تفسير القرطبي
القرطبي ج 4

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء الجزء الرابع أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: الم (1) الله لا إله إلا هو الحى القيوم (2) فيه خمس مسائل الاولى - قوله: (الم. الله لا إله إلا هو الحى القيوم) هذه السورة مدنية بإجماع. وحكى النقاش أن اسمها في التوراة طيبة، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبى النجود وأبو جعفر الرؤاسي (1) " الم. ألله " بقطع ألف الوصل، على تقدير الوقف على " الم " كما يقدرون الوقف على أسماء الاعداد في نحو واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة، وهم واصلون. قال الاخفش سعيد: ويجوز " الم الله " بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله. قال النحاس: القراءة [ الاولى ] (2) قراءة العامة، وقد تكلم فيها النحويون القدماء، فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح لئلا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها. وقال الكسائي: حروف التهجى إذا لقيتها ألف وصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الالف فقلت: الم الله، والم اذكر، والم اقتربت. وقال الفراء: الاصل " الم ألله " كما قرأ الرؤاسى فألقيت حركة الهمزة على الميم. وقرأ عمر بن الخطاب " الحي القيام ". وقال خارجة: في مصحف عبد الله " الحي القيم ". وقد تقدم ما للعلماء [ من آراء ] (3) في الحروف التي في أوائل السور في أول " البقرة " (4). ومن حيث جاء في هذه السورة: " الله لا إله إلا هو الحى القيوم " جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الاقوال كلها. (1) في القاموس وشرحه (مادة رأس): " وبنو رؤاس (بالضم): حى من عامر بن صعصعة، قال الازهرى: وكان أبو عمر الزاهد يقول في أبى جعفر الرؤاسى أحد القراء والمحدثين أنه الرواسى، بفتح الراء وبالواو من غير همز، منسوب إلى رواس قبيلة من سليم، وكان ينكر أن يقول الرؤاسى بالهمزة كما يقوله المحدثون وغيرهم. قلت: ويعنى بأبى جعفر هذا محمد بن سادة الرواسى، ذكر ثعلب أنه أول من وضع نحو الكوفيين، وله تصانيف ". (2) التكملة عن إعراب القرآن للنحاس. (3) زيادة يقتضيها السياق. (4) راجع ج‍ 1 ص 154 (*)
[ 2 ]
الثانية روى الكسائي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه صلى العشاء فاستفتح " آل عمران " فقرأ " الم. الله لا إله إلا هو الحى القيام " فقرأ في الركعة الاولى بمائة آية، وفي الثانية بالمائة الباقية. قال علماؤنا: ولا يقرأ سورة في ركعتين، فإن فعل أجزأه. وقال مالك في المجموعة: لا بأس به، وما هو بالشأن. قلت: الصحيح جواز ذلك. وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالاعراف في المغرب فرقها في ركعتين، خرجه النسائي أيضا، وصححه أبو محمد عبد الحق، وسيأتى. الثالثة - هذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار، فمن ذلك ما جاء أنها أمان من الحيات، وكنز للصعلوك، وأنها تحاج عن قارئها في الاخرة، ويكتب لمن قرأ آخرها في ليلة كقيام ليلة، إلى غير ذلك. ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنى عبيد الله الاشجعى قال: حدثنى مسعر قال حدثنى جابر (1)، قبل أن يقع فيما وقع فيه، عن الشعبى قال قال عبد الله: نعم كنز الصعلوك سورة " آل عمران " يقوم بها في آخر الليل. حدثنا محمد بن سعيد حدثنا عبد السلام عن الجريرى (2) عن أبى السليل (3) قال: أصاب رجل دما قال: فأوى إلى وادى مجنة: واد لا يمشى فيه أحد إلا أصابته حية، وعلى شفير الوادي راهبان، فلما أمسى قال أحدهما لصاحبه: هلك والله الرجل ! قال: فافتتح سورة " آل عمران " قالا: فقرأ سورة طيبة لعله سينجو. قال: فأصبح سليما. وأسند عن مكحول قال: من قرأ سورة " آل عمران " يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل. وأسند عن عثمان بن عفان قال: من قرأ آخر سورة " آل عمران " في ليلة كتب له قيام ليلة. في طريقه ابن لهيعة. وخرج مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى (1) هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي. توفى سنة 128 ه‍. قال ابن سعد: كان يدلس وكان ضعيفا جدا في رأيه وروايته. وقال العجلى: كان ضعيفا يغلو في التشيع. وقال أبو بدر: كان جابر يهيج به مرة في السنة مرة فيهذى ويخلط في الكلام. فلعل ما حكى عنه كان في ذلك الوقت. وقال الاشجعى مبينا ما وقع فيه بأنه ما كان من تغير عقله. (عن تهذيب التهذيب). (2) الجريرى: بضم الجيم وفتح الراء الاولى وكسر الثانية وسكون ياء بينهما، وهو سعيد بن إياس، ينسب إلى جرير بن عباد. (عن تهذيب التهذيب). (3) أبو السليل (بفتح المهملة وكسر اللام) هو ضريب (بالتصغير) بن نقير، ويقال نفير، ويقال نفيل. (عن تهذيب التهذيب) (*)
[ 3 ]
بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران - وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: - كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق (1)، أو كأنهما حزقان (2) من طير صواف تحاجان عن صاحبهما. وخرج أيضا عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لاصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ". قال معاوية (3): وبلغني أن البطلة السحرة. الرابعة - للعلماء في تسمية " البقرة وآل عمران " بالزهراوين ثلاثة أقوال: الاول - أنهما النيرتان، مأخوذ من الزهر والزهرة، فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما، أي من معانيهما. وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، وهو القول الثاني. الثالث - سميتا بذلك لانهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الاعظم، كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن اسم الله الاعظم في هاتين الايتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (4) والتى في آل عمران الله لا إله إلا هو الحى القيوم " أخرجه ابن ماجه أيضا. والغمام: السحاب الملتف، وهو الغياية إذا كانت قريبا من الرأس، وهى الظلة أيضا. والمعنى: أن قارئهما في ظل ثوابهما، كما جاء " الرجل في ظل صدقته " (5) وقوله: " تحاجان " أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث: " إن من قرأ " شهد الله أنه لا إله إلا هو الاية خلق الله سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة ". وقوله: " بينهما شرق قيد بسكون الراء وفتحها، (1) الشرق: الضوء. وسكون الراء فيه أشهر من فتحها. (2) في الاصول: " فرقان " بالفاء. والتصويب عن صحيح مسلم. والفرق: القطعة. والحزق والحزيقة: الجماعة من كل شئ. (3) هو معاوية بن سلام أحد رجال سند هذا الحديث. (4) راجع ج‍ 2 ص 190. (5) كذا في نسخة: ج‍ وهو الصحيح، وكشف الخلفاء ج‍، 1 ص 424. وفى الاصول الاخرى: إن المؤمن (.)
[ 4 ]
وهو تنبيه على الضياء، لانه لما قال: " سوداوان " قد يتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك بقوله: " بينهما شرق " ويعنى بكونهما سوداوان أي من كثافتهما التى بسببها حالتا بين من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب والله أعلم. الخامسة - صدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران فيما ذكر محمد بن إسحاق عن محمد ابن جعفر بن الزبير، وكانوا نصارى وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ستين راكبا، فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلا، في الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يرجع أمرهم: العاقب (1) أمير القوم وذو آرائهم واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم (2) وصاحب مجتمعهم واسمه الايهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحبرات (3) جبب وأردية فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة. وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشرق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعوهم ". ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ويزعمون أنه ابن الله، إلى غير ذلك من أقوال شنيعة مضطربة، ورسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية، إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة (4)، حسب ما هو مذكور في سيرة ابن إسحاق (5) وغيره. قوله تعالى: نزل عليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التورئة والانجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات ؟ الله لهم عذاب شدى والله عزيز ذو انتقام (4) (1) السيد والعاقب هما من رؤسائهم وأصحاب مراتبهم، والعاقب يتلو السيد. (2) الثمال (بالكسر). الملجأ والغياث والمطعم في الشدة. (3) الحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء جمع حيرة): ضرب من الثياب اليمانية. (4) في الاصول: الابتهال، والصواب ما أثبت، باهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وتبهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شئ فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. (5) راجع سيرة ابن هشام ص 401 طبع أور با (*)
[ 5 ]
قوله تعالى: (نزل عليك الكتاب) يعني القرآن (بالحق) أي بالصدق، وقيل: بالحجة الغالبة. والقرآن نزل نجوما: شيئا بعد شئ، فلذلك قال " نزل " والتنزيل مرة بعد مرة. والتوراة والانجيل نزلا دفعة واحدة فلذلك قال " أنزل " والباء في قول " بالحق " في موضع الحال من الكتاب، والباء متعلقة بمحذوف التقدير آتيا بالحق ولا تتعلق ب‍ " نزل "، لانه قد تعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر، ولا يتعدى إلى ثالث. و " مصدقا " حال مؤكدة غير منتقلة، لانه لا يمكن أن يكون غير مصدق، أي غير موافق، هذا قول الجمهور. وقدر فيه بعضهم الانتقال، على معنى أنه مصدق لنفسه ومصدق لغيره. قوله تعالى: (لما بين يديه) يعنى من الكتب المنزلة، والتوراة معناها الضياء والنور، مشتقة من ورى الزند وورى لغتان إذا خرجت ناره. وأصلها تورية على وزن تفعلة، التاء زائدة وتحركت الياء وقبلها فتحة فقلبت ألفا ويجوز أن تكون تفعلة فتنقل الراء من الكسر إلى الفتح كما قالوا في جارية: جاراة، وفى ناصية ناصاة (1)، كلاهما عن الفراء. وقال الخليل: أصلها فوعلة، فالاصل وورية، قلبت الواو الاولى تاء كما قلبت في تولج (2)، والاصل وولج فوعل من ولجت، وقلبت الياء ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها. وبناء فوعلة أكثر من تفعلة. وقيل: التوراة مأخوذة من التورية، وهى التعريض بالشئ والكتمان لغيره، فكأن أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح، هذا قول المؤرج. والجمهور على القول الاول لقوله تعالى: " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين " (3) يعنى التوراة. والانجيل إفعيل من النجل وهو الاصل، ويجمع على أناجيل وتوراة على توار، فالانجيل أصل لعلوم وحكم. ويقال: لعن الله ناجليه، يعنى والديه، إذ كانا أصله. وقيل: هو من نجلت الشئ إذا استخرجته، فالانجيل مستخرج به علوم وحكم، ومنه سمي الولد والنسل نجلا لخروجه، كما قال: إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم * أصاغرهم وكل فحل لهم نجل (1) هي لهجة طائية، يقولون في مثل جارية جاراة، وناصية ناصاة وكاسية كاساة. (2) التولج: كناس الظبى أو الوحش الذي يلج فيه. (3) راجع ج‍ 11 ص 295 (*)
[ 6 ]
والنجل الماء الذى يخرج من النز. واستنجلت الارض، وبها نجال إذا خرج منها الماء، فسمى الانجيل به، لان الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا. وقيل: هو من النجل في العين (بالتحريك) وهو سعتها، وطعنة نجلاء، أي واسعة، قال: ربما ضربة بسيف صقيل * * بين بصرى وطعنة نجلاء فسمي الانجيل بذلك، لانه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم ونورا وضياء. وقيل: التناجل التنازع، وسمى إنجيلا لتنازع الناس فيه. وحكى شمر عن بعضهم: الانجيل كل كتاب مكتوب وافر السطور. وقيل: نحل عمل وصنع، قال: * وأنجل في ذاك الصنيع كما نجل * أي أعمل وأصنع. وقيل: التوراة والانجيل من اللغة السريانية. وقيل: الانجيل بالسريانية إنكليون (1)، حكاه الثعلبي. قال الجوهرى: الانجيل كتاب عيسى عليه السلام يذكر ويؤنث، فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب. قال غيره: وقد يسمى القرآن إنجيلا أيضا، كما روى في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: " يا رب أرى في الالواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتى ". فقال الله تعالى له: " تلك أمة أحمد " صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بالاناجيل القرآن. وقرأ الحسن: " والانجيل " بفتح الهمزة، والباقون بالكسر مثل الاكليل، لغتان. ويحتمل [ أن سمع ] (2) أن يكون مما عربته العرب من الاسماء الاعجمية، ولا مثال له في كلامها. قوله تعالى: (من قبل) يعني القرآن (هدى للناس) قال ابن فورك (3): التقدير هدى للناس المتقين، دليله في البقرة " هدى للمتقين " فرد هذا العام إلى ذلك الخاص. و " هدى " في موضع نصب على الحال. و (الفرقان) القرآن. وقد تقدم. (1) في بعض كتب اللغة: إنجيل لفظ يونانى. (2) الزيادة من نسخة: ب. (3) ابن فورك (بضم القاء وسكون الواو وفتح الراء) هو أبو بكر بن محمد بن الحسن بن فورك، المتكلم الاصولي الاديب النحوي الواعظ الاصبهاني، توفى سنة ست وأربعمائة. (عن ابن خلكان) (*)
[ 7 ]
قوله تعالى: إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء (5) هذا خبر عن علمه تعالى بالاشياء على التفصيل، ومثله في القرآن كثير. فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون، فكيف يكون عيسى إلها أو ابن إله وهو تخفى عليه الاشياء !. قوله تعالى: هو الذى يصوركم في الارحام كيف يشآء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (هو الذى يصوركم) أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الامهات وأصل الرحم من الرحمة، لانها مما يتراحم به. واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة. وهذه الاية تعظيم لله تعالى، وفى ضمنها الرد على نصارى نجران، وأن عيسى من المصورين، وذلك مما لا ينكره عاقل. وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة " الحج " (1) و " المؤمنون ". وكذلك شرحه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود، على ما يأتي هناك [ بيانه ] (2) إن شاء الله تعالى. وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلة مستبدة. وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد (3) وفى مسند ابن سنجر - واسمه محمد بن سنجر - حديث " إن الله تعالى يخلق عظام الجنين وغضاريفه (4) من منى الرجل وشحمه ولحمه من مني المرأة ". وفى هذا أدل دليل على أن الولد يكون من ماء الرجل والمرأة، وهو صريح [ في ] (5) قول تعالى: " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " (6). وفى صحيح مسلم من حديث ثوبان وفيه: أن اليهودي قال للنبى صلى الله عليه وسلم: وجئت أسألك عن شئ لا يعلمه أحد من أهل الارض إلا نبى أو رجل أو رجلان. قال: " ينفعك إن حدثتك " ؟. (1) راجع ج‍ 12 ص 6 فما بعد وص 109 فما بعد. (2) الزيادة من نسخة: ب. (3) راجع ج‍ 2 ص 201. (4) الغضاريف: جمع غضروف (بضم الغين) وهو كل عظم وخص يؤكل، وهو مارن الانف، ونغض الكتف ؟ (العظم الرقيق على طرفها)، ورؤوس الاضلاع، ورهابة الصدر (عظيم في الصدر مشرف على البطن)، وداخل قوف الاذن. (5) الزيادة في: ج‍. (6) راجع ج‍ 16 ص 340 (.)
[ 8 ]
قال: أسمع بأذنى، قال: جئتك أسألك عن الولد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله تعالى وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنثا بإذن الله " الحديث (1). وسيأتي بيانه آخر " الشورى " (2) إن شاء الله تعالى. الثانية - قوله تعالى: (كيف يشاء) يعنى من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر وسلامة وعاهة، إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة. وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الاحاديث، فقال لهم: إنى مشغول عنكم بأربعة أشياء، فلا أتفرغ لرواية الحديث. فقيل له: وما ذاك الشغل ؟ قال: أحدها أنى أتفكر في يوم الميثاق حيث قال: " هؤلاء في الجنة ولا أبالى وهؤلاء في النار ولا أبالى ". فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت والثانى حيث صورت في الرحم فقال الملك الذي هو موكل على الارحام: " يا رب شقى هو أم سعيد " فلا أدرى كيف كان الجواب في ذلك الوقت. والثالث حين يقبض ملك الموت روحي فيقول: " يا رب مع الكفر أم مع الايمان) فلا أدرى كيف يخرج الجواب. والرابع حيث يقول: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " (3) فلا أدرى في أي الفريقين أكون. ثم قال تعالى: (لا إله إلا هو) أي لا خالق ولا مصور [ سواه ] (4)، وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور. (العزيز) الذى لا يغالب. (الحكيم) ذو الحكمة أو المحكم، وهذا أخص بما ذكر من التصوير. قوله تعالى: هو الذى أنزل عليك الكتب منه ءايت محكمت هن أم الكتب وأخر متشبهت فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشبه منه ابتغآء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والرسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالبب (7) (1) راجع الحديث في صحيح مسلم ج‍ 1 ص 99 طبع بولاق. (2) راجع ج‍ 16 ص 48 فما بعد. (3) راجع ج‍ 150 ص 46. (4) زيادة لابد منها. (*)
[ 9 ]
فيه تسع مسائل: الاولى - خرج مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم ريغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب " قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ". وعن أبى غالب قال: كنت أمشى مع أبى أمامة وهو على حمار له، حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رءوس منصوبة، فقال: ما هذه الرؤوس ؟ قيل: هذه رءوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة: كلاب النار كلاب النار كلاب النار ! شر قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قتلهم وقتلوه - يقولها ثلاثا - ثم بكى. فقلت: ما يبكيك يا أبا أمامة ؟ قال: رحمة لهم، إنهم كانوا من أهل الاسلام فخرجوا منه، ثم قرأ " هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات... " إلى آخر الايات. ثم قرأ " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " (1). فقلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء ؟ قال نعم. قلت: أشئ تقوله برأيك أم شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: إنى إذا لجرئ إنى إذا لجرئ ! بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فصمتا - قالها ثلاثا - ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ولتزيدن عليهم هذه الامة واحدة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ". الثانية - اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة، فقال جابر بن عبد الله، وهو مقتضى قول الشعبى وسفيان الثوري وغيرهما: المحكمات من آى القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لاحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه (1) راجع هذا الجزء ص 166 (*)
[ 10 ]
دون خلقه، قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور. قلت: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم أن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، الحديث. وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب التى لا تجزئ الصلاة إلا بها. وقال محمد بن الفضل: سورة الاخلاص، لانه ليس فيها إلا التوحيد فقط. و [ قد ] قيل: القرآن كله محكم: لقوله تعالى: " كتاب أحكمت آياته (1) ". وقيل: كله متشابه، لقوله: " كتابا متشابها " (2). قلت: وليس هذا من معنى الاية في شئ، فإن قوله تعالى: " كتاب أحكمت آياته " أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله. ومعنى " كتابا متشابها، أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا. وليس المراد بقوله: " آيات محكمات " " وأخر متشابهات " هذا المعنى، وإنما المتشابه في هذه الاية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله: " إن البقر تشابه علينا " (3) أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعا. كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا. وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما. فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع. وقال ابن عباس: المحكمات هو قوله في سورة الانعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " (4) إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " (5) ". قال ابن عطية: وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات. وقال ابن عباس أيضا: المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات " وقاله قتادة والربيع والضحاك. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التى فيها حجة الرب (1) راجع ج‍ 9 ص 2. (2) راجع ج‍ 15 ص 148. (3) راجع ج‍ 1 ص 451. (4) راجع ج‍ 7 ص 130 فما بعد. (5) راجع ج‍ 10 ص 248 (*)
[ 11 ]
وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، وقاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الاقوال في هذه الاية. قال النحاس: أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره، نحو " لم يكن له كفوا أحد " (1) " وإني لغفار لمن تاب " (2). والمتشابهات نحو " إن الله يغفر الذنوب جميعا " (3) يرجع فيه إلى قوله جل وعلا: " وإنى لغفار لمن تاب " وإلى قوله عزوجل: " إن الله لا يغفر أن يشرك به " (4). قلت: ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجارى على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم، والاحكام الاتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الامرين جاء التشابه والاشكال. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد: للمشابه وجوه، والذى يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الايتين نسخت الاخرى، كقول على وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الاجلين. فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون (وضع الحمل) ويقولون: سورة النساء (5) القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا. وكان على وابن عباس يقولان لم تنسخ. وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ. وكتعارض الايتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه، كقوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " (6) يقتضى الجمع بين الاقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى: " وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف " (6) يمنع ذلك. ومنه أيضا تعارض الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الاقيسة، فذلك المتشابه. وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم (7) محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لان الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه. والقراءتان كالايتين يجب العمل بموجبهما جميعا، كما قرئ: (1) راجع ج‍ 20 ص 246. (2) راجع ج‍ 11 ص 123. (3) راجع ج‍ 15 ص 267. (4) راجع ج‍ 5 ص 245. (5) هي سورة الطلاق. ومراده منها " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " آية 4. (6) راجع ج 5 ص 116 و 124. (7) في نسخة: ب، الامر. (*)
[ 12 ]
" وامسحوا برءوسكم وأرجلكم " بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه " في المائدة " (1) إن شاء الله تعالى. الثالثة - روى البخاري (2) عن سعيد بن جبير قال قال رجل (3) لابن عباس: إنى أجد في القرآن أشياء تختلف على. قال: ما هو ؟ قال: " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " (4) " وقال: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " (5) وقال: " ولا يكتمون الله حديثا " (6) وقال: " والله ربنا ما كنا مشركين " (7) فقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات " أم السماء بناها "... إلى قوله دحاها " (8) فذكر خلق السماء قبل خلق الارض، ثم قال: " أئنكم لتكفرون بالذى خلق الارض في يومين... إلى: طائعين " (9) فذكر في هذا خلق الارض قبل خلق السماء. وقال: " وكان الله غفورا رحيما " (10). " وكان الله عزيزا حكيما " (11). " وكان الله سميعا بصيرا " (12) فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس: " فلا أنساب بينهم " في النفخة الاولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الاخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأما قول: " ما كنا مشركين " ولا يكتمون الله حديثا " فإن الله يغفر لاهل الاخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وخلق الله الارض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الارض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والاشجار والاكام وما بينها في يومين آخرين، فذلك قوله: " والارض بعد ذلك دحاها ". فخلقت الارض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين. وقوله: " وكان الله غفورا رحيما " يعنى نفسه (13) (1) راجع ج 6 ص 80. (2) الحديث في البخاري في كتاب التفسير (سورة السجدة). وبين ما في البخاري وما في الاصول اختلاف في بعض الكلمات. (3) هو نافع ابن الازرق الذى صار بعد ذلك رأس الازارقة من الخوارج (القسطلانى). (4) راجع ج‍ 12 ص 151. (5) راجع ج‍ 15 ص 81. (6) راجع ج‍ 5 ص 198. (7) راجع ج‍ 6 ص 401. (8) راجع ج‍ 19 ص 201 فما بعد. (9) راجع ج‍ 15 ص 342. (10 - 11 - 12 - سورة النساء 13) عبارة البخاري (سمى نفسه). (*)
[ 13 ]
ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذى أراد. ويحك ! فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله) الرابعة - قوله تعالى: (وأخر متشابهات) لم تصرف " أخر " لانها عدلت عن الالف واللام، لان أصلها أن تكون صفة بالالف واللام كالكبر والصغر، فلما عدلت عن مجرى الالف واللام منعت الصرف. أبو عبيد: لم يصرفوها لان واحدها لا بنصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد وقال: يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش. الكسائي: لم تنصرف لانها صفة. وأنكره المبرد أيضا وقال: إن لبدا وحطما صفتان وهما منصرفان. سيبويه: لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الالف واللام، لانها لو كانت معدولة عن الالف واللام لكان معرفة، ألا ترى أن سحر (1) معرفة في جميع الاقاويل لما كانت معدولة [ عن السحر ]، وأمس في قول من قال: ذهب أمس معدولا عن الامس، فلو كان أخر معدولا أيضا عن الالف واللام لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة. الخامسة - قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) الذين رفع بالابتداء، والخبر " فيتبعون ما تشابه منه ". والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الابصار. ويقال: زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (2). وهذه الاية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الاشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: " فأما الذين في قلوبهم زيغ ": إن لم يكونوا الحرورية (3) وأنواع الخوارج فلا أدري من هم. قلت: قد مر هذا التفسير عن أبى أمامة مرفوعا، وحسبك. السادسة - قوله تعالى: (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك (1) أي إذا أردت به سحر ليلتك. فإن نكرته صرفته. (2) راجع ج 18 ص 82. (3) راجع الهامشة 2 ج‍ 2 ص 251 (*)
[ 14 ]
في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة (1) الطاعنون في القرآن، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك، أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ (2) حين أكثر على عمر فيه السؤال. فهذه أربعة أقسام: الاول - لا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة. الثاني - [ الصحيح ] (3) القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الاصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد. الثالث - اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها. وقد عرف، أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون أمروها كما جاءت. وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها. الرابع - الحكم فيه الادب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ. وقال أبو بكر الانباري: وقد كان الائمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لان السائل إن كان يبغى بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل. فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل (1) القرامطة: فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك ومانى، وكانوا يبيحون المحترمات. (راجع عقد الجمان للعبيى ؟ في حوادث سن 278). (2) صبيغ (وزان أمير) بن شريك بن المنذر بن قطن بن قشع بن عسل (بكسر العين) بن عمرو بن يربوع التميمي، وقد ينسب إلى جده الاعلى فيقال: صبيغ بن عمل. راجع القاموس وشرحة مادة " صبغ وعسل ". (3) الزيادة من نسخ: ب، ز، د. (*)
[ 15 ]
قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء، فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل. فلما حضر قال له عمر: من أنت ؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. فقال عمر رضى الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي. وقد اختلفت الروايات في أدبه، وسيأتى ذكرها في " الذاريات ". ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته. ومعنى " ابتغاء الفتنة " طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: معنى " ابتغاء تأويله " أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله عزوجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله تعالى: " هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله - أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب - يقول الذين نسوه من قبل - أي تركوه - قد جاءت رسل ربنا بالحق " (1) أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قال: فالوقف على قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله " أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله. السابعة - قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) يقال: إن جماعة من اليهود منهم حيى بن أخطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك " الم "، فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة، لان الالف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل " وما يعلم تأويله إلا الله ". والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك: تأويل هذه الكلمة على كذا. ويكون بمعنى ما يؤول الامر إليه. واشتقاقه من آل الامر إلى كذا يؤول إليه، أي صار. وأولته تأويلا أي صيرته. وقد حده بعض الفقهاء فقالوا: هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه. فالتفسير بيان اللفظ، كقوله " لا ريب فيه " أي لا شك. وأصله من الفسر وهو البيان، يقال: فسرت (1) راجع ج‍ 7 ص 217. (*)
[ 16 ]
الشئ (مخففا) أفسره (بالكسر) فسرا. والتأويل بيان المعنى، كقوله لا شك فيه عند المؤمنين. أو لانه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك. وكقول ابن عباس في الجد أبا، لانه تأول قول الله عز وجل: " يا بنى آدم ". الثامنة - قوله تعالى: (والراسخون في العلم) اختلف العلماء في " والراسخون في العلم " هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع. فالذي عليه الاكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله " إلا الله " هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والاخفش والفراء وأبى عبيد [ وغيرهم ] (1). قال أبو نهيك الاسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة. وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم " آمنا به كل من عند ربنا ". وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس. و " يقولون " على هذا خبر " الراسخون ". قال الخطابى: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذى أمرنا بالايمان به والتصديق بما فيه قسمين: محكما ومتشابها، فقال عز من قائل: " هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات... إلى قوله: كل من عند ربنا " فاعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عزوجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به. ولولا صحة الايمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه. ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الاية إنما هو عند قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله " وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله " والراسخون في العلم يقولون آمنا به ". وروى ذلك عن ابن مسعود وأبى بن كعب وابن عباس وعائشة. وإنما روى عن مجاهد أنه نسق " الراسخون " على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه. واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا، وزعم أن موضع " يقولون " نصب على الحال. وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه، لان العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال، ولو جاز ذلك لجاز (1) الزيادة من نسخة: ج‍. (*)
[ 17 ]
أن يقال: عبد الله راكبا، بمعنى أقبل عبد الله راكبا، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فكان " يصلح " حالا له، كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب -: أرسلت فيها قطما لكالكا (1) * * يقصر يمشى ويطول باركا أي يقصر ماشيا، فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده، وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفى الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك. ألا ترى قوله عزوجل: " قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله " (2) وقوله: " لا يجليها لوقتها إلا هو (3) " وقوله: " كل شئ هالك إلا وجهه " (4)، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره. وكذلك قوله تبارك وتعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله ". ولو كانت الواو في قوله: " والراسخون " (5) للنسق لم يكن لقوله: " كل من عند ربنا " فائدة. والله أعلم. قلت: ما حكاه الخطابى من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روى عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عزوجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. و " يقولون " على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين، كما قال: الريح تبكى شجوها * * والبرق يلمع في الغمامه وهذا البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون " والبرق " مبتدأ، والخبر " يلمع " على التأويل الاول، فيكون مقطوعا مما قبله. ويجوز أن يكون معطوفا على الريح، و " يلمع " في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا. واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله سبحانه مدحهم (1) في الاصول: " أرسلت فيها رجلا " والتصويب عن اللسان وشرح القاموس. والقطم: الغضبان، وفحل قطم وقطم وقطيم: صؤول. والقطم أيضا: المشتهى اللحم وغيره. واللكالك (بضم اللام الاولى وكسر الثانية): الجمل الضخم المرمى باللحم. قال أبو على الفارسى: " يقصر إذا مشى لانخفاض بطنه وضخمه وتقاربه من الارض، فإذا برك رأيته طويلا لارتفاع سنامه، فهو باركا أطول منه قائما ". (اللسان مادة لكك). (2) راجع ج‍ 13 ص 225 (3) راجع ج‍ 7 ص 335. (4) راجع ج 13 ص 322. (5) في الاصول: " والراسخون معا للنسق ". (*)
[ 18 ]
بالرسوخ في العلم، فكيف يمدحهم وهم جهال ! وقد قال ابن عباس: أنا ممن يعلم تأويله. وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممن يعلم تأويله، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالى. قلت - وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الاول فقال: وتقدير تمام الكلام " عند الله " أن معناه وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه. فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا فإن قال قائل: قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس: لا أدرى ما الاواه ولا ما غسلين) قيل له: هذا لا يلزم، لان ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه. وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحد علمه الاخر. ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك، وفى قوله عليه السلام لابن عباس: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " ما يبين لك ذلك، أي علمه معاني كتابك. والوقف على هذا يكون عند قوله " والراسخون في العلم ". قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو الصحيح، فإن تسميتهم راسخين يقتضى أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذى يستوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب. وفى أي شئ هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع. لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره. فمن قال من العلماء الحداق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم، كقوله في عيسى: " وروح منه " (1) إلى غير ذلك فلا يسمى أحد راسخا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له. وأما من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح. (1) راجع ج‍ 6 ص 21 (*)
[ 19 ]
والرسوخ: الثبوت في الشئ، وكل ثابت راسخ. وأصله في الاجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الارض، قال الشاعر: لقد رسخت في الصدر مني مودة * * لليلى أبت آياتها أن تغيرا ورسخ الايمان في قلب فلان يرسخ رسوخا. وحكى بعضهم: رسخ الغدير: نضب ماؤه، حكاه ابن فارس فهو من الاضداد. ورسخ ورضخ ورصن ورسب كله ثبت فيه. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: " هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ". فإن قيل: كيف كان في القرآن متشابه والله يقول: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " (1) فكيف لم يجعله كله واضحا ؟ قيل له: الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء، لانه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض. وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة (2) موضعا، لان ما هان وجوده قل بهاؤه. والله أعلم. التاسعة - قوله تعالى: (كل من عند ربنا) فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه، والتقدير: كله من عند ربنا. وحذف الضمير لدلالة " كل " عليه، إذ هي لفظة تقتضي الاضافة. ثم قال: (وما يذكر إلا أولو الالباب) أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل. ولب كل شئ خالصه، فلذلك قيل للعقل لب. و " أولو " جمع ذو. قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا) في الكلام حذف تقديره يقولون. وهذا حكاية عن الراسخين. ويجوز أن يكون المعنى قل يا محمد، ويقال: إزاغة القلب فساد (1) راجع ج‍ 10 ص 108. (2) كذا وردت هذه الكلمة في أكثر الاصول، وفى بعضها وردت بهذا الوميم ؟ من غير إعجام، ومعناها: الجماعة. (*)
[ 20 ]
وميل عن الدين، أفكانوا يخافون وقد هدوا أن ينقلهم الله إلى الفساد ؟ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الاعمال فيعجزوا عنه، نحو " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم (1) ". قال ابن كيسان: سألوا ألا يزيغوا فيزيغ الله قلوبهم، نحو " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (2) أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا. وقيل: هو منقطع مما قبل، وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التى ذكرت وهى وأهل الزيغ. وفى الموطأ عن أبى عبد الله الصنابحى أنه قال: قدمت المدينة في خلافة أبى بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الاوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الاية " ربنا لا تزغ قلوبنا " الاية. قال العلماء: قراءته بهذه الاية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة. والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم، وفى كل صلاة أيضا إذا دهم المسلمين أمر عظيم يفزعهم ويخافون منه على أنفسهم. وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب قال: قلت لام سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت: كان أكثر دعائه " يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ". فقلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ! قال: " يا أم سلمة إنه ليس آدمى إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ". فتلا معاذ (3) " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ". قال: حديث حسن. وهذه الاية حجة على المعتزلة في قولهم: إن الله لا يضل العباد (4). ولو لم تكن الازاغة من قبله لما جاز أن يدعي في دفع ما لا يجوز عليه فعله. وقرأ أبو واقد الجراح " لا تزغ قلوبنا " بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه رغبة إلى الله تعالى. ومعنى الاية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ. (1) راجع ج‍ 5 ص 270. (2) راجع ج‍ 16 ص 82. (3) هو أحد رجال سند هذا الحديث. (4) يعنى قولهم إن العباد هم الخالقون لافعالهم. (*)
[ 21 ]
الثانية - قوله تعالى: (وهب لنا من لدنك رحمة) أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل. وفى هذا استسلام وتطارح. وفى " لدن " أربع لغات: لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون، وهى أفصحها، وبفتح اللام وضم الدال وحذف النون، وبضم اللام وجزم الدال وفتح النون، وبفتح اللام وسكون الدال وفتح النون. ولعل جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الاية وأمثالها فيقولون: العلم ما وهبه الله ابتداء من غير كسب، والنظر في الكتب والاوراق حجاب. وهذا مردود على ما يأتي بيانه في هذا الموضع. ومعنى الاية: هب لنا نعيما صادرا عن الرحمة، لان الرحمة راجعة إلى صفة الذات فلا يتصور فيها الهبة. يقال: وهب يهب والاصل. يوهب بكسر الهاء. ومن قال: الاصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لانه لو كان كما قال لم تحذف الواو كما لم تحذف في يوجل، وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لان فيه حرفا من حروف الحلق. قوله تعالى: ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9) أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم، وفى هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة. قال الزجاج: هذا هو التأويل الذى علمه الراسخون وأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حتى أنكروه. والريب الشك، وقد تقدمت محامله في البقرة (1). والميعاد مفعال من الوعد. قوله تعالى: إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أمولهم ولا أولدهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار (10) معناه بين، أي لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقرأ السلمى (2) " لن يغنى " بالياء لتقدم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل. وقرأ الحسن " يغنى " بالياء وسكون الياء الاخرة للتخفيف، كقول الشاعر: (1) راجع ج‍ 1 ص 159. (2) السلمى (بضم السين) هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين الصوفى الازدي. (عن تذكرة الحفاظ وأنساب السمعاني). (*)
[ 22 ]
كفى باليأس من أسماء كافى * * وليس لسقمها إذ طال شافي وكان حقه أن يقول كافيا، فأرسل الياء. وأنشد الفراء في مثله: كان أيديهن بالقاع الفرق * أيدى جوار يتعاطين الورق القرق والقرقة لغتان (1) في القاع. و " من " في قوله " من الله " بمعنى عند، قاله أبو عبيدة. (أولئك هم وقود النار) والوقود اسم للحطب، وقد تقدم في " البقرة " (2). وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف " وقود " بضم الواو على حذف مضاف تقديره حطب وقود النار. ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن تقول أقود مثل أقتت. والوقود بضم الواو المصدر، وقدت النار تقد إذا اشتعلت. وخرج ابن المبارك من حديث العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى تخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرءون القرآن فإذا قرءوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل ترون في أولئكم من خير " ؟ قالوا لا. قال: " أولئك منكم وأولئك من هذه الامة وأولئك هم وقود النار ". قوله تعالى: كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بايتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11) الدأب العادة والشأن. ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودءوبا إذا جد واجتهد، وأدأبته أنا. وأدأب بعيره إذا جهده في السير. والدائبان الليل والنهار. قال أبو حاتم: وسمعت يعقوب يذكر " كدأب " بفتح الهمزة، وقال لى وأنا غليم: على أي شئ يجوز " كدأب " ؟ فقلت له: أظنه من دئب يدأب دأبا. فقبل ذلك منى وتعجب من جودة تقديري على صغرى، ولا أدرى أيقال أم لا. قال النحاس: " وهذا القول خطأ، لا يقال (1) كذا في الاصول. والذى في لسان العرب وغيره من معجمات اللغة أنه القرق (بفتح القاف وكسر الراء) والقرق (بفتح القاف والراء) والقرق (بكسر القاف وسكون الراء). والقاع القرق: الطيب الذى لا حجارة فيه. (2) راجع ج‍ 1 ص 235 (*)
[ 23 ]
البتة دئب، وإنما يقال: دأب يدأب دءوبا و [ دأبا ] (1)، هكذا حكى النحويون، منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر، كما قال امرؤ القيس: كدأبك من أم الحويرث قبلها * وجارتها أم الرباب بمأسل (2) فأما الدأب فإنه يجوز، كما يقال: شعر وشعر ونهر ونهر، لان فيه حرفا من " حروف الحلق ". واختلفوا في الكاف، فقيل: هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون، أي صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى. وزعم الفراء أن المعنى: كفرت العرب ككفر آل فرعون. قال النحاس: لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا، لان كفروا داخلة في الصلة. وقيل: هي متعلقة ب‍ " أخذهم الله "، أي أخذهم أخذا كما أخذا آل فرعون. وقيل: هي متعلقة بقوله " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم... " أي لم تغن عنهم كما لم تغن الاموال والاولاد عن آل فرعون. وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال: شغلتنا أموالنا وأهلونا. ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق. ويؤيد هذا المعنى ". وحاق بآل فرعون سوء العذاب. النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " (3). والقول الاول أرجح، واختاره غير واحد من العلماء. قال ابن عرفة: " كدأب آل فرعون " أي كعادة آل فرعون. يقول: اعتاد هؤلاء الكفرة الالحاد والاعنات للنبى صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الانبياء، وقال معناه الازهرى. فأما قوله في سورة (الانفال) " كدأب آل فرعون " (4) فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والاسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك. قوله تعالى: (بآياتنا) يحتمل أن يريد الايات المتلوة، ويحتمل أن يريد الايات المنصوبة للدلالة على الوحدانية. (فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب). (1) زيادة عن إعراب القرآن للنحاس. (2) أم الحويرث: هي " هر " أم الحارث بن حصين ابن ضمضم الكلابي، وكان امرؤ القيس يشبب بها في أشعاره. وأم الرباب من كلب أيضا. ومأسل: موضع. يقول: لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها كما لقيت من أم الحويرث وجارتها. (عن شرح المعلقات). (3) راجع ج‍ 15 ص 318. (4) راجع ج‍ 8 ص 29. (*)
[ 24 ]
قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) يعني اليهود، قال محمد بن إسحاق: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود فقال: " يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم أنى نبى مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم "، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك أنك قتلت أقواما أغمارا (1) لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة ! والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس. فأنزل الله تعالى: " قل للذين كفروا ستغلبون " بالتاء يعنى اليهود: أي تهزمون " وتحشرون إلى جهنم " في الاخرة. فهذه رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس. وفى رواية أبى صالح عنه أن اليهود لما فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد نزلت. فالمعنى على هذا " سيغلبون " بالياء، يعني قريشا، " ويحشرون " بالياء فيهما، وهى قراءة نافع. قوله تعالى: (وبئس المهاد) يعنى جهنم، هذا ظاهر الاية. وقال مجاهد: المعنى بئس ما مهدوا لانفسهم، فكأن المعنى: بئس فعلهم الذى أداهم إلى جهنم. قوله تعالى: قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشآء إن في ذلك لعبرة لاولى الابصر (13) قوله تعالى: (قد كان لكم آية) إى علامة. وقال " كان " ولم يقل " كانت " لان " آية " تأنيثها غير حقيقي. وقيل: ردها إلى البيان، أي قد كان لكم بيان، فذهب إلى المعنى وترك اللفظ، كقول امرئ القيس: (1) الاغمار: جمع غمر (بضم) وهو الجاهل الغر الذى لم يجرب الامور. (*)
[ 25 ]
برهرهة رؤدة رخصة * * كخرعوبة البانة المنفطر (1) ولم يقل المنفطرة، لانه ذهب إلى القضيب. وقال الفراء: ذكره لانه فرق بينهما بالصفة، فلما حالت الصفة بين الاسم والفعل ذكر الفعل. وقد مضى هذا المعنى في البقرة في قوله تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية " (2). (في فئتين التقتا) يعنى المسلمين والمشركين يوم بدر (فئة) قرأ الجمهور (فئة) بالرفع، بمعنى إحداهما فئة. وقرأ الحسن ومجاهد " فئة " بالخفض " وأخرى كافرة " على البدل. وقرأ ابن أبى عبلة بالنصب فيهما. قال أحمد بن يحيى: ويجوز النصب على الحال، أي التقتا مختلفتين مؤمنة وكافرة. قال الزجاج: النصب بمعنى أعنى. وسميت الجماعة من الناس فئة لانها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة. وقال الزجاج: الفئة الفرقة، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف - ويقال: فأيته - إذا فلقته (3). ولا خلاف أن الاشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر. واختلف من المخاطب بها، فقيل: يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم. وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع. قوله تعالى: (يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار) قال أبو على: الرؤية في هذه الاية رؤية عين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد. قال مكى والمهدوى: يدل عليه " رأى العين ". وقرأ نافع " ترونهم " بالتاء والباقون بالياء (4). " مثليهم " نصب على الحال من الهاء والميم في " ترونهم ". والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون، والضمير المتصل هو للكفار. وأنكر أبو عمرو أن يقرأ (1) البرهرهة: الرقيقة الجلد، أو هي الملمساء المترجرجة. والرؤدة والرءودة: الشابة الحسنة الشريعة الشباب مع حسن غذا.. والرخصة: اللينة الخلق. والخرعوبة: القضيب الغضى اللدن. والبانة: واحد شجر البان، والمنفطر: المتشقق. يقال قد انفطر العود إذا انشق وأخرج ورقه. (عن شرح الديوان). (2) راجع ج‍ 2 ص 257، وص 268. (3) الذى في نسخ: ا وب وج‍: قلعته، والمثبت ما في المعاجم. (4) الذى في تفسير النيسابوري: " تروتهم بتاء الخطاب أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب الباقون بالياء ". (*)
[ 26 ]
" ترونهم " بالتاء، قال: ولو كان كذلك لكان مثليكم. قال النحاس " وذا لا يلزم، ولكن يجوز أن يكون مثلى أصحابكم. قال مكى: " ترونهم " بالتاء جرى على الخطاب في " لكم " فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين، والهاء والميم للمشركين. وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط، ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " (1)، وقوله تعالى: " وما آتيتم من زكاة " (2) فخاطب ثم قال: " فأولئك هم المضعفون " فرجع إلى الغيبة. فالهاء والميم في " مثليهم " يحتمل أن يكون للمشركين، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلى ما هم عليه من العدد، وهو بعيد في المعنى، لان الله تعالى لم يكثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلى عدتهم لتقوى أنفسهم ويقع التجاسر، وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وقلل المسلمين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم فينفذ حكم الله فيهم. ويحتمل أن يكون الضمير في " مثليهم " للمسلمين، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مثلى ما أنتم عليه من العدد، أي ترون أنفسكم مثلى عددكم، فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين. والتأويل الاول أولى، يدل عليه قوله تعالى: " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " (3) وقوله: " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا " وروي عن ابن مسعود أنه قال: قلت لرجل إلى جنبى: أتراهم سبعين ؟ قال: أظنهم مائة فلما أخذنا الاسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفا. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضعفين. وضعف الطبري هذا القول. قال ابن عطية: وكذلك هو مردود من جهات. بل قلل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدم. وعلى هذا التأويل كان يكون " ترون " للكافرين، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم، ويحتمل مثليكم، على ما تقدم. وزعم الفراء أن المعنى (1) راجع ج‍ 8 ص 324. (2) راجع ج‍ 16 ص 35. (3) راجع ج‍ 8 ص 22 (*)
[ 27 ]
ترونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم. وهو بعيد غير معروف في اللغة. قال الزجاج: وهذا باب الغلط، فيه غلط في جميع المقاييس، لانا إنما نعقل مثل الشئ مساويا له، ونعقل مثله ما يساويه مرتين. قال ابن كيسان: وقد بين الفراء قوله بأن قال: كما تقول وعندك عبد: احتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله. وتقول: احتاج إلى مثليه، فأنت محتاج إلى ثلاثة. والمعنى على خلاف ما قال، واللغة. والذى أوقع الفراء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم، وهذا بعيد وليس المعنى عليه. وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين: إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك، لان المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك. والاخرى أنه آية للنبى صلى الله عليه وسلم. وسيأتى ذكر وقعة (1) بدر إن شاء الله تعالى. وأما قراءة الياء فقال ابن كيسان: الهاء والميم في " يرونهم " عائدة على " وأخرى كافرة " والهاء والميم في " مثليهم " عائدة على " فئة تقاتل في سبيل الله " وهذا من الاضمار الذى يدل عليه سياق الكلام، وهو قوله: " يؤيد بنصره من يشاء ". فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مثلى المسلمين في رأى العين وثلاثة أمثالهم في العدد. قال: والرؤية هنا لليهود. وقال مكى: الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله، والمرئية الفئة الكافرة، أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثلى الفئة المؤمنة، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقللهم الله في أعينهم على ما تقدم. والخطاب في " لكم " لليهود. وقرأ ابن عباس وطلحة " ترونهم " بضم التاء، والسلمى بالتاء المضمومة على ما لم يسم فاعله. (والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار) تقدم معناه والحمد لله. قوله تعالى: زين للناس حب الشهوت من النساء والبنين والقنطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعم والحرث ذلك متع الحيوة الدنيا والله عنده حسن الماب (14) (1) في ص 190 فما بعد من هذا الجزء. (*)
[ 28 ]
فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (زين للناس) زين من التزيين. واختلف الناس من المزين، فقالت فرقة: الله زين ذلك، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ذكره البخاري. وفى التنزيل: " إنا جعلنا ما على الارض زينة (1) لها "، ولما قال عمر: الان يا رب حين زينتها لنا ! نزلت: " قل أؤ نبئكم بخير من ذلك " وقالت فرقة: المزين هو الشيطان، وهو ظاهر قول الحسن، فإنه قال: من زينها ؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها. فتزيين الله تعالى إنما هو بالايجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الاشياء. وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخد يعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والاية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفى ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم. وقرأ الجمهور " زين " على بناء الفعل للمفعول، ورفع " حب ". وقرأ الضحاك ومجاهد " زين " على بناء الفعل للفاعل، ونصب " حب " وحركت الهاء من " الشهوات " فرقا بين الاسم والنعت. والشهوات جمع شهوة وهى معروفة. ورجل شهوان (2) للشئ، وشئ شهى أي مشتهى. واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة. وفي صحيح مسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها. وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " طريق الجنة حزن (3) بربوة وطريق النار سهل بسهوة "، وهو معنى قوله " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". أي طريق الجنة صعبة المسلك فيه أعلى ما يكون من الروابي، وطريق النار سهل لا غلظ فيه ولا وعورة، وهو معنى قوله " سهل بسهوة " وهو بالسين المهملة. (1) راجع ج‍ 10 ص 353. (2) هذه عبارة الصحاح الذى يعتمد عليه المؤلف كثيرا. وفى الاصول: " الشهوان للشئ ". (3) الحزن (بفتح فسكون): المكان الغليظ الخشن. والربوة (بالضم والفتح): ما ارتفع من الارض والسهوة: الارض اللينة التربة. (*)
[ 29 ]
الثانية - قوله تعالى: (من النساء) بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن، لانهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدى فتنة أشد على الرجال من النساء " أخرجه البخاري ومسلم. ففتنة النساء أشد من جميع الاشياء. ويقال: في النساء فتنتان، وفى الاولاد فتنة واحدة. فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدى إلى قطع الرحم، لان المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الامهات والاخوات. والثانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام. وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة، وهو ما ابتلي بجمع المال لاجلهم. وروى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتاب ". حذرهم رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم، لان في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجال، وليس في ذلك تحصين لهن ولا ستر، لانهن قد يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة والبلاء، ولانهن قد خلقن من الرجل، فهمتها في الرجل والرجل خلق فيه الشهوة وجعلت سكنا له، فغير مأمون كل واحد منهما على صاحبه. وفى تعلمهن الكتاب هذا المعنى من الفتنة وأشد. وفى كتاب الشهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أعروا النساء يلزمن الحجال ". فعلى الانسان إذا لم يصبر في هذه الازمان أن يبحث عن ذات الدين ليسلم له الدين، قال صلى الله عليه وسلم: " عليك بذات الدين تربت (2) يداك " أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفى سنن ابن ماجه أن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزوجوا النساء لحسنهن ؟ فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لاموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن، على الدين ولامة سوداء خرماء (3) ذات دين أفضل ". الثالثة - قوله تعالى: (والبنين) عطف على ما قبله. وواحد من البنين ابن. قال الله تعالى مخبرا عن نوح: " إن ابني من أهلي (4) ". وتقول في التصغير " بني " كما قال لقمان. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للاشعث بن قيس: " هل لك من ابنة حمزة من (1) الزيادة في د:. (2) ترب الرجل: افتقر، آى لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى. وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، وإنما يريدون الحث والتحريض. (3) خرماء: مقطوعة بعض الانف ومثقوبة الاذن. (4) راجع ج‍ 9 ص 45. (*)
[ 30 ]
ولد " ؟ قال: نعم، لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني جبلة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لئن قلت ؟ بذلك إنهم لثمرة القلوب وقرة الاعين وإنهم مع ذلك لمجبنة (1) مبخلة محزنة ". الرابعة - قوله تعالى: (والقناطير.) القناطير جمع قنطار، كما قال تعالى: " وآتيتم إحداهن قنطارا " (2) وهو العقدة الكبيرة من المال، وقيل: هو اسم للمعيار الذي يوزن به، كما هو الرطل والربع. ويقال لما بلغ ذلك الوزن: هذا قنطار، أي يعدل القنطار. والعرب تقول: قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار. وقال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشئ وإحكامه، تقول العرب: قنطرت الشئ إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لاحكامها. قال طرفة: كقنطرة الرومي أقسم ربها * * لتكتنفن حتى تشاد بقرمد (3) والقنطرة المعقودة، فكأن القنطار عقد مال. واختلف العلماء في تحرير حده كم هو على أقوال عديدة، فروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية "، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وجماعة من العلماء. قال ابن عطية: " وهو أصح الاقوال، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الاوقية ". وقيل: اثنا عشر ألف أوقية، أسنده البستي في مسنده الصحيح عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " القنطار اثنا عشر ألف أوقية الاوقية خير مما بين السماء والارض ". وقال بهذا القول أبو هريرة أيضا. وفى مسند أبى محمد الدارمي عن أبى سعيد الخدرى قال: " من قرأ في ليلة عشر آيات كتب من الذاكرين، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بخمسمائة آية إلى الالف أصبح وله قنطار من الاجر " قيل: (1) أي أن الابناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت فيصيب أبناءهم اليتم وآلامه، ويجعلونهم يبخلون فلا يتفقون فيما ينبغى أن ينفق فيه إيثارا لهم بالمال ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه. (2) راجع ج 5 ص 99. (3) القرمد الاجر والحجارة. (*)
[ 31 ]
وما القنطار ؟ قال: " مل ء مسك ثور ذهبا ". موقوف، وقال به أبو نضرة العبدى. وذكر ابن سيده أنه هكذا بالسريانية. وقال النقاش عن ابن الكلبى أنه هكذا بلغة الروم. وقال ابن عباس والضحاك والحسن: ألف ومائتا مثقال من الفضة، ورفعه الحسن. وعن ابن عباس: اثنا عشر ألف درهم من الفضة، ومن الذهب ألف دينار دية الرجل المسلم، وروي عن الحسن والضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ثمانون ألفا. قتادة: مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة. وقال أبو حمزة الثمالى (1): القنطار بإفريقية والاندلس ثمانية آلاف مثقال من ذهب أو فضة. السدي: أربعة آلاف مثقال. مجاهد: سبعون ألف مثقال، وروي عن ابن عمر. وحكى مكي قولا أن القنطار أربعون أوقية من ذهب أو فضة، وقاله ابن سيده في المحكم، وقال: القنطار بربر ألف مثقال. وقال الربيع ابن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وهذا هو المعروف عند العرب، ومنه قوله: " وآتيتم إحداهن قنطارا " أي مالا كثيرا. ومنه الحديث: " إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه " أي صار له قنطار من المال. وعن الحكم هو ما بين السماء والارض. واختلفوا في معنى " المقنطرة " فقال الطبري وغيره: معناه المضعفة، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسع. وروى عن الفراء أنه قال: القناطير جمع القنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسع قناطير. السدي: المقنطرة المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم. مكي: المقنطرة المكملة، وحكاه الهروي، كما يقال: بدر مبدرة، وآلاف مؤلفة. وقال بعضهم. ولهذا سمى البناء القنطرة لتكاثف البناء بعضه على بعض. ابن كيسان والفراء: لا تكون المقنطرة أقل من تسع قناطير. وقيل: المقنطرة إشارة إلى حضور المال وكونه عتيدا. وفى صحيح البستى عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين. (1) الثمالى (بضم المثلثة وتخفيف الميم ولام): نسبة إلى ثمالة بطن من الازد (*)
[ 32 ]
الخامسة - قوله تعالى: (من الذهب والفضة) الذهب، مؤنثة (1)، يقال: هي الذهب الحسنة جمعها ذهاب (2) وذهوب. ويجوز أن يكون جمع ذهبة، ويجمع على الا ذهاب. وذهب فلان مذهبا حسنا. والذهب: مكيال لاهل اليمن. ورجل ذهب إذا رأى معدن الذهب فدهش. والفضة معروفة، وجمعها فضض. فالذهب مأخوذة من الذهاب، والفضة مأخوذة من انفض الشئ تفرق، ومنه فضضت القوم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا. وهذا الاشتقاق يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد في الوجود. ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم: النار آخر دينار نطقت به * * والهم آخر هذا الدرهم الجاري والمرء بينهما إن كان ذا ورع * * معذب القلب بين الهم والنار السادسة - قوله تعالى (والخيل) الخيل مؤنثة. قال ابن كيسان: حدثت عن أبى عبيدة أنه قال: واحد الخيل خائل، مثل طائر وطير، وضائن وضين، وسمى الفرس بذلك لانه يختال في مشيه. وقال غيره: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه واحد فرس كالقوم والرهط والنساء والابل ونحوها. وفى الخبر من حديث على عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق الفرس من الريح ولذلك جعلها تطير بلا جناح ". وهب بن منبه: خلقها من ريح الجنوب. قال وهب: فليس تسبيحة ولا تكبيرة ولا تهليلة يكبرها صاحبها إلا وهو يسمعها فيجيبه بمثلها. وسيأتي لذكر الخيل ووصفها في سورة " الانفال " (3) ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وفى الخبر: " إن الله عرض على آدم جميع الدواب، فقيل له: اختر منها واحدا فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزك، فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسميت خيلا لانها موسومة بالعز فمن ركبه اعتز بنحلة الله له ويختال به على أعداء الله تعالى. وسمي فرسا (1) هذا رأى المؤلف، وقد ذكره شارخ القاموس (في مادة ذهب). والمشهور أن الذهب يذكر ويؤنث كما في معجمات اللغة. (2) في الاصول: والذى في معجمات اللغة أن الذهب يجمع على أذهاب وذهوب وذهبان (بكسر أوله) كبرق وبرقان وذهبان (بضم أوله) كحمل وحملان. فلعل ما في الاصول محرف عن " ذهبان ". (3) راجع ج‍ 8 ص 35. (*)
[ 33 ]
لانه يفترس مسافات الجو افتراس الاسد وثبانا، ويقطعها كالالتهام بيديه على شئ خبطا وتناولا، وسمي عربيا لانه جئ به من بعد آدم لاسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي، فصار له نحلة من الله تعالى فسمي عربيا. وفى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الشيطان دارا فيها فرس عتيق ". وإنما سمي عتيقا لانه قد تخلص من الهجانة. (1) وقد قال صلى الله عليه وسلم: " خير الخيل الادهم الاقرح (2) الارثم [ ثم الاقرح (3) المحجل ] طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية ". أخرجه الترمذي عن أبى قتادة. وفى مسند الدارمي عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، إنى أريد أن أشتري فرسا [ فأيها (4) أشترى ] ؟ قال: " اشتر أدهم أرثم محجلا (5) طلق اليمين أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم. وروى النسائي عن أنس قال: لم يكن أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. وروى الائمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر...) الحديث بطوله، شهرته أغنت عن ذكره. وسيأتى ذكر أحكام الخيل في " الانفال " (6) و " النحل " بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. السابعة - قوله تعالى (المسومة) يعني الراعية في المروج والمسارح، قاله سعيد ابن جبير. يقال: سامت الدابة والشاة إذا سرحت تسوم سوما فهي سائمة. وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة. وسومتها تسويما فهى مسومة. وفي سنن ابن ماجه عن على قال: نهى (1) الهجين الذى ولدته برذونة من حصان عربي. (2) الاقرح: ما في جبهته قرحة، وهى بياض يسير في وجه الفرس دون الغرة. والارثم، أبيض الانف والشفة العليا. والمحجل: أن تكون قوائمه الاربع بيضا يبلغ منها ثلث الوظيف (مستدق الذراع والساق أو ما فوق الرسغ إلى الساق) أو نصفه أو ثلثيه بعد أن يتجاوز الارساغ ولا يبلغ الركبتين والعرقوبين. وطلق اليمين: لا تحجيل فيها. والكميت: ما لونه بين السواد والحمرة. والشية: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. (3) زيادة عن سنن الترمذي. (4) زيادة عن مسند الدارمي. (5) في مسند الدارمي والاصول: " محجل ". (6) راجع ج‍ 8 ص 36 وج‍ 10 ص 73 (*)
[ 34 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السوم (1) قبل طلوع الشمس، وعن ذبح ذوات الدر) السوم هنا في معنى الرعى. وقال الله عزوجل " فيه تسيمون " (2) قال الاخطل: مثل ابن بزعة (3) أو كآخر مثله * أولى لك (4) ابن مسيمة الاجمال أراد ابن راعية الابل. والسوام: كل بهيمة ترعى، وقيل: المعدة للجهاد، قاله ابن زيد. مجاهد: المسومة المطهمة الحسان. وقال عكرمة: سومها الحسن، واختاره النحاس، من قولهم: رجل وسيم. وروي عن ابن عباس أنه قال: المسومة المعلمة بشيات الخيل في وجوهها، من السيما وهي العلامة. وهذا مذهب الكسائي وأبى عبيدة. قلت: كل ما ذكر يحتمله اللفظ، فتكون راعية معدة حسانا معلمة لتعرف من غيرها. قال أبو زيد: أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى. وحكى ابن فارس اللغوى في مجمله: المسومة المرسلة وعليها ركبانها. وقال المؤرج (5): المسومة المكوية. المبرد: المعروفة في البلدان. ابن كيسان: البلق. وكلها متقارب من السيما. قال النابغة: وضمر كالقداح مسومات * * عليها معشر أشباه جن الثامنة - قوله تعالى: (والانعام) قال ابن كيسان: إذا قلت نعم لم تكن إلا للابل، فإذا قلت أنعام وقعت للابل وكل ما يرعى. قال الفراء: هو مذكر ولا يؤنث، يقولون (1) في حاشية السندي على سنن ابن ماجه واللسان (مادة سوم) عند الكلام عن هذا الحديث: " السوم: أن يساوم بسلعته " ونهى عن ذلك في ذلك لانه وقت يذكر الله فيه فلا يشتغل بغيره. ويحتمل أن المراد بالسوم الرعى، لانها إذا رعت الرعى قبل شروق الشمس وهو عليه ند أصابها منه داء قتلها، وذلك معروف عند أهل المال من العرب ". (2) راجع ج‍ 10 ص 82. (3) كذا في ديوانه. ورواية الاغانى (ج‍ 8 ص 319 طبع دار الكتب المصرية): " كابن البزيعة... ". والذى في الاصول: " ظل ابن زرعة... ". ويعنى بابن بزعة: شداد بن المنذر أخا حصين الذهلى. وقوله " كآخر مثله " يعنى حوشب بن رؤيم. (4) أولى لك: ويل لك، فهى كلمة تقال في مقام التهديد والوعيد. وقال الاصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به. (5) المورج (كمحدث): أبو فيد عمرو بن الحارث السدوسى النحوي البصري، أحد ائمة اللغة. والادب (*)
[ 35 ]
هذا نعم وارد، ويجمع أنعاما. قال الهروي: والنعم يذكر ويؤنث، والانعام المواشي من الابل والبقر والغنم، إذا قيل: النعم فهو الابل خاصة. وقال حسان: وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء وفي سنن ابن ماجة عن عروة البارقي يرفعه قال: " الابل عز لاهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة ". وفيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشاة من دواب الجنة ". وفيه عن أبى هريرة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال: عند اتخاذ الاغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى. وفيه عن أم هاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " اتخذي غنما فان فيها بركة ". أخرجه عن أبى بكر بن أبى شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم هانئ، إسناد صحيح. التاسعة - قوله تعالى: (والحرث) الحرث هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به، تقول: حرث الرجل حرثا إذا أثار الارض لمعنى الفلاحة، فيقع اسم الحراثة على زرع الحبوب وعلى الجنات وعلى غير ذلك من نوع الفلاحة. وفى الحديث: " أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ". يقال حرثت واحترثت. وفى حديث عبد الله " احرثوا هذا القرآن " أي فتشوه. قال ابن الاعرابي: الحرث التفتيش، وفي الحديث: " أصدق الاسماء الحارث " لان الحارث هو الكاسب، واحتراث المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع أحرثة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وفى حديث معاوية: ما فعلت نواضحكم (1) ؟ قالوا: حرثناها يوم بدر. قال أبو عبيد: يعنون هزلناها، يقال: حرثت الدابة وأحرثتها، لغتان. وفى صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلى قال وقد رأى سكة (2) (1) النواضح من الابل التى يستقى عليها، واحدها ناصح. والخطاب للانصار: وقد قعدوا عن تلقيه لما حج، وأراد معاوية بذكر نواضجهم تقريعا لهم وتعريضا، لانهم كانوا أهل زرع وحرث وسقى، بما أسكته، فهم يريدون بقولهم " هزلناها يوم بدر " التعريض بقتل أشياخه يوم بدر. (النهاية). (2) السكة (بكسر السين وتشديد الكاف المفتوحة): الحديدة التى تحرث بها الارض. (*)
[ 36 ]
وشيئا من آلة الحرث فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل ". قيل: إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الارض التي يطالبهم بها الائمة والسلاطين. وقال المهلب: معنى قول في هذا الحديث والله أعلم الحض على معالى الاحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات، وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله، لانهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الامم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود (1) إلى عمارة الارض ولزوم المهنة. ألا ترى أن عمر قال: تمعددوا (2) واخشوشنوا واقطعوا (3) الركب وثبوا على الخيل وثبا لا تغلبنكم عليها رعاة الابل. فأمرهم بملازمة الخيل، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ". قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس، أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك، وأما الانعام فيتمول بها أهل البوادى، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق (4). فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع. العاشرة - قوله تعالى: " ذلك متاع الحياة الدنيا " أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى. وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الاخرة. روى ابن ماجة وغيره عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شئ أفضل من المرأة الصالحة ". وفى الحديث: " ازهد في الدنيا يحبك الله " أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضرورى. قال صلى الله عليه وسلم: " ليس لابن آدم حق في سوى هذه (1) اللغة الفصحى " من الاخلاد ". (2) يقال: تمعدد الغلام إذا شب وغلظ. وقيل: أراد تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكانوا أهل غلظ وقشف، أي كونوا مثلهم ودعوا التنعم وزى العجم. (3) في مسند الامام أحمد بن حنبل: " وألقوا الركب " جمع ركاب: هي الرواحل من الابل، أو جمع ركوب وهى كل ما يركب من دابة. (4) الرساتيق: السواد والقرى واحدها رستاق، وفى ز: البساتين. (*)
[ 37 ]
الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف (1) الخبز والماء " أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب. وسئل سهل بن عبد الله: بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات ؟ قال: بتشاغله بما أمر به. الحادية عشرة - قوله تعالى: (والله عنده حسن المآب) ابتداء وخبر. والمآب المرجع، آب يؤوب إيابا إذا رجع، قال امرؤ القيس: وقد طوفت في الافاق حتى * * رضيت من الغنيم بالاياب وقال آخر: وكل ذى غيبة يؤوب * * وغائب الموت لا يؤوب وأصل مآب مأوب، قلبت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال. ومعنى الاية تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الاخرة. قوله تعالى: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها وأزوج مطهرة ورضون من الله والله بصير بالعباد (15). منتهى الاستفهام عند قوله: " من ذلكم "، " للذين اتقوا " خبر مقدم، و " جنات " رفع بالابتداء. وقيل: منتهاه " عند ربهم "، و " جنات " على هذا رفع بابتداء مضمر تقديره ذلك جنات. ويجوز على هذا التأويل " جنات " بالخفض بدلا من " خير " ولا يجوز ذلك على الاول. قال ابن عطية: وهذه الاية والتى قبلها نظير قوله عليه السلام: " تنكح المرأة لاربع لما لها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت (2) يداك " خرجه مسلم وغيره. فقوله " فاظفر بذات الدين " مثال لهذه الاية. وما قبل مثال للاولى. فذكر تعالى هذه تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها. وقد تقدم في البقرة معاني (3) ألفاظ هذه الاية. (1) الجلف (بكسر فسكون): الخبز وحده لا أدم معه، وقيل: هو الخبر الغليظ اليابس. (2) راجع هامشة 1 ص 29 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 1 ص 238 فما بعد. (*)
[ 38 ]
والرضوان مصدر من الرضا، وهو أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى لهم " تريدون شيئا أزيدكم " ؟ فيقولون: يا ربنا وأى شئ أفضل من هذا ؟ فيقول: " رضاى فلا أسخط عليكم بعده أبدا " خرجه مسلم. وفى قوله تعالى: " والله بصير بالعباد " وعد ووعيد. قوله تعالى: الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصبرين والصدقين والقنتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار (17) " الذين " بدل من قوله " للذين اتقوا " وإن شئت كان رفعا أي هم الذين، أو نصبا على المدح. (ربنا) أي يا ربنا. (إننا آمنا) أي صدقنا. (فاغفر لنا ذنوبنا) دعاء بالمغفرة. (وقنا عذاب النار) تقدم في (1) البقرة. (الصابرين) يعنى عن المعاصي والشهوات، وقيل: على الطاعات. (والصادقين) أي في الافعال والاقوال (والقانتين) الطائعين. (والمنفقين) يعنى في سبيل الله. وقد تقدم في (2) البقرة هذه المعاني على الكمال. ففسر تعالى في هذه الاية أحوال المتقين الموعودين بالجنات. واختلف في معنى قوله تعالى: " والمستغفرين بالاسحار " فقال أنس بن مالك: هم السائلون المغفرة. قتادة: المصلون. قلت: ولا تناقض، فإنهم يصلون ويستغفرون. وخص السحر بالذكر لانه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام لبنيه: " سوف أستغفر لكم ربى " (3): " إنه أخر ذلك إلى السحر " خرجه الترمذي وسيأتى. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل " أي الليل أسمع " ؟ فقال: " لا أدري غير أن العرش يهتز عند السحر ". يقال سحر وسحر، بفتح الحاء وسكونها، وقال الزجاج: السحر من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني، وقال ابن زيد: السحر هو سدس الليل الاخر. (1) راجع المسألة الثانية ج‍ 2 ص 433. (2) راجع ج‍ 1 ص 178، 179، 233، 371، وراجع المسألة الخامسة ج‍ 3 ص 213. (3) راجع ج‍ 9 ص 262. (*)
[ 39 ]
قلت: أصح من هذا ما روى الائمة عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل الله عزوجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الاول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذى يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألنى فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فاغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر " في رواية " حتى ينفجر الصبح " لفظ مسلم. وقد اختلف في تأويله، وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبى هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عزوجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الاول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى ". صححه أبو محمد عبد الحق، وهو يرفع الاشكال ويوضح كل احتمال، وأن الاول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول. وقد روى " ينزل " بضم الياء، وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا. وقد أتينا على ذكره في " الكتاب الاسنى ؟ في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ". مسألة - الاستغفار مندوب إليه، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين في هذه الاية وغيرها فقال: " وبالاسحار هم يستغفرون " (1). وقال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة. وقال سفيان الثوري: بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد ليقم القانتون فيقومون كذلك يصلون إلى السحر، فإذا كان عند السحر نادى مناد: أين المستغفرون (2) فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم. وروي عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يقول إني لاهم بعذاب أهل الارض فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المتهجدين والمستغفرين بالاسحار صرفت عنهم العذاب بهم ". قال مكحول: إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الامة بعذاب العامة. ذكره أبو نعيم في كتاب الحلية له. وقال نافع: كان ابن عمر يحيى (3) الليل ثم (1) راجع ج‍ 17 ص 37. (2) في نسخ الاصول: المستغفرين، عدا: ح، فمنها التصويب. (3) في ا: يقوم. (*)
[ 40 ]
يقول: يا نافع أسحرنا ؟ فأقول لا. فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم ععد يستغفر. وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول: يا رب، أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فأغفر لي. فنظرت فإذا [ هو ] (1) ابن مسعود. فلت: فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب. لا ما قال ابن زيد أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة. والله أعلم. وقال لقمان لابنه: يا بنى لا يكن الديك أكيس منك، ينادى بالاسحار وأنت نائم ". والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري عن شداد بن أوس، وليس له في الجامع غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت - قال - ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسى فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة ". وروى أبو محمد عبد الغنى بن سعيد من حديث ابن لهيعة عن أبى صخر عن أبى معاوية عن سعيد بن جبير عن أبى الصهباء البكري عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد على بن أبي طالب رضى الله عنه ثم قال: " ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كانت ذنوبك كمدب النمل - أو كمدب الذر - لغفرها الله لك على أنه مغفور لك: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ". قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملئكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18) فيه أربع مسائل الاولى - قال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما نزلت هذه الاية خررن سجدا. وقال الكلبى: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه (1) في نسخة: ز. (*)
