي) من أذن يأذن. وإذا أمرت زدت همزة مكسورة وبعدها همزة هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت إيذن. فإذا وصلت زالت العلة في الجمع بين همزتين، ثم همزت فقلت: " ومنهم من يقول ائذن لي " وروى ورش عن نافع " ومنهم من يقول اوذن لي " خفف الهمزة (1). قال النحاس: يقال إيذن لفلان ثم إيذن له هجاء الاولى والثانية واحد بألف وياء قبل الذال في الخط. فإن قلت: إيذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء وكذا الفاء. والفرق بين ثم والواو أن ثم يوقف عليها وتنفصل والواو والفاء لا يوقف عليهما ولا ينفصلان. قال محمد بن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس أخي بني سلمة لما أراد الخروج إلى تبوك: (يا جد، هل لك في جلاد بني الاصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء) فقال الجد: قد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بني الاصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (قد أذنت لك) فنزلت هذه الآية. أي لا تفتني بصباحة وجوههم، ولم يكن به علة إلا النفاق. قال المهدوي: والاصفر رجل من الحبشة كانت له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن وكان ببلاد الروم. وقيل: سموا بذلك لان الحبشة غلبت على الروم، وولدت لهم بنات فأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة، فكن صفرالعسا (2). قال ابن عطية: في قول ابن ابن إسحاق فتور. وأسند الطبري أن رسول الله (1) أي أبدلها واوا لضمه اللام قبلها فينطق باللام كأنها متصلة بواو الجماعة. (2) اللعس: سواد اللثة والشفة. وقيل: اللعس واللعسة: سواد يعلو شفة المرأة البيضاء وقيل: هو سواد في حمرة. (*)
[ 159 ]
صلى الله عليه وسلم قال: (اغزوا تغنموا بنات الاصفر) فقال له الجد: إيذن لنا ولا تفتنا بالنساء. وهذا منزع غير الاول، وهو أشبه بالنفاق والمحادة. ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد بن قيس منهم: (من سيدكم يا بني سلمة) ؟ قالوا: جد بن قيس، غير أنه بخيل جبان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأي داء أدوى (1) من البخل بل سيدكم الفتى الابيض بشر بن البراء بن معرور). فقال حسان بن ثابت الانصاري فيه: وسود بشر بن البراء لجوده * وحق لبشر بن البرا أن يسودا إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله * وقال خذوه إنني عائد غدا (ألا في الفتنة سقطوا) أي في الاثم والمعصية وقعوا. وهي النفاق والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم. (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي مسيرهم إلى النار، فهي تحدق بهم. قوله تعالى: (وإن تصبك حسنة تسؤهم) شرط ومجازاة، وكذا " وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا " عطف عليه. والحسنة: الغنيمة والظفر. والمصيبة الانهزام. ومعنى قولهم: (أخذنا أمرنا من قبل) أي احتطنا لانفسنا، وأخذنا بالحزم فلم نخرج إلى القتال. (ويتولوا) أي عن الايمان. (وهم فرحون) أي معجبون بذلك. قوله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51) قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) قيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: ما أخبرنا به في كتابه من أنا إما أن نظفر فيكون الظفر حسنى لنا، وإما أن نقتل (1) أي أي عيب أقبح منه. قال ابن الاثير: (والصواب أدوأ بالهمز وموضوعه أول الباب، ولكن هكذا يروى إلا أن يجعل من باب دوى يدوى دوا فهو دو إذا هلك بمرض باطن). (*)
[ 160 ]
فتكون الشهادة أعظم حسنى لنا. والمعنى كل شئ بقضاء وقدر. وقد تقدم في [ الاعراف ] أن العلم والقدر والكتاب سواء (1). (هو مولانا) أي ناصرنا. والتوكل تفويض الامر إليه. وقراءة الجمهور " يصيبنا " نصب بلن. وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها. وقرأ طلحة بن مصرف " هل يصيبنا " وحكي عن أعين قاضي الري أنه قرأ (قل لن يصيبنا) بنون مشددة. وهذا لحن، لا يؤكد بالنون ما كان خبرا، ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز. قال الله تعالى: " هل يذهبن كيده ما يغيظ " (2) [ الحج: 15 ]. قوله تعالى: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52) قوله تعالى " قل هل تربصون بنا " والكوفيون يدغمون اللام في التاء. فأما لام المعرفة فلا يجوز إلا الادغام، كما قال عزوجل: " التائبون " [ التوبة: 112 ] لكثرة لام المعرفة في كلامهم. ولا يجوز الادغام في قوله: " قل تعالوا " [ الانعام: 151 ] لان " قل " معتل، فلم يجمعوا عليه علتين. والتربص الانتظار. يقال: تربص بالطعام أي انتظر به إلى حين الغلاء. والحسنى تأنيث الاحسن. وواحد الحسنيين حسنى، والجمع الحسنى. ولا يجوز أن ينطق به إلا معرفا. لا يقال: رأيت امرأة حسنى. والمراد بالحسنيين الغنيمة والشهادة، عن ابن عباس ومجاهد وغير هما. واللفظ استفهام والمعنى توبيخ. (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) أي عقوبة تهلككم كما أصاب الامم الخالية من قبلكم. (أو بأيدينا) أي يؤذن لنا في قتالكم. (فتربصوا) تهديد ووعيد. أي انتظروا مواعد الشيطان إنا منتظرون مواعد الله. (1) راجع ج 7 ص 203. (2) راجع ج 12 ص 21. (*)
[ 161 ]
قوله تعالى: قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين (53) فيه أربع مسائل [ الاولى ] قال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس إذ قال ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به. ولفظ " أنفقوا " أمر، ومعناه الشرط والجزاء. وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي بأو كما قال الشاعر: (1) أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت والمعنى إن أسأت أو أحسنت فنحن على ما تعرفين. ومعنى الآية: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم. ثم بين عزوجل لم لا يقبل منهم فقال: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله " [ التوبة: 54 ] فكان في هذا أدل دليل وهي: الثانية - على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا يثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة، بيد أنه يطعم بها في الدنيا. دليله ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ؟ قال: (لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين). وروي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها). وهذا نص. ثم قيل: هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر ويعطى بحسناته في الدنيا أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله: " عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " (2) [ الاسراء: 18 ] وهذا هو الصحيح من القولين، والله أعلم. وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما هو بحسب (1) هو كثير عزة، كما في كتاب الامالي لابي على القالي. (2) راجع ج 10 ص 235. (*)
[ 162 ]
ظن الكافر، وإلا فلا يصح منه قربة، لعدم شرطها المصحح لها وهو الايمان. أو سميت حسنة لانها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا. قولان أيضا. الثالثة - فإن قيل: فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي وسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنث (1) بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير) قلنا قوله: (أسلمت على ما أسلفت من خير) مخالف ظاهره للاصول، لان الكافر لا يصح منه التقرب لله تعالى فيكون مثابا على طاعته، لان من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه، فإذا عدم الشرط انتفى صحة المشروط. فكان المعنى في الحديث: إنك اكتسبت طباعا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الاسلام. وذلك أن حكيما رضي الله عنه عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الاسلام وستين في الجاهلية، فأعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير ؟ وكذلك فعل في الاسلام. وهذا واضح. وقد قيل: لا يبعد في كرم الله أن يثيبه على فعله ذلك بالاسلام، كما يسقط عنه ما ارتكبه في حال كفره من الآثام. وإنما لا يثاب من لم يسلم ولا تاب، ومات كافرا. وهذا ظاهر الحديث. وهو الصحيح إن شاء الله. وليس عدم شرط الايمان في عدم ثواب ما يفعله من الخير ثم أسلم ومات مسلما بشرط عقلي لا يتبدل، والله أكرم من أن يضيع عمله إذا حسن إسلامه. وقد تأول الحربي الحديث على هذا المعنى فقال: (أسلمت على ما أسلفت)، أي ما تقدم لك من خير عملته فذلك لك. كما تقول: أسلمت على ألف درهم، أي على أن أحرزها لنفسه. والله أعلم. الرابعة - فإن قيل: فقد روى مسلم عن العباس قال: قلت يا رسول الله [ إن ] أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك ؟ قال: (نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح) (2). قيل له: لا يبعد أن يخفف عن الكافر بعض العذاب (1) التحنث: التعبد. (2) الضحضاح في الاصل: مارق من الماء على وجه الارض ما يبلغ الكعبين. فاستعاره للنار. (*)
[ 163 ]
بما عمل من الخير، لكن مع انضمام شفاعة، كما جاء في أبي طالب. فأما غيره فقد أخبر التنزيل بقوله: " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " (1) [ المدثر: 48 ]. وقال مخبرا عن الكافرين: " فما لنا من شافعين. ولا صديق حميم " (2) [ الشعراء: 100، 101 ]. وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه). من حديث العباس [ رضي الله عنه ] (3): (ولولا أنا لكان في الدرك الاسفل من النار). قوله تعالى: (إنكم كنتم قوما فاسقين) أي كافرين. قوله تعالى: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلوة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54) فيه ثلاث مسائل: الاولى - [ قوله تعالى ] (4): (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم) " أن " الاولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع. والمعنى: وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ الكوفيون " أن يقبل منهم " بالياء، لان النفقات والانفاق واحد. الثانية - قوله تعالى: (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) قال ابن عباس: إن كان في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل، وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابا ولا يخشى في تركها عقابا. فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة. وقد تقدم في [ النساء ] (5) القول في هذا كله. وقد ذكرنا هناك حديث العلاء (6) موعبا. والحمد لله. الثالثة - قوله تعالى: (ولا ينفقون إلا وهم كارهون) لانهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما وإذا كان الامر كذلك فهي غير متقبلة ولا مثاب عليها حسب ما تقدم. (1) راجع ج 19 ص 82 فما بعد. (2) راجع ج 14 ص (3) من ب وج وه‍ وى. (4) من ك وج. (5) راجع ج 5 ص 422. (6) لعل صوابه: حديث الاعرابي. (*)
[ 164 ]
قوله تعالى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55) ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) أي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج " إنما يريد الله ليعذبهم بها " قال الحسن: المعنى بإخراج الزكاة والانفاق في سبيل الله. وهذا اختيار الطبري. وقال ابن عباس وقتادة: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وهذا قول أكثر أهل العربية، ذكره النحاس. وقيل: يعذبهم بالتعب في الجمع. وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير، وهو حسن. وقيل: المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لانهم منافقون، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون. (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين، سبق بذلك القضاء. (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) بين أن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون. نظيره " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله " (1) [ المنافقون: 1 ] الآية. والفرق الخوف، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا. قوله تعالى: لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57) قوله تعالى: (لو يجدون ملجأ) كذا الوقف عليه. وفي الخط بألفين: الاولى همزة، والثانية عوض من التنوين، وكذا [ رأيت ] جزءا. والملجأ الحصن، عن قتادة وغيره. ابن عباس: الحرز، وهما سواء. يقال: لجأت إليه لجأ (بالتحريك) (2) وملجأ والتجأت إليه (1) راجع ج 18 ص 120. (2) هذه عبارة الجوهري في صحاحه. والذي في اللسان والقاموس أنه يقال لجأ لجأ مثل منع منعا. ولجئ لجأ مثل فرح فرحا. (*)
[ 165 ]
بمعنى. والموضع أيضا لجأ وملجأ. والتلجئة الاكراه. وألجأته إلى الشئ اضطررته إليه. وألجأت أمري إلى الله أسندته. وعمرو بن لجأ التميمي (1) الشاعر عن الجوهري. (أو مغارات) جمع مغارة، من غار يغير. قال الاخفش: ويجوز أن يكون من أغار يغير، كما قال الشاعر: * الحمد لله ممسانا ومصبحنا (2) * قال ابن عباس: المغارات الغيران والسراديب، وهي المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين. (أو مدخلا) مفتعل من الدخول، أي مسلكا نختفي بالدخول فيه، وأعاده لاختلاف اللفظ. قال النحاس: الاصل فيه مدتخل، قلبت التاء دالا، لان الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد. وقيل: الاصل فيه متدخل على متفعل، كما في قراءة أبي: " أو متدخلا " ومعناه دخول بعد دخول، أي قوما يدخلون معهم. المهدوي: متدخلا من تدخل مثل تفعل إذا تكلف الدخول. وعن أبي أيضا: مندخلا من اندخل، وهو شاذ، لان ثلاثيه غير متعد عند سيبويه وأصحابه. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن: " أو مدخلا " بفتح الميم وإسكان الدال. قال الزجاج: ويقرأ " أو مدخلا " بضم الميم وإسكان الدال. الاول من دخل يدخل. والثاني من أدخل يدخل. كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه: * مغار ابن همام على حي خثعما (3) * وروي عن قتادة وعيسى والاعمش " أو مدخلا " بتشديد الدال والخاء. والجمهور بتشديد الدال وحدها، أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم. فهذه ست قراءات. (لولوا إليه) (1) كذا في الصحاح للجوهري (التميمي). والصواب أنه (التيمي). لانه من تيم بن عبد مناة بن أدين طابخة. ومات عمر بن لجأ بالاهواز وكان يهاجي جريرا. (عن الشعر والشعراء). (2) هذا صدر بيت لامية ابن أبي الصلت. وعجزه: * بالخير صبحنا ربي ومسانا * (3) هذا عجز بيت لحميد بن ثور. وصدره: * وما هي إلا في إزار وعلقة * وصف امرأة كانت صغيرة السن كانت تلبس العلقة وهي من لباس الجوارى، وهي ثوب قصير بلا كمين تلبسه الصبية تلعب فيه ويقال له الاتب والبقيرة، وكانت تلبسه وقت إغارة ابن همام على هذا الحي. وخثعم قبيلة من اليمن. (عن شرح الشواهد). (*)
[ 166 ]
أي لرجعوا إليه. (وهم يجمحون) أي يسرعون، لا يرد وجوههم شئ. من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام. قال الشاعر: سبوحا جموحا وإحضارها * كمعمعة السعف الموقد (1) والمعنى: لو وجدوا شيئا من هذه الاشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين. قوله تعالى: ومنهم من يلزمك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن يعطوا منها إذا هم يسخطون (58) قوله تعالى: " ومنهم من يلزمك في الصدقات " أي يطعن عليك، عن قتادة. الحسن: يعيبك. وقال مجاهد: أي يروزك (2) ويسألك. النحاس: والقول عند أهل اللغة قول قتادة والحسن. يقال: لمزه يلمزه إذا عابه. واللمز في اللغة العيب في السر. قال الجوهري: اللمز العيب، وأصله الاشارة بالعين ونحوها، وقد لمزه يلمزه ويلمزه وقرئ بهما " ومنهم من يلمزك في الصدقات ". ورجل لماز ولمزة أي عياب. ويقال أيضا: لمزه يلمزه إذا دفعه وضربه. والهمز مثل اللمز. والهامز والهماز العياب، والهمزة مثله. يقال: رجل همزة وامرأة همزة أيضا. وهمزه أي دفعه وضربه. ثم قيل: اللمز في الوجه، والهمز بظهر الغيب. وصف الله قوما من المنافقين بأنهم عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في تفريق الصدقات، وزعموا أنهم فقراء ليعطيهم. قال أبو سعيد الخدري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه حرقوص بن زهير أصل الخوارج، ويقال له ذو الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل) فنزلت الآية. حديث صحيح أخرجه مسلم بمعناه. وعندها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية). (1) البيت لامرئ القيس. والاحضار: العدو. (2) الروز: الامتحان والتقدير. (*)
[ 167 ]
قوله تعالى: ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59) قوله تعالى: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله " جواب " لو " محذوف، التقدير لكان خيرا لهم. قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60) فيه ثلاثون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء) خص الله سبحانه بعض الناس بالاموال دون بعض نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله: " وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها " (1) [ هود: 6 ]. الثانية - قوله تعالى: " للفقراء " تبيين لمصارف الصدقات والمحل، حتى لا تخرج عنهم. ثم الاختيار إلى من يقسم، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما. كما يقال: السرج للدابة والباب للدار. وقال الشافعي: اللام لام التمليك، كقولك: المال لزيد وعمرو وبكر، فلا بد من التسوية بين المذكورين. قال الشافعي وأصحابه: وهذا كما لو أوصى لاصناف معينين أو لقوم معينين. واحتجوا بلفظة " إنما " وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الاصناف وعضدوا هذا بحديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث إلى قومي جيشا فقلت: يا رسول الله احبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه (1) راجع ج 9 ص 6. (*)
[ 168 ]
وسلم: (يا أخا صداء المطاع في قومه). قال: قلت بل من الله عليهم وهداهم، قال: ثم جاءه رجل يسأل عن الصدقات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الاجزاء أعطيتك) رواه أبو داود والدارقطني. واللفظ للدارقطني. وحكي عن زين العابدين أنه قال: إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الاصناف، وجعله حقا لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم. وتمسك علماؤنا بقول تعالى: " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " (1) [ البقرة: 271 ]. والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض. وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأرد ها على فقرائكم). وهذا نص في ذكر أحد الاصناف الثمانية قرآنا وسنة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة. وقال به من التابعين جماعة. قالوا: جائز أن يدفعها إلى الاصناف الثمانية، وإلى أي صنف منها دفعت جاز. روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " قال: إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف وأي صنف منها أعطيت أجزأك. وروى سعيد ابن جبير عن ابن عباس " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " قال: في أيها وضعت أجزأ عنك. وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما. قال الكيا الطبري: حتى ادعى مالك الاجماع على ذلك. قلت: يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم لهم مخالف منهم على ما قال أبو عمر، والله أعلم. ابن العربي: والذي جعلناه فيصلا بيننا وبينهم أن الامة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه، فكذلك تعميم الاصناف مثله. والله أعلم. الثالثة - واختلف علماء اللغة وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال: فذهب يعقوب بن السكيت والقتبي ويونس بن حبيب إلى أن الفقير أحسن حالا من (1) راجع ج 3 ص 332. (*)
[ 169 ]
المسكين. قالوا: الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شئ له، واحتجوا بقول الراعي: أما الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد (1) وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبد الوهاب، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام، يقال: حلوبته وفق عياله أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه، عن الجوهري. وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير. واحتجوا بقوله تعالى: " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " (2) [ الكهف: 79 ]. فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر. وربما ساوت جملة من المال. وعضدوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من الفقر. وروي عنه أنه قال: " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا ". فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الخبران، إذ يستحيل أن يتعوذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالا منه، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مما أفاء الله عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية، ولذلك رهن درعه. قالوا: وأما بيت الراعي فلا حجة فيه، لانه إنما ذكر أن الفقير كانت له حلوبة في حال. قالوا: والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نزعت فقره (3) من ظهره من شدة الفقر فلا حال أشد من هذه. وقد أخبر الله عنهم بقوله " لا يستطيعون ضربا في الارض " (4) [ البقرة: 273 ]. واستشهدوا بقول الشاعر: لما رأى لبد النسور تطايرت * رفع القوادم كالفقير الاعزل (5) أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالارض. ذهب إلى هذا الاصمعي وغيره، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين. وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وللشافعي (1) السبد: الوبر. وقيل الشعر. والعرب تقول: ما له سبد ولا لبد أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد ويكنى بهما عن الابل والغنم. (2) راجع ج 11 ص 33 فما بعده. (3) الفقرة (بالكسر) الفقرة والفقارة (بفتحهما): ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب. (4) راجع ج 3 ص 339. (5) البيت للبيد. ولبد: اسم آخر نسور لقمان بن عاد سماه بذلك لانه لبد فبقى لا يذهب ولا يموت. والقوادم: أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح، الواحدة قادمة. (*)
[ 170 ]
قول آخر: أن الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم، وهو القول الثالث. وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف. قلت: ظاهر اللفظ يدل على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أن أحد الصنفين أشد حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفا واحدا، والله أعلم. ولا حجة في قول من احتج بقوله تعالى: " أما السفينة فكانت لمساكين " [ الكهف: 79 ] لانه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم، كما يقال: هذه دار فلان إذا كان ساكنها وإن كانت لغيره. وقد قال تعالى في وصف أهل النار: " ولهم مقامع من حديد " (1) [ الحج: 21 ] فأضافها إليهم. وقال تعالى: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " (2) [ النساء: 5 ]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من باع عبدا وله مال) وهو كثير جدا يضاف الشئ إليه وليس له. ومنه قولهم: باب الدار. وجل الدابة، وسرج الفرس، وشبهه. ويجوز أن يسموا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف، كما يقال لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية مسكين. وفي الحديث (مساكين أهل النار) وقال الشاعر: مساكين أهل الحب حتى قبورهم * عليها تراب الذل بين المقابر وأما ما تأولوه من قوله عليه السلام: (اللهم أحيني مسكينا) الحديث. رواه أنس، فليس كذلك، وإنما المعنى ها هنا: التواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا نخوة، ولا كبر ولا بطر، ولا تكبر ولا أشر. ولقد أحسن أبو العتاهية حيث قال: إذا أردت شريف القوم كلهم * فانظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الذي عظمت في الله رغبته * وذاك يصلح للدنيا وللدين وليس بالسائل، لان النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول [ له ] (3) عن الطريق: (دعوها فإنها جبارة) (4) وأما قوله تعالى: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض " [ البقرة: 273 ] فلا يمتنع أن يكون لهم شئ. والله أعلم. وما ذهب إليه أصحاب مالك والشافعي في أنهما سواء حسن. ويقرب منه (1) راجع ج 12 ص 25. (2) راجع ج 5 ص 27 فما بعد. (3) من ج وز وك. (4) أي مستكبرة عاتية. (*)
[ 171 ]
ما قاله مالك في كتاب ابن سحنون، قال: الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين السائل، وروي عن ابن عباس وقاله الزهري، واختاره ابن شعبان (1) وهو القول الرابع. وقول خامس - قال محمد بن مسلمة: الفقير الذي له المسكن والخادم إلى من هو أسفل من ذلك. والمسكين الذي لا مال له. قلت: وهذا القول عكس ما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال نعم. قال: ألك مسكن تسكنه ؟ قال نعم. قال: فأنت من الاغنياء. قال: فإن لي خادما قال: فأنت من الملوك. وقول سادس: روي عن ابن عباس قال: الفقراء من المهاجرين، والمساكين من الاعراب الذين لم يهاجروا وقال الضحاك. وقول سابع - وهو أن المسكين الذي يخشع ويستكن وإن لم يسأل. والفقير الذي يتحمل ويقبل الشئ سرا ولا يخشع، قاله عبيد الله بن الحسن. وقول ثامن قاله مجاهد وعكرمة والزهري - المساكين الطوافون، والفقراء فقراء المسلمين. وقول تاسع قاله عكرمة أيضا - أن الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وسيأتي. الرابعة - وهي فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين، هل هما صنف واحد أو أكثر تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال هما صنف واحد قال: يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين نصف الثلث الثاني. ومن قال هما صنفان يقسم الثلث بينهم أثلاثا. الخامسة - وقد اختلف العلماء في حد الفقر الذي يجوز معه الاخذ - بعد إجماع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم - أن من له دارا وخادما لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطي أن يعطيه. وكان مالك يقول: إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة عما يحتاج إليه منهما جاز له الاخذ وإلا لم يجز، ذكره ابن المنذر. وبقول مالك قال النخعي والثوري. وقال أبو حنيفة: من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة. (1) كذا في كل الاصول هو محمد بن القاسم بن شعبان إليه انتهت رئاسة المالكية بمصر توفى عام 355. وفي ج: ابن سفيان. وهو خطأ. (*)
[ 172 ]
فاعتبر النصاب لقوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأرد ها في فقرائكم). وهذا واضح، ورواه المغيرة عن مالك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق وغير هم: لا يأخذ من له خمسون در هما أو قدر ها من الذهب، ولا يعطي منها أكثر من خمسين در هما إلا أن يكون غارما، قاله أحمد وإسحاق. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما). في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف، وعنه بكر بن خنيس ضعيف أيضا. ورواه حكيم ابن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال: خمسون در هما. وحكيم بن جبير ضعيف تركه شعبة وغيره، قاله الدارقطني رحمه الله. وقال أبو عمر: هذا الحديث يدور على حكيم بن جبير وهو متروك. وعن علي وعبد الله قالا: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب، ذكره الدارقطني وقال الحسن البصري: لا يأخذ من له أربعون درهما. ورواه الواقدي عن مالك. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش). فقيل: يا رسول الله وما غناؤه ؟ قال: (أربعون درهما). وفي حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والاوقية أربعون درهما). والمشهور عن مالك ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل: هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما ؟ قال نعم. قال أبو عمر: يحتمل أن يكون الاول قويا على الاكتساب حسن التصرف. والثاني ضعيفا عن الاكتساب، أو من له عيال. والله أعلم. وقال الشافعي وأبو ثور. من كان قويا على الكسب والتحرف مع قوة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام. واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذي مرة (1) سوي) رواه عبد الله بن عمر، (1) المرة (بالكسر): القوة والشدة. والسوى: الصحيح الاعضاء. (*)
[ 173 ]
وأخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني. وروى جابر قال: جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس، فقال: (إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح ولا لعامل) أخرجه الدارقطني. وروى أبو داود عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا النظر وخفضه، فرآنا جلدين فقال: (إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب). ولانه قد صار غنيا بكسبه كغنى غيره بماله فصار كل واحد منهما غنيا عن المسألة. وقاله ابن خويز منداد، وحكاه عن المذهب. وهذا لا ينبغي أن يعول عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيها الفقراء ووقوفها على الزمن باطل. قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: إذا كان الرجل قويا محتاجا ولم يكن عنده شئ فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم. ووجه الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة. وقال الكيا الطبري: والظاهر يقتضي جواز ذلك، لانه فقير مع قوته وصحة بدنه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال عبيد الله بن الحسن: من لا يكون له ما يكفيه ويقيمه سنة فإنه يعطى الزكاة. وحجته ما رواه ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر مما أفاء الله عليه قوت سنة، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكراع (1) والسلاح مع قوله تعالى: " ووجدك عائلا فأغنى " (2) [ الضحى: 8 ]. وقال بعض أهل العلم: لكل واحد أن يأخذ من الصدقة فيما لا بد له منه. وقال قوم: من عنده عشاء ليلة فهو غني وروي عن علي. واحتجوا بحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف (3) جهنم) قالوا: يا رسول الله، وما ظهر الغنى ؟ قال: (عشاء ليلة) أخرجه الدارقطني وقال: في إسناده عمرو بن خالد وهو متروك. وأخرجه أبو داود عن سهل ابن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار). وقال النفيلي في موضع آخر (من جمر جهنم). فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه ؟ (1) الكراع (بالضم): اسم يجمع الخيل. وقيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح. (2) راجع ج 20 ص 99. (3) الرضف: الحجارة المحماة على النار. (*)
[ 174 ]
وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة ؟ قال: (قدر ما يغديه ويعشيه). وقال النفيلي في موضع آخر: (أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم). قلت: فهذا ما جاء في بيان الفقر الذي يجوز معه الاخذ. ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة، ولكن تظاهرت الاخبار في أن الصدقات تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم. وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وقال أبو بكر العبسي: رأى عمر بن الخطاب ذميا مكفوفا مطروحا على باب المدينة فقال له عمر: مالك ؟ قال: استكروني في هذه الجزية، حتى إذا كف بصري تركوني وليس لي أحد يعود علي بشئ. فقال عمر: ما أنصفت إذا، فأمر له بقوته وما يصلحه. ثم قال: هذا من الذين قال الله تعالى [ فيهم ] (1): " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية. وهم زمنى أهل الكتاب) ولما قال تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية، وقابل الجملة بالجملة وهي جملة الصدقة بجملة المصرف بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: (أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم). فاختص أهل كل بلد بزكاة بلده. وروى أبو داود أن زيادا أو بعض الامراء بعث عمران بن حصين على الصدقة، فلما رجع قال لعمران: أين المال ؟ قال: وللمال أرسلتني ! أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعنا ها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني والترمذي عن عون بن أبي جحيفة [ عن أبيه ] (2) قال: قدم علينا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عباس حديث ابن أبي جحيفة حديث حسن. (1) من ى. (2) زيادة عن سنن الدارقطني والترمذي. (*)
[ 175 ]
السادسة - وقد اختلفت العلماء في نقل الزكاة عن موضعها على ثلاثة أقوال لا تنقل، قاله سحنون وابن القاسم، وهو الصحيح لما ذكرناه. قال ابن القاسم أيضا: وإن نقل بعضها لضرورة رأيته صوابا. وروي عن سحنون أنه قال: ولو بلغ الامام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة لغيره إليه، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج (والمسلم أخو المسلم لا يسلمه (1) ولا يظلمه). والقول الثاني تنقل. وقاله مالك أيضا. وحجة هذا القول ما روي أن معاذا قال لاهل اليمن: ايتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة. أخرجه الدار قطني وغيره. والخميس لفظ مشترك، وهو هنا الثوب طوله خمس أذرع. ويقال: سمي بذلك لان أول من عمله الخمس ملك من ملوك اليمن، ذكره ابن فارس في المجمل والجوهري أيضا. وفي هذا الحديث دليلان: أحدهما: ما ذكرناه من نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة، فيتولى النبي صلى الله عليه وسلم قسمتها. ويعضد هذا قوله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء " ولم يفصل بين فقير بلد وفقير آخر. والله أعلم. الثاني - أخذ القيمة في الزكاة. وقد اختلفت الرواية عن مالك في إخراج القيم في الزكاة (2)، فأجاز ذلك مرة ومنع منه أخرى، فوجه الجواز - وهو قول أبي (3) حنيفة - هذا الحديث. وثبت في صحيح البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (من بلغت عنده [ من الابل (4) ] صدقة الجذعة وليست عنده [ جذعة ] (4) وعنده حقة فإنه تؤخذ (5) منه وما استيسرنا من شاتين أو عشرين درهما). الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: (اغنوهم عن سؤال هذا اليوم) يعني يوم الفطر. وإنما أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم، فأي شئ سد حاجتهم جاز. وقد قال تعالى: " خذ من أموالهم صدقة " [ التوبة: 103 ] ولم يخص شيئا من شئ. ولا يدفع عند أبي حنيفة سكنى دار بدل الزكاة، مثل أن يجب عليه خمسة درا هم فأسكن فيها فقيرا شهرا فإنه لا يجوز. قال: لان السكنى ليس بمال. (1) أي لا يتركه مع من يؤذيه بل يحميه. (2) في ب وج وى وز: الزكوات. (3) من ه‍. (4) الزيادة عن صحيح البخاري. (5) في البخاري: (فإنها تقبل من الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين در هما). (6) راجع ص 244 من هذا الجزء. (*)
[ 176 ]
ووجه قوله: لا تجزي القيم - وهو ظاهر المذهب - فلان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في خمس من الابل شاة وفي أربعين شاة شاة) فنص على الشاة، فإذا لم يأت بها لم يأت بمأمور به، وإذا لم يأت بالمأمور به فالامر باق عليه. القول الثالث - وهو أن سهم الفقراء والمساكين يقسم في الموضع، وسائر السهام تنقل باجتهاد الامام. والقول الاول أصح. والله أعلم. السابعة - وهل المعتبر مكان المال وقت تمام الحول فتفرق الصدقة فيه، أو مكان المالك إذ هو المخاطب، قولان. واختار الثاني أبو عبد الله محمد بن خويزمنداد في أحكامه قال: لان الانسان هو المخاطب بإخراجها فصار المال تبعا له، فيجب أن يكون الحكم فيه بحيث المخاطب. كابن السبيل فإنه يكون غنيا في بلده فقيرا في بلد آخر، فيكون الحكم له حيث هو. مسألة: واختلفت الرواية عن مالك فيمن أعطى فقيرا مسلما فانكشف في ثاني حال أنه أعطى عبدا أو كافرا أو غنيا، فقال مرة: تجزيه ومرة لا تجزيه. وجه الجواز - وهو الاصح - ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل لاتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية قال اللهم لك الحمد على زانية لاتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني قال اللهم لك الحمد على غني لاتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق فأتي فقيل له أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ولعل السارق يستعف بها عن سرقته). وروي أن رجلا أخرج زكاة ماله فأعطاها أباه، فلما أصبح علم بذلك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (قد كتب لك أجر زكاتك وأجر صلة الرحم فلك أجران). ومن جهة المعنى أنه سوغ له الاجتهاد في المعطى، فإذا اجتهد وأعطى من يظنه من أهلها فقد أتى بالواجب عليه.
[ 177 ]
ووجه قوله: لا يجزي. أنه لم يضعها في مستحقها، فأشبه العمد، ولان العمد والخطأ في ضمان الاموال واحد فوجب أن يضمن ما أتلف، على المساكين حتى يوصله إليهم. الثامنة - فإن أخرج الزكاة عند محلها فهلكت من غير تفريط لم يضمن، لانه وكيل للفقراء. فإن أخرجها بعد ذلك بمدة فهلكت ضمن، لتأخيرها عن محلها فتعلقت بذمته فلذلك ضمن. والله أعلم. التاسعة - وإذا كان الامام يعدل في الاخذ والصرف لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض (1) ولا في غيره. وقد قيل: إن زكاة الناض على (2) أربابه. وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين خاصة، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الاصناف فلا يفرق عليهم إلا الامام. وفروع هذا الباب كثيرة، هذه أمهاتها. العاشرة - قوله تعالى: (والعاملين عليها) يعني السعاة والجباة الذين يبعثهم الامام لتحصيل الزكاة بالتو كيل على ذلك. روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الاسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية (3)، فلما جاء حاسبه. واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال: قال مجاهد والشافعي: هو الثمن. ابن عمر ومالك: يعطون قدر عملهم من الاجرة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. قالوا: لانه عطل نفسه لمصلحة الفقراء، فكانت كفايته وكفاية أعوانه في مالهم، كالمرأة لما عطلت نفسها لحق الزوج كانت نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها. ولا تقدر بالثمن، بل تعتبر الكفاية ثمنا كان أو أكثر، كرزق القاضي. ولا تعتبر كفاية الاعوان في زماننا لانه إسراف محض. القول الثالث - يعطون من بيت المال. قال ابن العربي: وهذا قول صحيح عن مالك بن أنس من رواية ابن (1) الناض من المال: هو الدر هم والدينار، وإنما يسمى ناضا إذا تحول نقدا بعد أن كان متاعا. (2) في ب وى: إلى. (3) اختلف في ضبطه فقيل بضم اللام وسكون التاء، وحكى فتحها. وقيل: بفتح اللام والمثناة واسمه عبد الله وكان من بني تولب حى من الازد. وقيل: اللتبية أمه. (*)
[ 178 ]
أبي أويس وداود بن سعيد بن زنبوعة، وهو ضعيف دليلا، فإن الله سبحانه قد أخبر بسهمهم فيها نصا فكيف يخلفون عنه استقراء وسبرا. والصحيح الاجتهاد في قدر الاجرة، لان البيان في تعديد الاصناف إنما كان للمحل لا للمستحق، على ما تقدم. واختلفوا في العامل إذا كان هاشميا، فمنعه أبو حنيفة لقوله عليه السلام: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس). وهذه صدقة من وجه، لانها جزء من الصدقة فتلحق بالصدقة من كل وجه كرامة وتنزيها لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسالة الناس. وأجاز عمله مالك والشافعي، ويعطى أجر عمالته، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب مصدقا، وبعثه عاملا إلى اليمن على الزكاة، وولى جماعة من بني هاشم وولى الخلفاء بعده كذلك. ولانه أجير على عمل مباح فوجب أن يستوي فيه الهاشمي وغيره اعتبارا بسائر الصناعات. قالت الحنفية: حديث علي ليس فيه أنه فرض له من الصدقة، فإن فرض له من غيرها جاز. وروي عن مالك. الحادية عشرة - ودل قوله تعالى: " والعاملين عليها " على أن كل ما كان من فروض الكفايات كالساعي والكاتب والقسام والعاشر وغيرهم فالقائم به يجوز له أخذ الاجرة عليه. ومن ذلك الامامة، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق فإن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفايات، فلا جرم يجوز أخذ الاجرة عليها. وهذا أصل الباب، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما تركت بعد نفقة نسائي (1) ومؤنة عاملي فهو صدقة) قاله ابن العربي. الثانية عشرة - قوله تعالى: لا ذكر للمؤلفة قلوبهم في التنزيل في غير قسم الصدقات، وهم قوم كانوا في صدر الاسلام ممن يظهر الاسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم. قال الزهري: المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا. وقال بعض المتأخرين: اختلف في صفتهم، فقيل: هم صنف من الكفار (1) في ابن العربي: (عيالي). (*)
[ 179 ]
يعطون ليتألفوا على الاسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والاحسان. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم، فيعطون ليتمكن الاسلام في صدورهم. وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يعطون ليتألفوا أتباعهم على الاسلام. قال: وهذه الاقوال متقاربة والقصد بجميعها الاعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأنه ضرب من الجهاد. والمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع بإقامة البرهان. وصنف بالقهر. وصنف بالاحسان. والامام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببا لنجاته وتخليصه من الكفر. وفي صحيح مسلم من حديث أنس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني للانصار -: (فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم) الحديث. قال ابن إسحاق: أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم. وكانوا أشرافا، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه مائة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير، وأعطى الحارث ابن هشام مائة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير. وكذلك أعطى مالك بن عوف والعلاء بن جارية. قال: فهؤلاء أصحاب المئين. وأعطى رجالا من قريش دون المائة منهم مخرمة بن نوفل الزهري وعمير بن وهب الجمحي، وهشام بن عمرو العامري. قال ابن إسحاق: فهؤلاء لا أعرف ما أعطاهم. وأعطى سعيد بن يربوع خمسين بعيرا، وأعطى عباس بن مرداس السلمي أباعر قليلة فسخطها. فقال في ذلك: كانت نهابا تلافيتها * بكري على المهر في الاجرع (1) وإيقاظي القوم أن يرقدوا * إذا هجع الناس لم أهجع فأصبح نهبي ونهب العبيد * بين عيينة والاقرع (2) وقد كنت في الحرب ذا تدرإ * فلم أعط شيئا ولم أمنع (3) (1) الاجرع: المكان الواسع الذي فيه حزونة وخشونة. (2) العبيد (مصغر): اسمع فرس العباس ابن مرداس. (3) ذو تدرأ (بضم التاء): أي ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب ففيه قوة على دفع أعدائه. (*)
[ 180 ]
إلا أفائل أعطيتها * عديد قوائمه الاربع (1) وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فاقطعوا عني لسانه) فأعطوه (2) حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه. قال أبو عمر: وقد ذكر في المؤلفة قلوبهم النضير بن الحارث بن علقمة ابن كلدة، أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرا. وذكر آخرون أنه فيمن هاجر إلى الحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم، ومن هاجر إلى أرض، الحبشة فهو من المهاجرين الاولين ممن رسخ الايمان في قلبه وقاتل دونه، وليس ممن يؤلف عليه. قال أبو عمر: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف بن سعد [ بن يربوع ] (3) النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف ففعل وضيق عليهم، وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم، حاشا عيينة بن حصن فلم يزل مغموزا (4) عليه. وسائر المؤلفة متفاضلون، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله، كالحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون هؤلاء. وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وهو أعلم بهم. قال مالك: بلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في المؤلفة قلوبهم فتصدق به بعد ذلك. قلت: حكيم بن حزام وحويطب بن عبد العزى عاش كل واحد منهما مائة وعشرين سنة ستين في الاسلام وستين في الجاهلية. وسمعت [ الامام ] (5) شيخنا الحافظ أبا محمد عبد العظيم يقول: شخصان من الصحابة عاشا في الجاهلية ستين سنة وفي الاسلام ستين سنة، وماتا بالمدينة سنة أربع وخمسين، أحدهما حكيم بن حزام، وكان مولده في جوف الكعبة قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة. والثاني حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الانصاري. وذكر هذا أيضا أبو عمر وعثمان الشهرزوري في كتاب معرفة أنواع علم الحديث له، ولم يذكرا غيرهما. وحويطب ذكره (1) الافائل: صغار الابل. (2) في ب: فأعطى. (3) من ج وز وك وى. وفي أسد الغابة: ابن ربيعة بن يربوع. (4) المغموز: المتهم. (5) من ج وز. (*)
[ 181 ]
أبو الفرج الجوزي في كتاب الوفا في شرف المصطفى. وذكره أبو عمر في كتاب الصحابة أنه أدرك الاسلام وهو ابن ستين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وذكر أيضا حمنن ابن عوف أخو عبد الرحمن بن عوف، أنه عاش في الاسلام ستين سنة وفي الجاهلية ستين سنة. وقد عد في المؤلفة قلوبهم معاوية وأبوه أبو سفيان بن حرب. أما معاوية فبعيد أن يكون منهم، فكيف يكون منهم وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقراءته وخلطه بنفسه. وأما حاله في أيام أبي بكر فأشهر من هذا وأظهر. وأما أبوه فلا كلام فيه أنه كان منهم. وفي عدد هم اختلاف، وبالجملة فكلهم مؤمن ولم يكن فيهم كافر على ما تقدم، والله أعلم وأحكم. الثالثة - واختلف العلماء في بقائهم، فقال عمر والحسن والشعبي وغير هم: انقطع هذا الصنف بعز الاسلام وظهوره. وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي. قال بعض علماء الحنفية: لما أعز الله الاسلام وأهله وقطع دابر الكافرين - لعنهم الله - اجتمعت الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين في خلافة أبي بكر (1) رضي الله عنه على سقوط سهمهم. وقال جماعة من العلماء: هم باقون لان الامام ربما أحتاج أن يستألف على الاسلام. وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين. قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخا في ذلك. قال أبو جعفر النحاس: فعلى هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه. قال القاضي عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الاوقات أعطوا من الصدقة. وقال [ القاضي ] (2) ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوي الاسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فإن في الصحيح: (3) (بدأ الاسلام غريبا وسيعود كما بدأ). الرابعة عشرة - فإذا فزعنا على أنه لا يرد إليهم سهمهم فإنه يرجع إلى سائر الاصناف أو ما يراه الامام. وقال الزهري: يعطى نصف سهمهم لعمار المساجد. وهذا مما يدلك على أن الاصناف الثمانية محل لا مستحقون تسوية، ولو كانوا مستحقين لسقط سهمهم بسقوطهم ولم يرجع إلى غيرهم، كما لو أوصى لقوم معينين فمات أحد هم لم يرجع نصيبه إلى من بقي منهم. والله أعلم. (1) كذا في الاصول. وصوابه عمر. (2) في ب وج وك وز وى. (3) بدأ بمعنى ابتدأ. ويروى: بدا بمعنى ظهر. والروايتان صحيحتان والغربة تكون بمعنى كون الشئ في غير وطنه. وبمعنى منقطع النظير. (*)
[ 182 ]
الخامسة عشرة - قوله تعالى: (وفي الرقاب) أي في فك الرقاب، قاله ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب مالك وغيره. فيجوز للامام أن يشتري رقابا من مال الصدقة يعتقها عن المسلمين، ويكون ولاؤ هم لجماعة المسلمين. وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز. هذا تحصيل مذهب مالك، وروي عن ابن عباس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد. وقال أبو ثور: لا يبتاع منها صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجر ولاء. وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ورواية عن مالك. والصحيح الاول، لان الله عزوجل قال: " وفي الرقاب " فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات كان له أن يشتري رقبة فيعتقها. ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في سبيل الله. فإذا كان له أن يشتري فرسا بالكمال من الزكاة جاز أن يشتري رقبة بالكمال، لا فرق بين ذلك. والله أعلم. السادسة عشرة - قوله تعالى: (وفي الرقاب) الاصل في الولاء، قال مالك: هي الرقبة تعتق وولاؤها للمسلمين، وكذلك إن أعتقها الامام. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته. وقال عليه السلام: (الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب). وقال عليه السلام: (الولاء لمن أعتق). ولا ترث النساء من الولاء شيئا، لقوله عليه السلام: (لا ترث النساء من الولاء شيئا إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن) وقد ورث النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة من مولى لها النصف ولابنته النصف. فإذا ترك المعتق أولادا ذكورا وإناثا فالولاء للذكور من ولده دون الاناث. وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم. والولاء إنما يورث بالتعصيب المحض، والنساء لا تعصيب فيهن فلم يرثن من الولاء شيئا. فافهم تصب. السابعة عشرة - واختلف هل يعان منها المكاتب، فقيل لا. روي ذلك عن مالك، لان الله عزوجل لما ذكر الرقبة دل على أنه أراد العتق الكامل، وأما المكاتب فإنما هو داخل في كلمة الغارمين بما عليه من دين الكتابة، فلا يدخل في الرقاب. والله أعلم. وقد روي عن مالك من رواية المدنيين وزياد عنه: أنه يعان منها المكاتب في آخر كتابته بما يعتق.
