الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
ثم قال تعالى : {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه } وفيه وجهان : الأول : قال الزجاج : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له ، فمنع ههنا منه. الثاني : قال الكلبي لا تقم بإصلاح مهمات قبره ، وهو من قولهم ، قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه ، ثم إنه تعالى علل المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره بقوله : {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَمَاتُوا وَهُمْ فَـاسِقُونَ} وفيه سؤالات :
السؤال الأول : الفسق أدنى حالاً من الكفر ، ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافراً فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بكونه فاسقاً ؟
والجواب أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه. وقد يكون فاسقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه ، والكذب والنفاق والخداع والمكر والكيد ، أمر مستقبح في جميع الأديان ، فالمنافقون لما كانوا موصوفين بهذه الصفات وصفهم الله تعالى بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر ، تنبيهاً على أن / طريقة النفاق طريقة مذمومة عند كل أهل العالم.
السؤال الثاني : أليس أن المنافق يصلى عليه إذا أظهر الإيمان مع قيام الكفر فيه ؟
والجواب : أن التكاليف مبنية على الظاهر قال عليه الصلاة والسلام : "نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر".
السؤال الثالث : قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه } تصريح بكون ذلك النهي معللاً بهذه العلة ، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى وهو محال ، لأن حكم الله قديم ، وهذه العلة محدثة ، وتعليل القديم بالمحدث محال.
والجواب : الكلام في أن تعليل حكم الله تعالى بالمصالح هل يجوز أم لا ؟
بحث طويل ، ولا شك أن هذا الظاهر يدل عليه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 117
118
اعلم أن هذه الآية قد سبق ذكرها بعينها في هذه السورة وذكرت ههنا ، وقد حصل التفاوت بينهما في ألفاظ : فأولها : في الآية المتقدمة قال : {فَلا تُعْجِبْكَ} بالفاء. وههنا قال : {وَلا تُعْجِبْكَ} بالواو وثانيها : أنه قال هناك {أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُمْ } وههنا كلمة {لا} محذوفة. وثالثها : أنه قال هناك {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم} وههنا حذف اللام وأبدلها بكلمة {ءَانٍ} ورابعها : أنه قال هناك {وَقَالَ إِنَّمَا} وههنا حذف لفظ الحياة وقال : {فِى الدُّنْيَا} فقد حصل التفاوت بين هاتين الآيتين من هذه الوجوه الأربعة ، فوجب علينا أن نذكر فوائد هذه الوجوه الأربعة في التفاوت ، ثم نذكر فائدة هذا التكرير.
أما المقام الأول : فنقول :
أما النوع الأول : من التفاوت وهو أنه تعالى ذكر قوله : {فَلا تُعْجِبْكَ} بالفاء في الآية الأولى وبالواو في الآية الثانية ، فالسبب أن في الآية الأولى إنما ذكر هذه الآية بعد قوله : {وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَـارِهُونَ} وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق ، وإنما كرهوا ذلك الإنفاق لكونهم معجبين / بكثرة تلك الأموال. فلهذا المعنى نهاه الله عن ذلك الإعجاب بفاء التعقيب ، فقال : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُمْ } وأما ههنا فلا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف الواو.
وأما النوع الثاني : وهوأنه تعالى قال في الآية الأولى : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُمْ } فالسبب فيه أن مثل هذا الترتيب يبتدأ بالأدون ثم يترقى إلى الأشرف ، فيقال لا يعجبني أمر الأمير ولا أمر الوزير ، وهذا يدل على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم ، وفي هذه الآية يدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم.
أما النوع الثالث : وهو أنه قال هناك : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم} وههنا قال : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم} فالفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله تعالى محال ، وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه "أن" كقوله : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} (البينة : 5) أي وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله.
جزء : 16 رقم الصفحة : 118
وأما النوع الرابع : وهو أنه ذكر في الآية الأولى {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم} وههنا ذكر {فِى الدُّنْيَا} وأسقط لفظ الحياة ، تنبيهاً على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة ، بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دناءتها ، فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ ، والعالم بحقائق القرآن هو الله تعالى.
(1/2270)

وأما المقام الثاني : وهو بيان حكمة التكرير فهو أن أشد الأشياء جذباً للقلوب وجلباً للخواطر ، إلى الاشتغال بالدنيا ، هو الاشتغال بالأموال والأولاد ، وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرة بعد أخرى ، إلا أنه لما كان أشد الأشياء في المطلوبية والمرغوبية للرجل المؤمن هو مغفرة الله تعالى ، لا جرم أعاد الله قوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } في سورة النساء مرتين ، وبالجملة فالتكرير يكون لأجل التأكيد فههنا للمبالغة في التحذير ، وفي آية المغفرة للمبالغة في التفريح ، وقيل أيضاً إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوماً من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها/ وأراد بهذه الآية أقواماً آخرين ، والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة ، لم يكن ذكره مع بعضهم مغنياً عن ذكره مع الآخرين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 118
119
واعلم أنه تعالى بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم والقعود عن الغزو ، وفي هذه الآية زاد دقيقة أخرى ، وهي أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول ، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو ، وقالوا لرسول الله ذرنا نكن مع القاعدين أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد.
أما قوله : {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَجَـاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} ففيه أبحاث :
البحث الأول : يجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها ، كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه ، وقيل المراد بالسورة هي سورة براءة ، لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد.
البحث الثاني : قوله : {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} قال الواحدي : موضع {ءَانٍ} نصب بحذف حرف الجر. والتقدير بأن آمنوا أي بالإيمان ؟
البحث الثالث : لقائل أن يقول : كيف يأمر المؤمنين بالإيمان ، فإن ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال.
أجابوا عنه : بأن معنى أمر المؤمنين بالإيمان الدوام عليه والتمسك به في المستقبل ، وأقول لا حاجة إلى هذا الجواب ، فإن الأمر متوجه عليهم ، وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن التقدير كأنه قيل للمنافقين الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً ، فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً ، ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً حتى يفيدكم اشتغالكم بالجهاد فائدة في الدين ، ثم حكى تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون ، فقال : {اسْتَـاْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَـاعِدِينَ} وفي {أُوْلُوا الطَّوْلِ} قولان : الأول : قال ابن عباس والحسن : المراد أهل السعة في المال : الثاني : قال الأصم : يعني الرؤساء والكبراء المنظور إليهم ، وفي تخصيص {أُوْلُوا الطَّوْلِ} بالذكر قولان : الأول : أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد ، والثاني : أنه تعالى ذكر أولوا الطول لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان.
جزء : 16 رقم الصفحة : 119
ثم قال تعالى : {رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} وذكرنا الكلام المستقصى في الخالف في قوله : / {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَـالِفِينَ} وههنا فيه وجهان : الأول : قال الفراء : {الْخَوَالِفِ} عبارة عن النساء اللاتي تخلفن في البيت فلا يبرحن ، والمعنى : رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء. الثاني : يجوز أيضاً أن يكون الخوالف جمع خالفة في حال. والخالفة الذي هو غير نجيب. قال الفراء : ولم يأت فاعل صيغة جمعه فواعل ، إلا حرفان : فارس وفوارس ، وهالك وهوالك ، والقول الأول أولى ، لأن أدل على القلة والذلة. قال المفسرون : وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخواف.
ثم قال : {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} وقد عرفت أن الطبع والختم عبارة عندنا عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان ، وذلك لأن الفعل بدون الداعي لما كان محالاً ، فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر ، صار القلب كالمطبوع على الكفر ، ثم حصول تلك الداعية إن كان من العبد لزم التسلسل ، وإن كان من الله فالمقصود حاصل. وقال الحسن : الطبع عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان ، وعند المعتزلة عبارة عن علامة تحصل في القلب ، والاستقصاء فيه مذكور في سورة البقرة في قوله : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وقوله : {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد.
جزء : 16 رقم الصفحة : 119
120
(1/2271)

واعلم أنه تعالى لما شرح حال المنافقين في الفرار عن الجهاد بين أن حال الرسول والذين آمنوا معه بالضد منه ، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه. وقوله : {لَـاكِنِ} فيه فائدة ، وهي : أن التقدير أنه إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو ، فقد توجه من هو خير منهم ، وأخلص نية واعتقاداً ، كقوله : {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـا ؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} (الأنعام : 89) وقوله : {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} (فصلت : 38) ولما وصفهم بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع. وهو أنواع : أولها : قوله : {وَأُوالَـا ئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } واعلم أن لفظ الخيرات ، يتناول منافع الدارين ، لأجل / أن اللفظ مطلق. وقيل : {الْخَيْرَاتُ } الحور ، لقوله تعالى : {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} (الرحمن : 70) وثانيها : قوله : {وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فقوله : {لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } المراد منه الثواب. وقوله : {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} المراد منه التخلص من العقاب والعذاب. وثالثها : قوله : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا } يحتمل أن تكون هذه الجنات كالتفسير للخيرات وللفلاح ، ويحتمل أن تحمل تلك الخيرات والفلاح على منافع الدنيا ، مثل الغزو ، والكرامة ، والثروة ، والقدرة ، والغلبة ، وتحمل الجنات على ثواب الآخرة و{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ، ودرجة عالية.
جزء : 16 رقم الصفحة : 120
120
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة ابتدأ في هذه الآية بشرح أحوال المنافقين من الأعراب في قوله : {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ} وقال : لعن الله المعذرين ، وذهب إلى أن المعذر هو المجتهد الذي له عذر ، والمعذر بالتشديد الذي يعتذر بلا عدر. والحاصل : أن المعذر هو المجتهد البالغ في العذر ، ومنه قولهم : قد أعذر من أنذر ، وعلى هذه القراءة فمعنى الآية : أن الله تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكاذبين ، فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر. قيل : هم أسد وغطفان. قالوا : إن لنا عيالاً وإنا بنا جهداً فائذن لنا في التخلف. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل ، قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيء علينا ، فأذن رسول الله لهم. وعن مجاهد : نفر من غطفان اعتذروا. والذين قرؤوا {الْمُعَذِّرُونَ} بالتشديد وهي قراءة العامة فله وجهان من العربية.
الوجه الأول : ما ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري : وهو أن الأصل في هذا اللفظ المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين ، وأبدلت الذال من التاء ، وأدغمت في الذال التي بعدها ، فصارت التاء ذالاً مشددة. والاعتذار قد يكون بالكذب ، كما في قوله تعالى : {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } (التوبة : 94) فبين كون هذا الاعتذار فاسداً بقوله : {قُل لا تَعْتَذِرُوا } وقد يكون بالصدق كما في قول لبيد :
ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
يريد فقد جاء بعذر صحيح.
جزء : 16 رقم الصفحة : 120
الوجه الثاني : أن يكون {الْمُعَذِّرُونَ} على وزن قولنا : مفعلون من التعذير الذي هو التقصير. يقال : عذراً تعذيراً إذا قصر ولم يبالغ. يقال : قام فلان قيام تعذير ، إذا اسكتفيته في أمر فقصر فيه ، فإن أخذنا بقراءة الخفيف ، كان {الْمُعَذِّرُونَ} كاذبين. وأما إن أخذنا بقراءة التشديد ، وفسرناها بالمعتذرين ، فعلى هذا التقدير : يحتمل أنهم كانوا صادقين وأنهم كانوا كاذبين ، ومن المفسرين من قال : المعذرون كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم : {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه } فلما ميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين. وروى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو : أنه لما قيل له هذا الكلام قال : إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل ، فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله : {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ} وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جراءة على الله تعالى ، فهم المرادون بقوله : {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه } والذي قاله أبو عمرو محتمل ، إلا أن الأول أظهر. وقوله : {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه } وهم منافقو الأعراب الذين ما جاؤوا وما اعتذروا ، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. وقرأ أبي {كَذَبُوا } بالتشديد {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار ، وإنما قال : {مِّنْهُمْ} لأنه تعالى كان عالماً بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص عن هذا العقاب ، فذكر لفظة من الدالة على التبعيض.
جزء : 16 رقم الصفحة : 120
123
(1/2272)

اعلم أنه تعالى لما بين الوعيد في حق من يوهم العذر ، مع أنه لا عذر له ، ذكر أصحاب الأعذار / الحقيقية ، وبين أن تكليف الله تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط ، وهم أقسام :
القسم الأول : الصحيح في بدنه ، الضعيف مثل الشيوخ. ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفاً نحيفاً ، وهؤلاء هم المرادون بالضعفاء. والدليل عليه : أنه عطف عليهم المرضى ، والمعطوف مباين للمعطوف عليه ، فما لم يحمل الضعفاء على الذين ذكرناهم ، لم يتميزوا عن المرضى.
وأما المرضى : فيدخل فيهم أصحاب العمى ، والعرج ، والزمانة ، وكل من كان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة.
والقسم الثالث : الذين لا يجدون الأهبة والزاد والراحلة ، وهم الذين لا يجدون ما ينفقون ، لأن حضوره في الغزو إنما ينفع إذا قدر على الإنفاق على نفسه. أما من مال نفسه ، أو من مال إنسان آخر يعينه عليه ، فإن لم تحصل هذه القدرة ، صار كلاً ووبالاً على المجاهدين ويمنعهم من الاشتغال بالمقصود ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأقسام الثلاثة قال : لا حرج على هؤلاء ، والمراد أنه يجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو ، وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج ، لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة. إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم ، بشرط أن لايجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم ، كان ذلك طاعة مقبولة. ثم إنه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً معيناً وهو قوله : {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِه } ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف ، وعن إثارة الفتن ، وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا ، إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم ، وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم ، فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد.
جزء : 16 رقم الصفحة : 123
(1/2273)

ثم قال تعالى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } وقد اتفقوا على أنه دخل تحت قوله تعالى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } هو أنه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد ، واختلفوا في أنه هل يفيد العموم في كل الوجوه ؟
فمنهم من زعم أن اللفظ مقصور على هذا المعنى ، لأن هذه الآية نزلت فيهم ، ومنهم من زعم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والمحسن هو الآتي بالإحسان ، ورأس أبواب الإحسان ورئيسها ، هو قول : لا إله إلا الله ، وكل من قال هذه الكلمة واعتقدها ، كان من المسلمين. وقوله تعالى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } يقتضي نفي جميع المسلمين ، فهذا بعمومه يقتضي أن الأصل في حال كل مسلم براءة الذمة ، وعدم توجه مطالبة الغير عليه في نفسه وماله ، فيدل على أن الأصل في نفسه حرمة القتل ، إلا لدليل منفصل ، والأصل في ماله حرمة الأخذ ، إلا لدليل منفصل ، وأن لا يتوجه عليه شيء من التكاليف ، إلا لدليل منفصل ، فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلاً / معتبراً في الشريعة ، في تقرير أن الأصل براءة الذمة ، فإن ورد نص خاص يدل على وجوب حكم خاص ، في واقعة خاصة ، قضينا بذل النص الخاص تقديماً للخاص على العام ، وإلا فهذا النص كاف في تقرير البراءة الأصلية ، ومن الناس من يحتج بهذا على نفي القياس. قال : لأن هذا النص دل على أن الأصل هو براءة الذمة ، وعدم الإلزام والتكليف ، فالقياس إما أن يدل على براءة الذمة أو على شغل الذمة ، والأول باطل لأن براءة الذمة لما ثبتت بمقتضى هذا النص ، كان إثباتها بالقياس عبثاً. والثاني أيضاً باطل ، لأن على هذا التقدير يصير ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص وأنه لا يجوز ، لما ثبت أن النص أقوى من القياس. قالوا : وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة ، معلومة ، ملخصة ، بعيدة عن الاضطراب والاختلافات التي لا نهاية لها ، وذلك لأن السلطان إذا بعث واحداً من عماله إلى سياسة بلدة ، فقال له : أيها الرجل تكليفي عليك ، وعلى أهل تلك المملكة ، كذا وكذا ، وعد عليهم مائة نوع من التكاليف مثلاً ، ثم قال : وبعد هذه التكاليف ليس لأحد عليهم سبيل ، كان هذا تنصيصاً منه على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء تلك الأقسام المائة المذكورة ، ولو أنه كلف ذلك السلطان بأن ينص على ما سوى تلك المائة بالنفي على سبيل التفصيل كان ذلك محالاً ، لأن باب النفي لا نهاية له ، بل كفاه في النفي أن يقول : ليس لأحد على أحد سبيل إلا فيما ذكرت وفصلت ، فكذا ههنا أنه تعالى لما قال : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } وهذا يقتضي أن لا يتوجه على أحد سبيل ، ثم إنه تعالى ذكر في القرآن ألف تكليف ، أو أقل أو أكثر ، كان ذلك تنصيصاً على أن التكاليف محصورة في ذلك الألف المذكور ، وأما فيما وراءه فليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي ، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة سهلة المؤنة كثيرة المعونة ، ويكون القرآن وافياً ببيان التكاليف والأحكام ، ويكون قوله : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة : 3) حقاً ، ويصير قوله : {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل : 44) حقاً ، ولا حاجة ألبتة إلى التمسك بالقياس في حكم من الأحكام أصلاً ، فهذا ما يقرره أصحاب الظواهر مثل داود الأصفهاني وأصحابه في تقرير هذا الباب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 123
واعلم أنه تعالى لما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء ، بين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين لله ورسوله ، وبين كونهم محسنين ، وأنه ليس لأحد عليهم سبيل ، ذكر قسماً رابعاً من المعذورين ، فقال : {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} .
فإن قيل : أليس أن هؤلاء داخلون تحت قوله : {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} فما الفائدة في إعادته ؟
/ قلنا : الذين لا يجدون ما ينفقون ، هم الفقراء الذين ليس معهم دون النفقة ، وهؤلاء المذكورون في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة ، إلا أنهم لم يجدوا المركوب ، والمفسرون ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً : الأول : قال مجاهد : هم ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بنو مقرن ، سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم أن يحملهم على الخفاف المدبوغة ، والنعال المخصوفة ، فقال عليه السلام : "لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون ، والثاني : قال الحسن : نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستحملونه ، ووافق ذلك منه غضباً ، فقال عليه السلام : "والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأعطاهم ذوداً خير الذود ، فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله ؟
فقال : "أما أني إن شاء الله لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها ، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمين".
(1/2274)

والرواية الثالثة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : سألوه أن يحملهم على الدواب فقال عليه السلام : "لا أجد ما أحملكم عليه" لأن الشقة بعيدة. والرجل يحتاج إلى بعيرين ، بعير يركبه وبعير يحمل عليه ماءه وزاده. قال صاحب "الكشاف" : قوله : {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} كقولك : تفيض دمعاً ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض.
جزء : 16 رقم الصفحة : 123
124
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } قال في هذه / الآية إنما السبيل على من كان كذا وكذا ، ثم الذين قالوا في الآية الأولى المراد {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } في أمر الغزو والجهاد ، وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم. قالوا : السبيل الذي نفاه عن المحسنين ، هو الذي أثبته في هؤلاء المنافقين ، وهو الذي يختص بالجهاد ، والمعنى : أن هؤلاء الأغنياء الذين يستأذنونك في التخلف سبيل الله عليهم لازم ، وتكليفه عليهم بالذهاب إلى الغزو متوجه ، ولا عذر لهم ألبتة في التخلف.
فإن قيل : قوله : {رَضُوا } ما موقعه ؟
قلنا : كأنه استئناف ، كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء. فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يعني أن السبب في نفرتهم عن الجهاد ، هو أن الله طبع على قلوبهم ، فلأجل ذلك الطبع لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا.
ثم قال : {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِم قُل لا تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} علة للمنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً. فإذا علم بأن القوم يكذبونه فيه ، وجب عليه تركه. وقوله : {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علة لانتفاء التصديق ، لأنه تعالى لما أطلع رسوله على ما في ضمائرهم من الخبث والمكر والنفاق ، امتنع أن يصدقهم الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الأعذار.
ثم قال : {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه } والمعنى أنهم كانوا يظهرون من أنفسهم عند تقرير تلك المعاذير حباً للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وشفقة عليهم ورغبة في نصرتهم ، فقال تعالى : {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} أنكم هل تبقون بعد ذلك على هذه الحالة التي تظهرونها من الصدق والصفاء ، أو لا تبقون عليها ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 124
ثم قال : {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} .
فإن قيل : لماقال : {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} فلم لم يقل ، ثم تردون إليه ، وما الفائدة من قوله : {ثُمَّ} .
قلنا : في وصفه تعالى بكونه : {عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} ما يدل على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من الكذب والكيد ، وفيه تخويف شديد ، وزجر عظيم لهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 124
124
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى أنهم يعتذرون ، ذكر في هذه الآية أنهم كانوا يؤكدون تلك الأعذار بالإيمان الكاذبة.
أما قوله : {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ } فاعلم أن هذا الكلام يدل على أنهم حلفوا بالله ، ولم يدل على أنهم على أي شيء حلفوا ؟
فقيل : إنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج ، وإنما حلفوا على ذلك لتعرضوا عنهم أي لتصفحوا عنهم ، ولتعرضوا عن ذمهم.
ثم قال تعالى : {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد ترك الكلام والسلام. قال مقاتل : قال النبي صلى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة : "لا تجالسوهم ولا تكلموهم" قال أهل المعاني : هؤلاء طلبوا إعراض الصفح ، فأعطوا إعراض المقت ، ثم ذكر العلة في وجوب الإعراض عنهم ، فقال : {إِنَّهُمْ رِجْسٌ } والمعنى : أن خبث باطنهم رجس روحاني ، فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية ، فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى ، خوفاً من سريانها إلى الإنسان ، وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال.
(1/2275)

ثم قال تعالى : {وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ومعناه ظاهر ، ولما بين في الآية أنهم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم ، بين أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم ، ثم إنه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم ، فقال : {فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ} والمعنى : أنكم إن رضيتم عنهم مع أن الله لا يرضى عنهم ، كانت إرادتكم مخالفة لإرادة الله ، وأن ذلك لا يجوز. وأقول : إن هذه المعاني مذكورة في الآيات السالفة ، وقد أعادها الله ههنا مرة أخرى ، وأظن أن الأول خطاب مع المنافقين الذين كانوا في المدينة ، وهذا خطاب مع المنافقين من الأعراب وأصحاب البوادي ، ولما كانت طرق المنافقين متقاربة سواء كانوا من أهل الحضر أو من أهل البادية ، لا جرم كان الكلام معهم على مناهج متقاربة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 124
126
اعلم أن هذه الآية تدل على صحة ما ذكرنا من أنه تعالى إنما أعاد هذه الأحكام ، لأن المقصود منها مخاطبة منافقي الأعراب ، ولهذا السبب بين أن كفرهم ونفاقهم أشد وجهلهم بحدود ما أنزل الله أكمل ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال العلماء من أهل اللغة ، يقال : رجل عربي. إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب. كما تقول مجوسي ويهودي ، ثم يحذف ياء النسبة في الجمع ، فيقال : المجوس واليهود ، ورجل أعرابي ، بالألف إذا كان بدوياً ، يطلب مساقط الغيث والكلأ ، سواء كان من العرب أو من مواليهم ، ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب ، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي : فرح ، والعربي إذا قيل له : يا أعرابي ، غضب له ، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ، ومن نزل البادية فهم أعراب ، والذي يدل على الفرق وجوه : الأول : أنه عليه السلام قال : "حب العرب من الإيمان" وأما الأعراب فقد ذمهم الله في هذه الآية. والثاني : أنه لا يجوز أن يقال : للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنما هم عرب ، وهم متقدمون في مراتب الدين على الأعراب. قال عليه السلام : "لا تؤمن امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولاأعرابي مهاجراً" الثالث : قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسمعيل نشأوا بعربة ، وهي من تهامة. فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم ، لأنهم إنما تولدوا من أولاد إسمعيل وقيل : سموا بالعرب ، لأنه ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ، ولا شك أن اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة ، ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال : حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمة الهند في أوهامهم ، وحكمة يونان في أفئدتهم. وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية ، وحكمة العرب في ألسنتهم ، وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم.
المسألة الثانية : من الناس من قال : الجمع المحلى بالألف واللام الأصل فيه أن ينصر إلى / المعهود السابق ، فإن لم يوجد المعهود السابق ، حمل على الاستغراق للضرورة. قالوا : لأن صيغة الجمع يكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها ، والألف واللام للتعريف ، فإن حصل جمع هو معهود سابق وجب الانصراف إليه ، وإن لم يوجد فحينئذ يحمل على الاستغراق دفعاً للإجمال.
جزء : 16 رقم الصفحة : 126
قالوا إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {الاعْرَابُ} المراد منه جمع معينون من منافقي الأعراب ، كانوا يوالون منافقي المدينة فانصرف هذا اللفظ إليهم.
المسألة الثالثة : أنه تعالى حكم على الأعراب بحكمين :
الحكم الأول
أنهم أشد كفراً ونفاقاً ، والسبب فيه وجوه : الأول : أن أهل البدو يشبهون الوحوش. والثاني : استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم ، وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم ، والثالث : أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس ، ولا تأديب مؤدب ، ولا ضبط ضابط فنشاؤا كما شاؤوا ، ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فساداً. والرابع : أن من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وبياناته الشافية ، وتأديباته الكاملة ، كيف يكون مساوياً لمن لم يؤاثر هذا الخير ، ولم يسمع خبره. والخامس : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية.
الحكم الثاني
قوله : {وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه } وقوله : أي أولى وأحق ، وفي الآية حذف ، والتقدير : وأجدر بأن لا يعلموا. وقيل في تفسير حدود ما أنزل الله مقادير التكاليف والأحكام. وقيل : مراتب أدلة العدل والتوحيد والنبوة والمعاد {أَيْدِيهِم وَاللَّهُ عَلِيمُ } بمافي قلوب خلقه {حَكِيمٌ} فيما فرض من فرائضه.
(1/2276)