[ 41 ]
حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان !. فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد ؟ قال (نعم). قالا: وأنت أحمد ؟ قال: (نعم). قالا: نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلاني). فقالا: أخبرنا عن أعظم (1) شهادة في كتاب الله. فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط " فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن المراد بأولى العلم الانبياء عليهم السلام. وقال ابن كيسان: المهاجرون والانصار. مقاتل: مؤمنوا أهل الكتاب. السدى والكلبي: المؤمنون كلهم، وهو الاظهر لانه عام. الثانية - في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وقل رب زدني علما " (2) فلو كان شئ أشرف من العلم لامر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الانبياء). وقال: (العلماء أمناء الله على خلقه). وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير. وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث بركة ابن نشيط - وهو عنكل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط - وكان حافظا، حدثنا عمر ابن المؤمل حدثنا محمد بن أبى الخصيب حدثنا عنكل حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا شريك عن أبى إسحاق عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الانبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة). وفى هذا الباب [ حديث ] عن أبي الدرداء خرجه أبو داود. الثالثة - روى غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تارة فنزلت قريبا من الاعمش فكنت اختلف إليه. فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الاية: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو (1) في ا: الاعظم. (2) راجع ج‍ 11 ص 25. (*)
[ 42 ]
العزيز الحكيم. إن الدين عند الله الاسلام "، قال الاعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لى [ عند الله ] (1) وديعة، وأن الدين عند الله الاسلام - قالها مرارا - فغدوت إليه وودعته ثم قلت: إنى سمعتك تقرأ هذه الاية فما بلغك فيها ؟ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به. قال: والله لا حدثتك به سنة. قال: فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة. قال: حدثني أبو وائل، عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدى عهد إلى وأنا أحق من وفى أدخلوا عبدى الجنة). قال أبو الفرج الجوزى: غالب القطان هو غالب بن خطاف القطان (2)، يروى عن الاعمش حديث (شهد الله) وهو حديث معضل (3). قال ابن عدي الضعف على حديثه بين. وقال أحمد بن حنبل: غالب بن خطاف القطان ثقة ثقة. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. قلت: يكفيك من عدالته وثقته أن خرج له البخاري ومسلم في كتابيهما، وحسبك. وروى من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم عند منامه خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة). ويقال من أقر بهذه الشهادة عن عقد من قلبه فقد قام بالعدل. وروى عن سعيد بن جبير أنه قال: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء (4) العرب صنم أو صنمان. فلما نزلت هذه الآية أصبحت الاصنام قد خرت ساجدة لله. الرابعة - قوله تعالى: " شهد الله " أي بين وأعلم، كما يقال: شهد فلان عند القاضى إذا بين وأعلم لمن الحق، أو على من هو. قال الزجاج: الشاهد هو الذي يعلم الشئ ويبينه، فقد دلنا الله تعالى على وحدانيته بما خلق وبين. وقال أبو عبيدة: " شهد الله " بمعنى قضى الله، أي أعلم. وقال ابن عطية: وهذا مردود من جهات. وقرأ الكسائي بفتح " أن " في قوله (1) الزيادة في نسخ ب، ز، ج‍. (2) بضم الخاء، وقيل بفتحها. (3) المعضل: ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا. (4) في أ. (*)
[ 43 ]
" أنه لا إله إلا هو " وقوله " أن الدين ". قال المبرد: التقدير: أن الدين عند الله الاسلام بأنه لا إله إلا هو، ثم حذفت الباء كما قال: أمرتك الخير. أي بالخير. قال الكسائي: أنصبهما جميعا، بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الدين عند الله. قال ابن كيسان: " أن " الثانية بدل من الاولى، لان الاسلام تفسير المعنى الذي هو التوحيد. وقرأ ابن عباس فيما حكى الكسائي " شهد الله إنه " بالكسر " أن الدبن " بالفتح. والتقدير: شهد الله أن الدين الاسلام، ثم ابتدأ فقال: إنه لا إله إلا هو. وقرأ أبو المهلب وكان قارئا - شهداء الله بالنصب على الحال، وعنه " شهداء الله ". وروى شعبة عن عاصم عن زر عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ (1) " أن الدين عند الله الحنيفية (2) لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ". قال أبو بكر الانباري: ولا يخفى على ذي تمييز أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير، أدخله بعض من نقل الحديث في القرآن. و " قائما " نصب على الحال المؤكدة من اسمه تعالى في قوله " شهد الله " أو من قوله " إلا هو ". وقال الفراء: هو نصب على القطع، كان أصله القائم، فلما قطعت الالف واللام نصب كقوله: " وله الدين واصبا " (3). وفي قراءة عبد الله " القائم بالقسط " على النعت، والقسط العدل. (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) كرر لان الاولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت محل الحكم. وقال جعفر الصادق: الاولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم. قوله تعالى: إن الدين عند الله الاسلم وما اختلف الذين أوتوا الكتب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بايت الله فإن الله سريع الحساب (19) قوله تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) الدين في هذه الاية الطاعة والملة، والاسلام بمعنى الايمان والطاعات، قال أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين. والاصل في مسمى الايمان (1) في ح: يقول. (2) في ح: للحنيفية. (3) راجع ج‍ 10 ص 114. (*)
[ 44 ]
والاسلام التغاير، لحديث جبريل (1). وقد يكون بمعنى المرادفة. فيسمى كل واحد منهما باسم الاخر، كما في حديث وفد عبد القيس (2) وأنه أمرهم بالايمان [ بالله ] (3) وحده وقال: (هل تدرون ما الايمان) ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم) الحديث. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الايمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الاذى وأرفعها قول لا إله إلا الله) أخرجه الترمذي. وزاد مسلم (والحياء شعبة من الايمان). ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الاصل ومسمى الآخر، كما في هذه الاية إذ قد دخل فيها التصديق والاعمال، ومنه قول عليه السلام: (الايمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالاركان). أخرجه ابن ماجة، وقد تقدم. والحقيقة هو الاول وضعا وشرعا، وما عداه من باب التوسع والله أعلم. قوله تعالى: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) الاية. أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا. قال ابن عمر وغيره. وفى الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، قاله الاخفش. قال محد بن جعفر بن الزبير: المراد بهذه الاية النصارى، وهي توبيخ لنصارى نجران. وقال الربيع بن أنس: المراد بها اليهود. ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى، أي " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب " يعني في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم " إلا من بعد ما جاءهم العلم " يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم. وقيل: ؟ أي وما اختلف الذين أوتوا الانجيل (4) في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد، وأن عيسى عبد الله ورسوله. و " بقيا " نصب على المفعول من أجله، أو على الحال من (الذين). والله تعالى أعلم. (1) راجع هذا الحديث في صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الايمان الجزء الاول. (2) هو عبد القيس بن أقصى بن دعمى، أبو قبيلة، كانوا ينزلون البحرين وكان قدومهم عام الفتح وعلى رأسهم عبد الله بن عوف الاشجع. (راجع كتاب الطبقات الكبير ج‍ أ قسم ثان ص 54 طبع أوربا، وشرح القسطلانى ج‍ 1 ص 193 طبع بولاق). (3) في ب، وز، وأ، ود. (4) في أ، ود: الكتاب. (*)
[ 45 ]
قوله تعالى فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والامين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلغ والله بصير بالعباد (20) قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن) أي جادلوك بالاقاويل المزورة والمغالطات، فأسند أمرك إلى ما كلفت من الايمان والتبليغ وعلى الله نصرك. وقوله " وجهي " بمعنى ذاتي، ومنه الحديث (سجد وجهى للذي خلقه وصوره). وقيل: الوجه هنا بمعنى القصد، كما تقول: خرج فلان في وجه كذا. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى (1)، والاول أولى. وعبر بالوجه عن سائر الذات إذ هو أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس. وقال: أسلمت وجهي لمن أسلمت * * له المزن تحمل عذبا زلالا وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى: " ويبقى وجه ربك " (2): إنها عبارة عن الذات وقيل: العمل الذي يقصد به وجهه. وقوله: " ومن اتبعن " " من " في محل رفع عطفا على التاء في قوله " أسلمت " أي ومن اتبعن أسلم أيضا، وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما. وأثبت نافع وأبا عمرو ويعقوب ياء " اتبعن " على الاصل، وحذف الاخرون اتباعا للمصحف إذ وقعت فيه بغير ياء. وقال الشاعر: ليس تخفى يسارتى قدر يوم * * ولقد تخف شيمتي إعسارى قوله تعالى: (وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) يعنى اليهود والنصارى " والاميين " الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب. " أأسلمتم " استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الامر، أي أسلموا، كذا قال الطبري وغيره. وقال الزجاج: " أأسلمتم " تهديد. وهذا حسن لان المعنى أأسلمتم أم لا. وجاءت العبارة في قوله " فقد اهتدوا " بالماضي مبالغة في الاخبار بوقوع الهدى لهم (1) راجع ج‍ 2 ص 75. (2) راجع ج‍ 17 ص 165. (*)
[ 46 ]
وتحصيله. و " البلاغ " مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل، أي إنما عليك أن تبلغ. وقيل: إنه مما نسخ بالجهاد. وقال ابن عطية: وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها، وأما على ظاهر نزول هذه الايات في وفد نجران فإنما المعنى فإنما عليك أن تبلغ ما أنزل إليك بما فيه من قتال وغيره. قوله تعالى: إن الذين يكفرون بايت الله ويقتلون النبين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعملهم في الدنيا والاخرة وما لهم من نصرين (22). فيه ست مسائل الاولى - قوله تعالى: " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين " قال أبو العباس المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عزوجل فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم (1) بالاسلام فقتلوهم، ففيهم نزلت هذه الاية. وكذلك قال معقل بن أبي مسكين: كانت الانبياء صلوات الله عليهم تجئ إلى بنى إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط، أي بالعدل، فيقتلون. وقد روى عن ابن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشى المؤمن بينهم بالتقية " وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهو الذين ذكرهم الله في هذه الآية). ذكره المهدوي وغيره. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم من آخر. (1) في ز: يأمرونهم. (*)
[ 47 ]
النهار. فإن قال قائل: الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا. فالجواب عن هذا أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته، وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهموا بقتلهم، قال الله عزوجل: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك " (1): الثانية - دلت هذه الاية على أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر كان واجبا في الامم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة. قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه). وعن درة بنت أبى لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله ؟ قال: (آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه). وفي التنزيل: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف " ثم قال: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " (2). فجعل تعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الاسلام والقتال عليه. ثم إن الامر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزيز إلى رأيه، والحبس والاطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. قال الله تعالى: " الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر " (3). الثالثة - وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتد عة حيث تقول: لا يغيره إلا عدل. وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس. فإن تشبثوا بقوله تعالى: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " (4) وقوله: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " (5) ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم ها هنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر. ولا شك (1) راجع ج‍ 7 ص 397. (2) راجع ج 8 ص 199 وص 202. (3) راجع ج‍ 12 ص 72 (4) راجع ج‍ 1 ص 364. (5) ج‍ 18 ص 81. (*)
[ 48 ]
في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى: " أتأمرون الناس بالبر " (1). الرابعة - أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الاذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فيقلبه ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. قال: والاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الامر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة. قال الحسن: إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم، فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال: اتقني اتقني فما لك وله. وقال ابن مسعود: بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وروى ابن لهيعة عن الاعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه). قالوا: يا رسول الله وما إذلاله نفسه ؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يقوم له). قلت: وخرجه ابن ماجه عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما قد تكلم فيه. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات " اللهم إن هذا منكر " فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه، وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر (2)، وإن لم يرج زواله فأى فائدة عنده. قال: والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي. قلت: هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الاجماع. وهذه الاية تدل على جواز الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل. وقال تعالى: " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك " (3). وهذا إشارة إلى الاذاية. (1) راجع ج‍ 1 ص 265. (2) الغرر: الخطر. المصباح. (3) راجع ج‍ 14 ص 68. (*)
[ 49 ]
الخامسة - روى الائمة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان). قال العلماء: الامر بالمعروف باليد على الامراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس. فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل، وهذا تلقي من قول الله تعالى: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " (1). وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل (2) على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شئ عليه. ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به، حتى لقد قال العلماء: لو فرضنا (3) [ قودا ]. وقيل: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الاولى. السادسة - روى أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله، متى نترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال: (إذا ظهر فيكم ما ظهر في الامم قبلكم). قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الامم قبلنا ؟ قال: (الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم). قال زيد: تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (والعلم في رذالتكم) إذا كان العلم في الفساق. خرجه ابن ماجة. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في " المائدة " (4) وغيرها إن شاء الله تعالى. وتقدم معنى " فبشرهم " " وحبطت " في البقرة (5) فلا معنى للاعادة. قوله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يدعون إلى كتب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) (1) راجع ج 16 ص 319. (2) في ذ: القاتل. (3) بياض في أكثر الاصول. الزيادة من دوب: يعنى: لو فرضنا أن دفع الجاني أدى موته فأخذ فيه بالقود فلا عليه لانه ناج عند الله. والله أعلم. (4) راجع ج‍ 6 ص 253. (5) راجع ج‍ 1 ص 238 وج‍ 3 ص 48. (*)
[ 50 ]
فيه ثلاث مسائل الاولى - قال ابن عباس: هذه الاية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله. فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني على ملة إبراهيم). فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم). فأبيا عليه فنزلت الاية. وذكر النقاش أنها نزلت لان جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هلموا إلى التوراة ففيها صفتي) فأبوا. وقرأ الجمهور " ليحكم " وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع " ليحكم " بضم الياء. والقراءة الاولى أحسن، لقوله تعالى: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ". الثانية - في هذه الاية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لانه دعي إلى كتاب الله، فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالادب على قدر المخالف والمخالف. وهذا الحكم جار عندنا بالاندلس وبلاد المغرب وليس بالديار المصرية. وهذا الحكم الذي ذكرناه مبين في التنزيل في سورة " النور " في قوله تعالى: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون " - إلى قوله - بل أولئك هم الظالمون " (1). وأسند الزهري عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له). قال ابن العربي: وهذا حديث باطل. أما قوله " فهو ظالم " فكلام صحيح. وأما قوله " فلا حق له " فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. قال ابن خويز منداد المالكي: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يحيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداؤه (2) من المدعى والمدعى عليه. الثالثة - وفيها دليل على أن شرائع من قبلنا شريعة لنا إلا ما علمنا نسخه، وأنه يجب علينا الحكم بشرائع الانبياء قبلنا، على ما يأتي بيانه. وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل (1) راجع ج‍ 12 ص 293 فيما بعد. (2) في الاصول: عداوة بين المدعى والمدعى عليه، والتصويب من ز. (*)
[ 51 ]
بما فيها لان من هي في يده غير أمين عليها وقد غيرها وبدلها، ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغير ولم يتبدل جاز لنا قراءته. ونحو ذلك روي عن عمر حيث قال لكعب: إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها. وكان عليه السلام عالما بما لم يغير منها فلذلك دعاهم إليها وإلى الحكم بها. وسيأتي بيان هذا في " المائدة " (1) والاخبار الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن هذه الاية نزلت في ذلك. والله أعلم. قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما مدودت وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) إشارة إلى التولي والاعراض، واغترار منهم في قولهم: " نحن أبناء الله وأحباؤه " (2) إلى غير ذلك من أقوالهم. وقد مضى الكلام في معنى قولهم: " لن تمسنا النار " في البقرة. (3) قوله تعالى: فكيف إذا جمعنهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم (4) وقبيح أعمالهم. واللام في قوله " ليوم " بمعنى " في "، قاله الكسائي، وقال البصريون: المعنى لحساب يوم، الطبري: لما يحدث في يوم. قوله تعالى: قل اللهم ملك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزل الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير (26) (1) راجع ج‍ 6 ص 212. (2) راجع ج‍ 6 ص 120. (3) راجع ج 2 ص 10. (4) في د: اجترمهم. (*)
[ 52 ]
قال علي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا دار الذنوب وإلى من يعصيك فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا يقرأكن عبد عقب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعدته من كل عدو ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت). وقال معاذ بن جبل: احتبست عن النبي صلى الله عليه وسلم يوما فلم أصل معه الجمعة فقال: (يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة) ؟ قلت: يا رسول الله، كان ليوحنا بن باريا اليهودي على أوقية من تبر وكان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك. قال: (أتحب يا معاذ أن يقضى الله دينك) ؟ قلت نعم. قال: (قل كل يوم قل اللهم مالك الملك - إلى قوله - بغير حساب رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك مل ء الارض ذهبا لاداه الله عنك). خرجه أبو نعيم الحافظ، أيضا عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن - أو كلمات - ما في الارض مسلم يدعو بهن وهو مكروب أو غارم أو ذو دين إلا قضى الله عنه وفرج همه، احتبست عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره. غريب من حديث عطاء أرسله عن معاذ. وقال ابن عباس وأنس بن مالك: لما. افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات ! من أين لمحمد ملك فارس والروم ! هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الاوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شئ منها. قال ابن إسحاق: أعلم الله عزوجل في هذه الاية بعنادهم وكفرهم، وإن عيسى صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى
[ 53 ]
أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عزوجل هو المنفرد بهذه الاشياء، من قوله: " تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ". وقوله: " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب " فلو كان عيسى إلها كان هذا إليه، فكان في ذلك اعتبار وآية بينة (1). قوله تعالى: " قل اللهم " اختلف النحويون في تركيب لفظة " اللهم " بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى، وقد جاءت مخففة الميم في قول الاعشى: كدعوة من أبي رباح * * يسمعها اللهم (2) الكبار قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: إن أصل اللهم يا ألله، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو " يا " جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاءوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والالف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد. وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الاصل في اللهم يا الله أمنا بخير، فحذف وخلط الكلمتين، وإن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة. قال النحاس: هذا عند البصريين من الخطإ العظيم، والقول في هذا ما قال الخليل وسيبويه. قال الزجاج: محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد، وأن يجعل في اسم الله ضمه أم، هذا إلحاد في اسم الله تعالى. قال ابن عطية: وهذا غلو من الزجاج، وزعم أنه ما سمع قط يا ألله أم، ولا تقول العرب يا اللهم. وقال الكوفيون: إنه قد يدخل حرف النداء على " اللهم " وأنشدوا على ذلك قول الراجز: * غفرت أو عذبت يا اللهما * أخر: وما عليك أن تقولي كلما * سبحت أو هللت يا اللهم ما (3) اردد علينا شيخنا مسلما * * فإننا من خيره لن نعد ما (1) في ب ود: اعتبارا به بينة. (2) هكذا نسخ الاصل ومعانى القرآن للفراء، وفى اللسان: لاهم الكبار، بتخفيف الميم. (3) في اللسان: يا أللهما، وما في الاصول ومعانى القرآن ج‍ 1 ص 203 والخزانة ج 1 ص 358 هو ما أثبتناه. (*)
[ 54 ]
آخر: إني إذا ما حدث ألما * * أقول يا اللهم يا اللهما قالوا: فلو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: وهذا شاذ ولا يعرف قائله، ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب، وقد ورد مثله في قوله (1): هما نفثا في في من فمويهما * * ما على النابح العاوى أشد رجام قال الكوفيون: وإنما تزاد الميم مخففة في فم وابنم، وأما ميم مشددة فلا تزاد. وقال بعض النحويين: ما قاله الكوفيون خطأ، لانه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال: " اللهم " ويقتصر عليه لانه معه دعاء. وأيضا فقد تقول: أنت اللهم الرزاق. فلو كان كما ادعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر. قال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها. وقال الحسن: اللهم تجمع الدعاء. قوله تعالى: (مالك الملك) قال قتادة: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عزوجل أن يعطي أمته ملك فارس فأنزل الله هذه الاية. وقال مقاتل: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء. وقد تقدم معناه. و " مالك " منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان، ومثله قوله تعالى: " قل اللهم فاطر السموات والارض " (2) ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لانه قد ضمت إليه الميم. وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري (3) الزجاج فقالا: " مالك " في الاعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك " فاطر السموات والارض ". قال أبو علي، هو مذهب (1) القائل هو الفرزدق. وصف شاعرين من قومه نزع في الشعر إليها. وأراد بالنابح العاوى من هجاه، وجعل الهجاء كالمراجمة لجعله المهاجى كالكلب النابح، والرجام المراجمة. كذا عن شرح الشواهد. والرجام الحجارة. (2) راجع ج‍ 15 ص 265. (3) في الاصول، والزجاج بالواو وليس بشئ. لان الزجاج هو إبراهيم بن السرى بن سهل أبو إسحاق الزجاج. (*)
[ 55 ]
أبي العباس المبرد، وما قاله سيبويه أصوب وأبين، وذلك أنه ليس في الاسماء الموصوفة شئ على حد " اللهم " لانه اسم مفرد ضم إليه صوت، والاصوات لا توصف، نحو غاق وما أشبهه. وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع. فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت، نحو حيهل فلم يوصف. و " الملك " هنا النبوة، عن مجاهد. وقيل، الغلبة. وقيل: المال والعبيد. الزجاج: المعنى مالك العباد وما ملكوا. وقيل: المعنى مالك الدنيا والاخرة. ومعنى (تؤتى الملك) أي (1) أي الايمان والاسلام. (من تشاء) أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولابد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه: ألا هل لهذا الدهر من متعلل * * على الناس مهما شاء بالناس يفعل (2) قال الزجاج: مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل. وقوله: (تعز من تشاء) يقال: عز إذا علا وقهر وغلب، ومنه، " وعزني في الخطاب " (3). (وتذل من تشاء) ذل يذل ذلا [ إذا غلب وعلا وقهر (4) ]. قال طرفة: بطئ عن الجلى سريع إلى الخنا * * ذليل بأجماع الرجال ملهد (5) (بيدك الخير) أي بيدك الخير والشر فحذف، كما قال: " سرابيل تقيكم الحر " (6). وقيل: خص الخير لانه موضع دعاء ورغبة في فضله. قال النقاش: بيدك الخير، أي النصر والغنيمة. وقال أهل الاشارات. كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس (7) يوم بدر، والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الايمان، " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت (1) في ز: توتى الايمان. (2) البيت للاسود بن يعفر النهشلي. يقول: إن هذا الدهر يذهب ببهجة الانسان وشبابه، ويتعلل في فعله ذلك تعلل المتجنى على غيره (عن شرح الشواهد). (3) راجع ج‍ 15 ص 174. (4) من ب ود. (5) الجلى: الامر العظيم الذى يدعى له ذوو الرأى. والخنا: الفساد والفحش في المنطق. والذليل: المقصور، وهو ضد العزيز وأجماع. جمع جمع، وهو ظهر الكف إذا جمعت أصابعك. وضممتها. والملهد: المضروب، وهو المدفع. (عن شرح المعلقات). (6) راجع ج‍ 10 ص 160. (7) الرس: البئر المطوية بالحجارة (*)
[ 56 ]
إلى القليب: يا عتبة، يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء. أي (1) صهيب، أي بلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من (2) الدنيا ببغضكم. بيدك الخير ما منعكم من عجز " إنك على كل شئ قدير " إنعام الحق عام يتولى من يشاء. قوله تعالى: تولج اليل في النهار وتولج النهار في اليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء بغير حساب (27) قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدى في معنى قوله " تولج الليل في النهار " الاية، أي تدخل ما نقص من أحدهما في الاخر، حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات وهو أقصر ما يكون. وكذا (تولج النهار في الليل) وهو قول الكلبى، وروي عن ابن مسعود. وتحتمل ألفاظ الاية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار، كأن زوال أحدهما ولوج في الاخر. واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: (وتخرج الحي من الميت) فقال الحسن: معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وروى نحوه عن سلمان الفارسي. وروى معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة قال: (من هذه) ؟ قلن إحدى خالاتك. قال: (ومن هي) ؟ قلن: هي خالدة بنت الاسود بن عبد يغوث. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الذي يخرج الحي من الميت). وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا. فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن، فالموت والحياة مستعاران. (3) وذهب كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الاية حقيقتان، فقال كرمة: هي إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية. وقال ابن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة. وقال عكرمة والسدي: هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة، والنواة من النخلة والنخلة (1) في ز: صهبيا وبلالا. (2) في ز: صنعناكم الدنيا، وفى د: إنما منعناكم. (3). في د، ب: يستعاران. (*)
[ 57 ]
تخرج من النواة، والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه. قال: (وترزق من تشاء بغير حساب) أي بغير تضييق ولا تقتير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، كأنه لا يحسب ما يعطي. قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكفرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقمة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28). فيه مسألتان: الاولى - قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء، ومثله " لا تتخذوا بطانة من (1) دونكم " وهناك يأتي بيان هذا المعنى. (فليس من الله في شئ) أي فليس من حزب الله ولا من أوليائه في شئ، مثل " واسأل القرية " (2). وحكى سيبويه " هو مني فرسخين " أي من أصحابي ومعي. ثم استثنى وهى: الثانية - فقال: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدة الاسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الاسلام أن يتقوا من عدوهم. قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالايمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثما. وقال الحسن: التقية جائزة للانسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل. وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك: " إلا أن تتقوا منهم تقية " وقيل: إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم (3) باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالايمان والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الايذا العظيم. ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب (4) إلى التلفظ بكلمة الكفر، بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في " النحل " (5) إن شاء الله تعالى. وأمال حمزة والكسائي " تقاة "، وفخم الباقون، وأصل " تقاة " وقية على وزن فعلة، مثل (1) راجع ص 178 من هذا الجز. (2) راجع ج‍ 8 ص 246. (3) في ز: أن يداهنهم. (4) في ب وز: ولا يجب التلفظ. (5) راجع ج‍ 10 ص 180. (*)
[ 58 ]
تؤدة وتهمة، قلبت الواو تاء والياء ألفا. وروى الضحاك ابن عباس أن هذه الاية نزلت في عبادة بن الصامت الانصاري وكان بدريا تقيا وكان له حلف من اليهود، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو. فأنزل الله تعالى: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " الاية. وقيل: إنها نزلت في عمار بن ياسر حين تكلم ببعض ما أراد منه المشركون، على ما يأتي بيانه في [ النحل ]. قوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) قال الزجاج: أي ويحذركم الله إياه. ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل، قال تعالى: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " (1) فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك. وقال غيره: المعنى ويحذركم الله عقابه، مثل " واسأل القرية ". وقال: " تعلم ما في نفسي " أي مغيبي، فجعلت النفس في موضع الاضمار لانه فيها يكون. (وإلى الله المصير) أي وإلى جزاء الله المصير. وفيه إقرار بالبعث. قوله تعالى: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموت وما في الارض والله على كل شئ قدير (29). فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه، وبما في السموات والارض وما احتوت عليه، علام الغيوب لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يغيب عنه شئ، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة. قوله تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد (30). (1) راجع ج‍ 6 ص 376. (*)
[ 59 ]
" يوم " منصوب متصل بقوله: " ويحذركم الله نفسه. يوم تجد ". وقيل: هو متصل بقوله: " وإلى الله المصير. يوم تجد ". وقيل: هو متصل بقوله: " والله على كل شئ قدير. يوم تجد " ويجوز أن يكون منقطعا على إضمار اذكر، ومثله قوله: " إن الله عزيز ذو انتقام. يوم تبدل الارض " (1) [ إبراهيم: 47، 48 ] و " محضرا " حال من الضمير المحذوف من صلة " ما " تقديره يوم تجد كل نفس، ما عملته من خير محضرا. هذا على أن يكون " تجد " من وجدان الضالة. و " ما " من قوله " وما عملت من سوء " عطف على " ما " الاولى. و " تود " في موضع الحال من " ما " الثانية. وإن جعلت " تجد " بمعنى تعلم كان " محضرا " المفعول الثاني، وكذلك تكون " تود " في موضع المفعول الثاني، تقديره يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا. ويجوز أن تكون " ما " الثانية رفعا بالابتداء، و " تود " في موضع رفع على أنه خبر الابتداء، ولا يصح أن تكون " ما " بمعنى الجزاء، لان " تود " مرفوع، ولو كان ماضيا لجاز أن يكون جزاء، وكان يكون معنى الكلام: وما عملت من سوء ودت لو أن (2) بينها وبينه أمدا بعيدا، أي كما بين المشرق والمغرب. ولا يكون المستقبل إذا جعلت " ما " للشرط إلا مجزوما، إلا أن تحمله على تقدير حذف الفاء، على تقدير: وما عملت من سوء فهي تود. أبو علي: هو قياس قول الفراء عندي، لانه قال في قوله تعالى: " وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " (3) [ الانعام: 121 ]: إنه على حذف الفاء. والامد: الغاية، وجمعه آماد. ويقال: استولى على الامد، أي غلب سابقا. قال النابغة: إلا لمثلك أو من أنت سابقه * * سبق الجواد إذا استولى على الامد والامد: الغضب. يقال: أمد أمدا، إذا غضب [ غضبا ] (4). قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31). الحب: المحبة، وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب، مثل الخدن والخدين، يقال أحبه فهو محب، وحبه يحبه (بالكسر) فهو محبوب. قال الجوهري: وهذا شاد، لانه (1) راجع ج‍ 9 ص 382. (2) في د: لو كان. (3) راجع ج‍ 7 ص 77. (4) الزيادة من دوفى ب: أي غضب. (*)
[ 60 ]
لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر. قال أبو الفتح: والاصل فيه حبب كظرف، فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية. قال ابن الدهان سعيد: في حب لغتان: حب وأحب، وأصل " حب " في هذا البناء حبب كظرف، يدل على ذلك قولهم: حببت، وأكثر ما ورد فعيل من فعل. قال أبو الفتح: والدلالة على أحب قوله تعالى: " يحبهم ويحبونه " [ المائدة: 54 ] بضم الياء. و " اتبعوني يحببكم الله " [ آل عمران: 31 ] و " حب " يرد على فعل لقولهم حبيب. وعلى فعل كقولهم محبوب: ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي، فلا يقال: أنا حاب. ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا، كقوله: * مني بمنزلة المحب المكرم * (1) وحكى أبو زيد: حببته أحبه. وأنشد: فو الله لولا تمره ما حببته * ولا كان أدنى من عويف وهاشم وأنشد: لعمرك إنني وطلاب مصر * لكالمزداد مما حب بعدا وحكى الاصمعي فتح حرف المضارعة مع الباء وحدها. والحب الخابية، فارسي معرب، والجمع حباب وحببة، حكاه الجوهري. والاية نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حب لله عزوجل، قاله محمد بن جعفر بن الزبير. وقال الحسن وابن جريج: نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن الذين نحب ربنا. وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا فأنزل الله عزوجل: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ". قال ابن عرفة: المحبة عند العرب إرادة (2) الشئ على قصد له. وقال الازهري: محبة العبد لله ورسول طاعته لهما واتباعه أمرهما، قال الله تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ". ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: " إن الله لا يحب الكافرين " [ آل عمران: 32 ] أي لا يغفر لهم. وقال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب (1) هذا عجز بيت لعنترة في معلقته وصدر: * ولقد نزلت فلا تظنى غيره *. (2) في ب ود: إرادتها. (*)
[ 61 ]
القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الاخرة، وعلامة حب الاخرة أن يجب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة. وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " قال: (على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس) خرجه أبو عبد الله الترمذي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الامانة وألا يؤذي جاره). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يجب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الارض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه - قال - فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الارض). وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر سورة " مريم " (1) إن شاء الله تعالى. وقرأ أبو رجاء العطاردي (فاتبعوني) (2) بفتح الباء، (ويغفر لكم) عطف على " يحببكم ". وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من " يغفر " في اللام من " لكم ". قال النحاس: لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا، ولعله كان يخفى الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة. قوله تعالى: قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكفرين (32). قوله تعالى: (قل أطيعوا الله والرسول) يأتي بيانه في " النساء " (3). " فإن تولوا " شرط، إلا أنه ماض لا يعرب. والتقدير فإن تولوا على كفرهم واعرضوا عن طاعة الله ورسوله (فإن الله لا يحب الكافرين) أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم كما تقدم. (1) راجع ج‍ 11. ص 160. (2) كذا في الاصول، راجع البحر ج‍ 3 ص 431، في الشواذ ص 20: يحببكم بفتح الياء. (3) راجع ج‍ 5 ص 258. (*)
[ 62 ]
وقال " فإن الله " ولم يقل " فإنه " لان العرب إذا عظمت الشئ أعادت ذكره، وأنشد سيبويه: * لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغني والفقيرا (1) قوله تعالى: إن الله اصطفئ ادم ونوحا وءال إبرهيم وءال عمرن على العلمين (33). قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا) اصطفى اختار، وقد تقدم في البقرة (2). وتقدم فيها اشتقاق آدم (3) وكنيته، والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الاسلام، فحذف المضاف. وقال الزجاج: اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم. " ونوحا " قيل إنه مشتق من ناح ينوح، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لانه على ثلاثة أحرف، وهو شيخ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الارض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والاخوات والعمات والخالات وسائر القرابات، ومن قال: إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم على ما يأتي بيانه في " الاعراف " (4) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) تقدم في البقرة معنى الال وعلى ما يطلق مستوفى (5). وفي البخاري عن ابن عباس قال: آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله تعالى: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " [ آل عمران: 68 ] وقيل: آل إبراهيم إسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم. وقيل: آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران، ومنه قوله تعالى: " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " [ البقرة: 248 ] (6). وفي الحديث: (لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود)، وقال الشاعر: (1) البيت لسوادة بن عدى. وقيل: لامية بن أبى الصلت. (عن شرح الشواهد). (2) راجع ج‍ 2 ص 133. (3) راجع ج‍ 1 ص 279. (4) راجع ج‍ 7 ص 232. (5) راجع ج‍ 1 ص 381. (6) راجع ج‍ 3 ص 247. (*)
[ 63 ]
ولا تبك (1) ميتا بعد ميت أحبه * علي وعباس وآل أبي بكر وقال آخر: يلاقي من تذكر آل ليلى * كما يلقى السليم من العداد (2) أراد من تذكر ليلى نفسها. وقيل: آل عمران آل إبراهيم، كما قال: " ذرية بعضها من بعض " [ آل عمران: 34 ]. وقيل: المراد عيسى، لان أمه ابنة عمران. وقيل: نفسه كما ذكرنا. قال مقاتل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوى بن يعقوب وقال الكلبي: هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان عليه السلام. وحكى السهيلي: عمران ابن ماتان، وامرأته حنة (بالنون). وخص هؤلاء بالذكر من بين الانبياء لان الانبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم. ولم ينصرف عمران لان في آخره ألفا ونونا زائدتين. ومعنى قوله: " على العالمين " أي على عالمي زمانهم، في قول أهل التفسير. وقال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: جميع الخلق كلهم. وقيل " على العالمين ": على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق، فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت (3) مرتبته الاصطفاء لانه حبيب ورحمة. قال الله تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " [ الانبياء: 107 ] (4) فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور. وسائر الانبياء لم يحلوا هذا المحل، ولذلك قال عليه السلام: (أنا رحمة مهداة) يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله. وقوله (مهداة) أي هدية من الله للخلق. ويقال: اختار آدم بخمسة أشياء: أولها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته، والثاني أنه علمه الاسماء كلها، والثالث أمر الملائكة بان يسجدوا له، والرابع أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر. واختار نوحا بخمسة (1) في الاصول: " ولا تنس " والتصويب من تفسير ابن عطية، والبيت لاراكة بن عبد الله الثقفى في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم. أي أحبه على وعباس وأبو بكر، ويريد جميع المؤمنين (ابن عطية) والذين يروى: أجنه: أي ستره في التراب. (2) العداد: اهتياج وجع اللديغ، وذلك إذا تمت له سنة مذ يوم لدغ هاج به الالم. وقيل: عداد السليم أن تعد له سبعة أيام فإن مضت رجوا له البرء، وما لم تمض قيل: هو في عداده. (3) في ب ود: حازت. (4) راجع ج‍ 11 ص 350. (*)
[ 64 ]
أشياء: أولها أنه جعله أبا البشر، لان الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني أنه أطال عمره، ويقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين، والرابع أنه حمله على السفينة، والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات. واختار إبراهيم بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أبا الانبياء، لانه روى أنه خرج من صلبه ألف (1) نبي من زمانه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه اتخذه خليلا، والثالث أنه أنجاه من النار، والرابع أنه جعله إماما للناس، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن. ثم قال: " وآل عمران " فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى وذلك لم يكن لاحد من الانبياء في العالم. وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لاحد في العالم. والله أعلم. قوله تعالى: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34). تقدم في البقرة معنى الذرية واشتقاقها (2). وهي نصب على الحال، قال الاخفش. أي في حال كون بعضهم من بعض، أي ذرية بعضها من ولد بعض. الكوفيون: على القطع. الزجاج: بدل، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض، ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين، كما قال: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض " [ التوبة: 67 ] (3) يعني في الضلالة، قال الحسن وقتادة. وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. وقيل: المراد به التناسل، وهذا أضعفها. قوله تعالى: إذ قالت امرأت عمرن رب إنى نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل منى إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطن الرجيم (36) (1) في هذا نظر لان الانبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا كما ورد في الخبز، أكثرهم من ذريته عليه السلام. (2) راجع ج‍ 2 ص 107. (3) راجع ج 8 ص 199. (*)
[ 65 ]
فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران) قال أبو عبيدة: " إذ " زائدة. وقال محمد بن يزيد: التقدير أذكر إذ. وقال الزجاج: المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران. وهي حنة (بالحاء المهملة والنون) بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة. وفي العربية أبو حنة البدري، ويقال فيه: أبو حبة (بالباء بواحدة) وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشام، ودير آخر (1) أيضا يقال له كذلك، قال أبو نواس: يا دير حنة من ذات الاكيراح (2) * من يصح عنك فإني لست بالصاحي وحبة في العرب كثير، منهم أبو حبة الانصاري، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة (3) حبة، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة (4) إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي، وهي أم (5) محمد بن نصر، ولا يعرف جنة (بالجيم) إلا أبو جنة، وهو خال ذي الرمة الشاعر. كل هذا من كتاب ابن ماكولا. الثانية - قوله تعالى: (رب إنى نذرت لك ما في بطني محررا) تقدم معنى النذر (6)، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه. ويقال: إنها لما حملت قالت: لئن نجاني الله ووضعت (1) هو " دير حنة " بالحيرة من بناء نوح (راجع مسالك الابصار ج‍ 1 ص 312 طبعة دار الكتب المصرية). (2) الاكيراح (بالضم ثم الفتح وياء ساكنة وراء وألف وحاء): مواضع تخرج إليها النصارى في أعيادهم. (عن القاموس). وفى مسالك الابصار: (أنها قباب صغار يسكنها رهيان يقال الواحد منها الكرح). (3) هي سبيعة بنت الحارث الاسلمية، كانت زوجة لسعد بن خولة فمات عنها بمكة فقال لها أبو السنابل حبة: إن أحلك أربعة أشهر وعشر، وقد كانت وضعت بعد وفاة زوجها بليال، قيل خمس وعشرون ليلة، وقيل أقل من ذلك، فلما قال لها أبو السنابل ذلك أتت ألى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال لها: (قد حللت فانكحى من شئت). روى عنها فقهاء أهل المدينة وفقهاء أهل الكوفة من التابعين حديثها هذا. وذكر ابن سعد أن أبا السنابل بن بعكك قد كان فيمن خطيها. وذكر ابن البرقى أنه تزوجها وأولدها ابنه سينابل. (راجع الاستيعاب وتهذيب التهذيب وابن سعد). (4) وفى المشتبه للذهبي: بالخاء المعجمة ونون. (5) الذى في المشتبه: " زوجة محمد ". (6) راجع ج 3 ص 330. (*)
[ 66 ]
ما في بطني لجعلته محررا. ومعنى " لك " أي لعبادتك. " محررا " نصب على الحال وقيل: نعت لمفعول محذوف، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا، والاول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والاعراب: أما الاعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع، ويجوز على المجاز في أخرى، وأما التفسير فقيل إن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وأنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك، ودعت ربها أن يهب لها ولدا، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها (1) محررا: أي عتيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى. وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم. فلما وضعت مريم قالت: " رب إني وضعتها أنثى " يعني أن الانثى لا تصلح لخدمة الكنيسة. قيل لما يصيبها من الحيض والاذى. وقيل: لا تصلح لمخالطة الرجال. وكانت ترجو أن يكون ذكرا (2) فلذلك حررت. الثالثة - قال ابن العربي: " لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله، فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك، وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له، وكذلك المرأة مثله، فأى وجه للنذر فيه ؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريد ولده للانس به والاستنصار والتسلى، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه، فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الانس به متروك فيه، وهو على خدمة الله تعالى موقوف، وهذا نذر الاحرار من الابرار. وأرادت به محررا من جهتي، محررا من رق الدنيا وأشغالها، وقد قال رجل من الصوفية لامه: يا أمه: ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت نعم. فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت من ؟ فقال لها: ابنك فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك. الرابعة - قوله تعالى: (محررا) مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية، من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد. وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد: (1) في ب: ما ولدته. (2) في ب ود: غلاما. (*)
[ 67 ]
أن المحرر الخالص لله عزوجل لا يشوبه شئ من أمر الدنيا. وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص: حر، ومحرر بمعناه، قال ذو الرمة: والقرط في حرة الذفرى معلقه * تباعد الحبل منه فهو يضطرب (1) وطين حر لا رمل فيه، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة، فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء. الخامسة - قوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى) قال ابن عباس: إنما قالت هذا لانه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم. " وأنثى " حال، وإن شئت بدل. فقيل: إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها، رواه أشهب عن مالك: وقيل: لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد، فوفت بنذرها وتبرأت منها. ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الاسلام، ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت. الحديث. السادسة - قوله تعالى: (والله أعلم بما وضعت) هو على قراءة من قرأ " وضعت " بضم التاء من جملة كلامها، فالكلام متصل. وهى قراءة أبي بكر وابن عامر، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له [ أن يخفى (2) عليه شئ ]، ولم تقله على طريق الاخبار لان علم الله في كل شئ قد تقرر في نفس المؤمن، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عزوجل قدم، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " [ آل عمران: 36 ] والله أعلم بما وضعت، قال المهدوي. وقال مكي: هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال: والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله. ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام: وأنت أعلم بما وضعت، لانها نادته في أول الكلام في قولها: رب إني وضعتها أنثى. وروي عن ابن عباس " بما وضعت " بكسر التاء، أي قيل لها هذا. (1) الذفر يان: ما بين يمين العنق ويساره، وتباعد الحبل منه، أي تباعد حبل العنق من القرط لانها طويلة العنق ليست بوقصاء، ومعلقة، أي مكان تعليقه. (2) الزيادة من ب ود. (*)
[ 68 ]
السابعة - قوله تعالى: (وليس الذكر كالانثى) استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطئ لا تساويه في وجوب الكفارة عليها، ابن العربي، وهذه منه غفلة، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها (1) على خلاف ما قصدته فيها. ولم ينصرف " مريم " لانه مؤنث معرفة، وهو أيضا أعجمي، قال النحاس. والله تعالى أعلم. الثامنة - قوله تعالى: (وإنى سميتها مريم) يعنى خادم الرب في لغتهم. (وإنى أعيذها بك) يعني مريم. (وذريتها) يعني عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة [ الشيطان ] (2) إلا ابن مريم وأمه) ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: " وإني أعيدها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ". قال علماؤنا: فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الانبياء والاولياء إلا مريم وابنها. قال قتادة: كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شئ، قال علماؤنا: وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للانبياء والاولياء بأنواع الافساد والاغواء ومع ذلك فعصمهم (3) الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [ الحجر: 42 ] (4). هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمريم وابنها وإن عصبما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لهما ومقارنته. والله أعلم. (1) في ب: له، وفى ز: من وجود مالها. (2) زيادة من صحيح مسلم. (3) كذا في ب ود بالفاء. (4) راجع ج‍ 10 ص 28. (8)
[ 69 ]
قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يمريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (37) هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38). قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن) المعنى: سلك بها طريق السعداء، عن ابن عباس. وقال قوم: معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها. وقال الحسن: معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار. (وأنبتها نباتا حسنا) يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد. والقبول والنبات مصدران على غير المصدر، والاصل تقبلا وإنباتا. قال الشاعر: أكفرا بعد رد الموت عنى * وبعد عطائك المائة الرتاعا أراد بعد إعطائك، لكن لما قال " أنبتها " دل على نبت، كما قال امرؤ القيس: فصرنا إلى الحسنى ورق كلا منا * ورضيت فذلت صعبة أي إذلال وإنما مصدر ذلت ذل، ولكنه رده على معنى أذللت، وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب. فمعنى تقبل وقبل واحد، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن. ونظيره قول رؤبة: * وقد تطويت انطواء الحضب (1) * [ الافعى ] (2) لان معنى تطويت وانطويت واحد، ومثله قول القطامي: وخير الامر ما استقبلت منه * وليس بأن تتبعه اتباعا لان تتبعت واتبعت واحد. وفي قراءة ابن مسعود " وأنزل الملائكة تنزيلا " (3) لان معنى نزل وأنزل واحد. وقال المفضل: معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا. ومراعاة المعنى أولى (1) الحضب (بفتح الحاء وكسرها وسكون الضاد). (2) الزيادة في نسخ: ج، ب، د. (3) راجع ج 13 ص 24. (*)
[ 70 ]
كما ذكرنا. والاصل في القبول الضم، لانه مصدر مثل الدخول والخروج، والفتح جاء في حروف قليلة، مثل الولوع والوزوع، هذه الثلاثة لا غير، قال أبو عمرو الكسائي والائمة. وأجاز الزجاج " بقبول " بضم القاف على الاصل. قوله تعالى (وكفلها زكريا) أي صمها إليه. أبو عبيدة: ضمن القيام بها. وقرأ الكوفيون " وكفلها " بالتشديد، فهو يتعدى إلى مفعولين، والتقدير وكفلها ربها زكريا، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له. وفي مصحف أبي " وكفلها " والهمزة كالتشديد في التعدي، وأيضا فإن قبله " فتقبلها "، وأنبتها " فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها، فجاء " كفلها " بالتشديد على ذلك. وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا. فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها، بدلالة قوله: " أيهم يكفل مريم " [ آل عمران: 44 ]. قال مكي: وهو الاختيار، لان التشديد يرجع إلى التخفيف، لان الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله، ولان زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته، فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان. وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني " وكفلها " بكسر الفاء. قال الاخفش: يقال كفل يكفل وكفل يكفل ولم اسمع كفل، وقد ذكرت. وقرأ مجاهد " فتقبلها " بإسكان اللام على المسألة والطلب. " ربها " بالنصب نداء مضاف. " وأنبتها " بإسكان التاء " وكفلها " بإسكان اللام " زكرياء " بالمد والنصب. وقرأ حفص وحمزة والكسائي " زكريا " بغير مد ولا همز، ومده الباقون وهمزوه. وقال الفراء: أهل الحجاز يمدون " زكرياء " ويقصرونه، وأهل نجد يحذفون منه الالف ويصرفونه فيقولون: زكرى. قال الاخفش: فيه أربع لغات: المد والقصر، وزكري بتشديد الياء والصرف، وزكر ورأيت زكريا. قال أبو حاتم: زكري بلا صرف لانه أعجمي وهذا غلط، لان ما كان فيه " يا " مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لان فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف.
[ 71 ]
قوله تعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) إلى قوله: (إنك سميع الدعاء). فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب) المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس. وسيأتي له مزيد بيان في سورة " مريم " (1). وجاء في الخبر: إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. قال وضاح اليمن: (2) ربة محراب إذا جئتها * لم ألقها حتى ارتقى سلما أي ربة غرفة. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران: ويحك ! ما صنعت ؟ أرأيت إن كانت أنثى ؟ فاغتما لذلك جميعا. فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الاحبار بالاقلام التي يكتبون بها الوحي، على ما يأتي. فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي. قال مقاتل: كانت أختها امرأة زكريا. وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب. وقال بعضهم: كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض. وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال: يا مريم أنى لك هذا ؟ فقالت: هو من عند الله. فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال: إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا. ومعنى " أنى " من أين، قاله أبو عبيدة. قال النحاس: وهذا (1) راجع ج‍ 11 ص 84. (2) في الاصول: " قال عدى بن زيد " والتصويب عن الاغانى ولسان العرب وشرح القاموس. وهذا البيت من قصيدة لوضاح اليمن أولها: يا بنة الواحد جودى فما * إن تصرمينى فيما أو لما وفى د: لم أدن. مراجع ترجمته في الاغانى ج‍ 6 ص 209 - 240 طبع دار الكتب المصرية
[ 72 ]
فيه تساهل، لان " أين " سؤال عن المواضع و " أنى " سؤال عن المذاهب والجهات. والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا. وقد فرق الكميت بينهما فقال: أنى ومن أين آبك الطرب * من حيث لا صبوة ولا ريب. و " كلما " منصوب ب‍ " وجد "، أي كل دخلة. (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) قيل: هو من قول مريم، ويجوز أن يكون مستأنفا، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد. الثانية - قوله تعالى (هنالك دعا زكريا ربه) هنالك في موضع نصب، لانه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان. وقال المفضل بن سلمة: " هنالك " في الزمان و " هناك " في المكان، وقد يجعل هذا مكان هذا. (هب لى) أعطني. (من لدنك) من عندك. (ذرية طيبة) أي نسلا صالحا. والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى، وهو هنا واحد. يدل عليه قوله. " فهب لي من لدنك وليا " [ مريم: 5 ] (1) ولم يقل أولياء، وإنما أنث " طيبة " لتأنيث لفظ الذرية، كقوله: أبو ك خليفة ولدته أخرى * وأنت خليفة ذاك الكمال فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة. وروي من حديث أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا). وقد مضى في " البقرة " اشتقاق الذرية (2). (طيبة) أي صالحة مباركة. (إنك سميع الدعاء) أي قابله، ومنه (3): سمع الله لمن حمده. الثالثة - دلت هذه الاية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين، قال الله تعالى: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية " [ الرعد: 38 ] (4). وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وخرج ابن ماجة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الامم ومن كان (1) راجع ج‍ 11 ص 77. (2) راجع المسألة الناسعة عشرة ج‍ 2 ص 107. (3) في ب: ومنه قوله. (4) راجع ج‍ 9 ص 327. (*)
[ 73 ]
ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء) (1). وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه [ هو ] (2) الغبي الاخرق، قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل: " واجعل لي لسان صدق في الاخرين " [ الشعراء: 84 ] وقال: " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة (3) أعين " [ الفرقان: 74 ]. وقد ترجم البخاري على هذا " باب طلب الولد ". وقال صلى الله عليه وسلم لابي طلحة حين مات ابنه: (أعرستم الليلة) ؟ قال: نعم. قال: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما). قال فحملت. في البخاري: قال سفيان فقال رجل من الانصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن. وترجم أيضا " باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة " وساق حديث أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس أدع الله له. فقال: (اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته). وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لابي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين). خرجه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الامم). أخرجه أبو داود. والاخبار في هذا المعنى كثيرة تحت على طلب الولد وتندب إليه، لما يرجوه الانسان من نفعه في حياته وبعد موته. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث) فذكر (أو ولد صالح يدعو له). ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية. الرابعة - فإذا ثبت هذا فالواجب على الانسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا: " واجعله رب رضيا " [ مريم: 6 ] (4) وقال: " ذرية طيبة ". وقال: " هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " [ الفرقان: 74 ]. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لانس فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه). خرجه البخاري ومسلم، وحسبك. (1) الوجاء: أن ترض عروق أنثيا الفحل رضا يذهب شهوة النكاح وهو شبيه بالخصاء. أراد أن الصوم يقطع شهوة النكاح كما يقطعها الوجاء. (2) كذا في ب، ود. (3) راجع ج‍ 13 ص 112 وص 82. (4) راجع ج‍ 11 ص 81. (*)
[ 74 ]
قوله تعالى: فنادته الملئكة وهو قايم يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصلحين (39) قوله تعالى: (فنادته الملائكة) قرأ حمزة والكسائي " فناداه " بالالف على التذكير، ويميلانها لان أصلها الياء، ولانها رابعة. وبالالف قراءة ابن عباس وابن مسعود، وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان عبد الله يذكر الملائكة في [ كل ] (1) القرآن. قال أبو عبيد: نراه اختار ذلك خلافا على المشركين لانهم قالوا: الملائكة بنات الله. قال النحاس: هذا احتجاج لا يحصل منه شئ، لان العرب تقول: قالت الرجال، وقال الرجال، وكذا النساء، وكيف يحتج عليهم بالقرآن، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرآن بهذا لجاز أن يحتجوا بقوله تعالى: " وإذ قالت الملائكة " ولكن الحجة عليهم في قوله عزوجل: " أشهدوا خلقهم " [ الزخرف: 19 ] (2) أي فلم يشاهدوا، فكيف يقولون إنهم إناث فقد علم أن هذا ظن وهوى. وأما " فناداه " فهو جائز على تذكير الجمع، " ونادته " على تأنيث الجماعة. قال مكي: والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل، تقول: هي الرجال، وهي الجذوع، وهي الجمال، وقالت الاعراب. ويقوي ذلك قوله: " وإذ قالت الملائكة " وقد ذكر في موضع آخر فقال: " والملائكة باسطوا أيديهم " [ الانعام: 93 ] (3) وهذا إجماع. وقال تعالى: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " [ الرعد: 23 ] (4) فتأنيث هذا الجمع وتذكيره حسنان. وقال السدي: ناداه جبريل وحده، وكذا في قراءة ابن مسعود. وفي التنزيل " ينزل الملائكة بالروح من أمره " (5) يعني جبريل، والروح الوحي. وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل " الذين قال لهم الناس " [ آل عمران: 173 ] (6) يعني نعيم بن مسعود، على ما يأتي. وقيل: ناداه جميع الملائكة، وهو الاظهر. أي جاء النداء من قبلهم. (1) زيادة عن إعراب القرآن للنحاس. (2) راجع ج‍ 16 ص 73. (3) راجع ج‍ 7 ص 39. (4) راجع ج‍ 9 ص 312. (5) راجع ج‍ 10 ص 67. (6) راجع ص 279 من هذا الجزء. (*)
[ 75 ]
قوله تعالى: (وهو قائم يصلى في المحراب أن الله يبشرك) " وهو قائم " ابتداء وخبر " يصلي " في موضع رفع، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر. " أن الله " أي بأن الله. وقرأ حمزة والكسائي (1) " إن " أي قالت إن الله، فالنداء بمعنى القول. " يبشرك " بالتشديد قراءة أهل المدينة. وقرأ حمزة " يبشرك " مخففا، وكذلك حميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء. قال الاخفش: هي ثلاث لغات بمعنى واحد. دليل الاولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمر فهو بالتثقيل، كقوله تعالى: " فبشر عباد " [ الزمر: 17 ] (2) " فبشره بمغفرة " [ يس: 11 ] " فبشرناها بإسحاق " [ هود: 71 ] (3) " قالوا بشرناك بالحق " [ الحجر: 55 ] (4). وأما الثانية وهي قراءة عبد الله بن مسعود فهي من بشر (5) يبشر وهي لغة تهامة، ومنه قول الشاعر: بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة * أتتك من الحجاج يتلى كتابها وقال آخر: (6) وإذا رأيت الباهشين (7) إلى الندى * غبرا أكفهم بقاع ممحل فأعنهم وابشر بما بشروا به * وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل وأما الثالثة فهي من أبشر يبشرى إبشارا قال: يا أم عمرو أبشري بالبشرى * موت ذريع وجراد عظلي (8) قوله تعالى: (بيحيى) كان اسمه في الكتاب الاول حيا، وكان اسم سارة زوجة إبراهيم عليه السلام يسارة، وتفسيره بالعربية لا تلد، فلما بشرت بإسحاق قيل لها: سارة، سماها (1) كذا في الاصل وإعراب القرآن للنحاس، والذى في البحر وغرائب القرآن للنيسابوري وابن عطية: وقرأ ابن عامر وحمزة " إن الله " بكسر الهمزة، وقرأ الباقون بفتح الهمزة. (2) راجع ج‍ 15 ص 243 وص 11 وص 112. وفى أكثر الاصول: " عبادي " بالياء وهو رسم ورش في مصاحب المغرب. (3) راجع ج 9 ص 69. (4) راجع ج‍ 10 ص 35. (5) كذا في الاصول والبغوى. والذى في البحر وابن عطية: " وفى قراءة عبد الله بن مسعود يبشرك بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من أبشر، وهكذا قرأ في كل القرآن ". (6) هو عطية بن زيد، وقال ابن برى هو لعبد القيس بن خفاف البرجمى. (عن اللسان). (7) قال أب عبيد: يقال للاسان إذا نظر إلى شئ فأعجبه واشتهاه فتناوله وأسرع نحوه وفرح به: بهش إليه. (8) جراد عاظلله وعظلى: لا تبرح. في اللسان: " أراد أن يقول: يا أم عامر فلم يستقيم له البيت فقال يا أم عمرو، وأم عامر كنية الضج: ومن كلامهم للضبع: ابشرى بجراد عظلل، وكم رجال قتلى ". (*)
[ 76 ]
بذلك جبريل عليه السلام. فقالت: يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليهما السلام. فقال: (إن ذلك الحرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الانبياء اسمه حيي وسمي بيحيى). ذكره النقاش. وقال قتادة: سمي بيحيي لان الله تعالى أحياه بالايمان والنبوة. وقال بعضهم: سمي بذلك لان الله تعالى أحيا به الناس بالهدى. وقال مقاتل: اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى. وقيل: لانه أحيا به رحم أمه. (مصدقا بكلمة من الله) يعني عيسى في قول أكثر المفسرين. وسمي عيسى كلمة لانه كان بكلمة الله تعالى التي هي " كن " فكان من غير أب. وقرأ أبو السمال العدوي " بكلمة " مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ. وقيل: سمي كلمة لان الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى. وقال أبو عبيد: معنى " بكلمة من الله " بكتاب من الله. قال: والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة، كما روي أن الحويدرة (1) ذكر لحسان فقال: لعن الله كلمته، يعني قصيدته. وقيل غير هذا من الاقوال. والقول الاول أشهر وعليه من العلماء الاكثر. و " يحيى " أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر. وكانا ابني خالة، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقه. وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءت أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أني حملت ؟ فقالت لها مريم: أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها: وإني لاجد ما في بطني يسجد لما في بطنك. وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم. قال السدي: فذلك قول " مصدقا بكلمة من الله ". " ومصدقا " نصب على الحال. (وسيدا) السيد: الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله، وأصله سيود يقال: فلان أسود من (1) الحويدرة تصغير الحادرة بر هو لقب غلب عليه، واسمه قطبة بن محصن بن جرول. ويعنى حسان بن ثابت رضى الله عنه قصيدته التى مطلعها: بكرت سمية غدونا فتمتعي * وغدت غدو مفارق لم يربع. (راجع المفضليات ص 48 طبع أوروبا وكتاب الاغانى ج‍ 3 ص 270 طبع دار الكتب المصرية). (*)
[ 77 ]
فلان، أفعل من السيارة، ففيه دلالة على جواز تسمية الانسان سيدا كما يجوز أن يسمى عزيزا أو كريما. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني قريظة: (قوموا إلى سيدكم). وفي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن: (إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وكذلك كان، فإنه لما قتل علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا وكثير ممن تخلف عن أبيه وممن نكث بيعته، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خراسان، ثم سار إلى معاوية في أهل الحجاز والعراق وسار إليه معاوية في أهل الشام، فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له " مسكن " من أرض السواد بناحية الانبار كره الحسن القتال لعلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى تهلك أكثر الاخرى فيهلك السلمون، فسلم الامر إلى معاوية على شروط شرطها عليه، منها أن يكون الامر له من بعد معاوية، فالتزم كل ذلك معاوية فصدق قول عليه السلام: (إن ابني هذا سيد) ولا أسود ممن سوده الله تعالى ورسوله. قال قتادة في قوله تعالى " وسيدا " قال: في العلم والعبادة. ابن جبير والضحاك: في العلم والتقى. مجاهد: السيد الكريم. ابن زيد: الذي لا يغلبه الغضب. وقال الزجاج: السيد الذي يفوق أقرانه في كل شئ من الخير. وهذا جامع. وقال الكسائي: السيد من المعز المسن. وفي الحديث (ثني من الضأن خير من السيد المعز). قال: سواء عليه شاة عام دنت له * ليذبحها للضيف أم شاة سيد (وحصورا) أصله من الحصر وهو الحبس. حصرني الشئ وأحصرني إذا حبسني. قال ابن ميادة: وما هجر ليلى أن تكون تباعدت * عليك ولا أن أحصرتك شغول وناقة حصور: ضيقة الاحليل. والحصور الذي لا يأتي النساء كأنه محجم عنهن، كما يقال: رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرج ما يخرجه الندامى. يقال: شرب القوم فحصر عليهم فلان، أي بخل، عن أبي عمرو. قال الاخطل:
[ 78 ]
وشارب مربح بالكأس نادمني * لا بالحصور ولا فيها بسوار (1) وفي التنزيل " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " [ الاسراء: 8 ] (2) أي محبسا. والحصير الملك لانه محجوب. وقال لبيد: وقماقم (3) غلب الرقاب كأنهم * جن لدى باب الحصير قيام فيحيى عليه السلام حصور، فعول بمعنى مفعول لا يأتي النساء، كأنه ممنوع مما يكون في الرجال، عن ابن مسعود وغيره. وفعول بمعنى مفعول كثير في اللغة، من ذلك حلوب بمعنى محلوبة، قال الشاعر: فيها اثنتان وأربعون حلوبة * سودا كخافية الغراب الاسحم (4) وقال ابن مسعود أيضا وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبو الشعثاء والحسن والسدى وابن زيد: هو الذي يكف عن النساء ولا يقربهن مع القدرة. وهذا أصح [ الاقوال لو ] (5) جهين: أحدهما أنه مدح وثناء عليه، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب. الثاني أن فعولا في اللغة من صيغ الفاعلين، كما قال (6): ضروب بنصل السيف سوق سمانها * إذا عدموا زادا فإنك عاقر فالمعنى أنه يحصر نفسه عن الشهوات. ولعل هذا كان شرعه، فأما شرعنا فالنكاح، كما تقدم. وقيل: الحصور العنين الذي لا ذكر له يتأتى له به النكاح ولا ينزل، عن ابن عباس أيضا وسعيد ابن المسيب والضحاك. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى (1) سوار: معربد وثاب. وقد روى " سآر " بوزن سعار، أي أنه لا يسئر في الاناء سؤرا بل يشتفه كله. (2) راجع ج‍ 10 ص 224. (3) القماقم من الرجال: السيد الكثير الخير الواسع الفضل. والقماقم العدد الكثير. (4) البيت لعنترة العبسى في معلقته. والخوافى: أواخر ريش الجناح مما يلى الظهر. (5) كذا في د. قلت: هذا هو اللائق بالعصمة النبوية. (6) البيت لابي طالب بن عبد المطلب. مدح رجلا بالكرم فيقول: يضرب بسيفه سوق السمان من الابل للاضياف إذا عدموا الزاد ولم يظفروا بجواد لشدة الزمان وكلبه، وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت ثم تحروها. (عن شرح الشواهد). (*)
[ 79 ]
ابن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) - ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قذاة (1) من الارض فأخذها وقال: (كان ذكره [ هكذا ] (2) مثل هذه القذاة). وقيل: معناه الحابس نفسه عن معاصي الله عزوجل. " ونبيا من الصالحين " قال الزجاج: الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه، وإلى الناس حقوقهم. قوله تعالى: قال رب أنى يكون لى غلم وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشآء (40) قيل: الرب هنا جبريل، أي قال لجبريل: رب - أي يا سيدي - أنى يكون لي غلام ؟ يعني ولدا، وهذا قول الكلبي. وقال بعضهم: قوله " رب " يعني الله تعالى. " أنى " بمعنى كيف، وهو في موضع نصب على الظرف. وفي معنى هذا الاستفهام وجهان: أحدهما أنه سأل هل يكون له الولد وهو وامرأته على حاليهما أو يردان إلى حال من يلد ؟. الثاني سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أو من غيرها. وقيل: المعنى بأي منزلة استوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال، على وجه التواضع. ويروى أنه كان بين دعائه والوقت الذي بشر فيه أربعون سنة، وكان يوم بشر ابن تسعين سنة وامرأته قريبة السن منه. وقال ابن عباس والضحاك: كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، فذلك قوله " وامزأتي عاقر " أي عقيم لا تلد. يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر بينة العقر. وقد عقرت وعقر (بضم القاف فيهما) تعقر عقرا صارت عاقرا، مثل حسنت تحسن حسنا، عن أبي زيد. وعقارة أيضا. وأسماء الفاعلين من فعل فعيلة، يقال: عظمت فهي عظيمة، وظرفت فهي ظريفة. وإنما قيل عاقر لانه يراد به ذات عقر على النسب، ولو كان على الفعل لقال: عقرت فهي عقيرة كأن بها عقرا، أي كبرا من السن يمنعها من الولد. والعاقر: العظيم من الرمل لا ينبت شيئا. والعقر أيضا مهر المرأة إذا وطئت على شبهة. وبيضة العقر: زعموا هي بيضة الديك، لانه يبيض في عمره بيضة واحدة إلى الطول. وعقر النار أيضا. (1) القذاة: ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك. (2) من د. (*)
[ 80 ]
وسطها ومعظمها. وعقر الحوض: مؤخره حيث تقف الابل إذا وردت، يقال: عقر وعقر مثل عسر وعسر، والجمع الاعقار فهو لفظ مشترك. والكاف في قوله " كذلك " في موضع نصب، أي يفعل الله ما يشاء مثل ذلك. والغلام مشتق من الغلمة وهو شدة طلب النكاح. واغتلم الفحل غلمة هاج من شهوة الضراب. وقالت ليلى الاخيلية: شفاها من الداء العضال الذي بها * غلام إذا هز القناة سقاها والغلام الطار الشارب. وهو بين الغلومة والغلومية، والجمع الغلمة والغلمان. ويقال: إن الغيلم الشاب والجارية أيضا. والغيلم: ذكر السلحفاة. والغيلم: موضع. واغتلم البحر: هاج وتلاطمت أمواجه. قوله تعالى: قال رب اجعل لئ اية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والابكر (41) " جعل " هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين. و " لي " في موضع المفعول الثاني. ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية - أي علامة - يعرف بها صحة هذا الامر وكونه من عند الله تعالى، فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤال الاية بعد مشافهة الملائكة إياه، قاله أكثر المفسرين. قالوا: وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما. قال ابن زيد: إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه. الثانية - قوله تعالى: (إلا رمزا) الرمز في اللغة الايماء بالشفتين، وقد يستعمل في الايماء بالحاجبين والعينين واليدين، وأصله الحركة. وقيل: طلب، تلك الاية زيادة طمأنينة. المعنى: تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الاية زيادة نعمة وكرامة، فقيل له: " آيتك
[ 81 ]
ألا تكلم الناس ثلاثة أيام " أي تمنع من الكلام ثلاث ليال، دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشري الملائكة له. " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " [ مريم: 9 ] (1) أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد. واختار هذا القول النحاس وقال: قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه، لان الله عزوجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا، والقول فيه أن المعنى اجعل لى علامة تدل على كون الولد، إذ كان ذلك مغيبا عني. و " رمزا " نصب على الاستثناء المنقطع، قال الاخفش. وقال الكسائي: رمز يرمز ويرمز. وقرئ " إلا رمزا " بفتح الميم و " رمزا " بضمها وضم الراء، الواحدة رمزة. الثالثة - في هذه الاية دليل على أن الاشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الاشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها: (أين الله) ؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة). فأجاز الاسلام بالاشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الاشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء. وروى ابن القاسم عن مالك أن الاخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالاخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهي باطل، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل، لانه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال أبو الحسن بن بطال: وإنما حمل أبا حنيفة. على قول هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الاشارات في أحكام مختلفة في (2) الديانة. ولعل البخاري حاول بترجمته " باب الاشارة في الطلاق والامور " الرد عليه. وقال عطاء: أراد بقوله " ألا تكلم الناس " صوم ثلاثة أيام. وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا. وهذا فيه بعد. والله أعلم. الرابعة - قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة: إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام: (لا صمت يوما إلى الليل) (3). وأكثر (1) راجع ج‍ 11 ص 84. (2) في د: من الديانة. (3) وفى البحر وابن عطية " لاصمت يوم ". ورواية أبى داود " ولا صمات يوم إلى الليل " راجع الحديث في اللسان مادة صمت. (*)
[ 82 ]
العلماء على أنه ليس بمنسوخ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة (1) دخلت عليه منعته إياه، وتلك الافة (1) عدم القدرة على الكلام مع الصحة، كذلك قال المفسرون. وذهب كثير من العلماء إلى أنه (لا صمت يوما إلى الليل) إنما معناه عن ذكر الله، وأما عن الهذر وما لا فائدة فيه، فالصمت عن ذلك حسن. قوله تعالى: (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والابكار) أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه، على القول الاول. وقد مضى في البقرة (2) معنى الذكر. وقال محمد ابن كعب القرظي: لو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عزوجل " ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا " ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عزوجل: " إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا " [ الانفال: 45 ] (3). وذكره الطبري. " وسبح " أي صل، سميت الصلاة سبحة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء. و " العشي " جمع عشية. وقيل: هو واحد. وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، عن مجاهد. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي. " والابكار " من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. قوله تعالى: وإذ قالت الملئكة ؟ يمريم إن الله اصطفئك ؟ وطهرك واصطفئك على نساء العلمين (42) قوله تعالى: (إن الله اصطفاك) أي اختارك، وقد تقدم (4). (وطهرك) أي من الكفر، عن مجاهد والحسن. الزجاج: من سائر الادناس من الحيض والنفاس وغيرهما، واصطفاك لولادة عيسى (على نساء العالمين) يعني عالمي زمانها، عن الحسن وابن جريج وغيرهما. وقيل: " على نساء العالمين " أجمع إلى يوم الصور، وهو الصحيح على ما نبينه، وهو قول الزجاج وغيره. وكرر الاصطفاء لان معنى الاول الاصطفاء لعبادته، ومعنى الثاني لولادة عيسى. وروى مسلم عن أبى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل (1) في د: بآية، وتلك الآية. (2) راجع ج‍ 1 ص 331. (3) راجع ج‍ 8 ص 32. (4) راجع ج‍ 2 ص 133. (*)