[ 183 ]
وعلى هذا جمهور العلماء في تأويل قول الله تعالى: " وفي الرقاب ". وبه قال ابن وهب والشافعي والليث والنخعي وغير هم. وحكى علي بن موسى القمي الحنفي في أحكامه: أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد. واختلفوا في عتق الرقاب، قال الكيا الطبري: " وذكر (1) وجها (2) بينه في منع ذلك فقال: إن العتق إبطال ملك وليس بتمليك، وما يدفع إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك. وقوى ذلك بأنه لو دفع من الزكاة عن الغارم في دينه بغير أمره لم يجزه من حيث لم يملك فلان لا يجزي ذلك في العتق أولى. وذكر أن في العتق جر الولاء إلى نفسه وذلك لا يحصل في دفعه للمكاتب. وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملكه العبد، وإن دفعه إلى سيده فقد ملكه العتق. وإن دفعه بعد الشراء والعتق فهو قاض دينا، وذلك لا يجزي في الزكاة ". قلت: قد ورد حديث ينص على معنى ما ذكرنا من جواز عتق الرقبة وإعانة المكاتب معا أخرجه الدارقطني عن البراء قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار. قال: (لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة (3) أعتق النسمة وفك الرقبة). فقال: يا رسول الله، أو ليستا واحدا ؟ قال: (لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها) وذكر الحديث. الثامنة عشرة - واختلفوا في فك الاسارى منها، فقال أصبغ: لا يجوز. وهو قول ابن قاسم. وقال ابن حبيب: يجوز، لانها رقبة ملكت بملك الرق فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا، لانه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزا من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله. التاسعة عشرة - قوله تعالى: (والغارمين) هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه. اللهم إلا من اد ان في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غير ها إلا أن يتوب. (1) أي القمي. (2) الذي في أحكام القرآن للكيا: (وذكر وجو ها بينة في منع ذلك منها أنه العتق..) الخ. (3) أي جئت بالخطبة قصيرة وبالمسألة واسعة كثيرة. (*)
[ 184 ]
ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به ما يقضي به دينه، فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو فقير وغارم فيعطى بالوصفين. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا عليه). فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك). الموفية عشرين - ويجوز للمتحمل في صلاح وبر أن يعطى من الصدقة ما يؤدي ما تحمل به إذا وجب عليه وإن كان غنيا، إذا كان ذلك يجحف بماله كالغريم. وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وغير هم. واحتج من ذهب هذا المذهب بحديث قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة (1) فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها - ثم قال - يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه (2) لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا (3) يأكلها صاحبها سحتا). فقوله: (ثم يمسك) دليل على أنه غني، لان الفقير ليس عليه أن يمسك. والله أعلم. وروي عنه عليه السلام أنه قال: (إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة ذوي فقر مدقع (4) أو لذي غرم مفظع (5) أو لذي دم موجع) (6). وروي عنه عليه السلام: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) الحديث. وسيأتي. (1) الحملة (بالفتح): ما يتحمله الانسان عن غيره من دية أو غرامة مثل أن تقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين. والتحمل: أن يحملها عنهم على نفسه. (عن النهاية لابن الاثير). (2) أي حتى يقوموا على رءوس الاشهاد قائلين: إن فلانا أصابته فاقة الخ. (3) كذا رواية مسلم، أي اعتقده سحتا أو يؤكل سحتا. وفي غير مسلم بالرفع. (4) المدقع: الشديد، يفضى بصاحبه إلى الدقعاء، وهي التراب. وقيل: هو سوء احتمال الفقر. (5) المفظع: الشديد الشنيع. (6) هو أن يتحمل دية فيسعى فيها حتى يؤديها إلى أولياء المقتول، فإن لم يؤد ها قتل المتحمل عنه فيوجعه قتله. (*)
[ 185 ]
الحادية والعشرون - واختلفوا، هل يقضى منها دين الميت أم لا، فقال أبو حنيفة: لا يؤدى من الصدقة دين ميت. وهو قول ابن المواز. قال أبو حنيفة: ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله تعالى، وإنما الغارم من عليه دين يسجن فيه. وقال علماؤنا وغيرهم: يقضى منها دين الميت لانه من الغارمين، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلاهله ومن ترك دينا أو ضياعا (1) فإلي وعلي). الثانية والعشرون - قوله تعالى: (وفي سبيل الله) وهم الغزاة وموضع الرباط، يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء. وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله. وقال ابن عمر: الحجاج والعمار. ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا: سبيل الله الحج. وفي البخاري: ويذكر عن أبي لاس (2): حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج، ويذكر عن ابن عباس: يعتق من [ زكاة ] (3) ماله ويعطي في الحج. خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن ها رون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن ابن أبي نعم ويكنى أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله. قال ابن عمر: فهو كما قال في سبيل الله. فقلت له: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما. قال: فما تأمرني يا ابن أبي نعم، آمر ها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الارض ويقطعون السبيل ! قال: قلت فما تأمر ها. قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها. قلت: يا أبا عبد الرحمن، وما وفد الشيطان ؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الامراء فينمون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين بالكذب، فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا. (1) الضياع (بالفتح): العيال وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعا فسمى العيال بالمصدر كما تقول من مات وترك فقرا، أي فقراء. (2) بالمهملة كما في التاج: أبو محمد الخزاعي صحابي. (3) الزيادة عن صحيح البخاري. (*)
[ 186 ]
وقال محمد بن عبد الحكم: ويعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب، وكف العدو عن الحوزة، لانه كله من سبيل الغزو ومنفعته. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة إطفاء للثائرة. قلت: أخرج هذا الحديث أبو داود عن بشير بن يسار، أن رجلا من الانصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة، يعني دية الانصاري الذي قتل بخيبر، وقال عيسى بن دينار: تحل الصدقة لغاز في سبيل الله، قد احتاج في غزوته وغاب عنه غناؤه ووفره. قال: ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة، إنما تحل لمن كان ماله غائبا عنه منهم. وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به. وهذه زيادة على النص، والزيادة عنده على النص نسخ، والنسخ لا يكون إلا بقرآن أو خبر متواتر، وذلك معدوم هنا، بل في صحيح السنة خلاف ذلك من قوله عليه السلام: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني). رواه مالك مرسلا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار. ورفعه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. فكان هذا الحديث مفسرا لمعنى الآية، وأنه يجوز لبعض الاغنياء أخذها، ومفسرا لقوله عليه السلام: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) لان قوله هذا مجمل ليس على عمومه بدليل الخمسة الاغنياء المذكورين. وكان ابن القاسم يقول: لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل الله، وإنما يجوز ذلك لفقير. قال: وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يقي به ماله ويؤدي منها دينه وهو عنها غني. قال: وإذا احتاج الغازي في غزوته وهو غني له مال غاب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا يستقرض، فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله. هذا كله ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم، وزعم أن ابن نافع وغيره خالفوه في ذلك. وروى أبو زيد وغيره
[ 187 ]
عن ابن القاسم أنه قال: يعطى من الزكاة الغازي وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله وهو غني في بلده. وهذا هو الصحيح، لظاهر الحديث: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة). وروى ابن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ومواضع الرباط فقراء كانوا أو أغنياء. الثالثة والعشرون - قوله تعالى: (وابن السبيل) السبيل الطريق، ونسب المسافر إليها لملازمته إياها ومروره عليها، كما قال الشاعر: إن تسألوني عن الهوى فأنا الهوى * وابن الهوى وأخو الهوى وأبوه والمراد الذي انقطعت به الاسباب في سفره عن بلده ومستقره وماله، فإنه يعطى منها وإن كان غنيا في بلده، ولا يلزمه أن يشغل ذمته بالسلف. وقال مالك في كتاب ابن سحنون: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى. والاول أصح، فإنه لا يلزمه أن يدخل تحت منة أحد وقد وجد منة الله تعالى. فإن كان له ما يغنيه ففي جواز الاخذ له لكونه ابن السبيل روايتان: المشهور أنه لا يعطى، فإن أخذ فلا يلزمه رده إذا صار إلى بلده ولا إخراجه. الرابعة والعشرون - فإن جاء وادعى وصفا من الاوصاف، هل يقبل قوله أم لا ويقال له أثبت ما تقول. فأما الدين فلا بد أن يثبته، وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد له ويكتفى به فيها. والدليل على ذلك حديثان صحيحان أخرجهما أهل الصحيح، وهو ظاهر القرآن. روى مسلم عن جرير [ عن أبيه ] (1) قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار (2) أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر (3) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم - الآية إلى قوله - رقيبا " (4) [ النساء: 1 ] والآية التي في الحشر " ولتنظر نفس ما قدمت لغد " (5) [ الحشر: 18 ] تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره - حتى قال - ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل (1) زيادة عن صحيح مسلم. (2) اجتاب القميص: لبسه. والنمار (بكسر النون): كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. (3) تمعر: تغير. (4) راجع ج 5 ص 1 فما بعد. (5) راجع ج 18 ص 42 فما بعد. (*)
[ 188 ]
من الانصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزر ها ووزر من عمل بها من بعده من غبر أن ينقص من أوزار هم شئ). فاكتفى صلى الله عليه وسلم بظاهر حالهم وحث على الصدقة، ولم يطلب منهم بينة، ولا استقصى هل عند هم مال أم لا. ومثله حديث أبرص وأقرع وأعمى أخرجه مسلم وغيره. وهذا لفظه: عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الابرص فقال أي شئ أحب إليك فقال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال الابل - أو قال البقر، شك إسحاق، إلا (2) أن الابرص أو الاقرع قال أحدهما الابل وقال الآخر البقر - قال فأعطي ناقة عشراء قال بارك الله لك فيها قال فأتى الاقرع فقال أي شئ أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قال فأعطي شعرا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال البقر فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله لك فيها قال فأتى الاعمى فقال أي شئ أحب إليك قال أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس قال فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان (3) وولد هذا قال فكان لهذا واد من الابل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الابرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت بى الحبال (4) في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله وبك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري (1) أي فضة مموهة بذهب في إشراقه. والرواية: مدهنة. بمهملة ونون. (2) كذا في الاصول وصحيح مسلم. ورواية البخاري: (شك إسحاق في ذلك أن الابرص) بغير لفظ (إلا). (3) أي صاحبا الابل والبقر. (4) الحبال: جمع حبل. والمراد الاسباب التي يقطعها في طلب الرزق. (*)
[ 189 ]
فقال له الحقوق كثيرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت فقال وأتى الاقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد على هذا فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الاعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك). وفي هذا أدل دليل على أن من ادعى زيادة على فقره من عيال أو غيره لا يكشف عنه خلافا لمن قال يكشف عنه إن قدر، فإن في الحديث (فقال رجل مسكين وابن سبيل أسألك شاة) ولم يكلفه إثبات السفر. فأما المكاتب فإنه يكلف إثبات الكتابة لان الرق هو الاصل حتى تثبت الحرية. الخامسة والعشرون - ولا يجوز أن يعطي من الزكاة من تلزمه نفقته وهم الوالدان والولد والزوجة. وإن أعطى الامام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجته جاز. وأما أن يتناول ذلك هو نفسه فلا، لانه يسقط بها عن نفسه فرضا. قال أبو حنيفة: ولا يعطى منها ولد ابنه ولا ولد ابنته، ولا يعطي منها مكاتبه ولا مدبره ولا أم ولده ولا عبدا أعتق نصفه، لانه مأمور بالايتاء والاخراج إلى الله تعالى بوا سطة كف الفقير، ومنافع الاملاك مشتركة بينه وبين هؤلاء، ولهذا لا تقبل شهادة بعضهم لبعض. قال: والمكاتب عبد ما بقي عليه در هم وربما يعجز فيصير الكسب له. ومعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب. وعند صاحبيه أبي يوسف ومحمد بمنزلة حر عليه دين فيجوز أداؤها إليه. السادسة والعشرون - فإن أعطاها لمن لا تلزمه نفقتهم فقد اختلف فيه، فمنهم من جوزه ومنهم من كرهه. قال مالك: خوف المحمدة. وحكى مطرف أنه قال: رأيت مالكا يعطي زكاته لاقاربه. وقال الواقدي قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك
[ 190 ]
قرابتك الذين لا تعول. وقد قال صلى الله عليه وسلم لزوجة عبد الله بن مسعود: (لك أجران أجر القرابة وأجر الصدقة). واختلفوا في إعطاء المرأة زكاتها لزوجها، فذكر عن ابن حبيب أنه كان يستعين بالنفقة عليها بما تعطيه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وخالفه صاحباه فقالا: يجوز. وهو الاصح لما ثبت أن زينب امرأة عبد الله أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أريد أن أتصدق على زوجي أيجزيني ؟ فقال عليه السلام: (نعم لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة). والصدقة المطلقة هي الزكاة، ولانه لا نفقة للزوج عليها، فكان بمنزلة الاجنبي. اعتل أبو حنيفة فقال: منافع الاملاك بينهما مشتركة، حتى لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه. والحديث محمول على التطوع. وذهب الشافعي وأبو ثور وأشهب إلى إجازة ذلك، إذا لم يصرفه إليها فيما يلزمه لها، وإنما يصرف ما يأخذه منها في نفقته وكسوته على نفسه وينفق عليها من ماله. السابعة والعشرون - واختلفوا أيضا في قدر المعطى، فالغارم يعطى قدر دينه، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما. وفي جواز إعطاء النصاب أو أقل منه خلاف ينبني على الخلاف المتقدم في حد الفقر الذي يجوز معه الاخذ. وروى علي بن زياد وابن نافع: ليس في ذلك حد وإنما هو على اجتهاد الوالي. وقد تقل المساكين وتكثر الصدقة فيعطى الفقير قوت سنة. وروى المغيرة: يعطى دون النصاب ولا يبلغه. وقال بعض المتأخرين: إن كان في البلد زكاتان نقد وحرث أخذ ما يبلغه إلى الاخرى. قال ابن العربي: الذي أراه أن يعطى نصابا، وإن كان في البلد زكاتان أو أكثر، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنيا. فإذا أخذ ذلك فإن حضرت الزكاة الاخرى وعنده ما يكفيه أخذ ها غيره. قلت: هذا مذهب أصحاب الرأي في إعطاء النصاب. وقد كره ذلك أبو حنيفة مع الجواز، وأجازه أبو يوسف، قال: لان بعضه لحاجته مشغول للحال، فكان الفاضل عن حاجته للحال دون المائتين، وإذا أعطاه أكثر من مائتي در هم جملة كان الفاضل عن حاجته للحال قدر المائتين فلا يجوز. ومن متأخري الحنفية من قال: هذا إذا لم يكن له عيال
[ 191 ]
ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين فلا بأس أن يعطيه مائتي در هم أو أكثر، مقدار ما لو قضى به دينه يبقى له دون المائتين. وإن كان معيلا لا بأس بأن يعطيه مقدار ما لو وزع على عياله أصاب كل واحد منهم دون المائتين، لان التصدق عليه في المعنى تصدق عليه وعلى عياله. وهذا قول حسن. الثامنة والعشرون - اعلم أن قوله تعالى: (للفقراء) مطلق ليس فيه شرط وتقييد، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء كانوا من بني هاشم أو غير هم إلا أن السنة وردت باعتبار شروط: منها ألا يكونوا من بني هاشم وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته. وهذا لا خلاف فيه. وشرط ثالث ألا يكون قويا على الاكتاسب لانه عيه السلام قال: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذي مرة سوي). وقد تقدم القول فيه. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لبني هاشم ولا لمواليهم. وقد روى عن أبي يوسف صرف صدقة الهاشمي للهاشمي: حكاه الكيا الطبري. وشذ بعض أهل العلم فقال: إن موالي بني هاشم لا يحرم عليهم شئ من الصدقات. وهذا خلاف الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال لابي رافع مولاه: (وإن مولى القوم منهم). التاسعة والعشرون - واختلفوا في جواز صدقة التطوع لبني هاشم، فالذي عليه جمهور أهل العلم - وهو الصحيح - أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومو إليهم، لان عليا والعباس وفاطمة رضوان الله عليهم تصدقوا وأوقفوا أوقافا على جماعة من بني هاشم، وصدقا تهم الموقوفة معروفة مشهورة. وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب: لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ولا من التطوع. وقال ابن القاسم: يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع. قال ابن القاسم: والحديث الذي جاء [ عن النبي صلى الله عليه وسلم ] (1): (لا تحل الصدقة لآل محمد) إنما ذلك في الزكاة لا في التطوع. واختار هذا القول ابن خويز منداد، وبه قال أبو يوسف ومحمد. قال ابن القاسم: ويعطى مواليهم من الصدقتين. وقال مالك في الواضحة: لا يعطى لآل محمد من التطوع. قال ابن القاسم: - قيل له يعني مالكا - (1) من ج وز. (*)
[ 192 ]
فمو إليهم ؟ قال: لا أدري ما المو الي. فاحتججت عليه بقوله عليه السلام: (مولى القوم منهم). فقال قد قال: (ابن أخت القوم منهم). قال أصبغ: وذلك في البر والحرمة. الموفية ثلاثين - قوله تعالى: (فريضة من الله) بالنصب على المصدر عند سيبويه. أي فرض الله الصدقات فريضة. ويجوز الرفع على القطع في قول الكسائي، أي هن فريضة. قال الزجاج: ولا أعلم [ أنه ] قرئ به. قلت: قرأ بها إبراهيم بن أبي عبلة، جعلها خبرا، كما تقول: إنما زيد خارج. قوله تعالى: ومنهم الذين يؤذون النبي يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61) بين تعالى أن في المنافقين من كان يبسط لسانه بالوقيعة في أذية النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إن عاتبني حلفت له بأني ما قلت هذا فيقبله، فإنه أذن سامعة. قال الجوهري: يقال رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: " هو أذن " قال: مستمع وقابل. وهذه الآية نزلت في عتاب بن قشير، قال: إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له. وقيل: هو نبتل بن الحارث، قال ابن إسحاق. وكان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية، آدم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث). السفعة بالضم: سواد مشرب بحمرة. والرجل أسفع، عند الجوهري. وقرئ " أذن " بضم الذال وسكونها. (قل أذن خير لكم) أي هو أذن خير لا أذن شر، أي يسمع الخير ولا يسمع الشر. وقرأ " قل أذن خير لكم " بالرفع والتنوين، الحسن وعاصم في رواية أبي بكر. والباقون بالاضافة، وقرأ حمزة " ورحمة " بالخفض. والباقون بالرفع عطف على " أذن "، والتقدير: قل هو أذن خير وهو رحمة،
[ 193 ]
أي هو مستمع خير لا مستمع شر، أي هو مستمع ما يحب (1) استماعه، وهو رحمة. ومن خفض فعلى العطف على " خير ". قال النحاس: وهذا عند أهل العربية بعيد، لانه قد تباعد ما بين الاسمين، وهذا يقبح في المخفوض. المهدوي: ومن جر الرحمة فعلى العطف على " خير " والمعنى مستمع خير ومستمع رحمة، لان الرحمة من الخير. ولا يصح عطف الرحمة على المؤمنين، لان المعنى يصدق بالله ويصدق المؤمنين، فاللام زائدة في قول الكوفيين. ومثله " لربهم يرهبون " (2) [ الاعراف: 154 ] أي يرهبون ربهم. وقال أبو علي: كقوله " ردف لكم " (3) [ النمل: 72 ] وهي عند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل، التقدير: إيمانه للمؤمنين، أي تصديقه للمؤمنين لا للكفار. أو يكون محمولا على المعنى، فإن معنى يؤمن يصدق، فعدي باللام كما عدي في قوله تعالى: " مصدقا لما بين يديه " (4) [ المائدة: 46 ]. قوله تعالى: يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (2) فيه ثلاث مسائل: الاولى - روي أن قوما من المنافقين اجتمعوا، فيهم الجلاس بن سويد ووديعة ابن ثابت، وفيهم غلام من الانصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول حق وأنتم شر من الحمير، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم، فحلفوا أن عامرا كاذب، فقال عامر: هم الكذبة، وحلف على ذلك وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله هذه الآية وفيها " يحلفون بالله لكم ليرضو كم ". الثانية - قوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن ترضوه) ابتداء وخبر. ومذهب سيبويه أن التقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، ثم حذف، كما قال [ بعضهم ] (5): نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف (1) في ب وه‍: يجب. (2) راجع ج 7 ص 292. (3) راجع ج 13 ص 230. (4) راجع ج 2 ص 36. (5) من ج. (*)
[ 194 ]
وقال محمد بن يزيد: ليس في الكلام محذوف، والتقدير، والله أحق أن يرضوه ورسوله، على التقديم والتأخير. وقال الفراء: المعنى ورسوله أحق أن يرضوه، والله افتتاح كلام، كما تقول: ما شاء الله وشئت. قال النحاس: قول سيبويه أولاها، لانه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن أن يقال: ما شاء الله وشئت، ولا يقدر في شئ تقديم ولا تأخير، ومعناه صحيح. قلت: وقيل إن الله سبحانه جعل رضاه في رضاه، ألا ترى أنه قال: " من يطع الرسول فقد أطاع (1) الله " [ النساء 80 ]. وكان الربيع ابن خيثم إذا مر بهذه الآية وقف، ثم يقول: حرف وأيما حرف فوض إليه فلا يأمرنا إلا بخير. الثالثة - قال علماؤنا: تضمنت هذه الآية قبول يمين الحالف وإن لم يلزم المحلوف له الرضا. واليمين حق للمدعي. وتضمنت أن يكون اليمين بالله عزوجل حسب [ ما تقدم ] (2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق). وقد مضى القول في الايمان والاستثناء فيها مستوفى في المائدة (3). قوله تعالى: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (63) قوله تعالى: (ألم يعلموا) يعني المنافقين. وقرأ ابن هرمز والحسن " تعلموا " بالتاء على الخطاب. (أنه) في موضع نصب بيعلموا، والهاء كناية عن الحديث. (من يحادد الله) في موضع رفع بالابتداء. والمحادة: وقوع هذا في حد وذاك في حد، كالمشاقة. يقال: حاد فلان فلانا أي صار في حد غير حده. (فأن له نار جهنم) يقال: ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ، فكان يجب أن يكون " فإن " بكسر الهمزة. وقد أجاز الخليل وسيبويه " فإن له نار جهنم " بالكسر. قال سيبويه: وهو جيد وأنشد: (1) راجع ج 5 ص 288. (2) من ه‍. (3) راجع ج 6 ص 264. (*)
[ 195 ]
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل * قلائص تخدي في طريق طلائح وأني إذا ملت ركابي مناخها * فإني على حظي من الامر جامح (1) إلا أن قراءة العامة " فأن " بفتح الهمزة. فقال الخليل أيضا وسيبويه: إن " أن " الثانية مبدلة من الاولى. وزعم المبرد أن هذا القول مردود، وأن الصحيح ما قاله الجرمي، قال: إن الثانية مكررة للتوكيد لما طال الكلام، ونظيره " وهم في الآخرة هم الاخسرون " (2) [ النمل: 5 ]. وكذا " فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها " (3) [ الحشر: 17 ]. وقال الاخفش: المعنى فوجوب النار له. وأنكره المبرد وقال: هذا خطأ من أجل إن " أن " المفتوحة المشددة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر. وقال علي بن سليمان: المعنى فالواجب أن له نار جهنم، فإن الثانية خبر ابتداء محذوف. وقيل: التقدير فله أن له نار جهنم. فإن مرفوعة بالاستقرار على إضمار المجرور بين الفاء وأن. قوله تعالى: يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون (64) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يحذر المنافقون) خبر وليس بأمر. ويدل على أنه خبر أن ما بعده " إن الله مخرج ما تحذرون " لانهم كفروا عنادا. وقال السدي: قال بعض المنافقين والله وددت لو أني قدمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شئ يفضحنا، فنزلت الآية. " يحذر " أي يتحرز. وقال الزجاج: معناه ليحذر، فهو أمر، كما يقال: يفعل ذلك. (1) البيتان لابن مقبل. والشاهد فيهما كسر (إن) الثانية. والاسدام: المياه المتغيرة لقلة الوارد، واحد ها سدم. وتخدى: تسرع. والطلامح المعيبة لطول السفر. ومعنى (ملت ركابي مناخها): توالي سفرها وإناخها فيه وارتحالها. والجامح: الماضي على وجهه. أي لا يكسرني طول السفر ولكني أمضى قدما لما أرجوه من الحظ في أمري. (عن شرح الشواهد). (2) راجع ج 13 ص 154 فما بعد. (3) راجع ج 18 ص 37. (*)
[ 196 ]
الثانية قوله تعالى: (أن تنزل عليهم) " أن " في موضع نصب، أي من أن تنزل. ويجوز على قول سيبويه أن تكون في موضع خفض على حذف من. ويجوز أن تكون في موضع نصب مفعولة ليحذر، لان سيبويه أجاز: حذرت زيدا، وأنشد: حذر أمورا لا تضير وآمن * ما ليس منجيه من الاقدار ولم يجزه المبرد، لان الحذر شئ في الهيئة. ومعنى " عليهم " أي على المؤمنين (سورة) في شأن المنافقين تخبرهم بمخاز يهم ومسا ويهم ومثالبهم، ولهذا سميت الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، كما تقدم أول السورة. وقال الحسن: كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة لانها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته. الثالثة - قوله تعالى: (قل استهزئوا) هذا أمر وعيد وتهديد. (إن الله مخرج) أي مظهر " ما تحذرون " ظهوره. قال ابن عباس: أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلا، ثم نسخ تلك الاسماء من القرآن رأفة منه ورحمة، لان أولاد هم كانوا مسلمين والناس يعير بعضهم بعضا. فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهاره ذلك إذ قال: " إن الله مخرج ما تحذرون ". وقيل: إخراج الله أنه عرف نبيه عليه السلام أحو الهم وأسماء هم لا أنها نزلت في القرآن، ولقد قال الله تعالى: " ولتعر فنهم في لحن القول " (1) [ محمد: 30 ] وهو نوع إلهام. وكان من المنافقين من يتردد ولا يقطع بتكذيب محمد عليه السلام ولا بصدقه. وكان فيهم من يعرف صدقه ومعاند. قوله تعالى: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون (65) فيه ثلاث مسائل: الاولى - هذه الآية نزلت في غزوة تبوك. قال الطبري وغيره عن قتادة: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: (1) راجع ج 16 ص 251 فما بعد. (*)
[ 197 ]
انظروا، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الاصفر ! فأطلعه الله سبحانه على ما في قلو بهم وما يتحدثون به، فقال: (احبسوا علي الركب - ثم أتاهم فقال - قلتم كذا وكذا) فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب، يريدون كنا غير مجدين. وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر قال: رأيت قائل هذه المقالة وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ". وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبد الله بن أبي بن سلول. وكذا ذكر القشيري عن ابن عمر. قال ابن عطية: وذلك خطأ، لانه لم يشهد تبوك. قال القشيري: وقيل إنما قال عليه السلام هذا لوديعة بن ثابت وكان من المنافقين وكان في غزوة تبوك. والخوض: الدخول في الماء، ثم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى. الثانية - قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الامة. فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل. قال علماؤنا: انظر إلى قوله: " أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " (1) [ البقرة: 67 ]. الثالثة - واختلف العلماء في الهزل في سائر الاحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال: لا يلزم مطلقا. يلزم مطلقا. التفرقة بين البيع وغيره. فيلزم في النكاح والطلاق، وهو قول الشافعي في الطلاق قولا واحدا. ولا يلزم في البيع. قال مالك في كتاب محمد: يلزم نكاح الهازل. وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية: لا يلزم. وقال علي بن زياد: يفسخ قبل وبعد. وللشافعي في بيع الهازل قولان. وكذلك يخرج من قول علمائنا القولان. وحكى ابن المنذر الاجماع في أن جد الطلاق وهزله سواء. وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم، وإن اختلفا غلب الجد الهزل. وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث (1) راجع ج 1 ص 444 (*)
[ 198 ]
جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة). قال الترمذي: حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. قلت: كذا في الحديث (والرجعة) وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب قال: ثلاث ليس فيهم لعب النكاح والطلاق والعتق. وكذا روي عن علي ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء، كلهم قال: ثلاث لا لعب فيهن [ ولا رجوع فيهن ] (1) واللاعب فيهن جاد النكاح والطلاق والعتق. وعن سعيد بن المسيب عن عمر قال: أربع جائزات على كل أحد العتق والطلاق والنكاح والنذور. وعن الضحاك قال: ثلاث لا لعب فيهن النكاح والطلاق والنذور. قوله تعالى: لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بإنهم كانوا مجرمين (66) قوله تعالى: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) على جهة التوبيخ، كأنه يقول: لا تفعلوا ما لا ينفع، ثم حكم عليهم بالكفر وعدم الاعتذار من الذنب. واعتذر بمعنى أعذر، أي صار ذا عذر. قال لبيد: * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (2) * والاعتذار: محو أثر الموجدة، يقال: اعتذرت المنازل درست. والاعتذار الدروس. قال الشاعر: (3) أم كنت تعرف آيات فقد جعلت * أطلال إلفك بالودكاء تعتذر وقال ابن الاعرابي: أصله القطع. واعتذرت إليه قطعت ما في قلبه من الموجدة. ومنه عذرة الغلام وهو ما يقطع منه عند الختان. ومنه عذرة الجارية لانه يقطع خاتم عذرتها. (1) من ج وك وه‍. (2) هذا عجز بيت وصدره: * إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * (3) هو ابن أحمر الباهلي كما في اللسان مادة (عذر). (*)
[ 199 ]
قوله تعالى: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) قيل: كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. والطائفة الجماعة، ويقال للواحد على معنى نفس طائفة. وقال ابن الانباري: يطلق لفظ الجمع على الواحد، كقولك: خرج فلان على البغال. قال: ويجوز أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد طائفا، والهاء للمبالغة. واختلف في اسم هذا الرجل الذي عفي عنه على أقوال. فقيل: مخشي بن حمير، قاله ابن إسحاق. وقال ابن هشام: ويقال فيه ابن مخشي. وقال خليفة بن خياط في تاريخه: اسمه مخاشن بن حمير. وذكر ابن عبد البر مخاشن الحميري [ وذكر السهيلي مخشن بن خمير ] (1). وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة، وكان تاب وسمي عبد الرحمن، فدعا الله أن يقتل شهيدا ولا يعلم بقبره. واختلف هل كان منافقا أو مسلما. فقيل: كان منافقا ثم تاب توبة نصوحا. وقيل: كان مسلما، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم. قوله تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (67) قوله تعالى: (المنافقون والمنافقات) ابتداء. " بعضهم " ابتداء ثان. ويجوز أن يكون بدلا، ويكون الخبر " من بعض ". ومعنى " بعضهم من بعض " أي هم كالشئ الواحد في الخروج عن الدين. وقال الزجاج، هذا متصل بقوله: " يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم " [ التوبة: 56 ] أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض، أي متشابهون في الامر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقبض أيديهم عبارة عن [ ترك ] الجهاد، وفيما يجب عليهم من حق. والنسيان: الترك هنا، أي تركوا ما أمر هم الله به فتركهم في الشك. وقيل: إنهم تركوا أمره حتى صار كالمنسي فصيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه. وقال قتادة: " نسيهم " أي من الخير، فأما من الشر فلم ينسهم. والفسق: الخروج عن الطاعة والدين. وقد تقدم. (2) (1) من ب وج. (2) راجع ج 1 ص 244. (*)
[ 200 ]
قوله تعالى: وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم (68) قوله تعالى: (وعد الله المنافقين) يقال: وعد الله بالخير وعدا. ووعد بالشر وعيدا " خالدين " نصب على الحال والعامل محذوف، أي يصلونها خالدين. (هي حسبهم) ابتداء وخبر، أي هي كفاية ووفاء لجزاء أعمالهم. واللعن: البعد، أي من رحمة الله، وقد تقدم (1). (ولهم عذاب مقيم) أي واصب دائم. قوله تعالى كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (69) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " كالذين من قبلكم " قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم. وقيل: المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الامر بالمنكر والنهي عن المعروف (2)، فحذف المضاف. وقيل: أي أنتم كالذين من قبلكم، فالكاف في محل رفع لانه خبر ابتداء محذوف. ولم ينصرف " أشد " لانه أفعل صفة. والاصل فيه أشدد، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذاب الله عزوجل. الثانية - روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تأخذون كما أخذت الامم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل (1) راجع ج 2 ص 25 (2) في ب وج: في ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. (*)
[ 201 ]
جحر ضب لدخلتموه). قال أبو هريرة: وإن شئتم فاقرءوا القرآن: " كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم " قال أبو هريرة: والخلاق، الدين - فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم " حتى فرغ من الآية. قالوا: يا نبي الله، فما صنعت اليهود والنصارى ؟ قال: (وما الناس إلا هم). وفي الصحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال: (فمن) ؟ وقال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. ونحوه عن ابن مسعود. الثالثة - قوله تعالى: " فاستمتعوا بخلاقهم " أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم. " وخضتم " خروج من الغيبة إلى الخطاب. " كالذي خاضوا " أي كخوضهم. فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا. و " الذي " اسم ناقص مثل من، يعبر به عن الواحد والجمع. وقد مضى في (البقرة) (1). ويقال: خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا. والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا. وجمعها المخاض والمخاوض أيضا، عن أبي زيد. وأخضت دابتي في الماء. وأخاض القوم، أي خاضت خيلهم. وخضت الغمرات: اقتحمتها. ويقال: خاضه بالسيف، أي حرك سيفه في المضروب. وخوض في نجيعه (2) شدد للمبالغة. والمخوض للشراب كالمجدح (3) للسويق، يقال منه: خضت الشراب. وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي تفاوضوا فيه، فالمعنى: خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب. وقيل: في أمر محمد [ صلى الله عليه وسلم ] (4) بالتكذيب. (أولئك حبطت) بطلت وقد تقدم (5). (أعمالهم) حسناتهم. (وأولئك هم الخاسرون) وقد تقدم أيضا (6). (1) راجع ج 1 ص 212. (2) النجيع: الدم. وقيل دم الجوف خاصة. (3) المجدح: خشبة في رأسها خشبتان معترضتان. (4) من ج وك ه‍. (5) راجع ج 3 ص 46. (6) راجع ج 1 ص 248. (*)
[ 202 ]
قوله تعالى: ألم يأتيهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (70) قوله تعالى: (ألم يأتهم نبأ) أي خبر (الذين من قبلهم). والالف لمعنى التقرير والتحذير، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل. (قوم نوح وعاد وثمود) بدل من الذين. (وقوم إبراهيم) أي نمرود بن كنعان وقومه. (وأصحاب مدين) [ مدين ] (1) اسم للبلد الذي كان فيه شعيب، أهلكوا بعذاب يوم الظلة. (والمؤتفكات) قيل: يراد به قوم لوط، لان أرضهم ائتفكت بهم، أي انقلبت، قاله قتادة. وقيل: المؤتفكات كل من أهلك، كما يقال: انقلبت عليهم الدنيا. (اتتهم رسلهم بالبينات) يعني جميع الانبياء. وقيل: أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم، فعلى هذا رسولهم لوط وحده، ولكنه بعث في كل قرية رسولا، وكانت ثلاث قريات، وقيل أربع. وقوله تعالى في موضع آخر: " والمؤتفكة " (2) [ النجم: 53 ] على طريق الجنس. وقيل: أراد بالرسل الواحد، كقوله " يأيها الرسل كلوا من الطيبات " (3) [ المؤمنون: 51 ] ولم يكن في عصره غيره. قلت - وهذا فيه نظر، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين) الحديث. وقد تقدم في " البقرة " (4). والمراد جميع الرسل، والله أعلم. [ قوله تعالى: ] (5) (فما كان الله ليظلمهم) أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الانبياء. (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم. قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (71) (1) من ج وك وه‍. (2) راجع ج 17 ص 118 فما بعد في آية 53 سورة النجم. (3) راجع ج 12 ص 127 آية 51 سورة المؤمنون. (4) راجع ج 2 ص 215 وج 12 ص 127. (5) من ب وج وك وه‍. (*)
[ 203 ]
فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض) أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. وقال في المنافقين " بعضهم من بعض " لان قلوبهم مختلفة ولكن يضم بعضهم إلى بعض في الحكم. الثانية - قوله تعالى: (يأمرون بالمعروف) أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. (وينهون عن المنكر) عن عبادة الاوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كل ما ذكر [ الله ] (1) في القرآن من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الاوثان والشياطين. وقد مضى القول في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة المائدة (2) وآل عمران (3) والحمد لله. الثالثة - قوله تعالى: (ويقيمون الصلاة) تقدم في أول " البقرة " القول فيه (4). وقال ابن عباس: هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية: والمدح عندي بالنوافل أبلغ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض. الرابعة - قوله تعالى: (ويطيعون الله) في الفرائض (ورسوله) فيما سن لهم. والسين في قوله: " سيرحمهم الله " مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه، وفضله تعالى زعيم بالانجاز. قوله تعالى: وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلم هو الفوز العظيم (72) (1) من ج وك وه‍. (2) راجع ج 6 ص 242 وما بعدها. (3) راجع ج 4 ص 47 (4) راجع ج 1 ص 164. (*)
[ 204 ]
قوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات) أي بساتين (تجري من تحتها الانهار) أي من تحت أشجارها وغرفها الانهار. وقد تقدم في " البقرة " أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود (1). (خالدين فيها ومساكن طيبة) قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. (في جنات عدن) أي في دار إقامة. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن. وقال عطاء الخراساني: " جنات عدن " هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن عزوجل. وقال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي وسطها. وقال الحسن: هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل، ونحوه عن الضحاك. وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الانبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. (ورضوان من الله أكبر) أي أكبر من ذلك. " ذلك هو الفوز العظيم ". قوله تعالى: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (83) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (يأيها النبي جاهد الكفار) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده. قيل: المراد جاهد بالمؤمنين الكفار. وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر (2) في وجوههم. وقال الحسن: جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختاره قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود. ابن العربي: أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لان أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان (1) راجع ج 1 ص 239. (2) اكفهر الرجل: إذا عبس. (*)
[ 205 ]
عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين الثانية - قوله تعالى: (واغلظ عليهم) الغلظ: نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الامر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب (1) عليها). ومنه قوله تعالى: " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " (2) [ آل عمران: 159 ]. ومنه قول النسوة لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ومعنى الغلظ خشونة الجانب. فهي ضد قوله تعالى: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " (4) [ الشعراء: 215 ]. " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " (5) [ الاسراء: 24 ]. وهذه الآية نسخت كل شئ من العفو والصلح والصفح. قوله تعالى: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الارض من ولى ولا نصير (74) (1) أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنى بعد الضرب. وقيل: أراد لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد فإن زنى الاماء لم يكن عند العرب مكروها ولا منكرا فأمرهم بحد الاماء كما أمرهم بحد الحرائر. (نهاية ابن الاثير). (2) راجع ج 4 ص 248. (3) روى البخاري ومسلم هذا الحديث في " باب مناقب عمر رضى الله عنه " قالا: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش بكلمته يستكثرنه عالية أصواتهم على صوته فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر: أضحك الله سنك يارسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب " فقال عمر: أنت أحق أن يهبن يارسول الله. ثم قال عمر: ياعدوات أنفسهم أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقلن: نعم ! أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إيها يابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ". (4) راجع ج 13 ص 134. (5) راجع ج 10 ص 236. (*)
[ 206 ]
فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا) روى أن هذه الآية نزلت في الجلاس ابن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت، وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير. فقال له عامر ابن قيس: أجل ! والله إن محمدا لصادق مصدق، وإنك لشر من حمار. وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب. وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا، فنزلت. وقيل: إن الذي سمعه عاصم بن عدي. وقيل حذيفة. وقيل: بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد، فيما قال ابن إسحاق. وقال غيره: اسمه مصعب. فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره، ففيه نزل: " وهموا بما لم ينالوا ". قال مجاهد: وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك. قال، ذلك هي الاشارة بقوله، " وهموا بما لم ينالوا ". وقيل: إنها نزلت في عبد الله بن أبي، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة، وكانت جهينة حلفاء الانصار، فعلا الغفاري الجهني. فقال ابن أبي: يا بني الاوس والخزرج، انصروا أخاكم ! فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: " سمن كلبك يأكلك "، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله، قاله قتادة. وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين، قاله الحسن. ابن العربي: وهو الصحيح، لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي. الثانية - قوله تعالى: (ولقد قالوا كلمة الكفر) قال النقاش: تكذيبهم بما وعد الله من الفتح. وقيل: " كلمة الكفر " قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير. وقول عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل. قال القشيري: كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الاسلام. (وكفروا
[ 207 ]
بعد إسلامهم) أي بعد الحكم بإسلامهم. فدل هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " (1) [ المنافقون: 3 ] دليل قاطع. ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة، وإن كان الايمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الاقوال والافعال إلا في الصلاة. قال إسحاق ابن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شئ لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع، لانهم بأجمعهم قالوا: من عرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة. ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالايمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل دلك. الثالثة - قوله تعالى: (وهموا بما لم ينالوا) يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا. قال حذيفة: سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم كلهم. فقلت: ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال: (أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم لله بالدبيلة). قيل: يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال: (شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه). فكان كذلك. خرجه مسلم بمعناه. وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه. وقد تقدم قول مجاهد في هذا. الرابعة - قوله تعالى: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) أي ليس ينقمون شيئا، كما قال النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب ويقال: نقم ينقم، ونقم ينقم، قال الشاعر [ في الكسر ] (2): ما نقموا من بني أمية إلا * أنهم يحلمون إن غضبوا وقال زهير: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر * ليوم الحساب أو يعجل فينقم (1) راجع ج 18 ص 124. (2) من ب وج وك. (*)
[ 208 ]
ينشد بكسر القاف وفتحها. قال الشعبي: كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا. ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا. ويقال: إن القتيل كان مولى الجلاس. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. وهذا المثل مشهور (اتق شر من أحسنت إليه). قال القشيري أبو نصر: قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه ؟ قال نعم، " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ". الخامسة - قوله تعالى: (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب. فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الايمان، وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق. وقد اختلف في ذلك العلماء، فقال الشافعي: تقبل توبته. وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف، لانه كان يظهر الايمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول: أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر، فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه. فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته، وهو المراد بالآية. والله أعلم. السادسة - قوله تعالى: (وإن يتولوا) أي يعرضوا عن الايمان والتوبة (يعذبهم الله عذابا أليما) في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. (وما لهم في الارض من ولي) أي مانع يمنعهم (ولا نصير) أي معين. وقد تقدم (1). قوله تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن آتنا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (77) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب (78) (1) راجع ج 1 ص 380. (*)
[ 209 ]
فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله) قال قتاده: هذا رجل من الانصار قال: لئن رزقني الله شيئا لاؤدين فيه (1) حقه ولاتصدقن، فلما آتاه الله ذلك فعل ما نص عليكم، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور. وروى علي بن يزيد (2) عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الانصاري (فسماه) قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا. فقال عليه السلام (ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه) ثم عاود ثانيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما ترضي أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت) فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لاعطين كل ذي حق حقه. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فأتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ويح ثعلبة) ثلاثا. ثم نزل " خذ من أموالهم صدقة " [ التوبة: 103 ]. فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، وقال لهما: (مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما) فأتيا ثعلبة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا أخت (3) الجزية ! انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا. الحديث، وهو مشهور. وقيل: سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له. قال ابن عبد البر: قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه " ومنهم من عاهد الله " الآية، إذ منع الزكاة، فالله أعلم. وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية: " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم " الآية. قلت: وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس (4) من مجالس الانصار: إن سلم ذلك لاتصدقن منه ولاصلن منه. فلما سلم بخل بذلك فنزلت. (1) في ع: منه وفي ه‍: لله حقه. (2) كذا في ب وج وع وك وفي ا: زيد كلاهما روى عن القاسم. (3) في ع: ما هذه إلا جزية - ما هذه إلا أخت الجزية. وفي ج: أخية الجزية. (4) في ج وع: مجلسين. (*)
[ 210 ]
قلت: وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالايمان، حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة (1) فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير. قلت: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم، إلا أن قوله " فأعقبهم نفاقا " يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: " إلى يوم يلقونه " على ما يأتي. الثانية - قال علماؤنا: لما قال الله تعالى: " ومنهم من عاهد الله " احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه. واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة، فإن الاعمال بخواتيمها والايام بعواقبها. و " من " رفع بالابتداء والخبر في المجرور. ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين الاولى للقسم والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد. ومنهم من قال: إنهما لا ما القسم، والاول أظهر، والله أعلم. الثالثة - العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به، قاله علماؤنا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا. ابن العربي: والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال: يلزمه، كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه. قال ابن العربي: وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال: عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية. أصله الايمان والكفر. (1) يلاحظ أن الذي سيذكره المؤلف في أول سورة الممتحنة إنما هو حاطب بن أبي بلتعة لا ثعلبة بن حاطب. (*)
[ 211 ]
قلت: وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم إن رجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به. قال أبو عمر: ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشئ. هذا هو الاشهر عن مالك. وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه، كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه. والاول أصح في النظر وطريق الاثر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تجاوز الله لامتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد). الرابعة - إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية. وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق. بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة، فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لاداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة. نعوذ بالله من ذلك. قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: (إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عزوجل من أمنيته) أي من عاقبتها، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغي فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى، لان أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها. وأما تمني أمور الدين والاخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها. الخامسة - قوله تعالى: (لئن آتانا من فضله لنصدقن) دليل على أن من قال: إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه، وبه قال أبو حنيفة: وقال الشافعي: لا يلزمه. والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق. وقال أحمد بن حنبل: يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق، لان العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر، بخلاف الطلاق فإنه
[ 212 ]
تصرف في محل، وهو لا يثبت في الذمة. احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك) لفظ الترمذي. وقال: وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن، وهو أحسن شئ روي في هذا الباب. وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. ابن العربي: وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شئ فلا يعول عليها، ولم يبق إلا ظاهر الآية. السادسة - قوله تعالى: (فلما آتاهم من فضله) أي أعطاهم. (بخلوا به) أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وقد مضى البخل في [ آل عمران ] (1). (وتولوا) أي عن طاعة الله. (وهم معرضون) أي عن الاسلام، أي مظهرون للاعراض عنه. السابعة - قوله تعالى: (فأعقبهم نفاقا) مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم. وقيل: أي أعقبهم البخل نفاقا، ولهذا قال: " بخلوا به ". (إلى يوم يلقونه) في موضع خفض، أي يلقون بخلهم أي جزاء بخلهم كما يقال: أنت تلقى غدا عملك. وقيل: (إلى يوم يلقونه) أي يلقون الله. وفي هذا دليل على أنه مات منافقا. وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب لان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها. (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك. الثامنة - قوله تعالى: " نفاقا " النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر. فأما إذا كان في الاعمال فهو معصية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا (1) راجع ج 4 ص 290. (*)
[ 213 ]
ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) خرجه البخاري. وقد مضى في [ البقرة ] اشتقاق هذه الكلمة (1)، فلا معنى لاعادتها. واختلف الناس في تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به، وينتظر الامانة للخيانة فيها. وتعلقوا بحديث ضعيف الاسناد، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ثقيلان (2) فقال علي: مالي أراكما ثقيلين ؟ (2) قالا حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنافقين (إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف) فقال علي: أفلا سألتماه ؟ فقالا: هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكني سأسأله، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان، ثم ذكر ما قالاه، فقال: (قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا ائتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون) ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له [ تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين (3) ]. وقالت طائفة: ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه فقلنا: يا رسول الله، إنك قلت (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلي وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق) فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عزوجل " إذا جاءك المنافقون... " [ المنافقون: 1 ] - الآية - أفأنتم (1) راجع ج 1 ص 178، 198. (2) في ع: يبكيان - تبكيان - يبكيان. (3) من ع. (*)
[ 214 ]
كذلك ؟ قلنا: لا. قال: (لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) - الآيات الثلاث - (أفأنتم كذلك) ؟ قلنا لا، والله لو عاهدنا الله على شئ أو فينا به. قال: (لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي " إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال " (1) [ الاحزاب: 72 ] - الآية - (فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية [ والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية ] أفأنتم كذلك) ؟ قلنا لا قال: (لا عليكم أنتم من ذلك براء). وإلى هذا صار كثير من التابعين والائمة. قالت طائفة: هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال. ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة. قال ابن العربي: والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد. قال علماؤنا: إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين. قال عطاء بن أبي رباح: قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء (2). وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: النفاق نفاقان، نفاق الكذب ونفاق العمل، فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة. وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الايمان. قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) هذا توبيخ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم. قوله تعالى: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (79) (1) راجع ج 13 ص. (2) الصحيح أنهم ليسوا أنبياء لان عملهم مناف للعصمة. (*)
[ 215 ]
قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) هذا أيضا من صفات المنافقين. قال قتادة: " يلمزون " يعيبون. قال: وذلك أن عبد الرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف. فقال قوم: ما أعظم رياءه، فأنزل الله: " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ". وجاء رجل من الانصار بنصف صبرة (1) من تمره فقالوا: ما أغنى الله عن هذا، فأنزل الله عزوجل " والذين لا يجدون إلا جهدهم " الآية. وخرج مسلم عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة - قال: كنا نحامل (2)، في رواية: على ظهورنا - قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع. قال: وجاء إنسان بشئ أكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء: فنزلت " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ". يعني أبا عقيل، واسمه الحبحاب. والجهد: شئ قليل يعيش به المقل. والجهد والجهد بمعنى واحد. وقد تقدم (3). و " يلمزون " يعيبون. وقد تقدم. و " المطوعين " أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء، وهم الذين يفعلون الشئ تبرعا من غير أن يجب عليهم. " والذين " في موضع خفض عطف على " المؤمنين ". ولا يجوز أن يكون عطفا على الاسم قبل تمامه. " فيسخرون " عطف على " يلمزون ". " سخر الله منهم " خبر الابتداء، وهو دعاء عليهم. وقال ابن عباس: هو خبر، أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار. ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم. وقد تقدم في " البقرة " (4). قوله تعالى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدى القوم الفاسقين (80) (1) الصبرة (بالضم): ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن بعضه فوق بعض. (2) معناه: نحمل الحمل على ظهورنا بالاجرة وتتصدق من تلك الاجرة أو تتصدق بها كلها. (3) راجع ج 7 ص 62 (4) راجع ج 3 ص 29. (*)
[ 216 ]
قوله تعالى: " استغفر لهم " يأتي بيانه عند قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا). قوله تعالى: فرح المخلفون بمقعد هم خلف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأمو الهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لم كانوا يفقهون (81) قوله تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم) أي بقعودهم. قعد قعودا ومقعدا، أي جلس. وأقعده غيره، عن الجوهري. والمخلف المتروك، أي خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد، قولان، وكان هذا في غزوة تبوك. (خلاف رسول الله) مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا. والخلاف المخالفة. ومن قرأ " خلف رسول الله " أراد التأخر عن الجهاد. (وقالوا لا تنفروا في الحر) أي قال بعضهم لبعض ذلك. (قل نار جهنم) أي قل لهم يا محمد نار جهنم. (أشد حرا لو كانوا يفقهون) ابتداء وخبر. " حرا " نصب على البيان، أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار. قوله تعالى: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (115) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " فليضحكوا قليلا " أمر، معناه معنى التهديد وليس أمرا بالضحك. والاصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها. قال الحسن: " فليضحكوا قليلا " في الدنيا " وليبكوا كثيرا " في جهنم. وقيل: هو أمر بمعنى الخبر. أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا. " جزاء " مفعول من أجله، أي للجزاء.