ثم قال : {وَمِنَ الاعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} والمغرم مصدر كالغرامة ، والمعنى : أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران ، وإنما يعتقد ذلك لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله وابتغاء ثوابه {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَآاـاِرَ } يعني الموت والقتل ، أي ينتظر أن تنقلب الأمور عليكم بموت الرسول ، ويظهر عليكم المشركون. ثم إنه أعاده إليهم فقال : {عَلَيْهِمْ دَآاـاِرَةُ السَّوْءِ } والدائرة يجوز أن تكون واحدة ، ويجوز أن تكون صفة غالبة ، وهي إنما تستعمل في آفة تحيط بالإنسان كالدائرة ، بحيث لا يكون له منها مخلص ، وقوله : {السَّوْءِ } قرىء بفتح / السين وضمه. قال الفراء : فتح السين هو الوجه ، لأنه مصدر قولك : ساء يسوء سوأ أو مساءة ومن ضم السين جعله اسماً ، كقولك : عليهم دائرة البلاء والعذاب ، ولا يجوز ضم السين في قوله : {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} (مريم : 28) ولا في قوله : {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} (الفتح : 12) وإلا لصار التقدير : ما كان أبوك امرأ عذاب ، وظننتم ظن العذاب ، ومعلوم أنه لا يجوز ، وقال الأخفش وأبو عبيد : من فتح السين ، فهو كقولك : رجل سوء ، وامرأة سوء. ثم يدخل الألف واللام. فيقول : رجل السوء وأنشد الأخفش :
جزء : 16 رقم الصفحة : 126
وكنت كذئب السوء لما رأى دما
بصاحبه يوماً أحال على الدم
ومن ضم السين أراد بالسوء المضرة والشر والبلاء والمكروه ، كأنه قيل : عليهم دائرة الهزيمة والمكروه ، وبهم يحيق ذلك. قال أبو علي الفارسي : لو لم تضف الدائرة إلى السوء أو السوء عرف منها معنى السوء ، لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه.
إذا عرفت هذا فنقول : المعنى يدور عليهم البلاء والحزن ، فلا يرون في محمد عليه الصلاة والسلام ودينه إلا ما يسوءهم.
ثم قال : {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لقولهم : {عَلِيمٌ} بنياتهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 126
127
اعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً ، بين أيضاً أن فيهم قوماً مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنماً.
واعلم أنه تعالى وصف هذا الفريق بوصفين : فالأول : كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر ، والمقصود التنبيه على أنه لا بد في جميع الطاعات من تقدم الإيمان ، وفي الجهاد أيضاً كذلك. والثاني : كونه بحيث يتخذ ما ينفقه قربات عند الله وصلوات الرسول ، وفيه بحثان : الأول : قال الزجاج : يجوز في القربات ثلاثة أوجه ، ضم الراء ، وإسكانها وفتحها. الثاني : قال صاحب / "الكشاف" : قربات مفعول ثان ليتخذ ، والمعنى : أن ما ينفقه لسبب حصول القربات عند الله تعالى وصلوات الرسول ، لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم. كقوله : "اللهم صل على آل أبي أوفى" وقال تعالى : {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } فلما كان ما ينفق سبباً لحصول القربات والصلوات ، قيل : إنه يتخذ ما ينفق قربات وصلوات. وقال تعالى : {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } وهذا شهادة من الله تعالى للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه ، وهو قوله : {إِلا} وبحرف التحقيق ، وهو قوله : {إِنَّهَا} ثم زاد في التأكيد ، فقال : {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِه } وقد ذكرنا أن إدخال هذا السين يوجب مزيد التأكيد. ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لسيآتهم {رَّحِيمٌ} بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات. وقرأ نافع {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} بضم الراء وهو الأصل ، ثم خففت نحو : كتب ، ورسل ، وطنب ، والأصل هو الضم ، والإسكان تخفيف.
جزء : 16 رقم الصفحة : 127
130
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول ، وما أعد لهم من الثواب ، بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها ، وهي منازل السابقين الأولين. وفي الآية مسائل :
(1/2277)

المسألة الأولى : اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم ؟
وذكروا وجوهاً : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً وعن الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان. والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة ، وفي النصرة ، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيماذا فبقي اللفظ مجملاً إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً ، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة ، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة / إزالة للإجمال عن اللفظ ، وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ، ومخالف للطبع ، فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره من هذه الطاعة ، وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره ، وكذلك السبق في النصرة ، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة ، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة ، فازوا بمنصب عظيم ، فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد والسابقون الأولون في الهجرة.
إذا ثبت هذا فنقول : إن أسبق الناس إلى الهجرة هو أبو بكر ، لأنه كان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع ، فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره ، وعلي بن أبي طالب ، وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا شك أنه إنما بقي بمكة لمهمات الرسول إلا أن السبق إلى الهجرة إنما حصل لأبي بكر ، فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر ، فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ، ورضي هو عن الله ، وذلك في أعلى الدرجات من الفضل.
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله ، إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحق اللعن والمقت ، وذلك ينافي حصول مثل هذا التعظيم ، فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وعلى صحة إمامتهما.
جزء : 16 رقم الصفحة : 130
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من سبق إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار ، لأن هؤلاء آمنوا ، وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف. فقوي الإسلام بسببهم ، وكثر عدد المسلمين بسبب إسلامهم ، وقوي قلب الرسول بسبب دخولهم في الإسلام واقتدى بهم غيرهم ، فكان حالهم فيه كحال من سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ؟
ثم نقول : هب أن أبا بكر دخل تحت هذه الآية بحكم كونه أول المهاجرين ، لكن لم قلتم أنه بقي على تلك الحالة ؟
ولم لا يجوز أن يقال : إنه تغير عن تلك الحالة ، وزالت عنه تلك الفضيلة بسبب إقدامه على تلك الإمامة ؟
والجواب عن الأول : أن حمل السابقين على السابقين في المدة تحكم لا دلالة عليه ، لأن لفظ السابق مطلق ، فلم يكن حمله على السبق في المدة أولى من حمله على السبق في سائر الأمور ، ونحن بينا أن حمله على السبق في الهجرة أولى. قوله : المراد منه السبق في الإسلام.
قلنا : السبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام ، والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق / في الهجرة ، فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى. وأيضاً فهب أنا نحمل اللفظ على السبق في الإيمان ، إلا أنا نقول : قوله : {وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ} صيغة جمع فلا بد من حمله على جماعة ، فوجب أن يدخل فيه علي رضي الله عنه وغيره ، وهب أن الناس اختلفوا في أن إيمان أبي بكر أسبق أم إيمان علي ؟
لكنهم اتفقوا على أن أبا بكر من السابقين الأولين ، واتفق أهل الحديث على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد ، فعلى هذا التقدير : يكون أبو بكر من السابقين الأولين ، وأيضاً قد بينا أن السبق في الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول عليه السلام ، ويصير هو قدوة لغيره ، وهذا المعنى في حق أبي بكر أكمل ، وذلك لأنه حين أسلم كان رجلاً كبير السن مشهوراً فيما بين الناس ، واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه نقل أنه لما أسلم ذهب إلى طلحة والزبير وعثمان بن عفان ، وعرض الإسلام عليهم ، ثم جاء بهم بعد أيام إلى الرسول عليه السلام ، وأسلموا على يد الرسول عليه السلام ، فظهر أنه دخل بسبب دخوله في الإسلام قوة في الإسلام ، وصار هذا قدوة لغيره ، وهذه المعاني ما حصلت في علي رضي الله عنه ، لأنه في ذلك الوقت كان صغير السن ، وكان جارياً مجرى صبي في داخل البيت ، فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوة للإسلام ، وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره ، فثبت أن الرأس والرئيس في قوله : {وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ} ليس إلا أبا بكر ، أما قوله لم قلتم إنه بقي موصوفاً بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 130
(1/2278)

قلنا : قوله تعالى : {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} يتناول جميع الأحوال والأوقات بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه. فيقال رضي الله عنهم إلا في وقت طلب الإمامة ، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ. أو نقول : إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين ، وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة ، ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم ، وهو قوله : {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم ، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب ، يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله : {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} معلل بكونهم سابقين في الهجرة ، والعلة ما دامت موجودة ، وجب ترتب المعلول عليها ، وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم ، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم ، أو نقول : إنه تعالى قال : {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَـارُ} وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات / وعينها لهم ، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات ، وليس لأحد أن يقول : المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان ، لأنا نقول : هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر. وأيضاً فعلى هذا التقدير : لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح ، وبين سائر الفرق فرق ، لأنه تعالى : {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَـارُ} ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب ، لو صاروا مؤمنين ، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل ، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء ، فسقط هذا السؤال. فظهر أن هذه الآية دالة على فضل أبي بكر ، وعلى صحة القول بإمامته قطعاً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 130
المسألة الثانية : اختلفوا في أن المدح الحاصل في هذه الآية هل يتناول جميع الصحابة أم يتناول بعضهم ؟
فقال قوم : إنه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة ، وعلى هذا فهو لا يتناول إلا قدماء الصحابة ، لأن كلمة {مَنْ} تفيد التبعيض ، ومنهم من قال : بل يتناول جميع الصحابة ، لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين ، وكلمة {مَنْ} في قوله : {مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ} ليست للتبعيض ، بل للتبيين ، أي والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصاراً كما في قوله تعالى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ} (الحج : 30) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول ، روي عن حميد بن زياد أنه قال : قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم ، وأردت الفتن ، فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، قلت له : وفي أي موضع أوجب لهم الجنة ؟
قال : سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى : {وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ} إلى آخر الآية ؟
فأوجب الله لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطاً شرطه عليهم. قلت : وما ذاك الشرط ؟
قال : اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل ، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك ، أو يقال : المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول ، وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا ، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه. قال حميد بن زياد : فكأني ما قرأت هذه الآية قط.
(1/2279)

المسألة الثالثة : روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ {وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ} فكان يعطف قوله : على قوله : {وَالسَّـابِقُونَ} وكان يحذف الواو من قوله : {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ} ويجعله وصفاً للأنصار ، وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه. قال أبي : والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم / على هذا الوجه ، وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة ، فقال عمر رضي الله عنه : صدقت ، شهدتم وغبنا ، وفرغتم وشغلنا ، ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا. وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب ، والتفاوت أن على قراءة عمر ، يكون التعظيم الحاصل من قوله : {وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ} مختصاً بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين. والله أعلم. وروي أن أبيا احتج على صحة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنا بَعْدُ وَهَاجَرُوا } (الأنفال : 75) بعد تقدم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى ، وبأواسط سورة الحشر وهو قوله : {ذُرِّيَّةً مِّنا بَعْدِهِمْ } (الحشر : 10) وبأول سورة الجمعة وهو قوله : {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } (الجمعة : 3).
جزء : 16 رقم الصفحة : 130
المسألة الرابعة : قوله : {وَالسَّـابِقُونَ} مرتفع بالابتداء وخبره قوله : {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} ومعناه : رضي الله عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم ، ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا ، وفي مصاحف أهل مكة {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } وهي قراءة ابن كثير ، وفي سائر المصاحف {تَحْتَهَا} من غير كلمة {مَنْ} .
المسألة الخامسة : قوله : {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ} قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم : يريد ، يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم/ ويذكرون محاسنهم ، وقال في رواية أخرى والذين اتبعوهم بإحسان على دينهم إلى يوم القيامة ، واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب ، بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان ، وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم ، والحكم المشروط بشرط ، ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط ، فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقاً للرضوان من الله تعالى ، وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب ، فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي.
جزء : 16 رقم الصفحة : 130
131
اعلم أنه تعالى شرح أحوال منافقي المدينة ، ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ، ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ، ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم ؟
وهم السابقون المهاجرون والأنصار. فذكر في هذه الآية أن جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق ، وإن كنتم لا تعلمون كونهم كذلك فقال : {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاعْرَابِ مُنَـافِقُونَ } وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار ، وكانوا نازلين حولها.
وأما قوله : {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِا مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} ففيه بحثان :
البحث الأول : قال الزجاج : أنه حصل فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق. الثاني : قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون التقدير : ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق فأضمر "من" لدلالة {مَنْ} عليها كما في قوله تعالى : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164) يريد إلا من له مقام معلوم.
البحث الثاني : يقال : مرد يمرد مردوا فهو مارد ومريد إذا عتا ، والمريد من شياطين الإنس والجن ، وقد تمرد علينا أي عتا ، وقال ابن الأعرابي : المراد التطاول بالكبر والمعاصي ، ومنه : {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} وأصل المرود الملاسة ، ومنه صرح ممرد ، وغلام أمرد ، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئاً ، كأن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه ، بقي كما كان على صفته الأصلية من غير حدوث تغير فيه ألبتة ، وذلك هو الملاسة.
إذا عرفت أصل اللفظ فنقول : قوله : {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه.
ثم قال تعالى : {لا تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } وهو كقوله : {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } والمعنى أنهم تمردوا في حرفة النفاق فصاروا فيها أستاذين ، وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك.
جزء : 16 رقم الصفحة : 131
ثم قال : {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} وذكروا في تفسير المرتين وجوهاً كثيرة :
(1/2280)

الوجه الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الأمراض في الدنيا ، وعذاب الآخرة ، وذلك أن مرض المؤمن يفيده تكفير السيئات ، ومرض الكافر يفيده زيادة الكفر وكفران النعم.
الوجه الثاني : روى السدي عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قام خطيباً يوم الجمعة فقال : "اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق" فأخرج من المسجد ناساً وفضحهم فهذا هو العذاب الأول ، والثاني عذاب القبر.
/ والوجه الثالث : قال مجاهد : في الدنيا بالقتل والسبي وبعد ذلك بعذاب القبر.
والوجه الرابع : قال قتادة بالدببيلة وعذاب القبر ، وذلك أن النبي عليه السلام أسر إلى حذيفة اثني عشر رجلاً من المنافقين ، وقال : ستة يبتليهم الله بالدبيلة سراج من نار يأخذ أحدهم حتى يخرج من صدره ، وستة يموتون موتاً.
والوجه الخامس : قال الحسن : يأخذ الزكاة من أموالهم ، وعذاب القبر.
والوجه السادس : قال محمد بن إسحق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسنة ، ثم عذابهم في القبور.
والوجه السابع : أحد العذابين ضرب الملائكة الوجوه والأدبار. والآخر عند البعث ، يوكل بهم عنق النار. والأولى أن يقال مراتب الحياة ثلاثة : حياة الدنيا ، وحياة القبر ، وحياة القيامة ، فقوله : {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} المراد منه عذاب الدنيا بجميع أقسامه ، وعذاب القبر. وقوله : {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} المرا دمنه العذاب في الحياة الثالثة ، وهي الحياة في القيامة.
ثم قال تعالى في آخر الآية : {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} يعني النار المخلدة المؤبدة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 131
139
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} فيه قولان : الأول : أنهم قوم من المنافقين. تابوا عن النفاق. والثاني : أنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك ، لا للكفر والنفاق ، لكن للكسل ، ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا ، واحتج القائلون بالقول الأول بأن قوله : {وَءَاخَرُونَ} عطف على قوله : {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاعْرَابِ مُنَـافِقُونَ } والعطف يوهم التشريك إلا أنه / تعالى وفقهم حتى تابوا ، فلما ذكر الفريق الأول بالمرود على النفاق والمبالغة فيه. وصف هذه الفرقة بالتوبة والإقلاع عن النفاق.
المسألة الثانية : روي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام ، وقيل : كانوا عشرة. فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل من المتخلفين فأيقنوا بالهلاك ، وأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت هذه عادته ، فلما قدم من سفره ورآهم موثقين ، سأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يحلهم ، فقال : وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أومر فيهم ، فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم ، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها ، فتصدق بها وطهرنا ، فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
المسألة الثالثة : قوله : {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} قال أهل اللغة : الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء عن معرفة ، ومعناه أنهم أقروا بذنبهم ، وفيه دقيقة ، كأنه قيل لم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الباطلة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئسما فعلوا وأظهروا الندامة وذموا أنفسهم على ذلك التخلف.
فإن قيل : الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
قلنا : مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة ، فأما إذا اقترن به الندم على الماضي ، والعزم على تركه في المستقبل ، وكان هذا الندم والتوبة لأجل كونه منهياً عنه من قبل الله تعالى ، كان هذا المجموع توبة ، إلا أنه دل الدليل على أن هؤلاء قد تابوا بدليل قوله تعالى : {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } والمفسرون قالوا : إن عسى من الله يدل على الوجوب.
ثم قال تعالى : {خَلَطُوا عَمَلا صَـالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا} وفيه بحثان :
البحث الأول : في هذا العمل الصالح وجوه : الأول : العمل الصالح هو الاعتراف بالذنب والندامة عليه والتوبة منه ، والسيء هو التخلف عن الغزو. والثاني : العمل الصالح خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات والسيء هو تخلفهم عن غزوة تبوك. والثالث : أن هذه الآية نزلت في حق المسلمين كان العمل الصالح إقدامهم على أعمال البر التي صدرت عنهم.
(1/2281)

البحث الثاني : لقائل أن يقول : قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيء مخلوطاً. فما المخلوط به. وجوابه أن الخلط عبارة عن الجمع المطلق ، وأما قولك خلطته ، فإنما يحسن في الموضع / الذي يمتزج كل واحد منهما بالآخر ، ويتغير كل واحد منهما بسبب تلك المخالطة عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن. واللائق بهذا الموضع هو الجمع المطلق/ لأن العمل الصالح والعمل السيء إذا حصلا بقي كل واحد منهما كما كان على مذهبنا ، فإن عندنا القول بالأحباط باطل ، والطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب ، والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب ، فقوله تعالى : {خَلَطُوا عَمَلا صَـالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا} فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة ، وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر ، ومما يعين هذه الآية على نفي القول بالمحابطة أنه تعالى وصف العمل الصالح والعمل السيء بالمخالطة. والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما ، لأن الاختلاط صفة للمختلطين ، وحصول الصفة حال عدم الموصوف محال ، فدل على بقاء العملين حال الاختلاط.
ثم قال تعالى : {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وفيه مباحث :
البحث الأول : ههنا سؤال ، وهو أن كلمة {عَسَى} شك وهو في حق الله تعالى محال ، وجوابه من وجوه :
الوجه الأول : قال المفسرون : كلمة عسى من الله واجب ، والدليل عليه قوله تعالى : {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ} (المائدة : 52) وفعل ذلك ، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام ، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى ، أو لعل ، تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً وأن يكلفني بشيء بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطول ، فذكر كلمة {عَسَى} الفائدة فيه هذا المعنى ، مع أنه يفيد القطع بالإجابة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
الوجه الثاني : في الجواب ، المقصود منه بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الأنكار والإهمال.
البحث الثاني : قال أصحابنا قوله : {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } صريح في أن التوبة لا تحصل إلا من خلق الله تعالى ، والعقل أيضاً دليل عليه ، لأن الأصل في التوبة الندم ، والندم لا يحصل باختيار العبد لأن إرادة الفعل والترك إن كانت فعلاً للعبد افتقر في فعلها إلى إرادة أخرى ، وأيضاً فإن الإنسان قد يكون عظيم الرغبة في فعل معين ، ثم يصير عظيم الندامة عليه ، وحال كونه راغباً فيه لا يمكنه دفع تلك الرغبة عن القلب ، وحال صيرورته نادماً عليه لا يمكنه دفع تلك الندامة عن القلب ، فدل هذا على أنه لا قدرة للعبد على تحصل الندامة ، وعلى تحصيل الرغبة ، قالت المعتزلة : المراد من قوله : يتوب الله أنه يقبل توبته.
/ والجواب : أن الصرف عن الظاهر إنما يحسن ، إذا ثبت بالدليل أنه لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره ، أما ههنا ، فالدليل العقلي أنه لا يمكن إجراء اللفظ إلا على ظاهره ، فكيف يحسن التأويل.
البحث الثالث : قوله : {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } يقتضي أن هذه التوبة إنما تحصل في المستقبل. وقوله : {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} دل على أن ذلك الاعتراف حصل في الماضي ، وذلك يدل على أن ذلك الاعتراف ما كان نفس التوبة ، بل كان مقدمة للتوبة ، وأن التوبة إنما تحصل بعدها.
ثم قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف الناس في المراد. فقال بعهضم : هذا راجع إلى هؤلاء الذين تابوا ، وذلك لأنهم بذلوا أموالهم للصدقة ، فأوجب الله تعالى أخذها ، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم لتكون جارية في حقهم مجرى الكفارة ، وهذا قول الحسن ، وكان يقول ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة ، وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر منهم.
والقول الثاني : أن الزكوات كانت واجبة عليهم ، فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم ، وبذلوا الزكاة أمر الله رسوله أن يأخذها منهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
(1/2282)

والقول الثالث : أن هذه الآية كلام مبتدأ ، والمقصود منها إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكوات. وقالوا في الزكاة إنها طهرة ، أما القائلون بالقول الأول : فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسقة ، أما لو حملناها على الزكوات الواجبة ابتداء ، لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ، ولا بما بعدها ، وصارت كلمة أجنبية ، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى ، وأما القائلون بأن المراد منه أخذ الزكوات الواجبة ، قالوا : المناسبة حاصلة أيضاً على هذا التقدير ، وذلك لأنهم لما أظهروا التوبة والندامة ، عن تخلفهم عن غزوة تبوك ، وهم أقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف حبهم للأموال وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق ، فكأنه قيل لهم إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة ، ولم تضايقوا فيها ، لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة والإنابة ، وإلا فهم كاذبون مزورون بهذا الطريق. لكن حمل هذه الآية على التكليف بإخراج الزكوات الواجبة مع أنه يبق نظم هذه الآيات سليماً أولى ، ومما يدل على أن المراد الصدقات / الواجبة. قوله : {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} والمعنى تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات ، وهذا إنما يصح لو قلنا إنه لو لم يأخذ تلك الصدقة لحصل الذنب ، وذلك إنما يصح حصوله في الصدقات الواجبة. وأما القائلون بالقول الأول : فقالوا : إنه عليه الصلاة والسلام لما عذر أولئك التائبين وأطلقهم قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا ، فقال عليه الصلاة والسلام ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلث أموالهم ، وترك الثلثين لأنه تعالى قال : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ولم يقل خذ أموالهم ، وكلمة {مَنْ} تفيد التبعيض. واعلم أن هذه الرواية لا تمنع القول الذي اخترناه كأنه قيل لهم إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على كثير من أحكام الزكاة.
الحكم الأول
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
أن قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} يدل على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال لا كلها إذ مقدار ذلك البعض غير مذكور ههنا بصريح اللفظ ، بل المذكور ههنا قوله : {صَدَقَةً} ومعلوم أنه ليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخد أي جزء كان ، وإن كان في غاية القلة ، مثل الحبة الواحدة من الحنطة أو الجزء الحقير من الذهب ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفية والكمية عندهم ، حتى يكون قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} أمراً بأخذ تلك الصدقة المعلومة ، فحينئذ يزول الإجمال. ومعلوم أن تلك الصدقة ليست إلا الصدقات التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبين كيفيتها ، والصدقة التي بين رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي أنه أمر بأن يؤخذ في خمس وعشرين بنت مخاض ، وفي ستة وثلاثين بنت لبون ، إلى غير ذلك من المراتب ، فكان قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} أمراً بأن يأخذ تلك الأشياء المخصوصة والأعيان المخصوصة ، وظاهر الآية للوجوب ، فدل هذا النص على أن أخذها واجب ، وذلك يدل على أن القيمة لا تكون مجزئة على ما هو قول الشافعي رحمه الله.
الحكم الثاني
أن قوله : {مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يقتضي أن يكون المال مالاً لهم ، ومتى كان الأمر كذلك لم يكن الفقير شريكاً للمالك في النصاب/ وحينئذ يلزم أن تكون الزكاة متعلقة بالذمة. وأن لا يكون لها تعلق ألبتة بالنصاب.
/ وإذا ثبت هذا فنقول : إنه إذا فرط في الزكاة حتى هلك النصاب ، فالذي هلك ما كان محلاً للحق ، بل محل الحق باق كما كان ، فوجب أن يبقى ذلك الوجوب بعد هلاك النصاب كما كان ، وهذا قول الشافعي رحمه الله.
الحكم الثالث
ظاهر هذا العموم يوجب الزكاة في مال المديون ، وفي مال الضمان ، وهو ظاهر.
الحكم الرابع
ظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن الآثام ، فلا تجب إلا حيث تصير طهرة عن الآثام ، وكونها طهرة عن الآثام لا يتقرر إلا حيث يمكن حصول الآثام ، وذلك لا يعقل إلا في حق البالغ ، فوجب أن لا يثبت وجوب الزكاة إلا في حق البالغ كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله ، إلا أن الشافعي رحمه الله يجيب ويقول إن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم ، وأخذ الصدقة من أموالهم يستلزم كونها طهرة ، فلم قلتم إن أخذ الزكاة من أموال الصبي ، والمجنون طهرة لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
المسألة الثالثة : في قوله : {تُطَهِّرُهُمْ} أقوال :
(1/2283)