[ 83 ]
من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الكمال هو التناهى والتمام، ويقال في ماضيه " كمل " بفتح الميم وضمها، ويكمل في مضارعه بالضم، وكمال كل شئ بحسبه. والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الانسان الانبياء ثم يليهم الاولياء من الصديقين والشهداء والصالحين. وإذا تقرر هذا فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيتين، وقد قيل بذلك. والصحيح أن مريم نبية، لان الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في " مريم " (1). وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها، على ما يأتي بيانه في " التحريم " (2). وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة: (خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد). ومن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون). وفي طريق آخر عنه: (سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخد يجة). فظاهر القرآن والاحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عزوجل بالتكليف والاخبار والبشارة كما بلغت سائر الانبياء، فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء: الاولين والاخرين مطلقا. ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية. وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية). وهذا حديث حسن يرفع الاشكال. وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء، وذلك أن روج القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة، فليس هذا لاحد من النساء. وصدقت بكلمات (1) راجع ج‍ 11 ص 9. (2) راجع ج‍ 18 ص 203. (*)
[ 84 ]
ربها ولم تسأل آية عندما بشرت كما سأل زكريا صلى الله عليه وسلم من الاية، ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال: " وأمه صديقة " [ المائدة: 75 ] (1). وقال: " وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " [ التحريم: 12 ] (2) فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت. وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال: أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر، فسأل آية، وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها: " كذلك قال ربك " [ مريم: 21 ] (3) فاقتصرت على ذلك، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنة هذا الامر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب !. ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة، جاء في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (لو أقسمت لبررت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران). وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالاشياء الظاهرة على الاشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقوله حيث يقول: (لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول وأول). فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لامر عظيم في الباطن. وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية. ومن قال لم تكن نبية قال: إن رؤيتها للملك كما رؤى جبريل عليه السلام في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الاسلام والايمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والاول أظهر وعليه الاكثر. والله أعلم. قوله تعالى: يمريم اقنتي لربك واسجدي واركعى مع الركعين أي أطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد. قتادة: أديمي الطاعة. وقد تقدم القول في القنوت (4). قال الاوزاعي: لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت (1) راجع ج‍ 6 ص 250. (2) راجع ج 18 ص 203. (3) راجع ج‍ 11 ص 91. (4) راجع ج‍ 2 ص 86 وج‍ 2 ص 213. (*)
[ 85 ]
قدماها وسألت دما وقيحا عليها السلام. (واسجدي واركعى) قدم السجود ها هنا على الركوع لان الواو لا توجب الترتيب، وقد تقدم الخلاف في هذا في البقرة عند قول تعالى: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " [ البقرة: 158 ] (1). فإذا قلت: قام زيد وعمرو جاز أن يكون عمرو قام قبل زيد، فعلى هذا يكون المعنى واركعي واسجدي. وقيل: كان شرعهم السجود قبل الركوع. (مع الراكعين) قيل: معناه افعلي كفعلهم وإن لم تصلي معهم. وقيل: المراد به صلاة الجماعة. وقد تقدم في البقرة (2). قوله تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحية إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلمهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب) أي الذي ذكرنا من حديث زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام من أخبار الغيب. (نوحية إليك) فيه دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك، فذلك قوله تعالى: " نوحيه إليك " فرة الكناية إلى " ذلك " فلذلك. والايحاء هنا الارسال إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والوحي يكون إلهاما وإيماء وغير ذلك. وأصله في اللغة إعلام في خفاء، ولذلك صار الالهام يسمى وحيا، ومنه " وإذ أو حيت إلى الحواريين " [ المائدة: 111 ] (3) وقوله: " وأوحى ربك إلى النحل " [ النحل: 68 ] (4) وقيل: معنى " أوحيت إلى الحواريين " أمرتهم، يقال: وحى وأوحى، ورمى وأرمى، بمعناه. قال العجاج: * أوحى لها القرار فاستقرت * أي أمر الارض بالقرار. وفي الحديث: (الوحي الوحي) وهو السرعة، والفعل منه توحيت توحيا. قال ابن فارس: الوحي الاشارة والكتابة والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك (1) راجع ج‍ 2 ص 344. (2) راجع المسألة الخامسة وما بعدها ج‍ 1 ص 344. (3) راجع ج‍ 6 ص 363. (4) راجع ج 10 ص 133. (*)
[ 86 ]
حتى يعلمه وحي كيف كان. والوحي: السريع. والوحى: الصوت، ويقال: استوحيناهم أي استصرخناهم. قال: * أوحيت ميمونا لها (1) والازراق * الثانية - قوله تعالى (وما كنت لديهم) أي وما كنت يا محمد لديهم، أي بحضرتهم وعندهم (إذ يلقون أقلامهم) جمع قلم، من قلمه إذا قطعه. قيل: قداحهم وسهامهم. وقيل: أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، وهو أجود، لان الازلام قد نهى الله عنها فقال " ذلكم فسق " [ المائدة: 3 ] (2). إلا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت عليها الجاهلية تفعلها. (أيهم يكفل مريم) أي يحضنها، فقال زكريا: أنا أحق بها، خالتها عندي. وكانت عنده أشيع بنت فاقود أخت حنة بنت فاقود أم مريم. وقال بنو إسرائيل: نحن أحق بها، بنت عالمنا. فآقترعوا عليها وجاء كل واحد بقلمه، واتفقوا أن يجعلوا الاقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجره الماء فهو حاضنها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجرت الاقلام وعال قلم زكريا). وكانت آية له، لانه نبي تجري الايات على يديه. وقيل غير هذا. و " أيهم يكفل مريم " ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام، التقدير: ينظرون أيهم يكفل مريم. ولا يعمل الفعل في لفظ " أي " لانها استفهام. الثالثة - استدل بعض علمائنا بهذه الاية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الاحاديث الواردة فيها، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الازلام التي نهى الله عنها. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال: القرعة في القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالاثار والسنة. قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الانبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنذر. واستعمال القرعة (1) في نسخة: د، لهم. (2) راجع ج‍ 6 ص 60. (*)
[ 87 ]
كالاجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها. وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات (باب القرعة في المشكلات وقول الله عزوجل " إذ يلقون أقلامهم ") وساق حديث النعمان بن بشير: (مثل القائم على حدود الله والمدهن (1) فيها مثل قوم استهموا على سفينة...) الحديث. وسيأتي في " الانفال " (2) إن شاء الله تعالى، وفي سورة " الزخرف " (3) أيضا بحول الله سبحانه، وحديث أم العلاء، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الانصار سكنى المهاجرين، الحديث، وحديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وذكر الحديث. وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فقال مرة: يقرع للحديث. وقال مرة: يسافر بأوفقهن له في السفر. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا). والاحاديث في هذا المعنى كثيرة. وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف. واحتج أبو حنيفة بأن قال: إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز. قال ابن العربي: " وهذا ضعيف، لان القرعة إنما تائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح (4)، فأما ما يخرجه التراضي [ فيه ] (5) فباب آخر، ولا يصح لاحد أن يقول: إن القرعة تجري مع موضع التراضي، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي " وإنما تكون فيما يتشاح الناس فيه ويضن به. وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها: أن تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلا ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطى عليها ثوبه ثم يدخل يده ويخرج، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه. (1) كذا في نسخ الاصل، وهو لفظ البخاري عن النعمان في " كتاب المظالم ". وروايته. في " كتاب الشهادات ": "... مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل... ". والمدهن الذى يرائى. (2) راجع ج‍ 7 ص 392. (3) راجع ج‍ 16 ص 86. (4) تشاح الخصمان: أراد كل أن يكون هو الغالب. (5) زيادة عن أحكام القرآن لابن العربي. (*)
[ 88 ]
الرابعة - ودلت الاية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة - واسمها أمة الله - لجعفر وكانت عنده خالتها، وقال: (إنما الخالة بمنزلة الام) وقد تقدمت في البقرة هذه المسألة (1). وخرج أبو داود عن علي قال: خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة فقال جعفر: أنا آخذها أنا أحق بها ابنة عمي وخالتها عندي، وإنما الخالة أم. فقال علي: أنا أحق بها ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أحق بها. وقال زيد: أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا قال: (وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم). وذكر ابن أبي خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصي حمزة، فتكون الحالة على هذا أحق من الوصي ويكون ابن العم إذا كان زوجا غير قاطع بالخالة في الحضانة وإن لم يكن محرما لها. قوله تعالى: إذ قالت الملئكة يمريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصلحين (46) دليل على نبوتها كما تقدم. " وإذ " متعلقة ب‍ " يختصمون ". ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: " وما كنت لديهم ". (بكلمة منه) وقرأ أبو السمان " بكلمة منه "، وقد تقدم. (اسمه المسيح) ولم يقل اسمها لان معنى كلمة معنى ولد. والمسيح لقب لعيسى ومعناه الصديق، قاله إبراهيم النخعي. وهو فيما يقال معرب وأصله الشين وهو مشترك. وقال ابن فارس: والمسيح العرق، والمسيح الصديق، والمسيح الدرهم الاطلس (2) لا نقش فيه والمسح الجماع، يقال مسحها (3). والامسح: المكان الاملس. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا است لها. وبفلان مسحة من جمال. والمسائح قسي جياد، واحدتها مسيحة. قال: (1) راجع ج‍ 3 ص 164. (2) كذا في بعض النسخ والمصباح، وفى اللسان: الطلس: المحو، والطلس كتاب قد محى ولم ينعم محوه، ثم قال: والاطلس الثوب الخلق. وفى ز: الدرهم الاملس لا نقش عليه. (3) الظاهر أن هنا سقطا كأن الاصل: يقال مسحها إذا جامعها. (*)
[ 89 ]
لها مسائح زور في مراكضها * لين وليس بها وهن ولا رقق (1) واختلف في المسيح ابن مريم مماذا أخذ، فقيل: لانه مسح الارض، أي ذهب فيها فلم يستكن بكن. وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، فكأنه سمي مسيحا لذلك، فهو على هذا فعيل بمعنى فاعل. وقيل: لانه ممسوح بدهن البركة، كانت الانبياء تمسح به، طيب الرائحة، فإذا مسح به علم أنه نبي. وقيل: لانه كان ممسوح الاخمصين. وقيل: لان الجمال مسحه، أي أصابه وظهر عليه. وقيل: إنما سمي بذلك لانه مسح بالطهر (2) من الذنوب. وقال أبو الهيثم: المسيح ضد المسيخ، يقال: مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا. وقال ابن الاعرابي: المسيح الصديق، والمسيخ الاعور، وبه سمي الدجال. وقال أبو عبيد: المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى. وأما الدجال فسمي مسيحا (3) لانه ممسوح إحدى العينين. وقد قيل في الدجال مسيح بكسر الميم وشد السين. وبعضهم يقول كذلك بالخاء المنقوطة. وبعضهم يقول مسيخ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف، والاول أشهر. وعليه الاكثر. سمي به لانه يسيح في الارض أي يطوفها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس، فهو فعيل بمعنى فاعل، فالدجال يمسح الارض محنة، وابن مريم يمسحها منحة. وعلى أنه ممسوح العين فعيل بمعنى مفعول. وقال الشاعر: * إن المسيح يقتل المسيخا * وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة) الحديث. ووقع في حديث عبد الله بن عمرو (إلا الكعبة وبيت المقدس) ذكره أبو جعفر الطبري. وزاد أبو جعفر الطحاوي (ومسجد الطور)، رواه من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سمرة بن جندب عن النبي (1) زور: جمع زوراء وهى المائلة. والوهن الضعف، والرقق: ضعف العظام. (2) في ز: التطهر في ب ود: التطهير. (3) في ز، د: مسيخا - بالمعجمة - وأنه ممسوخ إحدى العينين. (*)
[ 90 ]
صلى الله عليه وسلم (وأنه سيظهر على الارض كلها إلا الحرم وبيت المقدس وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس). وذكر الحديث. وفي صحيح مسلم: (فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن، مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين (1) واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان (2) كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله) (3) الحديث (4) بطوله. وقد قيل: إن المسيح اسم لعيسى غير مشتق سماه الله به. فعلى هذا يكون عيسى بدلا من المسيح من البدل الذي هو هو. وعيسى اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة، لان فيه ألف. تأنيث. ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه وقام عليه. (وجيها) أي شريفا ذا جاه وقدر، وانتصب على الحال، قاله الاخفش. (ومن المقربين) عند الله تعالى وهو معطوف على " وجيها " أي ومقربا، قاله الاخفش. وجمع وجيه وجهاء ووجهاء. (ويكلم الناس) عطف على " وجيها " قاله الاخفش أيضا. و (المهد) مضجع الصبي في رضاعه. ومهدت الامر هيأته ووطأته. وفي التنزيل " فلانفسهم يمهدون " [ الروم: 44 ] (5). وامتهد الشئ ارتفع كما يمتهد سنام البعير. (وكهلا) الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة. وامرأة كهلة. واكتهلت الروضة إذا عمها النور. يقول: يكلم الناس في المهد آية، ويكلمهم كهلا بالوحي والرسالة. وقال أبو العباس: كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال: " إني عبد الله " [ مريم: 30 ] (6) الاية. وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزل الله تعالى [ من السماء ] (7) أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم: " إني عبد الله " كما قال في المهد. فهاتان آيتان وحجتان. قال المهدوي: وفائدة الاية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا، إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش. (1) قوله: مهرودتين، أي في شقتين أو حلتين. وقيل: الثوب المهرود الذى يصبغ بالورس ثم بالزعفران. (2) الجمان (بضم الجيم وتخفيف الميم): حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار. (3) لد (بضم اللام وتشديد الدال): قرية في فلسطين قريبة من بيت المقدس. (4) راجع صحيح مسلم ج‍ 2 ص 376 طبع بولاق. (5) راجع القرطبى ج‍ 14 ص 44. (6) راجع ج‍ 11 ص 102. (7) الزيادة عن البحر لابي حيان. (*)
[ 91 ]
قال الزجاج: " وكهلا " بمعنى ويكلم الناس كهلا. وقال الفراء والاخفش: هو معطوف على " وجيها ". وقيل: المعنى ويكلم الناس صغيرا وكهلا. وروى ابن جريح عن مجاهد قال: الكهل الحليم. قال النحاس: هذا لا يعرف في اللغة، وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الاربعين. وقال بعضهم: يقال له حدث إلى ست عشرة سنة. ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين. ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين، قاله الاخفش. (ومن الصالحين) عطف على " وجيها " أي وهو من العباد الصالحين. ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن هلال بن يساف. قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج، كذا قال: " وصاحب يوسف ". وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار وبينا صبي يرضع من أمه) وذكر الحديث، بطوله (1). وقد جاء من حديث صهيب في قصة الاخدود (أن امرأة جئ بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي). في غير كتاب مسلم (يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق). وقال الضحاك: تكلم في المهد ستة: شاهد يوسف وصبي ماشطة امرأة فرعون وعيسى ويحيى وصاحب جريج وصاحب الجبار. ولم يذكر الاخدود، فأسقط صاحب لاخدود وبه يكون المتكلمون سبعة. ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السلام: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحى إليه في تلك الحال، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به. قلت: أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه، وأما صاحب جريج وصاحب الجبار وصاحب الاخدود ففي صحيح مسلم. وستأتي قصة الاخدود في سورة " البروج " (2) إن شاء الله تعالى. وأما صبي ماشطة [ امرأة ] فرعون، فذكر البيهقي عن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أسري بي سرت في رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة قالوا ماشطة (1) راجع صحيح مسلم ج‍ 2 ص 276 طبع بولاق راجع ج‍ 19. (2) راجع ج‍ 19 ص 284. (*)
[ 92 ]
ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: أبي ؟ قالت: ربي وربك ورب أبيك. قالت: أو لك رب غير أبي ؟ قالت: نعم ربي وربك ورب أببك الله - قال - فدعاها فرعون فقال: ألك رب غيري ؟ قالت: نعم ربي وربك الله - قال - فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت: إن لي إليك حاجة قال: ماهي ؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع واحد قال: ذاك لك لما لك علينا من الحق. فأمر (1) بهم فألقوا واحدا بعد واحد حتى بلغ رضيعا فيهم فقال قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنا على الحق - قال - وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم. قوله تعالى: قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) قوله تعالى: (قالت رب) أي يا سيدي. تخاطب جبريل عليه السلام، لانه لما تمثل لها قال لها: إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا. فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد فقالت: أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ أي بنكاح. [ في سورتها ] (2) " ولم أك (3) بغيا " [ مريم: 20 ] ذكرت هذا تأكيدا، لان قولها " لم يمسسني بشر " يشمل الحرام والحلال. تقول: العادة الجارية التي أجراها الله في خلقه أن الولد لا يكون إلا عن نكاح أو سفاح. وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد: أمن قبل زوج في المستقبل أم يحلقه الله ابتداء ؟ فروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها: " كذلك الله يخلق ما يشاء " قال كذلك قال ربك هو علي هين " [ مريم: 9 ]. نفخ في جيب درعها وكمها، قاله ابن جريج. قال ابن عباس: أخذ جبريل ردن (4) قميصها بأصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. وقيل غير ذلك على ما يأتي بيانه في سورتها إن شاء الله تعالى. وقال بعضهم: وقع نفخ جبريل في رحمها فعلقت (1) يبدوهنا سقط في كل الاصول، فقوله: واحدا بعدوا حد من قصة أصحاب الاخدود لاصلة له بما قبله. راجع ج‍ 19 ص 286. (2) الزيادة في نخ: ب. ود. أي في سورة مريم " ولم أك بغيا ". (3) راجع ج‍ 11 ص 91. (4) الردن (بالضم) أصل أصل الكم. (*)
[ 93 ]
بذلك. وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لانه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الانس، ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأخذ الميثاق من ذريته فجعل بعض الماء في أصلاب الاباء وبعضه في أرحام الامهات فإذا اجتمع الماءان صارا ولدا، وأن الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم بعضه في رحمها وبعضه في صلبها، فنفخ فيه جبريل لتهيج شهوتها، لان المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل، فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان فعلقت بذلك، فذلك قوله تعالى: " إذا قضى أمرا " يعني إذا أراد أن يخلق خلقا " فإنما يقول له كن فيكون ". وقد تقدم في " البقرة " القول فيه مستوفى (1). قوله تعالى: ويعلمه الكتب والحكمة والتورئة والانجيل (48) ورسولا إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم باية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرى الاكمه والابرص وأحى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين (49) قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل) قال ابن جريج: الكتاب الكتابة والخط. وقيل: هو كتاب غير التوراة والانجيل علمه الله عيسى عليه السلام. (ورسولا) أي ونجعله رسولا. أو يكلمهم رسولا. وقيل: هو معطوف على قوله " وجيها ". وقال الاخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله " ورسولا " مقحمة والرسول حالا للهاء، تقديره ويعلمه الكتاب رسولا. وفي حديث أبي ذر الطويل (وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليه السلام). (أنى أخلق لكم) أي أصور وأقدر لكم. من الطين كهيئة الطير) قرأ الاعرج وأبو جعفر " كهية " بالتشديد. الباقون بالهمز. (1) راجع ج‍ 1 ص 87. (*)
[ 94 ]
والطير يذكر ويؤنث. (فأنفخ فيه) أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائرا. وطائر وطير مثل تاجر وتجر. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى. وقيل: لم يخلق غير الخفاش لانه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لان لها ثديا وأسنانا وأذنا، وهي تحيض وتطهر وتلد. ويقال: إنما طلبوا خلق خفاش لانه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، ويضحك كما يضحك الانسان، ويحيض كما تحيض المرأة. ويقال: إن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا: أخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك، فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والارض، وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله. وقوله تعالى: (وأبرى الاكمة والابرص وأحيى الموتى بإذن الله) الاكمة: الذى يولد أعمى، عن ابن عباس. وكذا قال أبو عبيدة قال: هو الذي يولد أعمى، وأنشد لرؤبة: * فارتد ارتداد الاكمه * وقال ابن فارس: الكمه العمى يولد به الانسان وقد يعرض. قال سويد: * كمهت عيناه حتى ابيضتا مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل. عكرمة: هو الاعمش، ولكنه في اللغة العمى، يقال كمه يكمه كمها وكمهتها أنا إذا أعميتها. والبرص معروف وهو بياض يعتري الجلد، والابرص القمر، وسام أبرص معروف، ويجمع على الابارص. وخص هذان بالذكر لانهما عياءان. وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك (وأحيي الموتى بإذن الله) قيل: أحيا أربعة أنفس: العاذر: وكان صديقا له، وابن العجوز
[ 95 ]
وابنة العاشر وسام بن نوح، فالله أعلم. فأما العاذر فإنه كان قد توفى قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له، وأما ابن العجوز فإنه مر به يحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله. وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها، فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحى لنا سام بن نوح. فقال لهم: دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه. فقال له عيسى: كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب ؟ فقال: يا روح الله، إنك دعوتني فسمعت صوتا يقول: أجب روح الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هول ذلك شاب رأسي. فسأله عن النزع فقال: يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي، فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا: هذا سحر. وروي من حديث إسمعيل ابن عياش قال: حدثني محمد بن طلحة عن رجل أن عيسى ابن مريم كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الاولى: " تبارك الذي بيده الملك " [ الملك: 1 ]. وفي الثانية " تنزيل السجدة " فإذا فرغ حمد الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم يا خفي يا دائم يا فرد يا وتر يا أحد يا صمد، ذكره البيهقي وقال: ليس إسناده بالقوي (1). قوله تعالى: (وآنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لاية إن كنتم مؤمنين) أي بالذي تأكلونه وما تدخرون. وذلك أنهم لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد، فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا، فذلك قوله " وأنبئكم " الاية. وقرأ مجاهد والزهري والسختياني " وما تذخرون " بالذال المعجمة مخففا. وقال سعيد بن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان في الكتاب بما يدخرون حتى منعهم آباؤهم من الجلوس معه. قتادة: أخبرهم بما أكلوه من المائدة وما ادخروه منها خفية. (1) هذا الحديث لا يصح لان السورتين من القرآن ولا يجوز أن يكون من شئ من القرآن من الكتب السابقة. (*)
[ 96 ]
قوله تعالى: ومصدقا لما بين يدى من التورئة ولا حل لكم بعض الذى حرم عليكم وجئتكم بئاية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50) إن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صرط مستقيم (51). (ومصدقا) عطف على قوله: " ورسولا ". وقيل: المعنى وجئتكم مصدقا. (لما بين يدى) لما قبلي. (ولا حل لكم) فيه حذف، أي ولاحل لكم جئتكم. (بعض الذى حرم عليكم) يعني من الاطعمة. قيل: إنما أحل لهم عيسى عليه السلام ما حرم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة، نحو أكل الشحوم وكل ذى ظفر. وقيل: إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم الاحبار ولم تكن في التوراة محرمة عليهم. قال أبو عبيدة: يجوز أن يكون " بعض " بمعنى كل، وأنشد لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها * أو يرتبط بعض النفوس حمامها وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة، لان البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل في هذا الموضع، لان عيسى صلى الله عليه وسلم إنما أحل لهم أشياء مما حرمها عليهم موسى من أكل الشحوم وغيرها ولم يحل لهم القتل ولا السرقة ولا فاحشة. والدليل على هذا أنه (1) روي عن قتادة أنه قال: جاءهم عيسى بألين مما جاء به موسى صلى الله عليهما وعلى نبينا، لان موسى جاءهم بتحريم الابل وأشياء من الشحوم فجاءهم عيسى بتحليل بعضها. وقرأ النخعي " بعض الذي حرم عليكم " مثل كرم، أي صار حراما. وقد يوضع البعض بمعنى الكل إذا انضمت إليه قرينة تدل عليه، كما قال الشاعر: (2) أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا * حنانيك بعض الشر أهون من بعض يريد بعض الشرأهون من كله. (وجئتكم بآية من ربكم) إنما وحد وهي آيات لانها جنس واحد في الدلالة على رسالته. (1) في د: ما روى. (2) هو طرفة بن العبد، خاطب به عمرو بن هند الملك، وكنيته أبو منذر حين أمر بقتله. (3) في د: آياته. (*)
[ 97 ]
قوله تعالى: فلما أحسن عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52) قوله تعالى: (فلما أحسن عيسى منهم الكفر) أي من بني إسرائيل. وأحس معناه علم ووجد قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة: معنى " أحس " عرف، وأصل ذلك وجود الشئ بالحاسة. والاحساس: العلم بالشئ، قال الله تعالى: " هل تحس منهم من أحد " [ مريم: 98 ] (1) والحس القتل، قال الله تعالى: " إذ تحسونهم بإذنه " [ آل عمران: 152 ] (2). ومنه الحديث في الجراد (إذا حسه البرد). (منهم الكفر) أي الكفر بالله. وقيل: سمع منهم كلمة الكفر. وقال الفراء: أرادوا قتله. (قال من أنصارى إلى الله) استنصر عليهم. قال السدي والثوري وغيرهما: المعنى مع الله، فإلى بمعنى مع، كقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " [ النساء: 2 ] (3) أي مع. والله أعلم. وقال الحسن: المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله، لانه دعاهم إلى الله عزوجل. وقيل: المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله عزوجل. فإلى على هذين القولين على بابها، وهو الجيد. وطلب النصرة ليحتمي بها من قومه ويظهر الدعوة، عن الحسن ومجاهد. وهذه سنة الله في أنبيائه وأوليائه. وقد قال لوط: " لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " [ هود: 80 ] (4) أي عشيرة وأصحاب ينصرونني. " قال الحواريون نحن أنصار الله " أي أنصار نبيه ودينه. والحواريون أصحاب عيسى عليه السلام، وكانوا اثنى عشر رجلا، قاله الكلبي وأبو روق. واختلف في تسميتهم بذلك، فقال ابن عباس: سموا بذلك لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين. ابن أبي نجيح وابن أرطاة: كانوا قصارين فسموا بذلك لتبييضهم الثياب. قال عطاء: أسلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين، فأراد معلم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندي ثياب كثيرة مختلفة الالوان وقد علمتك الصبغة فاصبغها. فطبخ عيسى حبا (5) واحدا وادخله جميع الثياب وقال: كوني: بإذن الله على ما أريد منك. فقدم الحواري والثياب كلها في الحب فلما رآها قال: قد أفسدتها، (1) راجع ج‍ 11 ص 162. (2) راجع ج 4 ص 235. (3) راجع ج‍ 5 ص 10. (4) راجع ج‍ 9 ص 78. (5) الحب بالضم: الخابية. (*)
[ 98 ]
فأخرج عيسى ثوبا أحمر وأصفر وأخضر إلى غير ذلك مما كان على كل ثوب مكتوب عليه صبغة، فعجب الحواري، وعلم أن ذلك من الله ودعا الناس إليه فآمنوا به، فهم الحواريون. قتادة والضحاك: سموا بذلك لانهم كانوا خاصة الانبياء. يريدان لنقاء (1) قلوبهم. وقيل. كانوا ملوكا، وذلك أن الملك صنع طعاما فدعا الناس إليه فكان عيسى على قصعة فكانت لا تنقص، فقال الملك له: من أنت ؟ قال: عيسى ابن مريم. قال: إني أترك ملكي هذا واتبعك. فانطلق بمن اتبعه معه، فهم الحواريون، قاله ابن عون. وأصل الحور في اللغة البياض، وحورت الثياب بيضتها، والحواري من الطعام ما حور، أي بيض، واحور ابيض والجفنة المحورة: المبيضة بالسنام، والحواري أيضا الناصر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي حواري وحواريي الزبير). والحواريات: النساء لبياضهن، وقال: فقل للحواريات يبكين غيرنا * ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح قوله تعالى: ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشهدين (53). قوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت) أي يقولون ربنا آمنا. (بما أنزلت) يعني في كتابك وما أظهرته من حكمك. (واتبعنا الرسول) يعني عيسى. (فاكتبنا مع الشاهدين) يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس. والمعنى أثبت أسماءنا مع أسمائهم واجعلنا من جملتهم. وقيل: المعنى فاكتبنا مع الذين شهدوا لانبيائك بالصدق. قوله تعالى: ومكروا ومكر الله والله خير المكرين (54). قوله تعالى: (ومكروا) يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر، أي قتله (2). وذلك أن عيسى عليه السلام لما أخرجه قومه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطئوا على الفتك به، فذلك مكرهم. ومكر الله: استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون، عن الفراء وغيره. قال ابن عباس: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة. وقال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمي الجزاء باسم الابتداء، كقوله: (1) في ز: لصفاء. (2) في ز: بقتله. (*)
[ 99 ]
" الله يستهزئ بهم " [ البقرة: 15 ] (1)، " وهو خادعهم " [ النساء: 142 ] (2). وقد تقدم في البقرة. وأصل المكر في اللغة الاحتيال والخداع. والمكر: خدالة (3) الساق. وامرأة ممكورة الساقين. والمكر: ضرب من الثياب. ويقال: بل هو المغرة، حكاه ابن فارس. وقيل: " مكر الله " إلقاء شبه عيسى على غيره ورفع عيسى إليه، وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتل عيسى دخل البيت هاربا منهم فرفعه جبريل من الكوة إلى السماء، فقال ملكهم لرجل منهم خبيث يقال له يهوذا: ادخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة فلم يجد هناك عيسى وألقى الله عليه شبه عيسى، فلما خرج رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه. ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ! فوقع بينهم قتال فقتل بعضهم بعضا، فذلك قوله تعالى: " ومكروا ومكر الله ". وقيل غير هذا على ما يأتي. (والله خير الماكرين) اسم فاعل من مكر يمكر مكرا. وقد عده بعض العلماء في أسماء الله تعالى فيقول إذا دعا به: يا خير الماكرين أمكر لي. وكان عليه السلام يقول في دعائه: (اللهم أمكر لي ولا تمكر علي). وقد ذكرناه في الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى. والله أعلم. قوله تعالى: إذ قال الله يعيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيمة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) قوله تعالى (إذ قال الله يا عيسى إنى متفوفيك) العامل في " إذ " مكروا، أو فعل مضمر. وقال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى: " إني متوفيك ورافعك إلي " على التقديم والتأخير، لان الواو لا توجب الرتبة. والمعنى: إنى رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، كقوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " [ طه: 129 ] (4)، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما. قال الشاعر: (1) راجع ج‍ 1 ص 201. (2) راجع ج‍ 5 ص 421. (3) في اللسان: حسن خدالة الساقين أي امتلاؤها واستدارتها. (4) راجع ج‍ 11 ص 260. (*)
[ 100 ]
ألا يا نخلة من ذات عرق * عليك ورحمة الله السلام أي عليك السلام ورحمة الله. وقال الحسن وابن جريح: معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته. وقال وهب بن منبه: توفى الله عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء. وهذا فيه بعد، فإنه صح في الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم نزوله وقتله الدجال على ما بيناه في كتاب التذكرة، وفي هذا الكتاب حسب ما تقدم، ويأتي. وقال ابن زيد: متوفيك قابضك، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعد. وروى ابن طلحة عن ابن عباس معنى متوفيك مميتك. الربيع ابن أنس: وهي وفاة نوم، قال الله تعالى: " وهو الذي يتوفاكم بالليل " [ الانعام: 60 ] (1) أي ينيمكم لان النوم أخو الموت، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أفي الجنة نوم ؟ قال: (لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها). أخرجه الدارقطني. والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس، وقاله الضحاك. قال الضحاك: كانت القصة لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة، فأخبر إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة. فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة ؟ فقال رجل: أنا يا نبي الله، فألقى إليه مدرعة (2) من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه. وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أراد الله تبارك وتعالى أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال لهم: أما إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي (1) راجع ج‍ 7 ص 5. (2) المدرعة (بالكسر): الدراعة وهى ثوب من كتان ؟. (*)
[ 101 ]
في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم فقال أنا. فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال عيسى: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال نعم أنت ذاك. فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام. قال: ورفع الله تعالى عيسى من روزنة (1) كانت في البيت إلى السماء. قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا ثلاث فرق: قالت فرقة: كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فقتلوا، فأنزل الله تعالى: " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا " [ الصف: 14 ] (2) أي آمن أباؤهم في زمن عيسى " على عدوهم " بإظهار دينهم على دين الكفار " فأصبحوا ظاهرين ". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص (3) فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد). وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي ببده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء (4) حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما) ولا ينزل بشرع مبتدإ فينسخ به شريعتنا بل ينزل مجددا لما درس منها متبعا. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم). وفي رواية: (فأمكم منكم). قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم ؟. قلت: تخبرني. قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب (التذكرة) والحمد لله. و " متوفيك " أصله متوفيك حذفت الضمة استثقالا، (1) الروزنة: الكوة. (2) راجع ج‍ 18 ص 90. (3) القلاص (بالكسر): جمع قلوص وهى الناقة الشابة. (4) فج الروحاء: طريق بين مكة والمدينة، كان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وإلى مكة عام الفتح وعام الحج. (عن معجم ياقوت). (*)
[ 102 ]
وهو خبر إن. " ورافعك " عطف عليه، وكذا " مطهرك " وكذا " وجاعل الذين اتبعوك ". ويجوز " وجاعل (1) الذين " وهو الاصل. وقيل: إن الوقف التام عند قوله: " ومطهرك من الذين كفروا ". قال النحاس: وهو قول حسن. " وجاعل الذين اتبعوك " يا محمد " فوق الذين كفروا " أي بالحجة وإقامة البرهان. وقيل بالعز والغلبة. وقال الضحاك ومحمد ابن أبان: المراد الحواريون. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة وما لهم من نصرين (56) وأما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فيوفيهم أجورهم والله لا بحت الظلمين (57) ذلك نتلوه عليك من الايت والذكر الحكيم (58) قوله تعالى: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة) يعني بالقتل والصلب والسبي والجزية، وفي الاخرة بالنار. (ذلك نتلوه عليك) " ذلك " في موضع رفع بالابتداء وخبره " نتلوه ". ويجوز: الامر ذلك، على إضمار المبتدإ. قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60) قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) دليل على صحة القياس. والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من تراب. والشئ قد يشبه بالشئ وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد، فان آدم خلق من تراب ولم يخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة، ولكن شبه ما بينهما أنهما خلقهما من غير أب، ولان أصل خلقتهما كان من تراب لان آدم لم يخلق من نفس التراب، (1) كذا في بعض الاصول وكتاب إعراب القرآن للنحاس. وفى ز: وجعل. (*)
[ 103 ]
ولكنه جعل التراب طينا ثم جعله صلصالا ثم خلقه منه، فكذلك عيسى حوله من حال إلى حال، ثم جعله بشرا من غير أب. ونزلت هذه الاية بسبب وفد نجران حين أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن عيسى عبد الله وكلمته) فقالوا: أرنا عبدا خلق من غير أب، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (آدم من كان أبوه أعجبتم من عيسى ليس له أب ؟ فآدم عليه السلام ليس له أب ولا أم). فذلك قوله تعالي: " ولا يأتونك بمثل " أي في عيسى " إلا جئناك بالحق " في آدم " وأحسن تفسيرا " [ الفرقان: 33 ] (1). وروي أنه عليه السلام لما دعاهم إلى الاسلام قالوا: قد كنا مسلمين قبلك. فقال: (كذبتم يمنعكم من الاسلام ثلاث: قولكم اتخذ الله ولدا، وأكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب). فقالوا: من أبو عيسى ؟ فأنزل الله تعالى: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " إلى قوله: " فنجعل لعنة الله على الكاذبين " [ آل عمران: 61 ]. فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يعضهم لبعض: إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا. فقالوا: أما تعرض علينا سوى هذا ؟ فقال: (الاسلام أو الجزية أو الحرب) فأقروا بالجزية على ما يأتي. وتم الكلام عند قوله " آدم ". ثم قال: " خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " أي فكان ؟. والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى. قال الفراء: (الحق من ربك) مرفوع بإضمار هو. أبو عبيدة: هو استئناف كلام وخبره في قوله " من ربك ". وقيل هو فاعل، أي جاءك الحق. (فلا تكن من الممترين) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، لانه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكا في أمر عيسى عليه السلام. قوله تعالى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكذبين (61) (1) راجع ج 13 ص 28. (*)
[ 104 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى. (فمن حاجك فيه) أي جادلك وخاصمك يا محمد " فيه "، أي في عيسى (من بعد ما جاءك من العلم) بأنه عبد الله ورسوله. (فقل تعالوا) أي اقبلوا. وضع لمن له جلالة ورفعة ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الاقبال، وسيأتي له مزيد بيان في " الانعام " (1). (ندع) في موضع جزم. (أبناءنا) دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلقه وعلى خلفها وهو يقول لهم: (إن أنا دعوت فأمنوا). (ثم نبتهل) أي نتضرع في الدعاء، عن ابن عباس. أبو عبيدة والكسائي: نلتعن. وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره. قال لبيد: في كهول سادة من قومه * نظر الدهر إليهم فابتهل أي اجتهد في إهلاكهم. يقال: بهله الله أي لعنه. والبهل: اللعن. والبهل الماء القليل. وأبهلته إذا خليته وإرادته. وبهلته أيضا. وحكى أبو عبيدة: بهله الله يبهله بهلة أي لعنه. قال ابن عباس: هم أهل نجران: السيد والعاقب وابن الحارث رؤساؤهم. (فنجعل لعنة الله على الكاذبين). الثانية - هذه الاية من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لانه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى، فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلة في صفر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بدلا من الاسلام. الثالثة - قال كثير من العلماء: إن قوله عليه السلام في الحسن والحسين لما باهل " ندع أبناءنا وأبناءكم " وقوله في الحسن: (إن ابني هذا سيد) مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابني النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما، لقوله عليه السلام: (كل سبب ونسب (1) راجع 7 ص 130. (*)
[ 105 ]
ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي) ولهذا قال بعض أصحاب الشافعي فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة: إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة، وهو قول الشافعي. وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الانعام (1) والزخرف " إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليهم بالمفسدين (63) قوله تعالى: (إن هذا لهو القصص الحق) الاشارة في قوله " إن هذا " إلى القرآن وما فيه من الاقاصيص، سميت قصصا لان المعاني تتتابع فيها، فهو من قولهم: فلان يقص أثر فلان، أي يتبعه. (وما من إله إلا الله) " من " زائدة للتوكيد، والمعنى وما إله إلا الله (العزيز) أي الذي لا يغلب. (الحكيم) ذو الحكمة. وقد تقدم مثله والحمد لله. قوله تعالى: قل يأهل الكتب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب) الخطاب في قول الحسن وابن زيد والسدي لاهل نجران. وفي قول قتادة وابن جريج وغيرهما ليهود المدينة، خوطبوا بذلك لانهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالارباب. وقيل: هو لليهود والنصارى جميعا. وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل " بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى [ أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام ] (2) أسلم تسلم (1) راجع ج 7 ص 32 وج‍ 16 ص 77 فما بعد. (2) زيادة عن صحيح مسلم. (*)
[ 106 ]
[ وأسلم ] (1) يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين (2)، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله - إلى قوله: " فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ". لفظ مسلم. والسواء العدل والنصفة، قاله قتادة. وقال زهير: أروني خطة لا ضيم فيها * يسوي بيننا فيها السواء الفراء: ويقال في معنى العدل سوى وسوى، فإذا فتحت السين مددت وإذا كسرت أو ضممت قصرت، كقوله تعالى: " مكانا سوى " [ طه: 58 ]. قال: وفي قراءة عبد الله " إلى كلمة عدل بيننا وبينكم " وقرأ قعنب (3) " كلمة " بإسكان اللام، ألقى حركة اللام على الكاف، كما يقال كبد. فالمعنى أجيبوا إلى ما دعيتم إليه، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله تعالى: " ألا نعبد إلا الله " فموضع " أن " خفض على البدل من " كلمة "، أو رفع على إضمار مبتدإ، التقدير هي أن لا نعبد إلا الله. أو تكون مفسرة لا موضع لها، ويجوز مع ذلك في " نعبد " وما عطف عليه الرفع والجزم: فالجزم على أن تكون " أن " مفسرة بمعنى أي، كما قال عزوجل: " أن امشوا " [ ص: 6 ] وتكون " لا " جازمة. هذا مذهب سيبويه. ويجوز على هذا أن ترفع " نعبد " وما بعده يكون خبرا. ويجوز الرفع بمعنى أنه لا نعبد، ومثله " ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا " [ طه: 89 ] (4). وقال الكسائي والفراء: " ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ " بالجزم على التوهم أنه ليس في أول الكلام أن. الثانية - قوله تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) أي لا نتبعه في تحليل شئ أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى. وهو نظير قوله تعالى: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " [ التوبة: 31 ] (5) معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي، قال الكيا الطبري: مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة. وفيه رد على الروافض الذين يقولون: يجب قبول [ قول ] الامام دون إبانة (1) زيادة عن صحيح مسلم. (2) الاريسيين: الاكارون والفلاحون والخدم، والخول، كل ذلك وارد في معنى هذه الكلمة. (3) هو أبو السمان العدوى. (4) راجع ج‍ 11 ص 236. (5) راجع ج 8 ص 119. (*)
[ 107 ]
مستند شرعي، وإنه يحل ما حرمه الله من غير أن يبين مستندا من الشريعة. وأرباب جمع رب. و " دون " هنا بمعنى غير. الثالثة - قوله تعالى (فإن تولوا) أي أعرضوا عما دعوا إليه. (فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) أي متصفون بدين الاسلام منقادون لاحكامه معترفون بما لله عليه علينا في ذلك من المنن والانعام، غير متخذين أحدا ربا لا عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة، لانهم بشر مثلنا محدث كحوثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا، فنكون قد اتخذناهم أربابا. وقال عكرمة: معنى يتخذ " يسجد. وقد تقدم أن السجود كان إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لما أراد أن يسجد، كما مضى في البقرة (1) بيانه. وروى أنس بن مالك قال: قلنا يا رسول الله، أينحني بعضنا لبعض ؟ قال (لا) قلنا: أيعانق بعضنا بعضا ؟ قال (لا ولكن تصافحوا) أخرجه ابن ماجة في سننه. وسيأتي لهذا المعنى زيادة ببان في سورة " يوسف " (2) [ إن (3) شاء الله ]، وفي " الواقعة " (4) مس القرآن أو بعضه على غير طهارة إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: يأهل الكتب لم تحاجون في إبرهيم وما أنزلت التورئة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) قوله تعالى: (يأهل الكتب لم تحاجون في إبراهيم) الاصل " لما " فحذفت الالف فرقا بين الاستفهام والخبر. وهذه الاية نزلت بسبب دعوى كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان على دينه، فأكذبهم الله تعالى بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده، فذلك قوله: " وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده ". قال الزجاج: هذه الاية أبين حجة على اليهود والنصارى، إذ التوراة والانجيل أنزلا من بعده وليس فيهما (5) اسم لواحد من الاديان، واسم الاسلام في كل كتاب. ويقال: كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى أيضا ألف سنة. (أفلا تعقلون) دحوض حجتكم وبطلان قولكم. والله أعلم. (1) راجع ج‍ 1 ص 293. (2) راجع ج‍ 9 ص 265. (3) الزيادة من نسخ: ز، ب. (4) إيراد هذه الجملة هنا غير واضح المناسبة. (5) في الاصول: فيها والمثبت في: د. (*)
[ 108 ]
قوله تعالى: هأنتم هؤلاء حججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء حاججتم) يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، لانهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل. (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علمه) يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا. والاصل في " ها أنتم " أأنتم فأبذل من الهمزة الاولى هاء لانها أختها، عن أبي عمرو بن العلاء والاخفش. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقرأ قنبل عن ابن كثير " هأنتم " مثل هعنتم. والاحسن منه أن يكون الهاء بدلا من همزة فيكون أصله أأنتم. ويجوز أن تكون ها للتنبيه دخلت على " أنتم " وحذفت الالف لكثرة الاستعمال. وفي " هؤلاء " لغتان المد والقصر ومن العرب من يقصرها. وأنشد أبو حاتم: لعمرك إنا والاحاليف هاؤلا * لفي محنة أظفارها لم تقلم وهؤلاء هاهنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء. ويجوز هؤلاء خبر أنتم، على أن يكون أولاء بمعنى الذين وما بعده صلة له. ويجوز أن يكون خبر " أنتم " حاججتم. وقد تقدم هذا في " البقرة " (1) والحمد لله. الثانية - في الاية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده فقال عزوجل: " ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ". وقد ورد الامر بالجدال لمن علم وأيقن فقال تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " [ النحل: 125 ] (2). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل لك من إبل) ؟ قال نعم. قال: (1) راجع ج‍ 1 ص 284، ج 2 ص 20. (2) راجع ج‍ 10 ص 200. (*)
[ 109 ]
(ما ألوانها) ؟ قال: حمر: (هل فيها من أورق) (1) ؟ قال نعم. قال: (فمن أين ذلك) ؟ قال: لعل عرقا نزعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهذا الغلام لعل عرقا نزعه). وهذا حقيقة الجدال ونهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67). نزهه تعالى من دعاويهم الكاذبة، وبين أنه كان على الحنيفية الاسلامية ولم يكن مشركا. والحنيف: الذي يوحد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة. وقد مضى في " البقرة " اشتقاقه (2). والمسلم في اللغة: المتذلل لامر الله تعالى المنطاع له. وقد تقدم في " البقرة " معنى الاسلام (3) مستوفى والحمد لله. قوله تعالى: إن إولى الناس بإبرهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين ءامنوا والله ولى المؤمنين. (68) وقال ابن عباس: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، فإنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد، فأنزل الله تعالى هذه الاية. (أولى) معناه أحق، قيل: بالمعونة والنصرة. وقيل بالحجة. (للذين اتبعوه) على ملته وسنته. (وهذا النبي) أفرد ذكره تعظيما له، كما قال " فيهما فاكهة ونخل ورمان " [ الرحمن: 68 ] (4) وقد تقدم في " البقرة " هذا المعنى مستوفى. و " هذا " في موضع رفع عطف على الذين، و " النبي " نعت لهذا أو عطف بيان، ولو نصب لكان جائزا في الكلام عطفا على الهاء في " اتبعوه ". (والله ولى المؤمنين) أي ناصرهم. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (1) الاورق: الذي لونه بين السواد والغبرة. (2) راجع ج‍ 2 ص 139. (3) راجع ج‍ 2 ص 134. (4) راجع ج‍ 17 ص 185. (*)
[ 110 ]
(إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن ولي منهم أبي وخليل ربي - ثم قرأ - إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي). قوله تعالى: ودت طائفة من أهل الكتب لو يضلونكم وما يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (69). نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمن وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم. وهذه الاية نظير قوله تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا " [ البقرة: 109 ] (1). و " من " على هذا القول للتبعيض. وقيل: جميع أهل الكتاب، فتكون " من " لبيان الجنس. ومعنى " لو يضلونكم " أي يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الاسلام والمخالفة له. وقال ابن جريج: " يضلونكم " أي يهلكونكم، ومنه قول الاخطل: كنت القدى في موج أكدر مزبد * قذف الاتي (2) به فضل ضلالا أي هلك هلاكا. (وما يضلون إلا أنفسهم) نفي وإيجاب. (وما يشعرون) أي يفطنون (3) أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين. وقيل: " وما يشعرون " أي لا يعلمون بصحة الاسلام وواجب علهم أن يعلموا، لان البراهين ظاهرة والحجج باهرة، والله أعلم. قوله تعالى: يأهل الكتب لم تكفرون بايت الله وأنتم تشهدون (70) أي بصحة الايات التي عندكم في كتبكم، عن قتادة والسدي. وقيل: المعنى وأنتم تشهدون بمثلها من آيات (4) الانبياء التي أنتم مقرون بها. قوله تعالى: يأهل الكتب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (71). (1) راجع ج 2 ص 70. (2) الاتي. كل سبع يأتي من حيث لا تعلم. (3) ف ج‍: يقطعون. (4) في ز: من الآيات البينات التى الخ. (*)
[ 111 ]
اللبس الخلط، وقد تقدم في البقرة (1). ومعنى هذه الاية والتي قبلها معنى ذلك (2). (وتكتمون الحق) ويجوز " تكتموا " على جواب الاستفهام. (وأنتم تعلمون) جملة في موضع الحال. قوله تعالى: وقالت طائفة من أهل الكتب ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار وواكفرو اءاخرة لعلهم يرجعون (72) نزلت في كعب بن الاشرف ومالك بن الصف وغيرهما، قالوا للسفلة من قومهم: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، يعني أوله. وسمي وجها لانه أحسنه، وأول ما يواجه منه أوله. قال الشاعر: وتضئ في وجه النهار منيرة * كجمانة البحري سل نظامها (3) وقال آخر: من كان مسرورا بمقتل مالك * فليأت نسوتنا بوجه نهار وهو منصوب على الظرف، وكذلك " آخره ". ومذهب قتادة أنهم فعلوا ذلك ليشككوا المسلمين. والطائفة: الجماعة، من طاف يطوف، وقد يستعمل للواحد على معنى نفس طائفة. ومعنى الاية أن اليهود قال بعضهم لبعض: أظهروا الايمان بمحمد في أول النهار ثم أكفروا به آخره، فإنكم إذا فعلتم ذلك ظهر لمن يتبعه ارتياب في دينه فيرجعون عن دينه إلى دينكم، ويقولون إن أهل الكتاب أعلم به منا. وقيل: المعنى آمنوا بصلاته في أول النهار إلى بيت المقدس فإنه الحق، واكفروا بصلاته آخر النهار إلى الكعبة لعلهم يرجعون إلى قبلتكم، عن ابن عباس وغيره. وقال مقاتل: معناه أنهم جاءوا محمدا صلى الله عليه وسلم أول النهار ورجحوا من عنده فقالوا للسفلة: هو حق فاتبعوه، ثم قالوا: حتى ننظر في التوراة ثم رجعوا في آخر النهار فقالوا: قد نظرنا في التوراة فليس هو به. يقولون إنه ليس بحق، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة وأن يشككوا فيه. (1) راجع ج‍ 1 ص 340. (2) في ج‍: معنى تلك. (3) البيت للبيد. والجمانة: حبة تحمل من الفضة كالذرة، والذي في اللسان والتاج: وتضى في وجه الظلام. (*)
[ 112 ]
قوله تعلى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله وسع عليم (73). قوله تعالى: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) هذا نهي، وهو من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي قال ذلك الرؤساء للسفلة. وقال السدي: من قول يهود خيبر ليهود المدينة. وهذه الاية أشكل ما في السورة. فروي عن الحسن ومجاهد أن معنى الاية ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لانهم لا حجة لهم فإنكم أصح منهم دينا. و " أن " و " يحاجوكم " في موضع خفض، أي بأن يحاجوكم أي باحتجاجهم، أي لا تصدقوهم في ذلك فإنهم لا حجة لهم. (أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم) من التوراة والمن والسلوى وفرق البحر وغيرها من الايات والفضائل. فيكون " أن يؤتى " مؤخرا بعد " أو يحاجوكم "، وقوله " إن الهدى هدى الله " اعتراض بين كلامين. وقال الاخفش: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم، يذهب إلى أنه معطوف. وقيل: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فالمد على الاستفهام أيضا تأكيد للانكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه، لان علماء اليهود قالت لهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فالكلام على نسقه. و " أن " في موضع رفع على قول من رفع في قولك أزيد ضربته، والخبر محذوف تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تصدقون أو تقرون، أي إيتاء موجود مصدق أو مقربه، أي لا تصدقون بذلك. ويجوز أن تكون " أن " في موضع نصب على إضمار فعل، كما جاز في قولك أزيدا ضربته، وهذا أقوى في العربية لان الاستفهام بالفعل أولى، والتقدير أتقرون أن يؤتى، أو أتشيعون ذلك، أو أتذكرون ذلك ونحوه. وبالمد قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد. وقال أبو حاتم: " آن " معناه " ألان "، فحذفت لام الجر استخفافا وأبدلت مدة، كقراءة من
[ 113 ]
قرأ " آن كان ذا مال " [ القلم: 14 ] (1) أي ألان. وقوله " أو يحاجوكم " على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين، أو تكون " أو " بمعنى " أن " لانهما حرفا شك وجزاء يوضع أحدهما موضع الاخر. (2) وتقدير الاية: وأن يحاجوكم عند ربكم يا معشر المؤمنين، فقل: يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه. ومن قرأ بترك المد قال: إن النفي الاول دل على إنكارهم في قولهم ولا تؤمنوا. فالمعنى أن علماء اليهود قالت لهم: لا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا إيمان لهم ولا حجة، فعطف على المعنى من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات، أي إنها لا تكون إلا فيكم فلا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم. فالكلام فيه تقديم وتأخير على هذه القراءة واللام زائدة. ومن استثنى ليس من الاول، وإلا لم يجز الكلام. ودخلت " أحد " لان أول الكلام نفي، فدخلت في صلة " أن " لانه مفعول الفعل المنفي، فأن في موضع نصب لعدم الخافض. وقال الخليل: (أن) في موضع خفض بالخافض المحذوف. وقيل: إن اللام ليست بزائدة، و " تؤمنوا " محمول على تقروا. وقال ابن جريج: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقيل: المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون طريقا إلى عبدة الاوثان إلى تصديقه. وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قول عزوجل " إلا لمن تبع دينكم " ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم " قل إن الهدى هدى الله ". أي إن البيان الحق هو بيان الله عزوجل " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " بين ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، و " لا " مقدرة بعد " أن " أي لئلا يؤتى، كقوله " يبين الله لكم أن تضلوا " [ النساء: 176 ] (3) أي لئلا تضلوا، فلذلك صلح دخول " أحد " في الكلام. و " أو " بمعنى " حتى " و " إلا أن "، كما قال امرؤ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنما * نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقال آخر: (4) وكنت إذا غمزت قناة قوم * كسرت كعوبها أو تستقيما (1) راجع ج 18 ص 236. (2) في الاصول: إحداهما موضع الاخرى. (3) راجع ج 6 ص 28. (4) هو زياد الاعجم. (*)
[ 114 ]
ومثله قولهم: لا نلتقي أو تقوم الساعة، بمعنى " حتى " أو " إلى أن "، وكذلك مذهب الكسائي. وهي عند الاخفش عاطفة على " ولا تؤمنوا " وقد تقدم. أي لا إيمان لهم ولا حجة، فعطف على المعنى. ويحتمل أن تكون الاية كلها خطابا للمؤمنين من الله تعالى على جهة التثبيت لقلوبهم والتشحيذ لبصائرهم، لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم. والمعنى أوتيتم من الفضل والدين، ولا تصدقوا أن يحاجكم في دينكم عند ربكم من خالفكم أ يقدر على ذلك، فإن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله. قال الضحاك: إن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا، فبين الله تعالى أنهم هم المدحضون المعذبون وأن المؤمنين هم الغالبون. ومحاجتهم خصومتهم يوم القيامة. ففي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود والنصارى يحاجونا عند ربنا فيقولون أعطيتنا أجرا واحدا وأعطيتهم أجرين فيقول هل ظلمتكم من حقوقكم شيئا قالوا (1) لا قال فإن ذلك فضلي أوتيه من أشاء). قال علماؤنا: فلو علموا أن ذلك من فضل الله لم يحاجونا عند ربنا، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم يحاجونكم يوم القيامة عند ربكم، ثم قال: قل لهم [ الان ] (2) " إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ". وقرأ ابن كثير " آن يؤتى " بالمد على الاستفهام، كما قال الاعشى: أأن رأت رجلا أعشى أضربه * ريب المنون ودهر متبل خبل (3) وقرأ الباقون بغير مد على الخبر. وقرأ سعيد بن جبير " إن يؤتى " بكسر الهمزة، على معنى النفي، ويكون من كلام الله تعالى كما قال الفراء. والمعنى: قل يا محمد إن الهدى هدى الله إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم " يعني اليهود - بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم. ونصب " أو يحاجوكم " يعني بإضمار " أن " و " أو " تضمر بعدها " أن " إذا كانت بمعنى " حتى " و " إلا أن ". وقرأ الحسن " أن يؤتي " بكسر التاء وياء مفتوحة، على معنى أن يؤتي أحد أحدا مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول. (1) في د: فيقولون. (2) من ب، د. (3) متبل: مسقم، وخبل: ملتو على أهله لا يرون فيه سرورا. (*)
[ 115 ]
قوله تعالى: (قل إن الهدى هدى الله) فيه قولان: أحدهما: أن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله عزوجل بيد الله جل ثناؤه يؤتيه أنبياءه، فلا تنكروا (1) أن يؤتى أحد سواكم مثل ما أوتيتم، فإن أنكروا ذلك فقل لهم: " إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ". والقول الآخر: قل إن الهدى هدى الله الذي آتاه المؤمنين من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم لا غيره. وقال بعض أهل الاشارات في هذه الاية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإن من لا يوافقكم لا يرافقكم. والله أعلم. قوله تعالى: يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم (74) أي بنبوته وهدايته، عن الحسن ومجاهد وغيرهما. ابن جريج: بالاسلام والقرآن " من يشاء ". قال أبو عثمان: أجمل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف، (والله ذو الفضل العظيم). قوله تعالى: ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الامين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75) فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) مثل عبد الله بن سلام. (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) وهو فنحاص بن عازوراء اليهودي، أودعه رجل دينارا فخانه. وقيل: كعب بن الاشرف وأصحابه. وقرأ ابن وثاب والاشهب العقيلي " من إن تيمنه ؟ " على لغة من قرأ " نستعين " وهي لغة بكر وتميم. وفي حرف عبد الله " مالك لا تيمنا على يوسف " والباقون بالالف. وقرأ نافع والكسائي " يؤد هي " بياء في الادراج. قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو والاعمش وعاصم وحمزة في رواية أبي بكر (1) هذا نهى، وفى ح‍، ود: فلا تنكرون. على الخبر. (*)
[ 116 ]
على وقف الهاء، فقرءوا " يؤده إليك ". قال النحاس: بإسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه ألبتة ويرى أنه غلط ممن قرأ به، وإنه توهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه مثل هذا. والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء، وهي قراءة يزيد بن القعقاع. وقال الفراء: مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون: ضربته ضربا شديدا، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع، كما قال الشاعر: لما رأى ألادعه ولا شبع * مال إلى أرطاة حقف (1) فاضطجع وقيل: إنما جاز إسكان الهاء في هذا الموضع لانها وقعت في موضع الجزم وهي الياء الذاهبة. وقرأ أبو المنذر سلام والزهري " يؤده " بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة وحميد ومجاهد " يؤدهو " بواو في الادراج، اختير لها الواو لان الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج. قال سيبويه: الواو في المذكر بمنزلة الالف في المؤنث ويبدل منها ياء لان الياء أخف إذا كان قبلها كسرة أو ياء، وتحذف الياء وتبقى الكسرة لان الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها. الثانية - أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والامين، والمؤمنون لا يميزون ذلك، فينبغي اجتناب جميعهم. وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك، لان الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب. والله أعلم. وقد مضى تفسير القنطار. وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه. ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر. وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب. وفيه بين العلماء خلاف [ كثير ] (2) مذكور في أصول الفقه. وذكر تعالى قسمين: من يؤدي ومن لا يؤدى إلا بالملازمة عليه، وقد يكون من الناس من لا يؤدي وإن دمت عليه قائما. فذكر تعالى القسمين لانه الغالب (1) الارطاة: واحدة الارطر * وهو شجر من شجر الرمل. والحقف) (بالكسر): ما أعوج من الرمل. (2) من د. (*)
[ 117 ]
والمعتاد والثالث نادر، فخرج الكلام على الغالب. وقرأ طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهما " دمت " بكسر الدال وهما لغتان، والكسر لغة أزد السراة، من " دمت تدام " مثل خفت تخاف. وحكى الاخفش دمت تدوم، شاذا. الثالثة - استدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى: " إلا ما دمت عليه قائما " وأباه سائر العلماء، وقد تقدم في البقرة (1). وقد استدل بعض البغداديين [ من علمائنا ] (2) على حبس المديان بقوله تعالى: " ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما " فإذا كان له ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه. وقيل: إن معنى " إلا ما دمت عليه قائما " أي بوجهك فيهابك ويستحي منك، فان الحياء في العينين، ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي الله عنه: لا تطلبوا من الاعمى حاجة فإن الحياء في العينين. وإذا طلبت من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك حتى يستحي فيقضيها. ويقال: " قائما " أي ملازما له، فإن أنظرته أنكرك. وقيل: أراد بالقيام إدامة المطالبة لا عين القيام. والدينار أصله دنار فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للتخفيف لكثرة استعماله. يدل عليه أنه يجمع دنانير ويصغر دنينير. الرابعة - الامانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي (3) الصراط، كما في صحيح مسلم. فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما. وروى مسلم عن حذيفة قال حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الامانة، قال: (ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه) الحديث. وقد تقدم بكماله أول البقرة (4). وروى ابن ماجة حدثنا محمد ابن المصفي حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير ابن مرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عزوجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الامانة فإذا نزعت منه الامانة لم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه (1) راجع ج‍ 3 ص 371. (2) نخ: ب. (3) جنبة الوادي (بفتح النون): جانب وناحية. والجنبة (بسكون النون): الناحية، يقال: نزل فلان جنبة أي ناحية. (4) راجع ج‍ 1 ص 188، وصحيح مسلم ج‍ 1 ص 51 طبع بولاق. (*)
[ 118 ]
الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الاسلام). وقد مضى في البقرة معنى قوله عليه السلام: (أد الامانة إلى من ائتمنك ولا نحن من خانك). والله أعلم. الخامسة - ليس في هذه الاية تعديل لاهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك، لان فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الامانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا. فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الامانة في المال من جهة المعاملة والوديعة، ألا ترى قولهم: " ليس علينا في الاميين سبيل " [ آل عمران: 75 ] فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه، ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين. السادسة - قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا) يعنى اليهود (ليس علينا في الاميين سبيل) قيل: إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون: ليس علينا في الاميين سبيل - أي حرج في ظلمهم - لمخالفتهم إيانا. وادعوا أن ذلك في كتابهم، فأكذبهم الله عزوجل ورد عليهم فقال: " بلى " أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم أموال العرب. قال أبو إسحاق الزجاج: وتم الكلام. ثم قال: " من أوفى بعهده واتقى " [ آل عمران: 76 ]. ويقال: إن اليهود كانوا قد استدانوا من الاعراب أموالا فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود: ليس لكم علينا شئ، لانكم تركتم دينكم فسقط عنا دينكم. وادعوا أنه حكم التوراة فقال الله تعالى: " بلى " ردا لقولهم " ليس علينا في الاميين سبيل ". أي ليس كما تقولون، ثم استأنف فقال: " من أوفى بعهده واتقى " الشرك فليس من الكاذبين بل يحبه الله ورسوله. السابعة - قال رجل لابن عباس: إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول: ليس علينا في ذلك بأس. فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب " ليس علينا في الاميين سبيل " إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب
[ 119 ]
أنفسهم، ذكره عبد الرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة أن رجلا قال لابن عباس، فذكره. الثانية - قوله تعالى: (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) يدل على أن الكافر لا يجعل أهلا لقبول شهادته، لان الله تعالى وصفه بأنه كذاب. وفيه رد عل الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع. قال ابن العربي: ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله. وفي الخبر: لما نزلت هذه الاية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما شئ كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الامانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر). قوله تعالى: بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين (76) " من " رفع بالابتداء وهو شرط. و " أوفى " في موضع جزم. و " اتقى " معطوف عليه، أي واتقى الله ولم يكذب ولم يستحل ما حرم عليه. (فإن الله يحب المتقين) أي يحب أولئك. وقد تقدم معنى حب الله لاوليائه. والهاء في قوله " بعهده " راجعة إلى الله عزوجل. وقد جرى ذكره في قوله " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " ويجوز أن تعود على الموفى ومتقي الكفر والخيانة ونقض العهد. والعهد مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول. قوله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمنهم ثمنا قليلا أولئك لا خلق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (77). فيه مسألتان: الاولى - روى الائمة عن الاشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل
[ 120 ]
لك بينة) ؟ قلت لا، قال لليهودي: (احلف) قلت: إذا يحلف فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " إلى آخر الاية. وروى الائمة أيضا عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة). فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال: (وإن كان قضيبا من أراك) (1). وقد مضى في البقرة معنى " لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم (2) ". الثانية - ودلت هذه الاية والاحاديث أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، وقد روى الائمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضى بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة. وهذا لا خلاف فيه بين الائمة، (3) وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال: إن حكم الحاكم المبني على الشهادة الباطلة يحل الفرج لمن كان محرما عليه، كما تقدم في البقرة (4). وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم أن القضية باطل. وقد شنع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الاموال ولم ير استباحتها بالاحكام الفاسدة، و لم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان. وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان (5) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: وإن منهم لفريقا يلون ألسنتهم بالكتب لتحسبوه من الكتب وما هو من الكتب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. (1) الاراك شجر من الحمض يستاك بقضبائه، الواحدة أراكه. (2) ج‍ 2 ص 234. (3) في د: بين الامة. (4) راجع المسألة الثالثة ج‍ 2 ص 338. (5) راجع ج‍ 12 ص 182. (*)
[ 121 ]
يعني طائفة من اليهود. (يلوون ألسنتهم بالكتاب) وقرأ أبو جعفر وشيبة " يلوون " على التكثير. إذا أماله، ومنه والمعنى يحرفون الكلم ويعدلون به عن القصد. وأصل اللي الميل. لوى بيده، ولوى برأسه قوله تعالى: " ليا بألسنتهم " [ النساء: 46 ] (1) أي عنادا عن الحق وميلا عنه إلى غيره. ومعنى " ولا تلوون على أحد " [ آل عمران: 153 ] (1) أي لا تعرجون عليه، يقال لوى عليه إذا عرج وأقام. واللي المطل. لواه بدينه يلويه ليا وليانا مطله. قال: قد كنت داينت بها حسانا * مخافة الافلاس والليانا * يحسن بيع الاصل والعيانا * وقال ذو الرمة: تريدين (2) لياني وأنت ملية * وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا وفي الحديث (لي الواحد يحل عرضه وعقوبته). وألسنة جمع لسان في لغة من ذكر، ومن أنث قال ألسن. قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباد لى من دون الله ولكن كونوا ربنين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون (79). " ما كان " معناه ما ينبغي، كما قال: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " [ النساء: 92 ] و " ما كان لله أن يتخذ من ولد " [ مريم: 35 ] (3). و " ما يكون لنا أن نتكلم بهذا " [ النور: 16 ] (4) يعني ما ينبغي. والبشر يقع للواحد والجمع لانه بمنزلة المصدر، والمراد به هنا عيسى في قول الضحاك والسدي. والكتاب: القرآن. والحكم: العلم والفهم. وقيل أيضا: الاحكام. أي إن الله لا يصطفي لنبوته الكذبة، ولو فعل ذلك بشر لسلبه الله آيات النبوة وعلاماتها. ونصب " ثم يقول " على الاشتراك بين " أن يؤتيه " وبين " يقول " أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة وقوله: " كونوا عبادا لى من دون الله ". (ولكن كونوا ربانيين) أي ولكن جائز أن يكون النبي يقول لهم (1) ج‍ 5 ص 239 وص 243 من هذا الجزء. (2) في ديوانه: " تعليلين ". (3) راجع ج‍ 11 ص 107. (4) راجع ج‍ 12 ص 197 (*)
[ 122 ]
كونوا ربانيين ؟. وهذه الاية قيل إنها نزلت في نصارى نجران. وكذلك روي أن السورة كلها إلى قوله " وإذ غدوت من أهلك " [ آل عمران: 121 ] كان سبب نزولها نصارى نجران ولكن مزج معهم اليهود، لانهم فعلوا من الجحد والعناد فعلهم. والربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب. والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير (1) الامور، روي معناه عن ابن عباس. قال بعضهم: كان في الاصل ربي فأدخلت الالف والنون للمبالغة، كما يقال للعظيم اللحية: لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني. وقال المبرد: الربانيون أرباب العلم، واحدهم ربان، من قولهم: ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه، فمعناه على هذا يدبرون أمور الناس ويصلحونها. والالف والنون للمبالغة كما قالوا ريان وعطشان، ثم ضمت إليها ياء النسبة كما قيل: لحياني ورقباني وجماني. قال الشاعر: لو كنت مرتهنا في الجو (2) أنزلني * منه الحديث ورباني أحباري فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه، لانه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة: وقال أبو رزين: الرباني هو العالم الحكيم. وروى شعبة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود " ولكن كونوا ربانيين " قال: حكماء علماء. ابن جبير: حكماء أتقياء. وقال الضحاك: لا ينبغي لاحد أن يدع حفظ القرآن جهده فإن الله تعالى يقول: " ولكن كونوا ربانيين ". وقال ابن زيد: الربانيون الولاة، والاحبار العلماء. وقال مجاهد: الربانيون فوق الاحبار. قال النحاس: وهو قول حسن، لان الاحبار هم العلماء. والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة، مأخوذ من قول العرب: رب أمر الناس يربه إذا أصلحه وقام به، فهو راب ورباني على التكثير. قال أبو عبيدة: سمعت عالما يقول: الرباني العالم بالحلال والحرام والامر والنهي، العارف بأنباء الامة وما كان وما يكون. وقال محمد بن الحنفية يوم مات أبن عباس: اليوم مات رباني هذه الامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله عزوجل (1) في د: جميع، وفى ز: تفسير. (2) في: زوا: في الحق. (*)
[ 123 ]
عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه - ثم تلا هذه الاية - ولكن كونوا ربانيين) الاية. رواه ابن عباس. قوله تعالى: (بما كنتم تعلمون تاب وبما كنتم تدرسون) قرأه أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف من العلم. واختار هذه القراءة أبو حاتم. قال أبو عمرو: وتصديقها " تدرسون " ولم يقل " تدرسون " بالتشديد من التدريس. وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة " تعلمون " بالتشديد من التعليم، واختارها أبو عبيد. قال: لانها تجمع المعنيين " تعلمون، وتدرسون ". قال مكي: التشديد أبلغ، لان كل معلم عالم بمعنى يعلم وليس كل من علم شيئا معلما، فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، فالتعليم أبلغ وأمدح وغيره أبلغ في الذم. احتج من رجح قراءة التخفيف بقول ابن مسعود " كونوا ربانيين " قال: حكماء علماء، فيبعد أن يقال كونوا فقهاء حكماء علماء بتعليمكم. قال الحسن، كونوا حكماء علماء بعلمكم. وقرأ أبو حيوة " تدرسون " من أدرس يدرس. وقرأ مجاهد " تعلمون " بفتح التاء وتشديد اللام، أي تتعلمون. قوله تعالى: ولا يأمركم أن تتخذوا الملئكة والنبين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بالنصب عطفا على " أن يؤتيه ". ويقويه أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نتخذك يا محمد ربا ؟ فقال الله تعالى: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة - إلى قوله: ولا يأمركم ". وفيه ضمير البشر، أي ولا يأمركم البشر يعني عيسى وعزيرا. وقرأ والباقون بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام الاول، وفيه ضمير اسم الله عزوجل، أي ولا يأمركم الله أن تتخذوا. ويقوي هذه القراءة أن في مصحف عبد الله " ولن يأمركم " فهذا يدل على الاستئناف، والضمير أيضا لله عزوجل، ذكره مكي، وقاله سيبويه والزجاج. وقال ابن جريح وجماعة: ولا يأمركم محمد
[ 124 ]
عليه السلام. وهذه قراءة أبي عمرو والكسائي وأهل الحرمين. (أن تتخذوا) أي بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا. وهذا موجود في النصارى يعظمون الانبياء والملائكة حتى يجعلوهم لهم أربابا. (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) على طريق الانكار والتعجب، فحرم الله تعالى على الانبياء أن يتخذوا الناس عبادا يتألهون لهم ولكن ألزم الخلق حرمتهم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي). وفي التنزيل " اذكرني عند ربك " [ يوسف: 42 ]. وهناك (1) يأتي بيان هذا [ المعنى ] (2) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: وإذ أخذ الله ميثق النبين لما ءاتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشهدين (81). قيل: أخذ الله تعالى ميثاق الانبياء أن يصدق بعضهم بعضا ويأمر بعضهم بالايمان بعضا، فذلك معنى النصرة بالتصديق. وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والسدي والحسن، وهو ظاهر الاية. قال طاوس: أخذ الله ميثاق الاول من الانبياء أن يؤمن بما جاء به الاخر. وقرأ ابن مسعود " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " [ آل عمران: 187 ]. قال الكسائي: يجوز أن يكون " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين " بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين. وقال البصريون: إذا أخذ الله ميثاق النبيين فقد أخذ ميثاق الذين معهم، لانهم قد اتبعوهم وصدقوهم. و " ما " في قوله " لما " بمعنى الذي. قال سيبويه: سألت الخليل ابن أحمد عن قوله عزوجل: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " فقال: لما بمعنى الذي. قال النحاس: التقدير على قول الخليل للذي آتيتكموه، ثم حذف (1) راجع ج‍ 9 ص 105. (2) الزيادة من د، ب. (*)
[ 125 ]