[ 217 ]
الثانية - من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا. قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات (1) تجأرون إلى الله تعالى لوددت (2) أني كنت شجرة تعضد) خرجه الترمذي. وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك. وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون، إلا أن الاكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة. وفي الخبر: (أن كثرته تميت القلب) وأما البكاء من خوف الله و [ عذابه وشدة ] (3) عقابه فمحمود، قال عليه السلام: (ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كإنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت) خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا. قوله تعالى: فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين (83) قوله تعالى: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) أي المنافقين. وإنما قال: " إلى طائفة " لان جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا عنهم وتاب عليهم، كالثلاثة الذين خلفوا. وسيأتي. (فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا) أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا. وهو كما قال في " سورة الفتح ": " قل لن تتبعونا " (4) [ الفتح: 15 ]. و " الخالفين " جمع خالف، كأنهم خلفوا الخارجين. قال ابن عباس: (1) الصعدات: هي الطرق وهي جمع صعد وصعد جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات. وقيل: هي لجمع صعدة كظلمة وهي فناء باب الدار وممر الناس بين يديه. (2) قال الترمذي: ويروي من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال: لوددت أني كنت شجرة تعضد. (3) من ج وع وك وه‍. (4) راجع ج 16 ص 270 فما بعد. (*)
[ 218 ]
" الخالفين " من تخلف من المنافقين. وقال الحسن: مع النساء والضعفاء من الرجال، فغلب المذكر. وقيل: المعنى فأقعدوا مع الفاسدين، من قولهم فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم، من خلوف فم الصائم. ومن قولك: خلف اللبن، أي فسد بطول المكث في السقاء، فعلى هذا يعني فاقعدوا مع الفاسدين. وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز. قوله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84) فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى - روي أن هذه الاية نزلت في شأن عبد الله بن أبي سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه. ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما. وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك. وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " الآية، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه. والروايات الثابتة على خلاف هذا، ففي البخاري عن ابن عباس قال: فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من [ براءة ] " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " ونحوه عن ابن عمر، خرجه مسلم. قال ابن عمر: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما خيرني الله تعالى فقال: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة " [ التوبة: 80 ] وسأزيد على
[ 219 ]
سبعين) قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزوجل " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره " فترك الصلاة عليهم. وقال بعض العلماء: إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه. ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه. الثانية - إن قال قائل فكيف قال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه، ولم يكن تقدم نهى عن الصلاة عليهم. قيل له: يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الالهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل على مراده، كما قال: وافقت ربي في ثلاث. وجاء: في أربع. وقد تقدم في البقرة (1). فيكون هذا من ذلك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " [ التوبة: 80 ] الآية. لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم. والله أعلم. قلت: ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا (2) للمشركين " [ التوبة: 113 ] لانها نزلت بمكة. وسيأتي القول فيها. الثالثة - قوله تعالى: (استغفر لهم) الآية. بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار. قال القشيري: ولم يثبت ما يروى أنه قال: (لازيدن على السبعين). قلت: وهذا خلاف ما ثبت في حديث ابن عمر (وسأزيد على السبعين) وفي حديث ابن عباس (لو أعلم أنى إن زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها). قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه البخاري. الرابعة - واختلف العلماء في تأويل قوله: (استغفر لهم) هل هو إياس وتخيير فقالت طائفة: المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى: (فلن يغفر الله لهم). وذكر السبعين وفاق جرى أو هو عادتهم في العبارة عن الكثير والاغياء. فإذا قال قائلهم: لا أكلمه (1) راجع ج 2 ص 113. (2) راجع ص 272 من هذا الجزء. (*)
[ 220 ]
سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله: لا أكلمه أبدا. ومثله في الاغياء قوله تعالى: (في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا) (1)، وقوله عليه السلام: (من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا). وقالت طائفة: هو تخيير - منهم الحسن وقتادة وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر. ولهذا لما أراد أن يصلى على ابن أبي قال عمر: أتصلى على عدو الله القائل يوم كذا كذا وكذا ؟. فقال: (إني خيرت فاخترت). قالوا: ثم نسخ هذا لما نزل (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم (2)). (ذلك بأنهم كفروا) أي لا يغفر الله لهم لكفرهم. الخامسة - قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن تستغفروا للمشركين) الآية. وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب، على ما يأتي بيانه. وهذا يفهم منه النهى عن الاستغفار لمن مات كافرا. وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله: (انما خيرني الله) وهذا مشكل. فقيل: إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الاجابة حتى تحصل له المغفرة. وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لامه فلم يأذن له فيه. وأما الاستغفار للمنافقين الذى خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع وغايته تطييب قلوب بعض الاحياء من قرابات المستغفر له. والله أعلم. السادسة - واختلف في أعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله، فقيل: إنما أعطاه لان عبد الله كان قد أعطي العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر. وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبد الله، لتقاربهما في طول القامة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها، وقيل: إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه. والاول أصح، خرجه البخاري عن جابر (1) راجع ج 18 ص 268 فما بعد. (2) راجع ج 18 ص 128. (*)
[ 221 ]
ابن عبد الله قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فطلب (1) النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لارجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي ]. كذا في بعض الروايات (من قومي) يريد من منافقي العرب. والصحيح أنه قال: (رجال من قومه). ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير: فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج. السابعة - لما قال تعالى: " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " قال علماؤنا: هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين. واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين. يؤخذ لانه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى: " إنهم كفروا بالله ورسوله " فإذا زال الكفر وجبت الصلاة. ويكون هذا نحو قوله تعالى: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " (2) [ المطففين: 15 ] يعني الكفار، فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون، فذلك مثله. والله أعلم. أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية، وهي الاحاديث الواردة في الباب، والاجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه. روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه) قال: فقمنا فصففنا (3) صفين، يعني النجاشي. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلي وكبر أربع تكبيرات. وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا. والحمد لله. وأتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم، وإلا في أهل البدع والبغاة. (1) في نسخ الاصل: (فنظر). (2) راجع ج 19 ص 257. (3) في ع: فصلينا. (*)
[ 222 ]
الثامنة - والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع. قال ابن سيرين: كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة. وقالت طائفة: يكبر خمسا، وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم. وعن علي: ست تكبيرات. وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد: ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع. روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم). التاسعة - ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة. وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة، لقوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) حملا له على عمومه. وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة. وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الاولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثا، والتسليم عند الآخرة. وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر، ثم تقرأ بأم القرآن، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت. ولا يقرأ إلا في التكبيرة الاولى ثم يسلم. قال شيخنا أبو العباس: وهذان الحديثان صحيحان، وهما ملحقان عند الاصوليين بالمسند. والعمل على حديث أبي أمامة أولى، إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام: (لا صلاة) وبين إخلاص الدعاء للميت. وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء. والله أعلم. العاشرة - وسنة الامام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ؟ قال: نعم. ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها.
[ 223 ]
الحادية عشرة - قوله تعالى: " ولا تقم على قبره " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت، على ما بيناه [ في التذكرة ] والحمد لله. قوله تعالى: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85) كرره تأكيدا. وقد تقدم الكلام فيه. قوله تعالى: وإذا أنزلت سورة أن تؤمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (86) انتدب (1) المؤمنون إلى الاجابة وتعلل المنافقون. فالامر للمؤمنين باستدامة الايمان وللمنافقين بابتداء الايمان. و " أن " في موضع نصب، أي بأن آمنوا. و " الطول " الغني، وقد تقدم (2). وخصهم بالذكر لان من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لانه معذور. " (وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) أي العاجزين عن الخروج. قوله تعالى: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (87) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (88) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم (89) قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) " الخوالف " جمع خالفة، أي مع النساء والصبيان وأصحاب الاعذار من الرجال. وقد يقال للرجل: خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب، على ما تقدم. يقال: فلان خالفة أهله إذا كان دونهم. قال النحاس: (1) انتدب: أسرع. (2) راجع ج 5 ص 136. (*)
[ 224 ]
وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه. وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه، ومنه فلان خلف سوء، إلا أن فواعل جمع فاعلة. ولا يجمع (فاعل) صفة على فواعل إلا في الشعر، إلا في حرفين، وهما فارس وهالك. وقوله تعالى في وصف المجاهدين: " وأولئك لهم الخيرات " قيل: النساء الحسان، عن الحسن. دليله قوله عزوجل: " فيهن خيرات حسان " (1) [ الرحمن: 70 ]. ويقال: هي خيرة النساء. والاصل خيرة فخفف، مثل هينة وهينة. وقيل: جمع خير. فالمعنى لهم منافع الدارين وقد تقدم معنى الفلاح (2). والجنات: والبساتين. وقد تقدم (2) أيضا. قوله تعالى: وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم (90) قوله تعالى: " وجاء المعذرون من الاعراب " قرأ الاعرج والضحاك " المعذرون " مخففا. ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقرأ " وجاء المعذرون " مخففة، من أعذر. ويقول: والله لهكذا أنزلت. قال النحاس: إلا أن مدارها عن الكلبي، وهي من أعذر، ومنه قد أعذر من أنذر، أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك. وأما " المعذرون " بالتشديد ففيه قولان: أحدهما أنه يكون المحق، فهو في المعنى المعتذر، لان له عذرا. فيكون " المعذرون " على هذه أصله المعتذرون، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين، كما قرئ " يخصمون " (3) [ يس: 49 ] بفتح الخاء. ويجوز " المعذرون " بكسر العين لاجتماع الساكنين. ويجوز ضمها اتباعا للميم. ذكره الجوهري والنحاس. إلا أن النحاس حكاه عن الاخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد. ويجوز أن يكون الاصل المعتذرون، ثم أدغمت التاء في الذال، ويكونون الذين لهم عذر. قال لبيد: إلى الحول ثم آسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (1) راجع ج 17 ص 186. (2) راجع ج 1 ص 182، 239. (3) راجع ج 15 ص 36 فما بعد. (*)
[ 225 ]
والقول الآخر أن المعذر قد يكون غير محق، وهو الذي يعتذر ولا عذر له. قال الجوهري: فهو المعذر على جهة المفعل، لانه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر. قال غيره: يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا، أي قصر ولم يبالغ فيه. والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقول: لعن الله المعذرين. كأن الامر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر. النحاس: قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الاصل فيه المعتذرين، ولا يجوز الادغام فيقع اللبس. ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الادغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه، [ بعد ] (1) أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم، قال: لانهم جاءوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال النحاس: وأصل المعذرة والاعذار والتعذير من شئ واحد وهو مما يصعب ويتعذر. وقول العرب: من عذيري من فلان، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به، [ فمن يعذرني ] إن عاقبته. فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: يا رسول الله، لو غزونا معك أغارت أعراب طئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى قراءة التشديد في القول الثاني، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم، لعلمه أنهم غير محقين، والله أعلم. وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال: " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " والمراد بكذبهم قولهم: إنا مؤمنون. و " ليؤذن " نصب بلام كي. قوله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا ما اتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (92) (1) من ك وه‍ وى. (*)
[ 226 ]
فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ليس على الضعفاء " الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شئ سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال، ونظير هذه الآية قوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (1) [ البقرة: 286 ] وقوله: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض (2) حرج " [ النور: 61 ]. وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد تركتم بالمدينة (3) أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه). قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال: (حبسهم العذر). فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون، فقال: ليس على هؤلاء حرج. (إذا نصحوا لله ورسوله) إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء: فعذر الحق سبحانه أصحاب الاعذار، وما صبرت القلوب، فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الاخرى فضرب اليد الاخرى فأمسكه بصدره وقرأ " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " (4) [ آل عمران: 144 ]. هذه عزائم القوم. والحق يقول: " ليس على الاعمى حرج " [ النور: 61 ] وهو في الاول. " ولا على الاعرج حرج " [ النور: 61 ] وعمرو بن الجموح من نقباء الانصار أعرج وهو في أول الجيش. قال له الرسول عليه السلام: (إن الله قد عذرك) فقال: والله لاحفرن (5) بعرجتي هذه في الجنة، إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم. وقال عبد الله بن مسعود: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى (6) بين الرجلين حتى يقام في الصف. (1) راجع ج 3 ص 424 فما بعد. (2) راجع ج 12 ص 311 فما بعد. (3) في ه‍ وك وى: بعدكم. (4) راجع ج 4 ص 221. (5) يقال: حفر الطريق إذا أثر فيها بمشيه عليها. (6) أي يمشى بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله. (*)
[ 227 ]
الثانية - قوله تعالى: " إذا نصحوا " النصح إخلاص العمل من الغش. ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشئ إذا خلص. ونصح له القول أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) ثلاثا. قلنا لمن ؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم ". قال العلماء: النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الالوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم. وكذا النصح لكتاب الله: قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به. والنصح لائمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم. والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم. وفي الحديث الصحيح (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). الثالثة - قوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) " من سبيل " في موضع رفع اسم " ما " أي من طريق إلى العقوبة. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن. ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه: إنه لا دية له (1)، لانه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه. وقال أبو حنيفة: تلزمه الدية. وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تلزمه لمالكه القيمة. قال ابن العربي: وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها. (1) في ه‍: عليه. (*)
[ 228 ]
الرابعة - قوله تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية. وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو. وقيل: نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم (1). بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبد البر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم. وقد قيل: إنهم شهدوا الخندق كلهم. وقيل: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، وهم البكاءون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم، فلم يجد ما يحملهم عليه، ف‍ " - تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون " فسموا البكائين. وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة. وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار. وعمرو بن الحمام من بني سلمة. وعبد الله بن المغفل المزني، وقيل: بل هو عبد الله بن عمرو المزني. وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له. وفيهم اختلاف. قال القشيري: معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الانصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد الله بن مغفل وآخر. قالوا: يا نبي الله، قد ندبتنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك. فقال: " لا أجد ما أحملكم عليه " فتولوا وهم يبكون. وقال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق. وقال الحسن: نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه، ووافق ذلك منه غضبا فقال: " والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه " فتولوا يبكون، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذودا (2). فقال أبو موسى: (1) لم يذكر المؤلف غير خمسة. والذي في القاموس (مادة قرن): (وعبد الله وعبد الرحمن وعقيل ومعقل والنعمان وسويد وسنان أولاد مقرن كمحدث صحابيون). (2) الذود من الابل: ما بين الثلاث إلى العشر وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها والكثير أذواد. (*)
[ 229 ]
ألست حلفت يا رسول الله ؟ فقال: (إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني). قلت: وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه. وفي مسلم: فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى (1)... الحديث. وفي آخره: (فانطلقوا فإنما حملكم الله). وقال الحسن أيضا وبكر بن عبد الله: نزلت في عبد الله بن مغفل المزني، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله. قال الجرجاني: التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت لا أجد. فهو مبتدأ معطوف (2) على ما قبله بغير واو، والجواب " تولوا ". (وأعينهم تفيض من الدمع) الجملة في موضع نصب على الحال. " حزنا " مصدر. " ألا يجدوا " نصب بأن. وقال النحاس: قال الفراء يجوز أن لا يجدون، يجعل لا بمعنى ليس. وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون. الخامسة - والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه. وقال علماؤنا: إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لان حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد. والله أعلم. السادسة - في قوله تعالى: " وأعينهم تفيض من الدمع " ما يستدل به على قرائن الاحوال. ثم منها ما يفيد العلم الضروري، ومنها ما يحتمل الترديد. فالاول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت (3) الاصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور، فيعلم أنه قد مات. وأما الثاني فكدموع الايتام على أبو اب الحكام، قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام: " وجاءوا أباهم عشاء يبكون " (4) [ يوسف: 16 ]. وهم الكاذبون، قال الله تعالى مخبرا عنهم: " وجاءوا على قميصه بدم كذب " [ يوسف: 18 ]. (1) أي بيض الاسنمة فإن (الغر) جمع الاغر وهو الابيض. والذرى: جمع ذروة وذروة كل شئ أعلاه. (2) في ج وك: منسوق. (3) السلق: شدة الصوت. (4) راجع ج 9 ص 144. (*)
[ 230 ]
ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبني عليها الشهادات بناء على ظواهر الاحوال وغالبها. وقال الشاعر: إذا أشتبكت دموع في خدود * تبين من بكى ممن تباكي وسيأتي هذا المعنى في " يوسف " مستوفى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: إنما السبيل على الذين يستئذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (93) قوله تعالى: (إنما السبيل) أي العقوبة والمأثم. (على الذين يستأذنوك وهم أغنياء) والمراد المنافقون. كرر ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم. قوله تعالى: يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (94) قوله تعالى: (يعتذرون إليكم) يعنى المنافقين. (لن نؤمن لكم) أي لن نصدقكم. (قد نبأنا الله من أخباركم) أي أخبرنا بسرائركم. (وسيرى الله عملكم) فيا تستأنفون. (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) أي يجازيكم بعملكم. وقد مضى هذا كله مستوفي. قوله تعالى سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم أنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون (95) قوله تعالى: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) أي من تبوك. والمحلوف عليه محذوف، أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج. (لتعرضوا عنهم) أي لتصفحوا عن
[ 231 ]
لومهم. وقال ابن عباس: أي لا تكلموا هم. وفي الخبر أنه قال عليه السلام لما قدم من تبوك: (ولا تجالسو هم ولا تكلموا هم). (أنهم رجس) أي عملهم رجس، والتقدير: إنهم ذوو رجس، أي عملهم قبيح. (ومأواهم جهنم) أي منزلهم ومكانهم. قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوي إليه شئ ليلا أو نهارا. وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا، على فعول، وإواء. ومنه قوله تعالى: " سآوي إلى جبل يعصمني من الماء " (1) [ هود: 43 ]. وآويته أنا إيواء. وأويته إذا أنزلته بك، فعلت وأفعلت، بمعنى، عن أبى زيد. ومأوي الابل " بكسر الواو " لغة في مأوى الابل خاصة، وهو شاذ. قوله تعالى: يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (96) حلف عبد الله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وطلب أن يرضي عنه. قوله تعالى: الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97) قوله تعالى: (الاعراب أشد كفرا ونفاقا) فيه مسألتان: الاولى - لما ذكر عزوجل أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا عنها من الاعراب، فقال كفر هم أشد. قال قتادة: لانهم أبعد عن معرفة السنن. وقيل: لانهم أقسى قلبا وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل، ولذلك قال الله تعالى في حقهم: (وأجدر) أي أخلق. (ألا يعلموا) " أن " في موضع نصب بحذف الباء، تقول: أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل، فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب‍ " - أن " وإن أتيت بالباء صلح ب‍ " - أن " وغيره، تقول: أنت جدير أن تقوم، وجدير بالقيام. ولو قلت: (1) راجع ج 9 ص 39. (*)
[ 232 ]
أنت جدير القيام كان خطأ. وإنما صلح مع " أن " لان أن يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف. (حدود ما أنزل الله) أي فرائض الشرع. وقيل: حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم. الثانية - ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة: أولها - لا حق لهم في الفئ والغنيمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث بريدة وفيه: " ثم ادعهم إلى التحول من دار هم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفئ شئ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ". وثانيها - إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجاز ها أبو حنيفة قال: لانها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا وهو الصحيح لما بيناه في (البقرة) (1). وقد وصف الله تعالى الاعراب هنا أوصافا ثلاثة: أحدها - بالكفر والنفاق. والثاني - بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر. والثالث - بالايمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والاول وذلك باطل. وقد مضى الكلام في هذا في (النساء) (2). وثالثها - أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة. وكره أبو مجلز إمامة الاعرابي. وقال مالك: لا يؤم وإن كان أقرأ هم. وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأى: الصلاة خلف الاعرابي جائزة. واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة. (1) راجع ج 3 ص 396. (2) راجع ج 5 ص 410 فما بعد. (*)
[ 233 ]
قوله تعالى: (أشد) أصله أشدد وقد تقدم. (كفرا) نصب على البيان. (ونفاقا) عطف عليه. (وأجدر) عطف على أشد ومعناه أخلق يقال: فلان جدير بكذا أي خليق به وأنت جدير أن تفعل كذا والجمع جدراء وجديرون وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء. فقوله: هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به. (ألا يعلموا) أي بألا يعلموا. والعرب: جيل من الناس والنسبة إليهم عربي بين العروبة وهم أهل الامصار. والاعراب منهم سكان البادية خاصة. وجاء في الشعر الفصيح أعاريب. والنسبة إلى الاعراب أعرابي لانه لا واحد له وليس الاعراب جمعا للعرب كما كان الانباط جمعا لنبط وإنما العرب اسم جنس. والعرب العاربة هم الخلص منهم وأخذ من لفظه وأكد به كقولك: ليل لائل. وربما قالوا: العرب العرباء. وتعرب أي تشبه بالعرب. وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا. والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص وكذلك المتعربة والعربية هي هذه اللغة. ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية وهو أبو اليمن كلهم. والعرب والعرب واحد مثل العجم والعجم. والعريب تصغير العرب قال الشاعر: ومكن الضباب طعام العريب * ولا تشتهيه نفوس العجم (1) إنما صغرهم تعظيما كما قال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب (2) كله عن الجوهري. وحكى القشيرى وجمع العربي العرب وجمع الاعرابي أعراب وأعاريب. والاعرابي إذا قيل له يا عربي فرح والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب. والمهاجرون والانصار عرب لا أعراب. وسميت العرب عربا لان ولد إسماعيل نشئوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها. وأقامت قريش بعربة وهي مكة وأنتشر سائر العرب في جزيرتها (1) البيت لعبد المؤمن بن عبد القدوس. والمكن: بيض الضبة والجرادة ونحوها. (2) الجذيل تصغير الجذل وهو أصل الشجرة. والمحكك: الذي تتحكك به الابل الجربي وهو عود يتصب في مبارك الابل لذلك. والعذيق: تصغير العذق وهو النخلة. والمرجب: الذي جعل له رجبة وهي دعامة تبنى حولها من الحجارة. وهو من قول الحباب بن المنذر بن الجموح الانصاري يوم السقيفة عند بيعة أبي بكر رضى الله عنه يريد أنه قد جربته الامور وله رأى وعلم يشتفى بهما كما تشفى الابل الجربي باحتكاكها بالجذل. (*)
[ 234 ]
قوله تعالى: ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم (98) قوله تعالى: (ومن الاعراب من يتخذ) " من " في موضع رفع بالابتداء. " ما ينفق مغرما " مفعولان، والتقدير ينفقه، فحذفت الهاء لطول الاسم. " مغرما " معناه غرما وخسرانا وأصله لزوم الشئ، ومنه: " إن عذابها كان غراما " [ الفرقان: 65 ] أي لازما، أي يرون ما ينفقونه في جهاد وصدقة غرما ولا يرجون عليه ثوابا. (ويتربص بكم الدوائر) التربص الانتظار، وقد تقدم (2). والدوائر جمع دائرة، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية، أي يجمعون إلى الجهل بالانفاق سوء الدخلة وخبث القلب. (عليهم دائرة السوء) قرأه ابن كثير وأبو عمرو بضم السين هنا وفي الفتح، وفتحها الباقون. وأجمعوا على فتح السين في قوله: " ما كان أبوك امرأ سوء " (3) [ مريم: 28 ]. والفرق بينهما أن السوء بالضم المكروه. قال الاخفش: أي عليهم دائرة الهزيمة والشر. وقال الفراء: أي عليهم دائرة العذاب والبلاء. قالا: ولا يجوز أمرأ سوء بالضم، كما لا يقال: هو أمرؤ عذاب ولا شر. وحكي عن محمد ابن يزيد قال: السوء بالفتح الرداءة. قال سيبويه: مررت برجل صدق، ومعناه برجل صلاح. وليس من صدق اللسان، ولو كان من صدق اللسان لما قلت: مررت بثوب صدق. ومررت برجل سوء ليس هو من سؤته، وإنما معناه مررت برجل فساد. وقال الفراء: السوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية. قال غيره: والفعل منه ساء يسوء. والسوء بالضم اسم لا مصدر، وهو كقولك: عليهم دائرة البلاء والمكروه. قوله تعالى: ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99) (1) راجع ج 13 ص (2) راجع ج 3 ص 108. (3) راجع ج 11 ص 99. (*)
[ 235 ]
قوله تعالى: " ومن الاعراب من يؤمن بالله " أي صدق. والمراد بنو مقرن من مزينة، ذكره المهدوي. " قربات " جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى، والجمع قرب وقربات وقربات وقربات، حكاه النحاس. والقربات (بالضم) ما تقرب به إلى الله تعالى، تقول منه: قربت لله قربانا. والقربة بكسر القاف ما يستقي فيه الماء، والجمع في أدنى العدد قربات وقربات وقربات، وللكثير قرب. وكذلك جمع كل ما كان على فعلة، مثل سدرة وفقرة، لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن، حكاها الجوهري. وقرأ نافع في رواية ورش " قربة " بضم الراء وهي الاصل. والباقون بسكونها تخفيفا، مثل كتب ورسل، ولا خلاف في قربات. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ " ألا إنها قربة لهم ". ومعنى " وصلوات الرسول " استغفاره ودعاؤه. والصلاة تقع على ضروب، فالصلاة من الله عزوجل الرحمة والخير والبركة، قال الله تعالى: " هو الذي يصلي عليكم وملائكته " (1) [ الاحزاب: 43 ] والصلاة من الملائكة الدعاء، وكذلك هي من النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال: " وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " [ التوبة: 103 ] أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة. (ألا إنها قربة لهم) أي تقربهم من رحمة الله، يعني نفقاتهم. قوله تعالى: والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (100) فيه سبع مسائل: الاولى - لما ذكر عزوجل أصناف الاعراب ذكر المهاجرين والانصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم. وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم. ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى. وروى عمر ابن الخطاب أنه قرأ " والانصار " رفعا عطفا على السابقين. قال الاخفش: الخفض (1) راجع ج 14 ص (*)
[ 236 ]
في الانصار الوجه، لان السابقين منهما. والانصار اسم إسلامي. قيل لانس بن مالك: أرأيت قول الناس لكم: الانصار، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية ؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن، ذكره أبو عمر في الاستذكار. الثانية - نص القرآن على تفضيل السابقين الاولين من المهاجرين والانصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين، في قول سعيد بن المسيب وطائفة. وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وقاله الشعبي. وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار: هم أهل بدر. واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من [ المهاجرين ] (1) الاولين من غير خلاف بينهم. أما أفضلهم وهي: الثالثة - فقال أبو منصور البغدادي التميمي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الاربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. الرابعة - وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما ؟ قال أبو بكر، أو ما سمعت قول حسان: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقا ها وأعدلها * بعد النبي وأوفا ها بما حملا الثاني التالي المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون [ أنه ] (2) قال: أدركت أبي وشيخنا (3) محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الاخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر، وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر، وبه قال إبراهيم النخعي. وقيل: أول من أسلم علي، روي ذلك عن زيد ابن أرقم وأبي ذر والمقداد وغير هم. قال الحاكم أبو عبد الله: لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو (1) من ج. (2) من ب وج وك وى. (3) في ب وج وى: مشيختنا. (*)
[ 237 ]
ذلك عن الزهري. وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس. وقيل: أول من أسلم خديجة أم المؤمنين، روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة، وروي أيضا عن ابن عباس. وأدعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها. وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الاخبار، فكان يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال. والله أعلم. وذكر محمد بن سعد قال: أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الاسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا. قال الليث بن سعد وحدثني أبو الاسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين. وروي إن عليا أسلم ابن سبع سنين. وقيل: ابن عشر. الخامسة - والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه. قال البخاري في صحيحه: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه (1). وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة. السادسة - لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق. وقال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة وهو الايمان، والزمان، والمكان. وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الاولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعد هم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد). فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الامم بالزمان سبقناهم بالايمان والامتثال لامر الله تعالى والانقياد إليه، والاستسلام لامره والرضا (1) في ب وج وك وى: الصحابة. (*)
[ 238 ]
بتكليفه والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب، وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. السابعة - قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الاكرام. وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. واختلف (1) العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم، فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة. وكان عمر يقول له: أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له ؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وأجر هم عليه. وكان عمر يفضل في خلافته، ثم قال عند وفاته: لئن عشت إلى غد لالحقن أسفل الناس بأعلاهم، فمات من ليلته. والخلافة (2) إلى يومنا هذا على هذا الخلاف. قوله تعالى: (والذين اتبعوهم بإحسان) فيه مسألتان: الاولى - قرأ عمر " والانصار " رفعا. " الذين " بإسقاط الواو نعتا للانصار، فراجعه زيد ابن ثابت، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا، فرجع إليه عمر وقال: ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد. فقال أبي: [ إني أجد ] (3) مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة: " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " (4) [ الجمعة: 3 ] وفي سورة الحشر: " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان " (4) [ الحشر: 10 ]. وفي سورة الانفال بقوله: " والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم " (5) [ الانفال: 74 ]. فثبتت القراءة بالواو. وبين تعالى بقوله: " بإحسان " ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات، إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم. الثانية - واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم، فقال الخطيب الحافظ: التابعي من صحب الصحابي، ويقال للواحد منهم: تابع وتابعي. وكلام الحاكم أبي عبد الله وغيره (1) في ع: بعض العلماء. (2) كذا في ى. وفي ب وج وك وا وه‍: والخلاف. ولا يبدو له معنى. (3) من ع. (4) راجع ج 18 ص 92 وص 31. (5) راجع ج 8 ص 56. (*)
[ 239 ]
مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية. وقد قيل: إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح، لما ثبت أن عبد الرحمن بن عوف شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: (دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحد هم ولا نصيفه). ومن العجب عد الحاكم أبو عبد الله النعمان وسويدا ابني مقرن المزني في التابعين عندما ذكر الاخوة من التابعين، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة، وقد شهدا الخندق كما تقدم. والله أعلم. وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهم سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وخارجه بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله ابن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار. وقد نظمهم بعض الاجلة في بيت واحد فقال: فخذهم عبيد الله (1) عروة قاسم * سعيد أبو بكر (2) سليمان خارجه وقال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيب، فقيل له: فعلقمة والاسود. فقال: سعيد بن المسيب وعلقمة والاسود. وعنه أيضا أنه قال: أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق، هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين. وقال أيضا: كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أكثر الناس عنهم، وأبهم. وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال: سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبد الرحمن، وثالثهما - وليست كهما - أم الدرداء (3). وروي عن الحاكم أبي عبد الله قال: طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة، منهم إبراهيم بن سويد النخعي وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وبكير بن أبي السميط (4)، وبكير بن عبد الله الاشج. وذكر غيرهم قال: وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين. وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبد الله بن ذكوان لقي عبد الله بن عمر وأنسا. وهشام بن عروة، وقد أدخل على عبد الله بن عمر، (1) هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. (2) هو أبو بكر بن عبد الرحمن. كما في ج. (3) أم الدرداء الصغرى الدمشقية. (4) في التقريب: (السميط بفتح المهملة، ويقال بالضم). (*)
[ 240 ]
وجابر بن عبد الله وموسى بن عقبة، وقد أدرك أنس بن مالك. وأم خالد بنت خالد بن سعيد. وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرم، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الاودي، وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء، بطن من همدان، وعبد الرحمن بن مل. وأبو الحلال العتكي ربيعة (1) بن زرارة. وممن لم يذكره مسلم، منهم أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب، والاحنف بن قيس. فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم، رضوان الله عليهم أجمعين. وكفانا نحن قوله عزوجل: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " (2) [ آل عمران: 110 ] على ما تقدم، وقوله عزوجل: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " (3) [ البقرة: 143 ] الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددت أنا لو رأينا إخواننا...) (4). الحديث. فجعلنا إخوانه، إن اتقينا الله واقتفينا آثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق (5) محمد وآله. قوله تعالى: وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم (101) قوله تعالى (وممن حولكم من الاعراب منافقون) ابتداء وخبر. أي قوم منافقون، يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع. (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) أي قوم مردوا على النقاق. وقيل: " مردوا " من نعت المنافقين، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، المعنى. ومن حولكم من الاعراب منافقون مردوا على النقاق، ومن أهل المدينة مثل ذلك. ومعنى: " مردوا " أقاموا ولم يتوبوا، عن ابن زيد. وقال غيره: لجوا فيه وأبوا غيره، (1) في الميزان: ربيعة بن أبي الحلال. (2) راجع ج 4 ص 170. (3) راجع ج 2 ص 152. (4) رواية أحمد: (وددت أني لقيت إخواني..) ويروى: (رأيت..). (5) في ع: بجاه. (*)
[ 241 ]
والمعنى متقارب. وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد. فكأنهم تجردوا للنفاق. ومنه (1) رملة مرداء لا نبت فيها. وغصن أمرد لا ورق عليه. وفرس أمرد لا شعر على ثنته (2). وغلام أمرد بين المرد، ولا يقال: جارية مرداء. وتمريد البناء تمليسه، ومنه قوله: " صرح ممرد " (3) [ النمل: 44 ]. وتمريد الغصن تجريده من الورق، يقال: مرد (4) يمرد مرودا ومرادة. قوله تعالى: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) هو مثل قوله: " لا تعلمونهم الله يعلمهم " (5) [ الانفال: 60 ] على ما تقدم. وقيل: المعنى لا تعلم يا محمد عاقبة أمور هم وإنما نختص نحن بعلمها، وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار. قوله تعالى: (سنعذ بهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) قال ابن عباس: بالامراض في الدنيا وعذاب الآخرة. فمرض المؤمن كفارة، ومرض الكافر عقوبة. وقيل: العذاب الاول الفضيحة باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، على ما يأتي بيانه في المنافقين. والعذاب الثاني عذاب القبر. الحسن وقتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر. ابن زيد: الاول بالمصائب في أموالهم وأولاد هم، والثاني عذاب القبر. مجاهد: الجوع والقتل. الفراء: القتل وعذاب القبر. وقيل: السباء والقتل. وقيل: الاول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم، والثاني عذاب القبر. وقيل: أحد العذابين ما قال تعالى: " فلا تعجبك أموالهم - إلى قوله - إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " (5) [ التوبة: 55 ]. والغرض من الآية اتباع العذاب، أو تضعيف العذاب عليهم. قوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (102) أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لامر الله يحكم فيهم بما يريد. فالصنف الاول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل (1) في ج: ومثله. (2) الثنة: مؤخر الرسغ وهي شعرات مدلاة مشرفات من خلف. (3) راجع ج 13 ص (4) من باب نصر وكرم. (5) راجع ص 35 وص 164 من هذا الجزء. (*)
[ 242 ]
أنهم كانوا مؤمنين. وقال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة وقال: وفيهم نزل " خذ من أموالهم صدقة " [ التوبة: 103 ]، ذكره المهدوي. وقال زيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقيل: كانوا ستة. وقيل: خمسة. وقال مجاهد: نزلت الآية في أبي لبابة الانصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة، وذلك أنهم كلموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلقه. يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه، ونزلت هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله، ذكره الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في السيرة أوعب من هذا. وقال أشهب عن مالك: نزلت " وآخرون " في شأن أبي لبابة وأصحابه، وقال حين أصاب الذنب: يا رسول الله، أجاورك وأنخلع من مالي ؟ فقال: (يجزيك من ذلك الثلث وقد قال تعالى: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " [ التوبة 103 ] ورواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك. والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين) فأنزل الله هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم. فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا. فقال: (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا) فأنزل الله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة " [ التوبة: 103 ] الآية. قال ابن عباس: كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة، فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابو ها. فكان عملهم السئ التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة. واختلفوا في الصالح، فقال الطبري وغيره: الاعتراف والتوبة والندم. وقيل: عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وربطوا
[ 243 ]