القول الأول : أن يكون التقدير : خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم.
القول الثاني : أن يكون تطهرهم معلقاً بالصدقة ، والتقدير : خذ من أموالهم صدقة مطهرة ، وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة أوساخ الناس ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ فكان اندفاعها جارياً مجرى التطهير ، والله أعلم.
إن على هذا القول وجب أن نقول : إن قوله : {وَتُزَكِّيهِم} يكون منقطعاً عن الأول ، ويكون التقدير {خُذْ} يا محمد {مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} تلك الصدقة ، وتزكيهم أنت بها.
القول الثالث : أن يجعل التاء في {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم} ضمير المخاطب ، ويكون المعنى : تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة.
المسألة الرابعة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {تُطَهِّرُهُمْ} من أطهره بمعنى طهره بالجزم جواباً للأمر ، ولم يقرأ {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم} إلا بإثبات الياء.
ثم قال تعالى : {وَتُزَكِّيهِم} واعلم أن التزكية لما كانت معطوفة على التطهير وجب حصول المغايرة ، فقيل : التزكية مبالغة في التطهير ، وقيل : التزكية بمعنى الإنماء ، والمعنى : أنه تعالى يجعل / النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سبباً للإنماء ، وقيل : الصدقة تطهرهم عن نجاسة الذنب والمعصية ، والرسول عليه السلام يزكيهم ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء.
ثم قال تعالى : {وَصَلِّ عَلَيْهِم إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {ءَانٍ} بغير واو وفتح التاء على التوحيد ، والمراد منه الجنس ، وكذلك في سورة هود {أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ} بغير واو وعلى التوحيد ، والباقون {صَلَواتَكَ} وكذلك في هود على الجمع ، قال أبو عبيدة : والقراءة الأولى أولى لأن الصلاة أكثر. ألا ترى أنه قال : {وَأَنْ أَقِيمُوا } والصلوات جمع قلة ، تقول ثلاث صلوات وخمس صلوات ، قال أبو حاتم : هذا غلط لأن بناء الصلوات ليس للقلة لأنه تعالى قال : {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّه } (لقمان : 27) ولم يرد القليل وقال : {وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ ءَامِنُونَ} (سبأ : 37) وقال : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ} (الأحزاب : 35).
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
المسألة الثانية : احتج مانعو الزكاة في زمان أبي بكر بهذه الآية ، وقالوا إنه تعالى أمر رسوله بأخذ الصدقات ، ثم أمره بأن يصلي عليهم وذكر أن صلاته سكن لهم ، فكان وجوب الزكاة مشروطاً بحصول ذلك السكن/ ومعلوم أن غير الرسول لا يقوم مقامه في حصول ذلك السكن. فوجب أن لا يجب دفع الزكاة إلى أحد غير الرسول عليه الصلاة والسلام ، واعلم أنه ضعيف لأن سائر الآيات دلت على أن الزكاة إنما وجبت دفعاً لحاجة الفقير كما في قوله : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ} (التوبة : 60) وكما في قوله : {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآاـاِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات : 19).
المسألة الثالثة : لا شك أن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء ، فإذا قلنا صلى فلان على فلان ، أفاد الدعاء بحسب اللغة الأصلية. إلا أنه صار بحسب العرف يفيد أنه قال له اللهم صل عليه ، فلهذا السبب اختلف المفسرون ، فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : معناه ادع لهم ، قال الشافعي رحمه الله : والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول : آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت ، وقال آخرون : معناه أن يقول اللهم صل على فلان ، ونقلوا عن النبي عليه الصلاة والسلام ، أن آل أبي أوفى لما أتوه بالصدقة قال : "اللهم صل على آل أبي أوفى" ونقل القاضي في "تفسيره" عن الكعبي في "تفسيره" أنه قال علي لعمر وهو مسجى عليك الصلاة والسلام ، ومن الناس من أنكر ذلك ، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام.
المسألة الرابعة : أن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه وعليه الصلاة والسلام إلا في حق الرسول ، والشيعة يذكرونه في علي وأولاده ، واحتجوا عليه بأن نص القرآن دل على أن / هذا الذكر جائز في حق من يؤدي الزكاة ، فكيف يمنع ذكره في حق علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ؟
ورأيت بعضهم قال : أليس أن الرجل إذا قال سلام عليكم يقال له وعليكم السلام ؟
فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين ، فكيف يمتنع ذكره في حق آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
قال القاضي : إنه جائز في حق الرسول عليه الصلاة والسلام ، والدليل عليه أنهم قالوا : يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟
فقال على وجه التعليم قولوا : "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" ومعلوم أنه ليس في آل محمد نبي ، فيتناول علياً ذلك كما يجوز مثله في آل إبراهيم. والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
(1/2284)

المسألة الخامسة : كنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض سلام عليكم وهي غير لائقة بهذا الموضع إلا أني رأيت أن أكتبها ههنا لئلا تضيع ، فقلت : إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم. فقوله : سلام عليكم مبتدأ وهو نكرة ، وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز ، قالوا لأن الأخبار إنما يفيد إذا أخير على المعلوم بأمر غير معلوم ، إلا أنهم قالوا : النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى : {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} (البقرة : 221).
إذا عرفت هذا فههنا وجهان : الأول : أن التنكير يدل على الكمال ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ} (البقرة : 96) والمعنى : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة.
إذا ثبت هذا فقوله : "سلام" لفظة منكرة ، فكان المراد منه سلام كامل تام ، وعلى هذا التقدير : فقد صارت هذه النكرة موصوفة ، فصح جعلها مبتدأ ، وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله : "عليكم" والتقدير : سلام كامل تام عليكم. والثاني : أن يجعل قوله : "عليكم" صفة لقوله : "سلام" فيكون مجموع قوله : "سلام عليكم" مبتدأ ويضمر له خبر ، والتقدير : سلام عليكم واقع كائن حاصل ، وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
إذا عرفت هذا فنقول : إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال وعليكم السلام/ والسبب فيه ما قاله سيبويه أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى ، فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل ، وأيضاً فقوله : "وعليكم السلام" يفيد الحصر ، فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصاً بك ومحصوراً فيك امتثالاً لقوله تعالى : {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } (النساء : 86) ومن لطائف قوله : "سلام عليكم" أنها أكمل من قوله : "السلام عليك" وذلك لأن قوله : "سلام عليك" معناه : سلام كامل / تام شريف رفيع عليك. وأما قوله : السلام عليك ، فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام ، وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية ، واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية ، فكان قوله : "سلام عليك" أكمل من قوله : "السلام عليك" ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ "السلام" من الله تعالى ورد على سبيل التنكير ، كقوله : {وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِنَا فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ } (الأنعام : 54) وقوله : {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ا } (النمل : 59) وفي القرآن من هذا الجنس كثير. أما لفظ "السلام" بالألف واللام ، فإنما جاء من الأنبياء عليهم السلام ، كقول موسى عليه السلام : {قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَا وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } (طه : 47) وأما في سورة مريم فلما ذكر الله يحيى عليه السلام قال : {وَسَلَـامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ} (مريم : 15) وهذا السلام من الله تعالى ، وفي قصة عيسى عليه السلام قال : {وَالسَّلَـامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ} (مريم : 33) وهذا كلام عيسى عليه السلام. فثبت بهذه الوجوه أن قوله : "سلام عليك" أكمل من قوله : "السلام عليك" فلهذا السبب اختار الشافعي رحمه الله في قراءة التشهد قوله : سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير ، ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات ، واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق ، أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر ؟
فمنهم من قال : الأصل فيها الشر ، وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان ، بل نزيد ونقول : إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان ، والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنساناً يعدو إليه مع أنه لا يعرفه ، فإن طبعه يحمله على الاحتراز عنه والتأهب لدفعه ، ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر ، وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه ، بل قالوا : هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات ، فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه ، فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف ، لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير ، ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي ، وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين ، فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان نوجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول ، فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية ، علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر.
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
(1/2285)

إذا ثبت هذا فنقول : دفع الشر أهم من جلب الخير ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن دفع الشر يقتضي إبقاء الأصل أهم من تحصيل الزائد. والثاني : أن إيصال الخير إلى كل أحد ليس في الوسع ، أما كف الشر عن كل أحد داخل في الوسع ، لأن الأول فعل والثاني ترك ، وفعل ما لا نهاية له غير ممكن ، أما ترك / ما لا نهاية له ممكن ، والثالث : أنه إذا لم يحصل دفع الشر فقد حصل الشر/ وذلك يوجب حصول الألم والحزن ، وهو في غاية المشقة ، وأما إذا لم يحصل أيضاً إيصال الخير بقي الإنسان لا في الخير ولا في الشر ، بل على السلامة الأصلية ، وتحمل هذه الحالة سهل. فثبت أن دفع الشر أهم من إيصال الخير ، وثبت أن الدنيا دار الشرور والآفات والمحن والبليات ، وثبت أن الحيوان في أصل الخلقة وموجب الفطرة منشأ للشرور ، وإذا وصل إنسان إلى إنسان كان أهم المهمات أن يعرفه أنه منه في السلامة والأمن والأمان ، فلهذا السبب وقع الاصطلاح على أن يقع ابتداء الكلام بذكر السلام ، وهو أن يقول "سلام عليكم" ومن لطائف قولنا "سلام عليكم" أن ظاهره يقتضي إيقاع السلام على جماعة ، والأمر كذلك بحسب العقل ، وبحسب الشرع. أما بحسب الشرع فلأن القرآن دل على أن الإنسان لا يخلو عن جمع من الملائكة يحفظونه ويراقبون أمره ، كما قال تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ} (الانفطار : 10 ، 11) والعقل أيضاً يدل عليه ، وذلك لأن الأرواح البشرية أنواع مختلفة ، فبعضها أرواح خيرة عاقلة ، وبعضها كدرة خبيثة ، وبعضها شهوانية ، وبعضها غضبية ، ولكل طائفة من طوائف الأرواح البشرية السفلية روح علوي قوي يكون كالأب لتلك الأرواح البشرية ، وتكون هذه الأرواح بالنسبة إلى ذلك الروح العلوي كالأبناء بالنسبة إلى الأب ، وذلك الروح العلوي هو الذي يخصها بالإلهامات ، تارة في اليقظة ، وتارة في النوم. وأيضاً الأرواح المفارقة عن أبدانها المشاكلة لهذه الأرواح في الصفات والطبيعة والخاصية. يحصل لها نوع تعلق بهذا البدن بسبب المشاكلة والمجانسة ، وتصير كالمعاونة لهذه الروح على أعمالها إن خيراً فخير وأن شراً فشر. وإذا عرفت هذا السر فالإنسان لا بد وأن يكون مصحوباً بتلك الأرواح المجانسة له ، فقوله : "سلام عليكم" إشارة إلى تسليم هذا الشخص المخصوص على جميع الأرواح الملازمة المصاحبة إياه بسبب المصاحبة الروحانية. ومن لطائف هذا الباب أن الأرواح الإنسانية إذا اتصفت بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة ، وقويت وتجردت ، ثم قوي تعلق بعضها ببعض انعكس أنوارها بعضها على بعض على مثال المرآة المشرقة المتقابلة. فلهذا السبب فإن من أراد أن يقرأ وظيفة على أستاذه فالأدب أن يبدأ بحمد الله والثناء على الملائكة الأنبياء ، ثم يدعو لأستاذه ثم يشرع في القراءة ، والمقصود منها أن يقوي التعلق بين روحه وبين هذه الأرواح المقدسة الطاهرة ، حتى أن بسبب قوة ذلك التعلق ربما ظهر شيء من أنوارها وآثارها في روح هذا الطالب ، فيستقر في عقله من الأنوار الفائضة منها ، ويقوي روحه يمدد ذلك الفيض على إدراك المعارف والعلوم. إذا عرفت هذا فإذا قال لغيره : "سلام عليكم" حدث بينهما تعلق شديد ، وحصل بسبب ذلك التعلق تطابق الأرواح وتعاكس الأنوار ، ولنكتف / بهذا القدر في هذا الباب ، فإنا قد ذكرنا أن هذا الفصل أجنبي عن هذا الكلام. والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
المسألة السادسة : قوله : {إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } قال الواحدي : السكن في اللغة ما سكنت إليه ، والمعنى : أن صلاتك عليهم توجب سكون نفوسهم إليك ، وللمفسرين عبارات : قال ابن عباس رضي الله عنهما : دعاؤك رحمة لهم. وقال قتادة : وقار لهم. وقال الكلبي : طمأنينة لهم ، وقال الفراء : إذا استغفرت لهم سكنت نفوسهم إلى أن الله تعالى قبل توبتهم. وأقول : إن روح محمد عليه السلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة ، فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم ، وانتقلوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية ، وتقريره ما تقدم في المسألة الخامسة.
ثم قال : {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لقولهم : {عَلِيمٌ} بنياتهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 139
141
واعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم الذين تقدم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدقوا وهناك لم يذكر إلا قوله : {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وما كان ذلك صريحاً في قبول التوبة ذكر في هذه الآية أنه يقبل التوبة وأنه يأخذ الصدقات ، والمقصود ترغيب من لم يتب في التوبة ، وترغيب كل العصاة في الطاعة. وفي الآية مسائل :
(1/2286)

المسألة الأولى : قال أبو مسلم قوله : {أَلَمْ يَعْلَمُوا } وإن كان بصيغة الاستفهام ، إلا أن المقصود منه التقرير في النفس ، ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا : أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته. أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره ، فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم.
ثم زاده تأكيداً بقوله : {هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {أَلَمْ يَعْلَمُوا } بالياء والتاء ، وفيه وجهان : الأول : أن يكون المراد من هذه الآية هؤلاء الذين تابوا يعني {أَلَمْ يَعْلَمُوا } قبل أن يتاب عليهم / وتقبل صدقاتهم ، أن الله يقبل التوبة الصحيحة ، ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية ، والثاني : أن يكون المراد من هذه الآية غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما حكم بصحة توبتهم قال : "الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم" فنزلت هذه الآية.
المسألة الثالثة : قوله : {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} في فوائد :
الفائدة الأولى : أنه تعالى سمى نفسه ههنا باسم الله. ثم قال عقيبه : {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} وفيه تنبيه على أن كونه إلهاً يوجب قبول التوبة ، وذلك لأن الإله هو الذي يمتنع تطرق الزيادة والنقصان إليه ، ويمتنع أن يزداد حاله بطاعة المطيعين وأن ينتقص حاله بمعصية المذنبين ، ويمتنع أيضاً أن يكون له شهوة إلى الطاعة ، ونفرة عن المعصية ، حتى يقال : إن نفرته وغضبه يحمله على الانتقام ، بل المقصود من النهي عن المعصية والترغيب في الطاعة ، هو أن كل ما دعا القلب إلى عالم الآخرة ومنازل السعداء ، ونهاه عن الاشتغال بالجسمانيات الباطلة ، فهو العبادة والعمل الحق والطريق الصالح ، وكل ما كان بالضد منه فهو المعصية والعمل الباطل ، فالمذنب لا يضر إلا نفسه ، والمطيع لا ينفع إلا نفسه. كما قال تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) فإن كان الإله رحيماً حكيماً كريماً ولم يكن غضبه على المذنب لأجل أنه تضرر بمعصيته ، فإذا انتقل العبد من المعصية إلى الطاعة كان كرمه كالموجب عليه قبول توبته. فثبت أن الإلهية لما كانت عبارة عن الاستغناء المطلق ، وكان الاستغناء المطلق ممتنع الحصول لغيره ، كان قبول التوبة من الغير كالممتنع إلا لسبب آخر منفصل ، أو لمعارض أو لمباين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 141
الفائدة الثانية : في هذا التخصيص هو أن قبول التوبة ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما إلى الله الذي هو يقبل التوبة تارة ويردها أخرى. فاقصدوا الله بها ووجهوها إليه ، وقيل لهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفى على الله خيراً كان أو شراً.
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : قبول التوبة واجب عقلاً على الله تعالى. وقال أصحابنا : قبول التوبة واجب بحكم الوعد والتفضل والإحسان ، أما عقلاً فلا. وحجة أصحابنا على عدم وجوب قبول التوبة وجوه : الأول : أن الوجوب لا يتقرر معناه ألا إذا كان بحيث لو لم يفعله الفاعل لاستحق الذم ، فلو وجب قبول التوبة على الله تعالى لكان بحيث لو لم يقبلها لصار مستحقاً للذم ، وهذا محال ، لأن من كان كذلك فإنه يكون مستكملاً بفعل القبول ، والمستكمل بالغير ناقص لذاته وذلك في حق الله تعالى محال. الثاني : أن الذم إنما يمنع من الفعل إذا كان بحيث يتأذى عن سماع ذلك الذم وينفر عنه طبعه ، ويظهر له بسببه نقصان حال ، أما من كان متعالياً عن الشهوة والنفرة / والزيادة والنقصان لا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ، الثالث : أنه تعالى تمدح بقبول التوبة في هذه الآية ، ولو كان ذلك واجباً لما تمدح به ، لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم.
المسألة الخامسة : {عَنِ} في قوله تعالى : {عَنْ عِبَادِه } فيه وجهان : الأول : أنه لا فرق بين قوله : {عَنْ عِبَادِه } وبين قوله : من عباده يقال : أخذت هذا منك وأخذت هذا عنك. والثاني : قال القاضي : لعل {عَنِ} أبلغ لأنه ينبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت ، وأقول : إنه لم يبين كيفية دلالة لفظة {عَنِ} على هذا المعنى ، والذي أقوله إن كلمة {عَنِ} وكلمة "من" متقاربتان ، إلا أن كلمة {عَنِ} تفيد البعد ، فإذا قيل : جلس فلان عن يمين الأمير ، أفاد أنه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب من البعد فقوله : {عَنْ عِبَادِه } يفيد أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه صار مبعداً عن قبول الله تعالى له بسبب ذلك الذنب ، ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه ، وبعده عن حضرة نفسه ، فلفظة {عَنِ} كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 141
(1/2287)

المسألة السادسة : قوله : {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ} فيه سؤال : وهو أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الآخذ هو الله وقوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يدل على أن الآخذ هو الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله عليه السلام لمعاذ : "خذها من أغنيائهم" يدل على أن آخذ تلك الصدقات هو معاذ وإذا دفعت الصدقة إلى الفقير فالحس يشهد أن آخذها هو الفقير فكيف الجمع بين هذه الألفاظ ؟
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى لما بين في قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} أن الآخذ هو الرسول ، ثم ذكر في هذه الآية أن الآخذ هو الله تعالى ، كان المقصود منه أن أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله تعالى ، والمقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث إن أخذه للصدقة جار مجرى أن يأخذها الله ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح : 10) وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} (الأحزاب : 57) والمراد منه إيذاء النبي عليه السلام.
والجواب الثاني : أنه أضيف إلى الرسول عليه السلام بمعنى أنه يأمر بأخذها ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى الناس ، وأضيف إلى الفقير بمعنى أنه هو الذي يباشر الأخذ ، ونظيره أنه تعالى أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم} (الأنعام : 60) وأضافه إلى ملك الموت ، وهو قوله تعالى : {قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} (السجدة : 11) وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت ، وهو قوله : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام : 61) فأضيف إلى الله بالخلق وإلى ملك الموت للرياسة في ذلك النوع من العمل ، وإلى أتباع ملك الموت ، يعني أنهم هم الذين يباشرون الأعمال التي عندها يخلق الله الموت ، فكذا ههنا.
/ إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ} تشريف عظيم لهذه الطاعة ، والأخبار فيه كثيرة عن النبي عليه السلام أنه قال : "إن الله يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا طيباً وأنه يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربى أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد" وقال عليه السلام : "والذي نفس محمد بيده ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة فتصل إلى الذي يتصدق بها عليه حتى تقع في كف الله ، ولما روى الحسن هذين الخبرين قال : ويمين الله وكفه وقبضته لا توصف {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) واعلم أن لفظ اليمين والكف من التقديس.
جزء : 16 رقم الصفحة : 141
144
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا الكلام جامع للترغيب والترهيب ، وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله ، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} (مريم : 42) وقلت في بعض المجالس ليس المقصود من هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام القدح في إلهية الصنم ، لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه حجر وخشب وأنه معرض لتصرف المتصرفين ، فمن شاء أحرقه ، ومن شاء كسره ، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقل كونه إلهاً ؟
بل المقصود أن أكثر عبدة الأصنام كانوا في زمان إبراهيم عليه السلام أتباع الفلاسفة القائلين بأن إله العالم موجب بالذات ، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار ، فقال : الموجب بالذات إذا لم يكن عالماً بالخيرات ولم يكن قادراً على الإنفاع والإضرار ، ولا يسمع دعاء المحتاجين ولا يرى تضرع المساكين ، فأي فائدة في عبادته ؟
فكان المقصود من دليل إبراهيم عليه السلام الطعن في قول من يقول : إله العالم موجب بالذات. أما إذا كان فاعلاً مختاراً وكان عالماً بالجزئيات فحينئذ يحصل للعباد الفوائد العظيمة ، وذلك لأن العبد إذا أطاع علم المعبود طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدنيا والآخرة ، وإن عصاه علم المعبود ذلك ، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدنيا والآخرة ، فقوله : {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} ترغيب عظيم للمطيعين ، وترهيب عظيم / للمذنبين ، فكأنه تعالى قال : اجتهدوا في المستقبل ، فإن لعملكم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً. أما حكمه في الدنيا فهو أنه يراه الله ويراه الرسول ويراه المسلمون ، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم والثواب العظيم في الدنيا والآخرة ، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة. فثبت أن هذه اللفظة الواحدة جامعة لجميع ما يحتاج المرء إليه في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده.
المسألة الثانية : دلت الآية على مسائل أصولية.
الحكم الأول
(1/2288)

إنها تدل على كونه تعالى رائياً للمرئيات ، لأن الرؤية المعداة إلى مفعول واحد ، هي الإبصار ، والمعداة إلى مفعولين هي العلم ، كما تقول رأيت زيداً فقيهاً ، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد فتكون بمعنى الإبصار ، وذلك يدل على كونه مبصراً للأشياء كما أن قول إبراهيم عليه السلام : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} (مريم : 42) يدل على كونه تعالى مبصراً ورائياً للأشياء ، ومما يقوي أن الرؤية لا يمكن حملها ههنا على العلم أنه تعالى وصف نفسه بالعلم بعد هذه الآية فقال : {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} ولو كانت هذه الرؤية هي العلم لزم حصول التكرير الخالي عن الفائدة وهو باطل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 144
الحكم الثاني
مذهب أصحابنا أن كل موجود فإنه يصح رؤيته ، واحتجوا عليه بهذه الآية وقالوا : قد دللنا على بأن الرؤية المذكورة في هذه الآية معداة إلى مفعول واحد ، والقوانين اللغوية شاهدة أن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار. فكانت هذه الرؤية معناها الإبصار. ثم إنه تعالى عدى هذه الرؤية إلى عملهم والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب ، كالإرادات والكراهات والأنظار. وإلى أعمال الجوارح ، كالحركات والسكنات. فوجب كونه تعالى رائياً للكل وذلك يدل على أن هذه الأشياء كلها مرئية لله تعالى/ وأما الجبائي فإنه كان يحتج بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسكنات والاجتماعات والافتراقات ، فلما قيل له : إن صح هذا الاستدلال ، فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القلوب ، فأجاب عنه أنه تعالى عطف عليه قوله : {وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ } وهم إنما يرون أفعال الجوارح ، فلما تقيدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حق المعطوف وجب تقييدها بهذا القيد في حق المعطوف عليه ، وهذا بعيد لأن العطف لا يفيد إلا أصل التشريك. فأما التسوية في كل الأمور فغير واجب ، فدخول التخصيص في المعطوف ، لا يوجب دخول التخصيص في المعطوف عليه ، ويمكن / الجواب عن أصل الاستدلال فيقال : رؤية الله تعالى حاصلة في الحال. والمعنى الذي يدل عليه لفظ الآية وهو قوله : {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} أمر غير حاصل في الحال ، لأن السين تختص بالاستقبال. فثبت أن المراد منه الجزاء على الأعمال. فقوله : {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} أي فسيوصل لكم جزاء أعمالكم. ولمجيب أن يجيب عنه ، بأن إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله : {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فلو حملنا هذه الرؤية على إيصال الجزاء لزم التكرار ، وأنه غير جائز.
المسألة الثالثة : في قوله : {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ } سؤال : وهو أن عملهم لا يراه كل أحد ، فما معنى هذا الكلام ؟
والجواب : معناه وصول خبر ذلك العمل إلى الكل. قال عليه السلام "لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان".
فإن قيل : فما الفائدة في ذكر الرسول والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين ؟
قلنا : فيه وجهان :
جزء : 16 رقم الصفحة : 144
الوجه الأول : أن أجدر ما يدعو المرء إلى العمل الصالح ما يحصل له من المدح والتعظيم والعز الذي يلحقه عند ذلك ، فإذا علم أنه إذا فعل ذلك الفعل عظمه الرسول والمؤمنون ، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه ، ومما ينبه على هذه الدقيقة أنه ذكر رؤية الله تعالى أولاً ، ثم ذكر عقيبها رؤية الرسول عليه السلام والمؤمنين ، فكأنه قيل : إن كنت من المحقين المحققين في عبودية الحق ، فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى ، وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق فاعمل الأعمال الصالحة لتفوز بثناء الخلق ، وهو الرسول والمؤمنون.
الوجه الثاني : في الجواب ما ذكره أبو مسلم : أن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة كما قال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) الآية ، والرسول شهيد الأمة ، كما قال : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) فثبت أن الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية ، فذكر الله أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم ، والمقصود التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين ، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد.
ثم قال تعالى : {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} وفيه مسائل :
(1/2289)

المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الغيب ما يسرونه ، والشهادة ما يظهرونه. وأقول لا يبعد أن يكون الغيب ما حصل في قلوبهم من الدواعي والصوارف ، والشهادة الأعمال / التي تظهر على جوارحهم ، وأقول أيضاً مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات ، وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول. فوجب كون العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشهادة ، فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة.
المسألة الثانية : إن حملنا قوله تعالى : {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} على الرؤية ، فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله : {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله : {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} جارياً مجرى التفسير لقوله : {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} معناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا ، أو بإظهار أضدادها. وقوله : {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} معناه : ما يظره في القيامة من حال الثواب والعقاب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 144
ثم قال : {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها ، لأن المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف. ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم ، فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر ، وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر. وقال حكماء الإسلام ، المراد من قوله تعالى : {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} الإشارة إلى الثواب الروحاني ، وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعاً من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه ، فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملاً لتلك المشاق ، عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها ، وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة.
وأما قوله : {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة. ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي ، فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه ، قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته ، وهذا نوع من العذاب الروحاني ، وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذراً منه. والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني نسأل الله العصمة منه ومن سائر العذاب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 144
146
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة ونافع والكسائي وحفص عن عاصم مرجون بغير همز والباقون بالهمز وهما لغتان. أرجأت الأمر وأرجيته بالهمز وتركه ، إذا أخرته. وسميت المرجئة بهذا الاسم لأنهم لا يجزمون القول بمغفرة التائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله تعالى. وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام :
القسم الأول : المنافقون الذين مردوا على النفاق.
القسم الثاني : التائبون وهم المرادون بقوله : {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} وبين تعالى أنه قبل توبتهم.
(1/2290)

والقسم الثالث : الذين بقوا موقوفين وهم المذكورون في هذه الآية ، والفرق بين القسم الثاني وبين هذا الثالث ، أو أولئك سارعوا إلى التوبة وهؤلاء لم يسارعوا إليها. قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، فقال كعب : أنا أفره أهل المدينة جملاً ، فمتى شئت لحقت الرسول ، فتأخر أياماً وأيس بعدها من اللحوق به فندم على صنيعه وكذلك صاحباه ، فلما قدم رسول الله قيل لكعب اعتذر إليه من صنيعك ، فقال : لا والله حتى تنزل توبتي ، وأما صاحباه فاعتذرا إليه عليه السلام فقال : "ما خلفكم عني" فقالا : لا عذر لنا إلا الخطيئة فنزل قوله تعالى : {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ} فوقفهم الرسول بعد نزول هذه الآية ونهى الناس عن مجالستهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهاليهن ، فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعام فإنه شيخ كبير ، فأذن لها في ذلك خاصة ، وجاء رسول من الشأم إلى كعب يرغبه في اللحاق بهم ، فقال كعب : بلغ من خطيئتي أن طمع في المشركون ، قال : فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت. وبكى هلال بن أمية حتى خيف على بصره ، فلما مضى خمسون يوماً نزلت توبتهم بقوله : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ} (التوبة : 117) وبقوله تعالى : {وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى ا إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ} (التوبة : 118) الآية. وقال الحسن : يعني بقوله : {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ} قوماً من المنافقين أرجأهم رسول الله عن حضرته. وقال الأصم : يعني المنافقين وهو مثل قوله : {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاعْرَابِ مُنَـافِقُونَ } أرجأهم الله فلم يخبر عنهم ما علمه منهم وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا أن ينزل فيهم قرآناً. فقال الله تعالى : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وفيه مسائل :
جزء : 16 رقم الصفحة : 146
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن كلمة "إما" و"أما" للشك ، والله تعالى منزه عنه. وجوابه المراد / منه ليكن أمرهم على الخوف والرجاء ، فجعل أناس يقولون هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذراً ، وآخرون يقولون عسى الله أن يغفر لهم.
المسألة الثانية : لا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو وتخلفهم عن الرسول عليه اسلام ، ثم إنه تعالى لم يحكم بكونهم تائبين بل قال : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وذلك يدل على أن الندم وحده لا يكون كافياً في صحة التوبة.
فإن قيل : فما تلك الشرائط ؟
قلنا : لعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة ، وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة ولا مقبولة ، فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم ، فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية/ وعند ذلك صحت توبتهم.
المسألة الثالثة : احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يعفو عن غير التائب ، وذلك لأنه قال في حق هؤلاء المذنبين {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وذلك يدل على أنه لا حكم إلا أحد هذين الأمرين ، وهو إما التعذيب وإما التوبة ، وأما العفو عن الذنب من غير التوبة ، فهو قسم ثالث. فلما أهمل الله تعالى ذكره دل على أنه باطل وغير معتبر.
والجواب : أنا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين ، بل نقطع بحصول العفو في الجملة ، وأما في حق كل واحد بعينه ، فذلك مشكوك فيه. ألا ترى أنه تعالى قال : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } فقطع بغفران ما سوى الشرك ، لكن لا في حق كل أحد ، بل في حق من يشاء. فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء ، عدم العفو على الإطلاق. وأيضاً فعدم الذكر لا يدل على العدم ، ألا ترى أنه تعالى قال : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} (عبس : 38 ، 39) وهم المؤمنون {وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (عبس : 40 ، 41) فههنا المذكورون ، إما المؤمنون ، وإما الكافرون ، ثم إن عدم ذكر القسم الثالث ، لم يدل عند الجبائي على نفيه ، فكذا ههنا.
وأما قوله تعالى : {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي {عَلِيمٌ} بما في قلوب هؤلاء المؤمنين {حَكِيمٌ} فيما يحكم فيهم ويقضي عليهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 146
147
اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف المنافقين وطرائقهم المختلفة قال : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر {الَّذِينَ اتَّخَذُوا } بغير واو ، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة ، والباقون بالواو ، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراف. فالأول : على أنه بدل من قوله : {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ} والثاني أن يكون التقدير : ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً.
(1/2291)

المسألة الثانية : قال الواحدي : قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير رضي الله عنهم : الذين اتخذوا مسجداً ضراراً كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً يضارون به مسجد قباء ، وأقول إنه تعالى وصفه بصفات أربعة :
الصفة الأولى : ضراراً ، والضرار محاولة الضر ، كما أن الشقاق محاولة ما يشق. قال الزجاج : وانتصب قوله : {ضِرَارًا} لأنه مفعول له ، والمعنى : اتخذوه للضرار ولسائر الأمور المذكورة بعده ، فلما حذفت اللام اقتضاه الفعل فنصب. قال وجائز أن يكون مصدراً محمولاً على المعنى ، والتقدير : اتخذوا مسجداً ضروا به ضراراً.
والصفة الثانية : قوله : {وَكُفْرًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد به ضرراً للمؤمنين وكفراً بالنبي عليه السلام ، وبما جاء به. وقال غيره اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبي عليه السلام والإسلام.
الصفة الثالثة : قوله : {وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين ، وذلك لأن المنافقين قالوا نبني مسجداً فنصلي فيه ، ولا نصلي خلف محمد ، فإن أتانا فيه صلينا معه. وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده ، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة ، وبطلان الألفة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 147
والصفة الرابعة : قوله : {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَه } قالوا : المراد أبو عامر الراهب ، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة ، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفاسق ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وترهب وطلب العلم ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاداه ، لأنه زالت رياسته / وقال : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشأم ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا لي مسجداً فإن ذاهب إلى قيصر ، وآت من عنده بجند ، فأخرج محمداً وأصحابه. فبنوا هذا المسجد ، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلى بهم في ذلك المسجد. قال الزجاج : الإرصاد الانتظار.وقال ابن قتيبة : الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون : الإرصاد ، الأعداد. قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر : 14) وقوله : {مِن قَبْلُ } يعني من قبل بناء مسجد الضرار ، ثم إنه تعالى لما وصف هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال : {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلا الْحُسْنَى } أي ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز ، عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم . وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} والمعنى : أن الله تعالى أطلع الرسول على أنهم حلفوا كاذبين.
واعلم أن قوله : {وَالَّذِينَ} محله الرفع على الابتداء وخبره محذوف ، أي وممن ذكرنا الذين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 147
150
/ قال المفسرون : إن المنافقين لما بنوا ذلك المسجد لتلك الأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك ، قالوا : يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة الممطرة والشاتية ، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال عليه السلام : إني على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه ، فلما رجع من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية ، فدعا بعض القوم وقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدموه وخربوه ، ففعلوا ذلك وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة. وقال الحسن : هم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبداً.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {لا تَقُمْ فِيهِ} نهى له عليه السلام عن أن يقوم فيه. قال ابن جريج : فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة ، فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد ، وانهار في يوم الاثنين. ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي ، وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنياً على التقوى من أول يوم ، وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى ، كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل : كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
(1/2292)

قلنا : التعليل وقع بمجموع الأمرين ، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد الأربعة المذكورة ، ومسجد التقوى مشتملاً على الخيرات الكثيرة. ومن الروافض من يقول : بين الله تعالى أن المسجد الذي بني من أول الأمر على التقوى أحق بالقيام فيه من المسجد الذي لا يكون كذلك. وثبت أن علياً ما كفر بالله طرفة عين ، فوجب أن يكون أولى بالقيام بالإمامة ممن كفر بالله في أول أمره. وجوابنا أن التعليل وقع بمجموع الأمور المذكورة ، فزال هذا السؤال. واختلفوا في أن مسجد التقوى ما هو ؟
قيل : إنه مسجد قباء ، وكان عليه السلام يأتيه في كل سنة فيصلي فيه ، والأكثرون أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقال سعيد بن المسيب : المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول عليه السلام ، وذكر أن الرجلين اختلفا فيه ، فقال أحدهما : مسجد الرسول ، وقال آخر : قباء. فسألاه عليه السلام فقال هو مسجدي هذا. وقال القاضي : لا يمنع دخولهما جميعاً تحت هذا الذكر لأن قوله : {لَّمَسْجِدٌ أُسِّـاسَ عَلَى التَّقْوَى } هو كقول القائل ، لرجل صالح أحق أن تجالسه. فلا يكون ذلك مقصوراً على واحد.
جزء : 16 رقم الصفحة : 150
فإن قيل : لم قال أحق أن تقوم فيه ، مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر ؟
قلنا : المعنى أنه لو كان ذلك جائزاً لكان هذا أولى ، للسبب المذكور.
/ ثم قال تعالى : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وفيه مباحث :
البحث الأول : أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين : أحدهما : أنه بني على التقوى/ وهو الذي تقدم تفسيره. والثاني : إن فيه رجالاً يحبون أن يتطهروا ، وفي تفسير هذه الطهارة قولان : الأول : المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي ، وهذا القول متعين لوجوه : أولها : أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه. والثاني : أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين ، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم. وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي. والثالث : أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي ، أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي ، ولم تحصل نظافة الظاهر ، كأن طهارة الباطن لها أثر ، فكان طهارة الباطن أولى. الرابع : روى صاحب "الكشاف" : أنه لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء ، فإذا الأنصار جلوس ، فقال : "أمؤمنون أنتم" فسكت القوم ثم أعادها. فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ؛ فقال عليه السلام : "أترضون بالقضاء" قالوا نعم. قال : "أتصبرون على البلاء" قالوا : نعم ، قال : "أتشكرون في الرخاء" قالوا : نعم ، قال عليه السلام : "مؤمنون ورب الكعبة" ثم قال : "يا معشر الأنصار إن الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء" قالوا : نتبع الماء الحجر. فقرأ النبي عليه السلام : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } الآية.
والقول الثاني : أن المراد منه الطهارة بالماء بعد الحجر. وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار.
والقول الثالث : أنه محمول على كلا الأمرين ، وفيه سؤال : وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية ، ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب ، واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً لا يجوز.
والجواب : أن لفظ النجس اسم للمستقذر ، وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير ، فإنه يزول السؤال ، ثم إنه تعالى أعاد السبب الأول ، وهو كون المسجد مبنياً على التقوى ، فقال : {أَفَمَنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَه عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} وفيه مباحث.
جزء : 16 رقم الصفحة : 150
البحث الأول : البنيان مصدر كالغفران ، والمراد ههنا المبني ، وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور ، يقال هذا ضرب الأمير ونسج زيد ، والمراد مضروبه ومنسوجه ، وقال الواحدي : يجوز أن يكون لبيان جمع بنيانة إذا جعلته اسماً ، لأنهم قالوا بنيانة في الواحد.
/ البحث الثاني : قرأ نافع وابن عامر {أَفَمَنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَه } على فعل ما لم يسم فاعله ، وذلك الفاعل هو الباني والمؤسس ، أما قوله : {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} أي للخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه ، وذلك لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا عند هذه الرهبة والرغبة ، وحاصل الكلام أن الباني لما بنى ذلك البناء لوجه الله تعالى وللرهبة من عقابه ، والرغبة في ثوابه ، كان ذلك البناء أفضل وأكمل من البناء الذي بناه الباني لداعية الكفر بالله والإضرار بعباد الله ، أما قوله : {مَّنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَه عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِه فِى نَارِ جَهَنَّمَ } ففيه مباحث :
(1/2293)

البحث الأول : قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم {جُرُفٍ} ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان ، جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق.
البحث الثاني : قال أبو عبيدة : الشفا الشفير ، وشفا الشيء حرفه ، ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه ، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة. فذلك الشيء هو الجرف ، وقوله : {هَارٍ} قال الليث : الهور مصدر هار الجرف يهور ، إذا انصدع من خلفه ، وهو ثابت بعد في مكانه ، وهو جرف هار هائر ، فإذا سقط فقد انهار وتهور.
إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير ، أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء ، وهو الباطل ؟
والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} كان مشرفاً على السقوط ، ولكونه على طرف جهنم ، كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم ، ولا نرى في العالم مثالاً أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر ، فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء ، وكان الثاني خسيساً واجب الهدم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 150
ثم قال تعالى : {لا يَزَالُ بُنْيَـانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} والمعنى : أن بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم ، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً للريبة. وفي كونه سبباً للريبة وجوه : الأول : أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار ، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته. الثاني : أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد ، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات ، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه / أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم ؟
الثالث : أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد ، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه ؟
الرابع : بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية ؟
أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد ، والصحيح هو الوجه الأول.
ثم قال : {إِلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة {أَن تَقَطَّعَ} بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تتقطع ، فحذفت إحدى التاءين ، والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على ما لم يسم فاعله ، وعن ابن كثير {تَقَطَّعَ} بفتح الطاء وتسكين القاف {قُلُوبِهِمْ} بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع ، وقوله : {تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي تجعل قلوبهم قطعاً ، وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالحزن والبكاء ، فحينئذ تزول تلك الريبة. والمقصود أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على هذا النفاق. وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة ، وقرأ الحسن {إِلَى ا أَن} وفي قراءة عبد الله {أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } وعن طلحة {أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلّم أو كل مخاطب.
ثم قال : {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} والمعنى : عليم بأحوالهم ، حكيم في الأحكام التي يحكم بها عليهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 150
152
اعلم أنه تعالى لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، فلما / تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم ، وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القرطبي : لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً ، قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال : "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا : فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا ؟
قال : "الجنة" قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت هذه الآية. قال مجاهد والحسن ومقاتل : ثامنهم فأغلى ثمنهم.
(1/2294)

المسألة الثانية : قال أهل المعاني : لا يجوز أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك ، ولهذا قال الحسن : اشترى أنفساً هو خلقها ، وأموالاً هو رزقها ، لكن هذا ذكره تعالى لحسن التلطف في الدعاء إلى الطاعة ، وحقيقة هذا ، أن المؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتل ، فتذهب روحه ، وينفق ماله في سبيل الله ، أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل. فجعل هذا استبدالاً وشراء. هذا معنى قوله : {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } أي بالجنة ، وكذا قراءة عمر بن الخطاب والأعمش. قال الحسن : اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة ، بايع الله بها كل مؤمن ، والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة. وقال الصادق عليه الصلاة والسلام : "ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها" وقوله : {وَأَمْوَالَهُم} يريد التي ينفقونها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم ، وفي الآية لطائف :
جزء : 16 رقم الصفحة : 152
اللطيفة الأولى المشتري لا بد له من بائع ، وههنا البائع هو الله والمشتري هو الله ، وهذا إنما يصح في حق القيم بأمر الطفل الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء ، وصحة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة العظيمة ، فهذا المثل جار مجرى التنبيه على كون العبد شبيهاً بالطفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه ، وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه بشرط الغبطة التامة ، والمقصود منه التنبيه على السهولة والمسامحة ، والعفو عن الذنوب ، والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات.
واللطيفة الثانية : أنه تعالى أضاف الأنفس والأموال إليهم فوجب أن كون الأنفس والأموال مضافة إليهم يوجب أمرين مغايرين لهم ، والأمر في نفسه كذلك ، لأن الأنسان عبارة عن الجوهر الأصلي الباقي ، وهذا البدن يجري مجرى الآلة والأدوات والمركب ، وكذلك المال خلق وسيلة إلى رعاية مصالح هذا المركب ، فالحق سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب وهذا المال / بالجنة ، وهو التحقيق. لأن الإنسان ما دام يبقى متعلق القلب بمصالح عالم الجسم المتغير المتبدل ، وهو البدن والمال ، امتنع وصوله إلى السعادات العالية والدرجات الشريفة ، فإذا انقطع التفاته إليها وبلغ ذلك الانقطاع إلى أن عرض البدن للقتل/ والمال للإنفاق في طلب رضوان الله ، فقد بلغ إلى حيث رجح الهدى على الهوى ، والمولى على الدنيا ، والآخرة على الأولى ، فعند هذا يكون من السعداء الأبرار والأفاضل الأخيار ، فالبائع هو جوهر الروح القدسية والمشتري هو الله ، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني ، والعوض الثاني الجنة الباقية والسعادات الدائمة ، فالربح حاصل والهم والغم زائل ، ولهذا قال : {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِه } .
جزء : 16 رقم الصفحة : 152
(1/2295)

ثم قال : {يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } قال صاحب "الكشاف" : قوله : {يُقَـاتِلُونَ} فيه معنى الأمر كقوله : {وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } وقيل جعل {يُقَـاتِلُونَ} كالتفسير لتلك المبايعة ، وكالأمر اللازم لها. قرأ حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل وهو كونهم مقتولين على كونهم قاتلين ، والباقون بتقديم الفاعل على المفعول. أما تقديم الفاعل على المفعول فظاهر ، لأن المعنى أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين. وأما تقديم المفعول على الفاعل ، فالمعنى : أن طائفة كبيرة من المسلمين ، وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة ، بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء. قاتلين لهم بقدر الإمكان ، وهو كقوله : {فَمَا وَهَنُوا لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (آل عمران : 146) أي ما وهن من بقي منهم. واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا ؟
فمنهم من قال : هو مختص بالجهاد بالمقاتلة ، لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله : {يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } ومنهم من قال : كل أنواع الجهاد داخل فيه ، بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد الله بن رواحة. وأيضاً فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثاراً من القتال ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه : "لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس" ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة. وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة. والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم ، ولا فساد في ذاته ، إنما الفساد في الصفة القائمة به ، وهي الكفر والجهل. ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة ، مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى. ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه ، لا جرم حث الشرع على إبقائه ، فقال : "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة ، وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة ، والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات ، فكان المقام الأول أولى وأفضل.
/
جزء : 16 رقم الصفحة : 152
ثم قال تعالى : {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ وَالْقُرْءَانِ } قال الزجاج : نصب {وَعْدًا} على المعنى ، لأن معنى قوله : {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } أنه وعدهم الجنة ، فكان وعداً مصدراً مؤكداً. واختلفوا في أن هذا الذي حصل في الكتب ما هو ؟
فالقول الأول : أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت ، فقد أثبته الله في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن.
والقول الثاني : المراد أن الله تعالى بين في التوراة والإنجيل أنه اشترى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، كما بين في القرآن.
والقول الثالث : أن الأمر بالقتال والجهاد هو موجود في جميع الشرائع.
ثم قال تعالى : {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه مِنَ اللَّه } والمعنى : أن نقض العهد كذب. وأيضاً أنه مكر وخديعة ، وكل ذلك من القبائح ، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها ، فالغني عن كل الحاجات أولى أن يكون منزهاً عنها. وقوله : {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه } استفهام بمعنى الإنكار ، أي لا أحد أوفى بما وعد من الله.
(1/2296)

ثم قال : {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِه ا وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات : فأولها : قوله : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة ، وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد. والثاني : أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء ، وذلك حق مؤكد. وثالثها : قوله : {وَعْدًا} ووعد الله حق. ورابعها : قوله : {عَلَيْهِ} وكلمة "على" للوجوب. وخامسها : قوله : {حَقًّا} وهو التأكيد للتحقيق. وسادسها : قوله : {فِي التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ وَالْقُرْءَانِ } وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة. وسابعها : قوله : {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه مِنَ اللَّه } وهو غاية في التأكيد. وثامنها : قوله : {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِه } وهو أيضاً مبالغة في التأكيد. وتاسعها : قوله : {وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ} وعاشرها : قوله : {الْعَظِيمُ} فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق. ونختم الآية بخاتمة وهي أن أبا القاسم البلخي استدل بهذه الآية على أنه لا بد من حصول الأعواض عن آلام الأطفال والبهائم. قال لأن الآية دلت على أنه لا يجوز إيصال ألم القتل وأخذ الأموال إلى البالغين إلا بثمن هو الجنة ، فلا جرم قال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } فوجب أن يكون الحال كذلك في الأطفال والبهائم ، ولو جاز عليهم التمني لتمنوا أن آلامهم تتضاعف حتى تحصل لهم تلك / الأعواض الرفيعة الشريفة ، ونحن نقول : لا ننكر حصول الخيرات للأطفال والحيوانات في مقابلة هذه الآلام ، وإنما الخلاف وقع في أن ذلك العوض عندنا غير واجب ، وعندكم واجب ، والآية ساكتة عن بيان الوجوب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 152
157
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة. وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في رفع قوله : {التَّـا ئِبُونَ الْعَـابِدُونَ الْحَـامِدُونَ السَّـا اـاِحُونَ} وجوه : الأول : أنه رفع على المدح ، والتقدير : هم التائبون ، يعني المؤمنين المذكورين في قوله : {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} هم التائبون. الثاني : قال الزجاج : لا يبعد أن يكون قوله : {التَّـا ئِبُونَ} مبتدأ ، وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً ، وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى : {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وهذا وجه حسن. لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلاً لجميع المؤمنين ، وإذا جعلنا قوله : {التَّـا ئِبُونَ} تابعاً لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلاً للمجاهدين. الثالث : {التَّـا ئِبُونَ} مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله : {يُقَـاتِلُونَ} الرابع : قوله : {التَّـا ئِبُونَ} مبتدأ ، وقوله : {الْعَـابِدُونَ} إلى آخر الآية خبر بعد خبر ، أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. وقرأ أبي وعبد الله بالياء إلى قوله : {وَالصَّـا ئِمَـاتِ وَالْحَـافِظِينَ} وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون ذلك نصباً على المدح. الثاني : أن يكون جراً ، صفة للمؤمنين.
المسألة الثانية : في تفسير هذه الصفات التسعة.
فالصفة الأولى : قوله : {التَّـا ئِبُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنه : التائبون من الشرك. وقال الحسن : التائبون من الشرك والنفاق. وقال الأصوليون : التائبون من كل معصية ، وهذا أولى ، لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر ، وقد تكون من المعصية. وقوله : {التَّـا ئِبُونَ} صيغة عموم محلاة بالألف واللام ، فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم.
/
جزء : 16 رقم الصفحة : 157
واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة : {فَتَلَقَّى ا ءَادَمُ مِن رَّبِّه كَلِمَـاتٍ فَتَابَ عَلَيْه } (البقرة : 37).
واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة : أولها : احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه ، وثانيها : ندمه على ما مضى ، وثالثها : عزمه على الترك في المستقبل ، ورابعها : أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته ، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض ، فهو ليس من التائبين.
(1/2297)