الهاء لطول الاسم. و " الذي " رفع بالابتداء وخبره " من كتاب وحكمة ". و " من " لبيان الجنس. وهذا كقول القائل: لزيد أفضل منك، وهو قول الاخفش أنها لام الابتداء. قال المهدوي: وقوله " ثم جاءكم " وما بعده جملة معطوفة على الصلة، والعائد منها على الموصول محذوف، والتقدير ثم جاءكم رسول مصدق به. قوله تعالى (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم في قول علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللفظ وإن كان نكرة فالاشارة إلى معين، كقوله تعالى: " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة " إلى قوله: " ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه " [ النحل: 112 - 113 ] (1). فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم. واللام من قوله " لتؤمنن به " جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف. وهو كما تقول في الكلام: أخذت ميثاقك لتفعلن كذا، كأنك قلت استحلفك، وفصل بين القسم وجوابه بحرف الجر الذي هو " لما " في قراءة ابن كثير على ما يأتي. ومن فتحها جعلها متلقية للقسم الذي هو أخذ الميثاق. واللام في " لتؤمنن به " جواب قسم محذوف، أي والله لتؤمنن به. وقال المبرد والكسائي والزجاج: " ما " شرط دخلت عليها لام التحقيق كما تدخل على إن، ومعناه [ لمهما ] (2) آتيتكم، فموضع " ما " نصب، وموضع " آتيتكم " جزم، و " ثم جاءكم " معطوف عليه، (لتؤمنن به) اللام في قوله " لتؤمنن به " جواب الجزاء، كقوله تعالى: " ولئن شئنا لنذهبن " [ الاسراء: 86 ] (3) ونحوه. وقال الكسائي: لتؤمنن به معتمد القسم فهو متصل بالكلام الاول، وجواب الجزاء قوله " فمن تولى بعد ذلك " [ آل عمران: 82 ]. ولا يحتاج على هذا الوجه إلى تقدير عائد. وقرأ أهل الكوفة " لما آتيتكم " بكسر اللام، وهي أيضا بمعنى الذي وهي متعلقة بأخذ، أي أخذ الله ميثاقهم لاجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به من بعد الميثاق، لان أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف كما تقدم. قال النحاس: ولابي عبيدة في هذا قول حسن. قال: المعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب (1) راجع ج‍ 10 ص 194. (2) كذا في ب، ود. وفى السمين: التقدر والله لاى شئ أتيتكم من كذا وكذ لتؤمن به. (3) راجع ج 10 ص 325. (*)
[ 126 ]
لتؤمنن به لما آتيتكم من ذكر التوراة. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا. ودل على هذا الحذف " وأخذتم على ذلكم إصري ". وقيل: إن اللام في قوله " لما " في قراءة من كسرها بمعنى بعد، يعني بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة، كما قال النابغة: توهمت آيات لها فعرفتها * لستة أعوام وذا العام سابع أي بعد ستة أعوام. وقرأ سعيد بن خبير " لما " بالتشديد، ومعناه حين آتيتكم. واحتمل أن يكون أصلها التخفيف فزيدت " من " على مذهب من يرى زيادتها في الواجب فصارت لمن ما، وقلبت النون ميما للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الاولى منهن استخفافا. وقرأ أهل المدينة " آتيناكم " على التعظيم. والباقون " آتيتكم " على لفظ الواحد. ثم كل الانبياء لم يؤتوا الكتاب وإنما أوتي البعض، ولكن الغلبة للذين أوتوا الكتاب. والمراد أخذ ميثاق جميع الانبياء فمن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب لانه أوتي الحكم والنبوة. وأيضا من لم يؤت الكتاب أمر بأن يأخذ بكتاب من قبله فدخل تحت صفة من أوتي الكتاب. قوله تعالى: (أأقررتم وأخذتم على ذلك إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) " أقررتم " من الاقرار، والاصر والاصر لغتان، وهو العهد. والاصر في اللغة الثقل، فسمي العهد إصرا لانه منع وتشديد. (قال فاشهدوا) أي اعلموا، عن ابن عباس. الزجاج: بينوا لان الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعى. وقيل: المعنى اشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم. (وأنا معكم من الشاهدين) عليكم وعليهم. وقال سعيد بن المسيب: قال الله عزوجل للملائكة فاشهدوا عليهم، فتكون كناية عن غير مذكور. قوله تعالى: فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82) " من " شرط. فمن تولى من أمم الانبياء عن الايمان بعد أخذ الميثاق (فأولئك هم الفاسقون) أي الخارجون عن الايمان. والفاسق الخارج. وقد تقدم (1). (1) راجع 1 ص 244. (*)
[ 127 ]
قوله تعالى: أفغير دين. الله يبغون وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها وإليه يرجعون (83) قل ءامنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84) قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون) قال الكلبي: إن كعب بن الاشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أينا أحق بدين إبراهيم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلا الفريقين برئ من دينه). فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فنزل " أفغير دين الله يبغون " يعني يطلبون. ونصبت " غير " بيبغون، أي يبغون غير دين الله. وقرأ أبو عمرو وحده " يبغون " بالياء على الخبر " وإليه ترجعون " بالتاء على المخاطبة. قال: لان الاول خاص والثاني عام ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى. وقرأ حفص وغيره " يبغون، ويرجعون " بالياء فيهما، لقوله: " فأولئك هم الفاسقون ". وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب، لقوله " لما آتيتكم من كتاب وحكمة ". والله أعلم. قوله تعالى: (وله أسلم) أي استسلم وانقاد وخضع وذل، وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم، لانه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه. قال قتادة: أسلم المؤمن طوعا والكافر عند موته كرها ولا ينفعه ذلك، لقوله: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " [ المؤمن: 85 ] (1). قال مجاهد: إسلام الكافر كرها بسجوده لغير الله وسجود ظله لله، " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " [ النحل: 48 ] (2). " ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال " [ الرعد: 15 ] (3). وقيل: المعنى أن الله خلق الخلق على ما أراد منهم، فمنهم الحسن والقبيح والطويل والقصير والصحيح والمريض وكلهم منقادون اضطرارا، فالصحيح منقاد طائع محب لذلك، والمريض منقاد خاضع وإن كان كارها. والطوع الانقياد (1) راجع ج‍ 15 ص 336. (2) راجع ج‍ 10 ص 111. (3) راجع ج‍ 9 ص 301. (*)
[ 128 ]
والاتباع بسهولة. والكره ما كان بمشقة وإباء من النفس. و (طوعا وكرها) مصدران في موضع الحال، أي طائعين ومكرهين. وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عزوجل: " وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها " قال: (الملائكة أطاعوه في السماء والانصار وعبد القيس في الارض). وقال عليه السلام: (لا تسبوا أصحابي فإن أصحابي أسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف السيف). وقال عكرمة: " طوعا " من أسلم من غير محاجة " وكرها " من اضطرته الحجة إلى التوحيد. يدل عليه قوله عزوجل: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " [ الزخرف: 87 ] (1) " ولئن سألتهم من خلق السموات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله " [ العنكبوت: 63 ] (2). قال الحسن: هو عموم معناه الخصوص. وعنه: " أسلم من في السموات " وتم الكلام. ثم قال: " والارض طوعا وكرها ". قال: والكاره المنافق لا ينفعه عمله. و " طوعا وكرها " مصدران في موضع الحال. عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا (3) فليقرأ في أذنها هذه الاية: " أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها " إلى آخر الاية. قوله تعالى: ومن يبتغ غير الاسلم دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخسرين (85). " غير " مفعول بيبتغ، " دينا " منصوب على التفسير، ويجوز أن ينتصب دينا بيبتغ، وينتصب " غير " على أنه حال من الدين. قال مجاهد والسدي: نزلت هذه الاية في الحارث ابن سويد أخو الحلاس بن سويد، وكان من الانصار، ارتد عن الاسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفارا، فنزلت هذه الاية، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة. وروي ذلك عن ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: وأسلم بعد نزول الايات. (وهو في الاخرة من الخاسرين) (1) راجع ج‍ 16 ص 123. (2) راجع ج‍ 13 ص 361. (3) شمست الدابة: شردت وجمحت ومنعت ظهرها. (*)
[ 129 ]
قال هشام: أي وهو خاسر في الاخرة من الخاسرين، ولولا هذا لفرقت بين الصلة والموصول. وقال المازني: الالف واللام مثلها في الرجل. وقد تقدم هذا في البقرة (1) عند قوله: " وإنه في الاخرة لمن الصالحين " [ البقرة: 130 ]. قوله تعالى: كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينت والله لا يهدى القوم الظلمين (86) قال ابن عباس: إن رجلا من الانصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم، فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل له من توبة ؟ فنزلت " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " إلى قوله: " غفور رحيم " [ آل عمران: 89 ] فأرسل إليه فأسلم. أخرجه النسائي. وفي رواية: أن رجلا من الانصار ارتد فلحق بالمشركين، فأنزل الله " كيف يهدي الله قوما كفروا " إلى قوله: " إلا الذين تابوا " [ آل عمران: 89 ] فبعث بها قومه إليه، فلما قرئت عليه قال: والله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أكذبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، والله عزوجل أصدق الثلاثة، فرجع تائبا، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه. وقال الحسن: نزلت في اليهود لانهم كانوا يبشرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستفتحون على الذين كفروا، فلما بعث عاندوا وكفروا، فأنزل الله عزوجل: " أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " [ آل عمران: 87 ]. ثم قيل: " كيف " لفظة استفهام ومعناه الحجد، أي لا يهدي الله. ونظيره قوله: " كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله " [ التوبة: 7 ] (2) أي لا يكون لهم عهد، وقال الشاعر: كيف نومي على الفراش ولما * يشمل القوم غارة شعواء أي لا نوم لي. (والله لا يهدى القوم الظالمين) يقال: ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما، لا يهديه الله، وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا (1) راجع ج‍ 2 ص 133. (2) راجع ج‍ 8 ص 77. (*)
[ 130 ]
وهداهم الله، وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم. قيل له: معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الاسلام، فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين (87) خلدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89) أي إن داموا على كفرهم. وقد تقدم معنى لعنة الله والناس في " البقرة " (1) فلا معنى لاعادته. (ولاهم ينظرون) أي لا يؤخرون ولا يؤجلون. ثم استثنى التائبين فقال: (إلا الذين تابوا) هو الحارث بن سويد كما تقدم. ويدخل في الاية بالمعنى كل من راجع الاسلام وأخلص. قوله تعالى: إن الذين كفزوا بعد إيمنهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90) قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن: نزلت في اليهود كفروا بعيسى والانجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقال أبوا لعالية: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته " ثم ازدادوا كفرا " بإقامتهم على كفرهم. وقيل: " ازدادوا كفرا " بالذنوب التي اكتسبوها. وهذا اختيار الطبري، وهي عنده في اليهود. (لن تقبل توبتهم " مشكل لقوله: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات " [ الشورى: 25 ] (2) فقيل: المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال عزوجل: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان " [ النساء: 18 ]. (3) وروي عن الحسن وقتادة وعطاء. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله (1) راجع ج‍ 2 ص 188. (2) راجع ج‍ 16 ص 25. (3) راجع ج‍ 5 ص 90. (*)
[ 131 ]
يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) (1). وسيأتي في " النساء " بيان هذا المعنى. وقيل: " لن تقبل توبتهم " التي كانوا عليها قبل أن يكفروا، لان الكفر قد أحبطها. وقيل: " لن تقبل توبتهم " إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر، وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الاسلام. وقال قطرب. هذه الاية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا. فأنزل الله تعالى: " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم " أي لن تقبل. توبتهم وهم مقيمون على الكفر، فسماها توبة غير مقبولة، لانه لم يصح من القوم عزم، والله عزوجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم. قوله تعالى: إن الذين كفروا وما توا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم مل ء الارض ذهبا ولو افتدى به اولئك لهم عذاب أليم وما لهم من نصرين (91) الملء (بالكسر) مقدار ما يملا الشئ، والمل ء (بالفتح) مصدر ملات الشئ، ويقال: أعطني ملاه وملايه وثلاثة أملائه. والواو في " لو افتدى به " قيل: هي مقحمة زائدة، المعنى: فلن يقبل من أحدهم مل ء الارض ذهبا لو افتدى به. وقال أهل النظر من النحويين: لا يجوز أن تكون الواو مقحمة لانها تدل على معنى. ومعنى الاية: فلن يقبل من أحدهم مل ء الارض ذهبا تبرعا ولو افتدى به. و " ذهبا " نصب على التفسير في قول الفراء. قال المفضل: شرط التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم، كقولك عندي عشرون، فالعدد معلوم والمعدود مبهم، فإذا قلت درهما فسرت. وإنما نصب التمييز لانه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، وكان النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه. وقال الكسائي: نصب على إضمار من، أي من ذهب، كقوله: " أو عدل ذلك صياما " [ المائدة: 95 ] (2) أي من صيام. وفي البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالكافر (1) أي ما لم تبلغ حلقومه، فيكون بمنزلة الشئ يتغرغر به المريض، راجع ج‍ 5 ص 92. (2) راجع ج‍ 6 ص 316. (*)
[ 132 ]
يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك مل ء الارض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك). لفظ البخاري. وقال مسلم بدل (قد كنت، كذبت، قد سئلت). قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليهم (92) فيه مسألتان: الاولى - روى الائمة واللفظ للنسائي عن أنس قال: لما نزلت هذه الاية: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قال أبو طلحة: إن ربنا ليسألنا من أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلها في قرابتك في حسان ابن ثابت وأبي بن كعب). وفي الموطأ " وكانت أحب أمواله إليه بئر حاء (1)، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ". وذكر الحديث. ففي هذه الاية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الاية غير ذلك. ألا ترى أبا طلحة حين سمع " لن تنالوا البر حتى تنفقوا " الاية، لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك فإنهم يحبون أشياء كثيرة. وكذلك فعل زيد ابن حارثة، عمد مما يحب إلى فرس يقال له (سبل) وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه، فجاء بها [ إلى ] (2) النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا في سبيل الله. فقال لاسامة بن زيد (اقبضه). فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد قبلها منك). ذكره أسد بن موسى. وأعتق ابن عمر نافعا مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار. قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأول قول الله عزوجل: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ". وروى شبل عن (3) أبي نجيح (1) بئرحاء: مال وموضع كان لابي طلحة بالمدينة. (2) من د، وز. (3) في د: أبن أبى نجيح. (*)
[ 133 ]
عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الاشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء (1) يوم فتح مدائن كسرى، فقال (2) سعد بن أبي وقاص: فدعا بها عمر فأعجبته، فقال إن الله عزوجل يقول: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " فأعتقها عمر رضي الله عنه. وروي عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خيثم قالت: كان إذا جاءه السائل يقول لي: يا فلانة أعطي السائل سكرا، فإن الربيع يحب السكر. قال سفيان: يتأول قوله عزوجل: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ". وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالا من سكر ويتصدق بها. فقيل له: هلا تصدقت بقيمتها ؟ فقال: لان السكر أحب إلي فأردت أن أنفق مما أحب. وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركوا (3) ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون. الثانية - واختلفوا في تأويل " البر " فقيل الجنة، عن ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون والسدي. والتقدير لن تنالوا ثواب البر حتى تنفقوا مما تحبون. والنوال العطاء، من قولك نولته تنويلا أعطيته. ونالني من فلان معروف ينالني، أو وصل إلي. فالمعنى لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون. وقيل: البر العمل الصالح. وفي الحديث الصحيح: (عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة). وقد مضى في البقرة (4). قال عطية العوفي: يعني الطاعة. عطاء: لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء تأملون العيش وتخشون الفقر. وعن الحسن، " حتى تنفقوا " هي الزكاة المفروضة. مجاهد والكلبي: هي منسوخة، نسختها آية الزكاة. وقيل: المعنى حتى تنفقوا مما تحبون في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات، وهذا جامع. وروى النسائي عن صعصعة بن معاوية قال: لقيت أبا ذر قال: قلت حدثني قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مسلم ينفق من كل ماه زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده). قلت: وكيف ذلك ؟ قال: إن كانت إبلا فبعيرين، (1) جلولاء: قرية قرب خانقين - بالعراق - على سبعة فراسخ منها كانت للمسلمين بها وقعة على الفرس. (2) في ب: في قتال سعد. (3) في: ا، وب، وز تدركون. (4) راجع ج‍ 2 ص 243. (*)
[ 134 ]
وإن كانت بقرا فبقرتين. وقال أبو بكر الوراق: دلهم بهذه الاية على الفتوة (1). أي لن تنالوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم والانفاق عليهم من أموالكم وجاهكم، فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي. قال مجاهد: وهو مثل قوله: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا " [ الانسان: 8 ]. (2) (وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم) أي وإذا علم جازى عليه. قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبنى إسرآءيل إلا ما حرم إسرآءيل على نفسه من قبل أن تنزل التورئة قل فأتوا بالتورئة فاتلوها إن كنتم صدقين (93) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظلمون (94). فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (حلا) " حلا " أي حلالا، ثم استثنى فقال: (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) وهو يعقوب عليه السلام. في الترمذي عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا، ما حرم إسرائيل عل نفسه ؟ قال: (كان يسكن البدو فاشتكى عرق (3) النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الابل وألبانها فلذلك حرمها). قالوا: صدقت. وذكر الحديث. ويقال: [ إنه ] (4) نذر إن برأ (5) منه ليتركن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الابل وألبانها. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب عليه السلام من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلا بطشا قويا، فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب عليه السلام، ثم صعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه فهاج عليه (6) عرق النسا، ولقي من (1) الفتوة: يعبر بها عن مكارم الاخلاق. (2) راجع ج‍ 19 ص 125. (3) النسا (بالفتح مقصور): عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ. (4) كذا في ب ود. (5) برأ من المرض (بالفتح) لغة أهل الحجاز. وسائر العرب يقولون: برئت (بالكسر). (6) في ب ود: به. (*)
[ 135 ]
ذلك بلاء شديدا، فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء (1) أي صياح، فحلف يعقوب عليه السلام إن شفاه الله عزوجل ألا يأكل عرقا، ولا يأكل طعاما فيه عرق فحرمها على نفسه، فجعل بنوه يتبعون بعد ذلك العروق فيخرجونها من اللحم. وكان سبب غمز الملك ليعقوب (2) أنه كان نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم (3). فكان ذلك للمخرج من نذره، عن الضحاك. الثانية - واختلف هل كان التحريم من يعقوب باجتهاد منه أو بإذن من الله تعالى ؟ والصحيح الاول، لان الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله تعالى: " إلا ما حرم " وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شئ كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه، كذلك يؤذن له ويجتهد، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه، ولولا تقدم الاذن له في تحريم ذلك ما تسور (4) على التحليل والتحريم. وقد حرم نبينا صلى الله عليه وسلم العسل على الرواية الصحيحة، أو خادمه مارية فلم يقر الله تحريمه ونزل: " لم تحرم ما أحل الله لك " [ التحريم: 1 ] على ما يأتي بيانه في " التحريم " (5). قال الكيا الطبري: فيمكن أن يقال: مطلق قوله تعالى: " لم تحرم ما أجل الله " يقتضي ألا يختص بماريه، وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى، فجعلها مخصوصا بموضع النص، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل مباج وأجراه مجرى اليمين. الثالثة - قوله تعالى: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) قال ابن عباس: لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النسا وصف الاطباء له أن يجتنب لحوم الابل فحرمها على نفسه. فقالت اليهود: إنما نحرم على أنفسنا لحوم الابل، لان يعقوب حرمها وأنزل الله تحريمها في التوراة، فأنزل الله هذه الاية. قال الضحاك: فكذبهم الله ورد عليهم فقال: يا محمد " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فلم يأتوا. فقال عزوجل: (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) قال الزجاج: في هذه الاية (1) في ز وا: رغاء، والتصحيح من ب، ود وح‍ وه‍ وج. (2) في ب ود، وفى الاصول الاخرى: غمز الملك فخذه. (3) في د: أحدهم. (4) تسور: هجم. (5) راجع ج‍ 18 ص 177. (*)
[ 136 ]
أعظم دلالة لنبوة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم، أخبرهم أنه ليس في كتابهم، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا، يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي. وقال عطية العوفي: إنما كان ذلك حراما عليهم بتحريم يعقوب ذلك عليهم. وذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، ولم يكن ذلك محرما عليهم. وقال الكلبي: لم يحرمه الله عزوجل في التوراة عليهم وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا، أو صب عليهم رجزا وهو الموت، فذلك قوله تعالى: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " [ النساء: 160 ] (1) الاية. وقوله: " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " الاية - إلى قوله: " ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون " [ الانعام: 146 ] (2). الرابعة - ترجم ابن ماجة في سننه " دواء عرق النسا " حدثنا هشام بن عمار وراشد ابن سعيد الرملي قالا حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا هشام بن حسان حدثنا أنس بن سيرين أنه سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (شفاء عرق النسا ألية شاة [ أعرابية ] (3) تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء). وأخرجه الثعلبي في تفسيره أيضا من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرق النسا: (تؤخذ ألية كبش عربي لا صغير ولا كبير فتقطع صغارا فتخرج إهالته (4) فتقسم ثلاثة أقسام في كل يوم على ريق النفس ثلثا) قال أنس: فوصفته لاكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى. شعبة: حدثني شيخ في زمن الحجاج بن يوسف في عرق النسا: أقسم لك بالله الاعلى لئن لم تنته لاكوينك بنار أو لاحلقنك بموسى. قال شعبة: قد جربته، تقوله، وتمسح على ذلك الموضع. قوله تعالى: قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95) (1) راجع ج‍ 6 ص 12. (2) راجع ج‍ 7 ص 127. (3) زيادة عن سنن ابن ماجه. (4) الاهالة (بالكسر): الشحم المذاب، أو كل ما اؤتدم به من الادهان. (*)
[ 137 ]
أي قل يا محمد صدق الله. إنه لم يكن ذلك في التوراة محرما. (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا) أمر باتباع دينه. (وما كان من المشركين) رد عليهم في دعواهم الباطل كما تقدم. قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعلمين (96) فيه ءايت بينت مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العلمين (97) فيه خمس مسائل: الاولى - ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الارض قال: (المسجد الحرام). قلت: ثم أي ؟ قال: (المسجد الاقصى). قلت: كم بينهما ؟ قال: (أربعون عاما ثم الارض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل). قال مجاهد وقتادة: لم يوضع قبله بيت. قال علي رضي الله عنه: كان قبل البيت بيوت كثيرة، والمعنى أنه أول بيت وضع للعبادة. وعن مجاهد قال: تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لانه مهاجر (1) الانبياء وفي الارض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الاية. وقد مضى في البقرة (2) بنيان البيت وأول من بناه. قال مجاهد: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الارض بألفي سنة، وأن قواعده لفي الارض السابعة السفلى. وأما المسجد الاقصى فبناه سليمان عليه السلام، كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة [ سأل الله عزوجل ] (3) حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عزوجل ملكا (1) المهاجر (بفتح الجيم): موضع المهاجرة. (2) راجع ج‍ 2 ص 120. (3) زيادة عن سنن النسائي. (*)
[ 138 ]
لا ينبغي لاحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عزوجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه (1) إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه). فجاء إشكال بين الحديثين، لان بين إبراهيم وسليمان آمادا طويلة. قال أهل التواريخ: أكثر من ألف سنة. فقيل: إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما. وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدم. فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكل محتمل. والله أعلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الارض وأن يطوفوا به، وكان هذا قبل خلق آدم، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به، ثم الانبياء بعده، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام. الثانية - قوله تعالى: (للذي ببكة) خبر " إن " واللام توكيد. و " بكة " موضع البيت، ومكة سائر البلد، عن مالك بن أنس. وقال محمد بن شهاب: بكة المسجد، ومكة الحرم كله، تدخل فيه البيوت. قال مجاهد: بكة هي مكة. فالميم على هذا مبدلة من الباء، كما قالوا: طين لازب ولازم. وقاله الضحاك والمؤرج. ثم قيل: بكة مشتقة من البك وهو الازدحام. تباك القوم ازدحموا. وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم. والبك دق العنق. وقيل: سميت بذلك لانها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم. قال عبد الله بن الزبير: لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وقصه (2) الله عزوجل. وأما مكة فقيل: إنها سميت بذلك [ لقلة (3) مائها وقيل: سميت بذلك ] لانها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة من قولهم: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه. ومك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه، قال الشاعر: * مكت فلم تبق في أجوافها دررا * وقيل: سميت بذلك لانها تمك من ظلم فيها، أي تهلكه وتنقصه. وقيل: سميت بذلك لان الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها، من قوله: " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء (1) النهز: الدفع. (2) الوقص: الكسر والدق. (3) الزيادة في د. (*)
[ 139 ]
وتصدية " [ الانفال: 35 ] (1) أي تصفيقا وتصفيرا. وهذا لا يوجبه التصريف، لان " مكة " ثنائي مضاعف و " مكاء " ثلاثي معتل. الثالثة - قوله تعالى: (مباركا) جعله مباركا لتضاعف العمل فيه، فالبركة كثرة الخير، ونصب على الحال من المضمر في " وضع " أو بالظرف من " بكة " المعنى: الذي استقر " ببكة مباركا " ويجوز في غير القرآن " مبارك "، على أن يكون خبرا ثانيا، أو على البدل من الذي، أو على إضمار مبتدأ. (وهدى للعالمين) عطف عليه، ويكون بمعنى وهو هدى للعالمين. ويجوز في غير القرآن " مبارك " بالخفض يكون نعتا للبيت. الرابعة - قوله تعالى: (فيه آيات بينات) رفع بالابتداء أو بالصفة. وقرأ أهل مكة وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير " آية بينة " على التوحيد، يعني مقام إبراهيم وحده. قالوا: أثر قدميه في المقام آية بينة. وفسر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله، فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة والركن والمقام. والباقون بالجمع. أرادوا مقام إبراهيم والحجر الاسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها. قال: أبو جعر النحاس: من قرأ " آيات بينات " فقراءته أبين، لان الصفا والمروة من الايات، ومنها أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا، ومنها أن الجارج (2) يطلب الصيد فإذا دخل الحرم تركه، ومنها أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذ عم البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها أن الجمار على ما يزاد عليها ترى (3) على قدر واحد. والمقام من قولهم: قمت مقاما، وهو الموضع الذي يقام فيه. والمقام من قولك: أقمت مقاما. وقد مضى هذا في البقرة (4)، ومضى الخلاف أيضا في المقام والصحيح منه. وارتفع المقام على الابتداء والخبر محذوف، والتقدير منها مقام إبراهيم، قاله الاخفش. وحكى عن محمد بن يزيد أنه قال: " مقام " بدل من " آيات ". وفيه قول ثالث بمعنى هي مقام إبراهيم. وقول الاخفش معروف في كلام العرب. كما قال زهير: (1) راجع ج‍ 7 ص 400. (2) في د: أن الحاج يتبع، والصواب ما أثبتناه من ز، وب. (3) في ز: على ما يراد منها ترمى. (4) راجع ج‍ 2 ص 112. (*)
[ 140 ]
لها متاع وأعوان غدون به * قتب (1) وغرب إذا ما أفرغ انسحقا أي مضى وبعد سيلانه. وقول أبي العباس: إن مقاما بمعنى مقامات، لانه مصدر. قال الله تعالى: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " [ البقرة: 7 ] (2). وقال الشاعر: * إن العيون التي في طرفها مرض * (3) أي في أطرافها. ويقوي هذا الحديث المروي (الحج [ كله ] (4) مقام إبراهيم). الخامسة - قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) قال قتادة: ذلك أيضا من آيات الحرم. قال النحاس: وهو قول حسن، لان الناس كانوا يتخطفون من حواليه، ولا يصل إليه جبار، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب، ولم يوصل إلى الحرم. قال الله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " [ الفيل: 1 ] (5). وقال بعض أهل المعاني: صورة الاية خبر ومعناها أمر، تقديرها ومن دخله فأمنوه، كقوله: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " [ البقرة: 197 ] (6) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. ولهذا المعنى قال الامام السابق النعمان بن ثابت: من اقترف ذنبا واستوجب به حدا ثم لجأ إلى الحرم عصمه، [ لقوله تعالى: ] " ومن دخله كان آمنا "، فأوجب الله سبحانه الامن لمن دخله. وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وغيره من الناس. قال ابن العربي: " وكل من قال هذا فقد وهم من جهتين: إحداهما أنه لم يفهم من الاية أنها خبر عما مضى، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل، الثاني أنه لم يعلم أن ذلك الامن قد ذهب وأن القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره، فدل ذلك على أنه كان في الماضي هذا. وقد ناقض أبو حنيفة فقال، إذا لجأ إلى الحرم لا يطعم ولا يسقى ولا يعامل ولا يكلم حتى يخرج، فاضطراره (7) إلى الخروج ليس يصح معه أمن. وروي عنه أنه قال: يقع القصاص في الاطراف في الحرم ولا أمن أيضا مع هذا ". (1) قوله: لها متاع، أي لهذه الناقة التى يستقى عليها. والقتب (بالكسر): جميع أداة السانية من أعلاقها وحبالها. والسانية: ما يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره. والغرب: الدلو العظيمة. (2) راجع ج‍ 1 ص 185. (3) البيت لجرير، والذي في الديوان: في طرفها حور. (4) في دوز وه‍. هذا من قول سعيد ابن جبير كما في تفسير ابن كثير وفيه توجيه ج‍ 3 ص 191. (5) ج 20 ص 187. (6) ج‍ 2 ص 407. (7) في دوز: فاضطره، وفى الاصول الاخرى: فاضطروه، والتصحيح من ابن العربي. (*)
[ 141 ]
والجمهور من العلماء على أن الحدود تقام في الحرم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل (1) وهو متعلق بأستار الكعبة قلت: وروى الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس: من أصاب حدا [ في الحرم ] (2) أقيم عليه فيه، وإن أصابه في الحل ولجأ إلى الحرم لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد، وهو قول الشعبي. فهذه حجة الكوفيين، وقد فهم ابن عباس ذلك من معنى الاية، وهو حبر الامة وعالمها. والصحيح أنه قصد بذلك تعديد النعم على كل من كان بها جاهلا ولها منكرا من العرب، كما قال تعالى: " أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " [ العنكبوت: 67 ] (3) فكانوا في الجاهلية من دخله ولجأ إليه أمن من الغارة والقتل، على ما يأتي بيانه في " المائدة " (4) إن شاء الله تعالى. قال قتادة: ومن دخله في الجاهلية كان آمنا. وهذا حسن. وروي أن بعض الملحدة قال لبعض العلماء: أليس في القرآن " ومن دخله كان آمنا " فقد دخلناه وفعلنا كذا وكذا فلم يأمن من كان فيه ! قال له: ألست من العرب ! ما الذي يريد القائل من دخل داري كان (5) آمنا ؟ أليس أن يقول لمن أطاعه: كف عنه فقد أمنته وكففت عنه ؟ قال: بلى. قال: فكذلك قوله " ومن دخله كان آمنا ". وقال يحيى بن جعدة: معنى " ومن دخله كان آمنا " يعني من النار. قلت: وهذا ليس على عمومه، لان في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري حديث الشفاعة الطويل (فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لاخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم) الحديث. وإنما يكون آمنا من النار من دخله لقضاء النسك معظما له عارفا بحقه متقربا إلى الله تعالى. قال جعفر الصادق: من دخله على الصفاء (1) ابن حطل (بالتحريك) هو عبد الله بن خطل. رجل من بنى تيم بن غالب، وإنما أمر بقتله لانه كان مسلما فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الانصار وكان معه مولى يخدمه مسلما فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا فيصنع له طعاما فنام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد. راجع الطبري وابن هشام. (2) من دوز. (3) راجع ج‍ 13 ص 363. (4) راجع ج‍ 6 ص 325. (5) في د: فهو آمن. (*)
[ 142 ]
كما دخله الانبياء والاولياء كان آمنا من عذابه. وهذا معنى قوله عليه السلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الاخرة. وأنشد: يا كعبة الله دعوة اللاجي * دعوة مستشعر ومحتاج ودع أحبابه ومسكنه * فجاء ما بين خائف راجي (1) إن يقبل الله سعيه كرما * نجا، وإلا فليس بالناجي وأنت ممن ترجى شفاعته * فأعطف على وافد بن حجاج وقيل: المعنى ومن دخله عام عمرة القضاء مع محمد صلى الله عليه وسلم كان آمنا. دليله قوله تعالى: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " [ الفتح: 27 ] (2). وقد قيل: إن " من " ها هنا لمن لا يعقل، والاية في أمان الصيد، وهو شاذ، وفي التنزيل: " فمنهم من يمشي على بطنه " [ النور: 45 ] (3) الاية. قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) فيه تسع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولله) اللام في قوله " ولله " لام الايجاب والالزام، ثم أكده بقوله تعالى: (على) التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: لفلان على كذا، فقد وكده وأوجبه. فذكر الله تعالى الحج [ بأبلغ ] (4) ألفاظ الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته. ولا خلاف في فريضته (5)، وهو أحد قواعد الاسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر. وقال بعض الناس: يجب في كل خمسة أعوام [ مرة ] (6)، ورووا في ذلك حديثا أسندوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث باطل لا يصح، والاجماع صاد في وجوههم. قلت: وذكر عبد الرزاق قال: حدثنا سفيان [ الثوري ] (7) عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الرب عزوجل إن عبدا أوسعت عليه في الرزق فلم يعد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم) مشهور من حديث العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي من أولاد المحدثين، روى عنه غير واحد، منهم من قال: في كل خمسة أعوام، (1) في د: ما بين خائفه والراجي. (2) راجع ج‍ 16 ص 289. (3) راجع ج‍ 12 ص 291 (4) في دو ب وزو ه‍. وفى أ: بأوك. (5) في دوب: فرضيته. (6) في ب ود. (7) في د. (*)
[ 143 ]
ومنهم من قال: عن العلاء عن يونس بن خباب (1) عن أبي سعيد، في غير ذلك من الاختلاف. وأنكرت الملحدة الحج، فقالت: إن فيه تجريد الثياب وذلك يخالف الحياء، والسعي وهو يناقض الوقار، ورمي الجمار لغير مرمى وذلك يضاد العقل، فصاروا إلى أن هذه الافعال كلها باطلة، إذ لم يعرفوا لها حكمة ولا علة، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد، أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليه الامتثال، ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود. ولهذا المعنى كان عليه السلام يقول في تلبيته: (لبيك حقا حقا تعبدا ورقا لبيك إله الحق). وروى الائمة عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا). فقال رجل: كل عام يا رسول الله ؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه) لفظ مسلم. فبين هذا الحديث أن الخطاب إذا توجه على المكلفين بفرض أنه يكفي منه فعل مرة ولا يقتضي التكرار، خلافا للاستاذ أبي إسحق الاسفراييني وغيره. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه: يا رسول الله، أحجنا لعامنا هذا أم للابد ؟ فقال: (لا بل للابد). وهذا نص في الرد على من قال: يجب في كل خمس سنين مرة. وقد كان الحج معلوما عند العرب مشهورا لديهم، وكان مما يرغب فيه لاسواقها وتبررها (2) وتحنفها، فلما جاء الاسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا. وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا، حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، ونحن الحمس (3). حسب ما تقدم بيانه في " البقرة " (4). قلت: من أغرب ما رأيته أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل الهجرة مرتين وأن الفرض سقط عنه بذلك، لانه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له: " وأذن في الناس (1) في أ: ابن حبان، والتصويب من دو ز وب. (2) التبرر: الطاعة، وفى أ: نجيعها: طلب الكلا. في د: تحنفها. (3) الخمس جمع الاحمس، وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس، سموا حمسا لانهم محمسوا في دينهم، أي تشددوا. (4) راجع ج‍ 2 ص 345. (*)
[ 144 ]
بالحج " [ الحج: 27 ] (1). قال الكيا الطبري: وهذا بعيد، فإنه إذا ورد في شرعه: " ولله على الناس حج البيت " فلا بد من وجوبه عليه بحكم الخطاب في شرعه. ولئن قيل: إنما خاطب من لم يحج، كان تحكما وتخصيصا لا دليل عليه، ويلزم عليه ألا يجب بهذا الخطاب على من حج على دين إبراهيم، وهذا في غاية البعد. الثانية - ودل الكتاب والسنة على أن الحج على التراخي لا على الفور، وهو تحصيل مذهب مالك فيما ذكر ابن خويز منداد، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن وأبي يوسف في رواية عنه. وذهب بعض البغداديين من المتأخرين من المالكيين إلى أنه على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة عليه، وهو قول داود. والصحيح الاول، لان الله تعالى قال في سورة الحج: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا " [ الحج: 27 ] وسورة الحج مكية (2). وقال تعالى: " ولله على الناس حج البيت " الاية. وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر. أما السنة فحديث ضمام بن ثعلبة السعدي من بني سعد بن بكر قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الاسلام فذكر الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج. رواه ابن عباس وأبو هريرة وأنس، وفيها كلها ذكر الحج، وأنه كان مفروضا، وحديث أنس أحسنها سياقا وأتمها. واختلف في وقت قدومه، فقيل: سنة خمس. وقيل: سنة سبع. وقيل: سنة تسع، ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي عام الخندق بعد انصراف الاحزاب. قال ابن عبد البر: ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حج من بعد أعوام من حين استطاعته فقد أدى الحج الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه. ولا كمن أفسد حجه فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاض لما وجب عليك، علمنا أن وقت الحج موسع فيه وأنه على التراخي لا على الفور. قال أبو عمر: كل من قال بالتراخي لا يحد في ذلك حدا، إلا ما روي عن سحنون وقد سئل عن الرجل (1) راجع ج‍ 12 ص 37. (2) والصحيح أن سورة الحج مدنية بدليل آية الجهاد، سيأتي في ج‍ 12 من هذا التفسير. (*)
[ 145 ]
يجد ما يحج به فيؤخر ذلك إلى سنين كثيرة مع قدرته على ذلك هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته ؟ قال: لا وإن مضى من عمره ستون سنة، فإذا زاد على الستين فسق وردت شهادته. وهذا توقيف وحد، والحدود في الشرع لا تؤخذ إلا عمن له أن يشرع. قلت: وحكاه ابن خويز منداد عن ابن القاسم. قال ابن القاسم وغيره: إن أخره ستين سنة لم يخرج (1)، وإن أخره بعد الستين حرج، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقل من يتجاوزها) فكأنه في هذا العشر قد يتضايق عليه الخطاب. قال أبو عمر: وقد احتج بعض الناس [ كسحنون ] (2) بقوله صلى الله عليه وسلم: (معترك أمتي بين الستين إلى السبعين وقل من يجاوز ذلك). ولا حجة فيه، لانه كلام خرج على الاغلب من أعمار أمته لو صح الحديث. وفيه دليل على التوسعة إلى السبعين لانه من الاغلب أيضا، ولا ينبغي أن يقطع بتفسيق من صحت عدالته وأمانته بمثل هذا من التأويل الضعيف. وبالله التوفيق. الثالثة - أجمع العلماء على أن الخطاب بقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) عام في جميعهم مسترسل على جملتهم. قال ابن العربي: " وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات بيد أنهم اتفقوا على حمل هذه الاية على جميع الناس ذكرهم وأنثاهم، خلا الصغير فإنه خارج بالاجماع عن أصول التكليف، وكذلك العبد لم يدخل فيه، لانه أخرجه عن مطلق العموم قوله تعالى [ في (2) التمام ]: " من استطاع إليه سبيلا " والعبد غير مستطيع، لان السيد يمنعه لحقوقه عن هذه العبادة. وقد قدم الله سبحانه حق السيد على حقه رفقا بالعباد ومصلحة لهم. ولا خلاف فيه بين الامة ولا بين الائمة، فلا نهرف (3) بما لا نعرف، ولا دليل عليه إلا الاجماع. قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم إلا من شذ منهم ممن لا يعد خلافا، على أن الصبي إذا حج في حال صغره، والعبد إذا حج في حال رقه، ثم بلغ الصبي وعتق العبد إن عليهما حجة الاسلام إذا وجدا إليها سبيلا. وقال أبو عمر: خالف داود جماعة فقهاء الامصار وأئمة الاثر في المملوك وأنه عنده مخاطب بالحج، وهو عند جمهور العلماء خارج من الخطاب العام في قوله تعالى: " ولله على (1) حرج (من باب علم): أثم. (2) في دوب. (3) الهرف: شبه الهذيان من الاعجاب بالشئ. في دوب: لا يهرف، بالبناء للمجهول. (*)
[ 146 ]
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " بدليل عدم التصرف، وأنه ليس له أن يحج بغير إذن سيده، كما خرج من خطاب الجمعة وهو قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة " [ الجمعة: 9 ] (1) الاية - عند عامة العلماء إلا من شذ. وكما خرج من خطاب إيجاب الشهادة، قال الله تعالى: " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " [ البقرة: 282 ] (2) فلم يدخل في ذلك العبد. وكما جاز خروج الصبي من قوله: " ولله على الناس حج البيت " وهو من الناس بدليل رفع القلم عنه. وخرجت المرأة من قوله: " يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة " وهي ممن شمله اسم الايمان، وكذلك خروج العبد من الخطاب المذكور. وهو قول فقهاء الحجاز والعراق والشام والمغرب، ومثلهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب. فإن قيل: إذا كان حاضر المسجد الحرام وأذن له سيده فلم لا يلزمه الحج ؟ قيل له: هذا سؤال على الاجماع وربما لا يعلل ذلك، ولكن إذا ثبت هذا الحكم على الاجماع استدللنا به على أنه لا يعتد بحجه في حال الرق عن حجة الاسلام، وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما صبي حج ثم أدرك فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى). قال ابن العربي. " وقد تساهل بعض علمائنا فقال: إنما لم يثبت الحج على العبد وإن أذن له السيد لانه كان كافرا في الاصل ولم يكن حج الكافر معتدا به، فلما ضرب عليه الرق ضربا مؤبدا لم يخاطب بالحج، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه فاعلموه: أحدها - أن الكفار عندنا مخاطبون بفروع الشريعة، ولا خلاف فيه في قول مالك. الثاني: أن سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقا، ولو فعلها في حال كفره لم يعتد بها، فوجب أن يكون الحج مثلها. الثالث - أن الكفر قد ارتفع بالاسلام فوجب ارتفاع حكمه. فتبين أن المعتمد ما ذكرناه من تقدم حقوق السيد). والله الموفق. الرابعة - قوله تعالى: (من استطاع إليه سبيلا) " من " في موضع خفض على بدل البعض من الكل، هذا قول أكثر النحويين. وأجاز الكسائي أن يكون " من " في موضع رفع بحج، التقدير أن يحج البيت من. وقيل هي شرط. و " استطاع " في موضع جزم، والجواب (1) راجع ج‍ 18 ص 97. (2) راجع ج‍ 3 ص 398. (*)
[ 147 ]
محذوف، أي من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله الحج كل عام ؟ قال: (لا بل حجة) ؟ قيل: فما السبيل، قال: (الزاد والراحلة). ورواه عن أنس وابن مسعود وابن عمر وجابر وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) قال فسئل عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تجد ظهر بعير). وأخرج حديث ابن عمر أيضا ابن ماجه في سننه، وأبو عيسى الترمذي في جامعه وقال: " حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج. وإبراهيم (1) بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه. وأخرجاه عن وكيع والدارقطني عن سفيان بن سعيد قالوا: حدثنا إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج ؟. قال: (الزاد والراحلة) قال: يا رسول الله، فما الحاج ؟ قال: (الشعث التفل) (2). وقام آخر فقال: يا رسول الله وما الحج ؟ قال: (العج والثج). قال وكيع: يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البدن، لفظ ابن ماجه. وممن قال إن الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد. وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن حبيب، وذكر عبدوس (3) مثله عن سحنون. قال الشافعي: الاستطاعة وجهان: أحدهما: أن يكون مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج. والثاني: أن يكون معضوبا (4) في بدنه لا يثبت على مركبه وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وبغير أجرة، على ما يأتي بيانه. أما المستطيع ببدنه فإنه يلزمه فرض الحج بالكتاب بقوله عزوجل: " من استطاع إليه سبيلا ". وأما المستطيع بالمال فقد لزمه فرض الحج بالسنة بحديث الخثعمية على ما يأتي. وأما المستطيع بنفسه وهو القوي الذي لا تلحقه مشقة غير محتملة (1) هو أحد رجال سند حديث ابن عمر. (2) الشعث: متلبد الشعر. والتفل: الذي قد ترك استعمال الطيب. (3) في ب: " ابن عبدوس ". (4) المعضوب: الزمن الذي لا حراك به. (*)
[ 148 ]
في الركوب على الراحلة، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما سقط عنه فرض الحج، فإن كان قادرا على المشي مطيقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة أو نحوهما فالمستحب له أن يحج ماشيا رجلا كان أو امرأة. قال الشافعي: والرجل أقل عذرا من المرأة لانه أقوى. وهذا عندهم على طريق الاستحباب لا على طريق الايجاب، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج لانه يصير كلا على الناس. وقال مالك بن أنس رحمه الله: إذا قدر على المشي ووجد الزاد فعليه فرض الحج، وإن لم يجد الراحلة وقدر على المشي نظر، فإن كان مالكا للزاد وجب عليه فرض الحج، وإن لم يكن مالكا للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق نظر أيضا، فإن كان من أهل المروءات ممن لا يكتسب بنفسه لا يجب عليه، وإن كان ممن يكتسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج، وهكذا إن كانت عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج. وكذلك أوجب مالك على المطيق المشي الحج، وإن لم يكن معه زاد وراحلة. وهو قول عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة. وقال الضحاك: إن كان شابا قويا صحيحا ليس له مال فعليه أن يؤجر نفسه بأكله أو عقبه (1) حتى يقضي حجه. فقال له مقاتل: كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال: لو أن لاحدهم ميراثا بمكة أكان تاركه ؟ ! بل ينطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج. واحتج هؤلاء بقوله عزوجل: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا " (2) أي مشاة. قالوا: ولان الحج من عبادات الابدان من فرائض الاعيان، فوجب ألا يكون الزاد من شروط وجوبها ولا الراحلة كالصلاة والصيام. قالوا: ولو صح حديث الخوزي الزاد والراحلة لحملناه على عموم الناس والغالب منهم في الاقطار البعيدة. وخروج مطلق الكلام على غالب الاحوال كثير في الشريعة وفي كلام العرب وأشعارها. وقد روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب عن مالك أنه سئل عن هذه الاية فقال: الناس في ذلك (1) كذا في جميع الاصل ولعل المراد الولد ينتفع بأجر عمله. فليتأمل. وفى البحر لابي حبان: "... بأكله حتى... ". (2) راجع ج‍ 12 ص 37. (*)
[ 149 ]
على قدر طاقتهم ويسرهم وجلدهم. قال أشهب لمالك: أهو الزاد والراحلة ؟. قال: لا والله، ما ذاك إلا على قدر طاقة الناس، وقد يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه. إذا وجدت الاستطاعة وتوجه فرض الحج يعرض ما يمنع منه كالغريم يمنعه عن الخروج حتى يؤدى الدين، ولا خلاف في ذلك. أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه، لان هذا الانفاق فرض على الفور، والحج فرض على التراخي، فكان تقديم العيال أولى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت). وكذلك الابوان يخاف الضيعة عليهما وعدم العوض في التلطف بهما، فلا سبيل له إلى الحج، فإن منعاه لاجل الشوق والوحشة فلا يلتفت إليه. والمرأة يمنعها زوجها، وقيل لا يمنعها. والصحيح المنع، لاسيما إذا قلنا إن الحج لا يلزم على الفور. والبحر لا يمنع الوجوب إذا كان غالبه السلامة - كما تقدم بيانه في البقرة (1) - ويعلم من نفسه أنه لا يميد (2). فإن كان الغالب عليه العطب أو الميد حتى يعطل الصلاة فلا. وإن كان لا يجد موضعا لسجوده لكثرة الراكب وضيق المكان فقد قال مالك: إذا لم يستطع الركوع والسجود إلا على ظهر أخيه فلا يركبه. ثم قال: أيركب حيث لا يصلي ! ويل لمن ترك الصلاة ! ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الانفس أو يطلب من الاموال ما لم يتحدد بحد مخصوص أو يتحدد بقدر مجحف. وفي سقوطه بغير المجحف خلاف. وقال الشافعي: لا يعطى حبة ويسقط فرض الحج. ويجب على المتسول إذا كانت تلك عادته وغلب على ظنه أنه يجد من يعطيه. وقيل لا يجب، على ما تقدم من مراعاة الاستطاعة. إذا زالت الموانع ولم يكن عنده من الناض (3) ما يحج به وعنده عروض فيلزمه أن يبيع من عروضه للحج ما يباع عليه في الدين. وسئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القربة (1) راجع ج‍ 2 ص 195. (2) المائد: الذي يركب البحر فنعثى نفسه من نتن ماء البحر حتى يدار به ويكاد يغشى عليه. (3) الناض: الدراهم والدنانير. (*)
[ 150 ]
ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الاسلام ويترك ولده ولا شئ لهم يعيشون به ؟. قال: نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة. والصحيح القول الاول، لقوله عليه السلام: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) وهو قول الشافعي. والظاهر من مذهبه أنه لا يلزم الحج إلا من له ما يكفيه من النفقة ذاهبا وراجعا - قال في الاملاء - وإن لم يكن له أهل وعيال. وقال بعضهم: لا يعتبر الرجوع لانه ليس عليه كبير مشقة في تركه القيام ببلده، لانه لا أهل له فيه ولا عيال وكل البلاد له وطن. والاول أصوب، لان الانسان يستوحش لفراق وطنه كما يستوحش لفراق سكنه. ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن. قال الشافعي في الام: إذا كان له مسكن وخادم وله نفقة أهله بقدر غيبته يلزمه الحج. وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن، لانه قدمه على نفقة أهله، فكأنه قال بعد هذا كله. وقال أصحابه: يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويكتري مسكنا وخادما لاهله، فإن كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن فيه قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا ؟ قولان: الاول للجمهور وهو الصحيح المشهور، لانه لا خلاف في أنه لو كان له عقار تكفيه غلته لزمه أن يبيع أصل العقار في الحج، فكذلك البضاعة. وقال ابن شريح: لا يلزمه ذلك ويبقي البضاعة ولا يحج من أصلها، لان الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته. فهذا الكلام في الاستطاعة بالبدن والمال. السابعة - المريض والمعضوب، والعضب القطع، ومنه سمي السيف عضبا، وكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه، إذ لا يقدر على شئ. وقد اختلف العلماء في حكمهما بعد إجماعهم أنه لا يلزمهما المسير إلى الحج، لان الحج إنما فرضه على المستطيع إجماعا، والمريض والمعضوب لا استطاعة لهما. فقال مالك: إذا كان معضوبا سقط عنه فرض الحج أصلا، سواء كان قادرا على من يحج عنه بالمال أو بغير المال لا يلزمه فرض الحج. ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج،
[ 151 ]
ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال، بل إن أوصى أن يحج عنه بعد موته حج عنه من الثلث، وكان تطوعا، واحتج بقوله تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى " [ النجم: 39 ] (1) فأخبر أنه ليس له إلا ما سعى. فمن قال: إنه له سعي غيره فقد خالف ظاهر الآية. وبقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت " وهذا غير مستطيع، لان الحج هو قصد المكلف البيت بنفسه ولانها عبادة لا تدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة. وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عزوجل ليدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة الميت والحاج عنه والمنفذ ذلك). خرجه الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد قال حدثنا عمرو (2) بن حصين السدوسي قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر، فذكره. قلت: أبو معشر اسمه نجيح وهو ضعيف عندهم. وقال الشافعي: في المريض الزمن والمعضوب والشيخ الكبير يكون قادرا على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه فهو مستطيع استطاعة ما. وهو على وجهين: أحدهما أن يكون قادرا على مال يستأجر به من يحج عنه فإنه يلزمه فرض الحج، وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روي عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج: جهز رجلا يحج عنك. وإلى هذا ذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن المبارك وأحمد وإسحاق. والثاني أن يكون قادرا على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه، فهذا أيضا يلزمه الحج [ عنه ] (3) عند الشافعي وأحمد وابن راهوية، وقال أبو حنيفة: لا يلزم الحج ببذل الطاعة بحال. استدل الشافعي بما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه قال: (نعم). وذلك في حجة الوداع. في رواية: لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته) ؟ قالت: نعم. قال: (فدين الله أحق أن يقضى). فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها من نفسها له بأن تحج عنه، فإذا وجب ذلك (1) راجع ج‍ 17 ص 114. (2) في ب: عمر بن حفص. (3) في د. (*)
[ 152 ]
بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى. فأما إن بذل له المال دون الطاعة فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله والحج به عن نفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعا. وقال علماؤنا: حديث الخثعمية ليس مقصوده الايجاب وإنما مقصوده الحث على بر الوالدين والنظر في مصالحهما دنيا ؟ ودينا وجلب المنفعة إليهما جبلة وشرعا، فلما رأى من المرأة انفعالا وطواعية ظاهرة ورغبة صادقة في برها بأبيها وحرصا على إيصال الخير والثواب إليه، وتأسفت أن تفوته بركة الحج أجابها إلى ذلك. كما قال للاخرى التي قالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال: (حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته) ؟ قالت: نعم. ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات وإيصال البر والخيرات للاموات، ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدين. وبالاجماع لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه. ومن الدليل على أن الحج في هذا الحديث ليس بفرض على أبيها ما صرحت به هذه المرأة بقولها " لا يستطيع " ومن لا يستطيع لا يجب عليه. وهذا تصريح بنفي الوجوب ومنع الفريضة، فلا يجوز ما انتفى في أول الحديث قطعا أن يثبت في آخره ظنا، يحققه قوله: (فدين الله أحق أن يقضى) فإنه ليس على ظاهره إجماعا، فإن دين العبد أولى بالقضاء، وبه يبدأ إجماعا لفقر الادمي واستغناء الله تعالى، قاله ابن العربي. وذكر أبو عمر بن عبد البر أن حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها. وقال آخرون: فيه اضطراب. وقال ابن وهب وأبو مصعب: هو في حق الولد خاصة. وقال ابن حبيب: جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لا منهض له ولم يحج وعمن مات ولم يحج، أن يحج عنه ولده وإن لم يوص به ويجزئه إن شاء الله تعالى. فهذا الكلام على المعضوب وشبهه. وحديث الخثعمية أخرجه الائمة، وهو يرد على الحسن قوله: إنه لا يجوز حج المرأة عن الرجل. الثامنة وأجمع العلماء على أنه إذا لم يكن للمكلف قوت يتزوده في الطريق لم يلزمه الحج. وإن وهب له أجنبي مالا يحج به لم يلزمه فبوله إجماعا، لما يلحقه من المنة في ذلك. فلو كان رجل وهب لابيه مالا فقد قال الشافعي: يلزمه قبوله، لان ابن الرجل من كسبه ولا منة عليه
[ 153 ]
في ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يلزمه قبوله، لان فيه سقوط حرمة الابوة، إذ يقال: قد جزاه وقد وفاه. والله أعلم. التاسعة - قوله تعالى: (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) قال ابن عباس وغيره: المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا. وقال الحسن البصري وغيره: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وروى الترمذي عن الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا). قال أبو عيسى: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف). وروي نحوه عن أبي أمامة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وعن عبد خير بن يزيد (1) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: (يأيها الناس إن الله فرض عليكم الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا إلا أن يكون به عذر من مرض أو سلطان جائر ألا نصيب له في شفاعتي ولا ورود حوضي). وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده مال يبلغه الحج فلم يحج أو عنده مال تحل فيه الزكاة فلم يزكه سأل عند الموت الرجعة). فقيل يابن عباس إنا كنا نرى هذا للكافرين. فقال: أنا أقرأ عليكم به قرآنا: " يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين " [ المنافقون: 9 - 10 ] (2). قال الحسن بن صالح في تفسيره: فازكي وأحج. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن الآية فقال: (من حج لا يرجو ثوابا أو جلس لا يخاف عقابا فقد كفر به). وروى قتادة عن الحسن قال قال عمر رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الامصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية، فذلك قوله تعالى: " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ". (1) كذا في ب وج‍ ود. وهو الخيوانى الهمداني، وفى ح‍ وا وز، عبد الله بن جبير ولا يصح لان عبد خير هو الذى يروى عن على كما في ابن سعد ج‍ 6 ص 154. (2) راجع ج‍ 18 ص 129. (*)
[ 154 ]
قلت: هذا خرج مخرج التغليظ، ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه، ولا يجزئ أن يحج عنه غيره، لان حج الغير لو أسقط عنه الفرض لسقط عنه الوعيد. والله أعلم. وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه. قوله تعالى: قل يأهل الكتب لم تكفرون بايت الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يأهل الكتب لم تصدون عن سبيل الله من ءامن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغفل عما تعملون (99) قوله تعالى: (قل يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله) أي تصرفون عن دين الله (من آمن). وقرأ الحسن " تصدون " بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان: صد وأصد، مثل صل اللحم وأصل إذا أنتن، وخم وأخم أيضا إذا تغير. (تبغونها عوجا) تطلبون لها، فحذف اللام، مثل " وإذا كالوهم " [ المطففين: 3 ] (1). يقال: بغيت له كذا أي طلبته. وأبغيته كذا أي أعنته. والعوج: الميل والزيغ (بكسر العين) في الدين والقول والعمل وما خرج عن طريق الاستواء. و (بالفتح) في الحائط والجدار وكل شخص قائم، عن أبي عبيدة وغيره. ومعنى قوله تعالى: " يتبعون الداعي لا عوج (2) له " [ طه: 108 ] أي لا يقدرون أن يعوجوا عن (3) دعائه. وعاج بالمكان وعوج أقام ووقف. والعائج الواقف، قال الشاعر: هل انتم عائجون بنا لعنا (4) * نرى العرصات (5) أو أثر الخيام والرجل الاعوج: السئ الخلق، وهو بن العوج. والعوج من الخيل التي في أرجلها تحنيب (6). والاعوجية من الخيل تنسب إلى فرس كان في الجاهلية سابقا. ويقال: فرس محنب إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فحج، وهو مدح. ويقال: الحنب أعوجاج في الساقين. قال الخليل التحنيب يوصف في الشدة، وليس ذلك باعوجاج. (1) راج ج‍ 19 ص 248. (2) راجع ج‍ 11 ص 246. (3) في ح‍ وا: لا يقدرون بألا يعوجوا عن مكانه. (4) لعنا: لغة في لعل. (5) العرصة: كل بقعة بين الدرر ليس فيها بناء. وعرصة الدا: وسطها. (6) التحنيف: احد يداب في وظيفى الفرس أيضا. (*)
[ 155 ]
قوله تعالى: (وأنتم شهداء) أي عقلاء. وقيل: شهداء أن في التوراة مكتوبا أن دين الله الذي لا يقبل غيره الاسلام، إذ فيه (1) نعت محمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتب يردوكم بعد إيمنكم كفرين (100). نزلت في يهودي أراد تجديد الفتنة بين الاوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجلس بينهم وأنشدهم شعرا قاله أحد الحيين في حربهم. فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شئ، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت. فنادى هؤلاء: يا آل أوس. ونادى هؤلاء. يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الاية، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته انصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون، عن عكرمة وابن زيد وابن عباس. والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الاوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، فأنزل الله عزوجل (يأيها الذين آمنوا) يعنى الاوس والخزرج. (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) يعنى شاسا وأصحابه. (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. قوله تعالى: وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم ءايت الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم (101). (1) في د وب: وأن فيه. (*)
[ 156 ]
قاله تعالى على جهة التعجب (1)، أي (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله) يعني القرآن. (وفيكم رسوله) محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كان بين الاوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية، فذكروا ما كان بينهم فثار بعضمهم على بعض بالسيوف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فذهب إليهم، فنزلت هذه الاية " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله - إلى قوله تعالى: فأنقذكم منها " ويدخل في هذه الاية من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، لان ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لاصحاب محمد خاصة، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه. ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الامة، لان آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتى فينا مكان النبي صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده. وقال قتادة: في هذه الآية علمان ببنان ؟: كتاب الله ونبي الله، فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. (وكيف) في موضع نصب، وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين، واختير لها الفتح لان ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة. قوله تعالى: (ومن يعتصم بالله) أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته. (فقد هدى) وفق وأرشد (إلى صراط مستقيم). ابن جريج " يعتصم بالله " يؤمن به. وقيل: المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله، وهو القرآن. يقال: اعصم به واعتصم، وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره. واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به. وكل متمسك بشئ معصم ومعتصم. وكل مانع شيئا فهو عاصم، قال الفرزدق: أنا ابن العاصمين بني تميم * إذا ما أعظم الحدثان نابا قال النابغة: يظل من خوفه الملاح معتصما * بالخيزرانة بعد الاين والنجد (2) (1) كذا في ب وز وح‍. أي التعجب والانكار كما في الكشاف. (2) الخيزرانة: السكان، وهو ذنب السفينة. والابن: الفترة والاعياء، والنجد (بالتحريك): العرق من عمل أو كرب أو غيره. (*)
[ 157 ]
وقال آخر (1): فأشرط فيها نفسه وهو معصم * وألقى يأسباب له وتوكلا وعصمه الطعام: منع الجوع منه، تقول العرب: عص‍ [ - م فلانا ] (2) الطعام أي منعه من الجوع، فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك. قال أحمد بن يحيى: العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا، وأنشد: فلا تلوميني ولومي جابرا * فجابر كلفني الهواجرا ويسمونه عامرا. وأنشد: أبو مالك يعتادني بالظهائر * يجئ فيلقى رحله عند عامر أبو مالك كنية الجوع. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) فيه مسألة واحدة: روى البخاري (3) عن مرة عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر. وقال ابن عباس: هو ألا يعصى طرفة عين. وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الاية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا ؟ وشق عليهم فأنزل الله عزوجل: " فاتقوا الله ما استطعتم " [ التغابن: 16 ] (4) فنسخت هذه الاية، عن قتادة والربيع وابن زيد. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شئ إلا هذه الاية. وقيل: إن قوله " فاتقوا الله ما استطعتم " بيان لهذه الاية. والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وهذا أصوب (5)، لان النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أولى. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قول الله عزوجل " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " لم تنسخ، ولكن " حق تقاته " أن يجاهد في [ سبيل ] (6) الله حق (1) هو أوس بن حجر. وفى الديوان: فأشرط فيه رأسه... وألقى بأسبات... (2) من د. وفى ج‍: عصمه. (3) في ز، وح‍: النحاس، عن مرة عن يحيى عن عبد الله. (4) راجع ج‍ 18 ص 144. (5) في ز: هذا ضرب أصوب. (6) في د. (*)
[ 158 ]
جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم. قال (1) النحاس: وكلما ذكر في الاية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ. وقد مضى في البقرة معنى قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (2). قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقرا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخونا وكنتم على شفا حفرة من النار فأبقذكم منها كذا يبين الله لكم ءايته لعلكم تهتدون (103). فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (واعتصموا) العصمة المنعة، ومنه يقال للبدرقة: عصمة. والبذرقة: الخفارة للقافلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها. قال ابن خالويه: البذرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب، يقال: بعث السلطان بذرقة مع القافلة. والحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة. والحبل: حبل العاتق (3). والحبل: مستطيل من الرمل، ومنه الحديث (4): والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج، والحبل الرسن. والحبل العهد، قال الاعشى: وإذا تجوزها حبال قبيلة * أخذت من الاخرى إليك حبالها يريد الامان. والحبل الداهية، قال كثير: (5) فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي * بنصح أتى الواشون أم بحبول (1) في د: قاله. (2) راجع ج‍ 2 ص 134. (3) حبل العاتق وصل ما بين العاتق والمنكب. (4) حديث عروة بن مضرص: أتيتك من جبلى طئ. (5) في الاصول: " لبيد ". والتصويد عن اللسان وشرح القاموس مادة " حبل ". (*)
[ 159 ]
والحبالة (1): حبالة الصائد. وكلها ليس مرادا في الاية إلا الذي بمعنى العهد، عن ابن عباس. وقال ابن مسعود: حبل الله القرآن. ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك. وأبو معاوية عن الهجري (2) عن أبي الاحوص عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن هو حبل الله). وروى تقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " قال: الجماعة، روي عنه و [ عن غيره ] (3) من وجوه، والمعنى كله متقارب متداخل، فإن (4) الله تعالى يأمر بالالفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله ابن المبارك حيث قال: إن الجماعة حبل الله فاعتصموا * منه بعروته الوثقى لمن دانا الثانية - قوله تعالى: (ولا تفرقوا) [ يعني في دينكم ] (5) كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم، عن ابن مسعود وغيره. ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والاغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانا، فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر، ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ". وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع، فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب (6) استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون (7). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة) وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وأخرجه أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: (ليأتين على أمتي ما أتى (1) في ج‍: حبال، والتصويب من د، واللسان وغيره. (2) الهجري: بهاء وجيم مفتوحتين، نسبة إلى هجر. وهو إبراهيم بن مسلم العبدي. (عن تهذيب التهذيب). (3) الزيادة في ب. (4) ود: فإن كتاب الله. (5) الزيادة في د. (6) في د: سبب لاستخراج. (7) في د: متواصلون. (*)
[ 160 ]
على بني إسرائيل خذو النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة) قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي). أخرجه من حديث عبد الله بن زياد الافريقي، عن عبد الله بن يزيد عن ابن عمر، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو عمر: وعبد الله الافريقي ثقة وثقه قومه وأثنوا عليه، وضعفه آخرون. وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الاهواء كما يتجارى الكلب (1) بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله). وفي سنن ابن ماجه عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فارق الدنيا على الاخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض). قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الاحاديث واختلاف الاهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله: " فإن تابوا " [ التوبة: 11 ] قال: خلعوا الاوثان وعبادتها " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة " (2)، وقال في آية أخرى: " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " (2). أخرجه عن نصر بن علي الجهضمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس. قال أبو الفرج الجوزي: فإن قيل هذه الفرق معروفة، فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفرق وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها، فقد ظهر لنا من أصول الفرق الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية. وقال بعض أهل العلم: أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة. (1) الكلب (بالتحريك): داء يعرض للانسان من عض الكلب الكلب فيصبه شبه الجنون، فلا يعض أحدا إلا كلب، وتعرض له أعراض رديئة، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشاء. (2) راجع ج‍ 8 ص 74 وص 80. (*)
[ 161 ]
انقسمت الحرورية اثنتي عشرة (1) فرقة، فأولهم الازرقية - قالوا: لا نعلم أحدا مؤمنا، وكفروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم. والاباضية - قالوا: من أخذ بقولنا فهو مؤمن، ومن أعرض عنه فهو منافق (2). والثعلبية - قالوا: إن الله عزوجل لم يقض ولم يقدر. والخازمية - قالوا: لا ندري ما الايمان، والخلق كلهم معذورون. والخلفية - زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر. والكوزية (3) - قالوا: ليس لاحد أن يمس أحدا، لانه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل. والكنزية - قالوا: لا يسع أحدا أن يعطي ماله أحدا، لانه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الارض حتى يظهر أهل الحق. والشمراخية - قالوا: لا بأس بمس النساء الاجانب لانهن (4) رياحين. والاخنسية - قالوا: لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر. والحكمية - قالوا: من حاكم إلى مخلوق فهو كافر. والمعتزلة (5) - قالوا: اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين. والميمونية - قالوا: لا إمام إلا برضا أهل محبتنا. وانقسمت القدرية اثنتي عشرة فرقة: الاحمرية - وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم، ويحول بينهم وبين معاصيهم. والثنوية - وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان. والمعتزلة (5) - وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا [ صفات ] (6) الربوبية. والكيسانية وهم الذين قالوا: لا ندري هذه الافعال من الله أو من العباد، ولا نعلم أثياب ؟ الناس بعد أو يعاقبون. والشيطانية - قالوا: إن الله تعالى لم يخلق الشيطان. والشريكية - قالوا: إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر. والوهمية - قالوا: ليس لافعال الخلق وكلامهم ذات، ولا للحسنة والسيئة ذات. والزبرية (7) - قالوا: كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق، ناسخا كان أو منسوخا. والمسعدية (8) - زعموا (1) لم نعثر في المظان لذكر بعض من الفرق الاتية. (2) الاباضية يقولون: من دان لله بما بلغ إليه من الاسلام وعم به، فهو ناج ما لم يهدم ركنا من الدين أو برتطم في التخطية، وليسوا حرورية. (3) في ج‍ وأ: " الكروية " براء وواو وفى ز: الكدرية. (4) في الاصول: لانهم. (5) كذا في الاصل في الاصول: كلها وليس في غير القدرية معتزلة. (6) الزيادة في: ز. (7) في ب ودو و: ألزبوندية. (8) في د وب ور: المتبرية. (*)
[ 162 ]
أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكثية - زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه والقاسطية - تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله: من زعم أن الله شئ فهو كافر (1). وانقسمت الجهمية اثنتي عشرة فرقة: المعطلة - زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الانسان فهو مخلوق. وإن من أدعى أن الله يرى فهو كافر. والمريسية قالوا: أكثر صفات الله تعالى مخلوقة. والملتزقة - جعلوا الباري سبحانه في كل مكان. والواردية - قالوا لا يدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لم يخرج منها أبدا والزنادقة (2) - قالوا: ليس لاحد أن يثبت لنفسه ربا، لان الاثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس، وما لا يدرك لا يثبت. والحرقية - زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقا أبدا لا يجد حر النار. والمخلوقية - زعموا أن القرآن مخلوق. والفانية - زعموا أن الجنة والنار يفنيان، ومنهم من قال لم يخلقا. والعبدية (3) - جحدوا الرسل وقالوا إنما هم حكماء. والواقفية - قالوا: لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. والقبرية - ينكرون عذاب القبر والشفاعة. واللفظية - قالوا لفظنا بالقرآن مخلوق. وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة: التاركية - قالوا ليس لله عزوجل على خلقه فريضة سوى الايمان به، فمن آمن به فليفعل ما شاء. والسائبية - قالوا: إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاءوا. والراجية - قالوا: لا يسمى الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا، لانا لا ندري ما له عند الله تعالى. والسالبية (4) - قالوا: الطاعة ليست من الايمان. والبهيشية (5) - قالوا: الايمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر. والعملية - قالوا: الايمان عمل. والمنقوصية - قالوا: الايمان لا يزيد ولا ينقص. والمستثنية - قالوا: الاستثناء من الايمان. والمشبهة - قالوا: بصر كبصر ويد كيد (6). والحشوية - قالوا (7): حكم الاحاديث كلها واحد، فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض. والظاهرية - الذين نفوا القياس. والبدعية - أول من ابتدع هذه الاحداث في هذه الامة. (1) في أ: ليس بكافر. (2) في ب، و، د: " الزيارتة ". (3) في ب، د، و: " العيرية ". (4) في د: الشاكية. (5) في ب، و، ز " البيهسية " وفى د: " البيسمية ؟ ". (6) كذا في الاصول، وفيه سقط واضح لعله: قالوا لله بصر. (7) في ب: جعلوا. (*)
[ 163 ]
وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة: العلوية - قالوا: إن الرسالة كانت إلى علي وأن جبريل أخطأ. والامرية - قالوا: إن عليا شريك محمد في أمره. والشيعة - قالوا: إن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه من بعده، وإن الامة كفرت بمبايعة غيره. والاسحاقية - قالوا: إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة، وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي. والناووسية - قالوا: علي أفضل الامة، فمن فضل غيره عليه فقد كفر. والامامية - قالوا: لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين، وإن الامام يعلمه جبريل عليه السلام، فإذا مات بدل غيره مكانه. والزيدية - قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم، برهم وفاجرهم. والعباسية - زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره. والتناسخية - قالوا: الارواح تتناسخ، فمن كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه. والرجعية - زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم. واللاعنة (1) - يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم والمتربصة - تشبهوا بزي النساك ونصبوا في كل عصر رجلا ينسبون إليه الامر، يزعمون أنه مهدي هذه الامة، فإذا مات نصبوا آخر. ثم انقسمت الجبرية اثنتي عشرة فرقة: فمنهم المضطرية (2) - قالوا: لا فعل للآدمي، بل الله يفعل الكل. والافعالية - قالوا: لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل. والمفروغية - قالوا: كل الاشياء قد خلقت، والآن لا يخلق شئ. والنجارية - زعمت أن الله تعالى يعذب الناس على فعله لا على فعلهم. والمنانية - قالوا: عليك بما يخطر بقلبك، فافعل ما توسمت منه الخير. والكسبية - قالوا: لا يكتسب العبد ثوابا ولا عقابا. والسابقية - قالوا: من شاء فليعمل ومن شاء [ ف‍ ] - لا يعمل (3)، فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره. والحبية - قالوا: من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الاركان. والخوفية - قالوا: من أحب الله تعالى لم يسعه أن يخافه، لان الحبيب لا يخاف حبيبه. والفكرية (4) - قالوا: من أزداد علما أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة. (1) في د: اللاعنية. (2) كذا في، وفى الاصول الاخرى المضطربة. (3) كذا في د، وفى غيرها من الاصول: من شاء فليفعل ومن شاء لم يفعل. (4) في ب، ه‍، د، و، وفي ز، ح‍، أ: الفكرية، وفى ج‍: النكرية. وفى د: أسقط. وفى سائر الاصول سقط. (*)
[ 164 ]
والخشبية (1) - قالوا: الدنيا بين العباد سواء، لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم. والمنيه (2) - قالوا: منا الفعل ولنا الا ستطاعة. وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الامة في آخر سورة " الانعام " (3) إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة ! ! فإنما هلكت الامم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله عزوجل يقول: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (4) ويكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال). فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لاهل الكتابين. هذا معنى الاية على التمام، وفيها دليل على صحة الاجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أصول الفقه والله أعلم. قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفاء حفرة من النار فأنقذكم منها). أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الاسلام واتباع نبيه محمد عليه السلام، فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والالفة. والمراد الاوس والخزرج، والاية تعم. ومعنى " فأصبحتم بنعمته إخوانا " أي صرتم بنعمة الاسلام إخوانا في الدين. وكل ما في القرآن " أصبحتم " معناه صرتم، كقوله تعالى: " إن أصبح ماؤكم غورا " [ الملك: 30 ] (5) أي صار غائرا. والاخوان جمع أخ، وسمي أخا لانه يتوخى مذهب أخيه، أي يقصده. وشفاكل شئ حرفه، وكذلك شفيره ومنه قوله تعالى: " على شفا جرف هار " [ التوبة: 109 ] (6). قال الراجز: نحن حفرنا للحجيج سجله (7) * نابتة فوق شفاها بقلة (1) في ج‍ وز: " الحشية " بالحاء المهملة، وفى ب الخشبية. وفى ا: " الحيشية " بالياء المثناة من تحت والشين. وفى د: الحسبية. (2) في ب وه‍ ود وز: " المعبة " بالعين. (3) راجع: ج 7 ص 141 (4) سقط من النسخ: " وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ". (5) راجع ج‍ 18 ص 222. (6) راجع ج‍ 8 ص 264. (7) السجلة: الدلو الضخمة المملوءة ماء. والمراد هنا البئر. (.)