أنفسهم بسواري المسجد وقالوا: لا نقرب أهلا ولا ولدا حتى ينزل الله عذرنا. وقالت فرقة: بل العمل الصالح غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة، فهي ترجى. ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الامة من قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ". وفي البخاري عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: (أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم: أذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا: أما القوم الذي كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم). وذكر البيهقي من حديث الربيع بن أنس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الاسراء وفيه قال: (ثم صعد بي إلى السماء...) ثم ذكر الحديث إلى أن ذكر صعوده إلى السماء السابعة فقالوا: (حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الاخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء فإذا برجل أشمط (1) جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شئ فأتوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شئ ثم إنهم أتوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شئ ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم فقال يا جبريل من هؤلاء بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شئ فدخلوا النهر وقد خلصت ألوانهم فقال هذا أبوك إبراهيم هو أول رجل شمط على وجه الارض وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم - قال - وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شئ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم. فأما النهر الاول فرحمة الله وأما النهر الثاني فنعمة الله. (1) الشمط: بياض شعر الرأس يخالط سواده. (*)
[ 244 ]
وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابا طهورا) وذكر الحديث. والواو في [ قوله ] (1): " وآخر سيئا " قيل: هي بمعنى الباء، وقيل: بمعنى مع، كقولك استوى الماء والخشبة. وأنكر ذلك الكوفيون وقالوا: لان الخشبة لا يجوز تقديمها على الماء، و " آخر " في الآية يجوز تقديمه على الاول، فهو بمنزلة خلطت الماء باللبن. قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم (103) فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) أختلف في هذه الصدقة المأمور بها، فقيل: هي صدقة الفرض، قاله جويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل: هو مخصوص بمن نزلت فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شئ، ولهذا قال مالك: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث، متمسكا بحديث أبي لبابة. وعلى القول الاول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته. وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق [ رضي الله عنه ] (2) وقالوا: إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره. ونظم في ذلك شاعرهم فقال: أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم * لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر سنمنعهم ما دام فينا بقية * كرام على الضراء في العسر واليسر وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: (والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة). ابن العربي: أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين، فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه، فمنها خطاب توجه إلى (1) من ع. (2) من ج وك وه‍. (*)
[ 245 ]
جميع الامة كقوله: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " (1) [ المائدة: 6 ] وقوله: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " (2) [ البقرة: 183 ] ونحوه. ومنها خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى كقوله: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " (3) [ الاسراء: 79 ] وقوله: " خالصة لك " [ الاحزاب: 50 ]. ومنها خطاب خص به لفظا وشركه جميع الامة معنى وفعلا، كقوله " أقم الصلاة لدلوك الشمس " (3) [ الاسراء: 78 ] الآية. وقوله: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " (4) [ النحل: 98 ] وقوله: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " (5) [ النساء: 102 ] فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة. وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة. وكذلك [ كل ] (6) من خاف يقيم الصلاة [ بتلك الصفة ]. ومن هذا القبيل قوله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ". وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: " يا أيها النبي اتق الله " (7) [ الاحزاب: 1 ] و " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " (8) [ الطلاق: 1 ]. الثانية - قوله تعالى: " من أموالهم " ذهب بعض العرب وهم دوس: إلى أن المال الثياب والمتاع والعروض. ولا تسمي العين مالا. وقد جاء هذا المعنى في السنة الثابتة من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الاموال الثياب والمتاع. الحديث. وذهب غيرهم إلى أن المال الصامت من الذهب والورق. وقيل: الابل خاصة، ومنه قولهم: المال الابل. وقيل: جميع الماشية. وذكر ابن الانباري عن أحمد بن يحيى [ ثعلب ] (9) النحوي قال: ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال، وأنشد: والله ما بلغت لي قط ماشية * حد الزكاة ولا إبل ولا مال قال أبو عمر: والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال، لقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلي أو تصدق (1) راجع ج 6 ص 80. (2) راجع ج 2 ص 272. (3) راجع ج 10 ص 302 فما بعد. (4) راجع ج 10 ص 174 فما بعد. (5) راجع ج 5 ص 363 فما بعد. (6) من ه‍. (7) راجع ج 14 ص. (8) راجع ج 18 ص 147. (9) من ج وه‍. (*)
[ 246 ]
فأمضي). وقال أبو قتادة: فأعطاني الدرع فابتعث به مخرفا (1) في بني سلمة، فإنه لاول مال تأثلته (2) في الاسلام. فمن حلف بصدقة ماله كله فذلك على كل نوع من ماله، سواء كان مما تجب فيه الزكاة أو لم يكن، إلا أن ينوي شيئا بعينه فيكون على ما نواه. وقد قيل: إن ذلك على أموال الزكاة. والعلم محيط واللسان شاهد بأن ما تملك يسمى مالا. والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة " مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه. وإنما بيان ذلك في السنة والاجماع. حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الاموال. وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في المواشي والحبوب والعين، وهذا ما لا خلاف فيه. واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض. وسيأتي ذكر الخيل (3) والعسل (3) في [ النحل ] إن شاء الله. روى الائمة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الابل صدقة). وقد مضى الكلام في [ الانعام ] (4) في زكاة الحبوب وما تنبته الارض مستوفي. وفي المعادن في [ البقرة ] (5) وفي الحلي في هذه السورة. وأجمع العلماء على أن الاوقية أربعون درهما، فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من فضة مضروبة - وهي الخمس أواق المنصوصة في الحديث - حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم. وإنما اشترط الحول لقوله عليه السلام: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول). أخرجه الترمذي. وما زاد على المائتي درهم من الورق فبحساب ذلك من كل شئ منه ربع عشره قل أو كثر، هذا قول مالك والليث والشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري والاوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحق وأبي عبيد. وروي ذلك عن علي وابن عمر. وقالت طائفة: لا شئ فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما، فإذا بلغتها (1) المخرف (بالفتح): القطعة الصغيرة من النخل ست أو سبع يشتريها الرجل للخرفة (للجنى). وقيل: هي جماعة النخل ما بلغت. (2) تأثل مالا: اكتسبه واتخذه وثمره. (3) راجع ج 10 ص 73 - وص 135 فما بعد. (4) راجع ج 7 ص 98 وما بعدها. (5) راجع ج 3 ص 321 وما بعدها. (*)
[ 247 ]
كان فيها درهم وذلك ربع عشرها. هذا قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والزهري ومكحول وعمرو بن دينار وأبي حنيفة. الرابعة - وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة، على حديث علي، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق، يحتمل أن يكون عنهما جميعا. وقال الباجي في المنتقى: وهذا الحديث ليس إسناده هناك، غير أن اتفاق العلماء على الاخذ به دليل على صحة حكمه، والله أعلم. وروي عن الحسن والثوري، وإليه مال بعض أصحاب داود بن علي على أن الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا. وهذا يرده حديث علي وحديث ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار، ومن الاربعين دينارا دينارا، على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر. الخامسة - اتفقت الامة على أن ما كان دون خمس ذود من الابل فلا زكاة فيه. فإذا بلغت خمسا ففيها شاة. والشاة تقع على واحدة من الغنم، والغنم الضأن والمعز جميعا. وهذا أيضا اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة، وهي فريضتها. وصدقة المواشي مبينة في الكتاب الذي كتبه الصديق لانس لما وجهه إلى البحرين، أخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وكله متفق عليه. والخلاف فيه في موضعين أحدهما في زكاة الابل، وهي إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة فقال مالك: المصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين (1). وقال ابن القاسم: وقال ابن شهاب: فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون. قال ابن القاسم: ورأيي على قول ابن شهاب. وذكر ابن حبيب أن عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد العزيز (1) ابن لبون: ولد الناقة إذا استكمل السنة الثانية. ودخل في الثالثة. والحق (بالكسر): الذى استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة. (*)
[ 248 ]
ابن أبي حازم وابن دينار يقولون بقول مالك. وأما الموضع الثاني فهو في صدقة الغنم، وهي إذا زادت على ثلثمائة شاة وشاة، فإن الحسن بن صالح بن حي قال: فيها أربع شياه. وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه، وهكذا كلما زادت، في كل مائة شاة. وروي عن إبراهيم النخعي مثله. وقال الجمهور: في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه، ثم لا شئ فيها إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه، ثم كلما زادت مائة ففيها شاة، إجماعا واتفاقا. قال ابن عبد البر: وهذه مسألة وهم فيها ابن المنذر، وحكى فيها عن العلماء الخطأ، وخلط وأكثر الغلط. السادسة - لم يذكر البخاري ولا مسلم في صحيحهما تفصيل زكاة البقر. وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني ومالك في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة. قال أبو عمر: وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه. وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس. وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات. ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم، والحسن مجتمع على ضعفه. وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس، ذكره عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر والثوري عن الاعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة (1)، ومن أربعين مسنة [، ومن كل حالم دينار ] (2) أو عدله معافر (3)، ذكره الدارقطني وأبو عيسى الترمذي وصححه. قال أبو عمر. ولا خلاف بين العلماء أن الزكاة في زكاة البقر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قال معاذ بن جبل: في ثلاثين بقرة تبيع، وفي أربعين مسنة إلا شئ روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة، فإنهم يوجبون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين. فهذه جملة من تفصيل الزكاة بأصولها وفروعها في كتب الفقه. ويأتي ذكر الخلطة في سورة [ ص ] (4) إن شاء الله تعالى. (1) التبيع، ولد البقرة في أول سنة. والمسن. ما أوفى سنتين ودخل في الثالثة. (2) زيادة عن صحيحي الدارقطني والترمذي. (3) المعافر: برود باليمن منسوبة إلى معافر وهي قبيلة باليمن. (4) راجع ج 15 ص 165. (*)
[ 249 ]
السابعة - قوله تعالى: " صدقة " مأخوذ من الصدق، إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات. " تطهرهم وتزكيهم بها " حالين للمخاطب، التقدير: خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها. ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة، أي صدقة مطهرة لهم مزكية، ويكون فاعل تزكيهم المخاطب، ويعود الضمير الذي في " بها " على الموصوف المنكر. وحكى النحاس ومكي أن " تطهرهم " من صفة الصدقة " وتزكيهم بها " حال من الضمير في " خذ " وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة، وذلك ضعيف لانها حال من نكرة. وقال الزجاج: والاجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف. ويجوز الجزم على جواب الامر، والمعنى: إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم، ومنه قول امرئ القيس: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * وقرأ الحسن تطهرهم " بسكون الطاء " وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته، مثل ظهر وأظهرته. الثامنة - قوله تعالى: (وصل عليهم) أصل في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة. روى مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صل عليهم) فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى). ذهب قوم إلى هذا، وذهب آخرون إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى: " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " [ التوبة: 84 ]. قالوا: فلا يجوز أن يصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده خاصة، لانه خص بذلك. واستدلوا بقوله تعالى: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " (1) [ النور: 63 ] الآية. وبأن عبد الله بن عباس كان يقول: لا يصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم. والاول أصح، فإن الخطاب ليس مقصورا عليه كما تقدم، ويأتي في الآية بعد هذا. فيجب الاقتداء برسول الله صلى الله (1) راجع ج 12 ص 322. (*)
[ 250 ]
عليه وسلم، والتأسي به، لانه كان يمتثل قوله: " وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " أي إذا دعوت لهم حين يأتون بصدقاتهم سكن ذلك قلوبهم وفرحوا به. وقد روى جابر ابن عبد الله قال: أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لامرأتي: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فقالت: يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندنا ولا نسأله شيئا ! فقالت: يا رسول الله، صل على زوجي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلى الله عليك وعلى زوجك). والصلاة هنا الرحمة والترحم. قال النحاس: وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء، ومنه الصلاة على الجنائز. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: " إن صلاتك " بالتوحيد. وجمع الباقون. وكذلك الاختلاف في " أصلاتك تأمرك " (1) [ هود: 87 ] وقرئ " سكن " بسكون الكاف. قال قتادة: معناه وقار لهم. والسكن: ما تسكن به النفوس وتطمئن به القلوب. قوله تعالى: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم (104) فيه مسألتان: الاولى - قيل: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالامس، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم الآن ؟ وما هذه الخاصة التي خصوا بها دوننا، فنزلت: " ألم يعلموا " فالضمير في " يعلموا " عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين. قال معناه ابن زيد. ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم. وقوله تعالى: " هو " تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الامور. وتحقيق ذلك أنه لو قال: إن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبول رسوله قبولا منه، فبينت (2) الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك. (1) راجع ج 9 ص 84 فما بعد. (2) في ب وه‍: فثبتت. وما أثبتناه من ا وج وع وى. (*)
[ 251 ]
الثانية - قوله تعالى: " ويأخذ الصدقات " هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له عزوجل، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عزوجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: " خذ من أموالهم صدقة " ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم: روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لاحد كم كما يربي أحد كم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " " ويمحق الله الربا ويربي الصدقات ". قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم: (لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه - في رواية - فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل) الحديث. وروي (إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه (1) أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء). قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الاحاديث: إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها، كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفا عليه بقوله: (يا بن آدم مرضت فلم تعدني) الحديث. وقد تقدم هذا المعنى في [ البقرة ]. وخص اليمين والكف [ بالذكر ] (2) إذ كل قابل لشئ إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه، فخرج على ما يعرفونه، والله عزوجل منزه عن الجارحة. وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة، كما قال الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين الجارحة، لان المجد معنى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى. وكذلك اليمين في حق الله تعالى. وقد قيل: إن معنى (تربو في كف الرحمن) عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الاعمال، فيكون من باب حذف المضاف، كأنه قال. فتربو كفة ميزان الرحمن. وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه (1) الفلو: ولد الفرس. (2) من ج وه‍. (*)
[ 252 ]
الاحاديث وما شابهها: أمرو ها بلا كيف، قال الترمذي وغيره. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. قوله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (105) قوله تعالى: (وقل اعملوا) خطاب للجميع. (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم. وفي الخبر: (لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان). قوله تعالى: وآخرون مرجون لامر الله إما يعذ بهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم (106) نزلت في الثلاثة الذين تيب عليهم: كعب بن مالك وهلال بن أمية من بنى واقف ومرارة بن الربيع، وقيل: ابن ربعي العمرى ذكره المهدوي. كانوا قد تخلفوا عن تبوك وكانوا مياسر، على ما يأتي من ذكر هم. والتقدير: ومنهم آخرون مرجون، من أرجأته أي أخرته. ومنه قيل: مرجئة، لانهم أخروا العمل. وقرأ حمزة والكسائي " مرجون " بغير همزة، فقيل: هو من أرجيته أي أخرته. وقال المبرد: لا يقال أرجيته بمعنى أخرته، ولكن يكون من الرجاء. " إما يعذ بهم وإما يتوب عليهم " " إما " في العربية لاحد أمرين، والله عز وجل عالم بمصير الاشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون، أي ليكن أمر هم عند كم على الرجاء لانه ليس للعباد أكثر من هذا. قوله تعالى: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107
[ 253 ]
فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: (الذين أتخذوا مسجدا) معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، عطف جملة على جملة. ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف كإنهم (1) " يعذبون " أو نحوه. ومن قرأ " الذين " بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر " لا تقم " التقدير: الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا، أي لا تقم في مسجد هم، قاله الكسائي. وقال النحاس: يكون خبر الابتداء " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " [ التوبة: 110 ]. وقيل: الخبر " يعذبون " كما تقدم. ونزلت الآية فيما روي في أبو عامر الراهب، لانه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعد هم قيصر أنه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير هم، وقد تقدمت قصته في الاعراف (2) وقال أهل التفسير: إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبر كة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لاتينا كم وصلينا لكم فيه) فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والاحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة، فقال: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه) فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه أثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف (1) من ع وه‍. (2) راجع ج 7 ص 320. (*)
[ 254 ]
ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الازعر، وعباد ابن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف. وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث، وبحزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وثعلبة ابن حاطب مذكور فيهم. قال أبو عمر بن عبد البر: وفيه نظر، لانه شهد بدرا. وقال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد ؟ فقال: أعنت فيه بسارية. فقال: أبشر بها ! سارية في عنقك من نار جهنم. الثانية - قوله تعالى: " ضرارا " مصدر مفعول من أجله. " وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا " عطف كله. وقال أهل التأويل: ضرارا بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنما هو لاهله. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه). قال بعض العلماء: الضرر: الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة. والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة. وقد قيل: هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد. الثالثة - قال علماؤنا: لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الاول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا. لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه. وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة (1) فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه، لانه بني على ضرار. قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه. وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلي في كنيسة ونحوها، لانها بنيت على شر. (1) كذا في ب وج وك. وفي ه‍: (بني عامرة). والذى في الطبري: (بنى عامر). (*)
[ 255 ]
قلت: هذا لا يلزم، لان الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا. وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة. وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل. وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم. الرابعة - قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلي وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجد هم، فقال: لا ولا نعمة عين ! أليس بإمام مسجد الضرار ! فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا (1) على جاهليتهم وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره عمر [ رضي الله عنهما ] (2) وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء. الخامسة - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال: (من بنى لله مسجدا ولو كمفحص (3) قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه ! بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الاقدم. وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير. وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضررا منع. فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر (1) في ب وج: غشوا. وفي ه‍: عشوا. وفي ع: نشوا. (2) من ع. (3) الموضع الذي مجثم ؟ فيه وتبيض. (*)
[ 256 ]
الضررين وأعظمهما حرمة في الاصول. مثال ذلك: رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والاهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه (1) فلحرمه الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لانهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحد هما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافا للشافعي ومن قال بقوله. قال أصحاب الشافعي: لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الاولة جاز، لان كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك. ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه، لانه تصرف في ملكه. والقرآن والسنة يردان هذا القول. وبالله التوفيق. ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الاندر (2) والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه. وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الابواب، فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شئ، فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة. وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه. السادسة - ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مسا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أو دنا منها يشتد ذلك بها. فقال مالك: لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها. (1) في ع: عنه. (2) الانه ر: البيدر وهو الموضع الذي يداس فيه الطعام أي الحبوب. (*)
[ 257 ]
السابعة - قوله تعالى: (وكفرا) لما كان اعتقاد هم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد، قاله ابن العربي. وقيل: " وكفرا " أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قاله القشيري وغيره. الثامنة - قوله تعالى: (وتفريقا بين المؤمنين) أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلك على أن المقصد الاكبر والغرض الاظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الانس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الاحقاد. التاسعة - تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلي جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافا لسائر العلماء. وقد روي عن الشافعي المنع، حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم. قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة. العاشرة - قوله تعالى: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله) يعني أبا عامر الراهب، وسمي بذلك لانه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين (1) بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين. فلما انهزمت هوازن خرج إلى الورم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال: استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فلت بجند من الروم لاخرج محمدا من المدينة، فبنوا مسجد الضرار. وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل (2) الملائكة. والارصاد: الانتظار، تقول: أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به. قال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الاعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت. وقوله تعالى: (من قبل) أي من قبل بناء مسجد الضرار. (1) قنسرين (بكسر أوله فتح ثانيه وتشديده ويكسر): كورة بالشام. (2) سمى غسيل الملائكة لانه استشهد يوم أحد وغسلته الملائكة وذلك أنه كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل وأعجله عنه فلما قتل شهيدا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة غسلته. (عن الاستيعاب). (*)
[ 258 ]
الضرار. (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسني، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة. وهذا يدل على أن الافعال تختلف بالمقصود والارادات، ولذلك قال: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ". " والله يشهد إنهم لكاذبون " أي يعلم خبث ضمائر هم وكذ بهم فيما يحلفون عليه. قوله تعالى: لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108) فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (لا تقم فيه أبدا) يعني مسجد الضرار، أي لا تقم فيه للصلاة. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام، يقال: فلان يقوم الليل أي يصلي، ومنه الحديث الصحيح: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال...، فذكره. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة (1) تلقى فيها الجيف والاقذار والقمامات. الثانية - قوله تعالى: " أبدا " " أبدا " ظرف زمان. وظرف الزمان على قسمين: ظرف مقدر كاليوم، وظرف مبهم كالحين والوقت، والابد من هذا القسم، وكذلك الدهر. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن " أبدا " وإن كانت ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم، فلو قال: لا تقم، لكفى في الانكفاف المطلق. فإذا قال: " أبدا " فكأنه قال في وقت من الاوقات ولا في حين من الاحيان. فأما النكرة في الاثبات إذا كانت خبرا عن واقع لم تعم، وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الاسلام فقالوا: لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة. (1) في ج: مزبلة وفي ى: كناسة مزبلة. (*)
[ 259 ]
الثالثة - قوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى) أي بنيت جدره ورفعت قواعده. والاس أصل البناء، وكذلك الاساس. والاسس مقصور منه. وجمع الاس إساس، مثل عس وعساس. وجمع الاساس أسس، مثل قذال وقذل. وجمع الاسس أساس، مثل سبب وأسباب. وقد أسست البناء تأسيسا. وقولهم: كان ذلك على أس الدهر، وأس الدهر، وإس الدهر، ثلاث لغات، أي على قدم الدهر ووجه الدهر. واللام في قوله " لمسجد " لام قسم. وقيل لام الابتداء، كما تقول: لزيد أحسن الناس فعلا، وهي مقتضية تأكيدا. " أسس على التقوى " نعت لمسجد. " أحق " خبر الابتداء الذي هو " لمسجد " ومعنى التقوى هنا الخصال التي تتقى بها العقوبة، وهي فعلى من وقيت، وقد تقدم (1). الرابعة - واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى، فقالت طائقة: هو مسجد قباء، يروى عن ابن عباس والضحاك والحسن. وتعلقوا بقوله: " من أول يوم "، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم، فإنه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عمر وابن المسيب، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: قال تماري (2) رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل هو مسجد قباء، وقال آخر هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو مسجدي هذا). [ قال ] (3) حديث صحيح. والقول الاول أليق بالقصة، لقوله: " فيه " وضمير الظرف يقتضي الرجال المتطهرين، فهو مسجد قباء. والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. قال الشعبي: هم أهل مسجد قباء، أنزل الله فيهم هذا. وقال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل قباء: (إن الله سبحانه قد أحسن عليكم الثناء (1) راجع ج 1 ص 161. (2) الممارة: المجادلة. (3) من ج وه‍. وفي ع: قال هو. (*)
[ 260 ]
في التطهر فما تصنعون) ؟ قالوا: إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء، رواه أبو داود. وروى الدارقطني عن طلحة بن نافع قال: حدثني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك الانصاريون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " فقال: (يا معشر الانصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا) ؟ قالوا: يا رسول الله، نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهل مع ذلك من غيره) ؟ فقالوا: لا غير، إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال: (هو ذاك فعليكموه) وهذا الحديث يقتضي أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء، إلا أن حديث أبي سعيد الخدري نص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مسجده فلا نظر معه. وقد روى أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صالح بن حيان قال حدثنا عبد الله بن بريدة في قوله عزوجل: " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه " (1) [ النور: 36 ] قال: إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبيت أريحا بيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذين أسسا على التقوى، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. الخامسة - (من أول يوم) " من " عند النحويين مقابلة منذ، فمنذ في الزمان بمنزلة من في المكان. فقيل: إن معناها هنا معنى منذ، والتقدير: منذ أول يوم ابتدئ بنيانه. وقيل: المعنى من تأسيس أول الايام، فدخلت على مصدر الفعل الذي هو أسس، كما قال: لمن الديار بقنة الحجر * أقوين من حجج ومن دهر (2) (1) راجع ج 12 ص 264 فما بعد. (2) هذا البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى مدح بها هرم بن سنان. والقنة (بالضم): أعلى الجبل وأراد بها هنا ما أشرف من الارض. والحجر (بكسر الحاء): منازل ثمود بناحية الشام عند وادي القرى. وأقوين: خلون وأقفرن. والحجج: السنون. (راجع هذا البيت والكلام عليه في الشاهد الرابع والسبعين بعد السبعمائة من خزانة الادب للبغدادي). (*)
[ 261 ]
أي من مر حجج ومن مر دهر. وإنما دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن " من " لا يجر بها الازمان، وإنما تجر الازمان بمنذ، تقول ما رأيته منذ شهر أو سنة أو يوم، ولا تقول: من شهر ولا من سنة ولا من يوم. فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدر مضمر يليق أن يجر بمن، كما ذكرنا في تقدير البيت. ابن عطية. ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير، وأن تكون " من " تجر لفظة " أول " لانها بمعنى البداءة، كأنه قال: من مبتدأ الايام. السادسة - قوله تعالى: (أحق أن تقوم فيه) أي بأن تقوم، فهو في موضع نصب. و " أحق " هو أفعل من الحق، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين، لاحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية على الآخر، فمسجد الضرار وإن كان باطلا لاحق فيه، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية، لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله، والآخر حق باطنا وظاهرا، ومثل هذا قوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " (1) [ الفرقان: 24 ] ومعلوم أن الخيرية من النار مبعودة، ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه خير، إذ كل حزب بما لديهم فرحون. وليس هذا من قبيل: العسل أحلى من الخل، فإن العسل ! وإن كان حلوا فكل شئ ملائم فهو حلو، ألا ترى أن من الناس من يقدم الخل على العسل (2) مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف. السابعة - قوله تعالى: (فيه) من قال: إن المسجد يراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالهاء في " أحق أن تقوم فيه " عائد إليه. و " فيه رجال " له أيضا. ومن قال: إنه مسجد قباء، فالضمير في " فيه " عائد إليه على الخلاف المتقدم. الثامنة - أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية، وفى الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم. قال: حديث صحيح. وثبت أن (1) راجع ج 13 ص (2) كذا في الاصول. (*)
[ 262 ]
النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الماء معه في الاستنجاء، فكان يستعمل الحجارة تخفيفا والماء تطهيرا. ابن العربي: وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء. التاسعة - اللازم من نجاسة المخرج التخفيف، وفي نجاسة سائر البدن والثوب التطهير. وذلك رخصة من الله لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه، وبه قال عامة العلماء. وشذ ابن حبيب فقال: لا يستجمر بالاحجار إلا عند عدم الماء. والاخبار الثابتة في الاستجمار بالاحجار مع وجود الماء ترده. العاشرة - واختلف العلماء من هذا الباب في إزالة النجاسة من الابدان والثياب، بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش على ثلاثة أقوال: الاول - أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا، روي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبي الفرج المالكي والطبري، إلا أن الطبري قال: إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف في مراعاة قدر الدرهم قياسا على حلقة الدبر. وقالت طائفة: إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والابدان، وجوب سنة وليس بفرض. قالوا: ومن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة في الوقت فإن خرج الوقت فلا شئ عليه، هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج، ورواية ابن وهب عنه. وقال مالك في يسير الدم: لا تعاد منه الصلاة في الوقت ولا بعده، وتعاد من يسير البول والغائط، ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث. وقال ابن القاسم عنه: تجب إزالتها في حالة الذكر دون النسيان، وهي من مفرداته. والقول الاول أصح إن شاء الله، لان النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحد هما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله). الحديث، خرجه البخاري ومسلم، وحسبك. وسيأتي في سورة [ سبحان ] (1). قالوا: ولا يعذب الانسان إلا على ترك واجب، وهذا ظاهر. (1) راجع ج 10 ص 216. (*)
[ 263 ]
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثر عذاب القبر من البول) (1). احتج الآخرون بخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أن فيهما قذرا وأذى... الحديث. خرجه أبو داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي في سورة [ طه ] إن شاء الله تعالى (2). قالوا: ولما لم يعد ما صلى دل على أن إزالتها سنة وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت طلبا للكمال. والله أعلم. الحادية عشرة - قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما الفرق بين القليل والكثير بقدر الدر هم البغلي (3)، [ يعني كبار الدار هم التي هي على قدر استدارة الدينار ] (4) قياسا على المسربة (5) ففاسد من وجهين، أحدهما: أن المقدرات لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير. الثاني: أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة، والحاجة والرخص لا يقاس عليها، لانها خارجة عن القياس فلا ترد إليه. قوله تعالى: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فأنهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين (109) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أفمن أسس) أي أصل، وهو استفهام معناه التقرير. و " من " بمعنى الذي، وهي في موضع رفع بالابتداء، وخبره " خير ". وقرأ نافع وابن عامر وجماعة " أسس بنيانه " على بناء أسس للمفعول ورفع بنيان فيهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي [ وجماعة ] (6) " أسس بنيانه " على بناء الفعل للفاعل ونصب بنيانه فيهما، وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به، وأن الفاعل سمي فيه. وقرأ نصر بن عاصم بن علي (1) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم. وفي الاصول: في البول. وهو خطأ الناسخ. (2) راجع ج 11 ص 171 فما بعد. (3) دراهم ضربها رأس البغل لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الل عنه. (4) زيادة عن ابن العربي. (5) المسربة (بفتح الراء وضمها): مجرى الحدث من الدبر يريد أعلى الحلقة. (6) من ج وع وك وه‍. (*)
[ 264 ]
" أفمن أسس " بالرفع " بنيانه " بالخفض. وعنه أيضا " أساس بنيانه " وعنه أيضا " أس بنيانه " بالخفض. والمراد أصول البناء كما تقدم. وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهى " أفمن أساس بنيانه " قال النحاس: وهذا جمع أس، كما يقال: خف وأخفاف، والكثير " إساس " مثل خفاف. قال الشاعر: أصبح الملك ثابت الاساس * في البهاليل من بني العباس (1) الثانية - قوله تعالى: (على تقوى من الله) قراءة عيسى بن عمر - فيما حكى سيبويه - بالتنوين، والالف ألف إلحاق كألف تترى فيما نون، وقال الشاعر: (2) * يستن في علقي وفي مكور (2) * وأنكر سيبويه التنوين، وقال: لا أدري ما وجهه. " على شفا " الشفا: الحرف والحد، وقد مضى في [ آل عمران ] (3) مستوفي. و " جرف " قرئ برفع الراء، وأبو بكر وحمزة بإسكانها، مثل الشغل والشغل، والرسل والرسل، يعني جرفا ليس له أصل. والجرف: ما يتجرف بالسيول من الاودية، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء، وأصله من الجرف والاجتراف، وهو اقتلاع الشئ من أصله. " هار " ساقط، يقال. تهور البناء إذا سقط، وأصله هائر، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها، فيقال: هار وهائر، قاله الزجاج. ومثله لاث الشئ به إذا دار، فهو لاث أي لائث. وكما قالوا: شاكي السلاح وشائك [ السلاح ] (4). قال العجاج: * لاث به الاشاء والعبري * الاشاء النخل، والعبري السدر الذي على شاطئ الانهار. ومعنى لاث به مطيف به. وزعم أبو حاتم أن الاصل فيه هاور، ثم يقال هائر مثل صائم، ثم يقلب فيقال هار. وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء، وأنه يقال: تهور وتهير. قلت: ولهذا يمال ويفتح. (1) راجع هذا البيت وشرحه في الاغاني ج 4 ص 344 طبع دار الكتب. في ع: بالبهاليل. (2) هو العجاج. وصف ثورا يرتعى في ضروب من الشجر والعلقى والمكور: ضربان من الشجر. ومعنى يستن: يرتعى وسن الماشية رعيها. (عن شرح الشواهد). (3) راجع ج 4 ص 164. (4) من ج وه‍. (*)
[ 265 ]
االثالثة - قوله تعالى. " فأنهار به في نار جهنم " فاعل انهار الجرف، كأنه قال: فانهار الجرف بالبنيان في النار، لان الجرف مذكر. ويجوز أن يكون الضمير في به يعود على " من " وهو الباني، والتقدير: فانهار من أسس بنيانه على غير تقوى. وهذه الآية ضرب مثل لهم، أي من أسس بنيانه على الاسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق. وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. والشفا: الشفير. وأشفى على كذا أي دنا منه. الرابعة - في هذه الآية دليل على أن كل شئ ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذى يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه، ويخبر عنه بقوله: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام (1)) على أحد الوجهين ويخبر عنه أيضا بقوله: (والباقيات الصالحات (2)) على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الخامسة - واختلف العلماء في قوله تعالى: " فإنهار به في نار جهنم " هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين، الاول - أن ذلك حقيقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أرسل إليه فهدم رؤي الدخان يخرج منه، من رواية سعيد بن جبير. وقال بعضهم: كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة. وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان. وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال: جهنم في الارض، ثم تلا " فانهار به في نار جهنم ". وقال جابر ابن عبد الله: أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني - أن ذلك مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه وهوى فيه، وهذا كقوله تعالى: " فأمه هاوية " (3) [ القارعة: 9 ]. والظاهر الاول، إذ لا إحالة في ذلك. والله أعلم. قوله تعالى: لا يزال بنيا نهم الذى بنوا ريبة في قلو بهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110) (1) راجع ج 17 ص 164 فما بعد. (2) راجع ج 10 ص 413. (3) راجع ج 20 ص 166. (*)
[ 266 ]
قوله تعالى: (لا يزال بنيا نهم الذى بنوا) يعني مسجد الضرار. (ريبة) أي شكا في قلو بهم ونفاقا، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. وقال النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وليس وراء الله للمرء مذهب وقال الكلبي: حسرة وندامة، لانهم ندموا على بنيانه. وقال السدي وحبيب والمبرد: " ريبة " أي حزازة وغيظا. (إلا أن تقطع قلو بهم) قال ابن عباس: أي تنصدع قلو بهم فيمو توا، كقوله: " لقطعنا منه الوتين " (1) [ الحاقة: 46 ] لان الحياة تنقطع بانقطاع الوتين (2)، وقاله قتادة والضحاك ومجاهد. وقال سفيان: إلا أن يتوبوا. عكرمة: إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يقرءونها: " ريبة في قلو بهم ولو تقطعت قلوبهم ". وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم " إلى أن تقطع " على الغاية، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا. واختلف القراء في قوله " تقطع " فالجمهور " تقطع " بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء. وروي عن يعقوب وأبي عبد الرحمن " تقطع " على الفعل المجهول مخفف القاف. وروي عن شبل وابن كثير " تقطع " خفيفة القاف " قلوبهم " نصبا، أي أنت تفعل ذلك بهم. وقد ذكرنا قراءة أصحاب عبد الله. (والله عليم حكيم) تقدم (3). قوله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (111) (1) راجع ج 18 ص 275 فما بعد. (2) الوتين: عرق يسقى الكبد. الراغب. والوتين عرق في القلب. قاموس. (3) راجع ج 1 ص 287. (*)
[ 267 ]
فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) قيل: هذا تمثيل، مثل قوله تعالى: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " (1) [ البقرة: 16 ]. ونزلت الآية في البيعة الثانية، وهى بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الانصار على السبعين، وكان أصغر هم سنا عقبة بن عمرو، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم). قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال: (الجنة) قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " الآية. ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. الثانية - هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسيد لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه. وجائز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره، لان ماله له وله انتزاعه. الثالثة - أصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع، فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك. وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء [ فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء ] (2). وروى الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن فوق كل بر بر حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك). وقال الشاعر [ في معنى البر ] (3): الجود بالماء جود فيه مكرمة * والجود بالنفس أقصى غاية الجود (1) راجع ج 1 ص 21. (2) من ب وج وز وع وك وه‍ وى. () من ع. (*)
[ 268 ]
وأنشد الاصمعي لجعفر الصادق رضي الله عنه: أثامن بالنفس النفيسة ربها * وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تشتري الجنات إن أنا بعتها * بشئ سواها إن ذلكم غبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها * لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن قال الحسن: ومر أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: " إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم " فقال: كلام من هذا ؟ قال: (كلام الله) قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله. فخرج إلى الغزو واستشهد. الرابعة - قال العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الاطفال فألمهم وأسقمهم، لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونون عند شئ أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الاطفال، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة. ثم هو عزوجل يعوض هؤلاء الاطفال عوضا إذا صاروا إليه. ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الاجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى، ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الاجر. الخامسة - قوله تعالى: (يقاتلون في سبيل الله) بيان لما يقاتل له وعليه، وقد تقدم. (فيقتلون ويقتلون) قرأ النخعي والاعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل، ومنه قول امرئ القيس: * فإن تقتلونا نقتلكم... * أي إن تقتلوا بعضنا يقتلكم بعضنا. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول. السادسة - قوله تعالى: (وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن) إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب، وأن الجهاد ومقاومة الاعداء أصله من عهد موسى عليه السلام. و " وعدا " و " حقا " مصدران مؤكدان.