والصفة الثانية : قوله تعالى : {الْعَـابِدُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة ، وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم ، ولابن عباس رضي الله عنهما : أن يقول إن معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب ، وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية. قال الحسن : {الْعَـابِدُونَ} هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء. وقال قتادة : قوم أخدوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
الصفة الثالثة : قوله : {الْحَـامِدُونَ} وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم/ وقد ذكرنا التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون الله قبل خلق الدنيا ، وهم الملائكة ، لأنه تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك ، وهو صفة الذين يعبدون الله بعد خراب الدنيا. لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى ، وهو {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } (يونس : 10) وهم المرادون بقوله : .
الصفة الرابعة : قوله : {الْحَـامِدُونَ السَّـا اـاِحُونَ} وفيه أقوال :
القول الأول : قال عامة المفسرين هم الصائمون. وقال ابن عباس : كل ما ذكر في القرآن من السياحة ، فهو الصيام. وقال النبي عليه الصلاة والسلام : "سياحة أمتي الصيام" وعن الحسن : أن هذا صوم الفرض. وقيل هم الذين يديمون الصيام ، وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم ، وجهان : الأول : قال الأزهري : قيل للصائم سائح ، لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه ، كان ممسكاً عن الأكل ، والصائم يمسك عن الأكل ، فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً. الثاني : أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة ، وترك المشتهي ، وهو الأكل والشرب والوقاع ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات ، انفتحت عليه / أبواب الحكمة ، وتجلت له أنوار عالم الجلال ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "من أخلص لله أربعين صباحاً ، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام ، ومن درجة إلى درجة ، فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات.
جزء : 16 رقم الصفحة : 157
والقول الثاني : أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم ، وهو قول عكرمة ، وعن وهب بن منبه : كانت السياحة في بني إسرائيل ، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئاً ، فقال : يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي ، فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس ، فلا بد له من الصبر عليها ، وقد ينقطع زاده ، فيحتاج إلى التوكل على الله ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة ، وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيستحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة ، فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته ، وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين.
والقول الثالث : قال أبو مسلم : {السَّـا اـاِحُونَ} السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً ، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات.
الصفة الخامسة والسادسة : قوله : {الراَّكِعُونَ السَّـاجِدُونَ} والمراد منه إقامة الصلوات. قال القاضي : وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة ، وهو قيامه وقعوده. والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها. فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة : قوله : {الامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف/ والنهي عن المنكر ؛ كتاب كبير مذكور في علم الأصول. فلا يمكن إيراده ههنا. وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد ، لأن رأس المعروف الإيمان بالله ، ورأس المنكر الكفر بالله. / والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان ، والزجر عن الكفر. والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما دخول الواو في قوله : {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} ففيه وجوه :
(1/2298)

جزء : 16 رقم الصفحة : 157
الوجه الأول : أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى. قال تعالى : {غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ } (غافر : 3) فجاء بعض بالواو ، وبعض بغير الواو.
الوجه الثاني : أن المقصود من هذه الآيات الترغيب في الجهاد فالله سبحانه ذكر الصفات الستة ، ثم قال : {الامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} والتقدير : أن الموصوفين بالصفات الستة ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه ؛ هو الجهاد ، فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا.
الوجه الثالث : في إدخال الواو على هؤلاء ، وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه ، ولا تعلق لشيء منها بالغير. أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير ، وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة ، وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي وربما حاول قتله ، فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات ، فأدخل عليها الواو تنبيهاً على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة.
الصفة التاسعة : قوله : {وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّه } والمقصود أن تكاليف الله كثيرة وهي محصورة في نوعين : أحدهما : ما يتعلق بالعبادات. والثاني : ما يتعلق بالمعاملات. أما العبادات فهي التي أمر الله بها لا لمصلحة مرعية في الدنيا ، بل لمصالح مرعية في الدين ؛ وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذور وسائر أعمال البر. وأما المعاملات فهي : إما لجلب المنافع وإما لدفع المضار.
جزء : 16 رقم الصفحة : 157
والقسم الأول : وهو ما يتعلق بجلب المنافع : فتلك المنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية ؛ أما المنافع المقصودة بالأصالة ، فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواس الخمسة : فأولها : المذوقات : ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه. ولما كان الطعام قد يكون نباتاً ، وقد يكون حيواناً ، والحيوان لا يمكن أكله إلا بعد الذبح ، والله تعالى شرط في الذبح شرائط مخصوصة ، فلأجل هذا دخل في الفقه كتاب الصيد والذبائح ، وكتاب الضحايا. وثانيها : الملموسات : ويدخل فيها باب أحكام الوقاع من جملتها ما يفيد حله ، وهو باب النكاح ، ومنه أيضاً باب الرضاع ، ومنها ما هو بحث عن لوازم النكاح مثل المهر والنفقة والمسكن ويتصل به أحوال القسم والنشوز ، ومنها ما هو بحث عن الأسباب المزيلة للنكاح ، ويدخل فيه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء والظهار / واللعان. ومن الأحكام المتعلقة بالملموسات : البحث عما يحل لبسه وعما لا يحل ، وعما يحل استعماله وعما لا يحل استعماله ؛ وما لا يحل. كاستعماله الأواني الذهبية والفضية ؛ وطال كلام الفقهاء في هذا الباب. وثالثها : المبصرات وهي باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل. ورابعها : المسموعات : وهو باب هل يحل سماعه أم لا ؟
وخامسها : المشمومات ، وليس للفقهاء فيها مجال. وأما المنافع المقصودة بالتبع فهي الأموال ، والبحث عنها من ثلاثة أوجه : الأول : الأسباب المفيدة للملك وهي إما البيع أو غيره. أما البيع فهو إما بيع الأعيان ، أو بيع المنافع وبيع الأعيان. فأما أن يكون بيع العين بالعين ، أو بيع الدين بالعين وهو السلم ، أو بيع العين بالدين كما إذا اشترى شيئاً في الذمة/ أو بيع الدين بالدين. وقيل : إنه لا يجوز. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالىء بالكالىء ، ولكن حصل له مثال في الشرع وهو تقاضي الدينين. وأما بيع المنفعة فيدخل فيه كتاب الإجارة ، وكتاب الجعالة ، وكتاب عقد المضاربة. وأما سائر الأسباب الموجبة للملك فهي الإرث ، والهبة ، والوصية ، وإحياء الموات ، والالتقاط ، وأخد الفيء والغنائم ، وأخذ الزكوات وغيرها. ولا طريق إلى ضبط أسباب الملك إلا بالاستقراء.
والنوع الثاني : من مباحث الفقهاء الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف في الشيء ، وهو باب الوكالة والوديعة وغيرهما.
جزء : 16 رقم الصفحة : 157
(1/2299)

والنوع الثالث : الأسباب التي تمنع المالك من التصرف في ملك نفسه ، وهو الرهن والتفليس والإجارة وغيرها ، فهذا ضبط أقسام تكاليف الله في باب جلب المنافع. وأما تكاليف الله تعالى في باب دفع المضار فنقول : أقسام المضار خمسة لأن المضرة إما أن تحصل في النفوس أو في الأموال أو في الأديان أو في الأنساب أو في العقول ، أما المضار الحاصلة في النفوس فهي إما أن تحصل في كل النفس ، والحكم فيه إما القصاص أو الدية أو الكفارة ، وإما في بعض من أبعاض البدن كقطع اليد وغيرها ، والواجب فيه إما القصاص أو الدية أو الإرش ، وأما المضار الحاصلة في الأموال ، فذلك الضرر إما أن يحصل على سبيل الإعلان والإظهار ، وهو كتاب الغصب أو على سبيل الخفية وهو كتاب السرقة ، وأما المضار الحاصلة في الأديان ، فهي إما الكفر وإما البدعة ، أما الكفر فيدخل فيه أحكام المرتدين ، وليس للفقهاء كتاب مقرر في أحكام المبتدعين وأما المضار الحاصلة في الأنساب فيتصل به تحريم الزنا واللواط وبيان العقوبة المشروعة فيهما ، ويدخل فيه أيضاً باب حد القذف وباب اللعان ، وههنا بحث آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه ، لأنه ربما كان ضعيفاً فلا يلتفت إليه خصمه ، فلهذا السر / نصب الله تعالى الإمام لتنفيد الأحكام ، ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير مقبولاً على الغير إلا بالحجة ، فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة ، ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلا بد من باب مشتمل عليها ، فهذا ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ، ولما كانت كثيرة والله تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل ، وتارة بأن أمر الرسول عليه السلام حتى يبينها للمكلفين ، لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية ، فقال : {وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّه } وهو يتناول جملة هذه التكاليف.
واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك ، فإن أعمال المكلفين قسمان : أعمال الجوارح وأعمال القلوب ، وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح ، فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها ألبتة ولم ينصفوا لها كتباً وأبواباً وفصولاً. ولم يبحثوا عن دقائقها ، ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى. لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه : {وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّه } متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 157
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة : {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِه } فذكر هذه الصفات التسعة ، ثم ذكر عقيبها قوله : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} تنبيهاً على أن البشارة المذكورة في قوله : {فَاسْتَبْشِرُوا } لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات.
فإن قيل : ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ، ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة ؟
قلنا : لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله ، والسياحة لطلب العلم ، والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته ، فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل ، وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء ، ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضاً فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح ، إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب ، وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا القسم على سبيل التفصيل ، وذكر هذا القسم / على سبيل الإجمال.
جزء : 16 رقم الصفحة : 157
160
اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم ، وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم ، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم ، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب وفيه مسائل :
(1/2300)

المسألة الأولى : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً. الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما فتح الله تعالى مكة سأل النبي عليه الصلاة والسلام "أي أبويه أحدث به عهداً" قيل أمك ، فذهب إلى قبرها ووقف دونه ، ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمر وقال : نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء ، ثم زرت وبكيت ، فقال : قد أذن لي فيه ، فلما علمت ما هي فيه من عذاب الله وإني لا أغني عنها من الله شيئاً بكيت رحمة لها. الثاني : روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : "يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب. فقال : أنا على ملة عبد المطلب فقال عليه الصلاة والسلام : "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت هذه الآية قوله : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} قال الواحدي : وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولاً ، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام ، وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد ، فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية ، فإن / التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً يفعل ذلك ، ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه ، فهذا غير مستبعد في الجملة. الثالث : يروى عن علي أنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه المشركين قال : فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان ؟
فقال : أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فنزلت هذه الآية. الرابع : يروى أن رجلاً أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال : كان أبي في الجاهلية يصل الرحم ، ويقري الضيف ، ويمنح من ماله. وأي أبي ؟
فقال : أمات مشركاً ؟
قال : نعم. قال : في ضحضاح من النار ، فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام ، فقال : "إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار ، إن أباك لم يقل يوماً أعوذ بالله من النار".
جزء : 16 رقم الصفحة : 160
المسألة الثانية : قوله : {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} يحتمل أن يكون المعنى ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف ، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي : فالأول : معناه أن النبوة والإيمان يمنع من الاستغفار للمشركين. والثاني : معناه لا تستغفروا والأمران مقاربان. وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله : {مِنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ} وأيضاً قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } والمعنى أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار. فطلب الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وأنه لا يجوز. وأيضاً لما سبق قضاء الله تعالى بأنه يعذبهم. فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين ، وذلك يوجب نقصان درجة النبي عليه الصلاة والسلام وحظ مرتبته ، وأيضاً أنه قال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) وقال عنهم أنهم أصحاب الجحيم فهذا الاستغفار يوجب الخلف في أحد هذين النصين ، وإنه لا يجوز وقد جوز أبو هاشم أن يسأل العبد ربه شيئاً بعد ما أخبر الله عنه أنه لا يفعله ، واحتج عليه بقول أهل النار {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا} (المؤمنون : 107) مع علمهم بأنه تعالى لا يفعل ذلك ، وهذا في غاية البعد من وجوه : الأول : أم هذا مبني على مذهبه أن أهل الآخرة لا يجهلون ولا يكذبون ، وذلك ممنوع ، بل نص القرآن يبطله. وهو قوله : {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23) {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ } (الأنعام : 24) والثاني : أن في حقهم يحسن ردهم عن ذلك السؤال وإسكاتهم ، أما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فغير جائز ، لأنه يوجب نقصان منصبه. والثالث : أن مثل هذا السؤال الذي يعلم أنه لا فائدة فيه إما أن يكون عبثاً أو معصية. وكلاهما جائزان على أهل النار وغير جائزين على أكابر الأنبياء عليهم السلام.
/ المسألة الثالثة : أنه تعالى لما بين أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار ، وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأقارب أو من الأباعد ، فلهذا السبب قال تعالى : {وَلَوْ كَانُوا أُوْلِى قُرْبَى } وكون سبب النزول ما حكينا ، يقوي هذا الذي قلناه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 160
أما قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} ففيه مسائل :
(1/2301)

المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه : الأول : أن المقصود منه أن لا يتوهم إنسان أنه تعالى منع محمداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه. والثاني : أن يقال إنا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم. ثم بين تعالى أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد عليه الصلاة والسلام ، بل المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام ، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفار أقوى. الثالث : أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب ، وبكونه أواها أي كثير التوجع والتفجع عند نزول المضار بالناس ، والمقصود أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً ، فكأنه قيل : إن إبراهيم مع جلالة قدره ومع كونه موصوفاً بالأواهية والحليمية منعه الله تعالى من الاستغفار لأبيه الكافر ، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى.
المسألة الثانية : دل القرآن على أن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه. قال تعالى حكاية عنه {وَاغْفِرْ لابِى ا إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} (الشعراء : 86) وأيضاً قال عنه : {رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ} (إبراهيم : 41) وقال تعالى حكاية عنه في سورة مريم قال : {سَلَـامٌ عَلَيْكَا سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى } (مريم : 47) وقال أيضاً : {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} (الممتحنة : 4) وثبت أن الاستغفار للكافر لا يجوز. فهذا يدل على صدور هذا الذنب من إبراهيم عليه السلام.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذا الإشكال بقوله : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} (التوبة : 114) وفيه قولان : الأول : أن يكون الواعد أبا إبراهيم عليه السلام ، والمعنى : أن أباه وعده أن يؤمن ، فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأجل أن يحصل هذا المعنى ، فلما تبين له أنه لا يؤمن وأنه عدو لله تبرأ منه ، وترك ذلك الاستغفار. الثاني : أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام ، وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه ا أَنَّه عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه } والدليل على صحة هذا التأويل قراءة الحسن {وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} بالباء ، ومن الناس من ذكر في الجواب وجهين آخرين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 160
الوجه الأول : المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام ، وكان يقول له آمن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران ، وكان يتضرع إلى الله في أن يرزقه الإيمان / الذي يوجب المغفرة ، فهذا هو الاستغفار ، فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصراً على الكفر ترك تلك الدعوة.
والوجه الثاني : في الجواب أن من الناس من حمل قوله : {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 113) على صلاة الجنازة ، وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب. قالوا : والدليل على أن المراد ما ذكرناه ، أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين ، وهو قوله : {وَلا تُصَلِّ عَلَى ا أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} (التوبة : 84) وفي هذه الآية عم هذا الحكم ، ومنه من الصلاة على المشركين ، سواء كان منافقاً أو كان مظهراً لذلك الشرك وهذا قول غريب.
المسألة الثالثة : اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله. فقال بعضهم : بالإصرار والموت. وقال بعضهم : بالإصرار وحده. وقال آخرون : لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي ، وعند ذلك تبرأ منه. فكان تعالى يقول : لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه ، فكونوا كذلك ، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله : {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (النساء : 125).
(1/2302)

واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة. قال : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة : 114) واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه ، والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه ، فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ ، وللمفسرين فيه عبارات ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "الأواه : الخاشع المتضرع" وعن عمر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الأواه ، فقال : "الدعاء" ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما يغير لونه ، فأنكر عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : "دعها فإنها أواهة" قيل يا رسول الله وما الأواهة ؟
قال : "الداعية الخاشعة المتضرعة" وقيل : معنى كون إبراهيم عليه السلام أواها ، كلما ذكر لنفسه تقصيراً أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً له. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الأواه ، المؤمن بالخشية. وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم. واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام ، لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل ، ومن كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده ، فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه ، لما ظهر له إصراره على الكفر ، فأنتم بهذا المعنى أولى ، وكذلك وصفه أيضاً بأنه حليم ، لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب ، وشدة العطف لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 160
161
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما منه المؤمنين من أن يستغفروا للمشركين ، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول هذه الآية ، فإنهم قبل نزول هذه الآية كانوا يستغفرون لآبائهم وأمهاتهم وسائر أقربائهم ممن مات على الكفر ، فلما نزلت هذه الآية خافوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين. وأيضاً فإن أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين ، كانوا قد ماتوا قبل نزول هذه الآية ، فوقع الخوف عليهم في قلوب المسلمين أنه كيف يكون حالهم ، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية ، وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه. فهذا وجه حسن في النظم. وقيل : المراد إن من أول السورة إلى هذا الموضع في بيان المنع من مخالطة الكفار والمنافقين ، ووجوب مباينتهم ، والاحتراز عن موالاتهم ، فكأنه قيل : إن الإله الرحيم الكريم كيف يليق به هذا التشديد الشديد في حق هؤلاء الكفار والمنافقين ؟
فأجيب عنه بأنه تعالى لا يؤاخذ أقواماً بالعقوبة بعد إذ دعاهم إلى الرشد حتى يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه ، فأما بعد أن فعل ذلك وأزاح العذر وأزال العلة فله أن يؤاخذهم بأشد أنواع المؤاخذة والعقوبة. وفي قوله تعالى : {لِيُضِلَّ} وجوه : الأول : أن المراد أنه أضله عن طريق الجنة ، أي صرفه عنه ومنعه من التوجه إليه. والثاني : قالت المعتزلة : المراد من هذا الإضلال الحكم عليهم بالضلال. واحتجوا بقول الكميت :
وطائفة قد أكفروني بحبكم
وقال أبو بكر الأنباري : هذا التأويل فاسد ، لأن العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا : ضلل يضلل ، واحتجاجهم ببيت الكميت باطل ، لأنه لا يلزم من قولنا أكفر في الحكم صحة قولنا أضل. / وليس كل موضع صح فيع فعل صح أفعل. ألا ترى أنه يجوز أن يقال كسره ، ولا يجوز أن يقال أكسره ، بل يجب فيه الرجوع إلى السماع.
والوجه الثالث : في تفسير الآية ، وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى ، حتى يكون منهم الأمر الذي به يستحق العقاب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 161
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : حاصل الآية أنه تعالى لا يؤاخذ أحداً إلا بعد أن يبين له كون ذلك الفعل قبيحاً ، ومنهياً عنه. وقرر ذلك بأنه عالم بكل المعلومات ، وهو قوله : {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} وبأنه قادر على كل الممكنات ، وهو قوله : {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا لا إِلَـاهَ} فكان التقدير : أن من كان عالماً قادراً هكذا ، لم يكن محتاجاً ، والعالم القادر الغني لا يفعل القبيح والعقاب قبل البيان. وإزالة العذر قبيح ، فوجب أن لا يفعله الله تعالى ، فنظم الآية إنما يصح إذا فسرناها بهذا الوجه ، وهذا يقتضي أنه يقبح من الله تعالى الابتداء بالعقاب وأنتم لا تقولون به.
والجواب : أن ما ذكرتموه يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين ، وإزالة العذر وإزاحة العلة ، وليس فيها دلالة على أنه تعالى ليس له ذلك ، فسقط ما ذكرتموه في هذا الباب.
(1/2303)

ثم قال تعالى : {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا لا إِلَـاهَ} في ذكر هذا المعنى ههنا فوائد : إحداها : أنه تعالى لما أمر بالبراءة من الكفار بين أنه له ملك السموات والأرض/ فإذا كان هو ناصراً لكم ، فهم لا يقدرون على إضراركم ، وثانيها : أن القوم من المسلمين قالوا : لما أمرتنا بالانقطاع من الكفار ، فحينئذ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا وأولادنا وإخواننا لأنه ربما كان الكثير منهم كافرين ، والمراد أنكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم. فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم ، فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم. وثالثها : أنه تعالى لما أمر بهذه التكاليف الشاقة كأنه قال وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي وتكليفي لكوني إلهكم ولكونكم عبيداً لي.
جزء : 16 رقم الصفحة : 161
164
/ اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير ، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها. ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نوع زلة جارية مجرى ترك الأولى ، وصدر أيضاً عن المؤمنين نوع زلة ، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات. فقال : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقاً شديداً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين ، على ما سيجيء شرحها ، وهذا يوجب الثناء ، فكيف يليق بها قوله : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَـاجِرِينَ} .
والجواب من وجوه : الأول : أنه صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء من باب ترك الأفضل ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة : 43) وأيضاً لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيء شرحها ، فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة ، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار. ولست أقول عزموا عليه ، بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم ، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها. فقال : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} .
والوجه الثاني : في الجواب أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات ، إما من باب الصغائر ، وإما من باب ترك الأفضل. ثم إن النبي عليه السلام وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه ، وصبروا على تلك الشدائد والمحن ، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفراً لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر ، وصار قائماً مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها. فلهذا السبب قال تعالى : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ} الآية.
جزء : 16 رقم الصفحة : 164
والوجه الثالث : في الجواب : أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر ، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم ، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها ، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه ، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم ، قال تعالى : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ} الآية.
والوجه الرابع : لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدين. وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي / لأجلها ، ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة.
المسألة الثانية : في المراد بساعة العسرة قولان :
القول الأول : أنها مختصة بغزوة تبوك ، والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جداً في ذلك السفر والعسرة تعذر الأمر وصعوبته. قال جابر : حصلت عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد. أما عسرة الظهر : فقال الحسن : كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم ، وأما عسرة الزاد ، فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة ، وكان معهم شيء من شعير مسوس/ فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة. وأما عسرة الماء : فقال عمر : خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد ، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه.
واعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة ، ومن خرج فيها فهو جيش العسرة. وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
(1/2304)

والقول الثاني : قال أبو مسلم : يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول وعلى المؤمنين ، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها. وقد ذكر الله تعالى بعضها في كتابه كقوله تعالى : {وَإِذْ زَاغَتِ الابْصَـارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الأحزاب : 10) وقوله : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَه ا إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِه ا حَتَّى ا إِذَا فَشِلْتُمْ} (آل عمران : 152) الآية ، والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم.
ثم قال تعالى : {مِنا بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} وفيه مباحث :
جزء : 16 رقم الصفحة : 164
البحث الأول : فاعل {كَادَ} يجوز أن يكون {قُلُوبُ} والتقدير : كاد قلوب فريق منهم تزيغ ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الأمر والشأن ، والفعل والفاعل تفسير للأمر والشأن ، والمعنى : كادوا لا يثبتون على اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة لشدة العسرة.
البحث الثاني : قرأ حمزة وحفص عن عاصم {يَزِيغُ} بالياء لتقدم الفعل ، والباقون بالتاء لتأنيث قلوب ، وفي قراءة عبد الله {مِنا بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} .
البحث الثالث : {كَادَ} عند بعضهم تفيد المقاربة فقط ، وعند آخرين تفيد المقارية مع عدم الوقوع ، فهذه التوبة المذكورة توبة عن تلك المقاربة ، واختلفوا في ذلك الذي وقع في قلوبهم. فقيل : هم بعضهم عند تلك الشدة العظيمة أن يفارق الرسول ، لكنه صبر واحتسب. فلذلك قال تعالى : / {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر اليسير. وقال الأخرون بل كان ذلك لحديث النفس الذي يكون مقدمة العزيمة ، فلما نالتهم الشدة وقع ذلك في قلوبهم ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفاً منه أن يكون معصية. فلذلك قال تعالى : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } .
فإن قيل : ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها فما الفائدة في التكرار ؟
قلنا : فيه وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييباً لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب ثم أردفه مرة أخرى بذكر التوبة ، والمقصود منه تعظيم شأنهم.
والوجه الثاني : أنه إذا قيل : عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه ، دل ذلك على أن ذلك العفو عفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة ، قال عليه الصلاة والسلام : "إن الله ليغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة" وهذا معنى قول ابن عباس في قوله : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يريد ازداد عنهم رضا.
والوجه الثالث : أنه قال : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة ، ثم إنه تعالى زاد عليه فقال : {مِنا بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية ، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلا يبقى في خاطر أحدهم شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس.
جزء : 16 رقم الصفحة : 164
ثم قال تعالى : {إِنَّه بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وهما صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب ، ويشبه أن تكون الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضر/ والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة. وقيل : إحداهما للرحمة السالفة ، والأخرى للمستقبلة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 164
166
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : هذا معطوف على الآية الأولى ، والتقدير : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا ، والفائدة في هذا العطف أنا بينا أن من ضم ذكر توبته إلى توبة النبي عليه الصلاة والسلام ، كان ذلك دليلاً على تعظيمه وإجلاله ، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النبي عليه الصلاة والسلام وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد ، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك.
(1/2305)