[ 165 ]
وأشفى على الشئ أشرف عليه، ومنه أشفى المريض على الموت. وما بقي منه إلا شفا أي قليل قال ابن السكيت: يقال للرجل عند موته وللقمر عند امحاقه وللشمس عند غروبها: ما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال العجاج: ومربإ عال لمن تشرفا * أشرفته بلا شفى أو بشفى قوله " بلا شفى " أي غابت الشمس. " أو بشفى " وقد بقيت منها بقية. وهو من ذوات الياء، وفيه لغة أنه من الواو. وقال النحاس: الاصل في شفا شفو، ولهذا يكتب بالالف ولا يمال. وقال الاخفش: لما لم تجز فيه الامالة عرف أنه من الواو، ولان الامالة بين الياء، وتثنيته شفوان. قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الايمان. قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) قد مضى القول في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة (1). و " من " في قوله " منكم " للتبعيض، ومعناه أن الامرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء. وقيل: لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك. قلت: القول الاول أصح، فإنه يدل على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله: " الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة " [ الحج: 41 ] (2) الآية. وليس كل الناس مكنوا. وقرأ ابن الزبير: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم " قال أبو بكر الانباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين (3) فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا [ حسن ] (4) بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون (4) عن صبيح قال: سمعت عثمان بن عفان يقرأ " ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم " فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد (5) (1) راجع ص 46. (2) راجع ج‍ 12 ص 72. (3) في ه‍: الغافلين. (4) في ب، د، ه‍ وفيها: أبي عوف. (5) في ب، د، ه‍: لا يعتد. (*)
[ 166 ]
هذه الزيادة من القرآن، إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا. قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينت وأولئك لهم عذاب عظيم. يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الامة. وقال أبو أمامة: هم الحرورية، وتلا الاية. وقال جابر بن عبد الله: (الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " اليهود والنصارى. " جاءهم " مذكر على الجمع، وجاءتهم على الجماعة. قوله تعالى: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتهم بعد إيمنكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوههم فف رحمة الله هم فيها خلدون (107) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وأبيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته أبيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه. ويقال: ذلك عند قوله تعالى: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " [ يس: 59 ] (1). ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون، فيقول الله تعالى للمؤمنين: " من ربكم " ؟ فيقولون: ربنا الله عزوجل فيقول لهم: " أتعرفونه إذا رأيتموه ". فيقولون: سبحانه ! إذا اعترف عرفناه. (2) فيرونه كما شاء الله. (1) راجع ج‍ 15 ص 46. (2) هذه عبارة ابن الاثير، أي إذا وصف نفسه بصفة تحققه بها عرفناه في ب: إذا عرفناه، وفى ه‍: إذا عرفناه. وفى د: إذا رأيناه عرفناه. (*)
[ 167 ]
فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم، وذلك قوله تعالى: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ". ويجوز " تبيض وتسود " بكسر التائين، لانك تقول: ابيضت، فتكسر التاء كما تكسر الالف، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب. وقرأ الزهري " يوم تبياض وتسواد " ويجوز كسر التاء أيضا، ويجوز " يوم يبيض وجوه " بالياء على تذكير الجمع، ويجوز " أجوه " مثل " أقتت ". وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم. واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الاليم. واختلفوا في التعيين، فقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. قلت: وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال: (يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة) ذكره أبو بكر (1) أحمد بن علي بن ثابت الخطيب. وقال فيه: منكر من حديث مالك. قال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والانصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير. وقال أبي بن كعب: الذين أسودت وجوههم هم الكفار، وقيل لهم: أكفرتم بعد إيمانكم لاقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر. هذا اختيار الطبري. الحسن: الاية في المنافقين. قتادة هي في المرتدين. عكرمة: هم (2) قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به، فذلك قوله: " أكفرتم بعد إيمانكم " وهو اختيار الزجاج. مالك بن أنس: هي في أهل الاهواء. أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: هي في الحرورية. وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال: " هي في القدرية ". روى الترمذي عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على باب دمشق (3)، فقال (1) كذا في دوب وهو في ز: أبو بكر محمد. (2) في ه‍ ود: هؤلاء قوم. (3) في صحيح الترمذي: " على درج مسجد دمشق "، في د وه‍: على برج دمشق. (*)
[ 168 ]
أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " إلى آخر الآية. قلت لابي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه. قال: هذا حديث حسن. وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم (1) على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم). قال أبو حازم (2): فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: أهكذا سمعت من سهل بن سعد ؟ فقلت نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: (فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي). وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى). والاحاديث في هذا المعنى كثيرة. فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيع والاهواء والبدع، كل يخاف، عليهم أن يكونوا عنوا بالاية، والحبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الاهواء من هو شر من أهل الاهواء. وكان يقول: تمام الاخلاص تجنب المعاصي. (1) الفرط (بفتحتين): الذي يتقدم الواردين ليصلح لهم الحياض. (2) أبو حازم هو سلمة بن دينار، أحد رجال سند هذا الحديث. (*)
[ 169 ]
الثالثة - قوله تعالى: (فأما الذين اسودت وجوههم) في الكلام حذف، أي فيقال لهم (أكفرتم بعد إيمانكم) يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى. ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال أبوا لعالية: هذا للمنافقين، يقال (1): أكفرتم في السر (2) بعد إقراركم في العلانية. وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب " أما " لان المعنى في قولك: " أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شئ فزيد منطلق ". وقوله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم) هؤلاء أهل طاعة الله عزوجل والوفاء بعهده. (ففى رحمة الله هم فيها خالدون) أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون. جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات. آمين. قوله تعالى: تلك ءايت الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعلمين (108) ولله ما في السموات وما في الارض وإلي الله ترجع الامور (109). قوله تعالى: (تلك آيات الله) ابتداء وخبر، يعني القرآن. (نتلوها عليك) يعني ننزل عليك جبريل فيقرؤها عليك. (بالحق) أي بالصدق. وقال الزجاج: " تلك آيات الله " المذكورة حجج الله ودلائله. وقيل: " تلك " بمعنى هذه ولكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل " تلك " ويجوز أن تكون " آيات الله " بدلا من " تلك " ولا تكون نعتا، لان المبهم لا ينعت بالمضاف. (وما الله يريد ظلما للعمالين) يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب. (ولله ما في السموات وما في الارض) قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الارض [ في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الارض ] (3) له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره. (1) في د وب وه‍: يقول. (2) في د وه‍ وب: مع. (3) الزيادة من نسخ: د. (*)
[ 170 ]
قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو ءامن أهل الكتب لكان خيرا لهم المؤمنون وأكثرهم الفسقون (110) فيه ثلاث مسائل: الاولى - روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال: (أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله). وقال: هذا حديث حسن. وقال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الاسلام. وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية. وقال عمر بن الخطاب: من فعل فعلهم كان مثلهم. وقيل: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل. وهم الشهداء على الناس يوم القيامة، كما تقدم في البقرة (1). وقال مجاهد: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " على الشرائط المذكورة في الاية. وقيل: معناه [ كنتم ] (2) في اللوح المحفوظ. وقيل: كنتم مذ آمنتم خير أمة. وقيل: جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. فالمعنى كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة. وقال الاخفش: يريد أهل أمة، أي خير أهل دين، وأنشد: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع (3) وقيل: هي كان التامة، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة. " فخير أمة " حال. وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة. وأنشد سيبويه: * وجيران لنا كانوا كرام (4) (1) راجع ج‍ 2 ص 154. (2) الزيادة في دوب. (3) البيت النابغة الذبيانى. أمة بالضم. والكسر: ذرامة: ذردين واستقامة، والامة: النعمة. (4) هذا عجز بيت الفرزدق. وصدره: * فكيف إذا رأيت ديار قوم *. (*)
[ 171 ]
ومثله قوله تعالى: " كيف نكلم من كان في المهد (1) صبيا " [ مريم: 29 ]. وقوله: " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " [ الاعراف: 86 ] (2). وقال في موضع آخر: " واذكروا إذ أنتم قليل " (2). وروى سفيان عن ميسرة الاشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال: تجرون الناس بالسلاسل إلى الاسلام. قال النحاس: والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة. وعلى قول مجاهد: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. وقيل: إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة لان المسلمين منهم أكثر، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى. فقيل: هذا لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني) أي الذين بعثت فيهم. الثانية - وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الامة خير الامم، فقد روى الائمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). [ الحديث ] (3) وهذا يدل على أن أول هذه الامة أفضل ممن بعدهم، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل. وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قول عليه السلام: (خير الناس قرني) ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول. وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للايمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الخدود، وقال لهم: ما تقولون في السارق والشارب والزاني. وقال مواجهة لمن هو في قرنه: (لا تسبوا أصحابي). وقال لخالد ابن الوليد في عمار: (لا تسب من هو خير منك) وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي). وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا) قلنا (1) راجع ج‍ 11 ص 101. (2) راجع ج‍ 2 ص 249، وص 394 (3) الزيادة من ه‍ ود وب، في د وب: من كل من يأتي. (*)
[ 172 ]
الملائكة. قال: (وحق لهم بل غيرهم) قلنا الانبياء. قال: (وحق لهم بل غيرهم) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقا فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيمانا). وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال: قلنا يا رسول الله، هل أحد خير منا ؟ قال: (نعم قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني). وقال أبو عمر: وأبو جمعة له صحبة واسمه حبيب بن سباع، وصالح بن جبير من ثقات التابعين. وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أمامكم أياما الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثله عمله) قيل: يا رسول الله، منهم ؟ قال: (بل منكم). قال أبو عمر: وهذه اللفظة " بل منكم " قد سكت عنها بعض المحدثين فلم يذكرها. وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال: من فعل مثل فعلكم كان مثلكم. ولا تعارض بين الاحاديث، لان الاول على الخصوص، والله الموفق. وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب: إن قرنه إنما فضل لانهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الامة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، [ ومما ] (1) يشهد لهذا قوله عليه السلام: (بدأ الاسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء). ويشهد له أيضا حديث أبي ثعلبة، ويشهد له أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره). ذكره أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي، ورواه هشام بن عبيد الله الرازي عن مالك عن الزهري عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره). ذكره الدارقطني في مسند حديث مالك. قال أبو عمر: هشام بن عبيد الله ثقة لا يختلفون في ذلك. وروي أن عمر ابن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب (1) في د وب وه‍. (*)
[ 173 ]
لاعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر لان زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر. قال: وكتب إلى فقهاء زمانه، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم. وقد عارض بعض الجلة من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني) بقوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله). قال أبو عمر: فهذه الاحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الامة وآخرها. والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الايمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين، ويكثر فيه الفسق والهرج، ويذل المؤمن ويعز الفاجر ويعود الدين غريبا كما بدا غريبا ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر، فيستوي حينئذ أول هذه الامة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية، ومن تدبر آثار هذا الباب بأن له الصواب (1)، والله يؤتي فضله من يشاء. الثالثة - قوله تعالى: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) مدح لهذه الامة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم. وقد تقدم الكلام في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة (2). قوله تعالى: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم) أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم خير لهم، وأخبر أن منهم مؤمنا وفاسقا، وأن الفاسق أكثر. قوله تعالى: لن يضروكم إلا أذى وإن يقتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون (111). قوله تعالى: (لن يضروكم إلا إذى) يعنى كذبهم وتحريفهم وبهتهم، لا أنه تكون لهم الغلبة، عن الحسن وقتادة. فالاستثناء متصل، والمعنى لن يضروكم إلا ضرا يسيرا، فوقع الاذى موقع المصدر. فالاية وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، إن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام (3) إلا إيذاء بالبهت (1) في د وب: الكتاب. (2) راجع ص 46 من هذا الجزء. (3) الاصطلام: الاستئصال. (*)
[ 174 ]
والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين. وقيل: هو منقطع، والمعنى لن يضروكم ألبتة، لكن يؤذونكم بما يسمعونكم. قال مقاتل: إن رءوس اليهود: كعب وعدي والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم: عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لاسلامهم، فأنزل الله تعالى: " لن يضروكم إلا أذى " يعني باللسان، وتم الكلام. ثم قال: (وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار) يعني منهزمين، وتم الكلام. " ثم لا ينصرون " مستأنف، فلذلك ثبتت فيه النون. وفي هذه الاية معجزة للنبي عليه السلام، لان من قاتله من اليهود ولاه دبره. قوله تعالى: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وبآءو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بايت الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112) ليسوا سوآء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ءايات الله ءانآء اليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الاخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسرعون في الخيرات وأولئك من الصلحين (114) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115). قوله تعالى: (ضربت عليهم الذلة) يعنى اليهود. (أينما ثقفوا) أي وجدوا ولقوا، وتم الكلام. وقد مضى في البقرة معنى ضرب الذلة عليهم (1). (إلا بحبل من الله) استثناء منقطع ليس من الاول. أي لكنهم يعتصمون بحبل من الله. (وحبل من الناس) يعني الذمة التي لهم. والناس: محمد والمؤمنون يؤدون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام (1) راجع ج‍ 1 ص 43. (*)
[ 175 ]
اختصار، والمعنى: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف، قاله الفراء. (وباءوا بغضب من الله) أي رجعوا. وقيل احتملوا. وأصله في اللغة أنه لزمهم، وقد مضى في البقرة (1). ثم أخبر لم فعل ذلك بهم. فقال: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) وقد مضى في البقرة مستوفى (2). ثم أخبر فقال: ليسوا سواء) وتم الكلام. والمعنى: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء، عن ابن مسعود. وقيل: المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء. وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ليلة ] (3) صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: (إنه ليس من أهل الاديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم) قال: وأنزلت هذه الاية " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة - إلى قوله: والله عليم بالمتقين " وروى ابن وهب مثله. وقال ابن عباس: قول الله عزوجل " من أهل الكتاب " أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " من آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن إسحاق عن ابن عباس لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية (4)، وأسيد (5) بن سعية، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الاسلام ورسخوا (6) فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عزوجل في ذلك من قولهم: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. إلى قوله: وأولئك من الصالحين ". وقال الاخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي ذو طريقة حسنة. وأنشد: * وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع * (1) راجع ج‍ 1 ص 150 وص 430. (2) راجع ج‍ 1 ص 431. (3) الزيادة في د. (4) سعية: بالسين والعين المهملتين وياء باثنتين. (5) في الاستيعاب في ترجمة أسيد هذا: " رواء يونس ابن بكير عن ابن إسحاق (أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين، وكذلك قال الواقدي. وفى رواية إبراهيم ابن سعد عن ابن إسحاق (أسيد) بالضم. والفتح عندهم أصح ". (6) في د وب: نتجوا فيه. (*)
[ 176 ]
وقيل: في الكلام حذف، والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الاخرى اكتفاء بالاولى، كقول أبي ذؤيب: عصاني (1) إليها القلب إني لامره * مطيع فما أدري أرشد طلابها أراد: أرشد أم غي، فحذف. قال الفراء: " أمة " رفع ب‍ " سواء، والتقدير: ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة. قال النحاس: هذا قول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع " أمة " ب‍ " سواء " فلا يعود على اسم ليس بشئ، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه، لانه قد تقدم ذكر الكافر فليس لاضمار هذا وجه. وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. قال النحاس: وهذا غلط، لانه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر. و (آناء الليل) ساعاته. وأحدها إنى وأنى وإني، وهو منصوب على الظرف. و (يسجدون) يصلون، عن الفراء والزجاج، لان التلاوة لا تكون في الركوع والسجود. نظيره قوله: " وله يسجدون " (2) أي يصلون. وفي الفرقان: " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن " [ الفرقان: 60 ] (3) وفي النجم " فاسجدوا لله واعبدوا " [ النجم: 62 ] (4). وقيل: يراد به السجود المعروف خاصة. وسبب النزول يرده، وأن المراد صلاة العتمة كما ذكرنا عن ابن مسعود، فعبدة الاوثان ناموا حيث جن عليهم الليل، والموحدون قيام بين يدي الله تعالى في صلاة العشاء يتلون آيات الله، ألا ترى لما ذكر قيامهم قال " وهم يسجدون " أي مع القيام أيضا. الثوري: هي الصلاة بين العشاءين. وقيل: هي في قيام الليل. وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال: إنا نجد كلاما من كلام الرب عزوجل: أيحسب راعي إبل أو راعي غنم إذا جنه الليل انخذل (5) كمن هو قائم وساجد أناء الليل. (يؤمنون بالله) يعني يقرون بالله ويصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم. (ويأمرون بالمعروف) قيل: هو عموم. وقيل: يراد به الامر بأتباع النبي صلى الله عليه وسلم. (وينهون عن المنكر) والنهي عن المنكر النهي عن مخالفته. (ويسارعون في الخيرات) التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين (1) في الاصول: * عصيت إليها القلب إنى لامرها * والتصويب عن ديوان أبى ذؤيب. يقول: عصاني القلب وذهب إليها فأنا اتبع ما يأمرنى به. (2) راجع ج‍ 7 ص 356. (3) راجع ج‍ 13 ص 64. (4) راجع ج‍ 17 ص 121. (5) انخذل: انفرد. (*)
[ 177 ]
لمعرفتهم بقدر ثوابهم. وقيل: يبادرون (1) بالعمل قبل الفوت. (وأولئك من الصالحين) أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة. (وما يفعلوا من خير فان يكفروه) قرأ الاعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وحفص وخلف بالياء فيهما، إخبارا عن الامة القائمة، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبى عبيد. وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب، لقوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " [ آل عمران: 110 ]. وهي اختيار أبي حاتم، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا الياء والتاء. ومعنى الاية: وما تفعلوا من خير فإن تجحدوا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه. قوله تعالى: إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولدهم من الله شيئا وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (116). قوله تعالى: (إن الذين كفروا) اسم إن، والخبر (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا). قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم وهو قوله: " إن الذين كفروا ". وقال الكلبي: جعل هذا ابتداء فقال: إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا. وخص الاولاد لانهم أقرب أنسابهم إليهم. (وأولئك أصحاب النار) ابتداء وخبر، وكذا و (هم فيها خالدون). وقد تقدم جميع هذا. قوله تعالى: مثل ما ينفقون في هذه الا حيوة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قومن ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117). قوله تعالى: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر) " ما " تصلح أن تكون مصدرية، وتصلح أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي مثل ما ينفقونه. ومعنى " كمثل ريح " كمثل مهب (2) ريح. قال ابن عباس: والصر البرد الشديد. قيل: أصله من الصرير (1) في ب: مبادرين. (2) في ب ود وه‍: مهلك ريح. (*)
[ 178 ]
الذي هو الصوت، فهو صوت الريح الشديدة. الزجاج: هو صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة (1). وفي الحديث: إنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر (2). ومعنى الاية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار فأحرقته وأهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشئ بعد ما كانوا يرجون فائدته (3) ونفعه. قال الله تعالى: (وما ظلمهم الله) بذلك (ولكن أنفسهم يظلمون) بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى. وقيل: ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير وقت الزراعة أو في غير موضعها فأدبهم الله تعالى، لوضعهم الشئ في غير موضعه، حكاه المهدوي. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفوههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الايت إن كنتم تعقلون (118) فيه ست مسائل: الاولى - أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار. وهو متصل بما سبق من قوله: " إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب " [ آل عمران: 100 ]. والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع. وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر. وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة إذا كان خاصا به. قال الشاعر: أولئك خلصائي (4) نعم وبطانتي * وهم عيبتي من دون كل قريب الثانية - نهى الله عزوجل المؤمنين بهذه الاية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الاهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الاراء، ويسندون إليهم أمورهم. ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه، قال الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل (5) قرين بالمقارن يقتدي (1) راجع ج‍ 3 ص 319. (2) الصر في هذا الحديث: البرد. (3) في ب وه‍ ود: عائدته. (4) ف‍ ه‍: خلصاني، عيبتي: خاصتي وموضع سرى. (5) في د: فكم من قرين، وفى ه‍: فإن القرين. (*)
[ 179 ]
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بإخوانهم. ثم بين تعالى المعنى الذي لاجله نهى عن المواصلة فقال: (لا يألونكم خبالا) يقول فسادا. يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه. وروي (1) عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " قال: (هم الخوارج). وروى أن أبا موسى الاشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية. وقدم أبو موسى الاشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لابي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد. فقال لم ! أجنب هو ؟ قال: إنه نصراني، فانتهره وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، (2) واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك ؟ فقال: لا آخذ (3) بطانة من دون المؤمنين. فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم. قلت: وقد انقلبت الاحوال في هذه الازمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الاغبياء من الولاة والامراء. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى) (4). وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا ". فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد عليه (1) في ب ود وه‍: روى أبو أمامة. (2) في أ: الربا. (3) في ب ود وه‍: إذا اتخذ الخ. (4) الحديث كما في النسخ الاميرية، وسائر الاصول: بالخير، بدل المعروف، وفى ج‍: تحثه عليه. (*)
[ 180 ]
السلام لا تستشيروا المشركين في شئ من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية. الثالثة - قوله تعالى: " من دونكم " أي (1) من سواكم. قال الفراء: " ويعملون عملا دون ذلك " (2) أي سوى ذلك. وقيل: " من دونكم " يعني في السير وحسن المذهب. ومعنى " لا يألونكم خبالا " لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم. وهو في موضع الصفة ل‍ " بطانة من دونكم ". يقال: لا آلو جهدا أي لا أقصر. وألوت ألوا قصرت، قال أمرؤ القيس: وما المرء ما دامت حشاشة نفسه * بمدرك أطراف الخطوب ولا آل والخبال: الخبل. والخبل: الفساد، وقد يكون ذلك في الافعال والابدان والعقول. وفي الحديث: (من أصيب بدم أو خبل) أي جرح يفسد العضو. والخبل: فساد الاعضاء، ورجل خبل ومختبل، وخبله الحب أي أفسده. قال أوس: أبني لبيني لستم بيد * إلا يدا مخبولة (3) العضد أي فاسدة العضد. وأنشد الفراء: نظر ابن سعد نظرة وبت (4) بها * كانت لصحبك والمطي خبالا أي فساد. وانتصب " خبالا " بالمفعول الثاني، لان الالو يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، أي يخبلونكم خبالا: وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما قالوا: أوجعته ضربا: " وما " في قوله: (ودوا ما عنتم) مصدرية، أي ودوا عنتكم. أي ما يشق عليكم. والعنت المشقة، وقد مضى في " البقرة " (5) معناه. الرابعة - قوله تعالى: (قد بدت البغضاء من أفواههم) يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم. والبغضاء: البغض، وهو ضد الحب. والبغضاء مصدر مؤنث. وخص تعالى الافواه بالذكر دون الالسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم (1) في ب ود وه‍: يعنى. (2) راجع ج‍ 11 ص 322. (3) الذي في ديوانه: * إلا يدا ليست لها عضد * (4) الوب: التهبؤ للحملة في الحرب. (5) راجع ج‍ 3 ص 66. (*)
[ 181 ]
فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه. ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي (1) الرجل فاه في عرض أخيه. معناه أن يفتح، يقال: شحى الحمار فاه بالنهيق، وشحى الفم نفسه. وشحى اللجام فم الفرس شحيا، وجاءت الخيل شواحي: فاتحات أفواهها. ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا، فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء. وفي التنزيل " ولا يغتب بعضكم بعضا " [ الحجرات: 12 ] (1) الاية. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام). فذكر الشحو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، فاعلم. الخامسة - وفي هذه الاية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، وروى عن أبي حنيفة جواز ذلك. وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شئ وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر. السادسة: قوله تعالى: (وما تخفي صدورهم أكبر) إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم. وقرأ عبد الله بن مسعود: " قد بدأ البغضاء " بتذكير الفعل، لما كانت البغضاء بمعنى البغض. قوله تعالى: هأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتب كله وإذا لقوكم قالوآ ءامنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119) قوله تعالى: (ها أنتم أولاء تحبونهم) يعني المنافقين، دليله قوله تعالى: " وإذا لقوكم قالوا آمنا "، قاله أبو العالية ومقاتل. والمحبة هنا بمعنى المصافاة، أي أنتم أيها المسلمون تصافونهم ولا يصافونكم لنفاقهم. وقيل: المعنى تريدون لهم الاسلام وهم يريدون لكم الكفر. وقيل: المراد اليهود، قاله الاكثر. والكتاب اسم جنس، قال ابن عباس: يعني (1) في ه‍ ود: يشحى. وفى اللسان شحا يشحوفاه فتحه، وشحا يشحاه. (2) راجع ج‍ 16 ص 334. (*)
[ 182 ]
بالكتب. واليهود يؤمنون بالبعض، كما قال تعالى: " وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه " [ البقرة: 91 ] (1). (وإذا لقوكم قالوا آمنا) أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وإذا خلوا) فيما بينهم (عضوا عليكم الانامل) يعني أطراف الاصابع (من الغيظ) والحنق عليكم، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هؤلاء ظهروا وكثروا. والعض عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه، ومنه قول أبي طالب: * يعضون غيظا خلفنا بالانامل * وقال آخر: إذا رأوني - أطال الله غيظهم * عضوا من الغيظ أطراف الاباهيم يقال: عض يعض عضا وعضيضا. والعض (بضم العين): علف دواب أهل الامصار مثل الكسب والنوى المرضوخ، يقال منه: أعض القوم، إذا أكلت إبلهم العض. وبعير عضاضي، أي سمين كأنه منسوب إليه. والعض (بالكسر): الداهي من الرجال والبليغ المكر (2). وعض الانامل من فعل المغضب الذي فاته ما لا يقدر عليه، أو نزل به ما لا يقدر على تغييره. وهذا العض هو بالاسنان كعض اليد (3) على فائت قريب الفوات. وكقرع السن النادمة، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الارض للمهموم. ويكتب هذا العض بالضاد الساقطة، وعظ الزمان بالظاء المشالة، كما قال: وعظ زمان يابن مروان لم يدع * من المال إلا مسحتا أو مجلف (4) وواحد الانامل أنملة (بضم الميم) ويقال بفتحها، والضم أشهر. وكان أبو الجوزاء إذا تلاهذه الاية قال: هم الاباضية (5). قال ابن عطية: وهذه الصفة قد تترتب في كثير من أهل البدع (6) إلى يوم القيامة. قوله تعالى: (قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) إن قيل كيف لم يموتوا والله تعالى إذا قال لشئ: كن فيكون. قيل عنه جوابان: أحدهما: قال فيه الطبري وكثير (1) راجع ج‍ 2 ص 29. (2) في ب وه‍ وج‍: المنكر. (3) في ب ود وه‍: كعض اليد على اليد. (4) البيت للفرزدق. وفى النقائض: " وعض زمان " بالضاد وهذه الكلمة في هذا المعنى تقال بالضاد وبالظاء كما في القاموس. وألمسحت: المستأصل. والمجلف: الذي بقيت منه بقية، ويروى: المجرف. (5) الاباضية بريئون من ذلك، وتفسير كلام الله ينزه عن مثل هذا التقول. (6) في ب وه‍ ود: في أهل البدع من الناس. (*)
[ 183 ]
من المفسرين: هو دعاء عليهم. أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا. فعلى هذا يتجه أن يدعو عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة بخلاف اللعنة. الثاني: أن المعنى أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك. فعلى هذا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والاغاطة. ويجري (1) هذا المعنى مع قول مسافر ابن أبي عمرو: ويتمنى (2) في أرومتنا * ونفقا عين من حسدا وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى: " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والاخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع " [ الحج: 15 ] (3). قوله تعالى إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعلمون محيط (120) قوله تعالى: " إن تمسسكم حسنة تسؤم " قرأ السلمي بالياء والباقون بالتاء. واللفظ عام في كل ما يحسن ويسوء. وما ذكره المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم إلى غير ذلك من الاقوال أمثلة وليس باختلاف. والمعنى في الآية: أن من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على (4) المؤمنين، لم يكن أهلا لان يتخذ بطانة، لا سيما في هذا الامر الجسيم من الجهاد الذي هو ملاك الدنيا والاخرة، ولقد أحسن القائل في قوله: كل العداوة قد ترجى إفاقتها * إلا عداوة من عاداك من حسد (وإن تصبروا) أي على أذاهم وعلى الطاعة وموالاة المؤمنين (وتتقوا لا يضركم (5) كيدهم شيئا). يقال: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا، فشرط تعالى نفي ضررهم بالصبر والتقوى، فكان ذلك تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم. (1) في و: يجوز. (2) في ه‍: ونتمى، وفى ابن عطية ونبني، وفى الاغانى: وزمزم من أرومتنا. (3) راجع ج‍ 13 ص 21. (4) في دوب وه‍ بالمؤمنين. (5) قراءة نافع. (*)
[ 184 ]
قلت - (1) قرأ الحرميان وأبو عمرو " لا يضركم " من ضار يضير كما ذكرنا، ومنه قوله " لا ضير "، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين، لانك لما حذفت الضمة من الراء بقيت الراء ساكنة والياء ساكنة فحذفت الياء، وكانت أولى بالحذف، لان قبلها ما يدل عليها. وحكى الكسائي أنه سمع " ضاره يضوره " وأجاز " لا يضركم " وزعم أن في قراءة أبي بن كعب " لا يضرركم " (2). [ وقرأ الكوفيون: " لا يضركم " بضم الراء وتشديدها من ضر يضر ] (3). ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير إضمار الفاء، والمعنى: فلا يضركم، ومنه قول الشاعر: (4) * من يفعل الحسنات الله يشكرها * هذا قول الكسائي والفراء، أو يكون مرفوعا على نية التقديم، وأنشد سيبويه: * إنك إن يصرع أخوك تصرع * (5) أي لا يضركم أن تصبروا وتتقوا. ويجوز أن يكون مجزوما، وضمت الراء لالتقاء الساكنين على إتباع الضم. وكذلك قراءة من فتح الراء على أن الفعل مجزوم، وفتح " يضركم " لالتقاء الساكنين لخفة الفتح، رواه أبو زيد عن المفضل عن عاصم، حكاه المهدوي. وحكى النحاس: وزعم المفضل الضبى عن عاصم " لا يضركم " بكسر الراء لالتقاء الساكنين. قوله تعالى: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقعد للقتال والله سميع عليم (121) قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك) العامل في " إذ " فعل مضمر تقديره: وأذكر إذ غدوت، يعنى خرجت بالصباح. (من أهلك) من منزلك من عند عائشة. (تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) هذه غزوة أحد وفيها نزلت هذه الاية كلها. وقال مجاهد والحسن ومقاتل والكلبي: هي غزوة الخندق. وعن الحسن أيضا يوم بدر. والجمهور على أنها غزوة أحد، يدل عليه قوله تعالى: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " [ آل عمران: 122 ] وهذا إنما كان يوم أحد، وكان المشركون قصدوا المدينة في ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بثأرهم (1) كذا في د، وفى ب وا: قراآت قرأ، وفى زوجة: قرأ. (2) في د ر ه‍: يضور والتصحيح من البحر قال: بفك الادغام وهى لغة أهل الحجاز. (3) الزيادة من ب ودرهم. (4) هو حسان بن ثابت رضى الله عنه. وتمامه: * والشر بالشر عند الله سيان * (5) هذا عجز بيت لجرير بن عبد الله. وصدره: * يا أقرع بن حابس يا أقرع *
[ 185 ]
في يوم بدر، فنزلوا عند أحد على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، يوم الاربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فأقاموا هنالك يوم الخميس والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة. أخرجه مسلم. فكان كل ذلك على ما هو معروف مشهور من تلك الغزاة. وأصل التبوء أتخاذ المنزل، بوأته منزلا إذا أسكنته إياه، ومنه قول عليه السلام: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) أي ليتخذ فيها منزلا. فمعنى " تبوئ المؤمنين " تتخذ لهم مصاف. وذكر البيهقي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكأن ضبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتل كبش القوم وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي) فقتل حمزة وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة، وكان صاحب اللواء. وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي، فقال له طلحة بن عثمان أخو سعيد ابن عثمان اللخمي: هل لك يا عاصم في المبارزة ؟ قال نعم، فبدره ذلك الرجل. فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله، فكان قتل صاحب اللواء (1) تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم (كأني مردف كبشا). العامل في " إذ - تبوئ " أو " سميع عليم ". والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الاوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد. ومعنى (أن تفشلا) أن تجبنا. وفي البخاري عن جابر قال: فينا نزلت (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما " قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل، لقول الله عزوجل: " والله وليهما ". وقيل: (1) في ب وه‍ وح‍ وز: صاحب لواء المشركين. ما أثبتناه من د. (*)
[ 186 ]
هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت، والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الاوس. والفشل عبارة عن الجبن، وكذلك هو في اللغة. والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا، فذلك قوله تعالى: " والله وليهما " يعني قلوبهما عن تحقيق هذا الهم. وقيل: أرادوا التقاعد عن الخروج، وكان ذلك صغيرة منهم. وقيل: كان ذلك حديث نفس منهم خطر ببالهم فأطلع الله نبيه عليه السلام عليه فازدادوا بصيرة، ولم يكن ذلك الخور (1) مكتسبا لهم فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين، وكان خروجه من المدينة في ألف، فرجع عنه عبد الله بن أبي بن سول بثلاثمائة رجل مغاضبا (2)، إذ خولف رأيه حين أشار بالقعود والقتال في المدينة إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه وافق رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى ذلك أكثر الانصار، وسيأتي. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فأستشهد منهم من أكرمه الله بالشهادة. قال مالك رحمه الله: قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الانصار سبعون رضي الله عنهم. والمقاعد: جمع مقعد وهو مكان القعود، [ وهذا ] (3) بمنزلة مواقف، ولكن لفظ القعود دال على الثبوت، ولا سيما أن الرماة كانوا قعودا. هذا معنى حديث غزاة أحد على الاختصار، وسيأتي من تفصيلها ما فيه شفاء. وكان مع المشركين يومئذ مائة فرس عليها خاله بن الوليد، ولم يكن مع المسلمين يومئذ فرس. وفيها جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة (4) من على رأسه صلى الله عليه وسلم، وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه على صبره. وكان الذي تولى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن قميئة الليثي، وعتبة بن أبي وقاص. وقد قيل: إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهته. قال الواقدي: والثابت (5) عندنا أن الذي رمى في وجه (6) النبي صلى الله عليه وسلم ابن قميئة، والذي (1) كذا في د وز وب. (2) كذا في دوب وه‍ وج‍. (3) من دوب وه‍. (4) البيضة: الخوذة، وهى زود ينسخ على قدر الرأس يلبس تحت القلسوة، وفى ب ود وه‍، هشمت البيضة رأسه. (5) في ب ود وه‍: الثبت. (6) في د وه‍ وب، وجني النبي. (*)
[ 187 ]
أدمى (1) شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبى وقاص. قال الواقدي بإسناده عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل [ ذلك ] (1) يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله ابن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا. [ وإن ] (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع ! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله [ فلم نخلص (2) إلى ذلك ]. وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في حفرة، كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، وتشبثت (3) حلقتان من درع المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا، فكان أهتم يزينه هتمه رضي الله عنه. وفي هذه الغزاة قتل حمزة رضي الله عنه، قتله وحشي، وكان وحشي مملوكا لجبير بن مطعم. وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر. فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله. وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرت به قالت: إيها أبا دسمة اشف واستشف. فكمن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين، فلما رجع من حملته ومر بوحشي زرقه بالمزراق فأصابه فسقط ميتا (4) رحمه الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت: نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبر * ولا أخي وعمه بكري (1) في ب ود وه‍: رمى. (2) زيادة عن مغازى الواقدي. (3) في د: تشبت، وفى ه‍: نشبت. (2) كذا في د، وفى ب وه‍ وح‍: فسقط منها. (*)
[ 188 ]
شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشي غليل صدري فشكر وحشي علي عمري * حتى ترم أعظمي في قبري فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب فقالت: خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر صبحك الله غداة الفجر * ملهاشميين الطوال الزهر بكل قطاع حسام يفري * حمزة ليثي وعلى صقري إذ رام شيب (1) وأبوك غدى * فخضبا (2) منه ضواحي النحر * ونذرك السوء فشر نذر * وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة رضي الله عنه: بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغني البكاء ولا العويل على أسد الاله غداة قالوا * أحمزة ذاكم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعا * هناك، وقد أصيب به الرسول أبا يعلى لك الاركان هدت * وأنت الماجد البر الوصل عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول ألا يا هاشم الاخيار صبرا * فكل فعالكم حسن جميل رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول ألا من مبلغ عني لؤيا * فبعد اليوم دائلة تدول وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفي الغليل نسيتم ضربنا بقليب (3) بدر * غداة أتاكم الموت العجيل غداة ثوى أبو جهل صريعا * عليه الطير حائمة تجول وعتبة وابنه خرا جميعا * وشيبة عضه السيف الصقيل (1) أرادت شيبة بن ربيعة أبا هند. وقد رخم هنا في غير النداء لضرورة الشعر. (2) في د: مخضبا. (3) القليب (بفتح أوله وكسر ثانيه): البئر العادية القديمة التي لا يعلم لها رب ولا حافر تكون في البراري، يذكر ويؤنث. (*)
[ 189 ]
ومتركنا أمية مجلعبا (1) * وفي حيزومه لدن نبيل (2) وهام بني ربيعة سائلوها * ففي أسيافها منها فلول ألا يا هند لا تبدي شماتا بحمزة إن عزكم ذليل ألا يا هند فابكي لا تملي * فأنت الواله العبرى الهبول (3) ورثته أيضا أخته صفية، وذلك مذكور في السيرة، رضي الله عنهم أجمعين. قوله تعالى: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) فيه مسألة واحدة، وهي بيان التوكل. والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير (4) * وواكل فلان إذا ضيع أمره متكلا على غيره. وأختلف العلماء في حقيقة التوكل، فسئل عنه سهل بن عبد الله فقال: قالت فرقة أرض الرضا بالضمان، وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التوكل ترك الاسباب والركون إلى مسبب الاسباب، فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم التوكل. قال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان الله عزوجل يقول: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " [ الانفال: 69 ] (5) فالغنيمة أكتساب. وقال تعالى: " فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان " [ الانفال: 12 ] (6) فهذا عمل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب العبد المحترف). وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرضون على السرية (7). وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والايقان بأن قضاءه ماض، وأتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لابد منه من الاسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الاسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة. وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الاسباب والالتفات إليها بالقلوب، فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته، ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الاسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على (1) المجلعب: المصروع إما ميتا وإما صرعا شديدا. (2) الحيزوم: وسط الصدر وما يضم عليه الحزام. واللدن: الرمح. (3) الهبول من النساء: الثكول. (4) في ب ود: غيرك وفى ه‍: غيره. (5) راجع ج‍ 8 ص 51. (6) راجع ج‍ 7 ص 377. (7) السرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة سموا بذلك لانهم تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشئ السري: النفيس. (*)
[ 190 ]
حالين: الاول - حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شئ من تلك الاسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الامر. الثاني - حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الاسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية، والاذواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين. قوله تعالى: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلثة ءالفك من الملئكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة ءالف من الملئكة مسومنين (125) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر) كانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان، يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة، وبدر ماء هنالك وبه سمي الموضع. وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدرا، وبه سمي الموضع. والاول أكثر. وقال الواقدي وغيره: بدر اسم لموضع غير منقول. وسيأتي في قصة بدر في " الانفال " (1) إن شاء الله تعالى. و " أذلة " معناها قليلون، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا. وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الالف. و " أذلة " جمع ذليل. واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الارض تقتضي عند التأمل ذلتهم وأنهم يغلبون. والنصر العون، فنصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم أبتني (2) الاسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن. وفيه عن ابن إسحاق قال: لقيت (1) راجع ج‍ 7 ص 370 فما بعد. (2) في ب، ود: أنبنى ؟ ؟. (*)
[ 191 ]
زيد بن أرقم فقلت له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال تسع عشرة غزوة. فقلت: فكم غزوه أنت معه ؟ فقال: سبع عشرة غزوة. قال فقلت: فما أول غزوة غزاها ؟ قال: ذات العسير أو العشير. وهذا كله مخالف لما عليه أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له: إن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون غزوة، وسراياه ست وخمسون، وفي رواية ست وأربعون، (1) والتي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد والمريسيع والخندق وخيبر وقريظة والفتح والطائف. قال ابن سعد: هذا الذي أجتمع لنا عليه. وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القرى منصرفه من خيبر وفي الغابة (2). وإذا تقرر هذا فنقول: زيد وبريدة إنما أخبر كل واحد منهما بما في علمه أو شاهده. وقول زيد: " إن أول غزاة غزاها ذات العسيرة " مخالف أيضا لما قال أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد: كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات، يعني غزاها بنفسه. وقال ابن عبد البر في كتاب الدرر في المغازي والسير. أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ودان (3) غزاها بنفسه في صفر، وذلك أنه وصل إلى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الاول، أقام بها بقية ربيع الاول، وباقي العام كله. إلى صفر من سنة أثنتين من الهجرة: ثم حرج في صفر المذكور واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان فوادع (4) بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، وهي المسماة بغزوة الابواء. ثم أقام بالمدينة إلى [ شهر ] ربيع الاخر من السنة المذكورة، ثم خرج فيها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بواط (5) من ناحية رضوى (6)، ثم رجع إلى المدينة (1) الذي في كتاب الطبقات لابن سعد: " وكانت سراياه التي بعث بها سبعا وأربعين سرية ". (2) الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام. (3) ودان (بفتح الواو وشد المهملة): قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع. وقيل: واد في الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة. (عن شرح المواهب). (4) الموادعة: المصالحة. (5) بواط (بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره طاء مهملة): جبل من جبال جهينة بقرب ينبع على أربعة برد من المدينة. (6) رضوى (بفتح الراء وسكون المعجمة مقصور): جبل بالمدينة، وهو على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة. (*)
[ 192 ]
ولم يلق حربا، ثم أقام بها بقية ربيع الاخر وبعض جمادى الاولى، ثم خرج غازيا واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الاسد، وأخذ على طريق ملك (1) إلى العسيرة. قلت: ذكر ابن إسحاق عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم، فقال لى علي بن أبي طالب: هل لك أبا اليقظان أن تأتي هؤلاء ؟ نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون. فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور (2) من النخل في دقعاء من الارض فنمنا فيه، فو الله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه، فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (ما بالك يا أبا تراب)، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: (ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين) قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: (أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا على على هذه - ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه - حتى يبل منها هذه) ووضع يده على لحيته. فقال أبو عمر: فأقام بها بقية جمادى الاولى وليالي من جمادى الاخرة، ووادع فيها بني مدلج ثم رجع ولم يلق حربا. ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الاولى بأيام قلائل، هذا الذي لا يشك فيه أهل التواريخ والسير، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده. والله أعلم. ويقال: ذات العسير بالسين والشين، ويزاد عليها هاء فيقال: العشيرة. ثم غزوة بدر الكبرى وهي أعظم المشاهد فضلا لمن شهدها، وفيها أمد الله بملائكته نبيه والمؤمنين في قول جماعة العلماء، وعليه يدل ظاهر الاية، لا في يوم أحد. ومن قال: إن ذلك كان يوم أحد جعل قوله تعالى: " ولقد نصركم الله ببدر " إلى قوله: " تشكرون " ؟ ؟ أعتراضا بين الكلامين. هذا قول عامر الشعبي، وخالفه الناس. تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهيد (1) ملك (بالكسر ثم السكون والكاف): واد بمكة. (2) الصور جماعة النخل الصغار، لا واحد له من لفظه. الدقعاء: التراب. (*)
[ 193 ]
بدر: لو كنت معكم الان ببدر ومعي بصرى لاريتكم الشعب (1) الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أمتري. رواه عقيل عن الزهري عن أبي حازم سلمة بن دينار. قال ابن أبي حاتم: لا يعرف للزهري عن أبي حازم غير هذا الحديث الواحد، وأبو أسيد يقال إنه آخر من مات من أهل بدر، ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره. وفي صحيح مسلم من حديث عمر ابن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فأستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من الاسلام لا تعبد في الارض) فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عزوجل: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين " [ الانفال: 9 ] (2) فأمده الله تعالى بالملائكة. قال أبو زميل (3): فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ يسمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، (4) فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه [ كضربة السوط ] (5) فأخضر ذلك أجمع. فجاء الانصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه في آخر " الانفال " (6) إن شاء الله تعالى. فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور، والحمد لله. وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم) ؟ فقال جبريل: (يا محمد ما كل أهل السماء أعرف). وعن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: بينا أنا أمتح (7) من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت (1) الشعب (بالكسر): الطريق في الجبل. (2) راجع ج‍ 7 ص 370. (3) أبو زميل (بالتصغير) هو سماك بن الوليد. (تهذيب التهذيب). (4) حيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة. (5) زيادة عن صحيح مسلم، واخضر باسود ؟. (6) ج‍ 8 ص 48. (7) متح: جذب الدلو من البئر مستقيما، والماتح: المستقى. (*)
[ 194 ]
قبلها. قال: وأظنه ذكر: ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الريح الاولى جبريل نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر عن يمينه، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة. وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه. وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الاعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به، ذكر جميعه البيهقي رحمه الله. وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة، لان كل موضع أصابت ضربتهم أشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلني ؟ ! إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنبك فرسه (1) وإن أجتهدت. وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين، ولان الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة، فكل عسكر صبر وأحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا. وقال بعضهم: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون، ويكثرون (2) الذين يقاتلون يومئذ، فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر (3) وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت، والاول أكثر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر، أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، فذلك قوله تعالى: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين " (4) وقوله: " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " [ آل عمران: 124 ] وقوله: " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " [ آل عمران: 125 ] فصبر المؤمنون يوم بدر واتقوا الله فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم، فهذا كله يوم بدر. وقال الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف ردء (5) للمؤمنين إلى يوم القيامة. قال الشعبي: بلغ النبي (1) في د: قدميه. وسنبك الدابة طرف حافرها. (2) في د وه‍ وب: والثواب للذين يقاتلون... (3) في ه‍ ود: إلا يوم بدر. (4) راجع ج‍ 7 ص 370. (5) الردء: العون والناصر. (*)
[ 195 ]
صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فأنزل الله تعالى: " ألن يكفيكم - إلى قوله: مسومين " فبلغ كرزا الهزيمة فلم يمدهم ورجع، فلم يمدهم (1) الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد مدوا بألف. وقيل: إنما وعد الله المؤمنين يوم بدر إن صبروا على طاعته، واتقوا محارمه أن يمدهم أيضا في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا محارمه إلا في يوم الاحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة. وقيل: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، فما صبروا فلم يمدهم بملك واحد، ولو أمدوا لما هزموا، قاله عكرمة والضحاك. فإن قيل: فقد ثبت عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم بدر (2) رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. قيل له: لعل هذا مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، خصه بملكين يقاتلان عنه، ولا يكون هذا إمدادا للصحابة. والله أعلم. الثانية - نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب، " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ يس: 82 ] (3). لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الاسباب التي قد خلت من قبل، " ولن تجد لسنة الله تبديلا " [ الاحزاب: 62 ] (4)، ولا يقدح ذلك في التوكل. وهو رد على من قال: إن الاسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للاقوياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا الاقوياء وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح. و " مد " في الشر و " أمد " في الخير. وقد تقدم في البقرة (5). وقرأ أبو حيوة " منزلين " بكسر الزاي مخففا، يعني منزلين النصر. وقرأ ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير. ثم قال: (بلى) وتم الكلام. " إن تصبروا " شرط، أي على لقاء العدو. (وتتقوا) عطف عليه، أي معصيته. والجواب " يمدكم ". ومعنى " من فورهم " من وجههم. هذا عن عكرمة وقتادة والحسن (1) في ج‍ وأ: فأمدهم. والمثبت هو ما في باقى الاصول وهو التحقيق قال الالوسى: ولم يمدوا بها بناء على تعليق الامداد بها بمجموع الامور الثلاثة الخ. (2) في ب وه‍: يوم أحد. (3) راجع ج‍ 15 ص 60. (4) راجع ج 14 ص 247. (5) راجع ج‍ 1 ص 209. (*)
[ 196 ]
والربيع والسدي وأبي زيد. وقيل: من غضبهم، عن مجاهد والضحاك. كانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا. وأصل الفور القصد إلى الشئ والاخذ فيه بجد، وهو من قولهم: فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت. والفور الغليان. وفار غضبه إذا جاش. وفعله من فوره أي قبل أن يسكن. والفوراة ما يفور من القدر. وفي التنزيل " وفار التنور " { هود: 40 ] (1). قال الشاعر: * تفور علنا قدرهم فنديمها * الثالثة - قوله تعالى: (مسومين) بفتح الواو اسم مفعول، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع. أي معلمين بعلامات. و " مسومين " بكسر الواو اسم فاعل، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وعاصم، فيحتمل من المعنى ما تقدم، أي قد أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم. ورجح الطبري وغيره هذه القراءة. وقال كثير من المفسرين: مسومين أي مرسلين خيلهم، في الغارة. وذكر المهدوي هذا المعنى في " مسومين " بفتح الواو، أي أرسلهم الله تعالى على الكفار. وقاله ابن فورك أيضا. وعلى القراءة الاولى اختلفوا في سيما الملائكة، فروى عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن الملائكة أعتمت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، ذكره البيهقي عن ابن عباس وحكاه المهدوي عن الزجاج. إلا جبريل فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام، وقال ابن إسحاق. وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق. قلت: ذكر البيهقي عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض معلمين يقتلون ويأسرون. فقوله: " معلمين " دل على أن الخيل البلق ليست السيما. والله أعلم. وقال مجاهد: كانت خيلهم مجزوزة الاذناب والاعراف معلمة النواصي والاذناب بالصوف والعهن (2). وروي عن ابن عباس: تسومت الملائكة يوم بدر بالصوف الابيض في نواصي الخيل وأذنابها. وقال عباد بن عبد الله بن الزبير وهشام بن عروة والكلبي: نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وقال ذلك عبد الله وعروة ابنا الزبير. وقال عبد الله: كانت ملاءة صفراء أعتم بها الزبير رضي الله عنه. قلت: ودلت الاية - (1) راجع ج‍ 9 ص 33. (2) العهن: الصوف المصبوغ ألوانا. (*)
[ 197 ]
وهي الرابعة - على اتخاذ [ الشارة و ] (1) العلامة للقبائل والكتائب يجعلها السلطان لهم، لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البلق لنزول الملائكة عليها. قلت: - ولعلها نزلت عليها موافقة لفرس المقداد، فإنه كان أبلق ولم يكن لهم فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البلق إكراما للمقداد، كما نزل جبريل معتجرا (2) بعمامة صفراء على مثال الزبير. والله أعلم. ودلت الاية أيضا - وهى الخامسة - على لباس الصوف وقد لبسه الانبياء والصالحون. وروى أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن أبي بردة عن أبيه قال قال لي أبي: لو شهدتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابتنا السماء لحسبت أن ريحنا ريح الضأن. ولبس صلى الله عليه وسلم جبة رومية من صوف ضيقة الكمين، رواه الائمة. ولبسها يونس عليه السلام، رواه مسلم. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في " النحل " (3) إن شاء الله تعالى. السادسة - قلت: وأما ما ذكره مجاهد من أن خيلهم كانت مجزوزة الاذناب والاعراف فبعد، فإن في مصنف أبي داود عن عتبة بن عبد السلمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير). فيقول مجاهد يحتاج إلى توقيف من أن خيل الملائكة كانت على تلك الصفة. والله أعلم. ودلت الاية على حسن الابيض والاصفر من الالوان لنزول الملائكة بذلك، وقد قال ابن عباس: من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته. وقال عليه السلام: (ألبسوا من ثيابكم البياض فإنه من خير ثيابكم وكفنوا فيه موتاكم وأما العمائم فتيجان العرب ولباسها). وروى ركانة - وكان صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم - قال ركانة: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس) أخرجه أبو داود. قال البخاري (4): إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض. (1) من دوفى ه‍: الاشارة، والشارة: الهيئة. (2) الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجه ولا يعمل منها شيئا تحت ذفته، وفى ب: معتما. (3) ج‍ 10 ص 154. (4) كذا في د وه‍ وب. وفى أ وح‍: النحاس. (*)
[ 198 ]
قوله تعالى: وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126) ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين (127) قوله تعالى: (وما جعله الله إلا بشرى لكم) الهاء للمدد، وهو الملائكة أو الوعد أو الامداد، ويدل عليه " يمددكم " أو للتسويم أو للانزال أو العدد على المعنى، لان خمسة آلاف عدد. (ولتطمئن قلوبكم به) اللام لام كي، أي ولتطمئن قلوبكم به جعله، كقوله: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا " [ فصلت: 12 ] (1) أي وحفظا لها جعل ذلك. (وما النصر إلا من عند الله) يعني نصر المؤمنين، ولا يدخل في ذلك نصر الكافرين، لان ما وقع لهم من غلبة إنما هو إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران. (ليقطع طرفا من الذين كفروا) أي بالقتل. ونظم الاية: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع. وقيل: المعنى وما النصر إلا من عند الله ليقطع. ويجوز أن يكون متعلقا ب‍ " يمددكم "، أي يمددكم ليقطع. والمعنى: من قتل من المشركين يوم بدر، عن الحسن وغيره. السدي: يعني به من قتل من المشركين يوم أحد وكانوا ثمانية عشر رجلا. ومعنى (يكبتهم) يحزنهم، والمكبوت المحزون. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي طلحة فرأى ابنه مكبوتا فقال: (ما شأنه) ؟. فقيل: مات بعيره. وأصله فيما ذكر بعض أهل اللغة " يكبدهم " أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم، فأبدلت الدال تاء، كما قلبت في سبت رأسه وسبده أي حلقه. كبت الله العدو كبتا إذا (2) صرفه وأذله، كبده، أصابه في كبده، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده. وتقول العرب للعدو: أسود الكبد، قال الاعشى: فما أجشمت (3) من إتيان قوم * هم الاعداء والاكباد سود كأن الاكباد لما احترقت بشدة العداوة اسودت. وقرأ أبو مجلز " أو يكبدهم " بالدال. والخائب: المنقطع الامل. خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب. والخياب: القدح لا يوري. (1) راجع ج‍ 15 ص 345. (2) في ب: أي صرفه. (3) أجشمت: كلفت على مشقة. (*)
[ 199 ]
قوله تعالى: ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128) ولله ما في السموات وما في الارض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله غفور رحيم (129) فيه ثلاث مسائل: الاولى - ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلب الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى) فأنزل الله تعالى: (ليس لك من الامر شئ). الضحاك: هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين فأنزل الله تعالى: " ليس لك من الامر شئ ". وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الاية علم أن منهم من سيسلم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عامر قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على أربعة نفر فأنزل الله عزوجل: " ليس لك من الامر شئ " فهداهم الله للاسلام. وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقوله تعالى: " أو يتوب عليهم " قيل: هو معطوف على " ليقطع طرفا ". والمعنى: ليقتل طائفة منهم، أو يحزنهم بالهزيمة أو يتوب عليهم أو يعذبهم. وقد تكون " أو " هاهنا بمعنى " حتى " و " إلا أن ". قال أمرؤ القيس: * أو نموت فنعدرا قال علماؤنا: قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم) استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى: " ليس لك من الامر شئ " تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أطمع في ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الانبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب أغفر لقومي فإنهم
[ 200 ]
لا يعلمون). قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو المحكي عنه، بدليل ما قد جاء صريحا مبينا أنه عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا وقالوا: لو دعوت عليهم ! فقال: (إني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). فكأنه عليه السلام أوحى إليه بذلك قبل وقوع قضية أحد، ولم يعلنه له ذلك النبي، فلما وقع له ذلك تعين أنه المعنى بذلك بدليل ما ذكرنا. ويبينه أيضا ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد دعا نوح على قومه فقال: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " [ نوح: 26 ] (1) الاية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وقوله: (أشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيهم) يعني بذلك المباشر لذلك، وقد ذكرنا اسمه على اختلاف في ذلك، وإنما قلنا إنه خصوصي في المباشر، لانه قد أسلم جماعة ممن شهد أحدا وحسن إسلامهم. الثانية - زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله بعد الركوع في الركعة الاخيرة من الصبح، وأحتج بحديث ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر بعد رفع رأسه من الركوع فقال: (اللهم ربنا ولك الحمد في الاخرة - ثم قال - اللهم العن فلانا وفلانا) فأنزل الله عزوجل " ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم " الاية. أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أتم منه. وليس هذا موضع نسخ وإنما نبه الله تعالى على نبيه على أن الامر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الامر كله لله يتوب على من يشاء ويعجل العقوبة لمن يشاء. والتقدير: ليس لك من الامر شئ ولله ما في السموات وما في الارض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء. فلا نسخ، والله أعلم. وبين بقوله: " ليس لك من الامر شئ " أن الامور (2) بقضاء الله وقدره ردا على القدرية وغيرهم. (1) راجع ج‍ 18 ص 312. (2) في نسخة: ه‍ وب ود، وفى غيرها: الامر. (*)
[ 201 ]
الثالثة - وأختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها، فمنع الكوفيون منه في الفجر وغيرها. وهو مذهب الليث ويحيى بن يحيى الليثي الاندلسي صاحب مالك، وأنكره الشعبي. وفي الموطأ عن ابن عمر: أنه كان لا يقنت في شئ من الصلاة. وروى النسائي أنبأنا قتيبة عن خلف عن أبي مالك الاشجعي عن أبيه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بني إنها بدعة. وقيل: يقنت في الفجر دائما وفي سائر الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة، قاله الشافعي والطبري. وقيل: هو مستحب في صلاة الفجر، وروي عن الشافعي. وقال الحسن وسحنون: إنه سنة. وهو مقتضى رواية علي بن زياد عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدا. وحكى الطبري الاجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة. وعن الحسن: في تركه سجود السهو، وهو أحد قولي الشافعي. وذكر الدارقطني عن سعيد ابن عبد العزيز فيمن نسي القنوت في صلاة الصبح قال: يسجد سجدتي السهو. واختار مالك قبل الركوع، وهو قول إسحاق. وروي أيضا عن مالك بعد الركوع، وروي عن الخلفاء الاربعة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق أيضا. وروى عن جماعة من الصحابة التخيير في ذلك. وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا. وذكر أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأو مأ إليه أن اسكت فسكت، فقال: (يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا، ليس لكمن الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) قال: ثم علمه هذا القنوت فقال: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع (1) لك ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد (2) ونرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق (3)). (1) الخنوع: الخضوع والذل. (2) الحقد (بفتح فسكون): الاسراع في العمل والخدمة. (3) الرواية بكسر الحاء أي من نزل به عذابك ألحقه بالكفار. وقيل: هو بمعنى لا حق، لغة في لحق. ويروى بفتح الحاء على المفعول، أي إن عذابك يلحق بالكفاء ويصابون به. (عن ابن الاثير).