[ 269 ]
السابعة - قوله تعالى: (ومن أوفى بعهده من الله) أي لا أحد أو في بعهده من الله. وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، ولا يتضمن وفاء البارئ بالكل، فأما وعده فللجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الاحوال. وقد تقدم هذا المعنى مستوفي. (1) الثامنة - قوله تعالى: (فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به) أي أظهروا السرور بذلك. والبشارة إظهار السرور في البشرة. وقد تقدم (2). وقال الحسن: والله ما على الارض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة. (وذلك هو الفوز العظيم) أي الظفر بالجنة والخلود فيها. قوله تعالى: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى " التائبون العابدون " التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله. والتائب هو الراجع. والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الامرين. " العابدون " أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه. " الحامدون " أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال. " السائحون " الصائمون، عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. ومنه قوله تعالى: " عابدات سائحات " (3) [ التحريم: 5 ]. وقال سفيان بن عيينة: إنما قيل للصائم سائح لانه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال أبو طالب: ! وبالسائحين لا يذوقون قطرة * لربهم والذاكرات العوامل (1) راجع ج 5 ص 333 فما بعد. (2) راجع ج 1 ص 238. (3) راجع ج 18 ص 192. (*)
[ 270 ]
وقال آخر: برا يصلي ليله ونهاره * يظل كثير الذكر لله سائحا وروي عن عائشة أنها قالت: سياحة هذه الامة الصيام، أسنده الطبري. ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سياحة أمتي الصيام). قال الزجاج: ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون القرض. وقد قيل: إنهم الذين يديمون الصيام. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وروى أبو أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله). صححه أبو محمد عبد الحق. وقيل: السائحون المهاجرون قاله عبد الرحمن بن زيد. وقيل: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم، قاله عكرمة. وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه حكاه النقاش وحكي أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال: أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى: " إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل " (1) [ غافر: 71 ] وذكرت كيف أتلقى الغل وبقيت ليلي في ذلك أجمع. قلت: لفظ " س ي ح " يدل على صحة هذه الاقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الارض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره فهو بمنزلة السائح. والمتفكرون تجول قلو بهم فيما ذكروا. وفي الحديث: (إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي) ويروى " صياحين " بالصاد، من الصياح. " الراكعون الساجدون " يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها. " الآمرون بالمعروف " أي بالسنة، وقيل: بالايمان. " والناهون عن المنكر " قيل: عن البدعة. وقيل: عن الكفر. وقيل: هو عموم في كل معروف ومنكر. " والحافظون لحدود الله " أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهى عنه. (1) راجع ج 15 ص 331 فما بعد. (*)
[ 271 ]
الثانية - واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة فقال جماعة: الآية الاولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثر ها. وقالت فرقة: هذه الاوصاف جاءت على جهة الشرط والآيتان مرتبطتان فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الاوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله قاله الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة. وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: " التائبون العابدون " رفع بالابتداء وخبره مضمر، أي التائبون العابدون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذا لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد لان بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. واختار هذا القول القشيري وقال: وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله: " اشترى من المؤمنين " لكان الوعد خاصا للمجاهدين. وفي مصحف عبد الله " التائبين العابدين " إلى آخرها، ولذلك وجهان: أحدهما الصفة للمؤمنين على الاتباع. والثاني النصب على المدح. الثالثة - واختلف العلماء في الواو في قوله: " والناهون عن المنكر " فقيل: دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى: " حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب " (1) [ غافر: 1 - 2 - 3 ] فذكر بعضها بالواو والبعض بغيرها. وهذا سائغ معتاد في الكلام ولا يطلب لمثله حكمة ولا علة. وقيل: دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف فلا يكاد يذكر واحد منها مفردا. وكذلك [ قوله ]: (2) " ثيبات وأبكارا " (3) [ التحريم: 5 ]. ودخلت في [ قوله ] (4): " والحافظون " لقربه من المعطوف. وقد قيل: إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له. وقيل: هي واو الثمانية لان السبعة عند العرب عدد كامل صحيح. وكذلك قالوا (1) راجع ج 15 ص 289. (2) من ج وه‍ وز. (3) راجع ج 18 ص 193. (4) من ج. (*)
[ 272 ]
في قوله: " ثيبات وأبكارا " [ التحريم: 5 ]. وقوله في أبو اب الجنة: " وفتحت أبو ابها " (1) [ الزمر: 73 ] وقوله: " ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم " (2) [ الكهف: 22 ] وقد ذكرها ابن خالويه في مناظرته لابي علي الفارسي في معنى قوله: " وفتحت أبو ابها " [ الزمر: 73 ] وأنكر ها أبو علي. قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي الله عنه عن الاستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي، وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة وهكذا هي لغتهم. ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو. قلت: هي لغة قريش. وسيأتي بيانه ونقضه في سورة [ الكهف ] (2) إن شاء الله تعالى وفي الزمر (1) [ أيضا بحول الله تعالى ] (3). قوله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113) فيه ثلاث مسائل: الاولى - روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية ابن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما والله لاستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله عزوجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك (1) راجع ج 15 ص 384 - 382. (2) راجع ج 10 ص 382. (3) من ب وج وع وك وه‍ وز. (*)
[ 273 ]
لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " (1) [ القصص: 56 ]. فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى الله عليه سلم لعمه فإنه استغفر له بعد موته على ما روي في غير الصحيح. وقال الحسين بن الفضل: وهذا بعيد لان السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الاسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة. الثانية - هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. فإن قيل: فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه: (اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين. قيل له: إن ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الانبياء والدليل عليه ما رواه مسلم عن عبد الله قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الانبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). قلت: وهذا صريح في الحكاية عمن قبله، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم. والله أعلم. والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام، على ما يأتي بيانه في سورة [ هود ] (2) إن شاء الله. وقيل: إن المراد بالاستغفار في الآية الصلاة. قال بعضهم: ما كنت لادع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزني لاني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين بقوله: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية. قال عطاء بن أبي رباح: الآية في النهي عن الصلاة على المشركين والاستغفار هنا يراد به الصلاة. جواب ثالث: وهو أن الاستغفار للاحياء جائز لانه مرجو إيمانهم ويمكن (1) راجع ج 13 ص. (2) راجع ج 9 ص 43. (*)
[ 274 ]
تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين. وقد قال كثير من العلماء: لا بأس أن يدعو الرجل لابويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين. فأما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعي له. قال ابن عباس: كانوا يستغفرون لموتا هم فنزلت فأمسكوا عن الاستغفار ولم ينههم أن يستغفروا للاحياء حتى يموتوا. الثالثة - قال أهل المعاني: " ما كان " في القرآن يأتي على وجهين: على النفي نحو قوله: " ما كان لكم أن تنبتوا شجرها " (1) [ النمل: 60 ]، " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله " (2) [ آل عمران: 145 ]. والآخر بمعنى النهي كقوله: " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " (3) [ الاحزاب: 53 ]، و " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ". قوله تعالى: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعد ها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم (114) فيه ثلاث مسائل: الاولى - روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رجلا يستغفر لابويه وهما مشركان فقلت: أتستغفر لهما وهما مشركان ؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لابيه. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك [ له ] (4) فنزلت: " وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه ". والمعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لابيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة. وقال ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ويخلع الانداد فلما مات على الكفر علم أنه عدو الله فترك الدعاء له فالكناية في قوله: " إياه " ترجع إلى إبراهيم والواعد أبوه. وقيل: الواعد إبراهيم أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له فلما مات مشركا تبرأ منه. ودل على هذا الوعد قوله: " سأستغفر لك ربي " (5) [ مريم: 47 ]. قال القاضي أبو بكر بن العربي: تعلق النبي صلى الله عليه (1) راجع ج 13 ص (2) راجع ج 4 ص 226. (3) راجع ج 14 ص (4) من ع. (5) راجع ج 11 ص 110 فما بعد. (*)
[ 275 ]
وسلم في الاستغفار لابي طالب بقوله تعالى: " سأستغفر لك ربي " [ مريم: 47 ] فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لابيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه فلما تبين له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا. الثانية - ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها فإن مات على الايمان حكم له به وإن مات على الكفر حكم له به وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس: يا رسول الله هل نفعت عمك بشئ ؟ قال: (نعم). وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب " التذكرة ". الثالثة - قوله تعالى: (إن إبراهيم لاواه حليم) اختلف العلماء في الاواه على خمسة عشر قولا: الاول - أنه الدعاء الذي يكثر الدعاء، قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير. الثاني - أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة، وروي عن ابن مسعود. والاول أصح إسنادا عن ابن مسعود قاله النحاس. الثالث - إنه الموقن قاله عطاء وعكرمة ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس. الرابع - أنه المؤمن بلغة الحبشة قاله ابن عباس أيضا. الخامس - أنه المسبح الذي يذكر الله في الارض القفر الموحشة، قاله الكلبي وسعيد ابن المسيب. السادس - أنه الكثير الذكر لله تعالى قاله عقبة بن عامر وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكثر ذكر الله ويسبح فقال: (إنه لاواه). السابع - أنه الذي يكثر تلاوة القرآن. وهذا مروي عن ابن عباس. قلت: وهذه الاقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها. الثامن - أنه المتأوه، قاله أبو ذر وكان إبراهيم عليه السلام يقول: (آه من النار قبل ألا تنفع آه). وقال أبو ذر: كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (دعه فإنه أواه) فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح. التاسع - أنه الفقيه قاله مجاهد والنخعي. العاشر - أنه المتضرع الخاشع رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أنس: تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشئ كرهه فنهاها عمر فقال النبي صلى الله عليه
[ 276 ]
وسلم: (دعوها فإنها أواهة) قيل: يا رسول الله، وما الاواهة ؟ قال: (الخاشعة). الحادي عشر - أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها قاله أبو أيوب. الثاني عشر - أنه الكثير التأوه من الذنوب قاله الفراء. الثالث عشر - أنه المعلم (1) للخير قاله سعيد ابن جبير. الرابع عشر - أنه الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسمى الاواه لشفقته ورأفته. الخامس عشر - أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى قاله عطاء. وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنقس الصعداء. قال كعب: كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوه. قال الجوهري: قولهم عند الشكاية أوه من كذا (ساكنة الواو) إنما هو توجع. قال الشاعر: فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها * ومن بعد أرض بيننا وسماء وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا: آه من كذا. وربما شددوا الواو وكسرو ها وسكنوا الهاء فقالوا: أوه من كذا. وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا: أو من كذا بلا مد. وبعضهم يقول: آوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا: أوتاه يمد ولا يمد. وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأو ها إذا قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد. قال المثقب العبدي: إذا ما قمت أرحلها بليل * تأوه آهة الرجل الحزين والحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الاذى. وقيل: الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله ولم ينتصر لاحد إلا لله. وكان إبراهيم عليه السلام كذلك وكان إذا قام يصلي سمع وجيب (2) قلبه على ميلين. قوله تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هدا هم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم (115) إن الله له ملك السموات والارض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (116) (1) معلم كل شئ: مظنته. (2) وجيب القلب: خفقانه واضطرابه. (*)
[ 277 ]
أي ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقوه فعند ذلك يستحقون الاضلال. قلت: ففي هذا أدل دليل على أن المعاصي إذا ارتكبت وانتهك حجابها كانت سببا إلى الضلالة والردى وسلما إلى ترك الرشاد والهدى. نسأل الله السداد والتوفيق والرشاد بمنه. وقال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله في قوله: " حتى يبين لهم " أي حتى يحتج عليهم بأمره، كما قال: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " (1) [ الاسراء: 16 ] وقال مجاهد: " حتى يبين لهم " أي أمر إبراهيم ألا يستغفروا للمشركين خاصة ويبين لهم الطاعة والمعصية عامة. وروي أنه لما نزل تحريم الخمر وشدد فيها سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يشربها فأنزل الله تعالى: " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هدا هم حتى يبين لهم ما يتقون " وهذه الآية رد على المعتزلة وغير هم الذين يقولون بخلق هدا هم وإيما نهم كما تقدم. (2) قوله تعالى: (إن الله بكل شئ عليم. إن الله له ملك السموات والارض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) تقدم معناه غير مرة (3). قوله تعالى: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم (117) روى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزا ها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعير هم فالتقوا عن غير موعد (4) (1) راجع ج 10 ص 232. (2) راجع ج 1 ص 149، 186. (3) راجع ج 1 ص 249، 261. وج 2 ص 69. (4) في ج وع وه‍: على غير وعد. وفي ك وى: من غير وعد. (*)
[ 278 ]
كما قال الله تعالى ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر وما أحب (1) أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزا ها وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل فذكر الحديث بطوله قال: فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سر بالامر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال: (أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك) فقلت: يا نبي الله أمن عند الله أم من عند ك ؟ قال: (بل من عند الله - ثم تلا هذه الآية - " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة - حتى بلغ - إن الله هو التواب الرحيم " قال: وفينا أنزلت أيضا " اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " [ التوبة: 119 ] وذكر الحديث. وسيأتي بكماله من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى. واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والانصار على أقوال فقال ابن عباس: كانت التوبة على النبي لاجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " [ التوبة: 43 ] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه. وقيل: توبة الله عليهم استنقاذ هم من شدة العسرة. وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحالة الاولى. وقال أهل المعاني: إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة لانه لما كان سبب توبتهم ذكر معهم كقوله: " فأن لله خمسه وللرسول " (2) [ الانفال: 41 ]. قوله تعالى: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) أي في وقت العسرة، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها. وقيل: ساعة العسرة أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة. والعسرة صعوبة الامر. قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظهر وعسرة الزاد (1) في ع: ياليتني كنت شهدتها وكان الخ. (2) راجع ص 154 وص 1 من هذا الجزء. (*)
[ 279 ]
وعسرة الماء. قال الحسن: كانت العسرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والاهالة (1) المنتنة وكان النفر يخرجون ما معهم - إلا التمرات - بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم. وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة: خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه (2) فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا. قال: (أتحب ذلك) ؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصاب الناس مجاعة وقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا (3) فأكلنا وأدهنا. [ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (افعلوا) ] فجاء عمر وقال (4): يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزواد هم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك [ البركة ] (5). قال: (نعم) ثم دعا بنطع (6) فبسط ثم دعا بفضل الازواد فجعل الرجل يجئ بكف ذرة ويجئ الآخر بكف تمر ويجئ الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شئ يسير. قال أبو هريرة: فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز (7) فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. ثم قال: (خذوا في أوعيتكم) فأخذوا في أوعيتهم حتى - والذي لا إله إلا هو - ما بقي في العسكر وعاء إلا ملئوه، وأكل القوم حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة). خرجه مسلم في صحيحه (1) الاهالة: الشحم. (2) الفرث: السرجين (الزبل) ما دام في الكرش. (3) الناضح: البعير يستقى عليه ثم استعمل في كل بعير وإن لم يحمل الماء. (4) زيادة عن صحيح مسلم. (5) من ه‍. (6) النطع: بساد من الاديم. (7) ربضة العنز (بضم الراء وتكسر): جثتها إذا بركت. (*)
[ 280 ]
بلفظه ومعناه، والحمد لله. وقال ابن عرفة: سمي جيش تبوك جيش العسرة لان رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة القيظ، فغلظ عليهم وعسر، وكان إبان ابتياع الثمرة. قال: وإنما ضرب المثل بجيش العسرة لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغز قبله في عدد مثله لان أصحابه يوم بدر كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ويوم أحد سبعمائة ويوم خيبر ألفا وخمسمائة ويوم الفتح عشرة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفا وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه [ صلى الله عليه وسلم ] (1). وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياما من رمضان وبث سراياه وصالح أقواما على الجزية. وفي هذه الغزاة خلف عليا على المدينة فقال المنافقون: خلفه بغضا له، فخرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال عليه السلام: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) وبين أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الاجر خروجه معه لان المدار على أمر الشارع. وإنما قيل لها: غزوة تبوك لان النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال: (ما زلتم تبوكونها بو كا) فسميت تلك الغزوة غزوة تبوك. الحسي (بالكسر) ما تنشفه الارض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر عنه الرمل فتستخرجه وهو الاحتساء قاله الجوهري. قوله تعالى: (من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم) " قلوب " رفع ب‍ " - تزيغ " عند سيبويه. ويضمر في " كاد " الحديث تشبيها بكان، لان الخبر يلزمها كما يلزم كان. وإن شئت رفعتها بكاد، ويكون التقدير: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الاعمش وحمزة وحفص " يزيغ " بالياء، وزعم أبو حاتم أن من قرأ " يزيغ " بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال النحاس: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء: رحب البلاد وأرحبت، ورحبت لغة أهل الحجاز. واختلف في معنى تزيغ، فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة. وقال ابن عباس: تعدل - أي تميل - عن الحق في الممانعة والنصرة. (1) من ج وع وه‍. (2) قراءة نافع بالتاء. (*)
[ 281 ]
وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به. وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمر هم به. قوله تعالى: (ثم تاب عليهم) قيل: توبته عليهم أن تدارك قلو بهم حتى لم تزغ، وكذلك (1) سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم. وينشد: منك أرجو ولست أعرف ربا * يرتجى منه بعض ما منك أرجو وإذا اشتدت الشدائد في الار * ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا وابتليت العباد بالخوف والجو * ع وصروا (2) على الذنوب ولجوا لم يكن لي سواك ربي ملاذ * فتيقنت أنني بك أنجو وقال في حق الثلاثة: " ثم تاب عليهم ليتوبوا " فقيل: معنى " ثم تاب عليهم " أي وفقهم للتوبة ليتوبوا. وقيل: المعنى تاب عليهم، أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا. وقيل: تاب عليهم ليثبتوا على التوبة. وقيل: المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم. وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا، دليله قوله عليه السلام: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). قوله تعالى: وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أو لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118) قوله تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) قيل: عن التوبة عن مجاهد وأبي مالك. وقال قتادة: عن غزوة تبوك. وحكي عن محمد بن زيد (3) معنى " خلفوا " تركوا، لان معنى خلفت فلانا تركته وفارقته قاعدا عما نهضت فيه. وقرأ عكرمة بن خالد " خلفوا " أي أقاموا (1) في ب: وذلك. (2) يريد (أصروا). (3) في ع: ابن جرير. (*)
[ 282 ]
بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن جعفر بن محمد أنه قرأ " خالفوا ". وقيل " خلفوا " أي أرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم بشئ. وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذر هم، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن. وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغير هما. واللفظ لمسلم قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عزوجل: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له وأعتذر إليه فقبل منه. وهذا الحديث فيه طول، هذا آخره (1). والثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال ابن أمية الواقفي وكلهم من الانصار. وقد خرج البخاري ومسلم حديثهم، فقال مسلم عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنه إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدو هم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم (2) فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ (1) راجع صحيح مسلم كتاب التوبة. (2) في ج وع وك وه‍: عدو هم. (*)
[ 283 ]
- يريد بذلك الديوان - قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر (1) فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت ! فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فياليتني فعلت ! ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا (2) عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: (ما فعل كعب بن مالك) ؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه (3). فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن أبا خيثمة) فإذا هو أبو خيثمة الانصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حتى لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشئ أبدا، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه (1) أي أميل. (2) أي مطعونا عليه في دينه متهما بالنفاق. (3) هذا كناية عن كونه معجبا بنفسه ذا زهو وتكبر (4) المبيض (بكسر الياء): لابس البياض. والسراب: ما يظهر في الهواجر في البراري كأنه الماء. ويزول أي يتحرك. (*)
[ 284 ]
ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائر هم إلى الله حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال: (تعال) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: (ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك) ؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا (1) ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد (2) علي فيه إني لارجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك). فقمت وثار (3) رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا ! لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك !. قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لقى هذا معي من أحد ؟ قالوا: نعم ! لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما ؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبنا الناس، وقال: وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الارض، فما هي بالارض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الاسواق ولا يكلمني أحد، وآتى (1) أي فصاحة وقوة كلام بحيث أخرج من عهدة ما ينسب إلي بما يقبل ولا يرد. (2) تجد: تغضب. (3) أي وثبوا على. (*)
[ 285 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ! ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله ! هل تعلمن أني أحب الله ورسوله ؟ قال: فسكت فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم ! ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطى من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك ؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد ! فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هو ان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. قال فقلت، حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء ! فتياممت بها التنور فسجرته (1) بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها. قال: فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عند هم حتى يقضي الله في هذا الامر. قال: فجاءت أمرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال: (لا ولكن لا يقربنك) فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شئ ! ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا (1) أي أوقدته بالصحيفة. (2) قال الواقدي: هذا الرسول هو خزيمة بن ثابت. (*)
[ 286 ]
استأذنته فيها وأنا رجل شاب ! قال: فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الارض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع (1) يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج. قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك). قال: فقلت أمن عند الله يارسول الله أم من عندك ؟ قال: (لا بل من عند الله). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك). قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال وقلت: يارسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت (1) أي أشرف على جبل سلع. قال الواقدي: هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه. (*)
[ 287 ]
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لارجو الله أن يحفظني فيما بقي فأنزل الله عزوجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين أتبعوه في ساعة العسرة - حتى بلغ - إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم - حتى بلغ - أتقوا الله وكونوا مع الصادقين ". قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للاسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لاحد، وقال الله تعالى: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنه فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأوا هم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " [ التوبة: 95 - 96 ]. قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عزوجل: " وعلى الثلاثة " وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له وأعتذر إليه فقبل منه. قوله تعالى: (ضاقت عليهم الارض بما رحبت) أي بما أتسعت يقال: منزل رحب ورحيب ورحاب. و " ما " مصدرية، أي ضاقت عليهم الارض برحبها، لانهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون. وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا. قوله تعالى: (وضاقت عليه أنفسهم) أي ضاقت صدورهم بالهم والوحشة، وبما لقوه من الصحابة من الجفوة. (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجئون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه. قال أبو بكر الوراق. التوبة النصوح أن تضيق على التائب الارض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه.
[ 288 ]
قوله تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) فبدأ بالتوبة منه. قال أبو زيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني، قال الله تعالى: " يحبهم ويحبونه " [ المائدة: 54 ]. وظننت أني أرضى عنه فإذا هو قد رضي عني، قال الله تعالى: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " [ المائدة: 119 ]. وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني، قال الله تعالى: " ولذكر الله أكبر ". وظننت أني أتوب فإذا هو قد تاب على، قال الله تعالى: " ثم تاب عليهم ليتوبوا ". وقيل: المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة، كما قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا آمنوا " (1) [ النساء: 136 ] وقيل: أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغير هم، قال عزوجل: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " (2) [ النساء: 160 ]. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " وكونوا مع الصادقين " هذا الامر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين. قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف. واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال، فقيل: هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب. وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين، أي أتقوا مخالفة أمر الله. " وكونوا مع الصادقين " أي مع الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين. أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم. وقيل: هم الانبياء، أي كونوا معهم بالاعمال الصالحة في الجنة. وقيل: هم المراد بقوله: " ليس البر أن تولوا وجوهكم (3) - الآية إلى قوله - أولئك الذين صدقوا " [ البقرة: 177 ]. وقيل: هم الموفون بما عاهدوا، وذلك لقوله تعالى: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله (4) عليه " وقيل: هم المهاجرون، لقول أبي بكر يوم السقيفة إن الله سمانا الصادقين (1) راجع ج 5 ص 405. (2) راجع ج 6 ص 12. (3) راجع ج 2 ص 237. (4) راجع ج 14 ص. (*)
[ 289 ]
فقال: " للفقراء المهاجرين " (1) [ الحشر: 8 ] الآية، ثم سماكم بالمفلحين فقال: " والذين تبوءوا الدار والايمان " [ الحشر: 9 ] الآية. وقيل: هم الذين استوت ظواهر هم وبواطنهم. قال ابن العربي: وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم. وأما من قال: إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ويتبعه الاقل وهو معنى آية الاحزاب. وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الاقوال كلها فإن جميع الصفات فيهم موجودة. الثانية - حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الاقوال، والاخلاص في الاعمال، والصفاء (2) في الاحوال، فمن كان كذلك لحق بالابرار ووصل إلى رضا الغفار، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا). والكذب على الضد من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا). خرجه مسلم. فالكذب عار وأهله مسلوبو الشهادة، وقد رد صلى الله عليه وسلم شهادة رجل في كذبة كذبها. قال معمر: لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس. وسئل شريك بن عبد الله فقيل له: يا أبا عبد الله، رجل سمعته (3) يكذب متعمدا أأصلي خلفه ؟ قال لا. وعن ابن مسعود قال: إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم شيئا ثم لا ينجزه، أقرءوا إن شئتم " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " هل ترون في الكذب رخصة ؟ وقال مالك: لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: يقبل حديثه. والصحيح أن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لما ذكرناه، فإن القبول مرتبة عظيمة وولاية شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات. (1) راجع ج 18 ص 19. (2) من ع. وهو الصواب. وفي ب وك وه‍: الصفات. وهو خطأ. (3) في ع: سمعناه. (*)
[ 290 ]
قوله تعالى: ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (121) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ظاهره خبر ومعناه أمر، كقوله: " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " (1) [ الاحزاب: 53 ] وقد تقدم. " أن يتخلفوا " في موضع رفع اسم كان. وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها، كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. والمعنى: ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا، فإن النفير كان فيهم، بخلاف غيرهم فإنهم لم يستنفروا، في قول بعضهم. ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم، وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوار هم، وأنهم أحق بذلك من غير هم. الثانية - قوله تعالى: (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) أي لا يرضوا لانفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المشقة. يقال: رغبت عن كذا أي ترفعت عنه. الثالثة - قوله تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ) أي عطش. وقرأ عبيد ابن عمير " ظماء " بالمد. وهما لغتان مثل خطأ وخطاء. (ولا نصب) عطف، أي تعب، ولا زائدة للتوكيد. وكذا (ولا مخمصة) أي مجاعة. وأصله ضمور البطن، ومنه رجل خميص (1) راجع ج 14 ص. (*)
[ 291 ]
وامرأة خمصانة. وقد تقدم (1). (في سبيل الله) أي في طاعته. (ولا يطئون موطئا) أي أرضا. (يغيظ الكفار) أي بو طئهم إيا ها، وهو في موضع نصب لانه نعت للموطئ، أي غائظا. (ولا ينالون من عدو نيلا) أي قتلا وهزيمة. وأصله من نلت الشئ أنال أي أصبت. قال الكسائي: هو من قولهم أمر منيل منه، وليس هو من التناول، إنما التناول من نلته العطية (2). قال غيره: نلت أنول من العطية، من الواو والنيل من الياء، تقول: نلته فأنا نائل، أي أدركته. (ولا يقطعون واديا) العرب تقول: واد وأودية على غير قياس. قال النحاس: ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه والقياس أن يجمع ووادي فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم قد يستثقلون واحدة حتى قالوا: أقتت في وقتت. وحكى الخليل وسيبويه في تصغير واصل اسم رجل أو يصل فلا يقولون غيره. وحكى الفراء في جمع واد أو داء. قلت: وقد جمع أوداه قال جرير: عرفت ببرقة الاوداه رسما * محيلا طال عهدك من رسوم (3) (إلا كتب لهم به عمل صالح) قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة. وفي الصحيح: (الخيل ثلاثة... - وفيه - وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لاهل الاسلام في مرج (4) أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبو الها حسنات...). الحديث. هذا وهي في مواضعها فكيف إذا أدرب بها (5). الرابعة - استدل بعض (6) العلماء بهذه الآية على أو الغنيمة تستحق بالادراب والكون في بلاد العدو فإن مات بعد ذلك فله سهمه وهو قول أشهب وعبد الملك وأحد قولي الشافعي. وقال مالك وابن القاسم: لا شئ له لان الله عزوجل إنما ذكر في هذه الآية الاجر ولم يذكر السهم. (1) راجع ج 6 ص 64. (2) في ب وع وك وه‍: بالعطية. هما لغتان. (3) في ديوانه ومعجم البلدان لياقوت: (ببرقة الوداء) والوداء: واد أعلاه لبني العدوية والتيم وأسفله لبني كليب وضبة. (4) المرج: مرعى الدواب. (5) أدرب القوم: دخلوا أرض العدو. (6) سقط بعض من ب وع وك وه‍. (*)
[ 292 ]
قلت - الاول أصح لان الله تعالى جعل وطئ ديار الكفار بمثابة النيل من أموالهم وإخراجهم من ديار هم وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم فهو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والاسر وإذا كان كذلك فالغنيمة تستحق بالادراب لا بالحيازة ولذلك قال علي رضى الله عنه: ما وطئ قوم في عقر دار هم إلا ذلوا. والله أعلم. الخامسة - هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وأن حكمها كان حين كان المسلمون في قلة فلما كثروا نسخت وأباح الله التخلف لمن شاء قاله ابن زيد. وقال مجاهد: بعث النبي صلى الله عليه وسلم قوما إلى البوادي ليعلموا الناس فلما نزلت هذه الآية خافوا ورجعوا فأنزل الله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة). وقال قتادة: كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لاحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الائمة والولاة فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. وقول ثالث - أنها محكمة قال الوليد بن مسلم: سمعت الاوزاعي و. ابن المبارك والفزاري والسبيعي وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية إنها لاول هذه الامة وآخرها. قلت: قول قتادة حسن بدليل غزاة تبوك والله أعلم. السادسة - روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه) قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة. ؟ قال: (حبسهم العذر). خرجه مسلم من حديث جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: (إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض). فأعطى صلى الله عليه وسلم للمعذور من الاجر مثل ما أعطى للقوي العامل. وقد قال بعض الناس: إنما يكون الاجر للمعذور غير مضاعف، ويضاعف للعامل المباشر. قال ابن العربي: وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعة رحمته، وقد عاب بعض الناس فقال:
[ 293 ]
إنهم يعطون الثواب مضاعفا قطعا، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني على مقدار النيات، وهذا أمر مغيب، والذي يقطع به أن هناك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه. قلت: الظاهر من الاحاديث والآي المساواة في الاجر، منها قوله عليه السلام: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) وقوله: (من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها). وهو ظاهر قوله تعالى: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " [ النساء: 100 ] وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الاعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لاجر القادر الفاعل ويزيد عليه، لقوله عليه السلام: (نية المؤمن خير من عمله). والله أعلم. قوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما كان المؤمنون) وهي أن الجهاد ليس على الاعيان وأنه فرض كفاية كما تقدم، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: " إلا تنفروا " [ التوبة: 39 ] وللآية التي قبلها، على قول مجاهد وابن زيد. الثانية - هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم، لان المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده. " فلولا نفر " بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم. " من كل فرقة منهم طائفة " وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله
[ 294 ]
عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبرو هم بما سمعوا وعلموه. وفى هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الاعيان. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " (1) [ النحل: 43 ]. فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن. الثالثة - قوله تعالى: " فلولا نفر " قال الاخفش: أي فهلا نفر. " من كل فرقة منهم طائفة " الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنى نفس طائفة. وقد تقدم أن المراد بقوله تعالى: " إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " (2) [ التوبة: 66 ] رجل واحد. ولا شك أن المراد هنا جماعة لوجهين، أحدهما عقلا، والآخر لغة. أما العقل فلان العلم لا يتحصل بواحد في الغالب، وأما اللغة فقوله: " ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم " فجاء بضمير الجماعة. قال ابن العربي: والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة هاهنا واحد، ويعتضدون (3) فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح لا من جهة أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الاشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر. قلت: أنص ما يستدل به على أن الواحد يقال له طائفة قوله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " (4) [ الحجرات: 9 ] يعني نفسين. دليله قوله تعالى: " فأصلحوا بين أخويكم " (4) [ الحجرات: 9 ] فجاء بلفظ التثنية، والضمير في " اقتتلوا " وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين للعلماء. الرابعة - قوله تعالى: (ليتفقهوا) الضمير في " ليتفقهوا، ولينذروا " للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة ومجاهد. وقال الحسن: هما للفرقة النافرة، واختاره الطبري. ومعنى " ليتفقهوا في الدين " أي يتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على (1) راجع ج 10 ص 108. (2) راجع ص 198 من هذا الجزء. (3) في الاصول: (ويقضون به على وجوب العمل) الخ. والتصويب عن ابن العربي. (4) راجع ج 17 ص 315، 322. (*)
[ 295 ]
المشركين ونصرة الدين. (ولينذروا قومهم) من الكفار. (إذا رجعوا إليهم) من الجهاد فيخبرونهم بنصرة الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأنهم لا يدان (1) لهم بقتالهم وقتال النبي صلى الله عليه وسلم فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار. قلت: قول مجاهد وقتادة أبين، أي لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا. وهذا يقتضي الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والالزام، إذ ليس ذلك في قوة الكلام، وإنما لزم طلب العلم بأدلته، قال أبو بكر بن العربي. الخامسة - طلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الاعيان، كالصلاة والزكاة والصيام. قلت: وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي (إن طلب العلم فريضة). روى عبد القدوس بن حبيب: أبو سعيد (2) الوحاظي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طلب العلم فريضة على كل مسلم). قال إبراهيم: لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث. وفرض على الكفاية، كتحصيل الحقوق (3) وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه، إذ لا يصلح (4) أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم (5) وتنقص أو تبطل معايشهم، فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته. السادسة - طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل، روى الترمذي من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الارض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الانبياء وإن الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ (1) يقال: مالي بفلان يدان، أي طاقة. (2) عبد القدوس روى عن أبي سعيد كما في الميزان. (3) كذا في الاصول: جميعا. (4) في ه‍: يصح. (5) كذا في ع. وفي ب وه‍ وك: سواهم. (*)
[ 296 ]
وافر). وروى الدارمي أبو محمد في مسنده قال: حدثنا أبو المغيرة حدثنا الاوزاعي عن الحسن قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل، أحدهما كان عالما يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير. والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم). أسنده أبو عمر في كتاب (بيان العلم) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي). وقال ابن عباس: أفضل الجهاد من بنى مسجدا يعلم فيه القرآن والفقه والسنة. رواه شريك عن ليث بن أبي سليم عن يحيى بن أبي كثير عن علي الازدي قال: أردت الجهاد فقال لي ابن عباس ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد، تأتي مسجدا فتقرئ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه (1). وقال الربيع سمعت الشافعي يقول: طلب العلم أوجب من الصلاة النافلة. وقوله عليه السلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها) الحديث يحتمل وجهين: أحدهما - أنها تعطف عليه وترحمه، كما قال الله تعالى فيما وصى به الاولاد من الاحسان إلى الوالدين بقوله: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " (2) [ الاسراء: 24 ] أي تواضع لهما. والوجه الآخر - أن يكون المراد بوضع الاجنحة فرشها، لان في بعض الروايات (وإن الملائكة تفرش أجنحتها) أي إن الملائكة إذا رأت طالب العلم يطلبه من وجهه ابتغاء مرضات الله وكانت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم فرشت له أجنحتها في رحلته وحملته عليها، فمن هناك يسلم فلا يحفى إن كان ماشيا ولا يعيا، وتقرب عليه الطريق البعيدة ولا يصيبه ما يصيب المسافر من أنواع الضرر كالمرض وذهاب المال وضلال الطريق. وقد مضى شئ من هذا المعنى في [ آل عمران ] عند قوله تعالى: " شهد الله " الآية (3). روى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة). قال يزيد بن هارون: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم ؟. (1) في ب: السنة (2) راجع ج 10 ص 236 فما بعد. (3) راجع ج 4 ص 40. (*)
[ 297 ]
قلت: وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية، إنهم أصحاب الحديث، ذكره الثعلبي. سمعت شيخنا الاستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) إنهم العلماء، قال: وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبيرة وعلى مغرب الشمس، ويطلق على فيضة من الدمع. فمعنى (لا يزال أهل الغرب) أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين، الحديث. قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (1) [ فاطر: 28 ]. قلت: وهذا التأويل يعضده قوله عليه السلام في صحيح مسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأ هم إلى يوم القيامة). وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره. والله أعلم. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين (123) فيه مسألة واحدة - وهو أنه سبحانه عرفهم كيفية الجهاد وأن الابتداء بالاقرب فالاقرب من العدو ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرب، فلما فرغ قصد الروم وكانوا بالشام. وقال الحسن: نزلت قبل أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين، فهي من التدريج الذي كان قبل الاسلام. وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغير هم: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " (2) [ التوبة: 29 ]. وقد روي عن ابن عمر أن المراد بذلك الديلم. وروي عنه أنه سئل بمن يبدأ بالروم أو بالديلم ؟ فقال بالروم. وقال الحسن: هو قتال الديلم والترك والروم. وقال قتادة: الآية على العموم في قتال الاقرب فالاقرب، والادنى فالادنى. (1) راجع ج 14 ص. (2) راجع ص 109 من هذا الجزء. (*)
[ 298 ]
قلت: قول قتادة هو ظاهر الآية، واختار ابن العربي أن يبدأ بالروم قبل الديلم، على ما قاله ابن عمر لثلاثة أوجه. أحدها - أنهم أهل كتاب، فالحجة عليهم أكثر وآكد. الثاني - أنهم إلينا أقرب أعني أهل المدينة. الثالث - أن بلاد الانبياء في بلاد هم أكثر فاستنقاذ ها منهم أوجب. والله أعلم. (وليجدوا فيكم غلظة) أي شدة وقوة وحمية. وروى الفضل عن الاعمش وعاصم " غلظة " بفتح الغين وإسكان اللام. قال الفراء: لغة أهل الحجاز وبني أسد بكسر الغين، ولغة بني تميم " غلظة " بضم الغين. قوله تعالى: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) " ما " صلة، والمراد المنافقون. " أيكم زادته هذه إيمانا " قد تقدم القول في زيادة الايمان ونقصانه في سورة [ آل عمران ] (1). وقد تقدم معنى السورة في مقدمة الكتاب (2)، فلا معنى للاعادة. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز (3) (إن للايمان سننا وفرائض من استكملها فقد استكمل الايمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الايمان) قال عمر بن عبد العزيز: (فإن أعش فسأبينها لكم وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص). ذكره البخاري. وقال ابن المبارك: لم أجد بدا من أن أقول بزيادة الايمان وإلا رددت القرآن. قوله تعالى: وأما الذين في قلو بهم مرض فزاد تهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125) (1) راجع ج 4 ص 280 (2) راجع ج 1 ص 65. (3) الذى في البخاري: (كتب عمر بن العزيز إلى عدى بن عدى..) الخ فراجعه في كتاب الايمان. (*)
[ 299 ]
قوله تعالى: (وأما الذين في قلوبهم مرض) أي شك وريب ونفاق. وقد تقدم. (1) (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) أي شكا إلى شكهم وكفرا إلى كفرهم. وقال مقاتل: إثما إلى إثمهم، والمعنى متقارب قوله تعالى: أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (126) قوله تعالى. (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) قراءة العامة بالياء، خبرا عن المنافقين. وقرأ حمزة ويعقوب بالتاء خبرا عنهم وخطابا للمؤمنين. وقرأ الاعمش " أو لم يروا ". وقرأ طلحة بن مصرف " أولا ترى " وهي قراءة ابن مسعود، خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم. و " يفتنون " قال الطبري: يختبرون. قال مجاهد: بالقحط والشدة. وقال عطية: بالامراض والاوجاع، وهي روائد الموت. وقال قتادة والحسن ومجاهد: بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون ما وعد الله من النصر " ثم لا يتوبون " لذلك " ولا هم يذكرون ". قوله تعالى: وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون (127) قوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) " ما " صلة، والمراد المنافقون، أي إذا حضروا الرسول وهو يتلو قرآنا أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير، يقول: هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا فينقله إلى محمد، وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه. وقيل إن " نظر " في هذه الآية بمعنى أنبأ. وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: " نظر " في هذه الآية موضع قال. قوله تعالى: (ثم أنصرفوا) أي انصرفوا عن طريق الاهتداء. وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرار هم والاعلام بمغيبات أمور هم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، (1) راجع ج 1 ص 197. (*)
[ 300 ]
فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لايمانهم، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون (1) فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، ولم يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سماع من يتدبره وينظر في آياته، " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " (2) [ الانفال: 22 ]. " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " (3) [ محمد: 24 ]. قوله تعالى: (صرف الله قلوبهم) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (صرف الله قلوبهم) دعاء عليهم، أي قولوا لهم هذا. ويجوز أن يكون خبرا عن صرفها عن الخير مجازاة على فعلهم. وهي كلمة يدعي بها، كقوله: " قاتلهم الله [ التوبة: 30 ] والباء في قوله: " بأنهم " صلة ل‍ " - صرف ". الثانية - قال ابن عباس: يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة، لان قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة، أسنده الطبري عنه. قال ابن العربي: وهذا فيه نظر وما أظنه بصحيح فإن نظام الكلام أن يقال: لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة، فإن قوما قيل فيهم: " ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ". أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ حدثنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه يقول: كنا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله ! فقال: لا يقل أحد انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم: " ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم " ولكن قولوا: انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم: " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " (4) [ آل عمران: 174 ]. الثالثة - أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه صارف القلوب ومصرفها وقالبها ومقلبها، ردا على القدرية في اعتقاد هم أن قلوب الخلق بأيد يهم وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم ويحكمون بإرادتهم واختيار هم، ولذلك قال مالك فيما رواه عنه أشهب: ما أبين هذا في الرد على القدرية " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم " [ التوبة: 110 ]. وقوله عزوجل لنوح: " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " (5) [ هود: 36 ] فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزول. (1) ارتبك في الامر إذا وقع فيه ونشب ولم يتخلص. (2) راجع ج 7 ص 388. (3) راجع ج 16 ص 245. (4) راجع ج 4 ص 282. (5) راجع ج 9 ص 29. (*)
[ 301 ]
قوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128) فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (129) هاتان الآيتان في قول أبي أقرب القرآن بالسماء عهدا. وفي قول سعيد بن جبير: آخر ما نزل من القرآن " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " [ البقرة: 281 ] على ما تقدم (1). فيحتمل أن يكون قول أبي: أقرب القرآن بالسماء عهدا بعد قوله: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ". والله أعلم. والخطاب للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه، وشرفوا به غابر الايام. وقال الزجاج: هي مخاطبة لجميع العالم والمعنى: لقد جاءكم رسول من البشر، والاول أصوب. قال ابن عباس: ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل. والقول الثاني أوكد للحجة أي هو بشر مثلكم لتفهموا عنه وتأتموا به. قوله تعالى: " من أنفسكم " يقتضى مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها. وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الاسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني من نكاح ولست من سفاح). معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنى. وقرأ عبد الله بن قسيط المكي من " أنفسكم " بفتح الفاء من النفاسة، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها أي جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شئ نفيس إذا كان مرغوبا فيه. وقيل: من أنفسكم أي أكثر كم طاعة. (1) راجع ج 3 ص 350. (*)
[ 302 ]
قوله تعالى: (عزيز عليه ما عنتم) أي يعز عليه مشقتكم. والعنت: المشقة، من قولهم: أكمة عنوت إذا كانت شاقة مهلكة. وقال ابن الانباري: أصل التعنت التشديد، فإذا قالت العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادهم يشدد عليه ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه. وقد تقدم في [ البقرة ] (1). " وما " في " ما عنتم " مصدرية، وهي ابتداء و " عزيز " خبر مقدم. ويجوز أن يكون " ما عنتم " فاعلا بعزيز، و " عزيز " صفة للرسول، وهو أصوب. وكذا " حريص عليكم " وكذا " رءوف رحيم " رفع على الصفة. قال الفراء: ولو قرئ عزيزا عليه ما عنتم حريصا رؤوفا رحيما، نصبا على الحال جاز. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في معناه مما يوافق كلام العرب ما حدثنا أحمد بن محمد الازدي قال حدثنا عبد الله بن محمد الخزاعي قال سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت عبد الله بن داود الخريبي يقول في قوله عزوجل: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم " قال: أن تدخلوا النار، (حريص عليكم) قال: أن تدخلوا الجنة. وقيل: حريص عليكم أن تؤمنوا. وقال الفراء: شحيح بأن تدخلوا النار. والحرص على الشئ: الشح عليه أن يضيع ويتلف. (بالمؤمنين رءوف رحيم) الرؤوف: المبالغ في الرأفة والشفقة. وقد تقدم في [ البقرة ] معنى " رءوف رحيم " مستوفى (2). وقال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لاحد من الانبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: " بالمؤمنين رءوف رحيم " وقال: " إن الله بالناس لرءوف رحيم " [ الحج: 65 ]. وقال عبد العزيز بن يحيى: نظم الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص بالمؤمنين رءوف رحيم، عزيز عليه ما عنتم لا يهمه إلا شأنكم، وهو القائم بالشفاعة لكم فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته، فإنه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة. قوله تعالى: (فإن تولوا فقل حسبى الله) أي إن أعرض الكفار يا محمد بعد هذه النعم التي من الله عليهم بها فقل حسبي الله أي كافي الله تعالى. (لا إله إلا هو عليه توكلت) أي اعتمدت وإليه فوضت جميع أموري. (وهو رب العرش العظيم) خص العرش (1) راجع ج 3 ص 66. (2) راجع ج 1 ص 103. وج 2 ص 153، 158 (*)