المسألة الثانية : إن هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى : {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ} واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم خلفين وذكروا وجوهاً : أحدها : أنه ليس المراد أن هؤلاء أمروا بالتخلف ، أو حصل الرضا من الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك ، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً فيقول : بموضع كذا لا يريد به أنه أمره بالتخلف بل لعله نهاه عنه وإنما يريد أنه تخلف عنه. وثانيها : لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كانوا على عزيمة الذهاب إلى الغزو فأذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام قدر ما يحصل الآلات والأدوات فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل فصح أن يقال : خلفهم الرسول. وثالثها : أنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله : {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ} فالمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة عن الطائفة الأولى. قال كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة : قول الله تعالى في حقنا : {وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } ليس من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا ليشير به إلى قوله : {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ} .
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {خُلِّفُوا } أي خلفوا الغازين بالمدينة ، أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم ، وقرأ جعفر الصادق وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 166
المسألة الرابعة : هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر ، وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ، ومرارة بن الربيع ، وللناس في هذه القصة قولان :
القول الأول : أنهم ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام ، قال الحسن : كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاه ما خلفني عن رسول الله إلا أمرك ، إذهبي فأنت في سبيل الله فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وفعل ، وكان للثاني أهل فقال : يا أهلاه ما خلفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا أمرك فلأكابدن المفاوز حتى أصل إليه وفعل ، والثالث : ما كان له مال ولا أهل فقال : مالي سبب إلا الضن بالحياة والله لأكابدن المفاوز حتى / أصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلحقوا بالرسول صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى {تَعْمَلُونَ * وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ} .
والقول الثاني : وهو قول الأكثرين أنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال كعب : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب حديثي فلما أبطأت عنه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام : "ما الذي حبس كعباً" فلما قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم وأتيته وقلت : إن كراعي وزادي كان حاضراً واحتبست بذنبي فاستغفر لي فأبى الرسول ذلك ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة ، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت : يا رسول الله لقد بكى هلال حتى خفت على بصره حتى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَـاجِرِينَ} وأنزل قوله : {وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } فعند ذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال : "الله أكبر قد أنزل الله عذر أصحابنا" فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم ، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتلا عليهم ما نزل فيهم. فقال كعب : توبني إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال : "لا" قلت : فنصفه قال : "لا" قلت : فثلثه قال : "نعم" واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة.
الصفة الأولى : قوله : {حَتَّى ا إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ} قال المفسرون : معناه : أن النبي عليه الصلاة والسلام صار معرضاً عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوماً ، وقيل : أكثر ، ومعنى {إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ} تقدم تفسيره في هذه السورة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 166
والصفة الثانية : قوله : {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} والمراد ضيق صدورهم بسبب الهم والغم ومجانبة الأولياء والأحباء ، ونظر الناس لهم بعين الإهانة.
(1/2306)

الصفة الثالثة : قوله : {وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} ويقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه : "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك" ومن الناس من قال معنى قوله : {وَظَنُّوا } أي علموا كما في قوله : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة : 46) والدليل عليه أنه تعالى ذكر هذا الوصف في حقهم في معرض المدح والثناء ، ولا يكون كذلك إلا وكانوا عالمين بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه. وقال آخرون : وقف أمرهم على الوحي وهم ما كانوا قاطعين أن الله ينزل الوحي ببراءتهم عن النفاق ولكنهم كانوا يجوزون أن تطول المدة في بقائهم في الشدة فالطعن / عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة ، ولما وصفهم الله بهذه الصفات الثلاث ؛ قال : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه لا بد ههنا من إضمار. والتقدير : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه. تاب عليهم ثم تاب عليهم ، فما الفائدة في هذا التكرير ؟
قلنا : هذا التكرير حسن للتأكيد كما أن السلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول عفوت عنك ثم عفوت عنك.
فإن قيل : فما معنى قوله : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا } .
قلنا فيه وجوه : الأول : قال أصحابنا المقصود منه بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقوله : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يدل على أن التوبة فعل الله وقوله : {لِيَتُوبُوا } يدل على أنها فعل العبد ، فهذا صريح قولنا ، ونظيره {فَلْيَضْحَكُوا } مع قوله : {وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } وقوله : {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} مع قوله : {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقوله : {هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ} مع قوله : {قُلْ سِيرُوا } والثاني : المراد تاب الله عليهم في الماضي ليكون ذلك داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل. والثالث : أصل التوبة الرجوع ، فالمراد ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين/ وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك. الرابع : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا } أي ليدوموا على التوبة ، ولا يراجعوا ما يبطلها. الخامس : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لينتفعوا بالتوبة ويتوفر عليهم ثوابها وهذان النفعان لا يحصلان إلا بعد توبة الله عليهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 166
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله عقلاً قالوا : لأن شرائط التوبة في حق هؤلاء قد حصلت من أول الأمر. ثم إنه عليه الصلاة والسلام ما قبلهم ولم يلتفت إليهم وتركهم مدة خمسين يوماً أو أكثر ، ولو كان قبول التوبة واجباً عقلاً لما جاز ذلك.
أجاب الجبائي عنه بأن قال : يقال إن تلك التوبة صارت مقبولة من أول الأمر ، لكنه يقال : أراد تشديد التكليف عليهم لئلا يتجرأ أحد على التخلف عن الرسول فيما يأمر به من جهاد وغيره. وأيضاً لم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام عن كلامهم عقوبة ، بل كان على سبيل التشديد في التكليف. قال القاضي : وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء الثلاثة بهذا التشديد ، لأنهم أذعنوا بالحق واعترفوا بالذنب ، فالذي يجري عليهم ، وهذه حالهم يكون في الزجر أبلغ مما يجري على من يظهر العذر من المنافقين.
/ والجواب : أنا متمسكون بظاهر قوله تعالى : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } وكلمة {ثُمَّ} للتراخي ، فمقتضى هذا اللفظ تأخير قبول التوبة ، فإن حملتم ذلك على تأخير إظهار هذا القبول كان ذلك عدولاً عن الظاهر من غير دليل.
فإن قالوا : الموجب لهذا العدول قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه } .
قلنا : صيغة يقبل للمستقبل ، وهو لا يفيد الفور أصلاً بالإجماع ، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
واعلم أن ذكر الرحيم عقيب ذكر التواب ، يدل على أن قبول التوبة لأجل محض الرحمة والكرم ، لا لأجل الوجوب ، وذلك يقوي قولنا في أنه لا يجب عقلاً على الله قبول التوبة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 166
168
واعلم أنه تعالى لما حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ، ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى ، وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجهاد فقال : {مُّسْتَقِيمٍ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة أمر الرسول {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات ، ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت ، وفي الآية مسائل :
(1/2307)

المسألة الأولى : أنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين ، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت ، وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل ، ومتى امتنع إطباق الكل على الباطل ، وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقين. فهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المراد بقوله : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} أي كونوا على طريقة الصادقين ، كما أن الرجل إذا قال لولده : كن مع الصالحين ، لا يفيد إلا ذلك سلمنا ذلك ، لكن نقول : إن هذا الأمر كان موجوداً في زمان الرسول فقط ، فكان هذا أمراً بالكون مع الرسول ، فلا يدل على وجود صادق في سائر الأزمنة سلمنا ذلك ، لكن لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما تقوله الشيعة ؟
والجواب عن الأول : أن قوله : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} أمر بموافقة الصادقين ، ونهى عن مفارقتهم ، وذلك مشروط بوجود الصادقين وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فدلت هذه / الآية على وجود الصادقين. وقوله : إنه محمول على أن يكونوا على طريقة الصادقين. فنقول : إنه عدول عن الظاهر من غير دليل. قوله : هذا الأمر مختص بزمان الرسول عليه الصلاة والسلام.
قلنا : هذا باطل لوجوه : الأول : أنه ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى قيام القيامة ، فكان الأمر في هذا التكليف كذلك. والثاني : أن الصيغة تتناول الأوقات كلها بدليل صحة الاستثناء. والثالث : لما لم يكن الوقت المعين مذكوراً في لفظ الآية لم يكن حمل الآية على البعض أولى من حمله على الباقي ، فأما أن لا يحمل على شيء من الأوقات فيفضي إلى التعطيل وهو باطل ، أو على الكل وهو المطلوب ، والرابع : وهو أن قوله : {الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ} أمر لهم بالتقوى ، وهذا الأمر إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متقياً ، وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ ، فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتدياً بمن كان واجب العصمة ، وهم الذين حكم الله تعالى بكونهم صادقين ، فهذا يدل على أنه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون المعصوم عن الخطأ مانعاً لجائز الخطأ عن الخطأ ، وهذا المعنى قائم في جميع الأزمان ، فوجب حصوله في كل الأزمان. قوله : لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كل زمان ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 168
قلنا : نحن نعترف بأنه لا بد من معصوم في كل زمان ، إلا أنا نقول : ذلك المعصوم هو مجموع الأمة ، وأنتم تقولون : ذلك المعصوم واحد منهم ، فنقول : هذا الثاني باطل ، لأنه تعالى أوجب على كل واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين ، وإنما يمكنه ذلك لو كان عالماً بأن ذلك الصادق من هو لا الجاهل بأنه من هو ، فلو كان مأموراً بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق ، وأنه لا يجوز ، لكنا لا نعلم إنساناً معيناً موصوفاً بوصف العصمة ، والعلم بأنا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضرورة/ فثبت أن قوله : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} ليس أمراً بالكون مع شخص معين ، ولما بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع مجموع الأمة ، وذلك يدل على أن قول مجموع الأمة حق وصواب ولا معنى لقولنا الإجماع إلا ذلك.
(1/2308)

المسألة الثانية : الآية دالة على فضل الصدق وكمال درجته ، والذي يؤيده من الوجوه الدالة على أن الأمر كذلك وجوه : الأول : روي أن واحداً جاء إلى النبي عليه السلام وقال : إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب ، والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها ، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك ، فقال عليه السلام / "اترك الكذب" فقبل ذلك ثم أسلم ، فلما خرج من عند النبي عليه السلام عرضوا عليه الخمر ، فقال : إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ثم عرضوا عليه الزنا ، فجاء ذلك الخاطر فتركه ، وكذا في السرقة ، فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : ما أحسن ما فعلت ، لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي علي ، وتاب عن الكل. الثاني : روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنة ، وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب ، فإن الكذب يقرب إلى الفجور. والفجور يقرب إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ، ألا ترى أنه يقال صدقت وبررت وكذبت وفجرت ، الثالث : قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس : {فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص : 82 ، 83) إن إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء ، لأنه لو لم يذكره لصار كاذباً في ادعاء إغواء الكل ، فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء ، وإذا كان الكذب شيئاً يستنكف منه إبليس ، فالمسلم أولى أن يستنكف منه. الرابع : من فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات ، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب ، واختلف الناس في أن المقتضي لقبحه ما هو ؟
فقال أصحابنا : المقتضي بقبحه هو كونه مخلاً لمصالح العالم ومصالح النفس ، وقالت المعتزلة : المقتضى لقبحه هو كونه كذباً ودليلنا قوله تعالى :
جزء : 16 رقم الصفحة : 168
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بِجَهَـالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـادِمِينَ} (الحجرات : 6) يعني لا تقبلوا قول الفاسق فربما كان كذباً ، فيتولد عن قبول ذلك الكذب فعل تصيرون نادمين عليه ، وذلك يدل على أنه تعالى إنما أوجب رد ما يجوز كونه كذباً لاحتمال كونه مفضياً إلى ما يضاد المصالح ، فوجب أن يكون المقتضى لقبح الكذب إفضاءه إلى المفاسد ، واحتج القاضي على قوله بأن من دفع إلى طلب منفعة أو دفع مضرة وأمكنه الوصول إلى ذلك بأن يكذب وبأن يصدق فقد علم ببديهة العقل أنه لا يجوز أن يعدل عن الصدق إلى الكذب ، ولو أمكنه أن يصل إلى ذلك بصدقين لجاز أن يعدل من أحدهما إلى الآخر ، فلو كان الكذب يحسن لمنفعة أو إزالة مضرة لكان حاله حال الصدق. ولما لم يكن كذلك علم أنه لا يكون إلا قبيحاً ، ولأنه لو جاز أن يحسن لوجب أن يجوز أن يأمر الله تعالى به إذا كان مصلحة ، وذلك يؤدي إلى أن لا يوثق بأخباره ، هذا ما ذكره في التفسير فيقال له في الجواب عن الأول إن الإنسان لما تقرر عنده من أول عمره تقبيح الكذب لأجل كونه مخلاً لمصالح العالم صار ذلك نصب عينه وصورة خياله فتلك الصورة النادرة إذا اتفقت للحكم عليها حكمت العادة الراسخة عليها بالقبح ، فلو فرضتم كون الإنسان خالياً عن هذه العادة وفرضتم / استواء الصدق والكذب في الإفضاء إلى المطلوب/ فعلى هذا التقدير لا نسلم حصول الترجيح ، ويقال له في الجواب عن الحجة الثانية ، إنكم تثبتون امتناع الكذب على الله تعالى بكونه قبيحاً لكونه كذباً ، فلو أثبتم هذا المعنى بامتناع صدوره عن الله لزم الدور وهو باطل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 168
170
اعلم أن الله تعالى لما أمر بقوله : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} بوجوب الكون في موافقة الرسول عليه السلام في جميع الغزوات والمشاهد ، أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه. فقال : {مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الاعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ} والأعراب الذين كانوا حول المدينة مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار ، هكذا قاله ابن عباس. وقيل : بل هذا يتناول جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة فإن اللفظ عام ، والتخصيص تحكم ، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ، ولا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدعة حال ما يكون رسول الله في الحر والمشقة ، وقوله : {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِه } يقال : رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي توقفت عنه / وتركته ، وأنا أرغب بفلان عن هذا أي أبخل به عليه ولا أتركه. والمعنى : ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام لنفسه.
(1/2309)

واعلم أن ظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أنا نقول : المرضى والضعفاء والعاجزون مخصوصون بدليل العقل وأيضاً بقوله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) وأيضاً بقوله : {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ} (النور : 61 الفتح : 17) الآية وأما أن الجهاد غير واجب على كل أحد بعينه ، فقد دل الإجماع عليه فيكون مخصوصاً من هذا العموم وبقي ما وراء هاتين الصورتين داخلاً تحت هذا العموم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 170
واعلم أنه تعالى لما منع من التخلف بين أنه لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من أنواع المشقة إلا وهو يوجب الثواب العظيم عند الله تعالى ثم إنه ذكر أموراً خمسة : أولها : قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} وهو شدة العطش يقال ظمىء فلان إذا اشتد عطشه. وثانيها : قوله : {وَلا نَصَبٌ} ومعناه الإعياء والتعب. وثالثها : {وَلا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} يريد مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ومنه يقال : فلان خميص البطن. ورابعها : قوله : {مَعَه ا أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ} أي ولا يضع الإنسان قدمه ولا يضع فرسه حافره ، ولا يضع بعيره خفه بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار قال ابن الأعرابي : يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد ، أي أغضبه. وخامسها : قوله : {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا} أي أسراً وقتلاً وهزيمة قليلاً كان أو كثيراً {إِلا كُتِبَ لَهُم بِه عَمَلٌ صَـالِحٌ } أي إلا كان ذلك قربة لهم عند الله ونقول دلت هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيته وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله. وكذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية ، واختلفوا فقال قتادة : هذا الحكم من خواص رسول الله إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر. وقال ابن زيد : هذا حين كان المسلمون قليلين فلما كثروا نسخها الله تعالى بقوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً } (التوبة : 122) وقال عطية ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم وأمرهم وهذا هو الصحيح ، لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله إذا أمر وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد.
ثم قال : {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سوط فما فوقها ولا يقطعون وادياً ، والوداي كل مفرج بين جبال وآكام يكون مسلكاً للسيل ، والجمع الأودية إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق وذلك المسير.
ثم قال : {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفيه وجهان : الأول : أن الأحسن من / صفة فعلهم ، وفيها الواجب والمندوب والمباح والله تعالى يجزيهم على الأحسن ، وهو الواجب والمندوب ، دون المباح. والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء ، أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل ، وهو الثواب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 170
172
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه يمكن أن يقال : هذه الآية من بقية أحكام الجهاد ، ويمكن أن يقال : إنها كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهاد.
أما الاحتمال الأول : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر. فلما بالغ الله سبحانه في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع الرسول عليه السلام ولا عن سرية. فلما قدم الرسول عليه السلام المدينة ، وأرسل السرايا إلى الكفار ، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة ، فنزلت هذه الآية. والمعنى : أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكليتهم إلى الغزو والجهاد ، بل يجب أن يصيروا طائفتين. تبقى طائفة في خدمة الرسول ، وتنفر طائفة أخرى إلى الغزو ، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار ، وأيضاً كانت التكاليف تحدث والشرائع تنزل ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول عليه السلام فيتعلم تلك الشرائع ، ويحفظ تلك التكاليف ويبلغها إلى الغائبين. فثبت أن في ذلك الوقت كان الواجب انقسام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قسمين ، أحد القسمين ينفرون إلى الغزو والجهاد ، والثاني : يكونون مقيمين بحضرة الرسول ، فالطائفة النافرة إلى الغزو يكونون نائبين عن المقيمين في الغزو ، والطائفة المقيمة يكونون نائبين عن النافرين ، في التفقه ، وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين.
(1/2310)

إذا عرفت هذا فنقول على هذا القول احتمالان : أحدهما : أن تكون الطائفة المقيمة هم الذين / يتفقهون في الدين بسبب أنهم لما لازموا خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وشاهدوا الوحي والتنزيل فكلما نزل تكليف وحدث شرع عرفوه وضبطوه ، فإذا رجعت الطائفة النافرة من الغزو إليهم ، فالطائفة المقيمة ينذرونهم ما تعلموه من التكاليف والشرائع ، وبهذا التقرير فلا بد في الآية من إضمار ، والتقدير : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، وأقامت طائفة ليتفقه المقيمون في الدين ولينذروا قومهم ، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 172
والاحتمال الثاني : هو أن يقال : التفقه صفة للطائفة النافرة وهذا قول الحسن. ومعنى الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين ، وذلك التفقه المراد منه أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين ، وأن العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين ، فحينئذ يعلمون أن ذلك بسبب أن الله تعالى خصهم بالنصرة والتأييد وأنه تعالى يريد إعلاء دين محمد عليه السلام وتقوية شريعته ، فإذا رجعوا من ذلك النفر إلى قومهم من الكفار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لعلهم يحذرون ، فيتركوا الكفر والشك والنفاق ، فهذا القول أيضاً محتمل ، وطعن القاضي في هذا القول : قال لأن هذا الحس لا يعد فقهاً في الدين ، ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا شاهدوا أن القوم القليل الذين ليس لهم سلاح ولا زاد يغلبون الجمع العظيم من الكفار الذين كثر زادهم وسلاحهم ، وقويت شوكتهم ، فحينئذ انتبهوا لما هو المقصود وهو أن هذا الأمر من الله تعالى وليس من البشر. إذ لو كان من البشر لما غلب القليل الكثير/ ولما بقي هذا الدين في التزايد والتصاعد كل يوم ، فالتنبه لفهم هذه الدقائق واللطائف لا شك أنه تفقه.
وأما الاحتمال الثالث : وهو أن يقال هذه الآية ليست من بقايا أحكام الجهاد ، بل هو حكم مبتدأ مستقل بنفسه ، وتقريره أن يقال إنه تعالى لما بين في هذه السورة أمر الهجرة ، ثم أمر الجهاد ، وهما عبادتان بالسفر ، بين أيضاً عبادة التفقه من جهة الرسول عليه السلام وله تعلق بالسفر. فقال : وما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز ، وليس حاله كحال الجهاد معه الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له.
ثم قال : {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} يعني من الفرق الساكنين في البلاد ، طائفة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في ا لدين ، وليعرفوا الحلال والحرام ، ويعودوا إلى أوطانهم ، فينذروا ويحذروا قومهم لكي يرجعوا عن كفرهم ، وعلى هذا التقدير يكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتفقه والتعلم.
/ فإن قيل : أفتدل الآية على وجوب الخروج للتفقه في كل زمان ؟
قلنا : متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب عليه السفر ، وفي زمان الرسول عليه السلام كان الأمر كذلك ، لأن الشريعة ما كانت مستقرة ، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد وشرع حادث. أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة ، فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجباً إلا أنه لما كان لفظ الآية دليلاً على السفر لا جرم رأينا أن العلم المبارك المنتفع به لا يحصل إلا في السفر.
جزء : 16 رقم الصفحة : 172
المسألة الثانية : في تفسير الألفاظ المذكورة في هذه الآية "لولا" إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل هلا ، وإنما جاز أن يكون لولا بمعنى هلا ، لأن هلا كلمتان هل وهو استفهام وعرض ، لأنك إذا قلت للرجل هل تأكل ؟
هل تدخل ؟
فكأنك عرضت ذلك عليه ، و"لا" وهو جحد ، فهلا مركب من أمرين : العرض ، والجحد. فإذا قلت : هلا فعلت كذا ؟
فكأنك قلت : هل فعلت. ثم قلت معه : "لا" أي ما فعلته ، ففيه تنبيه على وجوب الفعل ، وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب ، وهكذا الكلام في "لولا" لأنك إذا قلت : لولا دخلت علي ، ولولا أكلت عندي. فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به ، لو فعل ، وهكذا الكلام في "لوما" ومنه قوله : {مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة } (الحجر : 7) فثبت أن لولا وهلا ولوما ألفاظ متقاربة ، والمقصود من الكل الترغيب والتحضيض فقوله : {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} أي فهلا فعلوا ذلك.
(1/2311)

المسألة الثالثة : هذه الآية حجة قوية لمن يرى أن خبر الواحد حجة ، وقد أطنبنا في تقريره في كتاب "المحصول من الأصول" ، والذي نقوله ههنا أن كل ثلاثة ؛ فرقة. وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة يكون اثنين أو واحداً ، فوجب أن يكون الطائفة إما اثنين وإما واحداً ، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم لأن قوله : {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} عبارة عن أخبارهم. وقوله : {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} إيجاب على قومهم أن يعلموا بأخبارهم ، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع. قال القاضي : هذه الآية لا تدل على وجوب العمل بخبر الواحد ، لأن الطائفة قد تكون جماعة يقع بخبرها الحجة ، ولأن قوله : {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} يصح وإن لم يجب القبول كما أن الشاهد الواحد يلزمه الشهادة ، وإن لم يلزم القبول ، ولأن الإنذار يتضمن التخويف ، وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به.
والجواب : أما قوله : قد تكون جماعة ، فجوابه : أنا بينا أن كل ثلاثة فرقة ، فلما أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة لزم كون الطائفة ، إما اثنين أو واحداً ، وذلك / يبطل كون الطائفة جماعة يحصل العلم بخبرهم.
فإن قالوا : إنه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ولعلهم بلغوا في الكثرة إلى حيث يحصل العلم بقولهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 172
قلنا : إنه تعالى أوجب على كل طائفة أن يرجعوا إلى قومهم وذلك يقتضي رجوع كل طائفة إلى قوم خاص ، ثم إنه تعالى أوجب العلم بقول تلك الطائفة وذلك يفيد المطلوب.
وأما قوله : {الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} يصح وإن لم يجب القبول. فنقول إنا لا نتمسك في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله : {وَلِيُنذِرُوا } بل بقوله : {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ترغيب منه تعالى في الحذر ، بناء على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار ، وبهذا الجواب خرج الجواب عن سؤاله الثالث وهو قوله : الإنذار يتضمن التخويف ، وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به.
المسألة الرابعة : دلت الآية على أنه يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق ، وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم ، لأن الآية تدل على أنه تعالى أمرهم بالتفقه في الدين ، لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحق ، وأولئك يحذرون الجهل والمعصية ويرغبون في قبول الدين. فكل من تفقه وتعلم لهذا الغرض كان على المنهج القويم والصراط المستقيم ، ومن عدل عنه وطلب الدنيا بالدين كان من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 172
174
(1/2312)