[ 202 ]
قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربوا أضعفا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار التي أعدت للكفرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132) قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أظعفا مضاعفة) هذا النهي عن أكل الربا اعتراض بين أثناء قصة أحد. قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئا مرويا. قلت: قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الاجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله عزوجل: " يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ". [ قلت ] (1) وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي، لانه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " [ البقرة: 279 ] (2) والحرب يؤذن بالقتل، فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم. فأمرهم بترك الربا، لانه كان معمولا به عندهم. والله أعلم. و (أضعافا) نصب علي الحال و (مضاعفة) نعته. وقرئ " مضعفة " ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي ؟ كما تقدم في " البقرة ". و (مضاعفة) إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة. قوله تعالى: (واتقوا الله أي في أموال الربا فلا تأكلوها. ثم خوفهم فقال: (واتقوا النار التي قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن أستحل الربا، ومن أستحل الربا فإنه يكفر [ ويكفر ] (3). وقيل: معناه أتقوا العمل الذي ينزع منكم الايمان فتستوجبون النار، لان من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الايمان ويخاف عليه، من ذلك عقوق الوالدين. وقد جاء في ذلك أثر: أن رجلا كان عاقا لوالديه يقال له علقمة، فقيل له عند الموت: قل لا إله إلا الله، فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه. ومن ذلك قطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة (1) في ه‍. (2) راجع ج‍ 3 ص 256. (3) في د وه‍ وفي ب: وبضر. (*)
[ 203 ]
في الامانة. وذكر أبو بكر الوراق عن أبى حنيفة أنه قال: أكثر ما ينزع الايمان من العبد عند الموت. ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الايمان فلم نجد شيئا أسرع نزعا للايمان من ظلم العباد. وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة ردا على الجهمية، لان المعدوم لا يكون معدا. ثم قال: (وأطيعوا الله) [ يعني أطيعوا الله ] (1) في الفرائض (والرسول) في السنن: وقيل: " أطيعوا الله " في تحريم الربا " والرسول " فيما بلغكم من التحريم. (لعلكم ترحمون) أي كي يرحمكم الله. وقد تقدم (2). قوله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموت والارض أعدت للمتقين (133). فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (وسارعوا) قرأ نافع وابن عامر " سارعوا " بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ باقي السبعة " وسارعوا ". وقال أبو علي: كلا الامرين شائع (3) مستقيم، فمن قرأ بالواو فلانه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلان الجملة الثانية ملتبسة بالاولي مستغنية بذلك عن العطف بالواو. والمسارعة المبادرة، وهي مفاعلة. وفي الاية حذف. أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة وهي الطاعة. قال أنس ابن مالك ومكحول في تفسير (سارعوا إلى مغفرة من ربكم): معناه إلى تكبيرة الاحرام. وقال علي بن أبي طالب: إلى أداء الفرائض. عثمان بن عفان: إلى الاخلاص. الكلبي: إلى التوبة من الربا. وقيل: إلى الثبات في القتال. وقيل غير هذا. والاية عامة في الجميع، ومعناها معني " فاستبقوا الخيرات " [ البقرة: 148 ] وقد تقدم (4). الثانية - قوله تعالى: (وجنة عرضها السموات والارض) تقديره كعرض فحذف المضاف، كقوله: " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " [ لقمان: 28 ] (5) أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. قال الشاعر: (1) في ه‍. (2) راجع ج‍ 1 ص 227. (3) في ه‍: سائغ. (4) راجع ج‍ 2 ص 165. (5) راجع ج‍ 14 ص 78. (*)
[ 204 ]
حسبت بغام راحلتي عناقا * وما هي ويب غيرك بالعناق (1) يريد صوت عناق. نظيره في سورة الحديد " وجنة عرضها كعرض السماء والارض " [ الحديد: 21 ] (2) واختلف العلماء في تأويله، فقال ابن عباس: تقرن السموات والارض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله. وهذا قول الجمهور، وذلك لا ينكر، فإن في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما السموات السبع والارضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الارض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة (3) ألقيت في فلاة من الارض). فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السموات والارض، وقدرة الله أعظم من ذلك كله. وقال الكلبي: الجنان أربعة: جنة عدن وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم، وكل جنة منها كعرض السماء والارض لو وصل بعضها ببعض. وقال إسماعيل السدي: لو كسرت السموات والارض وصرن خردلا، فبكل خردلة جنة عرضها كعرض السماء والارض. وفي الصحيح: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا أنقطعت به الاماني قال الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثال) رواه أبو سعيد الخدري، خرجه مسلم وغيره. وقال يعلى بن أبي مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره، قال: فقلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والارض فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار). وبمثل هذه الحجة أستدل الفاروق على اليهود حين قالوا له: أرأيت قولكم " وجنة عرضها السموات والارض " فأين النار ؟ فقالوا له: لقد نزعت (4) بما في التوراة. ونبه تعالى بالعرض على الطول لان الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر (1) بغام الناقة: صوت لا تفصح به. والعناق (بالفتح): الانثى من المعز. وويب، بمعنى ويل. والبيت لذي الخرق الطهوى يخاطب ذئبا تبعه في طريقه. (عن اللسان). (2) راجع ج‍ 17 ص 254. (3) في ه‍: من حديد. (4) نزعت بما في التوراة. جئت بماشيبهها. (*)
[ 205 ]
العرض. قال الزهري: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، وهذا كقول تعالى: " متكئين على فرش بطائنها من إستبرق " [ الرحمن: 54 ] (1) فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن واتقن من البطائن. وتقول العرب: بلاد عريضة، وفلاة عريضة، أي واسعة، قال الشاعر: كأن بلاد الله وهي عريضة * على الخائف المطلوب كفه حابل (2) وقال قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والارض، كما تقول للرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان: هذا جبل. ولم تقصد الاية تحديد العرض، ولكن (3) أراد بذلك أنها أوسع شئ رأيتموه. وعامة العلماء على أن الجنة مخلوقة موجودة: لقوله " أعدت للمتقين " وهو نص حديث الاسراء وغيره في الصحيحين وغيرهما. وقالت المعتزلة: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن الله تعالى إذا طوى السموات والارض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء، لانهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخلقتا بعد التكليف في وقت الجزاء، لئلا تجتمع دار التكليف ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الاخرة. وقال ابن فورك: الجنة يزاد فيها يوم القيامة. قال ابن عطية: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال: إن الجنة لم تخلق بعد. قال ابن عطية: وقول ابن فورك " يزاد فيها " إشارة إلى موجود، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر في الزيادة. قلت: صدق ابن عطية رضي الله عنه فيما قال: وإذا كانت السموات السبع والارضون السبع بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ألقيت في فلاة من الارض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فالجنة الان على ما هي عليه في الاخرة عرضها كعرض السموات والارض، إذ العرش سقفها، حسب ما ورد في صحيح مسلم. ومعلوم أن السقف يحتوي على ما تحته ويزيد. وإذا كانت المخلوقات كلها بالنسبة إليه كالحلقة فمن ذا الذي يقدره ويعلم طوله وعرضه إلا الله خالقه الذي لا نهاية لقدرته (4)، ولا غاية لسعة مملكته، سبحانه وتعالى. (1) راجع ج 17 ص 179. (2) الكفة (بالكسر): ما يصاد به الظباء، يجعل كالطوق. (3) في د وه‍: ولكنه يراد. (4) في د وب وه‍: لمقدوراته. (*)
[ 206 ]
قوله تعالى: الذين ينفقون في السراء والضراء والكظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (الذين ينفقون) هذا من صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة، وظاهر الاية أنها مدح بفعل المندوب إليه. و (السراء) اليسر (والضراء) العسر، قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل. وقال عبيد بن عمير والضحاك: السراء والضراء الرخاء والشدة. ويقال في حال الصحة والمرض. وقيل: في السراء في الحياة، وفي الضراء يعني يوصي بعد الموت. وقيل: في السراء في العرس والولائم، وفي الضراء في النوائب والماتم. وقيل: في السراء النفقة التي تسركم، مثل النفقة على الاولاد والقرابات، والضراء على الاعداء. ويقال: في السراء ما يضيف به الفتى (1) ويهدي إليه. والضراء ما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم. قلت: - والاية تعم. ثم قال تعالى: (والكاظمين الغيظ) وهى المسألة: الثانية - وكظم الغيظ رده في الجوف، يقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه، وكظمت السقاء أي ملائه وسددت عليه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، ومنه الكظام للسير الذي يسد به فم الزق والقربة. وكظم البعير جرته (2) إذا ردها في جوفه، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه: كظم، حكاه الزجاج. يقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا، ومنه قول الراعي: فأفضن بعد كظومهن بجرة * من ذي الابارق (3) إذ رعين حقيلا الحقيل: موضع. والحقيل: نبت. وقد قيل: إنها تفعل ذلك عند الفزع والجهد فلا تجتر، قال أعشى باهلة يصف رجلا نحارا للابل فهي تفزع منه: قد تكظم البزل (4) منه حين تبصره * حتى تقطع في أجوافها الجرر (1) في د، وز: الغنى. (2) الجرة (بالكسر): ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه. (3) في ب وه‍ ود: ذى الاباطح. (4) ليزل (بضم فسكون): جمع بازل، وهى البعير الذي كملت قوته ودخل في التاسعة وفطر نابه. (*)
[ 207 ]
ومنه: رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غما وحزنا. وفي التنزيل: " وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " [ يوسف: ] (1). " ظل وجهه مسودا وهو كظيم " [ النحل: ]. " إذ نادى وهو مكظوم " [ القلم: ]. والغيظ أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان لكن فرقان ما بينهما، أن الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما لابد، ولهذا جاء (2) إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم. وقد فسر بعض الناس الغيظ بالغضب، وليس بجيد. والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: (والعافين عن الناس) العفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للانسان أن يعفو وحيث يتجه حقه. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه. واختلف في معنى " عن الناس "، فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: " والعافين عن الناس " يريد عن المماليك. قال ابن عطية: وهذا حسن على جهه المثال، إذ هم الخدمة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسر به. وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تعالى: " والكاظمين الغيظ ". قال لها: قد فعلت. فقالت: أعمل بما بعده " والعافين عن الناس ". فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: " والله يحب المحسنين ". قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى. وروي عن الاحنف بن قيس مثله. وقال زيد ابن سلم: " والعافين عن الناس " عن ظلمهم وإساءتهم (3). وهذا عام، وهو ظاهر الاية. وقال مقاتل بن حيان في هذه الاية: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك: (إن هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الامم التي مضت). فمدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال: " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " [ الشورى: 37 ] (4)، وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله: " والعافين عن الناس "، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك. ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من (1) راجع ج‍ 9 ص 247 وج‍ 10 ص 116 وج‍ 18 ص 252. (2) في د: جاز. (3) في ه‍: عمن ظلمهم وأساء إليهم. (4) راجع ج‍ 16 ص 35. (*)
[ 208 ]
أعظم العبادة وجهاد النفس، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة (1) ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). وقال عليه السلام (ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله). وروى أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أشد من كل شئ ؟ قال: (غضب الله). قال فما ينجي من غضب الله ؟ قال: (لا تغضب). قال العرجي: وإذا غضبت فكن وقورا كاظما * للغيظ تبصر ما تقول وتسمع فكفى به شرفا تبصر ساعة * يرضى بها عنك الاله وترفع وقال عروة بن الزبير في العفو: لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا * حتى يذلوا وإن عزوا لاقوام ويشتموا فترى الالوان مشرقة * لا عفو ذل ولكن عفو إكرام وروى أبو داود وأبو عيسى الترمذي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء) قال: هذا حديث حسن غريب. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذي أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب). ذكره الماوردي. وقال ابن المبارك: كنت عند المنصور جالسا فأمر بقتل رجل، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله عزوجل من كانت له يد عند الله فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن ذنب)، فأمر بإطلاقه. الرابعة - قوله تعالى: (والله يحب المحسنين) أي يثيبهم على إحسانهم. قال سري السقطي: الاحسان أن تحسن وقت الامكان، فليس كل وقت يمكنك الاحسان، قال الشاعر: (1) الصرعة (بضم الصاد وفتح الراء): المبالغ في الصراع الذي لا يغلب، فنقله إلى الذي يغلب نفسه عند الغضب ويقهرها. (*)
[ 209 ]
بادر بخير إذا ما كنت مقتدرا * فليس في كل وقت أنت مقتدر وقال أبو العباس الجماني فأحسن: ليس في كل ساعة وأوان * تتهيأ صنائع الاحسان وإذا أمكنت فبادر إليها * حذرا من تعذر الامكان وقد مضى في " البقرة " (1) القول في المحسن والاحسان فلا معنى للاعادة. قوله تعالى: والذين إذا فعلوا فحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) ذكر الله تعالى في هذه الاية صنفا، هم دون الصنف الاول فألحقهم به (2) برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون. قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت هذه الاية في نبهان التمار - وكنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء باع منها تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها فندم (3) على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت هذه الاية. وذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له - ثم تلا هذه الاية - " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " - الاية، والاية الاخرى - ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) [ النساء: 110 ] (4). وخرجة الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا عام. وقد تنزل الاية بسبب خاص ثم تتناول جميع من فعل ذلك أو أكثر منه. وقد قيل: إن سبب نزولها أن ثقفيا خرج في غزاة وخلف صاحبا له أنصاريا على أهله، فخانه فيها بأن (1) راجع ج‍ 1 ص 415. (2) في ابن عطية: بهم. (3) في ب ود وه‍: ثم. (4) راجع ج‍ 5 ص 380. (*)
[ 210 ]
اقتحم عليها فدفعت عن نفسها فقبل يدها، فندم (1) على ذلك فخرج يسيح في الارض نادما تائبا، فجاء الثقفي فأخبرته زوجته بفعل صاحبه، فخرج في طلبه فأتى به إلى أبي بكر وعمر رجاء أن يجد عندهما فرجا فوبخاه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بفعله، فنزلت هذه الاية. والعموم أولى للحديث. وروي عن ابن مسعود أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، حيث كان المذنب منهم تصبح عقوبته [ مكتوبة ] (2) على باب داره، وفي رواية: كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: أجدع أنفك، أقطع أذنك، أفعل كذا، فأنزل الله تعالى هذه الاية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل. ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الاية. والفاحشة تطلق على كل معصية، وقد كثر اختصاصها بالزنا حتى فسر جابر بن عبد الله والسدي هذه الاية بالزنا. و " أو " في قوله: " أو ظلموا أنفسهم " قيل هي بمعنى الواو، والمراد ما دون الكبائر. (ذكروا الله) معناه بالخوف من عقابه والحياء منه. الضحاك: ذكروا العرض الاكبر على الله. وقيل تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، قاله الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل أيضا: ذكروا الله باللسان عند الذنوب. (فاستغفروا لذنوبهم) أي طلبوا الغفران لاجل ذنوبهم. وكل دعاء فيه هذا المعنى أو لفظه فهو استغفار. وقد تقدم في صدر هذه السورة (3) سيد الاستغفار، وأن وقته الاسحار. فالاستغفار عظيم وثوابه جسيم، حتى لقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له. وإن كان قد فر من الزحف). وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار. قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الاصرار ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان. فأما من قال بلسانه: استغفر الله، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبائر. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار. (1) في ب ود وه‍: ثم. (2) كذا في ابن عطية، وهى الرواية. (3) راجع ص 38. (*)
[ 211 ]
قلت: هذا يقوله في زمانه، فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الانسان مكبا على الظلم ! حريصا عليه لا يقلع، والسبحة في يده زاعما أنه يستغفر الله من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف. وفي التنزيل " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " [ البقرة: 231 ]. وقد تقدم (1). الثانية - قوله تعالى: (ومن يغفر الذنوب إلا الله) أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلا الله. (ولم يصروا) أي ولم يثبتوا ويعزموا على ما فعلوا. وقال مجاهد: أي ولم يمضوا. وقال معبد بن صبيح: صليت خلف عثمان وعلي إلى جانبي، فأقبل علينا فقال: صليت بغير وضوء ثم ذهب فتوضأ وصلى. (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). الاصرار هو العزم بالقلب على الامر وترك الاقلاع عنه. ومنه صر الدنانير أي الربط عليها، قال الحطيئة يصف الخيل: عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا * علاتها بالمحصدات (2) أصرت أي ثبتت على عدوها. وقال قتادة: الاصرار الثبوت على المعاصي، قال الشاعر: يصر بالليل ما تخفي شواكله (3) * يا ويح كل مصر القلب ختار (4) قال سهل بن عبد الله: الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك، والاصرار هو التسويف، والتسويف أن يقول: أتوب غدا، وهذا دعوى النفس، كيف يتوب غدا وغدا لا يملكه !. وقال غير سهل: الاصرار هو أن ينوي أن يتوب فإذا نوى التوبة [ النصوح ] (5) خرج عن الاصرار. وقول سهل أحسن. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا توبة مع إصرار). الثالثة - قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الاصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين، وما وصفه من (1) راجع ج‍ 1 ص 446 وج‍ 3 ص 156. (2) العلامة (بالضم): بقية جرى الفرس، والمحصدات: السباط المفتولة. (3) الشواكل: الطرق المنشعبة عن الطريق الاعظم. (4) الختر: شبيه بالغدر والخديعة. وقيل: هو أسوأ الغدر وأقبحه، و " ختار " للبالغة (5) في ب ود. (*)
[ 212 ]
عذاب النار وتهدد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغبا ورهبا، والرغبة والرهبة ثمرة الخوف والرجاء، يخاف من العقاب ويرجو الثواب، والله الموفق للصواب. وقد قيل: إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته، لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة. قلت: وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى، فإن الانسان لا يتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه، فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها، وانبعث منه الندم على ما فرط، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب، فإن لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية وملازما لاسباب الهلكة. قال سهل بن عبد الله: علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب، كالثلاثة الذين خلفوا (1). الرابعة - قوله تعالى: (وهم يعلمون) فيه أقوال. فقيل: أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقيل: " وهم يعلمون " أني أعاقب على الاصرار. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: " وهم يعلمون " أنهم إن تابوا تاب الله عليهم. وقيل: " يعلمون " أنهم إن استغفروا غفر لهم. وقيل: " يعلمون " بما حرمت عليهم، قاله ابن إسحاق. وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي: " وهم يعلمون " أن الاصرار ضار، وأن تركه خير من التمادي. وقال الحسن بن الفضل: " وهم يعلمون " أن لهم ربا يغفر الذنب. قلت: وهذا أخذه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عزوجل قال: (أذنب عبدا (2) ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي - فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك) أخرجه مسلم. (1) هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعة. تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه (لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة) إلى أن نزل فيهم قوله تعالى: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا... " راجع ج‍ 8 ص 281، وسيرة ابن هشام ص 893 طبع أوربا. (2) في ه‍: عبدي. والثابت هو ما في مسلم. (*)
[ 213 ]
وفيه دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب، لان التوبة الاولى طاعة وقد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه، لانه أضاف (1) إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لانه أضاف (1) إليها ملازمة الالحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنوب سواه. وقوله في أخر الحديث (اعمل ما شئت) أمر معناه الاكرام في أحد الاقوال، فيكون من باب قوله: " ادخلوها بسلام " [ الحجر: 46 ] (2). وآخر الكلام خبر (3) عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه. ودلت الاية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه) أخرجاه في الصحيحين. وقال: يستوجب العفو الفتى إذا اعترف * بما جنى من الذنوب واقترف * وقال آخر: أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه * إن الجحود الذنب ذنبان وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم). وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفار والتواب، على ما بيناه في الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى. الخامسة - الذنوب التي يتاب منها إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرد الايمان نفس توبة، وغير الكفر إما حق لله تعالى، وإما حق لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك، غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الايمان والظهار وغير ذلك، وأما حقوق الادميين فلابد من إيصالها إلي مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لاعسار فعفو الله مأمول، وفضله مبذول، فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات. وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى (4). (1) في ب ود وه‍: انضاف. (2) راجع ج‍ 10 ص 32، وج‍ 17 ص 21. (3) في أ وح‍: أخبر. (4) راجع ج‍ 13 ص 77. (*)
[ 214 ]
السادسة: ليس على الانسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه. وقد تأول كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبد المعطي الاسكندراني رضي الله عنه أن الامام المحاسبي رحمه الله يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لا تصح، وأن الندم على جملتها لا يكفي، بل لابد أن يتوب من كل فعل بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين. ظنوا ذلك من قوله، وليس هذا مراده، ولا يقتضيه كلامه، بل حكم المكلف إذا عرف حكم أفعاله، وعرف المعصبة من غيرها، صحت منه التوبة من جملة ما عرف، فإنه إن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل، ومثاله رجل كان يتعاطى بابا من أبواب الربا ولا يعرف أنه ربا فإذا سمع كلام الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " [ البقرة: 279 ] (1) عظم عليه هذا التهديد، وظن أنه سالم من الربا، فإذا علم حقيقة الربا الان، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابس منه شيئا كثيرا في أوقات متقدمة، صح أن يندم عليه الان جملة، ولا يلزمه تعيين أوقاته، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنميمة وغير ذلك من المحرمات التي لم يعرف كونها محرمة، فإذا فقه العبد وتفقد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملة، وندم على ما فرط فيه من حق الله تعالى، وإذا استحل من كان ظلمه فحالله على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز، لانه من باب هبة المجهول، هذا مع شح العبد وحرصه على طلب حقه، فكيف بأكرم الاكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفو عن المعاصي صغارها وكبارها. قال شيخنا رحمه الله تعالى: هذا مراد الامام، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقده، وما ظنه به الظان من أنه لا يصح الندم إلا على فعل فعل وحركة حركة وسكنة سكنة على التعيين هو من باب تكليف مالا يطاق، الذي لم يقع شرعا وإن جاز عقلا، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر، وكم حركة تحركها في الزنا، وكم خطوة مشاها إلى محرم، وهذا مالا يطيقه أحد، ولا تتأتى منه توبة على التفصيل. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان من أحكام التوبة وشروطها في " النساء " (2) وغيرها إن شاء الله تعالى. (1) راجع ج‍ 3 ص 362. (2) راجع ج‍ 5 ص 90 وج‍ 11 ص 231، وج‍ 231 وج‍ 13 ص 238. (*)
[ 215 ]
السابعة - في قوله تعالى: (ولم يصروا) حجة واضحة ودلالة قاطعة لما قال سيف السنة، ولسان الامة القاضي أبو بكر بن الطيب: أن الانسان يؤاخذ بما وطن عليه بضميره (1)، وعزم عليه بقلبه من المعصية. قلت: وفي التنزيل: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " [ الحج: 25 ] (2) وقال: " فأصبحت كالصريم " [ القلم: 20 ] (3). فعوقبوا قبل فعلهم بعزمهم وسيأتي بيانه. وفي البخاري (إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار) قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه). فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السلاح، وأنص من هذا ما خرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الانماري وصححه مرفوعا (إنما الدنيا لاربعة نفر رجل أعطاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقا فهذا أفضل المنازل، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو [ صادق النية ] (4) يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو [ يخبط في مال بغير علم ] (4) لا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء). وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الانسان به وإن وطن عليه (5) لا يؤاخذ به. ولا حجة [ له ] (6) في قول عليه السلام: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة) لان معنى (فلم يعملها) فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا، ومعنى (فإن عملها) أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا. وبالله توفيقنا. قوله تعالى: أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها ونعم أجر العملين (136) رتب تعالى بفضله وكرمه غفران الذنوب لمن أخلص في توبته ولم يصر على ذنبه. ويكن أن يتصل هذا بقصة أحد، أي من فر ثم تاب ولم يصر فله مغفرة الله. (1) في أ وح‍ وطن عليه ضميره، وعلى ما أثبت يقدر العمول. (2) راجع ج‍ 12 ص 34. (3) راجع ج‍ 18 ص 241. (4) زيادة عن سنن الترمذي. (5) المعمول محذوف في كل الاصول، وتقديره في قوله القاضى السابق. (6) في ه‍. (*)
[ 216 ]
قوله تعالى: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عقبة المكذبين (137) هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين، والسنن جمع سنة وهي الطريق المستقيم. وفلان على السنة أي على طريق الاستواء لا يميل إلى شئ من الاهواء، قال الهذلي: فلا تجزعن من سنة أنت سرتها * فأول راض سنة من يسيرها والسنة: الامام المتبع المؤتم به، يقال: سن فلان سنة حسنة وسيئة إذا عمل عملا اقتدي به فيه من خير أو شر، قال لبيد: من معشر سنت لهم آباؤهم * ولكل قوم سنة وإمامها والسنة الامة، والسنن الامم، عن المفضل. وأنشد: ما عاين الناس من فضل كفضلهم * ولا رأوا مثلهم في سالف السنن * وقال الزجاج: والمعنى أهل سنن، فحذف المضاف. وقال أبو زيد: أمثال. عطاء: شرائع. مجاهد: المعنى " وقد خلت من قبلكم سنن " يعنى بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود. والعاقبة: آخر الامر، وهذا في يوم أحد. يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله، يعني بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين. يعني القرآن، عن الحسن وغيره. وقيل: هذا إشارة إلى قوله: " قد خلت من قبلكم سنن ". والموعظة الوعظ. وقد تقدم. قوله تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين (139) عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال (ولا تهنوا) أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم.
[ 217 ]
أصابكم. " ولا تحزنوا " على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة. " وأنتم الاعلون " أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر " إن كنتم مؤمنين " أي بصدق وعدي. وقيل: " إن " بمعنى " إذ ". قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فبيناهم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل، من المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر). فأنزل الله هذه الآيات. وثاب (1) نفر من المسلمين رماه فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله تعالى: " وأنتم الاعلون " يعني الغالبين على الاعداء بعد أحد. فلم يخرجوا بعد ذلك عسكرا إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم، وهذه البلدان كلها إنما افتتحت على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد انقراضهم ما افتتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتتحون في ذلك الوقت. وفي هذه الآية بيان فضل هذه الامة، لانه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، لانه قال لموسى: " إنك أنت الاعلى " [ طه: 68 ] (2) وقال لهذه الامة: " وأنتم الاعلون ". وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الاعلى فهو سبحانه العلي، وقال للمؤمنين: " وأنتم الاعلون ". قوله تعالى: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظلمين (140) قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح) القرح الجرح. والضم والفتح فيه لغتان عن الكسائي والاخفش، مثل عقر (3) وعقر. الفراء: هو بالفتح الجرح، وبالضم ألمه. والمعنى: إن يمسسكم يوم أحد قرح فقد مس القوم يوم بدر قرح مثله. وقرأ محمد بن السميقع " قرح " بفتح (1) في ح‍ وأ: بات. (2) راجع ج‍ 11 ص 223. (3) في الاصول: " قفر وقفر " وهو تحريف. (*)
[ 218 ]
القاف والراء على المصدر. (وتلك الايام نداولها بين الناس) قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عزوجل دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون. وقيل: " نداولها بين الناس " من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر. والدولة الكرة، قال الشاعر: فيوم لنا ويوم علينا * ويوم نساء ويوم نسر قوله تعالى: (وليعلم الله الذين آمنوا) معناه، وإنما كانت هذه المداولة ليرى المؤمنن من المنافق فيميز بعضهم من بعض، كما قال: " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا " [ آل عمران: 166 - 167 ] (1). وقيل: ليعلم صبر المؤمنين، العلم الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غيبا قبل أن كلفهم. وقد تقدم في " البقرة " (2) هذا المعنى. قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ويتخذ منكم شهداء " أي يكرمكم بالشهادة، أي ليقتل قوم فيكونوا شهدا على الناس بأعمالهم. وقيل: لهذا قيل شهيد: وقيل: سمي شهيدا لانه مشهود له بالجنة وقيل: سمي شهيدا لان أرواحهم احتضرت (3) دار السلام، لانهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة، فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وهذا هو الصحيح على ما يأتي والشهادة فضلها عظيم، ويكفيك في فضلها قول تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم " [ التوبة: 111 ] (4) الآية. " يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم " إلى قوله: " ذلك الفوز العظيم " [ الصف: 10 - 11 - 12 ] (5). وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة). وروى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة). وفي البخاري: " من قتل من المسلمين (1) راجع ص 265 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 2 ص 156. (3) في ب، د، آه‍: أحضرت. (4) راجع ج‍ 8 ص 266. (5) راجع ج‍ 18 ص 86. (*)
[ 219 ]
يوم أحد " منهم حمزة واليمان والنضر (1) بن أنس ومصعب بن عمير، حدثني عمرو بن علي أن معاذ ابن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال: ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الانصار. قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون. قال: وكان بئر معونة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم اليمامة على عهد أبى بكر يوم مسيلمة الكذاب. وقال أنس: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعلى بن أبى طالب وبه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسحها وهى تلتئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن. الثانية - في قوله تعالى: " ويتخذ منكم شهداء " دليل على أن الارادة غير الامر كما يقوله أهل السنة، إن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين: حمزة وأصحابه وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده فواقعه آدم، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده فامتنع منه، وعنه وقعت الاشارة بقوله الحق: " ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم (2) ". وإن كان قد أمر جميعهم بالجهاد، ولكنه خلق الكسل والاسباب القاطعة عن المسير فقعدوا. الثالثة - روي عن علي (3) ؟ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال له: (خير أصحابك في الاسارى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. فأنجز الله وعده بشهادة أوليائه بعد أن خيرهم فاختاروا القتل. (والله لا يحب الظالمين) أي المشركين، أي وإن أنال (4) الكفار من المؤمنين فهو لا يحبهم، وإن أحل ألما بالمؤمنين فإنه يحب المؤمنين. قوله تعالى: وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكفرين (141) (1) الذى في شرح القسطلانى على صحيح البخاري: " وأنس بن النضر، وهو عم أنس بن مالك كما ذكره أبو نعيم وابن عبد البر وغيرهما. ولابي ذر " النضر بن أنس " وهو خطأ، والصواب الاول ". (2) راجع ج‍ 8 ص 156. (3) في ب ود وه‍: روى على. (4) في ه‍ ود: أدال. (*)
[ 220 ]
فيه ثلاثة أقوال: يمحص: يختبر. الثاني - يطهر، أي من ذنوبهم فهو على حذف مضاف. المعنى: وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء. الثالث - يمحص يخلص، فهذا أغربها. قال الخليل: يقال محصى الحبل يمحص محصا إذا انقطع وبره، ومنه (اللهم محص عنا ذنوبنا) أي خلصنا من عقوبتها. وقال أبو إسحاق الزجاج: قرأت على محمد بن يزيد عن الخليل: التمحيص التخليص. يقال: محصه [ يمحصه ] (1) محصا إذا خلصه، فالمعنى عليه ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم. (ويمحق الكافرين) أي يستأصلهم بالهلاك. قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ويعلم الصبرين (142) " أم " بمعنى بل. وقيل: الميم زائدة، والمعنى أحسبتم يامن انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم لا، حتى (يعلم الله الذين جاهدوا منكم) أي علم شهادة حتى يقع عليه الجزاء. والمعنى: ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم، فلما بمعنى لم. وفرق سيبويه بين " لم " و " لما " فزعم أن " لم يفعل " نفي فعل، وأن " لم يفعل ". نفى قد فعل. (ويعلم الصابرين) منصوب بإضمار أن، عن الخليل. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر " يعلم الصابرين " بالجزم على النسق. وقرئ بالرفع على القطع، أي وهو يعلم. وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو. وقال الزجاج: الواو هنا بمعنى حتى، أي ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم حتى يعلم صبرهم كما تقدم آنفا. قوله تعالى: ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143) قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت) أي الشهادة من قبل أن تلقوه. وقرأ الاعمش " من قبل أن تلاقوه " أي من قبل القتل. وقيل: من قبل أن تلقوا أسباب الموت وذلك أن كثيرا ممن لم يحضروا بدرا كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال، (1) في ب ود وه‍. (*)
[ 221 ]
فلما كان يوم أحد انهزموا، وكان منهم من تجلد حتى قتل، ومنهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه قال لما انكشف المسلمون: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وباشر القتال وقال: إيها إنها ريح الجنة ! إني لاجدها، ومضى حتى استشهد. قال أنس: فما عرفناه إلا ببنانه ووجدنا فيه بضعا وثمانين جراحة. وفيه أمثاله نزل " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " [ الاحزاب: 23 ] (1). فالآية عتاب في حق من انهزم، لا سيما وكان منهم حمل للنبي صلى الله عليه وسلم على الخروج من المدينة، وسيأتي. وتمني الموت يرجع من المسلمين إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد، لا إلى قتل الكفار لهم، لانه معصية وكفر ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل. قوله تعالى: (وأنتم تنظرون) قال الاخفش: هو تكرير بمعنى التأكيد لقوله: " فقد رأيتموه " مثل " ولا طائر يطير بجناحيه " [ الانعام: 38 ] (2). وقيل: معناه وأنتم بصراء ليس في أعينكم علل، [ كما ] (3) تقول: قد رأيت كذا وكذا وليس في عينيك علة، أي فقد رأيته رؤية حقيقة، وهذا راجع إلى معنى التوكيد. وقال بعضهم: " وأنتم تنظرون " إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الآية إضمار، أي فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم انهزمتم ؟. قوله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشكرين (144) فيه خمس مسائل: الاولى - روى أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان: قد قتل محمد. قال عطية العوفي: فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم. وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى (1) راجع ج‍ 14 ص 158. (2) راجع ج‍ 6 ص 419. (3) في ب ود وه‍. (*)
[ 222 ]
تلحقوا به، فأنزل الله تعالى في ذلك (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) إلى قول: " فآتاهم الله ثواب الدنيا " [ آل عمران: 148 ]. وما نافية، وما بعدها ابتداء وخبر، وبطل عمل " ما ". وقرأ ابن عباس " قد خلت من قبله الرسل " بغير ألف ولام. فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل وإن فقد الرسول بموت أو قتل. وأكرم نبيه صلى الله عليه وسلم [ وصفيه ] (1) باسمين مشتقين من اسمه: محمد وأحمد، وتقول العرب: رجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة، قال الشاعر: * إلى الماجد القرم الجواد المحمد (2) وقد مضى هذا في الفاتحة (3). وقال عباس بن مرداس: يا خاتم النبآء إنك مرسل * بالخير كل هدى السبيل هداكا إن الاله بنى (4) عليك محبة * في خلقه ومحمدا سماكا فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والاديان لا تزول بموت الانبياء. والله أعلم. الثانية - هذه الاية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه في " البقرة " (5) فظهرت عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الامر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح (6)، الحديث، كذا في البخاري. وفي سنن ابن ماجه عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عند أمرأته ابنة خارجة بالعوالي، فجعلوا يقولون: لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعض ما كان يأخذه عند (1) في ب وه‍. (2) هذا عجز بيت للاعشى، وصدره: * إليك أبيت اللعن كان كلالها * والذى في الديوان: الماجد الفرع. كذا في ب ود وه‍. وفرع كل شئ: أعلاه. (3) راجع ج‍ 1 ص 133. (4) في د، واللسان: ثنى ولم يعرف هذا في اللغة. والاصول بنى. (5) راجع ج‍ 2 ص 176 (6) السنح (بضم أوله وسكون النون وقد تضم): موضع بعوالي المدينة، وهى منازل بنى الحارث بن الخزرج، بينهما وبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم ميل. (*)
[ 223 ]
الوحي. فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال: أنت أكرم على الله من أن يميتك ! مرتين. قد والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر في ناحية المسجد يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرحلهم. فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ". قال عمر: " فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ ". ورجع عن مقالته التي قالها فيما ذكر الوائلي أبو نصر عبيد الله في كتابه الابانة: عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا - يريد أن يقول حتى يكون آخرنا موتا - فاختار الله عزوجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الدي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الوائلي أبو: نصر المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم " وكان قال ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الاكبر أبي بكر، وتفوهه بقول الله عزوجل: " كل نفس ذائقة الموت " [ آل عمران: 185 ] (1) وقوله: " إنك ميت وإنهم (2) ميتون " [ الزمر: 30 ] وما قاله ذلك اليوم - تنبه وتثبيت وقال: كأني لم أسمع بالآية إلا من أبي بكر. وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم. ومات صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا اختلاف، في وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الاربعاء. وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1) راجع ص 297 من هذا الجزء، وج‍ 11 ص 287. (2) راجع ج‍ 15 ص 254. (*)
[ 224 ]
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا * وكنت بنابرا ولم تك جافيا وكنت رحيما هاديا ومعلما * ليبك عليك اليوم من كان باكيا لعمرك ما أبكي النبي لفقده * ولكن لما أخشى من الهرج آتيا كأن على قلبي لذكر محمد * وما خفت من بعد النبي المكاويا أفاطم صلى الله رب محمد * على جدث أمسى بيثرب ثاويا فدى لرسول الله أمي وخالتي * وعمي وآبائي ونفسي وماليا صدقت وبلغت الرسالة صادقا * ومت صليت العود أبلج صافيا فلو أن رب الناس أبقى نبينا * سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا عليك من الله السلام تحية * وأدخلت جنات من عدن راضيا أرى حسنا أيتمته وتركته * يبكي ويدعو جده اليوم ناعيا (1) فإن قيل وهى: الثالثة - فلم أخر دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لاهل بيت أخروا دفن ميتهم: (عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخروها). فالجواب من ثلاثة أوجه: الاول - ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على موته. الثاني - لانهم لا يعلمون حيث يدفنونه. قال قوم في البقيع، وقال آخرون في المسجد، وقال قوم: يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم. حتى قال العالم الاكبر (2): سمعته يقول: (ما دفن نبي إلا حيث يموت) ذكره ابن ماجه والموطأ وغيرهما. الثالث - أنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والانصار في البيعة، فنظروا فيها حتى استتب الامر وانتظم الشمل واستوثقت (3) الحال، واستقرت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه من الغد بيعة أخرى عن ملا منهم ورضا، فكشف الله به الكربة من أهل الردة، وقام به الدين، والحمد لله رب العالمين. ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظروا في دفنه وغسلوه وكفنوه. والله أعلم. (1) في ج‍ وب ود: نائيا. (2) يريد به أبا بكر رضى الله عنه. (3) في ه‍: استوسقت. (*)
[ 225 ]
الرابعة واختلف هل صلي عليه أم لا، فمنهم من قال: لم يصل عليه أحد، وإنما وقف كل واحد يدعو، لانه كان أشرف من أن يصلى عليه. وقال ابن العربي: وهذا كلام ضعيف، لان السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء، فيقول: اللهم صل على محمد إلى يوم القيامة، وذلك منفعة لنا. وقيل: لم يصل عليه، لانه لم يكن هناك إمام. وهذا ضعيف، لان الذي كان يقيم بهم الصلاة الفريضة هو الذي كان يؤم بهم في الصلاة. وقيل: صلى عليه الناس أفذاذا، لانه كان آخر العهد به، فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصا دون أن يكون فيها تابعا لغيره. والله أعلم بصحة ذلك. قلت: قد خرج ابن ماجه بإسناد حسن بل صحيح من حديث ابن عباس وفيه: فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا (1) يصلون عليه، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. خرجه عن نصر ابن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال حدثني حسين ابن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس، الحديث بطوله. الخامسة - في تغيير الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شئ، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الايدي حتى أنكرنا قلوبنا. أخرجه ابن ماجه، وقال: حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن ينزل فينا القرآن، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمنا. وأسند عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم [ أنها قالت ] (2): كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام المصلي [ يصلي ] (2) لم يعد بصر (1) أرسالا: أفواجا وفرقا متقطعة بعضهم ينلو بعضا، واحدهم رسل، بفتح الراء والسين. (2) زيادة عن ابن ماجه. (*)
[ 226 ]
أحدهم موضع قدميه، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفى أبو بكر وكان عمر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة فتلفت الناس في الصلاة يمينا وشمالا. قوله تعالى: (أفإين مات أو فتل انقلبتم على أعقابكم) " أفإن مات " شرط " أو قتل " عطف عليه، والجواب " انقلبتم ". ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لان الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبرا واحدا. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل ؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء، فإنه في غير موضعه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط. وقوله " انقلبتم على أعقابكم " تمثيل، ومعناه ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، قاله قتادة وغيره. ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه: انقلب على عقبيه. ومنه " نكص على عقبيه " (1). وقيل: المراد بالانقلاب هنا الانهزام، فهو حقيقة لا مجاز. وقيل: المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة. قوله تعالى: (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره (2) المعصية لغناه. (وسيجزي الله الشاكرين)، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا. وجاء " وسيجزي الله الشاكرين " بعد قوله: " فان ؟ يضر الله شيئا " فهو اتصال وعد بوعيد. قوله تعالى: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتبا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها وسنجزي الشكرين (145) قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت لابد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له، لان معنى " مؤجلا " إلى أجل. ومعنى " بإذن الله " بقضاء الله وقدره. و " كتابا " نصب على المصدر، أي كتب الله كتابا مؤجلا. وأجل الموت هو الوقت الذي (1) راجع ج‍ 8 ص 26. (2) في ه‍ ود: ولا يتضرر بالمعصية. (*)
[ 227 ]
في معلومه سبحانه، أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله. ولا يصح أن يقال: لو لم يقتل لعاش. والدليل على قوله: " كتابا مؤجلا " إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " [ الاعراف: 34 ] (1) " إن أجل الله لآت " [ العنكبوت: 5 ] " لكل أجل كتاب " [ الرعد: 38 ]. والمعتزلي يقول: يتقدم الاجل ويتأخر، وأن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله، لانه يجب على القاتل الضمان والدية. وقد بين الله تعالى في هذه الاية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها. وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الاعراف " (2) إن شاء الله تعالى. وفيه دليل على كتب العلم وتدوينه. وسيأتي بيانه في " طه " عند قوله. " قال علمها عند ربي في كتاب " [ طه: 52 ] (3) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) يعني الغنيمة. نزلت في الذين تركوا المركز طلبا للغنيمة. وقيل: هي عامة في كل من أراد الدنيا دون الاخرة، والمعنى نؤته منها ما قسم له. وفي التنزيل: " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " [ الاسراء: 18 ] (4). (ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها) أي نؤته جزاء عمله، على ما وصف الله تعالى من تضعيف الحسنات لمن يشاء. وقيل: لمراد منها (5) عبد الله بن جبير ومن لزم المركز معه حتى قتلوا. (وسنجزي الشاكرين) أي نؤتيهم الثواب الابدي جزاء لهم على ترك الانهزام، فهو تأكيد لما تقدم من إيتاء مزيد الاخرة. وقيل: " وسنجزي الشاكرين " من الرزق في الدنيا لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما قسم له مما يناله الكافر. قوله تعالى: وكأين من نبى قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصبرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وتبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكفرين (147) (1) راجع ج‍ 7 ص 202 وج 13 ص 327 وج‍ 9 ص 327. (2) راجع ج‍ 7 ص 202. (3) راجع ج‍ 11 ص 205 فما بعد. (4) راجع ج‍ 10 ص 235. (5) في د وج‍: بهذا. (*)
[ 228 ]
قوله تعالى: (وكأين من نبى قتل (1) معه ربيون كثير) قال الزهري: صاح الشيطان يوم أحد: قتل محمد، فانهزم جماعة من المسلمين. قال، كعب بن مالك: فكنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلي أن أسكت، فأنزل الله عزوجل: " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا " الآية. و " كأين " بمعنى كم. قال الخليل وسيبويه: هي أي دخلت. عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى وكم وصورت في المصحف نونا، لانها كلمة. نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، ثم كثر استعمالها فتلعبت (2) بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف، فحصل فيها لغات أربع قرئ بها. وقرأ ابن كثير " وكائن " مثل وكاعن، على وزن فاعل، وأصله كئ فقلبت الياء ألفا، كما قلبت في ييأس (3) فقيل ياءس، قال الشاعر: وكائن بالا طح من صديق * يراني لو أصبت هو المصابا وقال آخر: وكائن رددنا عنكم من مدجج * يجئ أمام الركب يردي (4) مقنعا وقال أخر: وكائن في المعاشر (5) من أناس * أخوهم فوقهم وهم كرام وقرأ ابن محيصن " وكئن " مهموزا مقصورا مثل وكعن، وهو من كائن حذفت ألفه. وعنه أيضا " وكأين " مثل وكعين وهو مقلوب كئ المخفف. وقرأ الباقون " كأين " بالتشديد مثل كعين وهو الاصل، قال الشاعر: كأين من أناس لم يزالوا * أخوهم فوقهم وهم كرام (1) قراءة نافع. (2) في ا وح‍: فلغت. (3) القلب في ذلك على لغة من يقلب حرف العلة الساكن المفتوح ما قبله ألفا، وهى لغة بلحارث بن كعب وخثعم وزبيد وقبائل من اليمن، كما ذكره الواحدى في وسيطه في تفسير قوله تعالى: " إن هذان لساحران ". (4) يردى: يمشى الرديان (بالتحريك) وهو ضرب من المشى فيه تبختر. والمقنع: الذى تقنع بالسلاح، كالبيضة والمغفر. (5) في البحر: المعاسر. (*)
[ 229 ]
وقال آخر: كأين أبدنا من عدو بعزنا * وكائن أجرنا من ضعيف وخائف فجمع بين لغتين: كأين وكائن، ولغة خامسة كيئن مثل كيعن، وكأنه مخفف من كيئ مقلوب كأين. ولم يذكر الجوهري غير لغتين: كائن مثل كاعن، وكأين مثل كعين، تقول كأين رجلا لقيت، بنصب ما بعد كأين على التمييز. وتقول أيضا: كأين من رجل لقيت، وإدخال من بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود. وبكأين تبيع هذا الثوب ؟ أي بكم تبيع، قال ذو الرمة: وكائن ذعرنا من مهاة ورامح * بلاد العدا (1) ليست له ببلاد قال النحاس: ووقف أبو عمرو " وكأي " بغير نون، لانه تنوين. وروى ذلك سورة ابن المبارك عن الكسائي. ووقف الباقون بالنون اتباعا لخط المصحف. ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والامر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الانبياء، أي كثير من الانبياء قتل معه ربيون كثير، أو كثير من الانبياء قالوا فما ارتد أممهم، قولان: الاول للحسن وسعيد بن جبير. قال الحسن: ما قتل نبي في حرب قط. وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال. والثاني عن قتادة وعكرمة. والوقف - على هذا القول - على " قتل " جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب. وهي قراءة ابن عباس وأختارها أبو حاتم. وفيه وجهان: أحدهما أن يكون " قتل " واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله " قتل " ويكون في الكلام إضمار، أي ومعه ربيون كثير، كما يقال: قتل الامير معه جيش عظيم، أي ومعه جيش. وخرجت معي تجارة، أي ومعي. الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلوا بعضهم. ويكون قوله " فما وهنوا " راجعا إلى من بقي منهم. قلت: وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل، وقتل معه جماعة من أصحابه. وقرأ الكوفيون وابن عامر " قاتل " وهي قراءة (1) كذا في الاصول المهاة: البقرة الوحشية. والرامح: الثور الوحشى، لان قرنه بمنزلة الرمح فهو رامح: والمعنى لا يقيم مع الانس في مكان. الذي في ديوانه: " بلاد الورى ليست له ببلاد ". (*)
[ 230 ]
ابن مسعود، واختارها أبو عبيد وقال. إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعم وأمدح. و " الربيون " بكسر الراء قراءة الجمهور. وقراءة علي رضي الله عنه بضمها. وابن عباس بفتحها، ثلاث لغات. والربيون الجماعات الكثيرة، عن مجاهد. وقتادة والضحاك وعكرمة، واحدهم ربي بضم لراء وكسرها، منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها، وهي الجماعة. وقال عبد الله بن مسعود: الربيون الالوف الكثيرة. وقال ابن زيد: الربيون الاتباع. والاول أعرف في اللغة، ومنه يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح: ربة وربة. والرباب قبائل تجمعت. وقال أبان بن ثعلب: الربي عشرة آلاف. وقال الحسن: هم العلماء الصبر. ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي: الجمع الكثير، قال حسان: وإذا معشر تجافوا عن الح‍ * - ق حملنا عليهم ربيا وقال الزجاج: ها هنا قراءتان " ربيون " بضم الراء " وربيون " بكسر الراء، أما الربيون (بالضم): الجماعات الكثيرة. ويقال: عشرة آلاف. قلت: وقد روي عن ابن عباس " ربيون " بفتح الراء منسوب إلى الرب. قال الخليل: الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الانبياء. وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى. والله أعلم. قوله تعالى: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) " وهنوا " أي ضعفوا، وقد تقدم والوهن: انكسار الجد (1) بالخوف. وقرأ الحسن وأبو الحسن وأبو السمال " وهنوا " بكسر الهاء وضمها، لغتان عن أبي زيد. وهن الشئ يهن وهنا. وأوهنته أنا ووهنته ضعفته. والواهنة: أسفل الاضلاع وقصارها (1). والوهن من الابل: الكثيف. والوهن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك الموهن. وأوهنا صرنا (2) في تلك الساعة، أي ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قتل منهم، أي ما وهن باقيهم، فحذف المضاف. (وما ضعفوا) أي عن عدوهم. (وما استكانوا) أي لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة والخضوع، وأصلها " استكنوا " على افتعلوا، فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف. ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا، والاول (1) الواهنة: القصيرى وهى أسفل الاضلاع. (2) كذا في دو اللسان، وفى ه‍ وأو ح‍: ضربنا. (*)
[ 231 ]
أشبه بمعنى الآية. وقرئ " فما وهنوا وما ضعفوا " بإسكان الهاء والعين. وحكى الكسائي " ضعفوا " بفتح العين. ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا، وبالنصر على أعدائهم. وخصوا الاقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لان الاعتماد عليها. يقول: فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد ؟ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها. وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق، وقوله الصدق. (والله يحب الصابرين) يعني الصابرين على الجهاد. وقرأ بعضهم " وما كان قولهم " بالرفع، جعل القول اسما لكان، فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم: (ربنا اغفر لنا ذنوبنا) ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان. واسمها " إلا أن قالوا ". ربنا اغفر لنا ذنوبنا " يعني الصغائر (وإسرافنا) يعني الكبائر. والاسراف: الافراط في الشئ ومجاوزة الحد. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء (اللهم أغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني) وذكر الحديث. فعلى الانسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا، فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون. قوله تعالى: فأتئهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة والله يحب المحسنين (148) قوله تعالى: (فآتاهم الله) أي أعطاهم (ثواب الدنيا)، يعنى النصر والظفر على عدوهم. (وحسن ثواب الآخرة) يعني الجنة. وقرأ الحجدري ؟ " فأثابهم الله " من الثواب. (والله يحب المحسنين) تقدم.
[ 232 ]
قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقبكم فتنقلبوا خسرين (149) بل الله مولئكم وهو خير النصرين (150) لما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الانبياء حذر طاعة الكافرين، يعني مشركي العرب: أبا سفيان وأصحابه وقيل: اليهود والنصارى. وقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم. (يردوكم على أعقابكم) أي إلى الكفر. (فتنقلبوا خاسرين) أي فترجعوا مغبونين. ثم قال: (بل الله مولاكم) أي متولي نصركم وحفظكم إن أطعتموه. وقرئ " بل الله " بالنصب، على تقدير بل وأطيعوا الله مولاكم. قوله تعالى: سنقلى في قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا ومأوئهم النار وبئس مثوى الظلمين (151) نظيره " وقذف في قلوبهم الرعب " (1). وقرأ ابن عامر والكسائي " الرعب " بضم العين، وهما لغتان. والرعب: الخوف، يقال: رعبته رعبا ورعبا، فهو مرعوب. ويجوز أن يكون الرعب مصدرا، والرعب الاسم. وأصله من المل ء، يقال: سيل راعب يملا الوادي. ورعبت الحوض ملاته. والمعنى: سنملا قلوب المشركين (2) خوفا وفزعا. وقرأ السختياني " سيلقي " بالياء، والباقون بنون العظمة. قال السدي وغيره: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا ! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد (3) تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به. والالقاء يستعمل حقيقة في الاجسام، قال الله تعالى: " وألقى الالواح " [ الاعراف: 150 ] (4) " فألقوا حبالهم وعصيهم " [ الشعراء: 44 ] " فألقى موسى عصاه " [ الاعراف: 107 ]. قال الشاعر: * فألقت عصاها واستقر بها النوى * (1) راجع ج‍ 18 ص 3. (2) في د وج‍ وه‍: الكافرين. (3) في د: الشديد. (4) راجع ج‍ 7 ص 288 و 256 وج‍ 13 ص 97. (*)
[ 233 ]
ثم قد يستعمل مجازا كما في هذه الآية، وقوله: " وألقيت عليك محبة مني " [ طه: 39 ]. (1) وألقى عليك مسألة. قوله تعالى: (بما أشركوا بالله) تعليل، أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم، فما للمصدر. وبقال أشرك به أي عدل به غيره ليجعله شريكا. قوله تعالى: (ما لم ينزل به سلطانا) حجة وبيانا، وعذرا وبرهانا، ومن هذا قيل، للوالي سلطان، لانه حجة الله عزوجل في الارض. ويقال: إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج، وهو دهن السمسم، قال أمرؤ القيس: * أمال (2) السليط بالذبال المفتل فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل. وقيل السليط الحديد. والسلاطة الحدة. والسلاطة من التسليط وهو القهر، والسلطان من ذلك، فالنون زائدة. فأصل السلطان القوة، فإنه يقهر بها كما يقهر بالسلطان. والسليطة المرأة الصخابة. والسليط الرجل الفصيح اللسان. ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الاوثان في شئ من الملل. ولم يدل عقل على جواز ذلك. ثم أخبر الله تعالى عن مصيرهم ومرجعهم فقال: (ومأواهم النار) ثم ذمه فقال: (وبئس مثوى الظالمين) والمثوى: المكان الذي يقام فيه، يقال: ثوى يثوى ثواء. والمأوى: كل مكان يرجع إليه شئ ليلا أو نهارا. قوله تعالى: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنزعتم في الاخر وعصيتم من بعد مآ أرائكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين (152) قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان (1) راجع ج‍ 11 ص 196. (2) في الاصول: أهان: والذي أثبتناه هو ما في الديوان وكتب اللغة. (*)
[ 234 ]
الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة. روى البخاري عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمر عليهم عبد الله ابن جبير وقال لهم: (لا تبرحوا من مكانكم [ إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ] (1) وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم) قال: فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن (2) في الجبل، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال لهم عبد الله: أمهلوا ! أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا. ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال: أفي القوم محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثم قال: (لا تجيبوه) ثم قال: أفي القوم عمر [ بن الخطاب ] (3) ؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبت يا عدو الله ! قد أبقى الله لك من يخزيك به. فقال: اعل هبل (4)، مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه) فقالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: (قولوا الله أعلى وأجل). قال أبو سفيان: لنا العزى (5) ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أجيبوه). قالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم). قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. وفى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال. وفي رواية عن سعد: عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية أخرى: يقاتلان عن رسول الله (1) زيادة عن صحيح البخاري. والذى فيه: " لا تبرحوا إن رأيتمونا ". (2) أي يسرعن المشى. (3) في ج‍ وه‍ ود. (4) أي أظهر دينك، أو رد علوا، أو ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت. (5) العزى: اسم صنم لقريش. (*)
[ 235 ]
صلى الله عليه وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. قال البيهقي: إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال: وكان الله عزوجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين: وكان قد فعل، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركوا الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى: " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " [ آل عمران: 152 ] فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعن عمير بن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبله أتاه بها. قال ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب ؟ فلم يروه ولم يعرفوه (1). وقال محمد بن كعب: ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية، وفي ذلك يقول حسان: فلولا لواء الحارثية أصبحوا * يباعون في الاسواق بيع الجلائب و (تحسونهم) معناه تقتلونهم وتستأصلونهم، قال الشاعر: حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت * بقيتهم قد شردوا وتبددوا وقال جرير: تحسهم السيوف كما تسامى * حريق النار في الاجم الحصيد قال أبو عبيد: الحس الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد. والبرد محسة للنبت. أي محرقة له ذاهبة به. وسنة حسوس أي جدية تأكل كل شئ، قال رؤبة: إذا شكونا سنة حسوسا تأكل بعد الاخضر (2) اليبيسا " أصله من الحس الذي هو الادراك بالحاسة. فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل. (بإذنه) بعلمه، أو بقضائه وأمره. (حتى إذا فشلتم) أي جبنتم وضعفتم. يقال: فشل يفشل فهو (1) في د: نقله محمد بن كعب. (2) في اللسان: الخضرة. (*)
[ 236 ]
فشل وفشل. وجواب " حتى " محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله: " فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض أو سلما في السماء " [ الانعام: 35 ] (1) فافعل. وقال الفراء: جواب " حتى "، " وتنازعتم " والواو مقحمة زائدة، كقوله " فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه " [ الصافات: 103 - 104 ] (2) أي ناديناه. وقال أمرؤ القيس: * فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * أي انتحى. وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من " وعصيتم ". أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم وفشلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب " صرفكم عنهم "، " ثم " زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قوله الشاعر أراني إذا ما بت على هوى * فثم إذا أصبحت أصبحت عاديا وجوز الاخفش أن تكون زائدة، كما في قوله تعالى: " حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم " [ التوبة: 118 ] (3). وقيل: " حتى " بمعنى " إلى " وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى (تنازعتم) اختلفتم، يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم. وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. (وعصيتم) أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. (من بعد ما أراكم ما تحبون) يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم، وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا (4) العدو ضربا حتى أجهضوهم (5) عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة (6)، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عزوجل قد فتح لاخوانهم قالوا: والله ما نجلس (1) راجع ج‍ 6 ص 417. (2) راجع ج‍ 15 ص 99. (3) راجع ج‍ 8 ص 281. (4) الحووس: شدة الاختلاط ومداركة الضرب. أي بالغوا النكاية فيهم، في ه‍ ود: جاسوا. (5) أي نحوهم عنها وأزالوهم. (6) في د: مفلولة. (*)
[ 237 ]
ههنا لشئ، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم: علام نقف وقد هزم الله العدو ؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلي الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت (1) الخيل فيهم قتلا. وألفاظ الاية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع فقال: (منكم من يريد الدنيا). يعني الغنيمة. قال ابن مسعود: ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. (ومنكم من يريد الاخرة) وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبد الله بن جبير، فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون، ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة. والله أعلم. قوله تعالى: (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري: وهذا لا يغنيهم، لان إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله: " ثم صرفكم عنهم " معنى. وقيل: معنى " صرفكم عنهم " أي لم يكلفكم طلبهم قوله تعالى: (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله: " ثم عفونا عنكم " [ البقرة: 52 ] (2). (والله ذو فضل على المؤمنين) بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال: ما نصر النبي صلى الله (1) الايجاف: سرعة السير. (2) راجع ج‍ 1 ص 397. (*)
[ 238 ]
عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عزوجل، إن الله عزوجل يقول في يوم أحد: " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه - يقول ابن عباس: والحس القتل " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين " وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا). فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا - وشبك أصابع يديه - والتبسوا. فلما أخل الرماة تلك الخلة (1) التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار (2)، إنما كانوا تحت المهراس (3) وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين (4)، نعرفه بتكفئه (5) إذا مشى. قال: ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقي نحونا وهو يقول: (اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم) (6). وقال كعب بن مالك: أنا كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين، عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين ! ابشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل. فأشار إلي أن اسكت. (1) أخل بالمكان ويمركزه: غاب عنه وتركه. والخلة: الطريق. (2) كذا في الاصول. والذي في الدر المنثور، والمستدرك للحاكم: "... ألغاب " بالباء بدل الراء. (3) المهراس: ماء بجبل أحد. (4) السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. (5) التكفؤ: التمايل إلى قدام كما تتكفا السفينة في جريها. (6) في د وه‍ وج‍: وجه رسوله. (*)
[ 239 ]
قوله تعالى: إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخرئكم فأثبكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا مآ أصبكم والله خبير بما تعلمون (153) " إذ " متعلق بقوله: " ولقد عفا عنكم ". وقراءة العامة " تصعدون " بضم التاء وكسر العين. وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين، يعني تصعدون الجبل. وقرأ ابن محيصن وشبل " إذ يصعدون ولا يلوون " بالياء فيهما. وقرأ الحسن " تلون " بواو واحدة. وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم " ولا تلوون " بضم التاء، وهي لغة شاذة ذكرها النحاس. وقال أبو حاتم: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره. فالاصعاد: السير في مستو من الارض وبطون الاودية والشعاب. والصعود: الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج. فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على قراءة " تصعدون " و " تصعدون ". قال قتادة والربيع: أصعدوا يوم أحد في الوادي. وقراءة أبي " إذ تصعدون في الوادي ". قال ابن عباس: صعدوا في أحد فرارا. فكلتا القراءتين صواب، كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. والله أعلم. قال القتبي والمبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، فكأن الاصعاد إبعاد في الارض كإبعاد الارتفاع، قال الشاعر: (1) ألا أيهذا السائلي أين أصعدت (2) * فإن لها من بطن يثرب موعدا وقال الفراء: الاصعاد الابتداء في السفر، والانحدار الرجوع منه، يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا. وأنشد أبو عبيدة: قد كنت تبكين على الاصعاد * فاليوم سرحت وصاح الحادي (1) هو أعشى قيس. (2) الذى في ديوان الاعشى وسيرة ابن هشام ص 255 طبع أوربا: " أين يمت ". والبيت من قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، ومطلعها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وعادك ما عاد السليم المسهدا (*)
[ 240 ]
وقال المفضل: صعد وأصعد وصعد بمعنى واحد. ومعنى " تلوون " تعرجون وتقيمون، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا، فإن المعرج على الشئ يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. (على أحد) يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله الكلبي. (والرسول يدعوكم في أخراكم) أي في آخركم، يقال: جاء فلان في آخر الناس وأخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس. وفي البخاري " أخراكم " تأنيث آخركم: حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله ابن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا. قال ابن عباس وغيره: كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (أي عباد الله ارجعوا). وكان دعاءه تغييرا للمنكر، ومحال أن يرى عليه السلام المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه. قلت: هذا على أن يكون الانهزام معصية وليس كذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (فأثابكم غما بغم) الغم في اللغة: التغطية. غممت الشئ غطيته. ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين. ومنه غم الهلال إذا لم ير، وغمني الامر يغمني. قال مجاهد وقتادة وغيرهما: الغم الاول القتل والجراح، والغم الثاني الارجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ صاح به الشيطان. وقيل: الغم الاول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة. وقيل: الغم الاول الهزيمة، والثاني إشراف أبي وسفيان وخالد عليهم في الجبل، فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا يعلن علينا " كما تقدم. والباء في " بغم " على هذا بمعنى على. وقيل: هي على بابها، والمعنى أنهم غموا النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه، فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم. وقال الحسن: " فأثابكم غما " يوم أحد " بغم " يوم بدر للمشركين. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا. وقيل: وقفهم الله على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم.