[ 303 ]
لانه أعظم المخلوقات فيدخل فيه ما دونه إذا ما ذكره. وقراءة العامة بخفض " العظيم " نعتا للعرش. وقرئ بالرفع صفة للرب، رويت عن ابن كثير، وهي قراءة ابن محيصن وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه صادقا كان بها أو كاذبا. وفي نوادر الاصول عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال عشر كلمات عند دبر كل صلاة وجد الله عندهن مكفيا مجزيا خمس للدنيا وخمس للآخرة حسبي الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله لما أهمني حسبي الله لمن بغى علي حسبي الله لمن حسدني حسبي الله لمن كادني بسوء حسبي الله عند الموت حسبي الله عند المسألة في القبر حسبي الله عند الميزان حسبي الله عند الصراط حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب). وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال: أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " إلى آخر السورة، وقد بيناه. وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس أن آخر ما نزل من القرآن " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " وهذه الآية، ذكره الماوردي. وقد ذكرنا عن ابن عباس خلافه، على ما ذكرناه في [ البقرة ] وهو أصح. وقال مقاتل: تقدم نزولها بمكة. وهذا فيه بعد لان السورة مدنية والله أعلم. وقال يحيى بن جعدة: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاءه رجل من الانصار بالآيتين من آخر سورة براءة " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " فقال عمر: والله لا أسألك عليهما بينة كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم فأثبتهما. قال علماؤنا: الرجل هو خزيمة بن ثابت وإنما أثبتهما عمر رضي الله عنه بشهادته وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الاحزاب " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " (1) [ الاحزاب: 23 ] فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وخزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم هذا المعنى في مقدمة الكتاب. والحمد لله. (1) راجع ج 14 ص آية 23. (*)
[ 304 ]
بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة يونس عليه السلام سورة يونس عليه السلام مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا ثلاث آيات من قوله تعالى: " فإن كنت في شك " (1) [ يونس: 94 ] إلى آخرهن. وقال مقاتل: إلا آيتين وهي قوله: " فإن كنت في شك " نزلت بالمدينة. وقال الكلبي: مكية إلا قوله: " ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به " (2) [ يونس: 40 ] نزلت بالمدينة في اليهود. وقالت فرقة: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة. قوله تعالى: آلر تلك آيات الكتاب الحكيم (1) قوله تعالى: (الر) قال النحاس: قرئ على أبي جعفر أحمد بن شعيب بن علي ابن الحسين بن حريث قال: أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس: الر، وحم، ونون [ حروف ] الرحمن مفرقة، فحدثت به الاعمش فقال: عندك أشباه هذا ولا تخبرني به ؟. وعن ابن عباس أيضا قال: معنى " الر " أنا الله أرى. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، لان سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد: بالخير خيرات وإن شرافا * ولا أريد الشر (3) إلا أن تا وقال الحسن وعكرمة: " الر " قسم. وقال سعيد عن قتادة: " الر " اسم السورة، قال: وكذلك كل هجاء في القرآن. وقال مجاهد: هي فواتح السور. وقال محمد بن يزيد: هي تنبيه، وكذا حروف التهجي. وقرئ " الر " من غير إمالة. وقرئ بالامالة لئلا تشبه ما ولا من الحروف. (1) راجع ص 382 وص 345 من هذا الجزء. (2) كذا في نسخ الاصل وتفسير ابن عطية. (3) أجزيك بالخير خيرات وإن كان منك شر كان منى مثله ولا أريد الشر إلا أن تشاء. (عن شرح الشواهد). (*)
[ 305 ]
قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب الحكيم) ابتداء وخبر، أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. قال مجاهد وقتادة: أراد التوراة والانجيل والكتب المتقدمة، فإن " تلك " إشارة إلى غائب مؤنث. وقيل: " تلك " بمعنى هذه، أي هذه آيات الكتاب الحكيم. ومنه قول الاعشى: تلك خيلي منه وتلك ركابي * هن صفر أولادها كالزبيب أي هذه خيلي. والمراد القرآن وهو أولى بالصواب، لانه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر، ولان " الحكيم " من نعت القرآن. دليله قوله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته " (1) [ هود: 1 ] وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة " البقرة " (2). والحكيم: المحكم بالحلال والحرام والحدود والاحكام، قاله أبو عبيدة وغيره. وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم، أي إنه حاكم بالحلال والحرام، وحاكم بين الناس بالحق، فعيل بمعنى فاعل. دليله قوله: " وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " (3) [ البقرة: 213 ]. وقيل: الحكيم بمعنى المحكوم فيه، أي حكم الله فيه بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه، فهو فعيل بمعنى المفعول، قاله الحسن وغيره. وقال مقاتل: الحكيم بمعنى المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف، فعيل بمعنى مفعل، كقول الاعشى يذكر قصيدته التي قالها: وغريبة تأتي الملوك حكيمة * قد قلتها ليقال من ذا قالها قوله تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين (2) (1) راجع ج 9 ص 2. (2) راجع ج 1 ص 157 وما بعدها. (3) راجع ج 3 ص 30. (*)
[ 306 ]
قوله تعالى: (أكان للناس عجبا) استفهام معناه التقرير والتوبيخ. " وعجبا " خبر كان، واسمها (أن أوحينا) وهو في موضع رفع، أي كان إيحاؤنا عجبا للناس. وفي قراءة عبد الله " عجب " على أنه اسم كان. والخبر " أن أوحينا ". (إلى رجل منهم) قرئ " رجل " بإسكان الجيم. وسبب النزول فيما روي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بعث محمد: إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وقالوا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب، فنزلت: " أكان للناس " يعني أهل مكة " عجبا ". وقيل: إنما تعجبوا من ذكر البعث. قوله تعالى: (أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا) في موضع نصب بإسقاط الخافض، أي بأن أنذر الناس، وكذا (أن لهم قدم صدق). وقد تقدم معنى النذارة والبشارة (1) وغير ذلك من ألفاظ الآية. واختلف في معنى " قدم صدق " فقال ابن عباس: قدم صدق منزل صدق، دليله قوله تعالى: " وقل رب أدخلني مدخل صدق " (2) [ الاسراء: 80 ]. وعنه أيضا أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. وعنه أيضا " قدم صدق " سبق السعادة في الذكر الاول، وقاله مجاهد. الزجاج: درجة عالية. قال ذو الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها * مع الحسب العالي (3) طمت على البحر قتادة: سلف صدق. الربيع: ثواب صدق. عطاء: مقام صدق. يمان: إيمان صدق. وقيل: دعوة الملائكة. وقيل: ولد صالح قدموه. الماوردي: أن يوافق صدق الطاعة صدق الجزاء. وقال الحسن وقتادة أيضا: هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه شفيع مطاع يتقد مهم، كما قال: (أنا فرطكم على الحوض) (4). وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال: (هي شفاعتي توسلون بي إلى ربكم). وقال الترمذي الحكيم: قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود. وعن الحسن أيضا: مصيبتهم في النبي صلى الله عليه وسلم. وقال (1) راجع ج 1 ص 184 وص 238. (2) راجع ج 10 ص 312. (3) في ديوانه وتفسير الطبري (العادي). (4) أي متقدمكم إليه. (*)
[ 307 ]
عبد العزيز بن يحيى: " قدم صدق " قوله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " (1) [ الانبياء: 101 ]. وقال مقاتل: أعمالا قدموها، واختاره الطبري. قال الوضاح: صل لذي العرش واتخذ قدما * تنجيك يوم العثار والزلل وقيل: هو تقديم الله هذه الامة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق). وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح، فكنى عنه بالقدم كما يكنى عن الانعام باليد وعن الثناء باللسان. وأنشد حسان: لنا القدم العليا إليك وخلفنا * لاولنا في طاعة الله تابع يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم. وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم، يقال: لفلان قدم في الاسلام، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير. وهو مؤنث وقد يذكر، يقال: قدم حسن وقدم صالحة. وقال ابن الاعرابي: القدم التقدم في الشرف، قال العجاج: زل بنو العوام عن آل الحكم * وتركوا الملك لملك ذي قدم وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب) يريد آخر الانبياء، كما قال تعالى: " وخاتم النبيين " (2) [ الاحزاب: 40 ]. قوله تعالى: (قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) قرأ ابن محيصن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والاعمش " لساحر " نعتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الباقون " لسحر " نعتا للقرآن وقد تقدم معنى السحر في " البقرة " (3). قوله تعالى: إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ماا من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون (3) (1) راجع ج 11 ص 345. (2) راجع ج 14 ص (3) راجع ج 2 ص 43. (*)
[ 308 ]
قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش) تقدم في الاعراف (1). (يدبر الامر) قال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده. ابن عباس: لا يشركه في تدبير خلقه أحد. وقيل: يبعث بالامر. وقيل: ينزل به. وقيل: يأمر به ويمضيه، والمعنى متقارب. فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وإسرافيل للصور، وعزرائيل للقبض. وحقيقته تنزيل الامور في مراتبها على أحكام عواقبها، واشتقاقه من الدبر. والامر اسم لجنس الامور. (ما من شفيع) في موضع رفع، والمعنى ما شفيع (إلا من بعد إذنه) وقد تقدم في " البقرة " (2) معنى الشفاعة. فلا يشفع أحد نبي ولا غيره إلا بإذنه سبحانه، وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله: " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " (3) [ يونس: 18 ] فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لاحد إلا بإذنه، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل. قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم فاعبدوه) أي ذلكم الذي فعل هذه الاشياء من خلق السموات والارض هو ربكم لا رب لكم غيره. " فاعبدوه " أي وحدوه وأخلصوا له العبادة. (أفلا تذكرون) أي أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه. قوله تعالى: إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (4) قوله تعالى: (إليه مرجعكم) رفع بالابتداء. " جميعا " نصب على الحال. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى أجزائه. (وعد الله حقا) مصدران، أي وعد الله ذلك وعدا وحققه " حقا " صدقا لا خلف فيه. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " وعد الله حق " على الاستئناف. (1) راجع ج 7 ص 218. (2) راجع ج 3 ص 273. (3) راجع ص 321 من هذا الجزء. (*)
[ 309 ]
قوله تعالى: " إنه يبدأ الخلق " أي من التراب. " ثم يعيده " إليه. مجاهد: ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث، أو ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال. وقرأ يزيد بن القعقاع " أنه يبدأ الخلق " تكون " أن " في موضع نصب، أي وعدكم أنه يبدأ الخلق. ويجوز أن يكون التقدير لانه يبدأ الخلق، كما يقال: لبيك إن الحمد والنعمة لك، والكسر أجود. وأجاز الفراء أن تكون " أن " في موضع رفع فتكون اسما. قال أحمد بن يحيى: يكون التقدير حقا إبداؤه الخلق. قوله تعالى: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) أي بالعدل. (والذين كفروا لهم شراب من حميم) أي ماء حار قد انتهى حره، والحميمة مثله. يقال: حممت الماء أحمه فهو حميم، أي محموم، فعيل بمعنى مفعول. وكل مسخن عند العرب فهو حميم. (وعذاب أليم) أي موجع، يخلص وجعه إلى قلوبهم. (بما كانوا يكفرون) أي بكفرهم، وكان معظم قريش يعترفون بأن الله خالقهم، فاحتج عليهم بهذا فقال: من قدر على الابتداء قدر على الاعادة بعد الافناء أو بعد تفريق الاجزاء. قوله تعالى: هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5) قوله تعالى: (هو الذى جعل الشمس ضياء) مفعولان، أي مضيئة، ولم يؤنث لانه مصدر، أو ذات ضياء (والقمر نورا) عطف، أي منيرا، أو ذا نور، فالضياء ما يضئ الاشياء، والنور ما يبين فيخفى لانه من النار من أصل واحد. والضياء جمع ضوء، كالسياط والحياض جمع سوط وحوض. وقرأ قنبل عن ابن كثير " ضئاء " بهمز الياء ولا وجه له، لان ياءه كانت واوا مفتوحة وهي عين الفعل، أصلها ضواء فقلبت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام. قال المهدوي: ومن قرأ ضئاء بالهمز فهو مقلوب، قدمت
[ 310 ]
الهمزة التي بعد الالف فصارت قبل الالف ضئايا، ثم قلبت الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة. وكذلك إن قدرت أن الياء حين تأخرت رجعت إلى الواو التي انقلبت عنها فإنها تقلب همزة أيضا فوزنه فلاع مقلوب من فعال. ويقال: إن الشمس والقمر تضئ وجوههما لاهل السموات السبع وظهورهما لاهل الارضين السبع. قوله تعالى: (وقدره منازل) أي ذا منازل، أو قدر له منازل. ثم قيل: المعنى وقدرهما، فوحد إيجازا واختصارا، كما قال: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " (1). وكما قال: نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف وقيل: إن الاخبار عن القمر وحده، إذ به تحصى الشهور التي عليها العمل في المعاملات ونحوها، كما تقدم في " البقرة " (2). وفي سورة يس: " والقمر قدرناه منازل " (3) [ يس: 39 ] أي على عدد الشهر، وهو ثمانية وعشرون منزلا. ويومان للنقصان والمحاق (4)، وهناك يأتي بيانه. قوله تعالى: (لتعلموا عدد السنين والحساب) قال ابن عباس: لو جعل شمسين، شمسا بالنهار وشمسا بالليل ليس فيهما ظلمة ولا ليل، لم يعلم عدد السنين وحساب الشهور. وواحد " السنين " سنة، ومن العرب من يقول: سنوات في الجمع ومنهم من يقول: سنهات. والتصغير سنية وسنيهة. قوله تعالى: (ما خلق الله ذلك إلا بالحق) أي ما أراد الله عزوجل بخلق ذلك إلا الحكمة والصواب، وإظهارا لصنعته وحكمته، ودلالة على قدرته وعلمه، ولتجزى كل نفس بما كسبت، فهذا هو الحق. قوله تعالى: (يفصل الآيات لقوم يعلمون) تفصيل الآيات تبيينها ليستدل بها على قدرته تعالى، لاختصاص الليل بظلامه والنهار بضيائه من غير استحقاق لهما ولا إيجاب، (1) راجع ج 18 ص 109. (2) راجع ج 2 ص 341 وما بعد ها. (3) راجع ج 15 ص 29. (4) المحاق (مثلثة): آخر الشهر إذا امحق فلم ير. (*)
[ 311 ]
فيكون هذا لهم دليلا على أن ذلك بإرادة مريد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب " يفصل " بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله من قبله: " ما خلق الله ذلك إلا بالحق " وبعده " وما خلق الله في السموات والارض " فيكون متبعا له. وقرأ ابن السميقع " تفصل " بضم التاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، " والآيات " رفعا. الباقون " نفصل " بالنون على التعظيم. قوله تعالى: إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والارض لآيات لقوم يتقون (6) تقدم في " البقرة " وغيرها معناه (1)، والحمد لله. وقد قيل: إن سبب نزولها أن أهل مكة سألوا آية فردهم إلى تأمل مصنوعاته والنظر فيها، قاله ابن عباس. " لقوم يتقون " أي الشرك، فأما من أشرك ولم يستدل فليست الآية له آية. قوله تعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحيوة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون (7) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (8) قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا) " يرجون " يخافون، ومنه قول الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وخالفها في بيت نوب عواسل (2) وقيل يرجون يطمعون، ومنه قول الآخر: أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي * وقومي تميم والفلاة ورائيا (1) راجع ج 2 ص 191. (2) البيت لابي ذؤيب. وقوله: (وخالفها) بالخاء المعجمة: جاء إلى عسلها وهي غائبة ترعى. ويروى (وحالفها) بالمهملة أي لازمها. والنوب: النحل: لانها ترعى ثم تنوب إلى موضعها. ويروى: (عوامل) بدل (عواسل) وهي التي تعمل العسل والشمع. (عن شرح ديوان أبي ذؤيب). (*)
[ 312 ]
فالرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع، أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا. وجعل لقاء العذاب والثواب لقاء لله تفخيما لهما. وقيل: يجري اللقاء على ظاهره، وهو الرؤية، أي لا يطمعون في رؤيتنا. وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد، كقوله تعالى: " ما لكم لا ترجون لله وقارا " (1) [ نوح: 13 ]. وقال بعضهم: بل يقع بمعناه في كل موضع دل عليه المعنى. قوله تعالى: (ورضوا بالحياة الدنيا) أي رضوا بها عوضا من الآخرة فعملوا لها. (وأطمأنوا بها) أي فرحوا بها وسكنوا إليها، وأصل اطمأن طأمن طمأنينة، فقدمت ميمه وزيدت نون وألف وصل، ذكره الغزنوي. (والذين هم عن آياتنا) أي عن أدلتنا (غافلون) لا يعتبرون ولا يتفكرون. (أولئك مأواهم) أي مثواهم ومقامهم. (النار بما كانوا يكسبون) أي من الكفر والتكذيب. قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيما نهم تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم (9) قوله تعالى: ((إن الذين آمنوا) أي صدقوا. (وعملوا الصالحات يهد يهم ربهم بإيما نهم) أي يزيدهم (2) هداية، كقوله: " والذين اهتدوا زادهم هدى " (3) [ محمد: 17 ]. وقيل: " يهديهم ربهم بإيمانهم " إلى مكان تجري من تحتهم الانهار. وقال أبو روق: يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة. وقال عطية: " يهديهم " يثيبهم ويجزيهم. وقال مجاهد: " يهد يهم ربهم " بالنور على الصراط إلى الجنة، يجعل لهم نورا يمشون به. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوي هذا أنه قال: (يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله). هذا معنى الحديث. وقال ابن جريج: يجعل عملهم هاديا لهم. الحسن: " يهد يهم " يرحمهم. قوله تعالى: (تجرى من تحتهم الانهار) قيل: في الكلام واو محذوفة، أي وتجري من تحتهم، أي من تحت بساتينهم. وقيل: من تحت أسرتهم، وهذا أحسن في النزهة والفرجة. (1) راجع ج 19 ص 303. (2) في ب: يرزقهم. (3) راجع ج 16 ص 238. (*)
[ 313 ]
قوله تعالى: دعوا هم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعوا هم أن الحمد لله رب العالمين (10) قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) دعوا هم: أدعاؤ هم، والدعوى مصدر دعا يدعو، كالشكوى مصدر شكا يشكو، أي دعاؤ هم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم وقيل: إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد. وقيل: نداؤهم الخدم ليأتوهم بما شاءوا ثم سبحوا. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التمني قال الله تعالى " ولكم فيها ما تدعون " (1) [ فصلت: 31 ] أي ما تتمنون. والله أعلم. قوله تعالى: (وتحيتهم فيها سلام) أي تحية الله لهم أو تحية الملك أو تحية بعضهم لبعض: سلام. وقد مضى في " النساء " معنى التحية مستوفى (2). والحمد لله. قوله تعالى: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) فيه أربع مسائل: الاولى - قيل: إن أهل الجنة إذا مر بهم الطير واشتهوه قالوا: سبحانك اللهم، فيأ تيهم الملك بما اشتهوا، فإذا أكلوا حمدوا الله فسؤ الهم بلفظ التسبيح والختم بلفظ الحمد. ولم يحك أبو عبيد إلا تخفيف " أن " ورفع ما بعدها، قال: وإنما نراهم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله عزوجل: " أن لعنة الله " و " أن غضب الله " لانهم أرادوا الحكاية حين يقال الحمد لله. قال النحاس: مذهب الخليل وسيبو يه أن " أن " هذه مخففة من الثقيلة، والمعنى أنه الحمد لله. قال محمد بن يزيد: ويجوز " أن الحمد لله " يعملها خفيفة عملها ثقيلة، والرفع أقيس. قال النحاس: وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". قلت: وهى قراءة ابن محيصن، حكاها الغزنوي لانه يحكي عنه. (1) راجع ج 15 ص 43. (2) راجع ج 5 ص 297. (*)
[ 314 ]
الثانية - التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء، روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم. لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السموات ورب الارض ورب العرش الكريم). قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب. وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال: أما علمت أن الله تعالى يقول (إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين). والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شئ وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد ابن أبي وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذا دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شئ إلا استجيب له). الثالثة - من السنة لمن بدأ بالاكل أن يسمي الله عند أكله وشربه ويحمده عند فراغه اقتداء بأهل الجنة، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها). الرابعة - يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وحسن أن يقرأ آخر " والصافات " (1) فإنها جمعت تنزيه البارئ تعالى عما نسب إليه، والتسليم على المرسلين، والختم بالحمد لله رب العالمين. قوله تعالى: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون (11) (1) راجع ج 15 ص 140. (*)
[ 315 ]
قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجا لهم بالخير لقضى إليهم أجلهم) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر) قيل: معناه ولو عجل الله للناس العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير لماتوا، لانهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا، وليس هم كذا يوم القيامة، لانهم يوم القيامة يخلقون للبقاء. وقيل: المعنى لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لاهلكهم، وهو معنى " لقضي إليهم أجلهم ". وقيل: إنه خاص بالكافر، أي ولو يجعل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة، قاله ابن إسحاق. مقاتل: هو قول النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فلو عجل لهم هذا لهلكوا. وقال مجاهد: نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب: اللهم أهلكه، اللهم لا تبارك له فيه وألعنه، أو نحو هذا، فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضي إليهم أجلهم. فالآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في بعض الناس يدعون في الخير فيريدون تعجيل الاجابة ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر، فلو عجل لهم لهلكوا. الثانية - واختلف في إجابة هذا الدعاء، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني سألت الله عزوجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه). وقال شهر ابن حوشب: قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملائكة الموكلين بالعبد: لا تكتبوا على عبدي في حال ضجره شيئا، لطفا من الله تعالى عليه. قال بعضهم: وقد يستجاب ذلك الدعاء، واحتج بحديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه آخر الكتاب، قال جابر: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط (1) وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني (1) بواط (بضم أوله): جبل من جبال جهينة بناحية رضوى (جبل بالمدينة عند ينبع) غزاه النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الاول في السنة الثانية من الهجرة يريد قريشا. (*)
[ 316 ]
وكان الناضح يعتقبه (1) منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الانصار على ناضح له فأناخه فركب، ثم بعثه فتلدن (2) عليه بعض التلدن، فقال له: شأ، لعنك الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من هذا اللاعن بعيره) ؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: (انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم). في غير [ كتاب ] (3) مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فلعن رجل ناقته فقال: (أبن الذي لعن ناقته) ؟ فقال الرجل: أنا هذا يا رسول الله، فقال: (أخرها عنك فقد أجبت فيها) ذكره الحليمي في منهاج الدين. " شأ " يروى بالسين والشين، وهو زجر للبعير بمعنى سر. الثالثة - قوله تعالى: " ولو يعجل الله " قال العلماء: التعجيل من الله، والاستعجال من العبد. وقال أبو علي: هما من الله، وفي الكلام حذف، أي ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه، هذا مذهب الخليل وسيبويه. وعلى قول الاخفش والفراء كاستعجالهم، ثم حذف الكاف ونصب. قال الفراء: كما تقول ضربت زيدا ضربك، أي كضربك. وقرأ ابن عامر " لقضى إليهم أجلهم ". وهي قراءة حسنة، لانه متصل بقوله: " ولو يعجل الله للناس الشر ". قوله تعالى: (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) أي لا يعجل لهم الشر فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. (في طغيانهم يعمهون) أي يتحيرون. والطغيان: العلو والارتفاع، وقد تقدم في " البقرة " (4). وقد قيل: إن المراد بهذه الآية أهل مكة، وإنها نزلت حين قالوا: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " [ الانفال: 32 ] الآية، على ما تقدم (5) والله أعلم. (1) أي يتعاقبونه في الركوب واحد بعد واحد. والعقبة: النوبة. (2) تلدن: تلكأ وتوقف ولم ينبعث. (3) من ع وه‍. (4) راجع ج 1 ص 209. (5) ج 7 ص 398. (*)
[ 317 ]
قوله تعالى: وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون (12) قوله تعالى: (وإذا مس الا نسان الضر دعانا لجنبه) قيل: المراد بالا نسان هنا الكافر، قيل: هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك، تصيبه البأساء والشدة (1) والجهد. " دعانا لجنبه " أي على جنبه مضطجعا. (أو قاعدا أو قائما) وإنما أراد جميع حالاته، لان الانسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاثة. قال بعضهم: إنما بدأ بالمضطجع لانه بالضر أشد في غالب الامر، فهو يدعو أكثر، واجتهاده أشد، ثم القاعد ثم القائم. (فلما كشفنا عنه ضره مر) أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ. قلت: وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين، إذا أصابته العافية مر على ما كان عليه من المعاصي، فالآية تعم الكافر وغيره. (كأن لم يدعنا) قال الاخفش: هي " كأن " الثقيلة خففت، والمعنى كأنه وأنشد: وي كأن من يكن له نشب يح‍ * - بب ومن يفتقر يعش عيش ضر (2) (كذلك زين) أي كما زين لهذا الدعاء عند البلاء والاعراض عند الرخاء. (زين للمسرفين) أي للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي. وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان، وإضلاله دعاؤه إلى الكفر. قوله تعالى: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزى القوم المجرمين (13) قوله تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا) يعني الامم الماضية من قبل أهل مكة أهلكنا هم. (لما ظلموا) أي كفروا وأشركوا. (وجاء تهم رسلهم بالبينات) (1) في ع: الضراء. (2) البيت لزيد بن عمر بن نفيل فراجعه في خزانة الادب في الشاهد الثامن والسبعين بعد الاربعمائة. (*)
[ 318 ]
أي بالمعجزات الواضحات والبراهين النيرات. (وما كانوا ليؤمنوا) أي أهلكنا هم لعلمنا أنهم لا يؤمنون. يخوف كفار مكة عذاب الامم الماضية، أي نحن قادرون على إهلاك هؤلاء بتكذ يبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، ولكن نمهلهم لعلمنا بأن فيهم من يؤمن، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. وهذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والايمان. وقيل: معنى " ما كانوا ليؤمنوا " أي جازا هم على كفر هم بأن طبع على قلوبهم، ويدل على هذا أنه قال: " كذلك نجزي القوم المجرمين ". قوله تعالى: ثم جعلنا كم خلائف في الارض من بعد هم لننظر كيف تعملون (14) قوله تعالى: " ثم جعلنا كم خلائف " مفعو لان. والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم آخر " الانعام " (1) أي جعلنا كم سكانا في الارض. " من بعدهم " أي من بعد القرون المهلكة. " لننظر " نصب بلام كي، وقد تقدم نظائره وأمثاله، أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب، ولم يزل يعلمه غيبا. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر إظهارا للعدل. وقيل: النظر راجع إلى الرسل، أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم. و " كيف " نصب بقوله: تعملون: لان الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله. قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا أئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائ نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إنى أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) (1) راجع ج 7 ص 158. (*)
[ 319 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) " تتلى " تقرأ، و " بينات " نصب على الحال، أي واضحات لا لبس فيها ولا إشكال. (قال الذين لا يرجون لقائنا) يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب. قال قتادة: يعنى مشركي أهل مكة. (أئت بقرآن غير هذا أو بدله) والفرق بين تبديله والاتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه، والاتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه، وفي قو لهم ذلك ثلاثة أوجه: أحد ها - أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدا والوعيد وعدا، والحلال حراما والحرام حلالا، قاله ابن جرير الطبري. الثاني - سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، قاله ابن عيسى. الثالث - أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور، قاله الزجاج. الثانية - قوله تعالى: (قل ما يكون لي) أي قل يا محمد ما كان لي. " أن أبدله من تلقاء نفسي " ومن عندي، كما ليس لي أن ألقاه بالرد والتكذيب. (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) أي لا أتبع إلا ما أتلوه عليكم من وعد ووعيد، وتحريم وتحليل، وأمر ونهي. وقد يستدل بهذا من يمنع نسخ الكتاب بالسنة، لانه تعالى قال: " قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي " وهذا فيه بعد، فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظما، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قادرا على ذلك، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ، ولان الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه، بل كان من عند الله تعالى. الثالثة - قوله تعالى: (إني أخاف إن عصيت ربي) أي إن خالفت في تبديله وتغييره أو في ترك العمل به. (عذاب يوم عظيم) يعني يوم القيامة.
[ 320 ]
قوله تعالى: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16) قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن، ولا أعلمكم الله ولا أخبركم به، يقال: دريت الشئ وأدراني الله به، ودريته ودريت به. وفي الدارية معنى الختل، ومنه دريت الرجل أي ختلته، ولهذا لا يطلق الداري في حق الله تعالى وأيضا عدم فيه التوقيف. وقرأ ابن كثير: " ولادراكم به " بغير ألف بين اللام والهمزة، والمعنى: لو شاء الله لاعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم، فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل. وقرأ ابن عباس والحسن " ولا أدراتكم به " بتحويل الياء ألفا (1)، على لغة بني عقيل، فال الشاعر: لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى * على الارض قيسي يسوق الاباعرا وقال آخر: ألا آذنت أهل اليمامة طئ * بحرب كناصات الاغر المشهر قال أبو حاتم: سمعت الاصمعي يقول سألت أبا عمرو بن العلاء: هل لقراءة الحسن " ولا أدراتكم به " وجه ؟ فقال لا. وهل أبو عبيد: لا وجه لقراءة الحسن " ولا أدراتكم به " إلا الغلط. قال النحاس: معنى قول أبي عبيد: لا وجه، إن شاء الله على الغلط، لانه يقال: دريت أي علمت، وأدريت غيري، ويقال: درأت أي دفعت، فيقع الغلط بين دريت ودرأت. قال أبو حاتم: يريد الحسن فيما أحسب " ولا أدريتكم به " فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب، يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها، مثل: " إن هذان لساحران " (2) [ طه: 63 ]. قال المهدوي: ومن قرأ " أدرأتكم " فوجهه أن أصل الهمزة ياء، فأصله " أدريتكم " فقلبت الياء ألفا وإن كانت ساكنة، كما قال: يايس في ييس وطايئ في طيئ، ثم قلبت الالف (1) أي أن الاصل: (أدريتكم). (2) راجع ج 11 ص 215 فما بعد. (*)
[ 321 ]
همزة على لغة من قال في العالم العألم وفي الخاتم الخأتم. قال النحاس: وهذا غلط، والرواية عن الحسن " ولا أدر أتكم " بالهمزة، وأبو حاتم وغيره تكلم أنه بغير همز، ويجوز أن يكون من درأت أي دفعت، أي ولا أمرتكم أن تدفعوا فتتركوا الكفر بالقرآن. قوله تعالى: (فقد لبثت فيكم عمرا) ظرف، أي مقدارا من الزمان وهو أربعون سنة. (من قبله) أي من قبل القرآن، تعرفونني بالصدق والامانة، لا أقرأ ولا أكتب، ثم جئتكم بالمعجزات. (أفلا تعقلون) أن هذا لا يكون إلا من عند الله لا من قبلي. وقيل: معنى (لبثت فيكم عمرا) أي لبثت فيكم مدة شبابي لم أعص الله أفتر يدون مني الآن وقد بلغت أربعين سنة أن أخالف أمر الله وأغير ما ينزله علي. قال قتادة: لبثت فيهم أربعين سنة وأقام سنتين يرى رؤيا الانبياء وتوفى صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة. قوله تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون (17) هذا استفهام بمعنى الجحد، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، وبدل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله. وكذلك لا أحد أظلم منكم إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب، وقلتم ليس هذا كلامه. وهذا مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم. وقيل: هو من قول الله ابتداء. وقيل: المفتري المشرك، والمكذب بالآيات أهل الكتاب. " إنه لا يفلح المجرمون ". قوله تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضر هم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون (18)
[ 322 ]
قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) يريد الاصنام. (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) وهذه غاية الجهالة منهم، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال. وقيل: " شفعاؤنا " أي تشفع لنا عند الله في إصلاح معائشنا في الدنيا. (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض) قراءة العامة " تنبئون " بالتشديد. وقرأ أبو السمال العدوي " أتنبئون الله " مخففا، من أنبأ ينبئ. وقراءة العامة من نبأ ينبئ تنبئة، وهما بمعنى واحد، جمعهما قوله تعالى: " من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير " (1) [ التحريم: 3 ] أي أتخبرون الله أن له شريكا في ملكه أو شفيعا بغير إذنه، والله لا يعلم لنفسه شريكا في السموات ولا في الارض، لانه لا شريك له فلذلك لا يعلمه. نظيره قوله: " أم تنبئونه بما لا يعلم في الارض " (2) [ الرعد: 33 ] ثم نزه نفسه وقدسها عن الشرك فقال: " سبحانه وتعالى عما يشركون " أي هو أعظم من أن يكون له شريك وقيل: المعنى أي يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر (3) ولا يميز " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فيكذبون، وهل يتهيأ لكم أن تنبئوه بما لا يعلم، سبحانه وتعالى عما يشر كون !. وقرأ حمزة والكسائي " تشر كون " بالتاء، وهو اختيار أبي عبيد. الباقون بالياء. قوله تعالى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون (19) تقدم في " البقرة " (4) معناه فلا معنى للاعادة. وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك. وقيل: كل مولود يولد على الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ. " ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون " إشارة إلى القضاء والقدر، أي لولا ما سبق في حكمه أنه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي بينهم في الدنيا، فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين النار بكفر هم، ولكنه سبق من الله الاجل مع علمه بصنيعهم فجعل (1) راجع ج 18 ص 186 فما بعد. (2) راجع ج 9 ص 322 فما بعد. (3) في ب وع وه‍: ما لا يشفع ولا ينصر. (4) راجع ج 3 ص 30. (*)
[ 323 ]
موعد هم القيامة، قاله الحسن. وقال أبو روق: " لقضي بينهم " لاقام عليهم الساعة. وقيل: لفرغ من هلاكهم. وقال الكلبي: " الكلمة " أن الله أخر هذه الامة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا هذا التأخير لقضي بينهم بنزول العذاب أو بإقامة الساعة. والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تأخير العذاب عمن كفر به. وقيل: الكلمة السابقة أنه لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل، كما قال: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " (1) [ الاسراء: 15 ] وقيل: الكلمة قوله: (سبقت رحمتي غضبي) ولولا ذلك لما أخر العصاة إلى التوبة. وقرأ عيسى " لقضى " بالفتح. قوله تعالى: ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين (20) يريد أهل مكة، أي هلا أنزل عليه آية، أي معجزة غير هذه المعجزة، فيجعل لنا الجبال ذهبا ويكون له بيت من زخرف، ويحيى لنا من مات من آبائنا. وقال الضحاك: عصا كعصا موسى. (فقل إنما الغيب لله) أي قل يا محمد إن نزول الآية غيب. (فانتظروا) أي تربصوا. (إني معكم من المنتظرين) لنزولها. وقيل: انتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل. قوله تعالى: وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون (21) يريد كفار مكة. (رحمة من بعد ضراء مستهم) قيل: رخاء بعد شدة، وخصب بعد جدب. (إذا لهم مكر في آياتنا) أي استهزاء وتكذيب. وجواب قوله: " وإذا أذقنا ": " إذا لهم " على قول الخليل وسيبويه. " قل الله أسرع " ابتداء وخبر. " مكرا " على البيان، (1) راجع ج 10 ص 230. (*)
[ 324 ]
أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم، أي أن ما يأ تيهم من العذاب أسرع في إهلا كهم مما أتوه من المكر. (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) يعني بالرسل الحفظة. وقراءة العامة " تمكرون " بالتاء خطابا. وقرأ يعقوب في رواية رويس وأبو عمرو في رواية هارون العتكي " يمكرون " بالياء، لقوله: " إذا لهم مكر في آياتنا " قيل: قال أبو سفيان قحطنا بل بدعائك فإن سقيتنا صدقناك، فسقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا، فهذا مكرهم. قوله تعالى: هو الذى يسير كم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الارض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيوة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23) قوله تعالى: (هو الذى يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك. وقال الكلبي: يحفظكم في السير. والآية تتضمن تعديد النعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدواب والبحر. وقد مضى الكلام في ركوب البحر في " البقرة " (1). " يسير كم " قراءة العامة. ابن عامر " ينشر كم " بالنون والشين، أي يبثكم ويفرقكم. والفلك يقع على الواحد والجمع، ويذكر ويؤنث، وقد تقدم القول فيه (1). وقوله: " وجرين بهم " خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير، قال النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الامد (1) راجع ج 2 ص 194. (*)
[ 325 ]
قال ابن الانباري: وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب، قال الله تعالى: " وسقا هم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " (1) [ الانسان: 21 - 22 ] فأبدل الكاف من الهاء. قوله تعالى " بريح طيبة وفرحوا بها " تقدم الكلام (2) فيها في البقرة (جآءتها ريح عاصف) الضمير في " جاءتها " للسفينة. وقيل للريح الطيبة. والعاصف الشديدة، يقال: عصفت الريح وأعصفت، فهي عاصف ومعصف ومعصفة أي شديدة، قال الشاعر: حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة * فيها قطار ورعد صوته زجل وقال " عاصف " بالتذكير لان لفظ الريح مذكر، وهي القاصف أيضا. والطيبة غير عاصف ولا بطيئة. (وجاء هم الموج من كل مكان) والموج ما ارتفع من الماء (وظنوا) أي أيقنوا (أنهم أحيط بهم) أي أحاط بهم البلاء، يقال لمن وقع في بلية: قد أحيط به، كأن البلاء قد أحاط به، وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله. (دعوا الله مخلصين له الدين) أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه، وإن كان كافرا، لانقطاع الاسباب ورجوعه إلى الواحد رب الارباب، على ما يأتي بيانه في " النمل " إن شاء الله تعالى (3). وقال بعض المفسرين: إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيا، أي يا حي يا قيوم. وهي لغة العجم. مسألة - هذه الآية تدل على ركوب البحر مطلقا، ومن السنة حديث أبي هريرة وفيه: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء... الحديث. وحديث أنس في قصة أم حرام يدل على جواز ركوبه في الغزو، وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " مستوفى (2) والحمد لله. وقد تقدم في آخر " الاعراف " حكم راكب البحر في حال ارتجاجه وغليانه، هل حكمه حكم الصحيح أو المريض المحجور عليه، فتأمله هناك (4). (1) راجع ج 19 ص 141 فما بعد. (2) راجع ج 2 ص 297 وص 195. (3) راجع ج 13 ص 223. (4) راجع ج 7 ص 341. (*)
[ 326 ]
قوله تعالى: (لئن أنجيتنا من هذه) أي من هذه الشدائد والاهوال. وقال الكلبي: من هذه الريح. (لنكونن من الشاكرين) أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص. (فلما أنجا هم) أي خلصهم وأنقذ هم. (إذا هم يبغون في الارض بغير الحق) أي يعملون في الارض بالفساد وبالمعاصي. والبغي: الفساد والشرك، من بغى الجرح إذا فسد، وأصله الطلب، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد. (بغير الحق) أي بالتكذيب، ومنه بغت المرأة طلبت غير زوجها. قوله تعالى: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) أي وباله عائد عليكم، وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: " متاع (1) الحياة الدنيا " أي هو متاع الحياة الدنيا، ولا بقاء له. قال النحاس: ' بغيكم " رفع بالابتداء وخبره " متاع الحياة الدنيا ". و " على أنفسكم " مفعول معنى فعل البغي. ويجوز أن يكون خبره " على أنفسكم " وتضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا، وبين المعنيين حرف (2) لطيف، إذا رفعت متاعا على أنه خبر " بغيكم " فالمعنى إنما بغي بعضكم على بعض، مثل: " فسلموا على أنفسكم " [ النور: 61 ] وكذا " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " [ التوبة: 128 ]. وإذا كان الخبر " على أنفسكم " فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم، مثل " وإن أسأتم فلها ". وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال: أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا، كما يقال: البغي مصرعة. وقرأ ابن أبي إسحاق " متاع " بالنصب على أنه مصدر، أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا. أو ينزع الخافض، أي لمتاع، أو مصدر، بمعنى المفعول على الحال، أي متمتعين. أو هو نصب على الظرف، أي في متاع الحياة الدنيا، ومتعلق الظرف والجار والحال معنى الفعل في البغي. و " على أنفسكم " مفعول ذلك المعنى. قوله تعالى: إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون (24) (1) قراءة الجمهور الضم والفتح قراءة حفص وبعض. (2) حرف: كذا في الاصول أي ميل قليل أو تغيير قليل. (*)
[ 327 ]
قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطر ها والملاذ بها كماء، أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع. وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في " الكهف " (1) إن شاء الله تعالى. " أنزلناه من السماء " نعت ل‍ " - ماء ". (فاختلط) روي عن نافع أنه وقف على " فاختلط " أي فاختلط الماء بالارض، ثم ابتدأ (به نبات الارض) أي بالماء نبات الارض، فأخرجت ألوانا من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على " فاختلط " مرفوع باختلط، أي اختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندى وحسن وأخضر. والاختلاط تداخل الشئ بعضه في بعض. قوله تعالى: (مما يأكل الناس) من الحبوب والثمار والبقول. (والانعام) من الكلا والتبن والشعير. (حتى إذا أخذت الارض زخرفها) أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشئ، ومنه قيل للذهب: زخرف. (وأزينت) أي بالحبوب والثمار والازهار، والاصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجئ بألف الوصل، لان الحرف المدغم مقام حرفين الاول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب " وتزينت " على الاصل. وقرأ الحسن والاعرج وأبو العالية " وأزينت " أي أتت بالزينة عليها، أي الغلة والزرع، وجاء بالفعل على أصله ولو أعله لقال وازانت. وقال عوف ابن أبي جميلة الاعرابي: قرأ أشياخنا " وازيانت " وزنه اسوادت. وفي رواية المقدمي " وازاينت " والاصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم. وقرأ الشعبي وقتادة " وأزينت " مثل أفعلت. وقرأ أبو عثمان النهدي " وازينت " مثل أفعلت، وعنه أيضا " وازيانت مثل أفعالت، وروى عنه " ازيأنت " بالهمزة، ثلاث قراءات. قوله تعالى: (وظن أهلها) أي أيقن. (أنهم قادرون عليها) أي على حصادها والانتفاع بها، أخبر عن الارض والمعني النبات إذ كان مفهوما وهو منها. وقيل: رد (1) راجع ج 10 ص 412. (*)
[ 328 ]
إلى الغلة، وقيل: إلى الزينة. (أتاها أمرنا) أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها. (ليلا أو نهارا) ظرفان. (فجعلناها حصيدا) مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شئ فيها. وقال " حصيدا " ولم يؤنث لانه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد: الحصيد المستأصل. (كأن لم تغن بالامس) أي لم تكن عامرة، من غني إذا أقام فيه وعمره. والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة: كأن لم تنعم. قال لبيد: وغنيت سبتا قبل مجرى داحس * لو كان للنفس اللجوج خلود (1) وقراءة العامة " تغن " بالتاء لتأنيث الارض. وقرأ قتادة " يغن " بالياء، يذهب به إلى الزخرف، يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. (نفصل الآيات) أي نبينها. (لقوم يتفكرون) في آيات الله. قوله تعالى: والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (25) قوله تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام) لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال: إن الله لا يدعو كم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام هو الله، وداره الجنة، وسميت الجنة دار السلام لان من دخلها سلم من الآفات. ومن أسمائه سبحانه " السلام "، وقد بيناه في (الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى). ويأتي في سورة " الحشر (2) " إن شاء الله. وقيل: المعنى والله يدعو إلى دار السلامة. والسلام والسلامة بمعنى كالرضاع والرضاعة، قاله الزجاج. قال الشاعر: تحيي بالسلامة أم بكر * وهل لك بعد قومك من سلام (1) السبت: البرهة من الدهر. وداحس: اسم الفرس. (2) راجع ج 18 ص 45. (*)
[ 329 ]
وقيل: أراد والله يدعو إلى دار التحية، لان أهلها ينالون من الله التحية والسلام، وكذلك من الملائكة. قال الحسن: إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة، وهو تحيتهم، كما قال: " وتحيتهم فيها سلام " [ يونس: 10 ]. وقال يحيى بن معاذ: يا بن آدم، دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته من دنياك دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها. وقال ابن عباس: الجنان سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. قوله تعالى: (ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) عم بالدعوة إظهارا لحجته، وخص بالهداية استغناء عن خلقه. والصراط المستقيم، قيل: كتاب الله، رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصراط المستقيم كتاب الله تعالى). وقيل: الاسلام، رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الحق، قاله قتادة ومجاهد. وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وروى جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: (رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك وإنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الاسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الاسلام ومن دخل في الاسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها) ثم تلا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " (1). ثم تلا قتادة ومجاهد: " والله يدعوا إلى دار السلام ". وهذه الآية بينة الحجة في الرد على القدرية، لانهم قالوا: هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، والله قال: " ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " فردوا على الله نصوص القرآن. (1) هذه الآية والجملة قبلها ليست في ب وك وه‍ وى. (*)
[ 330 ]
قوله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26) قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: " وزيادة " قال: (للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم) وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رواية. وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين، وهو الصحيح في الباب. وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل) - وفي رواية ثم تلا - " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وخرجه النسائي أيضا عن صهيب قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ولا أقر لاعينهم). وخرجه ابن المبارك في دقائقه عن أبي موسى الاشعري موقوفا، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، وذكرنا هناك معنى كشف الحجاب، والحمد لله. وخرج الترمذي الحكيم أبو عبد الله رحمه الله: حدثنا علي بن حجر حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليوسلم عن الزيادتين في كتاب الله، في قوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " قال: (النظر إلى وجه الرحمن) وعن قوله: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " (1) [ الصافات: 147 ] قال: (1) راجع ج 15 ص 127 فما بعد. (*)
[ 331 ]
(عشرون ألفا). وقد قيل: إن الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك، روي عن ابن عباس. وروي عن علي [ بن أبي طالب ] (1) رضي الله عنه: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة آلاف باب. وقال مجاهد: الحسنى حسنة مثل حسنة، والزيادة مغفرة من الله ورضوان. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الحسنى الجنة، والزيادة ما أعطاهم الله في الدنيا من فضله لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقال عبد الرحمن بن سابط: الحسنى البشرى، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، قال الله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " (2) [ القيامة: 22 - 23 ]. وقال يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر التي لم يروها، وتقول: يا أهل الجنة، ما تريدون أن أمطركم ؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم إياه. وقيل: الزيادة أنه ما يمر عليهم مقدار يوم من أيام الدنيا إلا حتى يطيف بمنزل أحدهم سبعون ألف ملك، مع كل ملك هدايا من عند الله ليست مع صاحبه، ما رأوا مثل تلك الهدايا قط، فسبحان [ الواسع العليم الغني الحميد العلى الكبير العزيز القدير البر الرحيم المدبر الحكيم اللطيف الكريم الذي ] (1) لا تتناهى مقدوراته. وقيل: " احسنوا " أي معاملة الناس، " الحسنى ": شفاعتهم، والزيادة: إذن الله تعالى فيها وقبوله. قوله تعالى: (ولا يرهق) قيل: معناه يلحق، ومنه قيل: غلام مراهق إذا لحق بالرجال. وقيل: يعلو. وقيل: يغشى، والمعنى متقارب. " قتر " غبار. " ولا ذلة " أي مذلة، كما يلحق أهل النار، أي لا يلحقهم غبار في محشرهم إلى الله ولا تغشاهم ذلة. وأنشد أبو عبيدة للفرزدق: متوج برداء الملك يتبعه * موج ترى فوقه الرايات والقترا وقرأ الحسن " قتر " بإسكان التاء. والقتر والقترة والقترة بمعنى واحد، قاله النحاس. وواحد القتر قترة، ومنه قوله تعالى: " ترهقها قترة " (2) [ عبس: 41 ] أي تعلوها غبرة. وقيل: قتر كآبة وكسوف. ابن عباس: القتر سواد الوجوه. ابن بحر: دخان النار، ومنه قتار القدر. وقال ابن أبي ليلى: هو بعد نظرهم إلى ربهم عزوجل. (1) من ع وه‍ وى. (2) راجع ج 19 ص 111، وص 221 فما بعد. (*)
[ 332 ]
قلت: هذا فيه نظر، فإن الله عزوجل يقول: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. - إلى قوله - " لا يحزنهم الفزع (1) الاكبر " [ الانبياء: 101 - 103 ] وقال في غير آية: " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (2) [ البقرة: 62 ] وقال: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا " (3) [ فصلت: 30 ] [ الآية ] (4). وهذا عام فلا يتغير بفضل الله في موطن من المواطن لا قبل النظر ولا بعده وجه المحسن بسواد من كآبة ولا حزن، ولا يعلوه شئ من دخان جهنم ولا غيره. (وأما الذين أبيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) (5). قوله تعالى: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (27) قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات) أي عملوا المعاصي. وقيل: الشرك. (جزاء سيئة بمثلها) " جزاء " مرفوع بالابتداء، وخبره " بمثلها ". قال ابن كيسان: الباء زائدة، والمعنى جزاء سيئة مثلها. وقيل: الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى: جزاء سيئة كائن بمثلها، كقولك: إنما أنا بك، أي وإنما أنا كائن بك. ويجوز أن تتعلق بجزاء، التقدير: جزاء سيئة بمثلها كائن، فحذف خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون " جزاء " مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة، فيكون مثل قوله: " فعدة من أيام أخر " (6) [ البقرة: 184 ] أي فعليه عدة، وشبهه، والباء على هذا التقدير تتعلق بمحذوف، كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها، أو تكون مؤكدة أو زائدة. ومعنى هذه المثلية أن ذلك الجزاء مما يعد مماثلا لذنوبهم، أي هم غير مظلومين، وفعل الرب [ جلت قدرته وتعالى شأنه ] (4) غير معلل بعلة. (وترهقهم ذلة) أي يغشاهم هوان وخزي. (ما لهم من الله) أي من عذاب الله. (من عاصم) أي مانع يمنعهم منه. (1) راجع ج 11 ص 345. (2) راجع ج 1 ص 327 فما بعد. (3) راجع ج 15 ص 357. (4) من ع. (5) راجع ج 4 ص 166. (6) راجع ج 2 ص 272 فما بعد. (*)
[ 333 ]
(كأنما أغشيت) أي ألبست. (وجوههم قطعا) جمع قطعة، وعلى هذا يكون " مظلما " حال من " الليل " أي أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته. وقرأ الكسائي وابن كثير " قطعا " بإسكان الطاء، ف‍ " - مظلما " على هذا نعت، ويجوز أن يكون حالا من الليل. والقطع اسم ما قطع فسقط. وقال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل، وسيأتي في " هود " (1) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون (28) قوله تعالى: (ويوم نحشرهم) أي نجمعهم، والحشر الجمع. " جميعا " حال. (ثم نقول للذين أشركوا) أي اتخذوا مع الله شريكا. (مكانكم) أي الزموا واثبتوا مكانكم، وقفوا مواضعكم. (أنتم وشركاؤكم) وهذا وعيد. (فزيلنا بينهم) أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، يقال: زيلته فتزيل، أي فرقته فتفرق، وهو فعلت، لانك تقول في مصدره تزييلا، ولو كان فيعلت لقلت زيلة. والمزايلة المفارقة، يقال: زايله الله مزايلة وزيالا إذا فارقه. والتزايل التباين. قال الفراء: وقرأ بعضهم " فزايلنا بينهم "، يقال: لا أزايل فلانا، أي لا أفارقه، فإن قلت: لا أزاوله فهو بمعنى آخر، معناه لا أخاتله. (وقال شركاؤهم) عنى بالشركاء الملائكة. وقيل: الشياطين، وقيل: الاصنام، فينطقها الله تعالى فتكون بينهم هذه المحاورة. وذلك أنهم ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم والاصنام التي عبد وها أنهم أمروهم بعبادتهم ويقولون ما عبد ناكم حتى أمرتمونا. قال مجاهد: ينطق الله الاوثان فتقول ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون، وما أمرناكم بعبادتنا. وإن حمل الشركاء على الشياطين فالمعنى أنهم يقولون ذلك دهشا، أو يقولون كذبا واحتيالا للخلاص، وقد يجري مثل هذا غدا، وإن صارت المعارف ضرورية. قوله تعالى: فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين (29) (1) راجع ج 9 ص 83 فما بعد. (*)
[ 334 ]
قوله تعالى: (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم) " شهيدا " مفعول، أي كفى الله شهيدا، أو تمييز، أي اكتف به شهيدا بيننا وبينكم إن كنا أمرناكم بهذا أو رضيناه منكم. (إن كنا) أي ما كنا (عن عبادتكم لغافلين) إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، لانا كنا جمادا لا روح فينا. قوله تعالى: هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت ورودا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون (30) قوله تعالى: (هنالك) في موضع نصب على الظرف. (تبلوا) أي في ذلك الوقت. " تبلو " أي تذوق. وقال الكلبي: تعلم. مجاهد: تختبر. (كل نفس ما أسلفت) أي جزاء ما عملت وقدمت. وقيل: تسلم، أي تسلم ما عليها من الحقوق إلى أربابها بغير اختيارها. وقرأ حمزة والكسائي " تتلو " أي تقرأ كل نفس كتابها الذي كتب عليها. وقيل: " تتلو " تتبع، أي تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا، قاله السدي. ومنه قول الشاعر: إن المريب يتبع المريبا * كما رأيت الذيب يتلو الذيبا قوله تعالى: (وردوا إلى الله مولاهم الحق) بالخفض على البدل أو الصفة. ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات، يكون التقدير: وردوا حقا، ثم جئ بالالف واللام. ويجوز أن يكون التقدير: مولا هم حقا لا ما يعبدون من دونه. والوجه الثالث أن يكون مدحا، أي أعني الحق. ويجوز أن يرفع " الحق "، ويكون المعنى مولاهم الحق - على الابتداء والخبر والقطع مما قبل - لا ما يشركون من دونه. ووصف نفسه سبحانه بالحق لان الحق منه كما وصف نفسه بالعدل لان العدل منه، أي كل عدل وحق فمن قبله، وقال ابن عباس: " مولاهم بالحق " أي الذي يجازيهم بالحق. (وضل عنهم) أي بطل. (ما كانوا يفترون) " يفترون " في موضع رفع وهو بمعنى المصدر، أي افتراؤ هم. فإن قيل: كيف قال " وردوا إلى الله مولا هم الحق " وقد أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم. قيل: ليس بمولاهم في النصرة والمعونة وهو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم.