اعلم أنه نقل عن الحسن أنه قال : هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة ، ثم إنها صارت منسوخة بقوله : {وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} (التوبة : 36) وأما المحققون فإنهم أنكروا هذا النسخ وقالوا : إنه تعالى لما أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم في ذلك الباب إلى الطريق الأصوب الأصلح ، وهو أن يبتدؤا من الأقرب فالأقرب ، منتقلاً إلى الأبعد فالأبعد. ألا ترى أن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} (الشعراء : 214) وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب لأنه عليه السلام / حارب قومه ، ثم انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثم انتقل منهم إلى غزو الشام ، والصحابة رضي الله عنهم لما فرغوا من أمر الشأم دخلوا العراق. وإنما قلنا : إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه : الأول : أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة ، ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع ، وجب الترجيح ، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة ، وكما في سائر المهمات ، ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم ، فوجب الابتداء بالأقرب. والثاني : أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل ، والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل. الثالث : أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة. الرابع : أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء ، فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين ، والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع ، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل ، وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر ، فكان الابتداء بهم أولى. الخامس : أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه ، وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم. السادس : أن دار الإسلام واسعة ، فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل ، وحصول المقصود أيسر. السابع : أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولاً وجب تقديمه ، والقرب سبب السهولة ، فوجب الابتداء بالأقرب. الثامن : أنا بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب ، وفي الغزو بالأقرب فالأقرب ، وفي جميع المهمات كذلك. فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له : "كل مما يليك" فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 174
فإن قيل : ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح ، لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزناً.
قلنا : ذاك احتمال واحد ، وما ذكرنا احتمالات كثيرة ، ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح ما هو أكثر مصلحة على ما هو الأقل ، وهذا الذي قلناه إنما قلناه إذا تعذر الجمع بين مقاتلة الأقرب والأبعد ، أما إذا أمكن الجمع بين الكل ، فلا كلام في أن الأولى هو الجمع ، فثبت أن هذه الآية غير منسوخة ألبتة.
/ وأما قوله تعالى : {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } قال الزجاج : فيها ثلاث لغات ، فتح الغين وضمها وكسرها. قال صاحب "الكشاف" : الغلظة بالكسر الشدة العظيمة ، والغلظة كالضغطة ، والغلظة كالسخطة ، وهذه الآية تدل على الأمر بالتغليظ عليهم ، ونظيره قوله تعالى : {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } (التوبة : 73) وقوله : {وَلا تَهِنُوا } (آل عمران : 139 النساء : 104) وقوله في صفحة الصحابة رضي الله عنهم : {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (المائدة : 54) وقوله : {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (الفتح : 29) وللمفسرين عبارات في تفسير الغلظة ، قيل شجاعة وقيل شدة وقيل غيظاً.
واعلم أن الغلظة ضد الرقة ، وهي الشدة في إحلال النقمة ، والفائدة فيها أنها أقوى تأثيراً في الزجر والمنع عن القبيح ، ثم إن الأمر في هذا الباب لا يكون مطرداً ، بل قد يحتاج تارة إلى الرفق واللطف وأخرى إلى العنف ، ولهذا السبب قال : {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنه ينفر ويوجب تفرق القوم ، فقوله : {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } يدل على تقليل الغلظة ، كأنه قيل لا بد وأن يكونوا بحيث لو فتشوا على أخلاقكم وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة ، وهذا الكلام إنما يصح فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة ، ومع ذلك فلا يخلو عن نوع غلظة.
واعلم أن هذه الغلظة إنما تعتبر فيما يتصل بالدعوة إلى الدين. وذلك إما بإقامة الحجة والبينة ، وإما بالقتال والجهاد ، فإما أن يحصل هذا التغليظ فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة والمؤاكلة فلا.
(1/2313)

ثم قال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} والمراد أن يكون إقدامه على الجهاد والقتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه ، فإذا رآه قبل الإسلام أحجم عن قتاله ، وإذا رآه مال إلى قبوله الجزية تركه ، وإذا كثر العدو أخذ الغنائم على وفق حكم الله تعالى.
جزء : 16 رقم الصفحة : 174
175
اعلم أنه تعالى لما ذكر مخازي المنافقين وذكر أعمالهم القبيحة فقال : وإذا ما أنزلت سورة ، فمن المنافقين من يقول أيكم زادته هذه إيماناً ؟
واختلفوا فقال بعضهم : يقول بعض المنافقين لبعض ، ومقصودهم تثبيتهم قومهم على النفاق ، وقال آخرون : بل يقولونه لأقوام من المسلمين ، وغرضهم صرفهم عن الإيمان. وقال آخرون : بل ذكروه على وجه الهزؤ ، والكل محتمل. ولا يمكن حمله على الكل ، لأن حكاية الحال لا تفيد العموم. ثم إنه تعالى أجاب فقال إنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران ، وحصل للكافرين أيضاً أمران. أما الذي حصل للمؤمنين : فالأول : هو أنها تزيدهم إيماناً إذ لا بد عند نزولها من أن يقروا بها ويعترفوا بأنها حق من عند الله ، والكلام في زيادة الإيمان ونقصانه قد ذكرناه في أول سورة الأنفال بالاستقصاء. والثاني : ما يحصل لهم من الاستبشار. فمنهم من حمله على ثواب الآخرة ، ومنهم من حمله على ما يحصل في الدنيا من النصر والظفر ، ومنهم من حمله على الفرح والسرور الحاصل بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل به إلى مزيد في الثواب ، ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين في المؤمنين ، فقال : {وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} يعني المنافقين {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} والمراد من الرجس إما العقائد الباطلة أو الأخلاق المذمومة ، فإن كان الأول كان المعنى أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك ، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة ، فقد انضم كفر إلى كفر ، وإن كال الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد ، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة.
والأمر الثاني : أنهم يموتون على كفرهم ، فتكون هذه الحالة كالأمر المضاد للاستبشار الذي حصل في المؤمنين ، وهذه الحالة أسوأ وأقبح من الحالة الأولى ، وذلك لأن الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرجاسة ، وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه. واحتج أصحابنا بقوله : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويصرف عنه ، قالوا : إنه تعالى كان عالماً بأن سماع هذه السورة يورث حصول الحسد والحقد في قلوبهم ، وأن حصول ذلك الحسد يورث مزيد الكفر في قلوبهم ، أجابوا وقالوا نزول تلك السورة لا يوجب ذلك الكفر الزائد ، بدليل أن الآخرين سمعوا تلك السورة وازدادوا إيماناً. فثبت أن تلك الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 175
قلنا : لا ندعي أن استماع هذه السورة سبب مستقل بترجيح جانب الكفر على جانب الإيمان ، بل نقول استماع هذه السورة للنفس المخصوصة والموصوفة بالخلق المعين والعادة المعينة. يوجب / الكفر. والدليل عليه أن الإنسان الحسود لو أراد إزالة خلق الحسد عن نفسه ، يمكنه أن يترك الأفعال المشعرة بالحسد ، وأما الحالة القلبية المسماة بالحسد ، فلا يمكنه إزالتها عن نفسه ، وكذا القول في جميع الأخلاق فأصل القدرة غير ، والفعل غير ، والخلق غير ، فإن أصل القدرة حاصل للكل أما الأخلاق فالناس فيها متفاوتون. والحاصل أن النفس الطاهرة النقية عن حب الدنيا الموصوفة باستيلاء حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت السورة صار سماعها موجباً لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا/ وأما النفس الحريصة على الدنيا المتهالكة على لذاتها الراغبة في طيباتها الغافلة عن حب الله تعالى والآخرة ، إذا سمعت هذه السورة المشتملة على الجهاد وتعريض النفس للقتل والمال للنهب ازداد كفراً على كفره. فثبت أن إنزال هذه السورة في حق هذا الكافر موجب لأن يزيد رجساً على رجس ، فكان إنزالها سبباً في تقوية الكفر على قلب الكافر وذلك يدل على ما ذكرنا أنه تعالى قد يصد الإنسان ويمنعه عن الإيمان والرشد ويلقيه في الغي والكفر.
بقي في الآية مباحث : الأول : ما في قوله : {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} صلة مؤكدة. الثاني : الاستبشار استدعاء البشارة ، لأنه كلما تذكر تلك النعمة حصلت البشرة ، فهو بواسطة تجديد ذلك التذكر يطلب تجديد البشارة. الثالث : قوله : {وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} يدل على أن الروح لها مرض ، فمرضها الكفر والأخلاق الذميمة ، وصحتها العلم والأخلاق الفاضلة. والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 175
176
(1/2314)

اعلم أن الله تعالى لما بين أن الذين في قلوبهم مرض يموتون وهم كافرون ، وذلك يدل على عذاب الآخرة ، بين أنهم لا يتخلصون في كل عام مرة أو مرتين عن عذاب الدنيا وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة {أَوَلا يَرَوْنَ} بالتاء على الخطاب للمؤمنين ، والباقون بالياء خبراً عن المنافقين ، فعلى قراءة المخاطبة ، كان المعنى أن المؤمنين نبهوا على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر ، ومن قرأ على المغايبة ، كان المعنى تقريع المنافقين بالإعراض عن الاعتبار بما يحدث في حقهم من الأمور الموجبة للاعتبار.
المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : قوله : {أَوَلا يَرَوْنَ} هذه ألف الاستفهام دخلت على / واو العطف ، فهو متصل بذكر المنافقين ، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليل في قوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} المعنى : أنه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
المسألة الثالثة : ذكروا في هذه الفتنة وجوهاً : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما يمتحنون بالمرض في كل عام مرة أو مرتين ، ثم لا يتوبون من ذلك النفاق ولا يتعظون بذلك المرض ، كما يتعظ بذلك المؤمن إذا مرض ، فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي الله ، فيزيده ذلك إيماناً وخوفاً من الله ، فيصير ذلك سبباً لاستحقاقه لمزيد الرحمة والرضوان من عند الله. الثاني : قال مجاهد : {يُفْتَنُونَ} بالقحط والجوع. الثالث : قال قتادة : يفتنون بالغزو والجهاد فإنه تعالى أمر بالغزو والجهاد فهم إن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي والذكر القبيح ، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين كانوا قد عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة. الرابع : قال مقاتل : يفضحهم رسول الله بإظهار نفاقهم وكفرهم قيل : إنهم كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فكان جبريل عليه السلام ينزل عليه ويخبره بما قالوه فيه ، فكان يذكر تلك الحادثة لهم ويوبخهم عليها ، ويعظهم فما كانوا يتعظون ، ولا ينزجرون.
جزء : 16 رقم الصفحة : 176
177
اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين ، وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين وشرح فضائحهم ، وسمعوها تأذوا من سماعها ، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها ، ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصاً بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن ، فكلما سمعوا سورة استهزؤوا بها وطعنوا فيها ، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء ، ثم قال بعضهم لبعض : هل يراكم من أحد ؟
أي لو رآكم من أحد ؟
وهذا فيه وجوه : الأول : أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة ، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك الأحوال الدالة على النفاق والكفر ، فعند ذلك قالوا : {هَلْ يَرَاـاكُم مِّنْ أَحَدٍ} أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم / جداً ؟
والثاني : أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها ، فأرادوا الخروج من المسجد ، فقال بعضهم لبعض : {هَلْ يَرَاـاكُم مِّنْ أَحَدٍ} يعني إن رأوكم فلا تخرجوا ، إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد ، لتتخلصوا عن هذا الإيذاء. والثالث : {هَلْ يَرَاـاكُم مِّنْ أَحَدٍ} يمكنكم أن تقولوا نحبه ، فوجب علينا الخروج من المسجد. قال تعالى : {ثُمَّ انصَرَفُوا } يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن ، ويجوز أن يراد به ، ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم.
فإن قيل : ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله : {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِه إِيمَـانًا } .
قلنا : في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم : {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِه إِيمَـانًا } وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ ، وطلبوا الفرار.
ثم قال تعالى : {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : عن كل رشد وخير وهدى ، وقال الحسن : صرف الله قلوبهم وطبع عليها بكفرهم ، وقال الزجاج : أضلهم الله تعالى ، قالت المعتزلة : لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال : {أَنَّى يُصْرَفُونَ} وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان ؟
قال القاضي : ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم ، والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة ، لأنه لو كان كذلك ، لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود ، يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان. وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول. ثم قال : هذا الصرف يحتمل وجهين : أحدهما : أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد. الثاني : صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى.
(1/2315)

جزء : 16 رقم الصفحة : 177
والجواب : أن هذه الوجوه التي ذكرها القاضي ظاهر أنها متكلفة جداً ، وأما الوجه الصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم ، هو أن الفعل يتوقف على حصول الداعي ، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال. وحصول ذلك الداعي ليس من العبد وإلا لزم التسلسل ، بل هومن الله تعالى. فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل في قلبه داعي الكفر ، وذلك الحصول من الله تعالى ، وإذا حصل ذلك الداعي انصرف ذلك القلب من جانب الإيمان إلى الكفر/ فهذا هو المراد من صرف القلب وهو كلام مقرر ببرهان قطعي وهو منطبق على هذا / النص ، فبلغ في الوضوح إلى أعلى الغايات ، ومما بقي من مباحث الآية ما نقل عن محمد بن إسحق أنه قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة ، فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم ، لكن قولوا قد قضينا الصلاة ، وكان المقصود منه التفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لا ينبغي ، والترغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير ، فإنه تعالى قال : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة : 10).
جزء : 16 رقم الصفحة : 177
179
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها ، إلا لمن خصه الله تعالى بوجوه التوفيق والكرامة ، ختم السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف ، وهو أن هذا الرسول منكم ، فكل ما يحصل له من العز والشرف في الدنيا فهو عائد إليكم. وأيضاً فإنه بحال يشق عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم ، فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقكم ، والطبيب المشفق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها ، والأب الرحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة ، إلا أنه لما عرف أن الطبيب حاذق ، وأن الأب مشفق ، صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة ، وصارت تلك التأديبات جارية مجرى الإحسان. فكذا ههنا لما عرفتم أنه رسول حق من عند الله ، فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير ، ثم قال للرسول عليه السلام : فإن لم يقبلوها بل أعرضوا عنها وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وعول على الله وارجع في جميع أمورك إلى الله {فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُا وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة : 129) وهذه الخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات :
/ الصفة الأولى : قوله : {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} وفي تفسيره وجوه : الأول : يريد أنه بشر مثلكم كقوله : {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس : 2) وقوله : {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (فصلت : 6) والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس ، على ما مر تقريره في سورة الأنعام. والثاني : {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من العرب قال ابن عباس : ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي عليه السلام بسبب الجدات ، مضرها وربيعها ويمانيها ، فالمضريون والربيعيون هم العدنانية ، واليمانيون هم القحطانية ونظيره قوله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} (آل عمران : 164) والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته ، والقيام بخدمته ، كأنه قيل لهم : كل ما يحصل له من الدولة والرفعة في الدنيا فهو سبب لعزكم ولفخركم ، لأنه منكم ومن نسبكم. والثالث : {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} خطاب لأهل الحرم ، وذلك لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته ، وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل للعرب : كنتم قبل مقدمه مجدين مجتهدين في خدمة أسلافه وآبائه ، فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف والرفعة إلى أسلافه ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 179
والقول الرابع : أن المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته ، كأنه قيل : هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة ، وتعرفون كونه حريصاً على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم ، وإرسال من هذه حالته وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم. وقرىء {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من أشرفكم وأفضلكم ، وقيل : هي قراءة رسول الله وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما.
(1/2316)

الصفة الثانية : قوله تعالى : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} اعلم أن العزيز هو الغالب الشديد ، والعزة هي الغلبة والشدة. فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرف أنه كان عاجزاً عن دفعها إذ لو قدر على دفعها لما قصر في ذلك الدفع/ فحيث لم يدفعها ، علم أنه كان عاجزاً عن دفعها ، وأنها كانت غالبة على الإنسان. فلهذا السبب إذا اشتد على الإنسان شيء قال : عز علي هذا ، وأما العنت فيقال : عنت الرجل يعنت عنتاً إذا وقع في مشقة وشدة لا يمكنه الخروج منها ، ومنه قوله تعالى : {ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ } (النساء : 25) وقوله : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } (البقرة : 220) وقال الفراء : {مَآ} في قوله : {مَا عَنِتُّمْ} في موضع رفع ، والمعنى : عزيز عليه عنتكم ، أي يشق عليه مكروهكم ، وأولى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله تعالى ، وهو إنما أرسل ليدفع هذا المكروه.
والصفة الثالثة : قوله : {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} والحرص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم ، بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.
/ واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} معناه : شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم ، وبهذا التقدير لا يحصل التكرار. قال الفراء : الحريص الشحيح ، ومعناه : أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار ، وهذا بعيد ، لأنه يوجب الخلو عن الفائدة.
والصفة الرابعة والخامسة : قوله : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : سماه الله تعالى باسمين من أسمائه. بقي ههنا سؤالان :
السؤال الأول : كيف يكون كذلك ، وقد كلفهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة التي لا يقدر على تحملها إلا الموفق من عند الله تعالى ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 179
قلنا : قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق والأب المشفق ، والمعنى : أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوا من العقاب المؤبد ، ويفوزوا بالثواب المؤبد.
السؤال الثاني : لما قال : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم} فهذا النسق يوجب أن يقال : رؤوف رحيم بالمؤمنين ، فلم ترك هذا النسق وقال : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
الجواب : أن قوله : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين. فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة ، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول : إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليط على الكافرين والمنافقين. وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط ، فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق.
جزء : 16 رقم الصفحة : 179
183
أما قوله : {فَإِن تَوَلَّوْا } يريد المشركين والمنافقين. ثم قيل : {تَوَلَّوْا } أي أعرضوا عنك. وقيل : تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل : تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة ، وقيل : تولوا عن نصرتك في الجهاد. واعلم أن / المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف ، لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف ، لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء ، وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدىء لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو ، وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة ، وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه.
ثم قال : {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم ، والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم ، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم ، ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه.
فإن قالوا : العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى ؟
(1/2317)

قلنا : وجود العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من اليهود والنصارى ، ولا يبعد أيضاً أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله : {الْعَظِيمُ} بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه. قال أبو بكر : وهذه القراءة أعجب ، لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش ، وأيضاً فإن جعلناه صفة للعرش ، كان المراد من كونه عظيماً كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار ، وإن جعلناه صفة لله سبحانه ، كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض ، وكمال العلم والقدرة ، وكونه منزهاً عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام. وقال الحسن : هاتان الآيتان آخر ما أنزل الله من القرآن ، وما أنزل بعدهما قرآن. وقال أبي بن كعب : أحدث القرآن عهد بالله عز وجل هاتان الآيتان ، وهو قول سعيد بن جبير ، ومنهم من يقول : آخر ما أنزل من القرآن قوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه } (البقرة : 281).
جزء : 17 رقم الصفحة : 183
ونقل عن حذيفة أنه قال : أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة ، وهي سورة العذاب ما تركتم أحداً إلا نالت منه ، والله ما تقرؤن ربعها.
اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها ، لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلاً على تطرق الزيادة / والنقصان إلى القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجة ، ولا خفاء أن القول به باطل ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
وهذا آخر تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر.
فرغ المؤلف رحمه الله من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجميعن.
جزء : 17 رقم الصفحة : 183
183
(1/2318)

سورة يونس
مكية
عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن هذه السورة مكية إلا قوله : {وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِه وَمِنْهُم مَّن لا يُؤْمِنُ بِه ا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} فإنها مدنية نزلت في اليهود.
جزء : 17 رقم الصفحة : 183
185
قوله جل جلاله {الر} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وعاصم {الر} بفتح الراء على التفخيم ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر : بكسر الراء على الإمالة. وروي عن نافع وابن عامر وحماد عن عاصم ، بين الفتح والكسر ، واعلم أن كلها لغات صحيحة. قال الواحدي : الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو ما ولا ، لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء ، وأما من أمال فلأن هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة ، فقصد بذكر الإمالة التنبيه على أنها أسماء لا حروف.
المسألة الثانية : اتفقوا على أن قوله {الر} وحده ليس آية ، واتفقوا على أن قوله {طه} وحده آية. والفرق أن قوله : {الر} لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله : {طه} فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده.
/ المسألة الثالثة : الكلام المستقصى في تفسير هذا النوع من الكلمات قد تقدم في أول سورة البقرة إلا أنا نذكر ههنا أيضاً بعض ما قيل. قال ابن عباس {الر} معناه أنا الله أرى. وقيل أنا الرب لا رب غيري. وقيل {الر} و{حم } و{ } اسم الرحمن.
قوله تعالى : {تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : {تِلْكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن ، وأيضاً فالكتاب الحكيم يحتمل أن يكون المراد منه هو القرآن ، ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن ، وهو الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي منه نسخ كل كتاب ، كما قال تعالى : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} (الواقعة : 77 ، 78) وقال تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } (البروج : 22) وقال : {وَإِنَّه فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف : 4) وقال : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُا وَعِندَه ا أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد : 39).
جزء : 17 رقم الصفحة : 185
وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل ههنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات :
الاحتمال الأول : أن يقال : المراد من لفظة {تِلْكَ} الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة ، فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن ، وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ، ولا يغيره كرور الدهر ، فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة {الر} هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء.
الاحتمال الثاني : أن يقال : المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند الله.
واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا : {تِلْكَ} إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال ، وهو أن {تِلْكَ} يشار بها إلى الغائب ، وآيات هذه السورة حاضرة ، فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ {تِلْكَ} .
واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى : { الر * ذَالِكَ الْكِتَابُ} (البقرة : 1/ 2).
الاحتمال الثالث والرابع : أن يقال : لفظ {تِلْكَ} إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن ، والمراد بها : هي آيات القرآن الحكيم ، والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند الله تعالى ، وفي الآية قولان آخران : أحدهما : أن يكون المراد من {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} التوراة والإنجيل ، والتقدير : أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل ، والمعنى : أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة / والإنجيل/ مع أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بالتوراة والإنجيل ، فحصل هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص الله تعالى محمداً بإنزال الوحي عليه. والثاني : وهو قول أبي مسلم : أن قوله : {الر} إشارة إلى حروف التهجي ، فقوله : {الارا تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ} يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت وعلامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي. فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز ، وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم ، دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالاً.
جزء : 17 رقم الصفحة : 185
المسألة الثانية : في وصف الكتاب بكونه حكيماً وجوه : الأول : أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. الثاني : أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به. قال الأعشى :
وغريبة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
(1/2319)

الثالث : قال الأكثرون {الْحَكِيمِ} بمعنى الحاكم ، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى : {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} (البقرة : 213) فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها ، وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها ، وكالحاكم على أن محمداً صادق في دعوى النبوة ، لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام ، ليست إلا القرآن الرابع : أن {الْحَكِيمِ} بمعنى المحكم. والأحكام معناه المنع من الفساد ، فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء ، ولا تحرقه النار ، ولا تغيره الدهور. أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض. الخامس : قال الحسن : وصف الكتاب بالحكيم ، لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه ، فعلى هذا {الْحَكِيمِ} يكون معناه المحكوم فيه. السادس : أن {الْحَكِيمِ} في أصل اللغة : عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب ، فكان وصف القرآن به مجازاً ، ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب ، فمن حيث أنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 185
المسألة الثانية : في وصف الكتاب بكونه حكيماً وجوه : الأول : أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. الثاني : أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به. قال الأعشى :
وغريبة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
الثالث : قال الأكثرون {الْحَكِيمِ} بمعنى الحاكم ، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى : {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} (البقرة : 213) فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها ، وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها ، وكالحاكم على أن محمداً صادق في دعوى النبوة ، لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام ، ليست إلا القرآن الرابع : أن {الْحَكِيمِ} بمعنى المحكم. والأحكام معناه المنع من الفساد ، فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء ، ولا تحرقه النار ، ولا تغيره الدهور. أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض. الخامس : قال الحسن : وصف الكتاب بالحكيم ، لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه ، فعلى هذا {الْحَكِيمِ} يكون معناه المحكوم فيه. السادس : أن {الْحَكِيمِ} في أصل اللغة : عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب ، فكان وصف القرآن به مجازاً ، ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب ، فمن حيث أنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 185
188
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالرسالة والوحي ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك التعجب. أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه : الأول : قوله تعالى : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا ا عَلَى ا ءَالِهَتِكُم إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ} (ص : 5 و6) وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحداً ، لم يبعد أيضاً أن يتعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة والثاني : أن أهل مكة كانوا يقولون : إن الله تعالى ما وجد رسولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب والثالث : أنهم قالوا : {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين : أحدهما : أن يتعجبوا من أن يجعل الله بشراً رسولاً ، كما حكي عن الكفار أنهم قالوا : {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا} (الإسراء : 94) والثاني : أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيراً يتيماً ، فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك. وأما بيان أن الله تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية : {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} فإن قوله : {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الإنكار ، لأن يكون ذلك عجباً. وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه : الأول : أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع. ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد. وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمراً غير ممتنع ، بل كان مجوزاً في العقول. الثاني : أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال :
جزء : 17 رقم الصفحة : 188
(1/2320)