[ 241 ]
قوله تعالى: (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعلمون) اللام متعلقة بقوله: " ولقد عفا عنكم " وقيل: هي متعلقة بقوله: " فأثابكم غما بغم " أي كان هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة. والاول أحسن. و " ما " في قوله " ما أصابكم " في موضع خفض. وقيل: " لا " صلة. أي لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو مثل قوله: " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " [ الاعراف: 12 ] (1) أي أن تسجد. وقوله " لئلا يعلم أهل الكتاب " [ الحديد: 29 ] (2) أي ليعلم، وهذا قول المفضل. وقيل: أراد بقوله " فأثابكم غما بغم " أي توالت عليكم الغموم، لكيلا تشتغلوا بعد هذا بالغنائم. " والله خبير بما تعملون " فيه معنى التحذير والوعيد. قوله تعلى: ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجهلية يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154) قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) الامنة والامن سواء. وقيل: الامنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والامن مع عدمه. وهي منصوبة ب‍ " أنزل، " و " نعاسا " بدل منها. وقيل: نصب على المفعول له، كأنه قال: أنزل عليكم للامنة (3) نعاسا. وقرأ ابن محيصن " أمنة " بسكون الميم. تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم (1) راجع ج‍ 7 ص 169. (2) راجع ج‍ 17 ص 266. (3) في ز وه‍ ود: أنزل عليهم للامعة نعاسا، وفى ج‍: أنزل عليكم الامنة. (*)
[ 242 ]
أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. (يغشى) قرئ بالياء والتاء. الياء للنعاس، والتاء للامنة. والطائفة تطلق على الواحد والجماعة. (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) يعني المنافقين: معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الاقاويل. ومعنى " قد أهمتهم أنفسهم " حملتهم على الهم، والهم ما هممت به، يقال: أهمني الشئ أي كان من همي. وأمر مهم: شديد. وأهمني الامر: أقلقني: وهمني: أذابني (1). والواو في قوله " وطائفة " واو الحال بمعنى إذ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا ينصر. (ظن الجاهلية) أي ظن أهل الجاهلية، فحذف. (يقولون هل لنا من الامر من شئ) لفظه استفهام ومعناه الجحد، أي ما لنا شئ من الامر، أي من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها، يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم: " لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ها هنا ". قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لاسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الامر شئ ما قلنا ها هنا. وقيل: المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شئ. والله أعلم. قوله تعالى: (قل إن الامر كله لله) قرأ أبو عمرو ويعقوب " كله " بالرفع على الابتداء، وخبره " لله "، والجملة خبر " إن ". وهو كقوله: " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " [ الزمر: 60 ] (2). والباقون بالنصب، كما تقول: إن الامر أجمع لله. فهو توكيد، وهو بمعنى أجمع في الاحاطة والعموم، وأجمع لا يكون إلا توكيدا. وقيل: نعت للامر. وقال الاخفش: بدل، أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " يعني التكذيب بالقدر. وذلك أنهم تكلموا فيه، فقال الله تعالى: " قل إن الامر كله لله " يعني القدر خيره وشره من الله. (يخفون في أنفسهم) أي من الشرك (1) أي حزنة الامر حتى أذا به. (2) راجع ج‍ 15 ص 273. (*)
[ 243 ]
والكفر والتكذيب. (ما لا يبدون لك) يظهرون لك. (يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هاهنا) أي ما قتل عشائرنا. فقيل: إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة، ولما قتل رؤساؤنا. فرد الله عليهم فقال: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز) أي لخرج. (الذين كتب) أي فرض. (عليهم القتل) يعني في اللوح المحفوظ. (إلى مضاجعهم) أي مصارعهم. وقيل: " كتب عليهم القتل " أي فرض عليهم القتال، فعبر عنه بالقتل، لانه قد يؤول إليه. وقرأ أبو حيوة " لبرز " بضم الباء وشد الراء، بمعنى يجعل يخرج. وقيل: لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين. والواو في قوله (وليبتلى) مقحمة كقوله: (وليكون من الموقنين " [ الانعام: 75 ] (1) أي ليكون، وحذف الفعل الذي مع لام كي. والتقدير (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم) فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم. وقيل: معنى " ليبتلي " ليعاملكم معاملة المختبر. وقيل: ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا. وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى. وقد تقدم معنى التمحيص. (والله عليم بذات الصدور) أي ما فيها من خير وشر. وقيل: ذات الصدور هي الصدور، لان ذات الشئ نفسه. قوله تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155) قوله تعالى: (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) هذه الجملة هي خبر " إن الذين تولوا " والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد، عن عمر رضي الله عنه وغيره. السدي: يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل. وقيل: هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا. ومعنى " استزلهم الشيطان " استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا. (1) راجع ج‍ 7 ص 43. (*)
[ 244 ]
وهو معنى " ببعض ما كسبوا " وقيل: " استزلهم " حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة. وقيل: زل وأزل بمعنى واحد. ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولوا لهذا، وهذا على القول الاول. وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة. وقال الحسن: " ما كسبوا " قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم. وقال الكلبي: زين لهم الشيطان أعمالهم. وقيل: لم يكن الانهزام معصية، لانهم أرادوا التحصن بالمدينة، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل. ويجوز أن يقال: لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للهول الذي كانوا فيه. ويجوز أن يقال: زاد عدد العدو على الضعف، لانهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف. وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ لا يجوز، ولعلهم توهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انحاز إلى الجبل أيضا. وأحسنها الاول. وعلى الجملة فإن حمل الامر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ. وذكر أبو الليث السمرقندي نصر بن محمد بن إبراهيم قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير: أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهد، وقد بايعت تحت شجرة ولم تبايع، وقد كنت تولى مع من تولى يوم الجمع، يعني يوم أحد. فرد عليه عثمان فقال: أما قولك: أنا شهدت بدرا ولم تشهد، فإني لم أغب عن شئ شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة وكنت معها أمرضها، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما في سهام المسلمين، وأما بيعة الشجرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني ربيئة على المشركين بمكة - الربيئة هو الناظر - فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله فقال: (هذه لعثمان) فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وشماله خير لي من يميني وشمالي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى: " ولقد عفا الله عنهم " فكنت فيمن عفا الله عنهم. فحج (1) عثمان عبد الرحمن. (1) في ب وه‍ ود: فخاصم، وفى ج‍: فحاج. (*)
[ 245 ]
قلت: وهذا المعنى صحيح أيضا عن ابن عمر، كما في صحيح البخاري قال: حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود ؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شئ أتحدثني ؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال نعم. قال: فكبر. قال ابن عمر: تعال لاخبرك ولابين لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن لك أجر رجل من شهد بدرا وسهمه). وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال (1) النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: (هذه يد عثمان) فضرب بها على يده (2) فقال: (هذه لعثمان). اذهب بهذا (3) الان معك. قلت: ونظير هذه الاية توبة الله على آدم عليه السلام. وقوله عليه السلام: (فحج آدم موسى) أي غلبه بالحجة، وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة، فقال له آدم: (أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم). وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لاخباره تعالى بذلك، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك. فأعلم. (1) قال: أشار، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده أي أخذ، وقال برجله أي مشى، وقال بثوبه أي رفعه، وكل ذلك على الاتساع والمجاز (عن نهاية ابن الاثير). (2) أي اليسرى. (3) في رواية (بها) أي بالاجوبة التى أجبتك التى أجبتك بها حتى يزول عنك ما كنت تعتقده من عيب عثمان. (عن القسطلانى) في ب وه‍ ود: بهذه. (*)
[ 246 ]
قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخونهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزي لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحى ويميت والله بما تعملون بصير (156) قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) يعنى المنافقين. (وقالوا لاخوانهم) يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة. (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم. وقوله: (إذا ضربوا) هو لما مضى، أي إذ ضربوا، لان في الكلام معنى الشرط من حيث كان " الذين " بهما غير موقت، فوقع " إذا " موقع " إذ " كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل. ومعنى (ضربوا في الارض) سافروا فيها وساروا لتجارة أو غيرها فماتوا. (أو كانوا غزى) غزاة فقتلوا. والغزى جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض، وأحدهم غاز، كراكع وركع، وصائم وصوم، ونائم ونوم، وشاهد وشهد، وغائب وغيب. ويجوز في الجمع غزاة مثل قضاة، وغزاء بالمد مثل ضراب وصوام. ويقال: غزى (1) جمع الغزاة. قال الشاعر (2). * قل للقوافل والغزى إذا غزوا * وروي عن الزهري أنه قرأه " غزى " بالتخفيف. والمغزية المرأة التي غرا زوجها. وأتان مغزية متأخرة النتاج ثم تنتج. وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها. والغزو قصد الشئ. والمغزى المقصد. ويقال في النسب إلى الغزو: غزوي. (1) في اللسان مادة " غزا " أنه جمع غاز مثل حاج وحجيج وقاطن وقطين وناد وندى وناج وتجى. (2) هو زياد الاعجم. وقيل: هو الصلتان العبدي، وتمامه كما في اللسان: * والباكرين وللمجد الرامح * (*)
[ 247 ]
قوله تعالى: (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) يعني ظنهم وقولهم. واللام متعلقة بقوله " قالوا " أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا. " حسرة " أي ندامة " في قلوبهم ". والحسرة الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه، قال الشاعر: فوا حسرتي لم أقض منها لبانتي * ولم أتمتع بالجوار وبالقرب وقيل: هي متعلقة بمحذوف. والمعنى: لا تكونوا مثلهم " ليجعل الله ذلك " القول " حسرة في قلوبهم " لانهم ظهر نفاقهم. وقيل: المعنى لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم، فكان ذلك حسرة في قلوبهم. وقيل: " ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم " يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة. قوله تعالى: (والله يحيى ويميت) أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله. (والله بما تعملون بصير) قرئ بالياء والتاء. ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا. قوله تعالى: ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) ولئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون (158) جواب الجزاء محذوف، استغني عنه بجواب القسم في قوله: (لمغفرة من الله ورحمة) وكان الاستغناء بجواب القسم أولى، لان له صدر الكلام، ومعناه ليغفرن لكم. وأهل الحجاز يقولون: متم، بكسر الميم مثل نمتم، من مات يمات مثل خفت يخاف. وسفلى مضر يقولون: متم، بضم الميم مثل صمتم، من مات يموت. كقولك كان يكون، وقال يقول. هذا قول الكوفيين وهو حسن. وقوله: (لالى الله تحشرون) وعظ. وعظهم الله بهذا القول، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به، بل فروا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[ 248 ]
قوله تعلى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) " ما " صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة، كقوله: " عما قليل " [ المؤمنون: 40 ] (1) " فبما نقضهم ميثاقهم " [ النساء: 155 ] (2) " جند ما هنالك مهزوم " [ ص: 11 ] (3). وليست بزائدة على الاطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها. ابن كيسان: " ما " نكرة في موضع جر بالباء (ورحمة) بدل منها. ومعنى الاية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل: " ما " استفهام. والمعنى: فبأي رحمة من الله لنت لهم، فهو تعجيب. وفيه بعد، لانه لو كان كذلك لكان " فبم " بغير ألف. (لنت) من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ. والانثى فظة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الاسواق وأنشد المفضل في المذكر: وليس بفظ في الاداني والاولى * يؤمون جدواه ولكنه سهل وفظ على أعدائه يحذرونه * وفسطوته حتف ونائله جزل وقال آخر في المؤنث: أموت من الضر في منزلي * وغيري يموت من الكظه (4) ودنيا تجود على الجاهلي‍ * - ن وهي على ذي النهى فظه وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الاشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر: يبكى علينا ولا نبكي على أحد ؟ * لنحن أغلظ أكبادا من الابل (1) راجع ج‍ 12 ص 124. (2) راجع ج‍ 6 ص 112. (3) راجع 15 ص 151 (4) الكظة: البطنة. (*)
[ 249 ]
ومعنى (لانفضوا) لتفرقوا، فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا، ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا: مستعجلات القيض (1) غير جرد (2) * ينفض عنهن الحصى بالصمد (3) وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم. قوله تعالى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر) الاولى - قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الاوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الامور. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه، قال عدي بن زيد في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ماذي مشار (4) الثانية - قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الاحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: " وأمرهم شورى بينهم " [ الشورى: 38 ] (5). قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي، قيل: (1) كذا في الاصول بالقاف والياء المثناة، ولعله مصحف عن " القبض " بالقاف والباء الموحدة وهو السوق السريع، وإنما سمى السوق السريع قبضا لان البسائق ؟ للابل يقبضها أي يجمعها إذا أراد سوقها، فإذا انتشرت تعذر عليه سوقها: أو القبض بمهملة: العدو الشديد. (2) كذا في الاصول بالمعجمة، ولعله " حرد " بالحاء المهملة، والحرد في البعير أن تنقطع عصبة ذراعة فتسترخي يده فلا يزال يخفق بها أبدا. (3) الصمد: المكان الغيظ المرتفع من الارض لا يبلغ أن يكون جبلا. (4) يأذن: يستمع. والماذي: العسل الابيض والمشار: المجتنبى ؟ ؟. (5) راجع ج‍ 16 ص 36. (*)
[ 250 ]
وكيف ذلك ؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار (1). وكان يقال: من أعجب برأيه ضل. الثالثة - قوله تعالى: (وشاورهم في الامر) يدل على جواز الاجتهاد في الامور والاخذ بالظنون مع إمكان الوحي، فإن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه، فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لاقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كقوله (والبكر تستأمر) تطيبا لقلبها، لا أنه واجب. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الامر شق عليهم: فأمر الله تعالى، نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الامر: فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لاضغانهم، وأطيب لنفوسهم. فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي. روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده. وفي قراءة ابن عباس: " وشاورهم في بعض الامر " ولقد أحسن القائل: شاور صديقك في الخفي المشكل * واقبل نصيحة ناصح متفضل: فالله قد أوصى بذاك نبيه * في قوله: (شاورهم) و (توكل) الرابعة - جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن). قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الاحكام أن (1) هذا حديث رواه الطبري في أوسطه والقضاعي عن أنس وحسنه السيوطي وفى كشف الخفا: في سنده ؟ ضعيف جدا. (*)
[ 251 ]
يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله. فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الاشارة خطأ فلا غرامة عليه، قاله الخطابي وغيره. الخامسة - وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير. قال: شاور صديقك في الخفي المشكل * وقد تقدم. وقال آخر: وإن باب أمر عليك التوى * فشاور لبيبا ولا تعصه في أبيات (1). والشورى بركة. وقال عليه السلام: (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار). وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي). وقال بعضهم: شاور من جرب الامور، فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى. قال البخاري: وكانت الائمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الامناء من أهل العلم في الامور المباحة ليأخذوا بأسهلها. وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والامانة، ومن يخشى الله تعالى. وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لافضل ما يحضر (2) بهم. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم). (1) وقيل البيت: إذا كنت في حاجة مرسلا * فأرسل حكيما ولا توصه وبعده: ونص الحديث إلى أهله * فإن الوثيقة في نصه إذا المرء أضمر خوف الال‍ * - ه تبين ذلك في شخصه (2) في ب وج‍: ما بحضرتهم. (*)
[ 252 ]
السادسة - والشورى مبنية على اختلاف الاراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الاية. السابعة - قوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله) قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الامر المروى المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب، كما قال (1): إذا هم ألقى بين عينيه عزمه * ونكب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه * ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ، فالحزم جودة النظر في الامر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الامضاء، والله تعالى يقول: " وشاورهم في الامر فإذا عزمت ". فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم (2). وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد: " فإذا عزمت " بضم التاء. نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه، كما قال: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " [ الانفال: 17 ] (3). ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك " فتوكل على الله ". والباقون بفتح التاء. قال المهلب: وامتثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ربه فقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لامته (4) أن يضعها حتى يحكم الله). أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف، لانه نقض للتوكل الذي شرطه الله عزوجل مع العزيمة. فلبسه لامته صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، دال على العزيمة. وكان (1) هو سعد بن ناشب المازنى (عن الكامل للبرد وخزانة الادب للبغدادي). (2) يقول: أعرف وجه الحزم، فإن عزمت فأمضيت الرأى فأنا حازم، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفضى حزمى. (عن الكامل للبرد). (3) راجع ج‍ 7 ص 384. (4) اللامة: الدرع، وقيل: السلاح. ولامة الحرب: أداتها. وقد يترك الهمز تخفيفا. (*)
[ 253 ]
صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود، وكذلك عبد الله بن أبي أشار بذلك وقال: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاءونا إلى المدينة قاتلناهم في الافنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الاطام (1)، فو الله ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا. وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول الله، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل). الثامنة - قوله تعالى: (فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) التوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان. يقال منه: اتكلت عليه في أمرى، وأصله: " أو تكلت " قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبد لت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال. ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها. واختلف العلماء في التوكل، فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى. وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [ آل عمران: 160 ] (2). وهو الصحيح كما بيناه. وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله " لا تخافا " (3). وقال: " فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف " [ طه: 67 - 68 ] (3). وأخبر عن إبراهيم بقوله: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف " [ هود: 70 ] (4). فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا - وحسبك بهما - فغيرهما أولى. وسيأتي بيان هذا المعنى. قوله تعالى: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يحذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160) (1) الاطام (جمع أطم بضمتين): الابنية المرتفعة كالحصون. وقيل: حصون مبنية بالحجارة. (2) راجع ص 189 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 11 ص 201 و 221. (4) راجع ج‍ 9 ص 62. (*)
[ 254 ]
قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغبلوا.. (وإن يخدلكم) يترككم من معونته. (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) أي لا ينصركم أحد من بعده، أي من بعد خذلانه إياكم، لانه قال: " وإن يخذلكم " والخذلان ترك العون. والمخذول: المتروك لا يعبأ به. وخذلت الوحشية أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها، فهي خذول. قال طرفة: خذول تراعي ربربا بخميلة * تناول أطراف البرير وترتدي (1) وقال أيضا: نظرت إليك بعين جارية * خذلت صواحبها على طفل وقيل: هذا من المقلوب، لانها هي المخذولة إذا تركت. وتخاذلت رجلاه إذا ضعفتا. قال: وخذول الرجل من غير كسح (2) ورجل خذلة للذي لا يزال يخذل. والله أعلم. قوله تعالى: وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161) فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى - لما أخل الرماة يوم أحد بمراكزهم - على ما تقدم - خوفا من أن يستولي المسلمون على الغنيمة فلا يصرف إليهم شئ، بين الله سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجور في القسمة، فما كان من حقكم أن تتهموه. وقال الضحاك: بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع، فأنزل الله عليه عتابا: " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل " أي يقسم لبعض ويترك بعضا. وروي نحو هذا القول عن ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة وابن جبير وغيرهم: (1) الربوب: القطبع من بقر الوحش والظباء وغير ذلك. الخميلة: الارض السهلة اللينة ذات الشجر. البرير: ؟ ؟ ؟ الاراك. (2) هذا عجز بيت للاعشي وصدره: * كل وضاح كريم جده *. (*)
[ 255 ]
نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت في المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم: لعل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت الآية أخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عطية: قيل كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا. وقيل: كانت من المنافقين. وقد روي أن المفقود كان سيفا. وهذه الاقوال تخرج على قراءة " يغل " بفتح الياء وضم الغين. وروى أبو صخر عن محمد بن كعب " وما كان لنبي أن يغل " قال: تقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من كتاب الله. وقيل: اللام فيه منقولة، أي وما كان نبي ليغل، كقوله: " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه " [ مريم: 35 ] (1). أي ما كان الله ليتخذ ولدا. وقرئ " يغل " بضم الياء وفتح الغين. وقال ابن السكيت: [ لم نسمع في المغنم إلا غل غلولا، وقرئ (2) و ] ما كان لنبي أن يغل ويغل. قال: فمعنى " يغل " يخون، ومعنى " يغل " يخون، ويحتمل معنيين: أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته، والاخر يخون أن ينسب إلى الغلول: ثم قيل: إن كل من غل شيئا في خفاء فقد غل يغل غلولا: قال ابن عرفة: سميت غلولا لان الايدي مغلولة منها، أي ممنوعة. وقال أبو عبيد: الغلول من المغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد. ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة: أغل يغل، ومن الحقد: غل يغل بالكسر، ومن الغلول: غل يغل بالضم. وغل البعير أيضا [ يغل غلة ] (3) إذا لم يقض ريه وأغل الرجل خان، قال النمر: جزى الله عنا حمزة (4) ابنة نوفل * جزاء مغل بالامانة كاذب وفي الحديث: (لا إغلال ولا إسلال) أي لا خيانة ولا سرقة، ويقال: لا رشوة. وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان. وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن) من رواه بالفتح (5) فهو من الضغن. وغل [ دخل ] (3) يتعدى ولا يتعدى، يقال: (1) راجع ج‍ 11 ص 105. (2) زيادة عن الصحاح واللسان. (3) زيادة عن كتب اللغة. (4) كذا في الاصول واللسان، وفى الصحاح للجوهري " جمرة " بالجيم المعجمة والراء. (5) أي بفتح الياء. (*)
[ 256 ]
غل فلان المفاوز، أي دخلها وتوسطها. وغل من المغنم غلولا، أي خان. وغل الماء بين الاشجار إذا جرى فيها، يغل بالضم (1) في جميع ذلك. وقيل: الغلول في اللغة أن يأخذ من المغنم شيئا يستره عن أصحابه، ومنه تغلغل الماء في الشجر إذا تخللها. والغلل: الماء الجاري في أصول الشجر، لانه مستتر بالاشجار، كما قال (2): لعب السيول به فأصبح ماؤه * غللا يقطع في أصول الخروع ومنه الغلالة للثوب الذي يلبس تحت الثياب. والغال: أرض مطمئنة ذات شجر. ومنابت السلم (3) والطلح يقال لها: غال. والغال أيضا نبت، والجمع غلان بالضم. وقال بعض الناس: إن معنى " يغل " يوجد غالا، كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا. فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى " يغل " بفتح الياء وضم الغين. ومعنى " يغل " عند جمهور أهل العلم أي ليس لاحد أن يغله، أي يخونه في الغنيمة. فالاية في معنى نهي الناس عن الغلول في الغنائم، والتوعد عليه. وكما لا يجوز أن يخان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخان غيره، ولكن خصه بالذكر لان الخيانة معه أشد وقعا وأعظم وزرا، لان المعاصي تعظم بحضرته لتعين توقيره. والولاة إنما هم على أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلهم حظهم من التوقير. وقيل: معنى " يغل " أي ما غل نبي قط، وليس الغرض النهي. الثانية - قوله تعالى: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) أي يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته، معذبا بحمله وثقله، ومرعوبا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد، على ما يأتي. وهذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغال نظير الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء عند أسته بقدر غدرته. وجعل الله تعالى هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه، ألا ترى إلى قول الشاعر: أسمي ويحك هل سمعت بغدرة * رفع اللواء لنا بها في المجمع (1) أي بضم الغين. (2) البيت للحو يدرة، كما في اللسان. (3) في ب ود: الساج. (*)
[ 257 ]
وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: (لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة علي رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة (1) فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته رقاع (2) تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين احدكم يجئ يوم القيامة على رقبته صامت (3) فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك) وروى أبو داود عن سمرة (4) بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من الشعر فقال: يا رسول الله هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة. فقال: (أسمعت بلالا ينادي ثلاثا) ؟ قال: نعم. قال: (فما منعك أن تجئ به) ؟ فاعتذر إليه. فقال: (كلا (5) أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك). قال بعض العلماء: أراد يوافي بوزر ذلك يوم القيامة، كما قال في آية أخرى: " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون " [ الانعام: 31 ] (6). وقيل: الخبر محمول على شهرة الامر، أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة. قلت: وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الاصل كما في كتب الاصول. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحقيقة، (1) حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل، والثغاء: صياح الغثم. (2) الرقاع (بالكسر جمع رقعة بالضم) وهى التى تكتب. وأراد بها ما عليها من الحقوق المكتوبة. وخفوقها: حركتها. (3) الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان. (4) في سنن أبى داود: " عن عبد الله بن عمرو "، وكذا في مسند الامام أحمد بن حنبل. (5) في سنن أبى داود " كن أنت تجئ به ". (6) راجع ج‍ 6 ص 413. (*)
[ 258 ]
ولا عطر بعد عروس. ويقال: إن من غل شيئا في الدنيا يمثل له يوم القيامة في النار، ثم يقال له: انزل إليه فخذه، فيهبط إليه، فإذا انتهى إليه حمله، حتى إذا انتهى إلى الباب سقط عنه إلى أسفل جهنم، فيرجع إليه فيأخذه، لا يزال هكذا إلى ما شاء الله. ويقال " يأت بما غل " يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول. الثالثة - قال العلماء: والغلول كبيرة من الكبائر، بدليل هذه الاية وما ذكرناه من حديث أبي هريرة: أنه يحمله على عنقه. وقد قال صلى الله عليه وسلم في مدعم (1): (والذي نفسي بيده أن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا) قال: فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شراك أو شراكان من نار). أخرجه الموطأ. فقوله عليه السلام: (والذي نفسي بيده) وامتناعه من الصلاة على من غل دليل على تعظيم الغلول وتعظيم الذنب فيه وأنه من الكبائر، وهو من حقوق الادميين ولابد فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة. وقوله: (شراك أو شراكان من نار) مثل قوله: (أدوا الخياط (2) والمخيط). وهذا يدل على أن القليل والكثير لا يحل أخذه في الغزو قبل المقاسم، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم (3) في أرض الغزو ومن الاحتطاب والاصطياد. وقد روي عن الزهري أنه قال: لا يؤخذ الطعام في أرض العدو إلا بإذن الامام. وهذا لا أصل له، لان الآثار تخالفه، على ما يأتي. قال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحوا المدينة أو الحصن أكلوا من السويق والدقيق والسمن والعسل. وقال إبراهيم: كانوا يأكلون من أرض العدو الطعام في أرض الحرب ويعلفون قبل أن يخمسوا. وقال عطاء: في الغزاة يكونون في السرية فيصيبون أنحاء (4) السمن والعسل والطعام فيأكلون، وما بقي ردوه إلى إمامهم، وعلى هذا جماعة العلماء. (1) مدعم: عبد أسود أهداه رفاعة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر. (2) الخياط هاهنا الخيط. والمخيط بالكسر: الابرة. (3) في ه‍ ود وج‍ وب: الطعام، وكلها: أرض العدو، إلاب: أرض الغزو. (4) أنحاء: جمع نحى بالكسر وهو زق السمن. وقيل مطلقا. (*)
[ 259 ]
الرابعة: وفي هذا الحديث دليل على أن الغال لا يحرق متاعه، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع (1) الرجل الذي أخذ الشملة، ولا أحرق متاع صاحب الخرزات (2) الذي ترك الصلاة عليه، ولو كان حرق متاعه واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم، ولو فعله لنقل ذلك في الحديث. وأما ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه). فرواه أبو داود والترمذي من حديث صالح بن محمد بن زائدة، وهو ضعيف لا يحتج به. قال الترمذي: سألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد وهو أبو واقد الليثي وهو منكر الحديث. وروى أبو داود أيضا عنه قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز، فغل رجل متاعا فأمر الوليد بمتاعه فأحرق، وطيف به ولم يعطه سهمه. قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين. وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه. قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد - ولم أسمعه منه -: ومنعوه سهمه. قال أبو عمر: قال بعض رواة هذا الحديث: واضربوا عنقه وأحرقوا متاعه. وهذا الحديث يدور على صالح ابن محمد وليس ممن يحتج به. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) وهو ينفي القتل في الغلول. وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع). وهذا يعارض حديث صالح بن محمد وهو أقوى من جهة الاسناد. والغال خائن في اللغة والشريعة وإذا انتفى عنه القطع فأحرى القتل. وقال الطحاوي: لو صح حديث صالح المذكور احتمل أن يكون حين كانت العقوبات في الاموال، كما قال في مانع (1) في ه‍ وج‍ وب: لم يحرق رحل الذي أخذ الشملة. (2) صاحب الخرزات: رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم يسمه أبو داود في سننه) توفى يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال (إن صاحبكم غل في سبيل الله " ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوى درهمين (عن سنن أبى داود). (*)
[ 260 ]
الزكاة: (إنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات الله تعالى) (1). وكما قال أبو هريرة في ضالة الابل المكتومة: فيها غرامتها ومثله معها. وكما روى عبد الله بن عمرو بن العاص في الثمر المعلق غرامة مثليه وجلدات نكال. وهذا كله منسوخ، والله أعلم. الخامسة - فإذا غل الرجل في المغنم ووجد أخذ منه، وأدب وعوقب بالتعزير. وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث: لا يحرق متاعه. وقال الشافعي والليث وداود: إن كان عالما بالنهي عوقب. وقال الاوزاعي: يحرق متاع الغال كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه، ولا تنزع منه دابته، ولا يحرق الشئ الذي غل. وهذا قول أحمد وإسحاق، وقاله الحسن، إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا. وقال ابن خويز منداد: وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ضربا الغال وأحرقا متاعه. قال ابن عبد البر: وممن قال يحرق رحل الغال ومتاعه مكحول وسعيد بن عبد العزيز. وحجة من ذهب إلى هذا حديث صالح المذكور. وهو عندنا حديث لا يجب به انتهاك حرمة، ولا إنفاذ حكم، لما يعارضه من الاثار التي هي أقوى منه. وما ذهب إليه مالك ومن تابعه من هذه المسألة أصح من جهة النظر وصحيح الاثر. والله أعلم. السادسة - لم يختلف مذهب مالك في العقوبة على البدن، فأما في المال فقال في الذمي يبيع الخمر من المسلم: تراق الخمر على المسلم، وينزع الثمن من الذمي عقوبة له، لئلا يبيع الخمر من المسلمين. فعلى هذا يجوز أن يقال: تجوز العقوبة في المال. وقد أراق عمر رضي الله عنه لبنا شيب بماء. السابعة أجمع العلماء على أن للغال أن يرد جميع ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك، وإنه إذا فعل ذلك فهي توبة له، وخروج عن ذنبه. (1) في نهاية ابن الاثير: " قال الحربى غلط الراوى في لفظ الرواية، إنما هو وشطر ماله شطرين، أي يجعل ماله شطرين، ويتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا تلزمه فلا ". وعزمة حق من حقوقه وواجب من واجباته. (*)
[ 261 ]
واختلفوا فيما يفعل به إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليه، فقال جماعة من أهل العلم: يدفع إلى الامام خمسه ويتصدق بالباقي. هذا مذهب الزهري ومالك والاوزاعي والليث والثوري، وروي عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري. وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس، لانهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، وهو مذهب أحمد ابن حنبل. وقال الشافعي: ليس له الصدقة بمال غيره. قال أبو عمر: فهذا عندي فيما يمكن وجود صاحبه والوصول إليه أو إلى ورثته، وأما إن لم يكن شئ من ذلك فإن الشافعي لا يكره الصدقة حينئذ إن شاء الله. وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف لها وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء - مخيرا بين الاجر والضمان، وكذلك المغصوب. وبالله التوفيق. وفي تحريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة، فلا يحل لاحد أن يستأثر بشئ منها دون الاخر، فمن غصب شيئا منها أدب اتفاقا، على ما تقدم. الثامنة - وإن وطئ جارية أو سرق نصابا فاختلف العلماء في إقامة الحد عليه، فرأى جماعة أنه لا قطع عليه. التاسعة - ومن الغلول هدايا العمال، وحكمه في الفضيحة في الاخرة حكم الغال. روى أبو داود في سننه ومسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الازد يقال له ابن اللتبية (1) [ قال ابن السرح ابن الاتبية ] (2) على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال العامل نبعثه فيجئ فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا، لا يأتي أحد منكم بشئ من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تيعر) (3) - ثم رفع يديه حتى رأينا غفرتي (4) إبطيه ثم قال: - (اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت). وروى أبو داود عن بريدة عن النبي (1) ابن اللتبية (بضم فسكون) هو عبد الله بن اللتبية الصحابي، واللتبية أمة. ويروى بفتح اللام والمثناة. (2) هذه الزيادة في صلب: ج‍ وه‍ ود، وابن السرح هو أحمد بن عمرو الاموى أبو الطاهر المصرى. (3) اليعار (بضم الياء): صوت الغنم والمعزى. يعرف بفتح العين تيعر بالكسر والفتح يعارا بالضم. (4) العفرة (بضم فسكون): بياض ليس بالناصح الشديد، ولكن كلون عفر الارض وهو وجهها. (*)
[ 262 ]
صلى الله عليه وسلم قال: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول). وروى أيضا عن أبى مسعود الانصاري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا ثم قال: (انطلق أبا مسعود ولا ألفينك يوم القيامة تأتي على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته). قال: إذا لا أنطلق. قال: (إذا لا أكرهك). وقد قيد هذه الاحاديث ما رواه أبو داود أيضا عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان لنا عاملا فليكتسب (1) زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا). قال فقال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اتخذ غير ذلك فهو غال سارق). والله أعلم. العاشرة - ومن الغلول حبس الكتب عن أصحابها، ويدخل غيرها في معناها. قال الزهري: إياك وغلول الكتب. فقيل له: وما غلول الكتب ؟ قال: حبسها عن أصحابها. وقد قيل في تأويل قوله تعالى: " وما كان لنبي أن يغل " أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة. وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله هذه الاية، قاله محمد بن بشار (2). وما بدأنا به قول الجمهور. الحادية عشرة - قوله تعالى: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) تقدم القول فيه (3). قوله تعالى أفمن اتبع رضون الله كمن بآء بسخط من الله ومأوئه جهنم وبئس المصير (162) هم درجت عند الله والله بصير بما يعملون (163) قوله تعاى: (أفمن اتبع رضوان الله) يريد بترك الغلول والصبر على الجهاد. (كمن باء بسخط من الله) يريد بكفر أو غلول أو تول عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب. (ومأواه جهنم) أي مثواه النار، أي إن لم يتب أو يعفو الله عنه. (وبئس المصير) أي المرجع. وقرئ (1) والحديث بالسند والمتن في ابن كثير. (2) في د وه‍ وب: يسار. هو أبو عبد الله المروزي الخرساني، وابن بشار هو ابن عثمان بن داود بن كيسان العبدى البصري. (3) راجع ج‍ 3 ص 375. (*)
[ 263 ]
رضوان بكسر الراء وضمها كالعدوان [ والعدوان ] (1). ثم قال تعالى: (هم درجات عند الله) أي ليس من اتبع رضوان الله كمن باء بسخطمنه. قيل: " هم درجات " متفاوتة، أي هم مختلفوا المنازل عند الله، فلمن اتبغ رضوانه الكرامة والثواب العظيم، ولمن باء بسخط منه المهانة والعذاب الاليم. ومعنى " هم درجات " - أي ذوو درجات. أو على درجات، أو في درجات، أو لهم درجات. وأهل النار أيضا ذوو درجات، كما قال: (وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح) (2). فالمؤمن والكافر لا يستويان في الدرجة، ثم المؤمنون يختلفون أيضا، فبعضهم أرفع درجة من بعض، وكذلك الكفار. والدرجة الرتبة، ومنه الدرج، لانه يطوى رتبة بعد رتبة. والاشهر في منازل جهنم دركات، كما قال: " إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار " [ النساء: 145 ] (3) فلمن لم يغل درجات في الجنة، ولمن غل دركات في النار. قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي منازل، يقال لكل منزل منها: درك ودرك. والدرك إلى أسفل، والدرج إلى أعلى. قوله تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة إن كانوا من قبل لفى ضلل مبين (164) بين الله تعالى عظيم منته عليهم ببعثه محمدا صلى الله عليه وسلم. والمعنى في المنة فيه أقوال: منها أن يكون معنى (بشر مثلهم) أي بشر مثلهم. فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم علم أن ذلك من عند الله. وقيل: " من أنفسهم " منهم. فشرفوا به صلى الله عليه وسلم، فكانت تلك المنة. وقيل: " من أنفسهم " ليعرفوا حاله ولا تخفى عليهم طريقته. وإذا كان محله فيهم هذا كانوا أحق بأن يقاتلوا عنه ولا ينهزموا دونه. وقرئ في الشواذ (4) " من أنفسهم " (بفتح الفاء) يعني من أشرفهم، لانه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل من قريش، وقريش أفضل من العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ المؤمنين عام ومعناه خاص (1) في ه‍ وج‍ ود. (2) الضحضاح: مارق من الماء على وجه الارض ولا يبلغ الكعبين، فاستعارة للنار. (3) راجع ج‍ 5 ص 124. (4) هذه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وابن عباس رضى الله عنهما. (*)
[ 264 ]
في العرب، لانه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده صلى الله عليه وسلم، ولهم فيه نسب، إلا بني تغلب فإنهم كانوا نصارى فطهره الله من دنس النصرانية. وبيان هذا التأويل قوله تعالى: " هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم " [ الجمعة: 2 ] (1). وذكر أبو محمد عبد الغني قال: حدثنا أبو أحمد البصري (2) حدثنا أحمد بن علي بن سعيد القاضي أبو بكر المروزي حدثنا يحيى بن معين حدثنا هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " قالت: هذه للعرب خاصة. وقال آخرون: أراد به المؤمنين كلهم. ومعنى " من أنفسهم " أنه واحد منهم وبشر ومثلهم، وإنما أمتاز عنهم بالوحي، وهو معنى قوله " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " [ التوبة: 128 ] (3) وخص المؤمنين بالذكر لانهم المنتفعون به، فالمنة عليهم أعظم. وقوله تعالى: (يتلو عليهم) " يتلو " في موضع نصب نعت لرسول، ومعناه يقرأ. والتلاوة القراءة. (ويعلمهم الكتاب والحكمة) تقدم في " البقرة " (4). ومعنى (وإن كانوا من قبل) أي ولقد كانوا من قبل، أي من قبل محمد، وقيل: " إن " بمعنى ما، واللام في الخبر بمعنى إلا، أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين. ومثله " وإن كنتم من قبله لمن الضالين " [ البقرة: 198 ] أي وما كنتم من قبله إلا من الضالين. وهذا مذهب الكوفيين. وقد تقدم في " البقرة " (5) معنى هذه الآية. قوله تعالى: أو لما أصبتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير (165) الالف للاستفهام، والواو للعطف. (مصيبة) أي غلبة. (قد أصبتم مثليها) يوم بدر بأن قتلتم منهم سبعين وأسرتم سبعين. والاسير في حكم المقتول، لان الآسر يقتل أسيره إن أراد. أي فهزمتموهم يوم بدر ويوم أحد أيضا في الابتداء، وقتلتم فيه قريبا من (1) راجع ج‍ 18 ص 91. (2) في ب وه‍ ود: المصرى. (3) راجع ج‍ 8 ص 301. (4) راجع ج‍ 2 ص 130. (5) راجع ج‍ 2 ص 427. (*)
[ 265 ]
عشرين، قتلتم منهم في يومين، ونالوا منكم في يوم أحد. " قلتم أنى هذا " أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبي والوحي، وهم مشركون ؟. (قل هو من عند أنفسكم) يعني مخالفة الرماة. وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا، لانهم إذا أطاعوا فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. وقال قتادة والربيع بن أنس: يعني سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بعد ما أراد الاقامة بالمدينة. وتأولها في الرؤيا التي رآها درعا حصينة (1). علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل. وقد قيل لهم: إن فاديتم الاسارى قتل منكم على عدتهم. وروى البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الاسارى يوم بدر: (إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم). فكان آخر السبعين ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. فمعنى " من عند أنفسكم " على القولين الاولين بذنوبكم. وعلى القول الاخير باختياركم. قوله تعالى: وما أصبكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (66) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لا تبعنكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمن يقولون بأفوههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167) يعني يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة. (فبإذن الله) أي بعلمه. وقيل: بقضائه وقدره. قال القفال: أي فبتخليته بينكم وبينهم، لا أنه أراد ذلك. وهذا تأويل المعتزلة. ودخلت الفاء في " فبإذن الله " لان " ما " بمعنى الذي. أي والذي أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، فأشبه الكلام معنى الشرط، كما قال سيبويه: الذي قام فله درهم. (وليعلم (1) كذا في د وب وج‍ وه‍، وفى ا: حصنا حصينا. (*)
[ 266 ]
المؤمنين وليعلم الذين نافقوا) أي ليميز. وقيل ليرى. وقيل: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم في القتال، وليظهر كفر المنافقين بإظهارهم الشماتة فيعلمون ذلك. والاشارة بقوله (نافقوا (وقيل لهم) هي إلى عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثمائة. فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الانصاري، أبو جابر ابن عبد الله، فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، ونحو هذا من القول. فقال له ابن أبى: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم. فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم. ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد رحمه الله تعالى. واختلف الناس في معنى قوله: (أو ادفعوا) فقال السدي وابن جريج وغيرهما: كثروا سوادنا وإن لم تقاتلوا معنا، فيكون ذلك دفعا وقمعا للعدو، فإن السواد إذا كثر حصل دفع العدو. وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الاعمى وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له (1): [ أليس ] (2) قد أنزل الله عذرك ؟ قال: بلى ! ولكني أكثر [ سواد ] (2) المسلمين بنفسي. وروي عنه أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله ! وقال أبو عون الانصاري: معنى " أو ادفعوا " رابطوا. وهذا قريب من الاول. ولا محالة أن المرابط مدافع، لانه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو. وذهب قوم من المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو " أو ادفعوا " إنما هو استدعاء إلى القتال [ حمية، لانه استدعاهم إلى القتال ] (3) في سبيل الله، وهي أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا على ذلك عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الانفة. أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة. ألا ترى أن قزمان (4) قال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي. وألا ترى أن بعض الانصار (1) في ز: فقلت له. (2) الزيادة من ابن عطية. (3) الزيادة من ب ود وج‍. (4) هو قزمان بن الحارث العبسى المنافق الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). (*)
[ 267 ]
قال يوم أحد لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر (1) في زروع قناة (2)، أترعى زروع بني قيلة (3) ولما نضارب ؟ والمعنى إن لم تقاتلوا في سبيل الله فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وحريمكم. قوله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان) أي بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون، فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال، وإن كانوا كافرين على التحقيق. وقوله تعالى: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) أي أظهروا الايمان، وأضمروا الكفر. وذكر الافواه تأكيد، مثل قوله: " يطير بجناحيه " [ الانعام: 38 ] (4). قوله تعالى: الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صدقين (168) قوله تعالى: (الذين قالوا لاخوانهم) معناه لاجل (5) إخوانهم، وهم الشهداء المقتولون من الخزرج، وهم إخوة نسب ومجاورة، لا إخوة الدين. أي قالوا لهؤلاء الشهداء: لو قعدوا، أي بالمدينة ما قتلوا. وقيل: قال عبد الله بن أبي وأصحابه لاخوانهم، أي لاشكالهم من المنافقين: لو أطاعونا، هؤلاء الذين قتلوا، لما قتلوا. وقوله (لو أطاعونا) يريد في ألا يخرجوا إلى قريش. وقوله: (وقعدوا) أي قالوا هذا القول وقعدوا بأنفسهم عن الجهاد، فرد الله عليهم بقوله: (قل فادرءوا) أي قل لهم يا محمد: إن صدقتم فادفعوا الموت عن أنفسكم. والدرء الدفع. بين بهذا أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن المقتول يقتل بأجله، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة. وقيل: مات يوم قيل هذا، سبعون منافقا. وقال أبو الليث السمرقندي: سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول: لما نزلت الاية " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت " مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين. (1) الظهر: الركاب التى تحمل الاثقال في السفر، لحملها إياها على ظهورها. (2) قناة: واد بالمدينة، وهى أحد أوديتها الثلاثة، عليه حرث ومال. قال المدائني: وقناة يأتي من الطائف ويصيب في الارحضية وقرقرة الكدر، ثم يأتي بئر معونة، ثم يمر على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد. (عن معجم البلدان). (3) قيلة: أم الاوس والخزرج، هي قيلة بنت كاهل بن عذرة، قضاعية. ويقال: بنت جفنة، غسانية. (عن شرح القاموس). (4) راجع ج‍ 6 ص 419. (5) في ب: لاهل. (*)
[ 268 ]
قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بمآءاتئهم اللهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) فيه ثمان مسائل: الاولى - لما بين الله تعالى أن ما جرى يوم أحد كان امتحانا يميز المنافق من الصادق، بين أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عنده. والآية في شهداء أحد. وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة. وقيل: بل هي عامة في جميع الشهداء. وفي مصنف أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم) - قال - فأنزل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا...) إلى آخر الآيات. وروى بقي (1) بن مخلد عن جابر قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا جابر مالي أراك منكسا مهتما) ؟ قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالا وعليه دين، فقال: (ألا أبشرك بما لقي الله عزوجل به أباك) ؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: (إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا (2) وما كلم أحد قط إلا من وراء حجاب فقال له يا عبدي تمن أعطك قال يا رب فردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب تبارك وتعالى إنه قد سبق مني أنهم [ إليها ] (3) لا يرجعون قال يا رب فأبلغ من ورائي) فأنزل الله عزوجل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله " الآية. أخرجه ابن ماجه في سننه، والترمذي في جامعه وقال: هذا حديث حسن غريب. وروى وكيع عن سالم بن الافطس عن سعيد بن جبير " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل (1) حافظ الاندلس ابن يزيد القرطبي. (2) كقاحا (بكسر الكاف) أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول. (3) زيادة عن سنن الترمذي وابن ماجة. (*)
[ 269 ]
الله أمواتا بل أحياء " قال: لما أصيب حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة، فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا - إلى قوله: لا يضيع أجر المؤمنين ". وقال أبو الضحى: نزلت هذه الاية في أهل أحد خاصة. والحديث الاول يقتضي (1) صحة هذا القول. وقال بعضهم: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا، ثمانية من الانصار، وستة من المهاجرين. وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق (2) وغيره. وقال آخرون: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة وسرور تحسروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور. فأنزل الله تعالى هذه الاية تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم. قلت: وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى. فالذي عليه المعظم هو ما ذكرناه، وأن حياة الشهداء محققة. ثم منهم من يقول: ترد إليهم الارواح في قبورهم فينعمون، كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وصار قوم إلى أن هذا مجاز، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة. وهو كما يقال: ما مات فلان، أي ذكره حي، كما قيل: موت التقي حياة لا فناء لها * قد مات قوم وهم في الناس أحياء (1) كذا في أ وح‍. وفى د: يقتضى هذا القول، وفى ب وج‍ وه‍: يقضى بصحة الخ. (2) راجع سيرة ابن هشام ص 64 طبع أوربا. (*)
[ 270 ]
فالمعنى أنهم يرزقون الشاء الجميل. وقال آخرون: أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون. وهذا هو الصحيح من الاقوال، لان ما صح به النقل فهو الواقع. وحديث ابن عباس نص يرفع الخلاف. وكذلك حديث ابن مسعود خرجه مسلم. وقد أتينا على هذا المعنى مبينا في كتاب " التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ". والحمد لله. وقد ذكرنا هناك كم الشهداء، وأنهم مختلفو الحال. وأما من تأول في الشهداء أنهم أحياء بمعنى أنهم سيحيون فبعيد يرده القرآن والسنة، فإن قوله تعالى: " بل أحياء " دليل على حياتهم، وأنهم يرزقون ولا يرزق إلا حي. وقد قيل: إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة، ويشركون في ثواب كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة، لانهم سنوا أمر الجهاد. نظيره قوله تعالى: " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا " [ المائدة: 32 ] (1). على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. وقيل: لان أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الاحياء المؤمنين الذين باتوا على وضوء. وقيل: لان الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الارض. وقد ذكرنا هذا المعنى في " التذكرة " وأن الارض لا تأكل الانبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين المحتسبين وحملة القرآن. الثانية - إذا كان الشهيد حيا حكما فلا يصلى عليه، كالحي حسا. وقد اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم، فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم، إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة، لحديث جابر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أدفنوهم بدمائهم) يعني يوم أحد ولم يغسلهم، رواه البخاري. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا ؟ بدمائهم وثيابهم. وبهذا قال أحمد وإسحاق والاوزاعي وداود بن علي وجماعة فقهاء الامصار وأهل الحديث وابن علية. وقال سعيد بن المسيب والحسن: يغسلون. قال أحدهما: إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك. قال أبو عمر: ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الامصار إلا عبيد الله بن الحسن العنبري، وليس (1) راجع ج‍ 6 ص 145. (*)
[ 271 ]
ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة، لان كل واحد منهم كان له ولي يشتغل به ويقوم بأمره. والعلة في ذلك - والله أعلم - ما جاء في الحديث في دمائهم (أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك) فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر، وإنما هي مسألة اتباع للاثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا. وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله عليه السلام في شهداء أحد. (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة). قال: وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم. قال أبو عمر: وهذا يشبه الشذوذ، والقول بترك غسلهم أولى، لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد وغيرهم. وروى أبو داود عن جابر قال: رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو. قال: ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثانية - وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضا، فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا يصلى عليهم، لحديث جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: (أيهما أكثر أخدا للقرآن) ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام: يصلى عليهم. ورووا آثارا كبيرة أكثرها مراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد. والرابعة - وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا ولم يمت في المعترك وعاش وأكل فإنه يصلى عليه، كما قد صنع بعمر رضي الله عنه. واختلفوا فيمن قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطريق وشبه ذلك، فقال أبو حنيفة والثوري: كل من قتل مظلوما لم يغسل، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد، وهو قول سائر أهل العراق. ورووا من طرق كثير صحاح عن زيد بن صوحان، وكان قتل يوم الجمل: لا تنزعوا عني ثوبا ولا تغسلوا عني دما. وثبت (1) عن عمار بن ياسر أنه قال مثل قول زيد (1) كذا في د وج‍ وه‍ وب. وفى أ وح‍: روى. (*)
[ 272 ]
ابن صوحان. وقتل عمار بن ياسر بصفين ولم يغسله علي. وللشافعي قولان: أحدهما - يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب، وهذا قول مالك. قال مالك: لا يغسل من قتله الكفار ومات في المعترك. وكان مقتول غير قتيل المعترك - قتيل الكفار - فإنه يغسل ويصلى عليه. وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه. والقول الآخر للشافعي - لا يغسل قتيل البغاة. وقول مالك أصح، فإن غسل الموتى قد ثبت بالاجماع ونقل الكافة. فواجب غسل كل ميت إلا من أخرجه إجماع أو سنة ثابتة. وبالله التوفيق. الخامسة - العدو إذا صبح قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك، أو حكم سائر الموتى، وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله: أغار العدو - قصمه الله - صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة، فقتل وأسر، وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله، فسألت شيخنا المقرئ الاستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي (1) حجة فقال، غسله وصلى عليه، فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين. ثم سألت شيخنا ربيع بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع بن أبي فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك. ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسله وكفنه وصل عليه، ففعلت. ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في " التبصرة " لابي الحسن اللخمي وغيرها. ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته، وكنت دفنته بدمه في ثيابه. السادسة - هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى أنه يكفر الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (القتل في سبيل الله يكفر كل شئ إلا الدين كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفا). قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد، والقصاص في هذا (1) في ج‍: " بابن حجة ". (*)
[ 273 ]
كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة. روى عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد - أو قال الناس، شك همام (1)، وأومأ بيده إلى الشام - عراة غرلا (2) بهما. قلنا: ما بهم ؟ (3) قال: ليس معهم شئ فيناديهم بصوت يسمعه من قرب ومن بعد أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لاحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ولا ينبغي لاحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة. قال قلنا: كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلا ؟. قال: بالحسنات والسيئات). أخرجه الحارث بن أبي أسامة (4). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون من المفلس) ؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياه فطرحت عليه ثم طرح في النار). وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه). وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين). وقال أحمد بن زهير: سئل يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال: هو صحيح. فإن قيل: فهذا يدل على أن بعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل، ولا تكون أرواحهم في جوف طير كما ذكرتكم، ولا يكونون في قبورهم، فأين يكونون ؟ قلنا: قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا) فلعلهم هؤلاء. والله أعلم. ولهذا قال الامام أبو محمد بن عطية: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة يجمعها أنهم " يرزقون ". وقد أخرج الامام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه عن (1) هو همام بن يحيى، أحد رجال سند هذا الحديث. (2) الغرل (بضم فسكون): جمع الاغرل، وهو الاقلف. (3) في ط وه‍ وب: ما بهما ؟. (4) في ج‍: أمامة. والصحيح ما أثبت كما في التمهيد. (*)
[ 274 ]
سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (شهيد البحر مثل شهيدي (1) البر والمائد (2) في البحر كالمتشحط (3) في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله عزوجل وكل ملك الموت بقبض الارواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين). السابعة - الدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة - والله أعلم - هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به. أو قدر على الاداء فلم يؤده، أو أدانه في سرف أو في سفه ومات ولم يوفه. وأما من ادان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله، لان على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفئ الراجع على المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: (من ترك دينا أو ضياعا (4) فعلى الله ورسوله ومن ترك مالا فلورثته). وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب (التذكرة) والحمد لله. الثانية - قوله تعالى: (عند ربهم يرزقون) فيه حذف مضاف تقديره عند كرامة ربهم. و " عند " هنا تقتضي غاية القرب، فهي ك‍ (- لدى) ولذلك لم تصغر فيقال ! عنيد، قال سيبويه. فهذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب. و " يرزقون " هو الرزق المعروف في العادات. ومن قال: هي حياة الذكر قال: يرزقون الثناء الجميل. والاول الحقيقة. وقد قيل: إن الارواح تدرك في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة وطيبها ونعبمها وسرورها ما يليق بالارواح، مما ترتزق وتنتعش به. وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الارواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله لها. وهذا قول حسن، وإن كان فيه نوع من المجاز، فهو الموافق لما اخترناه. والموفق الاله. و (فرحين) نصب في موضع الحال (1) قال في شرح الجامع: بلفظ التثنية. (2) المائد: الذى تدور رأسه من ريح البحر، واضطراب السفينة بالامواج. (3) تشحط المقتول في دمه تخبط في واضطراب وتمرغ. (4) الضياع: (بفتح أوله): العيال. (*)
[ 275 ]
من المضمر في " يرزقون ". ويجوز في الكلام " فرحون " على النعت لاحياء. وهو من الفرح بمعنى السرور. والفضل في هذه الآية هو النعيم المذكور. وقرأ ابن السميقع " فارحين " بالالف وهما لغتان، كالفره والفاره، والحذر والحاذر، والطمع والطامع، والبخل والباخل. قال النحاس: ويجوز في غير القرآن رفعه، يكون نعتا لاحياء. قوله تعالى: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل، وإن كان لهم فضل. وأصله من البشرة (1)، لان الانسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه. وقال السدي.: يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. وقال قتادة وابن جريح والربيع وغيرهم: استبشارهم بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه، فيسرون ويفرحون لهم بذلك. وقيل: إن الاشارة بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يقتلوا، ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الاسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه، فهم فرحون لانفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ذهب إلى هذا المعنى الزجاج وابن فورك. قوله تعالى: يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171) أي بجنة من الله. ويقال: بمغفرة من الله. (وفضل) هذا لزيادة البيان. والفضل داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد، روى الترمذي عن المقدام بن معديكرب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال - كذا في الترمذي وابن ماجه " ست "، (1) كذا في ب وز وه‍ وج‍. وفى ط: البشارة. (*)
[ 276 ]
وهي في العدد (1) سبع - يغفر له في أول دفعة (2) ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الاكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه) قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وهذا تفسير للنعمة والفضل. والاثار في هذا المعنى كثيرة. وروي عن مجاهد أنه قال: السيوف مفاتيح الجنة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكرم الله تعالى الشهداء بخمس كرامات لم يكرم بها أحدأ من الانبياء ولا أنا أحدها أن جميع الانبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فالله هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت، والثاني أن جميع الانبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت والشهداء لا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا، والثالث أن جميع الانبياء قد كفنوا وأنا أكفن والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم، والرابع أن الانبياء لما ماتوا سموا أمواتا وإذا مت يقال قد مات والشهداء لا يسمون موتى، والخامس أن الانبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فإنهم يشفعون في كل يوم فيمن يشفعون). قوله تعالى: (وأن الله) قرأه الكسائي بكسر الالف، والباقون بالنصب، فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. ومن قرأ بالكسر فعلى الابتداء. ودليله قراءة ابن مسعود " والله لا يضيع أجر المؤمنين ". قوله تعالى: الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) (1) في حاشية السندي على سنن ابن ماجه: " قوله ست خصال المذكورات سبع إلا أن يجعل الاجارة والامن من الفزع واحدة ". (2) دفعة: قال الدميري: ضبطناه في جامع الترمذي بضم الدال، وكذلك قال أهل اللغة: الدفعة بالضم ما دفع من إناء أو سقاء فانصب بمرة، وكذلك الدفعة من المطر وغيره مثل الدفقة بالقاف. وأما الدفعة بالفتح فهى المرة الواحدة فلا يصلح ههنا ". (*)
[ 277 ]
" الذين " في موضع رفع على الابتداء، وخبره " من بعد ما أصابهم القرح ". ويجوز أن يكون في موضع خفض، بدل (1) من المؤمنين، أو من " الذين لم يلحقوا ". (استجابوا) بمعنى أجابوا والسين والتاء زائدتان. ومنه قوله: * فلم يستجبه عند ذاك مجيب (2) * وفي الصحيحين عن عروة بن الزبير قال: قالت لي عائشة رضي الله عنها: كان أبوك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. لفظ مسلم. وعنه عائشة: يا ابن أختي كان أبواك - تعني الزبير وأبا بكر - من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقالت: لما انصرف المشركون من أحد وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصابهم خاف أن يرجعوا فقال: (من ينتدب لهؤلاء حتى يعلموا أن بنا قوة) قال فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين، فخرجوا في آثار القوم، فسمعوا بهم وانصرفوا بنعمة من الله وفضل. وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما جرى في غزوة حمراء الاسد، وهي على نحو ثمانية أميال من المدينة، وذلك أنه لما كان في يوم الاحد، وهو الثاني من يوم أحد، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بإتباع المشركين، وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهدها بالامس) فنهض معه مائتا رجل من المؤمنين. في البخاري فقال: (من يذهب في إثرهم) فانتدب منهم سبعون رجلا. قال: كان فيهم أبو بكر والزبير على ما تقدم، حتى بلغ حمراء الاسد، مرهبا للعدو، فربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ولا يجد مركوبا، فربما يحمل على الاعناق، وكل ذلك امتثال لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في الجهاد. وقيل: إن الآية نزلت في رجلين من بني عبد الاشهل كانا مثخنين بالجراح، يتوكأ أحدهما على صاحبه، وخرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا حمراء الاسد، لقيهم نعيم بن مسعود فأخبرهم أن أبا سفيان ابن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم، وأجمعوا رأيهم على أن يأتوا (3) إلى المدينة (1) كذا في الاصول. والذى في النحاس والعبارة له: بدلا. (2) هذا عجز بيت لكعب بن سعد الغنوى يرثى أخاه أبا المغوار، وصدره: * وداع دعا يا من يجيب إلى الندى * (3) في ج‍ وه‍ وط: يرجعوا. (*)
[ 278 ]
فيستأصلوا أهلها، فقالوا ما أخبرنا الله عنهم: " حسبنا الله ونعم الوكيل ". وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك إذ جاءهم معبد الخزاعي، وكانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وعيبة (1) نصحه، وكان قد رأى حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما هم عليه، ولما رأى عزم قريش على الرجوع ليستأصلوا أهل المدينة احتمله خوف ذلك، وخالص نصحه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أن خوف قريشا بأن قال لهم: قد تركت محمدا وأصحابه بحمراء الاسد في جيش عظيم، قد اجتمع له من كان تخلف عنه، وهم قد تحرقوا عليكم، فالنجاء النجاء ! فإني أنهاك عن ذلك، فو الله لقد حملني ما رأيت أن قلت فيه أبياتا من الشعر. قال: وما قلت ؟ قال: قلت: كادت تهد من الاصوات راحلتي * إذ سالت الارض بالجرد الابابيل (2) تردي بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل (3) فظلت عدوا أظن الارض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالخيل (4) إني نذير لاهل البسل ضاحية * لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل * (5) قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ورجعوا إلى مكة خائفين مسرعين، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه إلى المدينة منصورا، كما قال الله تعالى: " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " [ آل عمران: 174 ] أي قتال ورعب. واستأذن (1) عيبة الرجل: موضع سره. (2) الجرد: خيل قصيرة شعر الجلد. أبابيل: فرقا. (3) ردت الخيل رديا ورديانا: رجمت الارض بحوافرها في سيرها وعدوها. والتنابلة: القصار، واحدهم تنبال. والاميل: الذي يميل على السرج ولا يستوى عليه. وقيل: هو الكسل الذى لا يحسن الركوب والفروسية. والمعازيل: القوم ليس معهم سلاح، واحدهم معزال. (4) في الروض الانف: " تغطمطت البطحاء، لفظ مستعار عن الغطمطة، وهو صوت غليان القدر. قوله (الخيل) وفى ه‍ وابن هشام ط أوربا: الجيل. والاول فيه سناد. ولعله: الخيل جمع أخيل فلا سناد. (5) الوخش: رذال الناس. والقنابل: الطائفة من الناس ومن الخيل، وفى ج‍ وز والسيرة ط مصر مع الروض: تنابلة. وفى ط وى وه‍: تناتلة: تنتل الرجل إذا الرجل إذا تقذر بعد التنظف. (*)
[ 279 ]
جابر بن عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له. وأخبرهم تعالى أن الاجر العظيم قد تحصل لهم بهذه القفلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها غزوة). هذا تفسير الجمهور لهذه الآية. وشذ مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى فقالا: إن هذه الآية من قوله: " الذين قال لهم الناس - إلى قوله: - عظيم " [ آل عمران: 173 - 174 ] إنما نزلت في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى. وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في أحد، إذ قال: موعدنا بدر من العام المقبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا نعم) فخرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدر، وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم، وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الاشجعي، فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك، لكنهم قالوا: " حسبنا الله ونعم الوكيل " فصمموا (1) حتى أتوا بدرا فلم يجدوا أحدا، ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة، وانقلبوا ولم يلقوا كيدا، وربحوا في تجارتهم، فلذلك قول تعالى: " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " أي وفضل في تلك التجارات. والله أعلم. قوله تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمنا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) اختلف في قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس) فقال مجاهد ومقاتل وعكرمة والكلبي: هو نعيم بن مسعود الاشجعي. واللفظ عام ومعناه خاص، كقوله: " أم يحسدون الناس " [ النساء: 54 ] (2) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. السدي: هو أعرابي جعل له جعل على ذلك. وقال ابن إسحاق وجماعة: يريد الناس ركب عبد القيس، مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوهم. وقيل: الناس هنا المنافقون. قال السدي: لما تجهز النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا: نحن أصحابكم الذين (1) صمم في السير وغيره: مضى. (2) راجع ج‍ 5 ص 250. (*)
[ 280 ]
نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا، وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا، فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد. فقالوا: " حسبنا الله ونعم الوكيل ". وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقالوا: " قد جمعوا لكم " جموعا كثيرة " فاخشوهم " أي فخافوهم واحذروهم، فإنه لا طاقة لكم بهم. فالناس على هذه الاقوال على بابه من الجمع. والله أعلم. قوله تعالى: (فزادهم إيمانا) أي فزادهم قول الناس إيمانا، أي تصديقا ويقينا في دينهم، وإقامة على نصرتهم، وقوة وجراءة واستعدادا. فزيادة الايمان على هذا هي في الاعمال. وقد اختلف العلماء في زيادة الايمان ونقصانه على أقوال. والعقيدة في هذا على أن نفس الايمان الذي هو تاج واحد، وتصديق واحد بشئ ما، إنما هو معنى فرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شئ إذا زال، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته دون ذاته. فذهب جمع من العلماء إلى أنه يزيد وينقص من حيث الاعمال الصادرة عنه، لا سيما أن كثيرا من العلماء يوقعون اسم الايمان على الطاعات، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الايمان بضع وسبعون بابا فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الاذى عن الطريق) أخرجه الترمذي، وزاد مسلم (والحياء شعبة من الايمان) وفي حديث علي رضي الله عنه: إن الايمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب، كلما أزداد الايمان ازدادت اللمظة. وقوله " لمظة " قال الاصمعي: اللمظة مثل النكتة ونحوها من البياض، ومنه قيل: فرس ألمظ، إذا كان بجحفلته شئ من بياض. والمحدثون يقولون " لمظة " بالفتح. وأما كلام العرب فبالضم، مثل شبهة ودهمة وخمرة. وفيه حجة على من أنكر أن يكون الايمان يزيد وينقص. ألا تراه يقول: كلما ازداد الايمان ازدادت اللمظة حتى يبيض القلب كله. وكذلك النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلما ازداد النفاق أسود القلب حتى يسود القلب كله. ومنهم من قال: إن الايمان عرض، وهو لا يثبت زمانين، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب، فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن، وباعتبار دوام حضوره.