[ 335 ]
قوله تعالى: قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) المراد بمساق هذا الكلام الرد على المشركين وتقرير الحجة عليهم، فمن اعترف منهم فالحجة ظاهرة عليهم، ومن لم يعترف فيقرر عليه أن هذه السموات والارض لا بد لهما من خالق، ولا يتمارى في هذا عاقل. وهذا قريب من مرتبة الضرورة. " من السماء " أي بالمطر. " والارض " بالنبات. (أمن يملك السمع والابصار) أي من جعلهما وخلقهما لكم. (ومن يخرج الحي من الميت) أي النبات من الارض، والانسان من النطفة، والسنبلة من الحبة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر. (ومن يدبر الامر) أي يقدره ويقضيه. (فسيقولون الله) لانهم كانوا يعتقدون أن الخالق هو الله، أو فسيقولون هو الله إن فكروا وأنصفوا (فقل) لهم يا محمد. (أفلا تتقون) أي أفلا تخافون عقابه ونقمته في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32) قوله تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال) فيه ثماني مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فذلكم الله ربكم الحق " أي هذا الذي يفعل هذه الاشياء هو ربكم الحق، لا ما أشركتم معه. " فماذا بعد الحق " " ذا " صلة أي ما بعد عبادة الاله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال. وقال بعض المتقدمين: ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال، لان أولها " فذلكم الله ربكم الحق " وآخر ها " فماذا بعد الحق إلا الضلال " فهذا في الايمان والكفر، ليس في الاعمال. وقال بعضهم: إن الكفر تغطية الحق، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى، فالحرام ضلال والمباح هدى، فإن الله هو المبيح والمحرم. والصحيح الاول، لان قبل " قل من يرزقكم من السماء والارض "
[ 336 ]
ثم قال " فذلكم الله ربكم الحق " أي هذا الذي رزقكم، وهذا كله فعله هو. " ربكم الحق " أي الذي تحق له الالوهية ويستوجب العبادة، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق. الثانية - قال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الامر في نظائرها، وهي مسائل الاصول التي الحق فيها في طرف واحد، لان الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " (1) [ المائدة: 48 ]، وقوله عليه السلام: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات). والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الاحكام المتعلقة بها. الثالثة - ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال: (اللهم لك الحمد) الحديث. وفيه (أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق) الحديث. فقوله: (أنت الحق) أي الواجب الوجود، وأصله من حق الشئ أي ثبت ووجب. وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه. وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد: * ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وإليه الاشارة بقوله تعالى: " كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " (2) [ القصص: 88 ]. الرابعة - مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية. وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا، قال الله تعالى: " ذلك بأن الله هو الحق وأن (1) راجع ج 6 ص 259. (2) راجع ج 13 ص 322. (*)
[ 337 ]
ما يدعون من دونه هو الباطل " (1) [ لقمان: 30 ]. والضلال حقيقته الذهاب عن الحق، أخذ من ضلال الطريق، وهو العدول عن سمته. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك غير سبيل القصد، يقال: ضل عن الطريق وأضل الشئ إذا أضاعه. وخص في الشرع بالعبارة (2) [ في العدول ] (3) عن السداد في الاعتقاد دون الاعمال، ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك، وعليه حمل العلماء قوله تعالى: " ووجدك ضالا فهدى " (4) [ الضحى: 7 ] أي غافلا، في أحد التأويلات، يحققه قوله تعالى: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان " (5) [ الشورى: 52 ]. الخامسة - روى عبد الله بن عبد الحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى: " فماذا بعد الحق إلا الضلال " قال: اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال. وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة، فقال مالك: ما يعجبني ! وليس من شأن المؤمنين، يقول الله تعالى: " فماذا بعد الحق إلا الضلال ". وروى يونس عن أشهب قال: سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه، وليس بشئ وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل. وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج: هي من الباطل ولا أحبها. السادسة - اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار، فتحصيل مذهب مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن تخلع (6) به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته. وأما الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج، إذا كان عدلا في جميع أصحابه، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا، (1) راجع ج 12 ص 91 (2) في ب وع وه‍ وى: بالعبادة. (3) من ب وع وه‍ وى. (4) راجع ج 20 ص 96 (5) راجع ج 16 ص 54 (6) تخلع في الشراب: انهمك فيه ولازمه ليلا ونهارا. (*)
[ 338 ]
فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لاكله المال بالباطل. وقال أبو حنيفة: يكره اللعب بالشطرنج والنرد والاربعة عشر وكل اللهو، فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم. قال ابن العربي: قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لان فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة. والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالازلام. السابعة: قال علماؤنا: النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل، وكذا هو الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه. والنرد هو الذي يعرف بالباطل (1)، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالارن (2) ويعرف أيضا بالنرد شير. وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنرد شير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه). قال علماؤنا: ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيئه لان يأكله، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز، يبينه قوله صلى الله عليه وسلم (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) رواه مالك وغيره من حديث أبي موسى الاشعري وهو حديث صحيح، وهو يحرم اللعب بالنرد جملة واحدة، وكذلك الشطرنج، لم يستثن وقتا من وقت ولا حالا من حال، وأخبر أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله، إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهي عنه أن يكون على وجه القمار، لما روي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قمار. وحمل ذلك على العموم قمارا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله. قال أبو عبد الله الحليمي في كتاب منهاج الدين: ومما جاء في الشطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله). وعن علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من [ مجالس ] (3) بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال: (أما والله لغير هذا خلقتم ! أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم). وعنه رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، لان يمس أحدكم (1) في ب وع وه‍ وى: الطبل. (2) هكذا في ع وى وه‍. وفي ب: الارز: لم نجد في كتب الشطرنج ولا المعاجم ما يكشف الغمة. (3) من ع. (*)
[ 339 ]
جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها. وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد. وقال أبو موسى الاشعري: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ. وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية. وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكعاب مقته الله ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته الله). وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار، والله أعلم. وقد ذكرنا في " المائدة " بيان تحريمها (1) وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به، والله أعلم. قال ابن العربي في قبسه: وقد جوزه الشافعي، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول: هو مندوب إليه، حتى اتخذوه في المدرسة، فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد. وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها، وما كان ذلك قط ! وتالله ما مستها يد تقي. ويقولون: إنها تشحذ الذهن، والعيان يكذبهم، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن. سمعت الامام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الاقصى في المناظرة: إنها تعلم الحرب. فقال له الطرطوشي: بل تفسد تدبير الحرب، لان الحرب المقصود منها الملك واغتياله، وفي الشطرنج تقول: شاه إياك: الملك نحه عن طريقي، فاستضحك الحاضرين. وتارة شدد فيها مالك وحرمها وقال فيها: " فماذا بعد الحق إلا الضلال " وتارة استهان بالقليل منها والاهون، والقول الاول أصح والله أعلم. فإن قال قائل: روى عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال: وما الشطرنج ؟ فقيل له: إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه، فقالت: كيف يكون هذا أرونيه عيانا، فعمل لها الشطرنج، فلما رأته تسلت بذلك. ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال: لا بأس بما كان من آلة الحرب، قيل له: هذا لا حجة فيه لانه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب. وإنما قال هذا لانه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال: (1) راجع ج 6 ص 291. (*)
[ 340 ]
لا بأس بما كان من آلة الحرب، إن كان كما تقولون فلا بأس به، وكذلك من روى عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم. قال الحليمي: وإذا صح الخبر فلا حجة لاحد معه، وإنما الحجة فيه على الكافة. الثامنة: ذكر ابن وهب بإسناده أن عبد الله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجة، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها، قال: فسد ها ابن عمر ونها هم عنها. وذكر الهروي في باب (الكاف مع الجيم) في حديث ابن عباس: في كل شئ قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة، قال ابن الاعرابي: هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة، ثم يتقامرون بها. وكج إذا لعب بالكجة. قوله تعالى: (فأنى تصرفون) أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت. قوله تعالى: كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون (33) قوله تعالى: (كذلك حقت كلمة ربك) أي حكمه وقضاؤه وعلمه السابق. (على الذين فسقوا) أي خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا. (أنهم لا يؤمنون) أي لا يصدقون. وفي هذا أوفى دليل على القدرية. وقرأ نافع وابن عامر هنا وفي آخر ها " كذلك حقت كلمات ربك " وفي سورة غافر بالجمع في الثلاثة. الباقون بالافراد و " أن " في موضع نصب، أي بأنهم أو لانهم. قال الزجاج: ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من كلمات. قال الفراء: يجوز " إنهم " بالكسر على الاستئناف. قوله تعالى: قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34)
[ 341 ]
قوله تعالى: (قل هل من شركائكم) أي آلهتكم ومعبوداتكم. (من يبدأ الخلق ثم يعيده) أي قل لهم يا محمد ذلك على جهة التوبيخ والتقرير، فإن أجابوك وإلا ف‍ (- قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) وليس غيره يفعل ذلك. (فأنى تؤفكون) أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل. قوله تعالى: قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35) قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق) يقال: هداه للطريق وإلى الطريق بمعنى واحد، وقد تقدم (1). أي هل من شركائكم من يرشد إلى دين الاسلام، فإذا قالوا لا ولا بد منه ف‍ (- قل) لهم (الله يهدى للحق) ثم قل لهم موبخا ومقررا. (أفمن يهدى) أي يرشد. (إلى الحق) وهو الله سبحانه وتعالى. (أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى) يريد الاصنام التي لا تهدي أحدا، ولا تمشي إلا أن تحمل، ولا تنتقل عن مكانها إلا أن تنقل. قال الشاعر: (2) للفتى عقل يعيش به * حيث تهدي ساقه قدمه وقيل: المراد الرؤساء والمضلون الذين لا يرشدون أنفسهم إلى هدى إلا أن يرشدوا. وفي " يهدي " قراءات ست: الاولى: قرأ أهل المدينة إلا ورشا " يهدي " بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال، فجمعوا في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله: " لا تعدوا " (3) وفي قوله: " يخصمون ". قال النحاس: والجمع بين الساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة. (1) راجع ج 1 ص 160 (2) هو طرفة، كما في اللسان. (3) راجع ج 6 ص 7. (*)
[ 342 ]
الثانية - قرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والاسكان، على مذهبه في الاخفاء والاختلاس. الثالثة - قرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن " يهدي " بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، قال النحاس: هذه القراءة بينة في العربية، والاصل فيها يهتدى أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء. الرابعة - قرأ حفص ويعقوب والاعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا: لان الجزم إذا اضطر إلى حركته حرك إلى الكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر. الخامسة - قرأ أبو بكر عن عاصم " يهدي " بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، كل ذلك لاتباع الكسر كما تقدم في البقرة في " يخطف " (1) [ البقرة: 20 ] وقيل: هي لغة من قرأ " نستعين (2)، و " لن تمسنا النار " ونحوه. وسيبويه لا يجيز " يهدي " ويجيز " تهدي " و " نهدي " و " إهدي " قال: لان الكسرة في الياء تثقل. السادسة - قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والاعمش " يهدي " بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال، من هدى يهدي. قال النحاس: وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة، وأحد الوجهين أن الكسائي والفراء قالا: " يهدي " بمعنى يهتدي. قال أبو العباس: لا يعرف هذا، ولكن التقدير أمن لا يهدي غيره، تم الكلام، ثم قال: " إلا أن يهدى " استأنف من الاول، أي لكنه يحتاج أن يهدى، فهو استثناء منقطع، كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج أن يسمع. وقال أبو إسحاق: " قما لكم " كلام تام، والمعنى: فأي شئ لكم في عبادة الاوثان. ثم قيل لهم: " كيف تحكمون " أي لانفسكم وتقضون بهذا الباطل الصراح، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته، فموضع " كيف " نصب ب‍ " - تحكمون ". (1) راجع ج 1 ص 221. (2) راجع ج 1 ص 146. (*)
[ 343 ]
قوله تعالى: وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون (36) قوله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) يريد الرؤساء منهم، أي ما يتبعون إلا حدسا وتخريصا في أنها آلهة وأنها تشفع، ولا حجة معهم. وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدا. (إن الظن لا يغنى من الحق شيئا) أي من عذاب الله، فالحق هو الله. وقيل " الحق " هنا اليقين، أي ليس الظن كاليقين. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكتفى بالظن في العقائد. (إن الله عليم بما يفعلون) من الكفر والتكذيب، خرجت مخرج التهديد. قوله تعالى: وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (37) قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) " أن " مع " يفترى " مصدر، والمعنى: وما كان هذا القرآن افتراء، كما تقول: فلان يحب أن يركب، أي يحب الركوب، قاله الكسائي. وقال الفراء: المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، كقوله: " وما كان لنبي أن يغل " (1) [ آل عمران: 161 ] " " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " (2) [ التوبة: 122 ]. وقيل: " أن " بمعنى اللام، تقديره: وما كان هذا القرآن ليفترى. وقيل: بمعنى لا، أي لا يفترى. وقيل: المعنى ما كان يتهيأ لاحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله تعالى لاعجازه، لوصفه (3) ومعانيه وتأليفه. (ولكن تصديق الذى بين يديه) قال الكسائي والفراء ومحمد ابن سعدان: التقدير ولكن كان تصديق، ويجوز عندهم الرفع بمعنى: ولكن هو تصديق. " الذي بين يديه " أي من التوراة والانجيل وغيرهما من الكتب، فإنها قد بشرت به فجاء (1) راجع ج 4 ص 255. (2) راجع ص 293 من هذ الجزء. (3) في ع: لرصفه. (*)
[ 344 ]
مصدقا لها في تلك البشارة، وفي الدعاء إلى التوحيد والايمان بالقيامة. وقيل: المعنى ولكن تصديق النبي بين يدي القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لانهم شاهدوه قبل أن سمعوا منه القرآن. (وتفصيل) بالنصب والرفع على الوجهين المذكورين في تصديق. والتفصيل التبيين، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة. والكتاب اسم الجنس. وقيل: أراد بتفصيل الكتاب ما بين في القرآن من الاحكام. (لا ريب فيه) الهاء عائدة للقرآن، أي لا شك فيه أي في نزوله من قبل الله تعالى. قوله تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38) قوله تعالى: (أم يقولون أفتراه) أم هاهنا في موضع ألف الاستفهام لانها اتصلت بما قبلها. وقيل: هي أم المنقطعة التي تقدر بمعنى بل والهمزة، كقوله تعالى: " الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (1). أم يقولون افتراه " [ السجدة: 1 - 2 - 3 ] أي بل أيقولون افتراه. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو، مجازه: ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير: أيقولون افتراه، أي اختلق محمد القرآن من قبل نفسه، فهو استفهام معناه التقريع. (قل فأتوا بسورة مثله) ومعنى الكلام الاحتجاج، فإن الآية الاولى دلت على كون القرآن من عند الله، لانه مصدق الذي بين يديه من الكتب وموافق لها من غير أن يتعلم (2) محمد عليه السلام عن أحد. وهذه الآية إلزام بأن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن، وأنه معجز في مقدمة الكتاب (2)، والحمد لله. قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (39) (1) راجع ج 14 ص (2) كذا في ع وه‍ وك وا. (3) راجع ج 1 ص 69. (*)
[ 345 ]
قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) أي كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره، وعليهم أن يعلموا ذلك بالسؤال، فهذا يدل على أنه يجب أن ينظر في التأويل. وقوله: (ولما يأتهم تأويله) أي ولم يأتهم حقيقة عاقبة التكذيب من نزول العذاب بهم. أو كذبوا بما في القرآن من ذكر البعث والجنة والنار، ولم يأتهم تأويله أي حقيقة ما وعدوا في الكتاب، قاله الضحاك. وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن (من جهل شيئا عاداه) قال نعم، في موضعين: " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " وقوله: " وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " (1) [ الاحقاف: 11 ]. (كذلك كذب الذين من قبلهم) يريد الامم الخالية، أي كذا كانت سبيلهم. والكاف في موضع نصب. (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) أي أخذهم بالهلاك والعذاب. قوله تعالى: ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين (40) قوله تعالى: (ومنهم من يؤمن به) قيل: المراد أهل مكة، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه، لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعادة. و " من " رفع بالابتداء والخبر في المجرور (2). وكذا. (ومنهم من لا يؤمن به) والمعنى ومنهم من يصر على كفره حتى يموت، كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما. وقيل: المراد أهل الكتاب. وقيل: هو عام في جميع الكفار، وهو الصحيح. وقيل. إن الضمير في " به " يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأعلم الله سبحانه أنه إنما أخر العقوبة لان منهم من سيؤمن. (وربك أعلم بالمفسدين) أي من يصر على كفره، وهذا تهديد لهم. قوله تعالى: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون (41) (1) راجع ج 16 ص 189 فما بعد. (2) في ع: في الجار والمجرور. (*)
[ 346 ]
قوله تعالى: (وإن كذبوك فقل لي عملي) رفع بالابتداء، والمعنى: لى ثواب عملي في التبليغ والانذار والطاعة لله تعالى. (ولكم عملكم) أي جزاؤه من الشرك. (أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون) مثله، أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر. وهذه الآية منسوخة بآية السيف، في قول مجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد. قوله تعالى: ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون (42) ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون (43) قوله تعالى: (ومنهم من يستمعون إليك) يريد بظواهرهم، وقلوبهم لا تعي شيئا مما يقوله من الحق ويتلوه من القرآن، ولهذا قال: (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) أي لا تسمع، فظاهره الاستفهام ومعناه النفي، وجعلهم كالصم للختم على قلوبهم والطبع عليها، أي لا تقدر على هداية من أصمه الله عن سماع الهدى. وكذا المعنى في: " ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون " أخبر تعالى أن أحدا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته. وهذا وما كان مثله يرد على القدرية قولهم، كما تقدم في غير موضع. وقال: " يستمعون " على معنى " من " و " ينظر " على اللفظ، والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي كما لا تقدر أن تسمع من سلب السمع ولا تقدر أن تخلق للاعمى بصرا يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء للايمان وقد حكم الله عليهم ألا يؤمنوا. ومعنى: " ينظر إليك " أي يديم النظر إليك، كما قال: " ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت " (1) [ الاحزاب: 19 ]. قيل: إنها نزلت في المستهزئين، والله أعلم. قوله تعالى: إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44) (1) راجع ج 14 ص. (*)
[ 347 ]
لما ذكر أهل الشقاء ذكر أنه لم يظلمهم، وأن تقدير الشفاء عليهم وسلب سمع القلب وبصره ليس ظلما منه، لانه مصرف في ملكه بما شاء، وهو في جميع أفعاله عادل. " ولكن الناس أنفسهم يظلمون " بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم. وقرأ حمزة والكسائي " ولكن " مخففا " الناس " رفعا. قال النحاس: زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت " ولكن " بالواو آثرت التشديد، وإذا حذفوا الواو آثرت التخفيف، واعتل في ذلك فقال: لانها إذا كانت بغير واو أشبهت بل فخففوها ليكون ما بعدها كما بعد بل، وإذا جاءوا بالواو خالفت بل فشددوها ونصبوا بها، لانها " إن " زيدت عليها لام وكاف وصيرت حرفا واحد، وأنشد: * ولكنني من حبها لعميد * فجاء باللام لانها " إن ". قوله تعالى: ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين (45) قوله تعالى: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا) بمعنى كأنهم خففت، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم. (إلا ساعة من النهار) أي قدر ساعة: يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث، دليله قولهم: " لبثنا يوما أو بعض يوم " (1) [ الكهف: 19 ]. وقيل: إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر. ابن عباس: رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة. (يتعارفون بينهم) في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في " يحشرهم ". ويجوز أن يكون منقطعا، فكأنه قال فهم يتعارفون. قال الكلبي: يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم، وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح، يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر، وليس (1) راجع ج 10 ص 374. (*)
[ 348 ]
تعارف شفقة ورأفة وعطف. ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال: " ولا يسأل حميم حميما " (1) [ المعارج: 10 ]. وقيل: يبقى تعارف التوبيخ، وهو الصحيح لقوله تعالى: " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون " إلى قوله " وجعلنا الاغلال في أعناق الذين كفروا " (2) [ سبأ: 31 - 33 ] وقوله: " كلما دخلت أمة لعنت أختها " (3) [ الاعراف: 38 ] الآية، وقوله: " ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا " (4) [ الاحزاب: 67 ] الآية. فأما قوله: " ولا يسأل حميم حميما " وقوله: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم " (5) [ المؤمنون: 101 ] فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة، والله أعلم. وقيل: القيامة مواطن. وقيل: معنى " يتعارفون " يتساءلون، أي يتساءلون كم لبثتم، كما قال: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " (6) [ الصافات: 27 ] وهذا حسن. وقال الضحاك: ذلك تعارف تعاطف المؤمنين، والكافرون لا تعاطف عليهم، كما قال: " فلا أنساب بينهم ". والاول أظهر، والله أعلم. قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) أي بالعرض على الله. ثم قيل: يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عزوجل بعد أن دل على البعث والنشور، أي خسروا ثواب الجنة. وقيل: خسروا في حال لقاء الله، لان الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم، يقولون هذا. " وما كانوا مهتدين " بريد في علم الله. قوله تعالى: وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46) قوله تعالى: (وما نرينك) شرط. (بعض الذى نعدهم) أي من إظهار دينك في حياتك. وقال المفسرون: كان البعض الذي وعدهم قتل من قتل وأسر من أسر ببدر. (أو نتوفينك) عطف على " نرينك " أي نتوفينك قبل ذلك. (فإلينا مرجعهم) جواب (1) راجع ج 18 ص 284. (2) راجع ج 14 ص. (3) راجع ج 7 ص 204. (4) راجع ج 14 ص. (5) راجع ج 12 ص 151. (6) راجع ج 15 ص 73. (*)
[ 349 ]
" إما ". والمقصود إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا. (ثم الله شهيد) أي شاهد لا يحتاج إلى شاهد. (على ما يفعلون) من محاربتك وتكذيبك. ولو قيل: " ثم الله شهيد " بمعنى هناك، جاز. قوله تعالى: ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (47) قوله تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط) يكون المعنى: ولكل أمة رسول شاهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم، مثل. " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " (1) [ النساء: 41 ]. وقال ابن عباس: تنكر الكفار غدا مجئ الرسل إليهم، فيؤتى بالرسول فيقول: قد أبلغتكم الرسالة، فحينئذ يقضى عليهم بالعذاب. دليله قوله: " ويكون الرسول عليكم شهيدا " (2). ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذبون في الدنيا حتى يرسل إليهم، فمن آمن فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذب. دليله قوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " (3) [ الاسراء: 15 ]. والقسط: العدل. (وهم لا يظلمون) أي لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة. قوله تعالى: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) يريد كفار مكة لفرط إنكارهم واستعجالهم العذاب، أي متى العقاب أو متى القيامة التي يعدنا محمد. وقيل: هو عام في كل أمة كذبت رسولها. قوله تعالى: قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (49) (1) راجع ج 5 ص 197. (2) راجع ج 2 ص 153. (3) راجع ج 10 ص 230 فما بعد. (*)
[ 350 ]
قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا) لما استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال الله له: قل لهم يا محمد لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا، أي ليس ذلك لي ولا لغيري. (إلا ما شاء الله) أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم فلا تستعجلوا. (لكل أمة أجل) أي لهلاكهم وعذابهم وقت معلوم في علمه سبحانه. (إذا جاء أجلهم) أي وقت انقضاء أجلهم. (فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي لا يمكنهم أن يستأخروا ساعة باقين في الدنيا ولا يتقدمون فيؤخرون. قوله تعالى: قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون (50) قوله تعالى: (قل أرأيتم أن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا) ظرفان، وهو جواب لقولهم: " متى هذا الوعد " وتسفيه لآرائهم في استعجالهم العذاب، أي إن أتاكم العذاب فما نفعكم فيه، ولا ينفعكم الايمان حينئذ. (ماذا يستعجل منه المجرمون) استفهام معناه التهويل والتعظيم، أي ما أعظم ما يستعجلون به، كما يقال لمن يطلب أمرا يستوخم عاقبته: ماذا تجني على نفسك ! والضمير في " منه " قيل: يعود على العذاب، وقيل: يعود على الله سبحانه وتعالى. قال النحاس: إن جعلت الهاء في " منه " تعود على العذاب كان لك في " ماذا " تقديران: أحدهما أن يكون " ما " في موضع رفع بالابتداء، و " ذا ": بمعنى الذي، وهو خبر " ما " والعائد محذوف. والتقدير الآخر أن يكون " ماذا " اسما واحدا في موضع بالابتداء، واخبر في الجملة، قاله الزجاج. وإن جعلت الهاء في " منه " تعود على اسم الله تعالى جعلت " ما "، و " ذا " شيئا واحدا، وكانت في موضع نصب ب‍ " - يستعجل "، والمعنى: أي شئ يستعجل منه المجرمون من الله عزوجل. قوله تعالى: أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون (51)
[ 351 ]
قوله تعالى: (أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن) في الكلام حذف، والتقدير: أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال لكم إذا حل: الآن آمنتم به ؟ قيل: هو من قول الملائكة استهزاء بهم. وقيل: هو من قول الله تعالى، ودخلت ألف الاستفهام على " ثم " والمعنى: التقرير والتوبيخ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الاولى. وقيل: إن " ثم " ها هنا بمعنى: " ثم " بفتح الثاء، فتكون ظرفا، والمعنى: أهنالك، وهو مذهب الطبري، وحينئذ لا يكون فيه معنى الاستفهام. و " الآن " قيل: أصله فعل مبني مثل حان، والالف واللام لتحويله إلى الاسم. الخليل: بنيت لالتقاء الساكنين، والالف واللام للعهد والاشارة إلى الوقت، وهو حد الزمانين. (وقد كنتم به) أي بالعذاب (تستعجلون). قوله تعالى: ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون (52) قوله تعالى: (ثم قيل للذين ظلموا) أي تقول لهم خزنة جهنم. (ذوقوا عذاب الخلد) أي الذي لا ينقطع. (هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) أي جزاء كفركم. قوله تعالى: ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه الحق وما أنتم بمعجزين (53) قوله تعالى: (ويستنبئونك) أي يستخبرونك يا محمد عن العذاب وقيام الساعة. (أحق) ابتداء. (هو) سد مسد الخبر، وهذا قول سيبويه. ويجوز أن يكون " هو " مبتدأ، و " أحق " خبره. (قل إي) " إي " كلمة تحقيق وإيجاب وتأكيد بمعنى نعم. (وربي) قسم. (إنه لحق) جوابه، أي كائن لا شك فيه. (وما أنتم بمعجزين) أي فائتين عن عذابه ومجازاته.
[ 352 ]
قوله تعالى: ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (54) قوله تعالى: (ولو أن لكل نفس ظلمت) أي أشركت وكفرت. (ما في الارض) أي ملكا. (لافتدت به) أي من عذاب الله، يعني ولا يقبل منها، كما قال: " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم مل ء الارض ذهبا ولو افتدى به " [ آل عمران: 91 ] وقد تقدم (1) قوله تعالى: (وأسروا الندامة) أي أخفوها، يعني رؤساءهم، أي أخفوا ندامتهم عن أتباعهم. (لما رأوا العذاب) وهذا قبل الاحراق بالنار فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع بدليل قولهم: (ربنا غلبت علينا شقوتنا) (2). فبين أنهم لا يكتمون ما بهم. وقيل: " أسروا " أظهروا، والكلمة من الاضداد، ويدل عليه أن الآخرة ليست دار تجلد وتصبر. وقيل: وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم، لان الندامة لا يمكن إظهارها. قال كثير: فأسررت الندامة يوم نادى * بسرد جمال غاضرة المنادي وذكر المبرد فيه وجها ثالثا: أنه بدت بالندامة أسرة وجوههم، وهي تكاسير الجبهة، واحدها سرار. والندامة: الحسرة لوقوع شئ أو فوت شئ، وأصلها اللزوم، ومنه النديم لانه يلازم المجالس. وفلان نادم سادم. والسدم اللهج بالشئ. وندم وتندم (3) بالشئ أي اهتم به. قال الجوهري: السدم (بالتحريك) الندم والحزن، وقد سدم بالكسر أي اهتم وحزن ورجل نادم سادم، وندمان سدمان، وقيل: هو إتباع. وماله هم ولا سدم إلا ذلك. وقيل: الندم مقلوب الدمن، والدمن اللزوم، ومنه فلان مدمن الخمر. والدمن: ما اجتمع في الدار وتلبد من الابوال والابعار، سمي به للزومه. والدمنة: الحقد الملازم للصدر، والجمع دمن. وقد دمنت قلوبهم بالكسر، يقال: دمنت على فلان أي ضغنت. (وقضى بينهم بالقسط) أي بين الرؤساء والسفل بالعدل. (وهم لا يظلمون). (1) راجع ج 4 ص 131. (2) راجع ج 12 ص 153. (3) في ع وه‍: سدم. (*)
[ 353 ]
قوله تعالى: ألا إن لله ما في السموات والارض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (55) (ألا) كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام، أي انتبهوا لما أقول لكم (إن لله ما في السموات والارض ألا إن وعد الله حق)، " له ملك السماوات والارض " [ الحديد: 2 ] فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده (1). (ولكن أكثر هم لا يعلمون) ذلك. قوله تعالى: هو يحيى ويميت وإليه ترجعون (56) بين المعنى. وقد تقدم قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) قوله تعالى: (يا أيها الناس) يعني قريشا. (قد جاءتكم موعظة) أي وعظ. (من ربكم) يعني القرآن، فيه مواعظ وحكم. (وشفاء لما في الصدور) أي من الشك والنفاق والخلاف، والشقاق. (وهدى) أي ورشدا لمن اتبعه. (ورحمة) أي نعمة. (للمؤمنين) خصهم لانهم المنتفعون بالايمان، والكل صفات القرآن، والعطف لتأكيد المدح. قال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم قوله تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (58) قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته) قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله القرآن، ورحمته الاسلام. وعنهما أيضا: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله. وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله الايمان، ورحمته القرآن، على العكس من القول الاول. وقيل: غير هذا. (فبذلك فليفرحوا) إشارة إلى الفضل والرحمة. والعرب تأتي " بذلك " للواحد والاثنين والجمع. وروي عن النبي صلى (1) في ع: حكمه. (*)
[ 354 ]
الله عليه وسلم أنه قرأ " فبذلك فلتفرحوا " بالتاء، وهي قراءة يزيد بن القعقاع ويعقوب وغيرهما، وفي الحديث (لتأخذوا مصافكم). والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب. وقد ذم الفرح في مواضع، كقوله: " لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين " (1) [ القصص: 76 ] وقوله: " إنه لفرح فخور " (2) [ هود: 10 ] ولكنه مطلق. فإذا قيد الفرح لم يكن ذما، لقوله: " فرحين بما آتاهم الله من فضله " (3) [ آل عمران: 170 ] وها هنا قال تبارك وتعالى: " فبذلك فليفرحوا " أي بالقرآن والاسلام فليفرحوا، فقيد. قال هارون: وفي حرف أبي " فبذلك فافرحوا ". قال النحاس: سبيل الامر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أن مع النهي حرفا، إلا أنهم يحذفون، من الامر للمخاطب استغناء بمخاطبته، وربما جاءوا به على الاصل، منه " فبذلك فلتفرحوا ". (هو خير مما يجمعون) يعني في الدنيا. وقراءة العامة بالياء في الفعلين، وروي عن ابن عامر أنه قرأ " فليفرحوا " بالياء " تجمعون " بالتاء خطابا للكافرين. وروي عن الحسن أنه قرأ بالتاء في الاول، و " يجمعون " بالياء على العكس. وروى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من هداه الله للاسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه - ثم تلا - " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ". قوله تعالى: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون (59) قوله تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا). فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (قل أرأيتم) يخاطب كفار مكة. (ما أنزل الله لكم من رزق) " ما " في موضع نصب " بأرأيتم ". وقال الزجاج: في موضع نصب ب‍ " أنزل ". " وأنزل " بمعنى خلق، كما قال: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " (4) [ الزمر: 6 ]. " وأنزلنا الحديد فيه (1) راجع ج 13 ص 313. (2) راجع ج 9 ص 10. (3) راجع ج 15 ص 234. (4) راجع چ 15 ص 234. (*)
[ 355 ]
بأس شديد " (1) [ الحديد: 25 ]. فيجوز أن يعبر عن الخلق بالانزال، لان الذي في الارض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر. (فجعلتم منه حراما وحلالا) قال مجاهد: هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (2). وقال الضحاك: هو قول الله تعالى: " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا " (3) [ الانعام: 136 ]. (قل الله أذن لكم) أي في التحليل والتحريم. (أم على الله) " أم " بمعنى بل. (تفترون) هو قولهم إن الله أمرنا بها. الثانية: استدل بهذه الآية من نفي القياس، وهذا بعيد، فإن القياس دليل الله تعالى، فيكون التحليل والتحريم من الله تعالى عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلا لله تعالى فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره. قوله تعالى: وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (60) قوله تعالى: (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) " يوم " منصوب على الظرف، أو بالظن، نحو ما ظنك زيدا، والمعنى: أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به. (إن الله لذو فضل على الناس) أي في التأخير والامهال. وقيل: أراد أهل مكة حين جعلهم في حرم آمن. (ولكن أكثرهم) يعني الكفار. (لا يشكرون) الله على نعمه ولا في تأخير العذاب عنهم. وقيل: " لا يشكرون " لا يوحدون. قوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (61) (1) راجع ج 17 ص 260. (2) راجع ج 6 ص 335. (3) راجع ج 7 ص 89. (*)
[ 356 ]
قوله تعالى: (وما تكون في شأن) " ما " للجحد، أي لست في شأن، يعني من عبادة أو غيرها إلا والرب مطلع عليك. والشأن الخطب، والامر، وجمعه شؤون. قال الاخفش: تقول العرب ما شأنت شأنه، أي ما عملت عمله. (وما تتلوا منه من قرآن) قال الفراء والزجاج: الهاء في " منه " تعود على الشأن، أي تحدث شأنا فيتلى من أجله القرآن فيعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. وقال الطبري: " منه " أي من كتاب الله تعالى. " من قرآن " أعاد تفخيما، كقوله: " إني أنا الله " (1) [ القصص: 30 ]. (ولا تعملون من عمل) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والامة. وقوله: " وما تكون في شأن " خطاب له والمراد هو وأمته، وقد يخاطب الرسول والمراد هو وأتباعه. وقيل: المراد كفار قريش. (إلا كنا عليكم شهودا) أي نعلمه، ونظيره " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " (2) [ المجادلة: 4 ] (إذ تفيضون فيه) أي تأخذون فيه، والهاء عائدة على العمل، يقال: أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه. قال الراعي: فأفضن بعد كظومهن بجرة * من ذي الاباطح (3) إذ رعين حقيلا ابن عباس: " تفيضون فيه " تفعلونه. الاخفش: تتكلمون. ابن زيد: تخوضون. ابن كيسان: تنشرون القول. وقال الضحاك: الهاء عائدة على القرآن، المعنى: إذ تشيعون في القرآن الكذب. (وما يعزب عن ربك) قال ابن عباس: يغيب. وقال أبو روق: يبعد. وقال ابن كيسان: يذهب. وقرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي حيث وقع، وضم الباقون، وهما لغتان فصيحتان، نحو يعرش ويعرش. (من مثقال) " من " صلة، أي وما يعزب عن ربك مثقال (ذرة) أي وزن ذرة، أي نميلة حمراء صغيرة، وقد تقدم في (النساء) (4). (في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) عطف على لفظ مثقال، وإن شئت على ذرة. وقرأ يعقوب وحمزة برفع الراء فيهما عطفا على موضع مثقال لان من زائدة للتأكيد. وقال الزجاج: ويجوز الرفع على الابتداء. وخبره (1) راجع ج 13 ص 283. (2) راجع ج 17 ص 289. (3) في اللسان: من ذى الابارق. (4) راجع ج 5 ص 195. (*)
[ 357 ]
(إلا في كتاب مبين) يعني اللوج المحفوظ مع علم الله تعالى به. قال الجرجاني " إلا " بمعنى واو النسق، أي وهو في كتاب مبين، كقوله تعالى: " إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم " (1) [ النمل: 10 - 11 ] أي ومن ظلم. وقوله: " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " (2) [ البقرة: 150 ] أي والذين ظلموا منهم، ف‍ " - إلا " بمعنى واو النسق، وأضمر هو بعده كقوله: " وقولوا حطة " (3) [ البقرة: 58 ] أي هي حطة. وقوله: " ولا تقولوا ثلاثة " (4) [ النساء: 171 ] أي هم ثلاثة. ونظير ما نحن فيه: " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " (5) [ الانعام: 59 ] وهو في كتاب مبين. قوله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) قوله تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم " أي في الآخرة. " ولا هم يحزنون " لفقد الدنيا. وقيل: " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " أي من تولاه الله تعالى وتولى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن، قال الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها - أي عن جهنم - مبعدون - إلى قوله " لا يحزنهم الفزع الاكبر " (6) [ الانبياء: 101 - 103 ]. وروى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: من أولياء الله ؟ فقال: (الذين يذكر الله برؤيتهم). وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الانبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى). قيل: يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم. قال: (هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس - ثم قرأ - ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ". وقال (1) راجع ج 13 ص 160 فما بعد. (2) راجع ج 3 ص 168. (3) راجع ج 1 ص 409. (4) راجع ج 6 ص 20 فما بعد. (5) راجع ج 7 ص 1 فما بعد. (6) راجع ج 11 ص 345. (*)
[ 358 ]
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الجوع، يبس الشفاه من الذوي (1). وقيل: " لا خوف عليهم " في ذريتهم، لان الله يتولاهم. " ولا هم يحزنون " على دنياهم لتعويض الله إياهم في أولاهم وأخراهم لانه وليهم ومولاهم. قوله تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) هذه صفة أولياء الله تعالى، فيكون: " الذين " في موضع نصب على البدل من اسم " إن " وهو " أولياء ". وإن شئت على أعني. وقيل: هو ابتداء، وخبره. " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " فيكون مقطوعا مما قبله. أي يتقون الشرك والمعاصي. قوله تعالى: لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64) قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) عن أبي الدرداء قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: (ما سألني أحد عنها غيرك منذ أنزلت هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) خرجه الترمذي في جامعه. وقال الزهري وعطاء وقتادة: هي البشارة التي تبشر بها الملائكة المؤمن في الدنيا عند الموت. وعن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت (2) نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: (السلام عليك ولي الله الله يقرئك السلام). ثم نزع بهذه الآية: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم " (3) [ النحل: 32 ] ذكره ابن المبارك. وقال قتادة والضحاك: هي أن يعلم أين هو من قبل أن يموت. وقال الحسن: هي ما يبشرهم الله تعالى في كتابه من جنته وكريم ثوابه، لقوله: " يبشرهم ربهم (1) ذوي العود والعقل يذوي ذيا وذويا كلاهما ذبل فهو ذاو وهو ألا يصيبه ريه أو يضربه الحر فيذبل ويضعف. (2) أي إذا اجتمعت فيه تريد الخروج كما يستنقع الماء في قراره وأراد بالنفس الروح. (ابن الاثير). (3) راجع ج 10 ص 100 فما بعد. (*)
[ 359 ]
برحمة منه ورضوان " (1) [ التوبة: 21 ]، وقوله: " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات " (2) [ البقرة: 25 ]. وقوله: " وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " (3) [ فصلت: 30 ] ولهذا قال: " لا تبديل لكلمات الله " أي لا خلف لمواعيده، وذلك لان مواعيده بكلماته. (في الآخرة) قيل: بالجنة إذا خرجوا من قبورهم. وقيل: إذا خرجت الروح بشرت برضوان الله. وذكر أبو إسحاق الثعلبي: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الجوزقي (4) يقول: رأيت أبا عبد الله الحافظ في المنام راكبا برذونا عليه طيلسان وعمامة، فسلمت عليه وقلت له: أهلا بك، إنا لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، فقال: ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، قال الله تعالى: " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " الثناء الحسن: وأشار بيده. (لا تبديل لكلمات الله) أي لا خلف لوعده. وقيل: لا تبديل لاخباره، أي لا ينسخها بشئ، ولا تكون إلا كما قال. (ذلك هو الفوز العظيم) أي ما يصير إليه أولياؤه فهو الفوز العظيم. قوله تعالى: ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم (65) قوله تعالى: (ولا يحزنك قولهم) ثم الكلام، أي لا يحزنك افتراؤهم وتكذيبهم لك، ثم ابتدأ فقال: " إن العزة لله " أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده، فهو ناصرك ومعينك ومانعك. (جميعا) نصب على الحال، ولا يعارض هذا قوله: " ولله العزة ولرسوله (5) وللمؤمنين " [ المنافقون: 8 ] فإن كل عزة بالله فهي كلها لله، قال الله سبحانه: " سبحان ربك رب العزة عما يصفون " (6) [ الصافات: 180 ]. (هو السميع العليم) السميع لاقوالهم وأصواتهم، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم. (1) راجع ص 93 من هذا الجزء. (2) راجع ج 1 ص 237 فما بعد. (3) راجع ج 15 ص 357. (4) هذه النسبة إلى جوزق (كجعفر) بلدة بنيسابور. (5) راجع ج 18 ص 129. (6) راجع ج 15 ص 140. (*)
[ 360 ]
قوله تعالى: ألا إن لله من في السموات ومن في الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66) قوله تعالى: (ألا إن لله من في السموات ومن في الارض) أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء سبحانه !. قوله تعالى: (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) " ما " للنفي، أي لا يتبعون شركاء على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع. وقيل: " ما " استفهام، أي أي شئ يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء تقبيحا لفعلهم، ثم أجاب فقال: " إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون " أي يحدسون ويكذبون، وقد تقدم (1). قوله تعالى: هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (67) قوله تعالى: (هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) بين أن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار لا عبادة من لا يقدر على شئ. " لتسكنوا فيه " أي مع أزواجكم وأولاد كم ليزول التعب والكلال بكم. والسكون: الهدوء عن الاضطراب. قوله تعالى: (والنهار مبصرا) أي مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم. والمبصر: الذي يبصر، والنهار يبصر فيه. وقال: " مبصرا " تجوزا وتوسعا على عادة العرب في قولهم: " ليل قائم، ونهار صائم ". وقال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت وما ليل المطي بنائم وقال قطرب: قال أظلم الليل أي صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر. (1) راجع ج 7 ص 71. (*)
[ 361 ]
قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات) أي علامات ودلالات. (لقوم يسمعون) أي سماع اعتبار. قوله تعالى: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له ما في السموات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (68) قوله تعالى: (قالوا اتخذ الله ولدا) يعني الكفار. وقد تقدم (1). (سبحانه) نزه نفسه عن الصحابة والاولاد وعن الشركاء والانداد. (هو الغني له ما في السموات وما في الارض) ثم أخبر بغناه المطلق، وأن له ما في السموات والارض ملكا وخلقا وعبيدا، " إن كل من في السماوات والارض إلا آتي الرحمن عبدا " (2) [ مريم: 93 ]. (إن عندكم من سلطان بهذا) أي ما عندكم من حجة بهذا. (أتقولون على الله ما لا تعلمون) من إثبات الولد له، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة والله تعالى لا يجانس شيئا ولا يشابه (3) شيئا. قوله تعالى: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (69) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (70) قوله تعالى: (قل إن الذين يفترون) أي يختلقون. (على الله الكذب لا يفلحون) أي لا يفوزون ولا يأمنون، وتم الكلام. (متاع في الدنيا) أي ذلك متاع أو هو متاع في الدنيا، قاله الكسائي. وقال الاخفش: لهم متاع في الدنيا. قال أبو إسحاق: ويجوز النصب في غير القرآن على معنى يتمتعون متاعا. (ثم إلينا مرجعهم) أي رجوعهم. (ثم نذيقهم العذاب الشديد) أي الغليظ. (بما كانوا يكفرون) أي بكفرهم. (1) راجع ج 2 ص 85. (2) راجع ج 11 ص 155. (3) في ع وك: لا يشبه شئ. (*)
[ 362 ]
قوله تعالى: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون (71) قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ نوح) أمره عليه السلام أن يذكرهم أقاصيص المتقدمين، ويخوفهم العذاب الاليم على كفرهم. وحذفت الواو من " اتل " لانه أمر، أي اقرأ عليهم خبر نوح. (إذ قال لقومه) " إذ " في موضع نصب. (يا قوم إن كان كبر عليكم) أي عظم وثقل عليكم. (مقامي) المقام (بفتح الميم): الموضع الذي يقوم فيه. والمقام (بالضم) الاقامة. ولم يقرأ به فيما علمت، أي إن طال عليكم لبثي فيكم. (وتذكيري) إياكم وتخويفي لكم. (بآيات الله) وعزمتم على قتلي وطردي. (فعلى الله توكلت) أي اعتمدت. وهذا هو جواب الشرط، ولم يزل عليه السلام متوكلا على الله في كل حال، ولكن بين أنه متوكل في هذا على الخصوص ليعرف قومه أن الله يكفيه أمرهم، أي إن لم تنصروني فإني أتوكل على من ينصرني. قوله تعالى: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) قراءة العامة (1) " فأجمعوا " بقطع الالف " شركاءكم " بالنصب. وقرأ عاصم الجحدري " فاجمعوا " بوصل الالف وفتح الميم، من جمع يجمع. " شركاءكم " بالنصب. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب " فأجمعوا " بقطع الالف " شركاؤكم " بالرفع. فأما القراءة الاولى من أجمع على الشئ إذا عزم عليه. وقال الفراء: أجمع الشئ أعده. وقال المؤرج: أجمعت الامر أفصح من أجمعت عليه. وأنشد: يا ليت شعري والمنى لا تنفع * هل أغدون يوما وأمري مجمع (1) في ع وك وه‍: الائمة. (*)
[ 363 ]
قال النحاس: وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أوجه، قال الكسائي والفراء: هو بمعنى وادعوا شركاءكم لنصرتكم، وهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل. وقال محمد بن يزيد: هو معطوف على المعنى، كما قال: يا ليت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا والرمح لا يتقلد، إلا أنه محمول كالسيف. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى مع شركائكم على تناصر كم، كما يقال: التقى الماء والخشبة. والقراءة الثانية من الجمع، اعتبارا بقوله تعالى: " فجمع كيده ثم أتى " (1) [ طه: 60 ]. قال أبو معاذ: ويجوز أن يكون جمع وأجمع بمعنى واحد، " وشركاءكم " على هذه القراءة عطف على " أمركم "، أو على معنى فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم، وإن شئت بمعنى مع. قال أبو جعفر النحاس: وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا. والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع في أجمعوا، وحسن ذلك لان الكلام قد طال. قال النحاس وغيره: وهذه القراءة تبعد، لانه لو كان مرفوعا لوجب أن تكتب بالواو، ولم ير في المصاحف واو في قوله " وشركاء كم "، وأيضا فإن شركاء هم الاصنام، والاصنام لا تصنع شيئا ولا فعل لها حتى تجمع. قال المهدوي: ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخبر محذوف، أي وشركاءكم ليجمعوا أمرهم، ونسب ذلك إلى الشركاء وهي لا تسمع ولا تبصر ولا تميز على جهة التوبيخ لمن عبد ها. قوله تعالى: (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) اسم يكن وخبرها. وغمة وغم سواء، ومعناه التغطية، من قولهم: غم الهلال إذا استتر، أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم، لا كمن يخفى أمره فلا يقدر على ما يريد. قال طرفة: لعمرك ما أمري علي بغمة * نهاري ولا ليلي علي بسرمد (1) راجع ج 11 ص 211 فما بعدها. (*)
[ 364 ]
الزجاج: غمة ذا غم، والغم والغمة كالكرب والكربة. وقيل: إن الغمة ضيق الامر الذي يوجب الغم فلا يتبين صاحبه لامره مصدرا لينفرج عنه ما يغمه. وفي الصحاح: والغمة الكربة. قال العجاج: بل لو شهدت الناس إذ تكموا (1) * بغمة لو لم تفرج غموا يقال: أمر غمة، أي مبهم ملتبس، قال تعالى: " ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ". قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق. والغمة أيضا: قعر النحي (2) وغيره. قال غيره: وأصل هذا كله مشتق من الغمامة. قوله تعالى: (ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) ألف " اقضوا " ألف وصل، من قضى يقضي. قال الاخفش والكسائي: وهو مثل: " وقضينا إليه ذلك الامر " (3) [ الحجر: 66 ] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه. وروي عن ابن عباس " ثم اقضوا إلي ولا تنظرون " قال: امضوا إلي ولا تؤخرون. قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة، ومنه: قضى الميت أي مضى. وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه، وهذا من دلائل النبوات. وحكى الفراء عن بعض القراء " ثم افضوا إلي " بالفاء وقطع الالف، أي توجهوا، يقال: أفضت الخلافة إلى فلان، وأفضى إلي الوجع. وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان بنصر الله واثقا، ومن كيدهم غير خائف، علما منه بأنهم وآلهتهم لا ينفعون ولا يضرون. وهو تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه. قوله تعالى: فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72) (1) تكموا: غطوا بالغم. (2) النحى (بالكسر): زق للسمن. (3) راجع ج 10 ص 38. (*)
[ 365 ]
قوله تعالى: (فإن توليتم فما سألتكم من أجر) أي فإن أعرضتم عما جئتكم به فليس ذلك لاني سألتكم أجرا فيثقل عليكم مكافأتي. (إن أجرى إلا على الله) في تبليغ رسالته. (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي الموحدين لله تعالى. فتح أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء " أجري " حيث وقع، وأسكن الباقون. قوله تعالى: فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلنا هم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73) قوله تعالى: (فكذبوه) يعني نوحا. (فنجيناه ومن معه) أي من المؤمنين. (في الفلك) أي السفينة، وسيأتي ذكرها. (وجعلناهم خلائف) أي سكان الارض وخلفا ممن غرق. (فأنظر كيف كان عاقبة المنذرين) يعنى آخر أمر الذين أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا. قوله تعالى: ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءو هم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين (74) قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعده) أي من بعد نوح. (رسلا إلى قومهم) كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغير هم. (فجاءوهم بالبينات) أي بالمعجزات. (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) التقدير: بما كذب به قوم نوح من قبل. وقيل: " بما كذبوا به من قبل " أي من قبل يوم الذر، فإنه كان فيهم من كذب بقلبه وإن قال الجميع: بلى. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أنه لقوم بأعيانهم، مثل: " أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " (1) [ البقرة: 6 ] (كذلك نطبع) أي نختم. (على قلوب المعتدين) أي المجاوزين الحد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا. وهذا يرد على القدرية قولهم كما تقدم. (1) راجع ج 1 ص 184. (*)
[ 366 ]
قوله تعالى: ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (75) قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم) أي من بعد الرسل والامم. (موسى وهارون إلى فرعون وملئه) أي أشراف قومه. (بآياتنا) يريد الآيات التسع، وقد تقدم ذكرها (1). (فاستكبروا) أي عن الحق. (وكانوا قوما مجرمين) أي مشركين. قوله تعالى: فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون (77) قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا) يريد فرعون وقومه (قالوا إن هذا لسحر مبين) حملوا المعجزات على السحر. قال لهم موسى: (أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا) قيل: في الكلام حذف، المعنى: أتقولون للحق هذا سحر. ف‍ " - أتقولون " إنكار وقولهم محذوف أي هذا سحر، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله فقال: أسحر هذا ! فحذف قولهم الاول اكتفاء بالثاني من قولهم، منكرا على فرعون وملئه. وقال الاخفش: هو من قولهم، ودخلت الالف حكاية لقولهم، لانهم قالوا أسحر هذا. فقيل لهم: أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا، وروي عن الحسن. (ولا يفلح الساحرون) أي لا يفلح من أتى به. قوله تعالى: قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين (78) (1) راجع ج 2 ص 30، وج 7 ص 267. (*)
[ 367 ]
قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتلفتنا) أي تصرفنا وتلوينا، يقال: لفته يلفته لفتا إذا لواه وصرفه. قال الشاعر: تلفت نحو الحي حتى رأيتني * وجعت من الاصغاء ليتا وأخدعا (1) ومن هذا التفت (2) إنما هو عدل عن الجهة التي بين يديه. (عما وجدنا عليه آباءنا) يريد من عبادة الاصنام. (وتكون لكما الكبرياء) أي العظمة والملك والسلطان. (في الارض) يريد أرض مصر. ويقال للملك: الكبرياء لانه أعظم ما يطلب في الدنيا. " وما نحن لكما بمؤمنين " وقرأ ابن مسعود والحسن وغيرهما " ويكون " بالياء لانه تأنيث غير حقيقي وقد فصل بينهما. وحكى سيبويه: حضر القاضى اليوم امرأتان. قوله تعالى: وقال فرعون أئتوني بكل ساحر عليم (79) إنما قاله لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنهما سحر. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والاعمش " سحار " وقد تقدم في الاعراف القول (3) فيهما. قوله تعالى: فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون (80) أي اطرحوا على الارض ما معكم من حبالكم وعصيكم. وقد تقدم في الاعراف القول في هذا مستوفى (3). قوله تعالى: فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين (81) (1) البيت للصمة القشيري. والاصغاء الميل. والليت (بالكسر). صفحة العنق. والاخدع: عرق في صفحة العنق. (2) في ع: أي عدل. (3) راجع ج 7 ص 257 فما بعد. (*)
[ 368 ]
قوله تعالى: (فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر) تكون " ما " في موضع رفع بالابتداء، والخبر " جئتم به " والتقدير: أي شئ جئتم به، على التوبيخ والتصغير لما جاءوا به من السحر. وقراءة أبي عمرو " السحر " على الاستفهام على إضمار مبتدأ والتقدير أهو السحر. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، التقدير: السحر جئتم به. ولا تكون " ما " على قراءة من استفهم بمعنى الذي، إذ لا خبر لها. وقرأ الباقون " السحر " على الخبر، ودليل هذه القراءة قراءة ابن مسعود: " ما جئتم به سحر ". وقراءة أبي: " ما أتيتم به سحر "، ف‍ " - ما " بمعنى الذي، و " جئتم به " الصلة، وموضع " ما " رفع بالابتداء، والسحر خبر الابتداء. ولا تكون " ما " إذا جعلتها بمعنى الذي نصبا لان الصلة لا تعمل في الموصول. وأجاز الفراء نصب السحر بجئتم، وتكون ما للشرط، وجئتم في موضع جزم بما والفاء محذوفة، التقدير: فإن الله سيبطله. ويجوز أن ينصب السحر على المصدر، أي ما جئتم به سحرا، ثم دخلت الالف واللام زائدتين، فلا يحتاج على هذا التقدير إلى حذف الفاء. واختار هذا القول النحاس، وقال: حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر، كما قال: * من يفعل الحسنات الله يشكرها * بل (1) ربما قال بعضهم: إنه لا يجوز ألبتة. وسمعت علي بن سليمان يقول: حدثني محمد ابن يزيد قال حدثني المازني قال سمعت الاصمعي يقول: غير النحويون هذا البيت، وإنما الرواية: * من يفعل الخير فالرحمن يشكره * وسمعت علي بن سليمان يقول: حذف الفاء في المجازاة جائز. قال: والدليل على ذلك " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " (2). " وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم " قراءتان مشهورتان معروفتان. (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) يعني السحر. قال ابن عباس: من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية. (ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين) لم يضره كيد ساحر. ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر. (1) في ع: وربما. (2) راجع ج 16 ص 30. (*)
[ 369 ]
قوله تعالى: ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون (82) قوله تعالى: (ويحق الله الحق) أي يبينه ويوضحه. (بكلماته) أي بكلامه وحججه وبراهينه. وقيل: بعداته بالنصر. (ولو كره المجرمون) من آل فرعون. قوله تعالى: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين (83) قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) الهاء عائدة على موسى. قال مجاهد: أي لم يؤمن منهم أحد، وإنما آمن أولاد من أرسل موسى إليهم من بني إسرائيل، لطول الزمان هلك الآباء وبقي الابناء فآمنوا، وهذا اختيار الطبري. والذرية أعقاب الانسان وقد تكثر. وقيل: أراد بالذرية مؤمني بني إسرائيل. قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف. وقال ابن عباس أيضا: " من قومه " يعني من قوم فرعون، منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه. وقيل: هم أقوام آباؤهم من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية كما يسمى أولاد الفرس الذين توالدوا باليمن وبلاد العرب الابناء، لان أمهاتهم من غير جنس آبائهم، قاله الفراء. وعلى هذا فالكناية في " قومه " ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الامهات، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط. قوله تعالى: (على خوف من فرعون) لانه كان مسلطا عليهم عاتبا. (وملئهم) ولم يقل وملئه، وعنه ستة أجوبة: أحدها - أن فرعون لما كان جبارا أخبر عنه بفعل الجميع. الثاني - أن فرعون لما ذكر علم أن معه غيره، فعاد الضمير عليه وعليهم، وهذا أحد قولي الفراء. الثالث: أن تكون الجماعة سميت بفرعون مثل ثمود. الرابع: أن يكون التقدير: على خوف من آل فرعون، فيكون من باب حذف المضاف مثل: " واسأل القرية " (1) [ يوسف: 82 ] (1) راجع ج 9 ص 245 فما بعد. (*)
[ 370 ]
وهو القول الثاني للفراء. وهذا الجواب على مذهب سيبويه والخليل خطأ، لا يجوز عندهما قامت هند، وأنت تريد غلامها. الخامس: مذهب الاخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذرية، أي ملا الذرية، وهو اختيار الطبري. السادس: أن يكون الضمير يعود على قومه. قال النحاس: وهذا الجواب كأنه أبلغها. (أن يفتنهم) وحد " يفتنهم " على الاخبار عن فرعون، أي يصرفهم عن دينهم بالعقوبات، وهو في موضع خفض على أنه بدل اشتمال. ويجوز أن يكون في موضع نصب ب‍ " - خوف ". ولم ينصرف فرعون لانه اسم أعجمي وهو معرفة. (وإن فرعون لعال في الارض) أي عات متكبر (وإنه لمن المسرفين) أي المجاوزين الحد في الكفر، لانه كان عبد افادعى الربوبية. قوله تعالى: وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين (85) قوله تعالى: (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم) أي صدقتم. (بالله فعليه توكلوا) أي اعتمدوا. (إن كنتم مسلمين) كرر الشرط تأكيدا، وبين أن كمال الايمان بتفويض الامر إلى الله. (فقالوا على الله توكلنا) أي أسلمنا أمورنا إليه، ورضينا بقضائه وقدره، وانتهينا إلى أمره. (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) أي لا تنصرهم علينا، فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم. وقال مجاهد: المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول أعداؤنا لو كانوا على حق لم نسلط عليهم، فيفتنوا. وقال أبو مجلز وأبو الضحا: يعني لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا. قوله تعالى: ونجنا برحمتك من القوم الكافرين (86) قوله تعالى: (ونجنا برحمتك) أي خلصنا. (من القوم الكافرين) أي من فرعون وقومه لانهم كانوا يأخذونهم بالاعمال الشاقة.
[ 371 ]
قوله تعالى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلوة وبشر المؤمنين (87) قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا " أي اتخذا. " لقومكما بمصر بيوتا " يقال: بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا. والمبوأ المنزل الملزوم، ومنه بوأه الله منزلا، أي ألزمه إياه وأسكنه، ومنه الحديث: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) قال الراجز: نحن بنو عدنان ليس شك * تبوأ المجد بنا والملك ومصر في هذه الآية هي الاسكندرية، في قول مجاهد. وقال الضحاك: إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والاسكندرية من أرض مصر. الثانية - قوله تعالى: (واجعلوا بيوتكم قبلة) قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ومنعوا من الصلاة، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا لبني إسرائيل بيوتا بمصر، أي مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة. هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وأبي مالك وابن عباس وغيرهم. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. والقول الاول أصح، أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة، قيل: بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم، قاله ابن بحر. وقيل الكعبة. عن ابن عباس قال: وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، وهذا يدل على أن القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى عليه السلام، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة، فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة. وقيل: المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا، وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت،
[ 372 ]
والاقدام على الصلاة، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله: " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا " (1) الآية. وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم. قال ابن العربي: والاول أظهر القولين، لان الثاني دعوى. قلت: قوله: " دعوى " صحيح، فإن في الصحيح قوله عليه السلام: (جعلت لي الارض مسجدا وطهورا) وهذا مما خص به دون الانبياء، فنحن بحمد الله نصلي في المساجد والبيوت، وحيث أدركتنا الصلاة، إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها. وقبل الصلوات المفروضات وبعدها، إذ النوافل يحصل فيها الرياء، والفرائض لا يحصل فيها ذلك، وكلما خلص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى. روى مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه قالت: (كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلى بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين..) الحديث. وعن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين، فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته. وروى أبو داود عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني الاشهل فصلى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال: (هذه صلاة البيوت). الثالثة - واختلف العلماء من (2) هذا الباب في قيام رمضان، هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد ؟ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه، وبه قال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي. وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن حضورها في الجماعة أفضل. وقال الليث: لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم أحد في المسجد (1) راجع ج 7 ص 261 فما بعد. (2) في ه‍: في هذا. (*)
[ 373 ]
لا ينبغي أن يخرجوا إليه. والحجة لمالك ومن قال بقوله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) خرجه البخاري. احتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها في الجماعة في المسجد، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض عليهم فلذلك قال لهم: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم). ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعا متفرقين، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد فاستقر الامر على ذلك وثبت سنة. الرابعة - وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة. والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس، أو خوف زيادته، أو خوف جور السلطان في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه، وقد فعل ذلك ابن عمر. الخامسة - قوله تعالى: (وبشر المؤمنين) قيل: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لموسى عليه السلام، وهو أظهر، أي بشر بني إسرائيل بأن الله سيظهرهم على عدوهم. قوله تعالى: وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم (88) قوله تعالى: (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه) " آتيت " أي أعطيت. (زينة وأموالا في الحياة الدنيا) أي مال الدنيا، وكان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد والياقوت.
[ 374 ]
قوله تعالى: (ربنا ليضلوا عن سبيلك) اختلف في هذه اللام، وأصح ما قيل فيها - وهو قول الخليل وسيبويه - أنها لام العاقبة والصيرورة، وفي الخبر (إن لله تعالى ملكا ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب). أي لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال صار كأنه أعطاهم ليضلوا. وقيل: هي لام كي أي أعطيتهم لكي يضلوا ويبطروا ويتكبروا. وقيل: هي لام أجل، أي أعطيتهم لاجل إعراضهم عنك فلم يخافوا أن تعرض عنهم. وزعم قوم أن المعنى: أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا كما قال عزوجل: (يبين الله لكم أن تضلوا) (1). والمعنى: لان لا تضلوا. قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن، إلا أن العرب لا تحذف " لا " إلا مع أن، فموه صاحب هذا الجواب بقوله عزوجل: " أن تضلوا ". وقيل: اللام للدعاء، أي ابتلهم بالضلال عن سبيلك، لان بعده: " اطمس على أموالهم واشدد ". وقيل: الفعل معنى المصدر أي إضلالهم كقوله عزوجل: " لتعرضوا عنهم ". قرأ الكوفيون: " ليضلوا " بضم الياء من الاضلال، وفتحها الباقون. قوله تعالى: (ربنا اطمس على أموالهم) أي عاقبهم عل كفرهم بإهلاك أموالهم. قال الزجاج: طمس الشئ إذهابه عن صورته. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: صارت أموالهم ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد. وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد وعطية: أهلكها حتى لا ترى، يقال: عين مطموسة، وطمس الموضع إذا عفا ودرس. وقال ابن زيد: صارت دنانير هم ودراهمهم وفرشهم وكل شئ لهم حجارة. محمد ابن كعب: وكان الرجل منهم يكون مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين، قال: وسألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له فدعا بخريطة (2) أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة. وقال السدي: وكانت إحدى الآيات التسع. (واشدد على قلوبهم) قال ابن عباس: أي امنعهم الايمان. وقيل: قسها واطبع عليها حتى لا تنشرح للايمان، والمعنى (1) راجع ج 6 ص 28 فما بعد. (2) الخريطة: هنة مثل الكيس تكون من الخرق والادم تشرج على ما فيها. اللسان. (*)
[ 375 ]
واحد. " قلا يؤمنوا " قيل: هو عطف على قوله: " ليضلوا " أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا، قاله الزجاج والمبرد. وعلى هذا لا يكون فيه من معنى الدعاء شئ. وقوله: (ربنا اطمس، واشدد) كلام معترض. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء، فهو في موضع جزم عندهم، أي اللهم فلا يؤمنوا، أي فلا آمنوا. ومنه قول الاعشى: فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى * ولا تلقني إلا وأنفك راغم أي لا انبسط. ومن قال " ليضلوا " دعاء - أي ابتلهم بالضلال - قال: عطف عليه " فلا يؤمنوا ". وقيل: هو في موضع نصب لانه جواب الامر، أي واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا. وهذا قول الاخفش والفراء أيضا، وأنشد الفراء: ياناق سيري عنقا فسيحا * إلى سليمان فنستريحا فعلى هذا حذفت النون لانه منصوب. (حتى يروا العذاب الاليم) قال ابن عباس: هو الغرق. وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم، فالجواب أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن، دليله قوله لنوح عليه السلام: " إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " (1) [ هود: 36 ] وعند ذلك قال: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " (2) [ الآية ] (3) [ نوح: 26 ]. والله أعلم. قوله تعالى: قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون (89) قوله تعالى: (قال قد أجيبت دعوتكما) قال أبو العالية: دعا موسى وأمن هارون، [ فسمي هارون ] (4) وقد أمن على الدعاء داعيا. والتأمين على الدعاء أن يقول آمين، فقولك آمين (1) راجع ج 9 ص 29. (2) راجع ج 18 ص 312. (3) من ع. (4) من ع وك وه‍. (*)
[ 376 ]
دعاء، أي يا رب استجب لي. وقيل: دعا هارون مع موسى أيضا. وقال أهل المعاني: ربما خاطبت العرب الواحد بخطاب الاثنين، قال الشاعر: فقلت لصاحبي لا تعجلانا * بنزع أصوله فاجتز شيحا وهذا على أن آمين ليس بدعاء، وأن هارون لم يدع. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى عليه السلام " ربنا " ولم يقل رب. وقرأ علي والسلمي " دعواتكما " بالجمع. وقرأ ابن السميقع " أجبت دعوتكما " خبرا عن الله تعالى، ونصب دعوة بعده. وتقدم القول في " آمين " في آخر الفاتحة (1) مستوفى. وهو مما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهارون وموسى عليهما السلام. روى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الاصول. وقد تقدم في الفاتحة. (1) قوله تعالى: (فاستقيما) قال الفراء وغيره: أمر بالاستقامة. على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الايمان، إلى أن يأتيهما تأويل الاجابة. قال محمد بن علي وابن جريج: مكث فرعون وقومه بعد هذه الاجابة أربعين سنة ثم أهلكوا. وقيل: " استقيما " أي على الدعاء، والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب. (ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) بتشديد النون في موضع جزم على النهي، والنون للتوكيد وحركت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لانها أشبهت نون الاثنين. وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي. وقيل: هو حال من استقيما، أي استقيما غير متبعين، والمعنى: لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي. (1) راجع ج 1 ص 127. (*)
[ 377 ]
قوله تعالى: وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين (90) قوله تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) تقدم القول فيه في " البقرة " في قوله: " وإذ فرقنا بكم البحر " (1). وقرأ الحسن " وجوزنا " وهما لغتان. (فأتبعهم فرعون وجنوده) يقال: تبع وأتبع بمعنى واحد، إذا لحقه وأدركه. وأتبع (بالتشديد) إذا سار خلفه. وقال الاصمعي: أتبعه (بقطع الالف) إذا لحقه وأدركه، وأتبعه (بوصل الالف) إذا أتبع أثره، أدركه أو لم يدركه. وكذلك قال أبو زيد. وقرأ قتادة " فاتبعهم " بوصل الالف. وقيل: " اتبعه " (بوصل الالف) في الامر اقتدى به. وأتبعه (بقطع الالف) خيرا أو شرا، هذا قول أبي عمرو. وقد قيل هما بمعنى واحد. فخرج موسى ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا، وتبعه فرعون مصبحا في ألفي ألف وستمائة ألف. وقد تقدم. (2) (بغيا) نصب على الحال. (وعدوا) معطوف عليه، أي في حال بغي واعتداء وظلم، يقال: عدا يعدو عدوا، مثل غزا يغزو غزوا. وقرأ الحسن " وعدوا " بضم العين والدال وتشديد الواو، مثل علا يعلو علوا. وقال المفسرون: " بغيا " طلبا للاستعلاء بغير حق في القول، " وعدوا " في الفعل، فهما نصب على المفعول له. (حتى إذا أدركه الغرق) أي ناله ووصله. (قال آمنت) أي صدقت. (أنه) أي بأنه. (لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل) فلما حذف الخافض تعدى الفعل فنصب. وقرئ بالكسر، أي صرت مؤمنا ثم استأنف. وزعم أبو حاتم أن القول محذوف، أي آمنت فقلت إنه، والايمان لا ينفع حينئذ، والتوبة مقبولة قبل رؤية البأس، وأما بعدها وبعد المخالطة فلا تقبل، حسب ما تقدم في " النساء " (3) بيانه. ويقال: إن فرعون هاب دخول البحر وكان على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبريل على فرس وديق (1) راجع ج 1 ص 387. (2) راجع ج 1 ص 389. (3) راجع ج 5 ص 90. (*)
[ 378 ]
- أي شهي - (1) في صورة هامان وقال له: تقدم، ثم خاض البحر فتبعها حصان فرعون، وميكائيل يسوقهم لا يشذ منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم البحر، وألجم فرعون الغرق فقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، فدس جبريل في فمه حال البحر. وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أغرق الله فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. حال البحر: الطين الاسود الذي يكون في أرضه، قاله أهل اللغة. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: (أن جبريل جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه). قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال عون بن عبد الله: بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما ولد إبليس أبغض إلي من فرعون، فإنه لما أدركه الغرق قال: " آمنت " الآية، فخشيت أن يقولها فيرحم، فأخذت تربة أو طينة فحشوتها في فيه. وقيل: إنما فعل هذا به عقوبة له على عظيم ما كان يأتي. وقال كعب الاحبار: أمسك الله نيل مصر عن الجري في زمانه. فقالت له القبط: إن كنت ربنا فأجر لنا الماء، فركب وأمر بجنوده قائدا قائدا وجعلوا يقفون على درجاتهم وقفز (2) حيث لا يرونه ونزل عن دابته ولبس ثيابا له أخرى وسجد وتضرع لله تعالى فأجرى الله له الماء، فأتاه جبريل وهو وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الامير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سند (3) له غيره، فكفر نعمه وجحد حقه وادعى السيادة دونه، فكتب فرعون: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريان جزاؤه أن يغرق في البحر، فأخذه جبريل ومر فلما أدركه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه. وقد مضى هذا في " البقرة " (4) عن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس مسندا، وكان هذا في يوم عاشوراء على ما تقدم بيانه في " البقرة " أيضا فلا معنى للاعادة. (1) أي تشتهي الفحل. (2) في ع وك وه‍: قعد. (3) في ع: لا سيد له. (4) راجع ج 1 ص 381 فما بعد. (*)
[ 379 ]
قوله تعالى: (وأنا من المسلمين) أي من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة. قوله تعالى: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) قيل: هو من قول الله تعالى. وقيل: هو من قول جبريل. وقيل: ميكائيل، صلوات عليهما، أو غيرهما من الملائكة [ له ] (1) صلوات الله عليهم. وقيل: هو من قول فرعون في نفسه، ولم يكن ثم قول اللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال: حيث لم تنفعه الندامة، ونظيره. " إنما نطعمكم لوجه الله " (2) [ الانسان: 9 ] أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم، والكلام الحقيقي كلام القلب. قوله تعالى: فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون (92) قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك) أي نلقيك على نجوة من الارض. وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا: هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الارض، أي مكان مرتفع من البحر حتى شاهدوه. قال أوس بن حجر يصف مطرا: فمن بعقوته كمن بنجوته * والمستكن كمن يمشي بقرواح (3) وقرأ اليزيدي وابن السميقع " ننحيك " بالحاء من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود، أي تكون على ناحية من البحر. قال ابن جريج: فرمي به على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل، وكان قصيرا أحمر كأنه ثور. وحكى علقمة عن عبد الله أنه قرأ " بندائك " من النداء. قال أبو بكر الانباري: وليس بمخالف لهجاء مصحفنا، إذ سبيله أن يكتب بياء وكاف بعد الدال، لان الالف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط من الظلمات والسموات، فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك، على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين، والقراءة سنة يأخذها آخر عن أول، وفي معناها نقص عن (1) من ع وه‍. (2) راجع ج 19 ص 125 فما بعد. (3) العقوة والعقاة: الساحة وما حول الدار والمحلة وجمعها عقاء. والقرواح: الارض البارزة للشمس. (*)
[ 380 ]
تأويل قراءتنا، إذ ليس فيها للدرع ذكر، الذي تتابعت الآثار بأن بني إسرائيل اختلفوا في غرق فرعون، وسألوا الله تعالى أن يريهم إياه غريقا فألقوه على نجوة من الارض ببدنه وهو درعه التي يلبسها في الحروب. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: وكانت درعه من لؤلؤ منظوم. وقيل: من الذهب وكان يعرف بها. وقيل: من حديد، قاله أبو صخر: والبدن الدرع القصيرة. وأنشد أبو عبيدة للاعشى: وبيضاء كالنهي موضونة * لها قونس فوق جيب البدن (1) وأنشد أيضا لعمرو بن معد يكرب: ومضى نساؤهم بكل مفاضة * جدلاء سابغة وبالابدان (2) وقال كعب بن مالك: ترى الابدان فيها مسبغات * على الابطال واليلب الحصينا أراد بالابدان الدروع واليلب الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض، وهو اسم جنس، الواحد يلبة. قال عمرو بن كلثوم: علينا البيض واليلب اليماني * وأسياف يقمن وينحنينا وقيل " ببدنك " بجسد لا روح فيه، قاله مجاهد. قال الاخفش: وأما قول من قال بدرعك فليس بشئ. قال أبو بكر: لانهم لما ضرعوا إلى الله يسألونه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأوا جسدا لا روح فيه، فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم ! يا موسى هذا فرعون وقد غرق، فخرج الشك من قلوبهم وابتلع البحر فرعون كما كان. فعلى هذا " ننجيك ببدنك " احتمل معنيين: أحدهما - نلقيك على نجوة من الارض. والثاني - نظهر جسدك الذي لا روح فيه. والقراءة الشاذة " بندائك " يرجع معناها إلى معنى قراءة الجماعة، لان النداء يفسر تفسيرين، أحدهما - نلقيك بصياحك بكلمة التوبة، وقولك بعد أن أغلق بابها ومضى (1) البيضاء: الدرع والنهى (بالفتح والكسر): الغدير وكل موضع يجتمع فيه الماء. والموضونة: الدرع المنسوجة. والقونس: أعلى بيضة في الحديد. (2) في ع وه‍: مشى والمفاضة (بضم أوله): الدرع الواسعة. والجدلاء: الدرع المحكمة النسيج. (*)
[ 381 ]
وقت قبولها: " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " [ يونس: 90 ] على موضع رفيع. والآخر - فاليوم نعزلك عن غامض البحر بندائك لما قلت أنا ربكم الاعلى، فكانت تنجيته بالبدن معاقبة من رب العالمين له على ما فرط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى فيه وبهت، وادعى القدرة والامر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه وغير مستحق له. قال أبو بكر الانباري: فقراءتنا تتضمن ما في القراءة الشاذة من المعاني وتزيد عليها. قوله تعالى: (لتكون لمن خلفك آية) أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر. (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) أي معرضون عن تأمل آياتنا والتفكر فيها. وقرئ " لمن خلفك " (بفتح اللام)، أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك. وقرأ علي بن أبي طالب " لمن خلقك " بالقاف، أي تكون آية لخالقك. قوله تعالى: ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (93) قوله تعالى: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) أي منزل صدق محمود مختار، يعني مصر. وقيل: الاردن وفلسطين. وقال الضحاك: هي مصر والشأم. (ورزقناهم من الطيبات) أي من الثمار وغير ها. وقال ابن عباس: يعني قريظة والنضير وأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، فإنهم كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وينتظرون خروجه، ثم لما خرج حسدوه، ولهذا قال (فما اختلفوا) أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. (حتى جاءهم العلم) أي القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم. والعلم بمعنى المعلوم، لانهم كانوا يعلمونه قبل خروجه، قاله ابن جرير الطبري. (إن ربك يقضى بينهم) أي يحكم بينهم ويفصل. (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) في الدنيا، فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.
[ 382 ]
قوله تعالى: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (94) ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (95) قوله تعالى: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، أي لست في شك ولكن غيرك شك. قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: سمعت الامامين ثعلبا والمبرد يقولان: معنى " فإن كنت في شك " أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك (فأسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) أي يا عابد الوثن إن كنت في شك من القرآن فأسأل من أسلم من اليهود، يعني عبد الله بن سلام وأمثاله، لان عبدة الاوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم من أجل أنهم أصحاب كتاب، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يسألوا من يقرون بأنهم أعلم منهم، هل يبعث الله برسول من بعد موسى. وقال القتبي: هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم، بل كان في شك. وقيل: المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره، والمعنى: لو كنت يلحقك الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لازالوا عنك الشك. وقيل: الشك ضيق الصدر، أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر، واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك صبر الانبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم. والشك في اللغة أصله الضيق، يقال: شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء. وكذلك السفرة تمد (1) علائقها حتى تنقبض، فالشك يقبض الصدر ويضمه حتى يضيق. وقال الحسين بن الفضل: الفاء مع حروف الشرط لا توجب الفعل ولا تثبته، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية: (والله (1) كذا في الاصول. والظاهر أنها (تشك). (*)
[ 383 ]
لا أشك) - ثم استأنف الكلام فقال - لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أي الشاكين المرتابين. (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) والخطاب في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره. قوله تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل آيه حتى يروا العذاب الاليم (97) قوله تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) تقدم القول فيه في هذه السورة (1). قال قتادة: أي الذين حق عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون. (ولو كاءتهم كل آية) أنث " كلا " على المعنى، أي ولو جاءتهم الآيات. (حتى يروا العذاب الاليم) فحينئذ يؤمنون ولا ينفعهم. قوله تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحيوة الدنيا ومتعناهم إلى حين (98) قوله تعالى: (فلولا كانت قرية آمنت) قال الاخفش والكسائي: أي فهلا. وفي مصحف أبي وابن مسعود " فهلا " وأصل لولا في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره. ومفهوم من معنى الآية نفي إيمان أهل القرى ثم استثنى قوم يونس، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وهو بحسب المعنى متصل، لان تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس. والنصب في " قوم " هو الوجه، وكذلك أدخله سيبويه في (باب مالا يكون إلا منصوبا). قال النحاس: " إلا قوم يونس " نصب لانه استثناء ليس من الاول، أي لكن قوم يونس، هذا قول الكسائي والاخفش والفراء. ويجوز. " إلا قوم يونس " (1) راجع ص 340 من هذا الجزء. (*)
[ 384 ]
بالرفع، ومن أحسن ما قيل في الرفع ما قاله أبو إسحاق الزجاج قال: يكون المعنى غير قوم يونس، فلما جاء بإلا أعرب الاسم الذي بعد ها بإعراب غير، كما قال: وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان وروي في قصة قوم يونس عن جماعة من المفسرين: أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الاصنام، فأرسل الله إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الاسلام وترك ما هم عليه فأبوا، فقيل: إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل، وقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك، فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله ولبسوا المسوج وفرقوا بين الامهات والاولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم في تلك الحالة. وقال ابن مسعود: وكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده، والعذاب منهم فيما روي عن ابن عباس على ثلثي ميل. وروي على ميل. وعن ابن عباس أنهم غشيتهم ظلة وفيها حمرة فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم. وقال ابن جبير: غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب. وقال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الامم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الايمان. قلت: قول الزجاج حسن، فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لانه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا قوله عليه السلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). والغرغرة الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا. والله أعلم. وقد روي معنى ما قلناه عن ابن مسعود، أن ويونس لما وعدهم العذاب إلى ثلاثة
[ 385 ]
أيام خرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا وفرقوا بين الامهات والاولاد، وهذا يدل على أن توبتهم قبل رؤية علامة العذاب. وسيأتي مسندا مبينا في سورة " والصافات " (1) إن شاء الله تعالى. ويكون معنى (كشفنا عنهم عذاب الخزى) أي العذاب الذي وعدهم به يونس أنه ينزل بهم، لا أنهم رأوه عيانا ولا مخايلة، وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض ولا خصوص، والله أعلم. وبالجملة فكان أهل نينوى في سابق العلم من السعداء. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء ليرد القدر. وذلك أن الله تعالى يقول: " إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ". قال رضي الله عنه: وذلك يوم عاشوراء. قوله تعالى: (ومتعناهم إلى حين) قيل: إلى أجلهم، قاله السدي. وقيل: إلى أن يصيروا إلى الجنة أو إلى النار، قاله ابن عباس. قوله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99) قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا) أي لاضطرهم إليه. " كلهم " تأكيد ل‍ " - من ". " جميعا " عند سيبويه نصب على الحال. وقال الاخفش: جاء بقوله جميعا بعد كل تأكيدا، كقوله: " لا تتخذوا إلهين اثنين " (2) [ النحل: 51 ] قوله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الاول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الاول. وقيل: المراد بالناس هنا أبو طالب، وهو عن ابن عباس أيضا. قوله تعالى: وما كان لنفس أن يؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون (100) (1) راجع ج 15 ص 121. (2) راجع ج 10 ص 113. (*)
[ 386 ]
قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) " ما " نفي، أي ما ينبغي أن تؤمن نفس إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته. (ويجعل الرجس) وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل " ونجعل " بالنون على التعظيم. والرجس: العذاب، بضم الراء وكسرها لغتان. (على الذين لا يعقلون) أمر الله عزوجل ونهيه. قوله تعالى: قل انظروا ماذا في السموات والارض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101) قوله تعالى: (قل انظروا ماذا في السموات والارض) أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال. وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع مستوفى. (1) (وما تغنى) " ما " نفي، أي ولن تغني. وقيل: استفهامية، التقدير أي شئ تغني. (الآيات) أي الدلالات. (والنذر) أي الرسل، جمع نذير، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. (عن قوم لا يؤمنون) أي عمن سبق له في علم الله أنه لا يؤمن. قوله تعالى: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين (102) قوله تعالى: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) الايام هنا بمعنى الوقائع، يقال: فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم. قال قتادة: يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغير هم. والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما، كقوله تعالى: " وذكر هم بأيام الله " (2). وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام. (فانتظروا) أي تربصوا، وهذا تهديد ووعيد. (إني معكم من المنتظرين) أي المتربصين لموعد وربي. (1) راجع ج 7 ص 330 (2) راجع ج 9 ص 341. (*)
[ 387 ]
قوله تعالى: ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين (103) قوله تعالى: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) أي من سنتنا إذا أنزلنا بقوم عذابا أخرجنا من بينهم الرسل والمؤمنين، و " ثم " معناه ثم اعلموا أنا ننجي رسلنا. (كذلك حقا علينا) أي واجبا علينا، لانه أخبر ولا خلف في خبره. وقرأ يعقوب. " ثم ننجي " مخففا. وقرأ الكسائي وحفص ويعقوب. " ننجي المؤمنين " مخففا، وشدد الباقون، وهما لغتان فصيحتان: أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد. قوله تعالى: قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أ عبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين (104) قوله تعالى: (قل يأيها الناس) يريد كفار مكة. (إن كنتم في شك من ديني) أي في ريب من دين الاسلام الذي أدعوكم إليه. (فلا أ عبد الذين تعبدون من دون الله) من الاوثان التي لا تعقل. (ولكن أ عبد الله الذى يتوفاكم) أي يميتكم ويقبض أرواحكم. (وأمرت أن أكون من المؤمنين) أي المصدقين بآيات ربهم. قوله تعالى: وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين (105) ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين (106) قوله تعالى: (وأن أقم وجهك) " أن " عطف على " أن أكون " أي قيل لي كن من المؤمنين وأقم وجهك. قال ابن عباس: عملك، وقيل: نفسك، أي استقم بإقبالك على
[ 388 ]
ما أمرت به من الدين. (حنيفا) أي قويما به مائلا عن كل دين. قال حمزة بن عبد المطلب [ رضي الله عنه ] (1): حمدت الله حين هدى فؤادي * من الاشراك للدين الحنيف وقد مضى في " الانعام " (2) اشتقاقه والحمد لله. (ولا تكونن من المشركين) أي وقيل لي ولا تشرك، والخطاب له والمراد غيره، وكذلك قوله: (ولا تدع) أي لا تعبد. (ومن دون الله ما لا ينفعك) إن عبد ته. (ولا يضرك) إن عصيته. (فإن فعلت) أي عبد ت غير الله. (فإنك إذا من الظالمين) أي الواضعين العبادة في غير موضعها. قوله تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم (107) قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر) أي يصبك به. (فلا كاشف) أي لا دافع (له إلا هو وإن يردك بخير) أي يصبك برخاء ونعمة. (فلا راد لفضله يصيب به) أي بكل ما أراد من الخير والشر. (من يشاء من عباده وهو الغفور) لذنوب عباده وخطايا هم (الرحيم) بأوليائه في الآخرة. قوله تعالى: قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل (108) قوله تعالى: (قل يأيها الناس قد جاءكم الحق) أي القرآن. وقيل: الرسول صلى الله عليه وسلم. (من ربكم فمن اهتدى) أي صدق محمدا وآمن بما جاء به. (فإنما يهتدى لنفسه) (1) من ع. (2) راجع ج 8 ص 28، وقد تكلم عنه المؤلف في البقرة مستوفى راجع ج 2 ص 129. (*)
[ 389 ]
أي لخلاص نفسه. (ومن ضل) أي ترك الرسول والقرآن واتبع الاصنام والاوثان. (فإنما يضل عليها) أي وبال ذلك على نفسه. (وما أنا عليكم بوكيل) أي بحفيظ أحفظ أعمالكم إنما أنا رسول. قال ابن عباس: نسختها آية السيف. قوله تعالى: واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (109) قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك واصبر) قيل: نسخ بآية القتال: وقيل: ليس منسوخا، ومعناه اصبر على الطاعة وعن المعصية. وقال ابن عباس: لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وسلم الانصار ولم يجمع معهم غيرهم فقال: (إنكم ستجدون بعدي أثرة (1) فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). وعن أنس بمثل ذلك، ثم قال أنس: فلم يصبروا فأمرهم بالصبر كما أمره الله تعالى، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن حسان: ألا أبلغ معاوية بن حرب * أمير المؤمنين نثا كلامي بأنا صابرون ومنظروكم * إلى يوم التغابن والخصام (حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) ابتداء وخبر، لانه عزوجل لا يحكم إلا بالحق. تمت سورة يونس، والحمد لله وحده (1) أي يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفئ. (2) النثا في الكلام يطلق على القبيح والحسن. محققه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء الثامن من تفسير القرطبي (1) من ع. (2) راجع ج 8 ص 28، وقد تكلم عنه المؤلف في البقرة مستوفى راجع ج 2 ص 129. (*)
[ 389 ]
أي لخلاص نفسه. (ومن ضل) أي ترك الرسول والقرآن واتبع الاصنام والاوثان. (فإنما يضل عليها) أي وبال ذلك على نفسه. (وما أنا عليكم بوكيل) أي بحفيظ أحفظ أعمالكم إنما أنا رسول. قال ابن عباس: نسختها آية السيف. قوله تعالى: واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (109) قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك واصبر) قيل: نسخ بآية القتال: وقيل: ليس منسوخا، ومعناه اصبر على الطاعة وعن المعصية. وقال ابن عباس: لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وسلم الانصار ولم يجمع معهم غيرهم فقال: (إنكم ستجدون بعدي أثرة (1) فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). وعن أنس بمثل ذلك، ثم قال أنس: فلم يصبروا فأمرهم بالصبر كما أمره الله تعالى، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن حسان: ألا أبلغ معاوية بن حرب * أمير المؤمنين نثا كلامي بأنا صابرون ومنظروكم * إلى يوم التغابن والخصام (حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) ابتداء وخبر، لانه عزوجل لا يحكم إلا بالحق. تمت سورة يونس، والحمد لله وحده (1) أي يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفئ. (2) النثا في الكلام يطلق على القبيح والحسن. محققه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء الثامن من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع وأوله: (سورة هود)