[ 281 ]
وينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن. أشار إلى هذا أبو المعالي. وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة، حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم. وفيه: (فيقول المؤمنون يا ربنا إخواننا كانوا يصومون ويصلون ويحجون فقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدأ ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدأ ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه) وذكر الحديث (1). وقد قيل: إن المراد بالايمان في هذا الحديث أعمال القلوب، كالنية والاخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك. وسماها إيمانا لكونها في محل الايمان أو عني بالايمان، على عادة العرب في تسمية الشئ باسم الشئ إذا جاوره، أو كان منه بسبب. دليل هذا التأويل قول الشافعين بعد إخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من خير: (لم نذر فيها خيرا) مع أنه تعالى يخرج بعد ذلك جموعا كثيرة ممن يقول لا إله إلا الله، وهم مؤمنون قطعا، ولو لم يكونوا مؤمنين لما أخرجهم. ثم إن عدم الوجود الاول الذي يركب (2) عليه المثل لم تكن زيادة ولا نقصان. وقدر ذلك في الحركة. فإن الله سبحانه إذا خلق علما فردا وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات فقد زاد علمه، فإن أعدم الله الامثال فقد نقص، أي زالت الزيادة. وكذلك إذا خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها. وذهب قوم من العلماء إلى أن زيادة الايمان ونقصه إنما هو من طريق الادلة، فتزيد الادلة عند واحد فيقال في ذلك: إنها زيادة في الايمان، وبهذا المعنى - على أحد الاقوال - فضل الانبياء على الخلق، فإنهم علموه من وجوه كثيرة، أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها. وهذا القول خارج عن مقتضى الاية، إذ لا يتصور أن تكون الزيادة فيها من جهة الادلة. وذهب قوم: إلى أن الزيادة في الايمان إنما هي بنزول الفرائض والاخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر. (1) بقيته " فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خبرا " مسلم ج‍ 1 ص 116. (2) في ز: يتركب. (*)
[ 282 ]
وهذا إنما هو زيادة إيمان، فالقول فيه إن الايمان يزيد قول مجازي، ولا يتصور فيه النقص على هذا الحد، وإنما يتصور بالاضافة إلى من علم. فاعلم. قوله تعالى: (وقالوا حسبنا الله ونعم الشاعر: أي كافينا الله. وحسب مأخوذ من الاحساب، وهو الكفاية. قال الشاعر: فتملا بيتنا أقطا (1) وسمنا * وحسبك من غنى شبع وري روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم - إلى قوله: - " وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم. والله أعلم. قوله تعالى: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174) قال علماؤنا: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا. فرضاهم عنه، ورضي عنهم. قوله تعالى: إنما ذلكم الشيطن يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175) قال ابن عباس وغيره: المعنى يخوفكم أولياءه، أي بأوليائه، أو من أوليائه، فحذف حرف الجر ووصل الفعل إلى الاسم فنصب. كما قال تعالى: " لينذر بأسا شديدا " [ الكهف: 2 ] (2) أي لينذركم ببأس شديد، أي يخوف المؤمن بالكافر. وقال الحسن والسدي: المعنى يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين. فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم. وقد (1) الاقط: شئ يتخذ من اللبن المخبض ويترك حتى يمصل. (2) راجع ج‍ 10 ص 246. (*)
[ 283 ]
قيل: إن المراد هذا الذي يخوفكم بجمع الكفار شيطان من شياطين الانس، إما نعيم بن مسعود أو غيره، على الخلاف في ذلك كما تقدم. (فلا تخافون) أي لا تخافوا الكافرين المذكورين في قوله: " إن الناس قد جمعوا لكم ". أو يرجع إلى الاولياء إن قلت: إن المعنى يخوف بأوليائه أي يخوفكم أولياءه. قوله تعالى: (وخافون) أي خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي. والخوف في كلام العرب الذعر. وخاوفني فلان فخفته، أي كنت أشد خوفا منه. والخوفاء (1) المفازة لا ماء بها. ويقال: ناقة خوفاء وهي الجرباء. والخافة كالخريطة (2) من الادم يشتار فيها العسل. قال سهل بن عبد الله: اجتمع بعض الصديقين إلى إبراهيم الخليل فقالوا: ما الخوف ؟ فقال: لا تأمن حتى تبلغ المأمن. قال سهل: وكان الربيع بن خيثم إذا مر بكير (3) يغشى عليه، فقيل لعلي ابن أبي طالب ذلك، فقال: إذا أصابه ذلك فأعلموني. فأصابه فأعلموه، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال: أشهد أن هذا أخوف [ أهل ] (4) زمانكم. فالخائف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولهذا قيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب عليه. ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه فقال: (وخافون إن كنتم مؤمنين) وقال: " وإياي فارهبون ". ومدح المؤمنين بالخوف فقال: " يخافون ربهم من فوقهم " [ النحل: 50 ]. ولارباب الاشارات في الخوف عبارات مرجعها إلى ما ذكرنا. قال الاستاذ أبو علي الدقاق: دخلت على أبي بكر بن فورك رحمه الله عائدا، فلما رأني دمعت عيناه، فقلت له: إن الله يعافيك ويشفيك. فقال لي: أترى أني أخاف من الموت ؟ إنما أخاف مما وراء الموت. وفي سنن ابن ماجه عن أبي ذر قال (1) يفال مفازة خوقاء (بالقاف لا بالفاء) أي واسعة الجوف أو لاماء بها، كما يقال ناقة خوفاء (بالقاف كذلك) أي جرباء (انظر اللسان مادة خوق) وليس فيه ولا في كتاب آخر من كتب اللغة هذان المعنيان في مادة " خوف " بالفاء. (2) كذا في الاصول. وفى اللسان: والخافة: خريطة. (3) الكير: كير الحداد، وهو زق أو جلد غليظ ذو خافات، وهو المعروف الان بالمنفاخ. وأما الكور فهو المبنى من الطين. (4) عن ج‍ ود. (*)
[ 284 ]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت (1) السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات (2) تجأرون (3) إلى الله والله لوددت أني كنت شجرة تعضد) (4). خرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال: (لوددت أني كنت شجرة تعضد). والله أعلم. قوله تعالى: ولا يحزنك الذين يسرعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الاخرة ولهم عذاب عظيم قوله تعالى: (ولا يخزنك الذين يسارعون في الكفر) هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدوا خوفا من المشركين، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عزوجل: " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ". وقال الكلبي: يعني به المنافقين ورؤساء اليهود، كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب فنزلت. ويقال: إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل كتاب، فلو كان قوله حقا لاتبعوه، فنزلت " ولا يحزنك ". قراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع إلا في - الانبياء - " لا يحزنهم الفزع الاكبر " (5) فإنه بفتح الياء وبضم الزاي. وضده أبو جعفر. وقرأ ابن محيصن كلها بضم الياء و [ كسر ] (6) الزاي. والباقون كلها بفتح الياء وضم الزاي. (1) الاطيط: صوت الاقتاب، وأطيط الابل: أصواتها وحنينها. أي إن كثرة ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله عزوجل (عن ابن الاثير). (2) الصعدات: الطرق، وهى جمع صعد، كطرق وطرقات. وقيل: جمع صعدة، كظلمة وهى فناء باب الدار، وممر الناس بين يديه. (3) جأر القوم جؤارا: رفعوا أصواتهم بالدعاء متضرعين. (4) تعضد: تقطع بالمعضد، والمعضد، والمعضاد مثل المنجل يقطع به الشجر. (5) راجع ج‍ 11 ص 346. (6) الاصول كلها: بضم الياء والزاى. والصواب ما أثبتناه. راجع ص 346 ج‍ 11. (*)
[ 285 ]
وهما لغتان: حزنني الامر يحزنني، وأحزنني أيضا وهي [ لغة ] (1) قليلة، والاولى أفصح اللغتين، قاله النحاس. وقال الشاعر في " أحزن ": * مضى صحبي وأحزنني الديار * وقراءة العامة " يسارعون ". وقرأ طلحة " يسرعون في الكفر ". قال الضحاك: هم كفار قريش. وقال غيره: هم المنافقون. وقيل: هو ما ذكرناه قبل. وقيل: هو عام في جميع الكفار. ومسارعتهم في الكفر المظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم. قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك، كما قال: " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " [ فاطر: 8 ] (2) وقال: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " [ الكهف: 6 ] (3). إنهم لن يضروا الله شيئا) أي لا ينقصون من ملك الله وسلطانه شيئا، يعني لا ينقص بكفرهم. وكما روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). خرجه مسلم في صحيحه والترمذي وغيرهما، وهو حديث عظيم فيه طول (1) عن ط. (2) راجع ج‍ 14 ص 324. (3) راجع ج‍ 10 ص 353. (*)
[ 286 ]
يكتب كله. وقيل: معنى " لن يضروا الله شيئا " أي لن يضروا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله عزوجل ناصرهم. قوله تعالى: (يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الاخرة ولهم عذاب عظيم) أي نصيبا. والحظ النصيب والجد. يقال: فلان أحظ من فلان، وهو محظوظ. وجمع الحظ أحاظ على غير قياس (1). قال أبو زيد: يقال رجل حظيظ، أي جديد إذا كان ذا حظ من الرزق. وحظظت في الامر أحظ. وربما جمع الحظ أحظا. أي لا يجعل لهم نصيبا في الجنة. وهو نص في أن الخير والشر بإرادة الله تعالى. قوله تعالى: إن الذين اشتروا الكفر بالايمن لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (177) قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالايمان) تقدم في البقرة (2). (لن يضروا الله شيئا) كرر للتأكيد. وقيل: أي من سوء تدبيره استبدال الايمان بالكفر وبيعه به، فلا يخاف جانبه ولا تدبيره. وانتصب " شيئا " في الموضعين لوقوعه موقع المصدر، كأنه قال: لن يضروا الله ضررا قليلا ولا كثيرا. ويجوز انتصابه على تقدير حذف الباء، كأنه قال: لن يضروا الله بشئ. قوله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهيين (178) قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لانفسهم) الاملاء طول العمر ورغد العيش. والمعنى: لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين، فإن الله قادر (1) قال الجوهرى: كأنه جمع أحظ. قال ابن برى: وقوله " أحاظ على غير قياس " وهم منه، بل أحاظ جمع أحظ، وأصله أحظظ فقلبت الظاء الثانية ياء فصارت أحظ، ثم جمعت على أحاظ. (عن اللسان). (2) راجع ج‍ 1 ص 210. (*)
[ 287 ]
على إهلاكهم، وإنما يطول أعمارهم ليعملوا بالمعاصي، لا لانه خير لهم. ويقال: " أنما نملي لهم " بما أصابوا من الظفر يوم أحد لم يكن ذلك خيرا لانفسهم، وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة. وروي عن ابن مسعود أنه قال: ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له، لانه إن كان برا فقد قال الله تعالى: " وما عند الله خير للابرار " [ آل عمران: 198 ] (1) وإن كان فاجرا فقد قال الله: (إنما نملي لهم ليزدادوا وإثما) وقرأ ابن عامر وعاصم " لا يحسبن " بالياء ونصب السين. وقرأ حمزة: بالتاء ونصب السين. والباقون: بالياء وكسر السين. فمن قرأ بالياء فالذين فاعلون. أي فلا يحسبن الكفار. و " أنما نملي لهم خير لانفسهم " تسد مسد المفعولين. و " ما " بمعنى الذي، والعائد محذوف، و " خير " خبر " أن ". ويجوز أن تقدر " ما " والفعل مصدرا، والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم خير لانفسهم. ومن قرأ بالتاء فالفاعل هو المخاطب، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. و " الذين " نصب على المفعول الاول لتحسب. وأن وما بعدها بدل من الذين، وهي تسد مسد المفعولين، كما تسد لو لم تكن بدلا. ولا يصلح أن تكون " أن " وما بعدها مفعولا ثانيا لتحسب، لان المفعول الثاني في هذا الباب هو الاول في المعنى، لان حسب وأخواتها داخلة على المبتدأ والخبر، فيكون التقدير، ولا تحسبن أنما نملي لهم خير. هذا قول الزجاج. وقال أبو علي: لو صح هذا لقال " خيرا " بالنصب، لان " أن " تصير بدلا من " الذين كفروا "، فكأنه قال: لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا، فقوله " خيرا " هو المفعول الثاني لحسب. فإذا لا يجوز أن يقرأ " لا تحسبن " بالتاء إلا أن تكسر " إن " في " أنما " وتنصب خيرا، ولم يرو ذلك عن حمزة، والقراءة عن حمزة بالتاء، فلا تصح هذه القراءة إذا. وقال الفراء والكسائي: قراءة حمزة جائزة على التكرير، تقديره ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي لهم خيرا، فسدت " أن " مسد المفعولين لتحسب الثاني، وهي وما عملت مفعول ثان لتحسب الاول. قال القشيري: وهذا قريب مما ذكره الزجاج في دعوى البدل، والقراءة صحيحة. فإذا غرض أبي علي تغليط الزجاج. قال النحاس: وزعم أبو حاتم أن قراءة حمزة بالتاء هنا، وقوله: " ولا يحسبن الذين يبخلون " [ آل عمران: 180 ] لحن لا يجوز. وتبعه على ذلك جماعة. (1) راجع ص 322 من هذا الجزء. (*)
[ 288 ]
قلت: وهذا ليس بشئ، لما تقدم بيانه من الاعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلا. وقرأ يحيى بن وثاب " إنما نملي لهم " بكسر إن فيهما جميعا. قال أبو جعفر: وقراءة يحيي حسنة. كما تقول: حسبت عمرا أبوه خالد. قال أبو حاتم وسمعت الاخفش يذكر كسر " إن " يحتج به لاهل القدر، لانه كان منهم. ويجعل على التقديم والتأخير " ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لانفسهم ". قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار " إنما نملي لهم إيمانا " فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن فحكه. والآية نص في بطلان مذهب القدرية، لانه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي، وتوالي أمثاله على القلب. كما تقدم بيانه في ضده وهو الايمان. وعن ابن عباس قال: ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له ثم تلا " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " وتلا " وما عند الله خير للابرار " أخرجه رزين. قوله تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشآء فأمنوا بالله ورسوله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (179) قال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق، فأنزل الله عزوجل (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) الآية. واختلفوا من المخاطب بالآية على أقوال. فقال ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين: الخطاب للكفار والمنافقين. أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم. قال الكلبي: إن قريشا من أهل مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل منا تزعم أنه في النار، وأنه إذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة ! فأخبرنا عن هذا من أين هو ؟ وأخبرنا من يأتيك منا ؟ ومن لم يأتك ؟. فأنزل الله عزوجل " ما كان الله ليذر
[ 289 ]
المؤمنين على ما أنتم عليه " من الكفر والنفاق. " حتى يميز الخبيب من الطيب ". وقيل: هو خطاب للمشركين. والمراد بالمؤمنين في قوله: " ليذر المؤمنين " من في الاصلاب والارحام ممن يؤمن. أي ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم لهم بالايمان على ما أنتم عليه من الشرك، حتى يفرق بينكم وبينهم، وعلى هذا (وما كان الله ليطلعكم) كلام مستأنف. وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين. وقيل: الخطاب للمؤمنين. أي وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف، فتعرفوا المنافق الخبيث، والمؤمن الطيب. وقد ميز يوم أحد بين الفريقين. وهذا قول أكثر أهل المعاني. (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) يا معشر المؤمنين. أي ما كان الله ليعين لكم المنافقين حتى تعرفوهم، ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة، وقد ظهر ذلك في يوم أحد، فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة، فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا، فالآن قد أطلع الله محمدا عليه السلام وصحبه على ذلك. وقيل: معنى " ليطلعكم " أي وما كان [ الله ] (1) ليعلمكم ما يكون منهم. فقوله: " وما كان الله ليطلعكم [ على الغيب ] (1) " على هذا متصل، وعلى القولين الاولين منقطع. وذلك أن الكفار لما قالوا: لم لم يوح إلينا ؟ قال: " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " أي على من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم. (ولكن الله يجتبى) أي يختار (من رسله) لاطلاع غيبه (من يشاء) يقال: طلعت على كذا واطلعت [ عليه ] (1)، وأطلعت عليه غيري، فهو لازم ومتعد. وقرئ " حتى يميز " بالتشديد من ميز، وكذا في " الانفال " (2) وهي قراءة حمزة. والباقون " يميز " بالتخفيف من ماز يميز. يقال: مزت الشئ بعضه من بعض أميزه ميزا، وميزته تمييزا. قال أبو معاذ: مزت الشئ أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين. فإن كانت أشياء قلت: ميزتها تمييزا. ومثله إذا جعلت الواحد شيئين قلت: فرقت بينهما، مخففا، ومنه فرق الشعر. فإن جعلته أشياء قلت: فرقته تفريقا. قلت: ومنه امتاز القوم، تميز بعضهم عن بعض. ويكاد يتميز: يتقطع، وبهذا فسر قوله تعالى: " تكاد تميز من الغيظ " [ الملك: 8 ] (3) وفي الخبر (من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة). (1) وز وه‍ وج‍. (2) راجع ج‍ 7 ص 400. (3) راجع ج‍ 18 ص 218. (*)
[ 290 ]
قوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسله) يقال: إن الكفار لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم من (1) يؤمن منهم، فأنزل الله " فآمنوا بالله ورسله " يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم، واشتغلوا بما يعنيكم وهو الايمان. (فآمنوا) أي صدقوا، أي عليكم التصديق لا التشوف إلى اطلاع الغيب. (وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) أي الجنة. ويذكر أن رجلا كان عند الحجاج بن يوسف الثقفي منجما، فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها فقال للمنجم: كم في يدي ؟ فحسب فأصاب المنجم. فأغفله الحجاج وأخذ حصيات لم يعدهن فقال للمنجم: كم في يدي ؟ فحسب فأخطأ، ثم حسب أيضا فأخطأ، فقال: أيها الامير، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك ؟ قال لا: قال: فما الفرق بينهما ؟ فقال: إن ذاك أحصيته فخرج عن حد الغيب، فحسبت فأصبت، وإن هذا لم تعرف عددها فصار غيبا، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. وسيأتي هذا الباب في " الانعام " (2) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بماءاتهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيمة ولله ميراث السموات والارض والله بما تعملون خبير (180) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين) " الذين " (3) في موضع رفع، والمفعول الاول محذوف. قال الخليل وسيبويه والفراء: المعنى البخل خيرا لهم، أي لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم. وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل، وهو كقوله: من صدق كان خيرا له. أي كان الصدق خيرا له. ومن هذا قول الشاعر: إذا نهي السفيه جرى إليه * وخالف والسفيه إلى خلاف فالمعنى: جرى: إلى السفه، فالسفيه دل على السفه. وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيدة جدا، قاله النحاس. وجوازها أن يكون التقدير: لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم. قال (1) في ط وج‍ وه‍: أيهم. (2) راجع ج‍ 7 ص 1 فما بعد. (3) في ط وج‍. (*)
[ 291 ]
الزجاج: وهي مثل " واسأل القرية ". و " هو " في قوله " هو خيرا لهم " فاصلة عند البصريين. وهي العماد عند الكوفيين. قال النحاس: ويجوز في العربية " هو خير لهم " ابتداء وخبر. الثانية - قوله تعالى: (بل هو شر لهم) ابتداء وخبر، أي البخل شر لهم. والسين في " سيطوقون " سين الوعيد، أي سوف يطوقون، قاله المبرد. وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والانفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة. وهذه كقوله: " ولا ينفقونها في سبيل الله " [ التوبة: 34 ] الآية. ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسدي والشعبي قالوا: ومعنى (سيطوقون ما بخلوا به) هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا (1) أقرع (2) له زبيبتان (3) يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه (4) ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلاهذه الآية - " ولا يحسبن الذين يبخلون " الآية. أخرجه النسائي (5). وخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع حتى يطوق به في عنقه) ثم قرأ علينا النبي صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " الآية. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ (6) حتى يطوقه). وقال ابن عباس أيضا: إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل العلم. ومعنى " سيطوقون " على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به، فهو من الطاقة كما قال تعالى: " وعلى الذين (1) الشجاع (بالضم): الحية الذكر، أو الذي يقوم على ذنبه ويواثب الراجل والفارس. (2) الاقرع: هو الذى تمرط جلد رأسه، لكثرة سمه وطول عمره. (3) الزبيتان: النكتنان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. وقيل: هما زيدتان في شدقى الحية. (4) اللهزمتان: شدقاه. وقيل:: هما عظمان ناتئان في اللحيين تحت الاذنين. (5) هذه رواية البخاري عن أبى هريرة ولفظه. أما ما خرجه النسائي فبلفظ آخر عن ابن مسعود. راجع صحيح البخاري وسنن النسائي في باب الزكاة. (6) تلظت الحية: أخرجت لسانها كتلمظ الاكل. (*)
[ 292 ]
يطيقونه " [ البقرة: 184 ] وليس من التطويق. وقال إبراهيم النخعي: معنى " سيطوقون " سيجعل لهم يوم القيامة طوق من النار. وهذا يجري مع التأويل الاول [ أي ] (1) قول السدي. وقيل: يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق، يقال: طوق فلان عمله طوق الحمامة، أي ألزم عمله. وقد قال تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " [ الاسراء: 13 ] (2). ومن هذا المعنى قول عبد الله ابن جحش لابي سفيان: أبلغ أبا سفيان عن * أمر عواقبه ندامه دار (3) ابن عمك بعتها * تقتضي بها عنك الغرامه وحليفكم بالله رب * الناس مجتهد القسامة اذهب بها أذهب بها * طوقتها طوق الحمامة وهذا يجري مع التأويل الثاني. والبخل والبخل في اللغة أن يمنع الانسال الحق الواجب عليه ؟ ؟. فأما من منع مالا يجب عليه فليس ببخيل، لانه لا يذم بذلك. وأهل الحجاز يقولون: يبخلون وقد بخلوا. وسائر العرب يقولون: بخلوا يبخلون، حكاه النحاس. وبخل يبخل بخلا وبخلا، عن ابن فارس. الثالثة - في ثمرة البخل وفائدته. وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للانصار: (من سيدكم ؟) قالوا الجد بن قيس على بخل فيه. فقال صلى الله عليه وسلم: (وأي داء أدوى (4) من البخل) قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال: (إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الاضياف بهم فقالوا: ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الاضياف ببعد النساء، وتعتذر النساء ببعد الرجال، ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء) ذكره الماوردي في كتاب " أدب الدنيا والدين ". والله أعلم. (1) زيادة يقتضيها المقام. (2) راجع ج‍ 10 ص 229. (3) لما هاجر بنو جحش من مكة إلى المدينة تركوا دورهم هجرة مغلقة، ليس فيها ساكن، فباعها أبو سفيان من عمرو بن علقمة. فقال عبد الله لابي سفيان هذه الا بيان بعد فتح مكة. (راجع سيرة ابن هشام ص 339 طبع أوربا). (4) أي أي عيب أقبح منه. (*)
[ 293 ]
الرابعة - واختلف في البخل والشح، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين. فقيل: البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك. والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك. وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص. وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقو الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقو الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم). وهذا يرد قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح منع المستحب. إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة (1). ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدأ ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبدا). وهذا يدل على أن الشح أشد في الذم من البخل، إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله - وقد سئل، أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال: (لا) وذكر الماوردي في كتاب " أدب الدنيا والدين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للانصار: (من سيدكم) قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه، الحديث. وقد تقدم. قوله تعالى: (ولله ميراث السموات والارض) أخبر تعالى ببقائه ودوام ملكه. وأنه في الابد كهو في الازل غني عن العالمين، فيرث الارض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم، فتبقى الاملاك والاموال لا مدعى فيها. فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق، وليس هذا بميراث في الحقيقة، لان الوارث (2) في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والارض وما بينهما، وكانت السموات وما فيها، والارض وما فيها له، وإن الاموال كانت عارية عند أربابها، فإذا ماتوا ردت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الاصل. ونظير هذه الاية قوله تعالى: " إنا نحن نرث الارض ومن عليها " [ مريم: 40 ] (3) الآية. والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا. (1) في ج‍: هلاك الدنيا والاخرى والدين. (2) في الاصول: الميراث. والصواب ما ذكر. (3) راجع ج‍ 11 ص 105. (*)
[ 294 ]
قوله تعالى: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182) قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) ذكر تعالى قبيح قول الكفار لا سيما اليهود. وقال أهل التفسير: لما أنزل الله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " [ البقرة: 245 ] (1) قال قوم من اليهود - منهم حيي بن أخطب، في قول الحسن. وقال عكرمة وغيره: هو فنحاص بن عازوراء - إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا. وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون هذا، لانهم أهل كتاب. ولكنهم كفروا بهذا القول، لانهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. أي إنه فقير على قول محمد صلى الله عليه وسلم، لانه اقترض منا. (سنكتب ما قالوا سنجازيهم عليه. وقيل: سنكتبه في صحائف أعمالهم، أي نأمر الحفظة بإثبات قولهم حتى يقرءوه يوم القيامة في كتبهم التي يؤتونها، حتى يكون أوكد للحجة عليهم. وهذا كقوله: " وإنا له كاتبون " [ الانبياء: 94 ] (2). وقيل: مقصود الكتابة الحفظ، أي سنحفظ ما قالوا لنجازيهم. " وما " في قوله " ما قالوا " في موضع نصب ب‍ " سنكتب ". وقرأ الاعمش وحمزة " سيكتب " بالياء، فيكون " ما " اسم ما لم يسم فاعله. واعتبر حمزة ذلك بقراءة ابن مسعود: " ويقال ذوقوا عذاب الحريق ". قوله تعالى: (وقتلهم الانبياء بغير حق) أي ونكتب قتلهم الانبياء، أي رضاهم بالقتل. والمراد قتل أسلافهم الانبياء، لكن لما رضوا بذلك صحت الاضافة إليهم. وحسن رجل عند الشعبي، قتل عثمان رضي الله عنه فقال له الشعبي: شركت في دمه. فجعل الرضا بالقتل قتلا، رضي الله عنه. (1) راجع ج‍ 2 ص 237. (2) راجع ج‍ 12 ص 339. (*)
[ 295 ]
قلت: وهذه مسألة عظمي، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية. وقد روى أبو داود عن، العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عملت الخطيئة في الارض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة فأنكرها - كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها). وهذا نص. قوله تعالى: (بغير حق) تقدم معناه في القرة (1) (ونقول ذوقوا عذاب الحريق) أي يقال لهم في جهنم، أو عند الموت، أو عند الحساب هذا. ثم هذا القول من الله تعالى، أو من الملائكة، قولان. وقراءة ابن مسعود " ويقال ". والحريق اسم للملتهبة من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة. (ذلك بما قدمت أيديكم) أي ذلك العذاب بما سلف من الذنوب. وخص الايدي بالذكر ليدل على تولي الفعل ومباشرته، إذ قد يضاف الفعل إلى الانسان بمعنى أنه أمر به، كقوله: " يذبح أبناءهم " [ القصص: 4 ] (2) وأصل " أيديكم " أيديكم فحذفت الضمة لثقلها. والله أعلم. قوله تعالى: الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينت وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينت والزبر والكتاب المنير (184) قوله تعالى: (الذين) في موضع خفض بدلا من " الذين " في قوله عزوجل " لقد سمع الله قول الذين قالوا " أو نعت " للعبيد " أو خبر ابتداء، أي هم الذين قالوا. وقال الكلب وغيره. نزلت في كعب بن الاشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وفنحاص بن عازوراء وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وأنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك. فأنزل الله هذه الاية. فقيل: كان هذا في التوراة، ولكن كان تمام الكلام: حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان. (1) راجع ج‍ 1 ص 431. (2) راجع ج‍ 13 ص 247. (*)
[ 296 ]
وقيل: كان أمر القرابين ثابتا إلى أن نسخت على لسان عيسى بن مريم. وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها، فتأكل القربان. فكان هذا القول دعوى من اليهود، إذ كان ثم استثناء فأخفوه، أو نسخ، فكانوا في تمسكهم بذلك متعنتين، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم دليل قاطع في إبطال دعواهم، وكذلك معجزات عيسى، ومن وجب صدقه وجب تصديقه. ثم قال تعالى: إقامة للحجة عليهم: (قل) يا محمد (قد جاءكم) يا معشر اليهود (رسل من قبلى بالبينات وبالذي قلتم) من القربان (فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) يعني زكريا ويحيى وشعيا، وسائر من قتلوا من الانبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم. أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبي رضي الله عنه، فأحتج بها على الذي حسن قتل عثمان رضي الله عنه كما بيناه. وأن الله تعالى سمى اليهود قتلة لرضاهم بفعل أسلافهم، وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة. والقربان ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك (1) وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة. ويكون اسما ومصدرا، فمثال الاسم السلطان والبرهان. والمصدر العدوان والخسران. وكان عيسى ابن عمر يقرأ " بقربان " بضم الراء اتباعا لضمة القاف، كما قيل في جمع ظلمة: ظلمات، وفي حجرة حجرات. ثم قال تعالى معزيا لنبيه ومؤنسا له. (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات) أي بالدلالات. (والزبر) أي الكتب المزبورة، يعني المكتوبة. والزبر جمع زبور وهو الكتاب. وأصله من زبرت أي كتبت. وكل زبور فهو كتاب، قال امرؤ القيس: لمن طلل أبصرته فشجاني * كخط زبور في عسيب (2) يماني وأنا أعرف تزبرتي أي كتابتي. وقيل: الزبور من الزبر بمعنى الزجر. وزبرت الرجل انتهرته. وزبرت البئر: طويتها بالحجارة. وقرأ ابن عامر " بالزبر وبالكتاب المنير " بزيادة باء في الكلمتين (3). وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. (والكتاب المنير) أي الواضح المضئ، من قولك: أنرت الشئ أنيره، أي أوضحته: يقال: نار الشئ وأناره ونوره واستناره بمعنى، (1) في ه‍ وط: نسيكة. (2) العسيب: سعف النخل الذى جرد عنه خوصه، وهى الجريدة. (3) في ط وب: في الحرفين. (*)
[ 297 ]
وكل واحد منهما لازم ومتعد. وجمع بين الزبر والكتاب - وهما بمعنى - لاختلاف لفظهما، وأصلها كما ذكرنا. قوله تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيمة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحيوة الدنيآ إلا متع الغرور (185). فيه سبع (1) مسائل: الاولى - لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم: " إن الله فقير ونحن أغنياء " وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله: " لتبلون " [ آل عمران: 186 ] الآية - بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم، فإن أمد الدنيا قريب، ويوم القيامة يوم الجزاء. (ذائقة الموت) من الذوق، وهذا مما لا محيص عنه للانسان، ولا محيد عنه لحيوان. وقد قال أمية بن أبي الصلت: من لم يمت عبطة (2) يمت هرما * للموت كأس والمرء ذائقها وقال آخر: الموت باب وكل الناس داخله * فليت شعري بعد الباب ما الدار الثانية - قراءة العامة " ذائقة الموت " بالاضافة. وقرأ الاعمش ويحيى وابن أبي إسحاق " ذائقة الموت " بالتنوين ونصب الموت. قالوا: لانها لم تذق بعد. وذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المضي. والثاني بمعنى الاستقبال، فإن أردت الاول لم يكن فيه إلا الاضافة إلى ما بعده، كقولك: هذا ضارب زيد أمس، وقاتل بكر أمس، لانه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم، نحو غلام زيد، وصاحب بكر. قال الشاعر: الحافظو عورة العشيرة لا يأ * تيهم من ورائهم وكف (3) (1) كذا في الاصول والتقسيم ثمانية إلا ج‍ فسبعة وعليها الاعتماد. (2) مات عبطة: أي شابا صحيحا. (3) الوكف: العيب: والبيت لعمرو بن امرئ القيس، ويقال لقيس بن الخطيم. (عن اللسان). (*)
[ 298 ]
وإن أردت الثاني جاز الجر. والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الاصل، لانه يجري مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد، لم يتعد نحو قاتم زيد. وإن كان متعديا عديته ونصبت به، فتقول. زيد ضارب عمروا بمعنى يضرب عمروا. ويجوز حذف التنوين والاضافة تخفيفا، كما قال المرار ": سل الهموم بكل معطي رأسه * ناج مخالط صهبة متعيس (1) مغتال أحبله مبين عنقه * في منكب زبن المطي عرندس (2) [ فحذف التنوين تخفيفا، والاصل: معط رأسه بالتنوين والنصب، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى: " هل هن كاشفات ضره " [ الزمر: 38 ] وما كان مثله ] (3). الثالثة - ثم اعلم أن للموت أسبابا وأمارات، فمن علامات موت المؤمن عرق الجبين. أخرجه النسائي من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المؤمن يموت بعرق الجبين ". وقد بيناه في " التذكرة " فإذا احتضر لقن الشهادة، لقوله عليه السلام: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة، ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر. ويستحب قراءة " يس " ذلك الوقت، لقوله عليه السلام: " اقرءوا يس على موتاكم " أخرجه أبو داود. وذكر الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت). فإذا قضي وتبع البصر الروح - كما أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم - وارتفعت العبادات وزال التكليف، توجهت على الاحياء أحكام، منها: تغميضه. وإعلام إخوانه الصلحاء بموته. وكرهه قوم وقالوا: هو من النعي. والاول أصح، وقد بيناه في غير هذا الموضع. ومنها الاخذ في تجهيزه بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير، قال صلى الله عليه وسلم لقوم أخروا دفن ميتهم: (عجلوا بدفن جيفتكم) وقال: (أسرعوا بالجنازة) الحديث، وسيأتي. (1) قوله معطى رأسه، أي ذلول، وناج: سريع. والصهبة: أن يضرب بياضه إلى الحمرة. والمتعيس والاعيس: الابيض، وهو أفضل ألوان الابل. والمعنى: سل همومك اللازمة لفراق من تهوى ونأيه عنك بكل بعير ترتحله للسفر. (2) وصف بعيرا بعظم الجوف، فإذا شد رحله عليه اغتال أحبله (جمع حبل) واستوفاها لعظم جوفه. والاغتيال: الذهاب بالشئ. والمبين: البين الطويل. وزبن: زاحم ودفع. والعرندس: الشديد. ويروى: متين عنقه. (عن شرح الشواهد للشنتمرى). (3) الزيادة من ج‍ وط ود وه‍. (*)
[ 299 ]
الثالثة - فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم. وقيل: غسله واجب. قاله القاضي عبد الوهاب. والاول: مذهب الكتاب (1)، وعلى هذين القولين العلماء. وسبب الخلاف قوله عليه السلام لام عطية في غسلها ابنته زينب، على ما في كتاب مسلم. وقيل: هي أم كلثوم، على ما في كتاب أبي داود: (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) الحديث. وهو الاصل عند العلماء في غسل الموتى. فقيل: المراد بهذا الامر بيان حكم الغسل فيكون واجبا. وقيل: المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب. قالوا ويدل عليه قوله: (إن رأيتن ذلك) وهذا يقتضي إخراج ظاهر الامر عن الوجوب، لانه فوضه إلى نظرهن. قيل لهم: هذا فيه بعد، لان ردك (إن رأيتن) إلى الامر، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور، وهو (أكثر من ذلك) أو إلى التخيير في الاعداد. وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك. وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف. ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع، على ما حكاه أبو عمر. فإن خرج منه شئ بعد السبع غسل الموضع وحده، وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله. فإذا فرغ من غسله كفنه في ثيابه وهي: الرابعة - والتكفين واجب عند عامة العلماء، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء، إلا ما حكي عن طاوس أنه قال: من الثلث كان المال قليلا أو كثيرا. فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد - إن كان عبدا - أو أب أو زوج أو ابن، فعلى السيد باتفاق، وعلى الزوج والاب والابن باختلاف. ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية. والذى يتعين منه بتعيين الفرض ستر العورة، فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطى رأسه ووجهه، إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغير محاسنه. والاصل في هذا قصة مصعب بن عمير، فإنه ترك يوم أحد نمرة (2) كان (1) كذا في كل الاصول. (2) النمرة (بفتح فكسر): شملة فيما خطوط بيض وسود، أو بردة من صوف تلبسها الاعراب. (*)
[ 300 ]
إذا غطى رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي رجلاه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الاذخر) (1) أخرج الحديث مسلم. والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد. والمستحب منه البياض قال صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) أخرجه أبو داود. وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف (2). والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريرا أو خزا. فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته وأعياده قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) أخرجه مسلم. إلا أن يوصي بأقل من ذلك. فإن أوصى بسرف قيل: يبطل الزائد. وقيل: يكون في الثلث. والاول أصح، لقوله تعالى: (ولا تسرفوا) [ الانعام: 141 ] (3). وقال أبو بكر: إنه للمهلة (4). فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم وهي: الخامسة - فالحكم الاسراع في المشي، لقوله عليه السلام: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم). لا كما يفعله اليوم الجهال في المشي رويدا والوقوف بها المرة بعد المرة، وقراءة القرآن بالالحان إل ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم. روى النسائي: أخبرنا محمد بن عبد الاعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبد الرحمن قال حدثني أبي قال: شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون: رويدا رويدا، بارك الله فيكم ! فكانوا يدبون دبيبا، حتى إذا كنا ببعض طريق المريد (5) لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما (1) الاذخر (بكسر الهمزة): حشيشة طيبة الرائحة، يسقف بها البيوت فوق الخشب. (2) قوله: سحولية، يروى بفتح السين وضمهما، فالفتح منسوب إلى السحول، وهو الاقصار لانه يسلحها أي يغسلها، أو إلى سحول وهى قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الابيض النقى: ولا يكون إلا من قطن. والكرسف كعصفر: القطن. (3) راجع ج‍ 7 ص 110. (4) المهلة (مثلثة الميم): القيح والصديد الذى يذوب فيسيل من الجسد. (5) المربد كمنبر: موضع قرب المدينة. (*)
[ 301 ]
رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال: خلوا ! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لنكاد نرمل بها رملا، فانبسط القوم. وروى أبو ماجدة عن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه سلم عن المشي مع الجنازة فقال: (دون الخبب إن يكن خيرا يعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعدا لاهل النار) الحديث. قال أبو عمر: والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الاسراع فوق السجية قليلا، والعجلة أحب إليهم من الابطاء. ويكره الاسراع الذي يشق على ضعفة الناس ممن يتبعها. وقال إبراهيم النخعي: بطئوا بها قليلا ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى. وقد تأول قوم الاسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي، وليس بشئ لما ذكرنا. وبالله التوفيق. السادسة - وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية كالجهاد. هذا هو المشهور من مذاهب العلماء: مالك وغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم في النجاشي: (قوموا فصلوا عليه). وقال أصبغ: إنها سنة. وروى عن مالك. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في " براءة " (1). السابعة - وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب، لقوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " [ المائدة: 31 ] (2). وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما يستحب منه، وكيفية جعل الميت فيه. ويأتي في " الكهف " حكم بناء المسجد (3) عليه، إن شاء الله تعالى. فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الاحياء. وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الاموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) أخرجه مسلم. وفي سنن النسائي عنها أيضا قالت: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء فقال: (لا تذكروا هلكاكم إلا بخير). (1) راجع ج‍ 8 ص 218. (2) راجع ج‍ 6 ص 141. (3) راجع ج‍ 10 ص 378. (*)
[ 302 ]
قوله تعالى: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء، لانها عرصة الفناء. (فمن زحزح عن النار) أي أبعد. (وأدخل الجنة فقد فاز) ظفر بما يرجو، ونجا مما يخاف. وروى الاعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه). عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز "). وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) أي تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية. والمتاع ما يتمتع به وينتفع، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه، قاله أكثر المفسرين. قال الحسن: كخضرة النبات، ولعب البنات لا حاصل له. وقال قتادة: هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها، فينبغي للانسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع. ولقد أحسنن من قال هي الدار دار الاذى والقذى * ودار الفناء ودار الغير (1) فلو نلتها بحذافيرها * لمت ولم تقض منها الوطر أيا من يؤمل طول الخلود * وطول الخلود عليه ضرر إذا أنت سبت وبان الشباب * فلا خير في العيش بعد الكبر والغرور (بفتح الغين) الشيطان، يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور، لانه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. قال: ومن هذا بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول. (1) في ج‍: العبر. (*)
[ 303 ]
قوله تعالى: لتبلون في أمولكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور (186) هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والارزاء بالانفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشرع. والابتلاء في الانفس بالموت والامراض وفقد الاحباب. وبدأ بذكر الاموال لكثرة المصائب بها. (ولتسمعن) إن قيل: لم ثبتت الواو في " لتبلون " وحذفت من " ولتسمعن "، فالجواب أن الواو في " لتبلون " قبلها فتحة فحركت لالتقاء الساكنين، وخصت بالضمة لانها واو الجمع، ولم يجز حذفها لانها ليس قبلها ما يدل عليها، وحذفت من " ولتسمعن " لان قبلها ما يدل عليها. ولا يجوز همز الواو في " لتبلون " لان حركتها عارضة، قاله النحاس وغيره. ويقال للواحد من المذكر: لتبلين يا رجل. وللاثنين: لتبليان يا رجلان. ولجماعة الرجال: لتبلون. ونزلت بسبب أن أبا بكر رضي الله عنه سمع يهوديا يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء. ردا على القرآن واستخفافا به حين أنزل الله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " [ البقرة: 245 ] فلطمه، فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. قيل: إن قائلها فنحاص اليهودي، عن عكرمة. الزهري: هو كعب بن الاشرف نزلت بسببه، وكان شاعرا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويؤلب عليه كفار قريش، ويشبب بنساء المسلمين حتى بعث [ إليه ] (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة وأصحابه فقتله القتلة المشهورة (2) في السير وصحيح الخبر. وقيل غير هذا. وكان صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها اليهود والمشركون، فكان هو وأصحابه يسمعون أذى كثيرا. وفي الصحيحين أنه عليه السلام مر بابن أبي وهو عليه السلام على حمار فدعاه إلى الله تعالى فقال ابن أبي: إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ! ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. وقبض على أنفه لئلا يصيبه غبار الحمار، فقال (1) في ج‍ وه‍ وز. (2) راجع سيرة ابن هشام ص 548 طبع أوربا. (*)
[ 304 ]
ابن رواحة: نعم يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستب المشركون الذين كانوا حول ابن أبي والمسلمون، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يسكنهم حتى سكنوا. ثم دخل على سعد بن عبادة يعوده وهو مريض، فقال: (ألم تسمع ما قال فلان) فقال سعد: أعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة (1) على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق به، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية. قيل: هذا كان قبل نزول القتال، وندب الله عباده إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الامور. وكذا في البخاري في سياق الحديث، إن ذلك كان قبل نزول القتال. والاظهر أنه ليس بمنسوخ، فإن الجدال بالاحسن والمداراة أبدا مندوب إليها، وكان عليه السلام مع الامر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين، وهذا بين. ومعنى (عزم الامور) شدها وصلابتها (2). وقد تقدم (3). قوله تعالى: وإذ أخذ الله ميثق الذين أوتوا الكتب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) هذا متصل بذكر اليهود، فإنهم أمروا بالايمان بمحمد عليه السلام وبيان أمره، فكتموا نعته (4). فالآية توبيخ لهم، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم. قال الحسن وقتادة: هي في كل من أوتي علم شئ من الكتاب. فمن علم شيئا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة. وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله، قال الله تعالى: " وإذ أخذ (1) يريد المدينة. (2) في ج‍ وه‍ وزوى: سدها وصلاحها. من السداد. (3) راجع ج‍ 3 ص 110. (4) في ج‍: أمره. وفى ز: بعثه. (*)
[ 305 ]
الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " الآية. وقال: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [ النحل: 42 ]. (1) وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشئ، ثم تلا هذه الآية " وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ". وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد ما ترك الحديث، فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني. فقال: أما علمت أني تركت الحديث ؟ فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. قال حدثني. قلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا. قال: فحدثني أربعين حديثا. الثانية - الهاء في قوله: (لتبيننه للناس) ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر. وقيل: ترجع إلى الكتاب، ويدخل فيه بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم، لانه في الكتاب. وقال: (ولا تكتمونه) ولم يقل تكتمنه لانه في معنى الحال، أي لتبيننه غير كاتمين. وقرأ أبو عمرو و عاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة " لتبيننه " بالتاء على حكاية الخطاب. والباقون بالياء لانهم (2) غيب. وقرأ ابن عباس (3) " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليبيننه ". فيجئ قوله (فنبذوه) عائدا على الناس الذين بين لهم الانبياء. وفي قراءة ابن مسعود " ليبينونه " دون النون الثقيلة. والنبذ الطرح. وقد تقدم بيانه في " البقرة " (4). (وراء ظهورهم) مبالغة في الاطراح، ومنه " واتخذتموه وراءكم ظهريا " [ هود: 92 ] وقد تقدم في " البقرة " (4) بيانه أيضا. وتقدم معنى قوله: (واشتروا به ثمنا قليلا) في " البقرة " (5) فلا معنى لاعادته. (فبئس ما يشترون) تقدم أيضا (6). والحمد لله. قوله تعالى: لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188) (1) راجع ج‍ 10 ص 108 وج‍ 11 ص 272. (2) كذا في ج‍ ود وه‍ وز وب، وفى أ وح‍: لانه غيب. (3) الذي في الطبري أنها قراءة عبد الله، وسيأتى. (4) راجع ج‍ 2 ص 40. (5) راجع ج‍ 1 ص 334. (6) راجع ج‍ 2 ص 27. (*)
[ 306 ]
أي بما فعلوا من القعود في التخلف عن الغزو وجاءوا به من العذر. ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت (لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) الآية. وفي الصحيحين أيضا أن مروان (1) قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذ بن أجمعون. فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية ! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " و " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ". وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه، وما سألهم عنه. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم، " واشتروا به ثمنا قليلا " أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). فأخبر أن لهم عذابا أليما بما أفسدوا من الدين على عباد الله. وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة، فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم ؟ فقال اليهود طمعا في أموال الملوك: هو غير ذلك، فأعطاهم الملوك الخزائن، فقال الله تعالى: " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الملوك من الكذب حتى يأخذوا عرض الدنيا. والحديث الاول خلاف مقتضى الحديث الثاني. ويحتمل أن يكون نزولها على السببين (1) هو مروان بن الحكم بن العاصى، وكان يومئذ أميرا على المدينة من قبل معاوية. (عن شرح القسطلانى). (*)
[ 307 ]
لاجتماعهما في زمن واحد، فكانت جوابا للفريقين. والله أعلم. وقوله: واستحمدوا بذلك إليه، أي طلبوا أن يحمدوا. وقول مروان: لئن كان كل أمرئ منا الخ دليل على أن للعموم صيغا مخصوصة، وأن " الذين " منها. وهذا مقطوع به من تفهم ذلك من القرآن والسنة. وقوله تعالى: " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " إذا كانت الاية في أهل الكتاب لا في المنافقين المتخلفين، لانهم كانوا يقولون: نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه، وكانوا يقولون: نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب، يريدون أن يحمدوا بذلك. و " الذين " فاعل بيحسبن بالياء. وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير وأبي عمرو، أي لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب. وقيل: المفعول الاول محذوف، وهو أنفسهم. والثاني " بمفازة ". وقرأ الكوفيون " تحسبن " بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب. وقوله " فلا تحسبنهم " بالتاء وفتح الباء، إعادة تأكيد، ومفعوله الاول الهاء والميم، والمفعول الثاني محذوف، أي كذلك، والفاء عاطفة أو زائدة على بدل الفعل الثاني من الاول. وقرأ الضحاك وعيسى بن عمر بالتاء وضم الباء " فلا تحسبنهم " أراد محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين، أي فلا يحسبن أنفسهم، " بمفازة " المفعول الثاني. ويكون " فلا يحسبنهم " تأكيدا. وقيل: " الذين " فاعل " بيحسبن " ومفعولاها محذوفان لدلالة " يحسبنهم " عليه، كما قال الشاعر: بأي كتاب أم بأية آية (1) * ترى حبهم عارا على وتحسب استغنى بذكر مفعول الواحد عن ذكر مفعول، الثاني، و " بمفازة " الثاني، وهو بدل من الفعل الاول فأغنى لابداله منه عن ذكر مفعوليه، والفاء زائدة. وقيل: قد تجئ هذه الافعال ملغاة لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر: وما خلت أبقى بيننا من مودة * عراض المذاكي المسنفات القلائصا (1) في ط وز: سنة. وهى الرواية المشهورة (.)
[ 308 ]
المذاكي: الخيل التي قد أتي عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد مذك، مثل المخلف من الابل، وفي المثل جري المذكيات غلاب (1)، والمسنفات اسم مفعول، يقال: سنفت البعير أسنفه سنفا إذا كففته بزمامه وأنت راكبه، وأسنف البعير لغة في سنفه، وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى. وكانت العرب تركب الابل وتجنب الخيل، تقول: الحرب لا تبقي مودة. وقال كعب (2) بن أبي سلمى: أرجو وآمل أن تدنو مودتها * وما إخال لدنيا منك تنويل وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم " أتوا " بقصر الالف، أي بما جاءوا به من الكذب والكتمان. وقرأ مروان بن الحكم والاعمش وإبراهيم النخعي " آتوا " بالمد، بمعنى أعطوا: وقرأ سعيد ابن جبير " أوتوا " على ما لم يسو فاعله، أي أعطوا. والمفازة المنجاة، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا، أي ليسوا بفائزين. وسمي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الاصمعي. وقيل: لانها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوز الرجل إذا مات. قال ثعلب: حكيت لابن الاعرابي قول الاصمعي فقال أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت مفازة، لان من قطعها فاز. وقال الاصمعي: سمي اللديغ سليما تفاؤلا. قال ابن الاعرابي: لانه مستسلم لما أصابه. وقيل: لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب، لان الفوز التباعد عن المكروه. والله أعلم. قوله تعالى: ولله ملك السموات والارض والله على كل شئ قدير (189) هذا احتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وتكذيب لهم. وقيل: المعنى لاتظنن الفرحين ينجون من العذاب، فإن لله كل شئ، وهم في قبضة القدير، فيكون معطوفا على، الكلام الاول، أي إنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء. (والله على كل شئ) أي ممكن (قدير) وقد مضى في " البقرة " (3). (1) الغلاب: المغالبة. أي أن المذكى يغالب مجاريه فيغلبه لقوته. (2) كذا في الاصول. وهو اختصار من كعب بن زهير الخ. (3) راجع ج‍ 1 ص 224. (*)
[ 309 ]
قوله تعالى: إن في خلق السموت والارض واختلف اليل والنهار لايت لاولى الالبب (190) الذين يذكرون الله قيما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا بطلا سبحنك فقنا عذاب النار (191) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظلمين من أنصار (192) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للايمن أن ءامنوا بربكم فامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيأتنا وتوفنا مع الابرار (193) ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد (194) فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عمل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديرهم وأوذوا في سبيلى وقتلوا وقتلوا لا كفرن عنهم سيئاتهم ولا دخلنهم جنت تجرى من تحتي الانهر ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب (195) لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلد (196) متع قليل ثم مأوئهم جهنم وبئس المهاد (197) لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنت تجرى من تحتها الانهر خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للابرار (198) وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خشعين لله لا يشترون بايت الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199) يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200)
[ 310 ]
فيه خمس وعشرون مسأ لة: الاولى - قوله تعالى: (إن في خلق السموات والارض) تقدم معنى هذه الآية في " البقرة " (1) في غير موضع. فختم تعالى هذه السورة بالامر بالنظر والاستدلال في آياته، إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير قدوس سلام غني عن العالمين، حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد. (لآيات لاولى الالباب) الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الاية على النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلى، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فرأه يبكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ! فقال: (يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا ولقد أنزل الله على الليلة آية " إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الالباب " - ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. الثانية - قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي، ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل على 17 خط حذف شده است. ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا. وروي عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة " آل عمران " كل ليلة، خرجه أبو نصر الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب " الابانة " من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزومي عن المقبري عن أبي هريرة. وقد تقدم أول (2) السورة عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة. الثالثة - قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلوا ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه. ومن هذا المعنى قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل (1) راجع ج‍ 2 ص 191. (2) راجع ص 2 من هذا الجزء. (*)
[ 311 ]
أحيانه. أخرجه مسلم. فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا، فأجاز ذلك عبد الله بن عمرو وابن سيرين والنخعي، وكره ذلك ابن عباس وعطاء والشعبي. والاول أصح لعموم الآية والحديث. قال النخعي: لا بأس بذكر. الله في الخلاء فإنه يصعد. المعنى: تصعد به الملائكة مكتوبا في صحفهم، فحذف المضاف. دليله قول تعالى: " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " [ ق: 18 ] (1). وقال: " وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين " [ الانفطار: 10 - 11 ] (2). ولان الله عزوجل أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن فقال: " اذكروا الله ذكرا كثيرا " [ الاحزاب: 41 ] (3) وقال: " فاذكروني أذكركم " [ البقرة: 152 ] (4) وقال: " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " [ الكهف: 3 ] (5) فعم. فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله تعالى. وذكر أبو نعيم قال: حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب الاحبار قال قال موسى عليه السلام: (يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك قال: يا موسى أنا جليس من ذكرني قال: يا رب فإنا نكون من الحال على حال نجلك ونعظمك أن نذكرك قال: وما هي ؟ قال: الجنابة والغائط قال: يا موسى اذكرني على كل حال). وكراهية من كره ذلك إما لتنزيه ذكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيها ككراهية قراءة القرآن في الحمام، وإما إبقاء على الكرام الكاتبين على أن يحلهم موضع الاقذار والانجاس لكتابة ما يلفظ به. والله أعلم. و (قياما وقعودا) نصب على الحال. (وعلى جنوبهم) في موضع الحال، أي ومضطجعين ومثله قول تعالى: " دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " [ يونس: 12 ] (6) على العكس، أي دعانا مضطجعا على جنبه. وذهب، جماعة من المفسرين منهم الحسن وغير إلى أن قوله " يذكرون الله " إلى آخره، إنما هو عبارة عن الصلاة، أي لا يضيعونها، ففي حال العذر يصلونها قعودا أو على جنوبهم. وهي مثل قول تعالى: " فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " [ النساء: 103 ] (7) في قول ابن مسعود على، ما يأتي بيانه. وإذا كانت الآية في الصلاة ففقهها أن الانسان يصلى قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، كما ثبت عن عمران (1) راجع ج‍ 17 ص 8. (2) راجع ج‍ 19 ص 245. (3) راجع ج‍ 14 ص 197. (4) راجع ج‍ 2 ص 171. (5) راجع ج‍ 10 ص 395. (6) راجع ج‍ 8 ص 317. (7) راجع ج‍ 5 ص 373. (*)
[ 312 ]
ابن حصين قال: كان بي البواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه الائمة. وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا قبل موته بعام في النافلة، على ما في صحيح مسلم. وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا. قال أبو عبد الرحمن (1): لا أعلم أحد روى هذا الحديث غير أبي داود الحفري (2) وهو ثقة، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ. والله أعلم. الرابعة - واختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه يتربع في قيامه، وقال البويطي عن الشافعي فإذا أراد السجود تهيأ للسجود على قدر ما يطيق، قال: وكذلك المتنفل. ونحوه قول الثوري، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال الشافعي في رواية المزني: يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد. وروى هذا عن مالك وأصحابه، والاول المشهور (3) وهو ظاهر المدونة. وقال أبو حنيفة وزفر: يجلس كجلوس التشهد، وكذلك يركع ويسجد. الخامسة - قال (4): فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير، هذا مذهب المدونة وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الايمن ثم على جنبه الايسر. وفي كتاب ابن المواز عكسه، يصلي على جنبه الايمن، وإلا فعلى الايسر، وإلا فعلى الظهر. وقال سحنون: يصلي على الايمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره وإلا فعلى الايسر. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا صلى مضطجعا تكون رجلاه مما يلي القبلة. والشافعي والثوري: يصلي على جنبه ووجهه إلى القبلة. السادسة - فإن قوي لخفة المرض وهو في الصلاة، قال ابن القاسم: إنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبني على ما مضى، وهو قول الشافعي وزفر والطبري. وقال أبو حنيفة (1) أبو عبد الرحمن: كنية النسائي. (2) الحفرى (بفتح المهملة والفاء) نسبة إلى موضع بالكوفة واسمه عمر بن سعد بن عبيد. (3) في ى: المذهب. وذلك في الهامش تصحيحا. (4) في ه‍. (*)
[ 313 ]
وصاحباه يعقوب ومحمد فيمن صلى مضطجعا ركعة ثم صح: إنه يستقبل الصلاة من أولها، ولو كان قاعدا يركع ويسجد ثم صح بنى في قول أبي حنيفة ولم يبن في قول محمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا افتتح الصلاة قائما ثم صار إلى حد الايماء فليبن، وروي عن أبي يوسف. وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس: إنه يصلي قائما ويومئ إلى الركوع، فإذا أراد السجود جلس وأومأ إلى السجود، وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعي وقال، أبو حنيفة وأصحابه: يصلي قاعدا. السابعة - وأما صلاة الراقد الصحيح فروي عن حديث عمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره، وهي " صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد ". قال أبو عمر: وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافل مضطجعا، وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلم وهو حسين ابن ذكوان عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه أختلافا يوجب التوقف عنه، وإن صح فلا أدري ما وجهه، فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعا لمن قدر على القعود أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك. وإن أجمعوا على كراهة النافلة راقدا لمن قدر على القعود أو القيام، فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ. وقيل: المراد بالآية الذين يستدلون بخلق السموات والارض على أن المتغير لا بد له من مغير، وذلك المغير يجب أن يكون قادرا على الكمال، وله أن يبعث الرسل، فإن بعث رسولا ودل على صدقه بمعجزة واحدة لم يبق لاحد عذر، فهؤلاء هم الذين يذكرون الله على كل حال. والله أعلم. الثامنة - قوله تعالى: (ويتفكرون في خلق السموات والارض) قد بينا معنى " ويذكرون " وهو إما ذكر باللسان وإما الصلاة فرضها ونفلها، فعطف تعالى عبادة أخرى على إحداهما (1) بعبادة أخرى، وهي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعبر الذي بث (2)، ليكون ذلك أزيد بصائرهم: وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد (1) في ا وج‍ وب وه‍ وى وط: بعبادة أخرى وهى الفكر. (2) كذا في ه‍ وب ود وج‍ وى. وفى أ وح‍: نبه، وفى ز: ثبت. (*)
[ 314 ]
وقيل: " يتفكرون " عطف على الحال. وقيل: يكون منقطعا، والاول أشبه. والفكرة: تردد القلب في الشئ، يقال: تفكر، ورجل فكير كثير الفكر، ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: (تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره) وإنما التفكر والاعتبار وانبساط الذهن في المخلوقات كما قال: " ويتفكرون في خلق السموات والارض ". وحكي أن سفيان الثوري رضي الله عنه صلى خلف المقام ركعتين، ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم أغفر لي فنظر الله إليه فغفر له) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا عبادة كتفكر). وروي عنه عليه السلام قال: (تفكر ساعة خير من عبادة سنة). وروى ابن القاسم عن مالك قال: قيل لام الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء ؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قيل له: أفترى التفكر عمل من الاعمال ؟ قال: نعم، هو اليقين. وقيل لابن المسيب في الصلاة بين الظهر والعصر، قال: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله. وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقاله ابن العباس وأبو الدرداء. وقال الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته. ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها. ويروى أن أبا سليمان الداراني رضي الله عنه أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكرا حتى طلع الفجر، فقال له: ما هذا يا أبا سليمان ؟ قال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى " إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون " [ المؤمن: 71 ] (1) تفكرت، في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت. قال ابن عطية: " وهذا نهاية الخوف، وخير الامور أوساطها، وليس علماء الامة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله (1) راجع ج‍ 15 ص 332. (*)
[ 315 ]
صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا ". قال ابن العربي: اختلف الناس أي العملين أفضل: التفكر أم الصلاة، فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل، فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل، المقامات الشرعية. وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل، لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها. وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة، وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الحواتم من سورة آل عمران، وقام إلى شن (1) معلق فتوضأ وضوءا خفيفا ثم صلى ثلاث عشرة ركعة، الحديث. فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده، وهذه السنة هي التي يعتمد عليها. فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوما وليلة وشهرا مفكرا لا يفتر، فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر، ولا مستمرة على السنن. قال ابن عطية: وحدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتا في مسجد الاقدام (2) بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له مسجي بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس، فاستعظمت جراءته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لاعظه، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعرا: مسجى الجسم غائب حاضر * منتبه القلب صامت ذاكر منقبض في الغيوب منبسط * كذاك من كان عارفا ذاكر * يبيت في ليله أخا فكر * فهو مدى الليل نائم ماهر قال: فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة، فانصرفت عنه. التاسعة - قوله تعالى: (ربنا ما خلقت هذا باطلا) أي يقولون: ما خلقته عبثا وهزلا، بل خلقته دليلا على قدرتك وحكمتك. والباطل: الزائل الذاهب. ومنه قول لبيد: * ألا كل شئ ما خلا الله باطل * (1) الشن: القربة. (2) مسجد الاقدام: مسجد كان بجهة مصر العتيقة قريبا من سقاية ابن طولون. راجع المقريزى ج‍ 2 ص 445 طبع بولاق. (*)
[ 316 ]
أي زائل. و " باطلا " نصب لانه نعت مصدر محذوف، أي خلقا باطلا وقيل: أنتصب على نزع الخافض، أي ما خلقتها للباطل. وقيل: على المفعول الثاني، ويكون خلق بمعنى جعل. (سبحانك) أسند النحاس عن موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى " سبحان الله " فقال: (تنزيه الله عن السوء) وقد تقدم في " البقرة " (1) معناه مستوفى. (وقنا عذاب النار) أجرنا من عذابها، وقد تقدم (2). العاشرة - قوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) أي أذللته وأهنته. وقال المفضل: أي أهلكته، وأنشد: أخزى الاله من الصليب عبيده * واللابسين قلانس الرهبان وقيل: فضحته وأبعدته، يقال: أخزاه الله: أبعده ومقته. والاسم الخزي. قال ابن السكيت: خزي يخزي خزيا إذا وقع في بلية. وقد تمسك بهذه الآية أصحاب الوعيد وقالوا: من أدخل النار ينبغي ألا يكون مؤمنا، لقوله تعالى: " فقد أخزيته " فإن الله يقول: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " [ التحريم: 8 ] (3). وما قالوه مردود، لقيام الادلة على أن من ارتكب كبيرة لا يزول عنه اسم الايمان، كما تقدم ويأتي. والمراد من قوله: " من تدخل النار " من تخلد في النار، قاله أنس بن مالك. وقال قتادة: تدخل مقلوب تخلد، ولا نقول كما قال أهل حروراء. وقال سعيد بن المسيب: الآية خاصة في قوم لا يخرجون من النار، ولهذا قال: (وما للظالمين من أنصار) أي الكفار. وقال أهل المعاني: الخزي يحتمل أن يكون بمعنى الحياء، يقال: خزي يخزى خزاية إذا أستحيا، فهو خزيان. قال ذو الرمة: خزاية أدركته عند (4) جولته * من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب فخزي المؤمنين يومئذ استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الاديان إلى أن يخرجوا منها. والخزي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موت، والمؤمنون يموتون، فافترقوا. كذا ثبت في صحيح السنة من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم، وقد تقدم ويأتي. (1) راج ج‍ 1 ص 276. (2) راجع ج‍ 2 ص 433. (3) راجع ج‍ 18 ص 197. (4) في الديوان: بعد. (*)
[ 317 ]
الحادية عشرة - قوله تعالى: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للايمان) أي محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين. وقال قتادة ومحمد بن كعب القرظي: هو القرآن، وليس كلهم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. دليل هذا القول ما أخبر الله تعالى عن مؤمني الجن إذ قالوا: " إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد " [ الجن: 1 - 2 ] (1). وأجاب الاولون فقالوا: من سمع القرآن فكأنما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا صحيح معنى. وأن (2) من (أن آمنوا) في موضع نصب على حذف حرف الخفض، أي بأن أمنوا. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي سمعنا مناديا للايمان ينادي، عن أبي عبيدة. وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى الايمان، كقوله: " ثم يعودون لما نهوا عنه " [ المجادلة: 8 ] (3). وقوله: " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة: 5 ] (4) وقوله: " الحمد لله الذي هدانا لهذا " [ الاعراف: 43 ] (5) أي إلى هذا، ومثله كثير. وقيل: هي لام أجل، أي لاجل الايمان. الثانية عشرة - قوله تعالى: (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) تأكيد ومبالغة في الدعاء. ومعنى اللفظين واحد، فإن الغفر والكفر: الستر. (وتوفنا مع الابرار) أي أبرارا مع الانبياء، أي في جملتهم. واحدهم وبر وبار وأصله من الاتساع، فكأن البر متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمة الله. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) أي على ألسنة رسلك، مثل " وأسال القرية " (6). وقرأ الاعمش والزهري " رسلك " بالتخفيف، وهو ما ذكر من استغفار الانبياء والملائكة للمؤمنين، والملائكة يستغفرون لمن في الارض. وما ذكر من دعاء نوح للمؤمنين ودعاء إبراهيم واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لامته. (ولا تحزنا) أي لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا، ولا تهنا ولا تبعدنا ولا تمقتنا يوم القيامة (إنك لا تخلف الميعاد). إن قيل: ما وجه قولهم " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " [ آل عمران: 194 ] وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد، فالجواب من ثلاثة أوجه: الاول - أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وعد بذلك دون الخزي: والعقاب. (1) راجع ج‍ 19 ص 6. (2) من ه‍ وج‍ وط. (3) راجع ج‍ 17 ص 290. (4) راجع ج‍ 20 ص 140. (5) راجع ج‍ 7 ص 208. (6) راجع ج‍ 9 ص 245. (*)
[ 318 ]
الثاني - أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع، والدعاء مخ العبادة. وهذا كقوله: " قال رب احكم بالحق " [ الانبياء: 112 ] (1) وإن كان هو لا يقضي إلا بالحق. الثالث - سألوا أن يعطوا ما وعدوا به من النصر على عدوهم معجلا، لانها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه ذلك إعزازا للدين. والله أعلم. وروى أنس ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وعده الله عزوجل على عمل ثوابا فهو منجز له رحمة ومن وعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار). والعرب تذم بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد، حتى قال قائلهم: (2) ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي * ولا أختفي (3) من خشية المتهدد وإني متى (4) أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي الرابعة عشرة - قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم) أي أجابهم. قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق: من حزبه (5) أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه لله مما يخاف وأعطاه ما أراد. قيل: وكيف ذلك ؟ قال: اقرءوا إن شئتم " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - إلى قوله: إنك لا تخلف الميعاد " [ آل عمران: 191 - 194 ]. الخامسة عشرة - قوله تعالى: " أني " أي بأني. وقرأ عيسى بن عمر " إني " بكسر الهمزة، أي فقال: إني. وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، ألا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشئ ؟ فأنزل الله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من: ذكر أو أنثى " الآية. وأخرجه الترمذي. ودخلت " من " للتأكيد، لان قبلها حرف نفي. وقال الكوفيون: هي للتفسير ولا يجوز حذفها، لانها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلا به، وإنما تحذف إذا كان تأكيدا للجحد. (بعضكم من بعض) ابتداء وخبر، أي دينكم واحد. وقيل: بعضكم من بعض في الثواب والاحكام والنصرة وشبه ذلك. وقال الضحاك: رجالكم شكل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة، نظيرها قوله (1) على قراءة نافع راجع ج‍ 11 ص 351. (2) هو عامر بن الطفيل، كما في اللسان. (3) في ه‍ وى: أختبي. (4) كذا في جميع الاصول، والذي في اللسان: وإنى إن، وفى التاج: وإنى وإن. (5) حزبه الامر: إذا نزل به مهم أو أصابه غم. (*)
[ 319 ]
عزوجل: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " [ التوبة: 71 ] (1). ويقال: فلان مني، أي على مذهبي وخلقي. السادسة عشرة - قوله تعالى: (فالذين هاجروا) ابتداء وخبر، أي هجروا أوطانهم وساروا إلى المدينة. (وأخرجوا من ديارهم) في طاعة الله عزوجل. (قالوا) أي وقاتلوا أعدائي. (وقتلوا) أي في سبيلي. وقرأ ابن كثير وابن عامر: " وقاتلوا وقتلوا " على التكثير. وقرأ الاعمش " وقتلوا وقاتلوا " لان الواو لا تدل على أن الثاني بعد الاول. وقيل: في الكلام إصمار قد، أي قتلوا وقد قاتلوا، ومنه قول الشاعر: * تصابى وأمسى علاه الكبر * أي وقد علاه الكبر. وقيل: أي وقد قاتل من بقي منهم، تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتل بعضهم. وقال امرؤ القيس: * فإن تقاتلونا نقتلكم * وقرأ عمر بن عبد العزيز: " وقتلوا وقتلوا " خفيفة بغير ألف. (لا كفرن عنهم سيئاتهم) أي لاسترنها عليهم في الآخرة، فلا أوبخهم بها ولا أعاقبهم عليها. (ثوابا من عند الله مصدر مؤكد عند البصريين، لان معنى " لادخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار " لاثيبنهم ثوابا. الكسائي: انتصب على القطع. الفراء: على التفسير. (والله عنده حسن الثواب) أي حسن الجزاء، وهو ما يرجع على العامل من (2) جراء عمله، من ثاب يثوب. السابعة عشرة - قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الامة. وقيل: للجميع. وذلك أن المسلمين قالوا: هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع، فنزلت هذه الآية. أي لا يغرنكم سلامتهم بتقلبهم في أسفارهم. (متاع قليل) أي تقلبهم متاع قليل. وقرأ يعقوب " يغرنك " ساكنة النون، وأنشد: لا يغرنك عشاء ساكن * قد يوافي بالمنيات السحر (1) راجع ج‍ 8 ص 202. (2) في ز وه‍ ود وج‍: جزاء. (*)
[ 320 ]
ونظير هذه الآية قوله تعالى: " فلا يغررك تقلبهم في البلاد " [ المؤمن: 4 ]. (1) والمتاع: ما يعجل الانتفاع به، وسماه قليلا لانه فان، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل. وفي صحيح الترمذي عن المستورد الفهري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا يرجع). قيل: (يرجع) بالياء والتاء. (وبئس المهاد) أي بئس ما مهدوا لانفسهم بكفرهم، وما مهد الله لهم من النار. الثامثة عشرة - في هذه الآية وأمثالها كقوله: " أنما نملي لهم خير " [ آل عمران: 178 ] (2) الآية. " وأملي لهم إن كيدي متين " [ الاعراف: 183 ] (3). " أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين " [ المؤمنون: 55 ] (4). " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " [ الاعراف: 182 ] (3) دليل على أن الكفار غير. منعم عليهم في الدنيا، لان حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والاجلة، ونعم الكفار. مشوبة بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السم، فهو وإن استلذ آكله لا يقال: أنعم عليه، لان فيه هلاك روحه. ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، وهو قول الشيخ أبي الحسن الاشعري. وذهب جماعة منهم سيف السنة ولسان الامة القاضي أبو بكر: إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا. قالوا: وأصل النعمة من النعمة بفتح النون، وهي لين العيش، ومنه قوله تعالى: " ونعمة كانوا فيها فاكهين " [ الدخان: 27 ] (5). يقال: دقيق ناعم، إذا بولغ في طحنه وأجيد سحقه. وهذا هو الصحيح، والدليل عليه أن الله تعالى أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلفين فقال: " فاذكروا آلاء الله " [ الاعراف: 74 ] (3). " واشكروا لله " [ البقرة: 172 ] (6) والشكر لا يكون إلا على نعمة. وقال: " وأحسن كما أحسن الله إليك " [ القصص: 77 ] (7) وهذا خطاب لقارون. وقال: " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة " [ النحل: 112 ] (8) الآية. فنبه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نعمة دنياوية فجحدوها. وقال: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " [ النحل: 83 ] (8) وقال: " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم " [ فاطر: 3 ] (9). وهذا عام (1) راجع ج‍ 15 ص 286. (2) راجع ص 286 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 7 ص 329 وص 237. (4) راجع ج‍ 12 ص 130. (5) راجع ج‍ 16 ص 138. (6) راجع ج‍ 2 ص 215. (7) راجع ج‍ 13 ص 314. (8) راجع ج‍ 10 ص 193 وص 166. (9) راجع ج‍ 14 ص 321.
[ 321 ]
في الكفار وغيرهم. فأما إذا قدم لغيره طعاما فيه سم فقد رفق به في الحال، إذ لم يجرعه السم بحتا، بل دسه في الحلاوة، فلا يستبعد أن يقال: قد أنعم عليه، وإذا ثبت هذا فالنعم ضربان: نعم نفع ونعم دفع، فنعم النفع ما وصل إليهم من فنون اللذات، ونعم الدفع ما صرف عنهم من أنواع الآفات. فعلى هذا قد أنعم على الكفار نعم الدفع قولا واحدا، وهو ما زوي عنهم من الآلام والاسقام، ولا خلاف بينهم في أنه لم ينعم عليهم نعمة دينه. والحمد لله. التاسعة عشرة - قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم) استدراك بعد كلام تقدم فيه معنى النفي، لان معنى ما تقدم ليس لهم في تقلبهم في البلاد كبير (1) الانتفاع، لكن المتقون لهم الانتفاع الكبير (1) والخلد الدائم. فموضع " لكن " رفع بالابتداء. وقرأ يزيد بن القعقاع " لكن " بتشديد النون. الموافية عشرين - قوله تعالى: (نزلا من عند الله) نزلا مثل ثوابا عند البصريين، وعند الكسائي يكون مصدرا. الفراء: هو مفسر. وقرأ الحسن والنخعي " نزلا " بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقله الباقون. والنزل ما يهيأ للنزيل، والنزيل الضيف. قال الشاعر: نزيل القوم أعظمهم حقوقا * وحق الله في حق النزيل والجمع الانزال. وحظ نزيل: مجتمع. والنزل (2): أيضا الريع، يقال، طعام النزل والنزل. الحادية والعشرون - قلت: ولعل النزل - والله أعلم - ما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة (3) الحبر الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الارض غير الارض والسموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هم في الظلمة دون الجسر) قال: فمن أول الناس إجازة ؟ قال: (فقراء المهاجرين) قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ قال (زيادة كبد النون) قال: فما غذاؤهم على إثرها ؟ فقال: (ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها) قال: فما شرابهم عليه ؟ قال: (من عين فيها تسمى سلسبيلا) وذكر الحديث. قال أهل (1) في ج‍ وأ: كثير. (2) النزل. بضم فسكون وبالتحريك. (3) من ج‍ وه‍ وى ود. وفي ب وأ: من حديث. (*)
[ 322 ]
اللغة: والتحفة ما يتحف به الانسان من الفواكه. والطرف محاسنه وملاطفه، وهذا مطابق لما ذكرناه في النزل، والله أعلم. وزيادة الكبد: قطعة منه كالاصبع. قال الهروي: " نزلا من عند الله " أي ثوابا. وقيل رزقا. (وما عند الله خير للابرار) أي مما يتقلب به الكفار في الدنيا. والله أعلم. الثانية والعشرون - قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) الآية. قال جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس وقتادة والحسن: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه: (قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي)، فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة، فأنزل الله تعالى " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ". قال الضحاك: (وما أنزل إليكم) القرآن. (وما أنزل إليهم) التوراة والانجيل. وفي التنزيل: " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " [ القصص: 54 ] (1). وفي صحيح مسلم: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين - فذكر - رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران) وذكر الحديث. وقد تقدم في " البقرة " (2) الصلاة عليه وما للعلماء في الصلاة على الميت الغائب، فلا معنى للاعادة. وقال مجاهد وابن جريج وابن زيد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وهذا عام والنجاشي واحد منهم. واسمه أصحمة، وهو بالعربية عطية. و (خاشعين) أذلة، ونصب على الحال من المضمر الذي في " يؤمن ". وقيل: من الضمير في " إليهم " أو في " إليكم ". وما في الاية بين، وقد تقدم. الثالثة والعشرون - قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اصبروا) الآية. ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الاعداء والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس، وقد تقدم في " البقرة " بيانه (3). وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة الاعداء، قاله زيد بن أسلم. (1) راجع ج‍ 13 ص 297. (2) راجع ج‍ 2 ص 81. (3) راجع ج‍ 2 ص 174. (*)
[ 323 ]
وقال الحسن: على الصلوات الخمس. وقيل: إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو ينزع. وقال عطاء والقرظي: صابروا الوعد الذي وعدتم. أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج، قال صلى الله عليه وسلم: (انتظار الفرج بالصبر عبادة). واختار هذا القول أبو عمر رحمه الله. والاول قول الجمهور، ومنه قول عنترة: فلم أر حيا صابروا مثل صبرنا * ولا كافحوا مثل الذين نكافح فقوله " صابروا مثل صبرنا " أي صابروا العدو في الحرب ولم يبد منهم جبن ولا خور. والمكافحة: المواجهة والمقابلة في الحرب، ولذلك اختلفوا في معنى قوله (ورابطوا) فقال جمهور الامة: رابطوا أعدائكم بالخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداءكم، ومنه قوله تعالى: " ومن رباط الخيل " [ الانفال: 60 ] (1) وفي الموطأ عن مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة ابن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه " يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه. واحتج أبو سلمة بقوله عليه السلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط) ثلاثا، رواه مالك. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط [ هو ] (2) الملازمة في سبيل الله. أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الاسلام (3) مرابطا، فارسا كان أو راجلا. واللفظ مأخوذ من الربط. وقول النبي صلى الله عليه وسلم (فذلكم الرباط) إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله. والرباط اللغوي هو الاول، وهذا (4) كقوله: (ليس الشديد بالصرعة) وقوله (ليس المسكين بهذا الطواف) إلى غير ذلك. (1) راجع ج‍ 8 ص 36. (2) من ب وج‍ وه‍ وط. (3) في ب: المسلمين. (4) في ب: هكذا. (5) الصرعة بضم ففتح المبالغ في الصراع الذى لا يغلب. (*)
[ 324 ]
قلت: قوله " والرباط اللغوي هو الاول " ليس بمسلم، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا، فقد حصل أن انتظار الصلاة رباط لغوي حقيقة، كما قال صلى الله عليه وسلم. وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يقال: ماء مترابط أي دائم لا ينزح (1)، حكاه ابن فارس، وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه. فإن المرابطة عند العرب: العقد على الشئ حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله: " ومن رباط الخيل " [ الانفال: 60 ] على ما يأتي. وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو هريرة وجابر وعلى ولا عطر بعد عروس. الرابعة والعشرون - المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، قاله محمد بن المواز [ ورواه ] (2). وأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين. قال ابن عطية. وقال ابن خويز منداد: وللرباط حالتان: حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالاهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الاهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق. والله أعلم. الخامسة والعشرون - جاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها). وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان) (3). وروى أبو داود في سننه عن فضالة (1) في الاصول: لا يبرح. والتصويب من اللسان. (2) كذا في ز وب وج‍ ود وه‍ وى وط وابن عطية وفى ا وح‍ وداود. (3) الفتان: الشيطان. ويروى بفتح الفاء وضمها. فمن رواه بالفتح فهو واحد، لانه يفتن الناس عن الدين. ومن رواه بالضم فهو جمع فاتن، أي يعاون أحدهما الاخر على الذين يضلون الناس عن الحق ويفتنونهم. (*)
[ 325 ]
ابن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر). وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الاعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت، كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات الانسان (1) انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم، فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذى يدعو لابويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد. والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة، لانه لا معنى للنماء إلا المضاعفة، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة. وهذا لان أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الاسلام. وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الاعمال الصالحة، خرجه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات مرابطا في سبيل الله أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع). وفي هذا الحديث قيد ثان وهو الموت حالة الرباط. والله أعلم. وروي عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها). وروي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا - (1) هذه رواية مسلم كما في كتاب الوصية. وكذا في ز وط وى وج‍ وه‍. وفى رواية: (ابن آدم) والحديث رواه الترمذي وأبو داود وأبو داود والنسائي بلفظ: " إلا من ثلاث صدقة) الحديث، والبخاري في الادب المفرد (*)
[ 326 ]
أراه قال: من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالما لم تكتب عليه سينة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة) (1). ودل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدائم وإن لم يمت مرابطا. والله أعلم. وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلاثمائة يوم [ وستون (2) يوما ] واليوم كألف سنة). قلت: وجاء في انتظار الصلاة بعد الصلاة أنه رباط، فقد يحصل لمنتظر الصلوات ذلك الفضل إن شاء الله تعالى. وقد روى أبو نعيم الحافظ قال حدثنا سليمان بن أحمد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا حجاج بن المنهال ح (3) وحدثنا أبو بكر بن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي أيوب الازدي عن نوف البكالي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة المغرب فصلينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب (4) الناس لصلاة العشاء، فجاء وقد حضره الناس رافعا أصبعه وقد عقد تسعا وعشرين يشير بالسبابة إلى السماء فحسر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول: (أبشروا معشر المسلمين هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي هؤلاء قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى). ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرف بن عبد الله: أن نوفا (1) رواية ابن ماجة. (2) في ج‍. (3) جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد " ح " وهى حاء مهملة مفردة. والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها: " ح " ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين إذا حجز، لكونها حالت بين الاسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشئ، وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز إلى قوله: الحديث. وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا وهى كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري. (راجع مقدمة النوري على صحيح مسلم). (4) في ج‍: يتوجه. (*)
[ 327 ]
وعبد الله بن عمرو اجتمعا فحدث نوف عن التوراة وحدث عبد الله بن عمرو بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. (واتقوا الله) أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى. (لعلكم تفلحون) لتكونوا على رجاء من الفلاح. وقيل: لعل بمعنى لكي. والفلاح البقاء، وقد مضى هذا كله في " البقرة " مستوفي (1)، والحمد لله. نجز تفسير سورة آل عمران من (جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان) بحمد الله وعونه. صححه أبو إسحاق إبراهيم الطفيش (1) راجع ج‍ 1 ص 162، 182، 227. (*) (2) في ج‍. (3) جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد " ح " وهى حاء مهملة مفردة. والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها: " ح " ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين إذا حجز، لكونها حالت بين الاسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشئ، وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز إلى قوله: الحديث. وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا وهى كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري. (راجع مقدمة النوري على صحيح مسلم). (4) في ج‍: يتوجه. (*)
[ 327 ]
وعبد الله بن عمرو اجتمعا فحدث نوف عن التوراة وحدث عبد الله بن عمرو بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. (واتقوا الله) أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى. (لعلكم تفلحون) لتكونوا على رجاء من الفلاح. وقيل: لعل بمعنى لكي. والفلاح البقاء، وقد مضى هذا كله في " البقرة " مستوفي (1)، والحمد لله. نجز تفسير سورة آل عمران من (جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان) بحمد الله وعونه. صححه أبو إسحاق إبراهيم الطفيش (1) راجع ج‍ 1 ص 162، 182، 227. (*) * * * تم الجزء الرابع من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء تعالى الجزء الخامس، وأقوله: " سورة النساء بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء الرابع من كتاب (الجامع لاحكام القرآن) للقرطبي