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) وقال : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} (الإنسان : 2) وقال : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه فَصَلَّى } (الأعلى : 14 ، 15) ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر ، ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به ، إلا إذا أرسل إليهم رسولاً ومنبهاً. فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول ، وإذا كان ذلك واجباً فكيف يتعجب منه. الثالث : أن إرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى شيئاً من أزمنة وجود المكلفين منه ، كما قال : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم} (يوسف : 109) فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير ، ويؤكده قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه } الأعراف : 59) وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام. الرابع : أنه تعالى إنما أرسل إليهم رجلاً عرفوا نسبه وعرفوا كونه أميناً بعيداً عن أنواع التهم والأكاذيب ملازماً للصدق والعفاف. ثم إنه كان أمياً لم يخالط أهل الأديان ، وما قرأ كتاباً أصلاً ألبتة ، ثم إنه مع ذلك يتلو عليهم أقاصيصهم ويخبرهم عن وقائعهم ، وذلك يدل على كونه / صادقاً مصدقاً من عند الله/ ويزيل التعجب ، وهو من قوله : {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ رَسُولا مِّنْهُمْ} (الجمعة : 2) وقال : {وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِه مِن كِتَـابٍ وَلا تَخُطُّه بِيَمِينِكَ } (العنكبوت : 48) الخامس : أن مثل هذا التعجب كان موجوداً عند بعثة كل رسول ، كما في قوله : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } (لأعراف : 65) {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـالِحًا } (الأعراف : 73) إلى قوله : {عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ} (الأعراف : 63) السادس : أن هذا التعجب إما أن يكون من إرسال الله تعالى رسولاً من البشر ، أو سلموا أنه لا تعجب في ذلك ، وإنما تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بالوحي والرسالة.
أما الأول : فبعيد لأن العقل شاهد بأن مع حصول التكليف لا بد من منبه ورسول يعرفهم تمام ما يحتاجون إليه في أديانهم كالعبادات وغيرها.
جزء : 17 رقم الصفحة : 188
وإذا ثبت هذا فنقول : الأولى أن يبعث إليهم من كان من جنسهم ليكون سكونهم إليه أكمل والفهم به أقوى ، كما قال تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَـاهُ رَجُلا} (الأنعام : 9) وقال : {قُل لَّوْ كَانَ فِى الارْضِ مَلَـا اـاِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَـاـاِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولا} (الإسراء : 95).
وأما الثاني : فبعيد لأن محمداً عليه الصلاة والسلام كان موصوفاً بصفات الخير والتقوى والأمانة ، وما كانوا يعيبونه إلا بكونه يتيماً فقيراً ، وهذا في غاية البعد ، لأنه تعالى غني عن العالمين فلا ينبغي أن يكون الفقر سبباً لنقصان الحال عنده ، ولا أن يكون الغنى سبباً لكمال الحال عنده. كما قال تعالى : {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } (سبأ : 37) فثبت أن تعجب الكفار من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة كلام فاسد.
المسألة الثانية : الهمزة في قوله : {أَكَانَ} لإنكار التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب و{أَنْ أَوْحَيْنَآ} اسم كان وعجباً خبره ، وقرأ ابن عباس فجعله اسماً وهو نكرة و{عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ} خبره وهو معرفة كقوله : يكون مزاجها عسل وماء. والأجود أن تكون "كان" تامة ، وأن أوحينا ، بدلاً من عجب.
المسألة الثالثة : أنه تعالى قال : {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} ولم يقل أكان عند الناس عجباً ، والفرق أن قوله : {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه وعينوه لتوجيه الطيرة والاستهزاء والتعجب إليه وليس في قوله : "أكان عند الناس عجباً" هذا المعنى.
المسألة الرابعة : {ءَانٍ} مع الفعل في قولنا : {أَنْ أَوْحَيْنَآ} في تقدير المصدر وهو اسم كان وخبره ، هو قوله : {عَجَبًا} وإنما تقدم الخبر على المبتدأ ههنا لأنهم يقدمون الأهم ، والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم ، وأما {ءَانٍ} في قوله : {أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} فمفسرة لأن الإيحاء فيه معني القول ، / ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس.
جزء : 17 رقم الصفحة : 188
(1/2321)

المسألة الخامسة : أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله ، بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير. أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي ، وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.
المسألة السادسة : قوله : {قَدَمَ صِدْقٍ} فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين. أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في "البسيط" منها وجوهاً. قال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة ، والمعنى : أنهم قد سبق لهم عند الله خير. قال ذو الرمة :
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة
لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير ، وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.
واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني ، أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم ، فسمى المسبب باسم السبب ، كما سميت النعمة يداً ، لأنها تعطى باليد.
فإن قيل : فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه : {قَدَمَ صِدْقٍ} .
قلنا : الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة ، وقال بعضهم : المراد مقام صدق. وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل {قَدَمَ صِدْقٍ} على الأعمال الصالحة ؛ وبعضهم حمله على الثواب ، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام ، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد :
صل لذي العرش واتخذ قدما
بنجيك يوم العثار والزلل
المسألة السابعة : أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين {إِنَّ هَـاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر. والابتداء بقوله : {قَالَ الْكَـافِرُونَ} على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ، قال القفال : وإضمار هذا ، غير قليل في القرآن.
المسألة الثامنة : قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي {إِنَّ هَـاذَا لَسِحْرٌ} والمراد منه محمد صلى الله عليه وسلّم ، والباقون {لَسِحْرٌ} والمراد به القرآن.
جزء : 17 رقم الصفحة : 188
واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحراً يدل على عظم محل القرآن عندهم ، وكونه معجزاً. / وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة ، فاحتاجوا إلى هذا الكلام.
واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحراً ، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح ، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه. فقال بعضهم : أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ، ولكنه باطل في الحقيقة ، ولا حاصل له ، وقال أخرون : أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله ، جار مجرى السحر.
واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه ، وإنما قلنا إنه في غاية الفساد ، لأنه صلى الله عليه وسلّم كان منهم ، ونشأ بينهم وما غاب عنهم ، وما خالط أحداً سواهم ، وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء ، حتى يقال : إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك ، كان حمل القرآن على السحر كلاماً في غاية الفساد ، فلهذا السبب ترك جوابه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 188
193
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولاً يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب ، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب ، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين : أحدهما : إثبات أن لهذا لعالم إلهاً قاهراً قادراً نافذاً لحكم بالأمر والنهي والتكليف. والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما ، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.
أما الأول : وهو إثبات الإلهية ، فبقوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} .
وأما الثاني : وهو إثبات المعاد والحشر والنشر. فبقوله : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } (يونس : 4) فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن ، ونهاية الكمال. وفي الآية مسائل :
(1/2322)

/ المسألة الأولى : قد ذكرنا في هذا الكتاب ، وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى ، إما الامكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات ، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة ، وهي إمكان الذوات ، وإمكان الصفات ، وحدوث الذوات ، وحدوث الصفات. وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السموات والكواكب ، وتارة في العالم السفلي ، والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي ، وتارة في أحوال العالم السفلي ، والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها ، وتقريره من وجوه : الأول : أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى ، ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر.
أما بيان المقام الأول : فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية ، وقد دللنا في الكتب العقلية على أن كل ما كان قابلاً للقسمة الوهمية ، فإنه يكون مركباً من الأجزاء والأبعاض. ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة ، ولكنه يكون في نفسه شيئاً واحداً كلام فاسد باطل. فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى ، وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر ، وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم ، وبعضها حصلت على سطحها ، وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة ، والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط ، ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع.
جزء : 17 رقم الصفحة : 193
وإذا ثبت هذا فنقول : حصول بعضها في الداخل ، وحصول بعضها في الخارج ، أمر ممكن الحصول جائز الثبوت ، يجوز أن ينقلب الظاهر باطناً ، والباطن ظاهراً. وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر ، يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم.
الوجه الثاني : في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول : حركات هذه الأفلاك لها بداية ، ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر.
أما المقام الأول : فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال ، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها ، والأزل ينافي المسبوقية بالغير ، فكان الجمع بين الحركة / وبين الأزل محالاً ، فثبت أن لحركات الأفلاك أولاً ، وإذا ثبت هذا وجب أن يقال : هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة ، لكنها كانت واقفة وساكنة. وما كانت متحركة ، وعلى التقديرين : فلحركاتها أول وبداية.
"وأما المقام الثاني" : وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر ، فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده ، لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص ، وترجيح مرجح. وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجباً بالذات ، وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلاً قبل ذلك الوقت ، ولما بطل هذا ، ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب.
الوجه الثالث : في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار ، وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر ، وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول. فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن ، ولا بد له من مرجح ، ويعود التقرير الأول فيه. فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية ، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أن كلمة {الَّذِى } كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، كما إذا قيل لك من زيد ؟
فتقول : الذي أبوه منطلق ، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقاً ، أمراً معلوماً عند السامع ، فهنا لما قال : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام ، أمراً معلوماً عند السامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف ؟
جزء : 17 رقم الصفحة : 193
وجوابه أن يقال : هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى ، لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة. ولما كان ذلك مشهوراً عندهم والعرب كانوا يخالطونهم ، فالظاهر أنهم أيضاً سمعوه منهم ، فلهذا السبب حسن هذا التعريف.
السؤال الثاني : ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها ؟
(1/2323)

والجواب : أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر. والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى ، والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعه ، لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان ، فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة ، فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الأن الأول أو لم يحصل ، فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد ، وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر ، فهما / إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى ، فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئاً. وهو محال. وإن كان شيئاً آخر ، فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة ، وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء. فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة ، ولا شك أيضاً أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج.
وإذا ثبت هذا فنقول ههنا مذهبان : الأول : قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد ، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح ، وعلى هذا القول يسقط قول من يقول : لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة ؟
لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة ، فسقط هذا السؤال. الثاني : قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة. فعند هذا قال القاضي : لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة ، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين. ثم قال القاضي :
فإن قيل : فمن المعتبر وما وجه الاعتبار ؟
ثم أجاب وقال : أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين ، أو معهما ، وإلا لكان خلقهما عبثاً.
فإن قيل : فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد ؟
قلنا : إنه تعالى لا يخاف الفوت ، فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد ، لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك ، وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت ، ونخاف العجز والقصور. قال : وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقاً على خلق السموات والأرض.
جزء : 17 رقم الصفحة : 193
فإن قيل : أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان ، فقبل خلق السموات والأرض لا مكان ، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان ؟
قلنا : الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته ؟
وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر ، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالاً بعد حال أقوى. والدليل عليه : أن ما يحدث على هذا الوجه ، فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم. وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك.
/ والسؤال الثالث : فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال : إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ؟
والجواب : قال القاضي : الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما ، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً ، إلا والمدة هذه الأيام المعلومة.
ولقائل أن يقول : لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل ، وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا ، لم يكن ذلك قادحاً في صحة التعريف.
السؤال الرابع : هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها ، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها ، فكيف يعقل هذا التعريف ؟
والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة ، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر ، لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام :
ولقائل أن يقول : فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم ، يحصل فيها حدوث العالم ، وذلك يوجب قدم المدة.
وجوابه : أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة ، والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى ، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال ، فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم.
السؤال الخامس : أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته ، وقد يراد به النهار وحده. فالمراد بهذه الآية أيهما.
والجواب : الغالب في اللغة أنه يراد باليوم. اليوم بليلته.
جزء : 17 رقم الصفحة : 193
(1/2324)

المسألة الثانية : أما قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ففيه مباحث : الأول : أن هذا يوهم كونه تعالى مستقراً على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه ، ولكنا نكتفي ههنا بعبارة وجيزة. فنقول : هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمداً عليه مستقراً عليه ، بحيث لولا العرش لسقط ونزل ، كما أنا إذا قلنا إن فلاناً مستو على سريره. فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى. إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجاً إلى العرش ، وإنه لولا العرش لسقط ونزل ، وذلك محال ، لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له ، ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له. والثاني : أن قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستوياً عليه/ / وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال ، وكل من كان متغيراً كان محدثاً ، وذلك بالاتفاق باطل. الثالث : أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت ، فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضظرباً متحركاً ، وكل ذلك من صفات المحدثات. الرابع : أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة {ثُمَّ} تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنياً عن العرش ، فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة. فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عن العرش ، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقراً على العرش. فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق ، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى.
المسألة الثالثة : اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسماً عظيماً هو العرش.
إذا ثبت هذا فنقول : العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره ؟
فيه قولان :
جزء : 17 رقم الصفحة : 193
القول الأول : وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني ، أنه ليس المراد منه ذلك ، بل المراد من قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها ، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشاً ، وبانيه يسمى عارشاً ، قال تعالى : {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل : 68) أي يبنون ، وقال في صفة القرية {فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (الحج : 45) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها ، وقال : {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} (هود : 7) أي بناؤه ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة ، فالباني يبني البناء متباعداً عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم ، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته ، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالانْعَـامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِه ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} (الزخرف : 12 ، 13) قال أبو مسلم : فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه. فنقول : وجب حمل اللفظ عليه ، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء ، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى ، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد ، والعرش الذي في السماء ليس كذلك ، وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة ، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزاً صواباً حسناً. ثم قال : ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} إشارة إلى تخليق ذواتها ، وقوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها ، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله / سبحانه وتعالى : {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاـاهَا} (النازعات : 27 ، 28) فذكر أولاً أنه بناها ، ثم ذكر ثانياً أنه رفع سمكها فسواها. وكذلك ههنا. ذكر بقوله : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.
جزء : 17 رقم الصفحة : 193
(1/2325)

والقول الثاني : وهو القول المشهور لجمهور المفسرين : أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية : الجسم العظيم الذي في السماء ، وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} (هود : 7) وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين. بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر. وهو أن يكون المراد : ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش.
والقول الثالث : أن المراد من العرش الملك ، يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب ، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات ، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات والكائنات. والحاصل أن العرش عبارة عن الملك ، وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته ، ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السموات والأرض ، لا جرم صح إدخال حرف {ثُمَّ} الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة : أما قوله : {يُدَبِّرُ الامْرَ } معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله ، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها ، كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. والمراد من {الامْرَ } الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض.
فإن قيل : ما موقع هذه الجملة ؟
قلنا : قد دل بكونه خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستوياً على العرش ، على نهاية العظمة وغاية الجلالة. ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولاحادث من الحوادث ، إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه ، فيصير ذلك دليلاً على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير ، وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات ، وإليه تنتهي الحاجات.
/ وأما قوله تعالى : {مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِنا بَعْدِ إِذْنِه } ففيه قولان :
القول الأول : وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها ، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر. ولا يستجرىء أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه ، لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب ، فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح.
جزء : 17 رقم الصفحة : 193
فإن قيل : كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق ، وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة ؟
والجواب من وجوه :
الوجه الأول : ما ذكره الزجاج : وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، فالمراد منه الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ} (النبأ : 38).
والوجه الثاني : وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلهاً للعالم مستقلاً بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع ، بين أمر المبدأ بقوله : {يُدَبِّرُ الامْرَ } وبين حال المعاد بقوله : {مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِنا بَعْدِ إِذْنِه } .
والوجه الثالث : يمكن أيضاً أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح ، مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح ، فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم ، ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه.
والقول الثاني : في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، فقال : الشفيع ههنا هو الثاني ، وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر ، كما يقال الزوج والفرد ، فمعنى الآية خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ، ثم خلق الملائكة والجن والبشر ، وهو المراد من قوله : {إِلا مِنا بَعْدِ إِذْنِه } أي لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود ، إلا من بعد أن قال له : كن ، حتى كان وحصل.
واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال ، ختمها بعد ذلك بقوله : {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه } مبيناً بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له ، ومنبهاً على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها.
ثم قال بعده : {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} دالاً بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة ، وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته ، أعلى / المراتب وأكمل الدرجات.
جزء : 17 رقم الصفحة : 193
207
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل الدالة على إثبات المبدأ ، أردفه بما يدل على صحة القول بالمعاد. وفيه مسائل :
(1/2326)

المسألة الأولى : في بيان أن إنكار الحشر والنشر ليس من العلوم البديهية ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن العقلاء اختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه. وقال بإمكانه عالم من الناس ، وهم جمهور أرباب الملل والأديان. وما كان معلوم الامتناع بالبديهة امتنع وقوع الاختلاف فيه. الثاني : أنا إذا رجعنا إلى عقولنا السليمة ، وعرضنا عليها أن الواحد ضعف الاثنين ، وعرضنا عليها أيضاً هذه القضية ، لم نجد هذه القضية في قوة الامتناع مثل القضية الأولى. الثالث : أنا إما أن نقول بثبوت النفس الناطقة أولا نقول به. فإن قلنا به فقد زال الإشكال بالكلية ، فإنه كما لا يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى ، لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى. وإن أنكرنا القول بالنفس فالاحتمال أيضاً قائم ، لأنه لا يبعد أن يقال إنه سبحانه يركب تلك الأجزاء المفرقة تركيباً ثانياً ، ويخلق الأنسان الأول مرة أخرى. والرابع : أنه سبحانه ذكر أمثلة كثيرة دالة على إمكان الحشر والنشر ونحن نجمعها ههنا.
فالمثال الأول : أنا نرى الأرض خاشعة وقت الخريف ، ونرى اليبس مستولياً عليها بسبب شدة الحر في الصيف. ثم إنه تعالى ينزل المطر عليها وقت الشتاء والربيع ، فتصير بعد ذلك متحلية بالأزهار العجيبة والأنوار الغريبة كما قال تعالى : {وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} (فاطر : 9) وثانيها : قوله تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } (فصلت : 39) إلى قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّه يُحْىِ الْمَوْتَى } (الحج : 6) وثالثها : قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ فِى الارْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُه ثُمَّ} (الزمر : 21) والمراد كونه منبهاً على أمر المعاد. ورابعها : قوله : {ثُمَّ أَمَاتَه فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَه * كَلا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَه * فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ إِلَى طَعَامِه } (عبس : 21 ـ 24) وقال عليه السلام : "إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور" ولم تحصل المشابهة بين الربيع وبين النشور إلا من الوجه الذي ذكرناه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
المثال الثاني : ما يجده كل واحد منا من نفسه من الزيادة والنمو بسبب السمن ، ومن النقصان والذبول بسبب الهزال ، ثم إنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن.
وإذا ثبت هذا فنقول : ما جاز تكون بعضه لم يمتنع أيضاً تكون كله ، ولما ثبت ذلك ظهر أن الإعادة غير ممتنعة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ} (الواقعة : 61) يعني أنه سبحانه لما كان قادراً على إنشاء ذواتكم أولاً ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانياً شيئاً فشيئاً من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نقصانه. فوجب القطع أيضاً بأنه لا يمتنع عليه سبحانه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة.
(1/2327)

المثال الثالث : أنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق ، فلأن يكون قادراً على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى ، وهذا الكلام قرره تعالى في آيات كثيرة ، منها في هذه الآية وهو قوله : {إِنَّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } وثانيها : قوله تعالى في سورة يس : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (يس : 79) وثالثها : قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} (الواقعة : 62) ورابعها : قوله تعالى : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِا بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق : 15) وخامسها : قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى } (القيامة : 36 ، 33) إلى قوله : {أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى } (القيامة : 40) وسادسها : قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن تُرَابٍ} (الحج : 5) إلى قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّه يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ} (الحج : 6 ، 7) فاستشهد تعالى في هذه الآية على صحة الحشر بأمور : الأول : أنه استدل بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني وهو قوله : {إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن تُرَابٍ} كأنه تعالى يقول : لما حصل الخلق الأول بانتقال هذه الأجسام من أحوال إلى أحوال أخرى فلم لا يجوز أن يحصل الخلق الثاني بعد تغيرات كثيرة ، واختلافات متعاقبة ؟
والثاني : أنه تعالى شبهها بإحياء الأرض الميتة. والثالث : أنه تعالى هو الحق وإنما يكون كذلك لو كان كامل القدرة تام العلم والحكمة. فهذه هي الوجوه المستنبطة من هذه الآية على إمكان صحة الحشر والنشر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
والآية السابعة : في هذا الباب قوله تعالى : {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُم فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (الإسراء : 50/ 51).
/ المثال الرابع : أنه تعالى لما قدر على تخليق ما هو أعظم من أبدان الناس فكيف يقال : إنه لا يقدر على إعادتها ؟
فإن من كان الفعل الأصعب عليه سهلاً ، فلأن يكون الفعل السهل الحقير عليه سهلاً كان. أولى وهذا المعنى مذكور في آيات كثيرة : منها : قوله تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 81) وثانيها : قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِـاىَ الْمَوْتَى } (الأحقاف : 33) وثالثها : {أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا} (النازعات : 27).
المثال الخامس : الاستدلال بحصول اليقظة بعد النوم على جواز الحشر والنشر ، فإن النوم أخو الموت ، واليقظة بعد الموت. قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام : 60) ثم ذكر عقيبه أمر الموت والبعث ، فقال : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ا وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ } (الأنعام : 61 ، 62) وقال في آية أخرى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } (الزمر : 42) إلى قوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد : 3) والمراد منه الاستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر.
المثال السادس : أن الإحياء بعد الموت لا يستنكر إلا من حيث إنه يحصل الضد بعد حصول الضد ، إلا أن ذلك غير مستنكر في قدرة الله تعالى ، لأنه لما جاز حصول الموت عقيب الحياة فكيف يستبعد حصول الحياة مرة أخرى بعد الموت ؟
فإن حكم الضدين واحد. قال تعالى مقرراً لهذا المعنى : {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (الواقعة : 60) وأيضاً نجد النار مع حرها ويبسها تتولد من الشجر الأخضر مع برده ورطوبته فقال : {الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} (يس : 80) فكذا ههنا ، فهذا جملة الكلام في بيان أن القول بالمعاد ، وحصول الحشر والنشر غير مستبعد في العقول.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
المسألة الثانية : في إقامة الدلالة على أن المعاد حق واجب.
(1/2328)

اعلم أن الأمة فريقان منهم من يقول : يجب عقلاً أن يكون إله العالم رحيماً عادلاً منزهاً عن الإيلام والإضرار ، إلا لمنافع أجل وأعظم منها ، ومنهم من ينكر هذه القاعدة ويقول : لا يجب على الله تعالى شيء أصلاً ، بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أما الفريق الأول : فقد احتجوا على وجود المعاد من وجوه.
الحجة الأولى : أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولاً بها يميزون بين الحسن والقبيح ، وأعطاهم قدراً بها يقدرون على الخير والشر. وإذا ثبت هذا فمن الواجب في حكمة الله تعالى وعدله / أن يمنع الخلق عن شتم الله وذكره بالسوء ، وأن يمنعهم عن الجهل والكذب وإيذاء أنبيائه وأوليائه ، والصالحين من خلقه. ومن الواجب في حكمته أن يرغبهم في الطاعات والخيرات والحسنات ، فإنه لو لم يمنع عن تلك القبائح ، ولم يرغب في هذه الخيرات ، قدح ذلك في كونه محسناً عادلاً ناظراً لعباده. ومن المعلوم أن الترغيب في الطاعات لا يمكن إلا بربط الثواب بفعلها ، والزجر عن القبائح لا يمكن إلا بربط العقاب بفعلها ، وذلك الثواب المرغب فيه ، والعقاب المهدد به غير حاصل في دار الدنيا. فلا بد من دار أخرى يحصل فيها هذا الثواب ، وهذا العقاب ، وهو المطلوب ، وإلا لزم كونه كاذباً ، وأنه باطل. وهذا هو المراد من الآية التي نحن فيها وهي قوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنه يكفي في الترغيب في فعل الخيرات ، وفي الردع عن المنكرات ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات ولا حاجة مع ذلك إلى الوعد والوعيد ؟
سلمنا أنه لا بد من الوعد والوعيد ، فلم لا يجوز أن يقال : الغرض منه مجرد الترغيب والترهيب ليحصل به نظام العالم كما قال تعالى : {ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَه ا يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} (الزمر : 16) فإما أن يفعل تعالى ذلك فما الدليل عليه ؟
قوله لو لم يفعل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد لصار كلامه كذباً فنقول : ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن لقيام الدلالة على وجوب ذلك التخصيص فإن كان هذا كذباً وجب فيما تحكمون به من تلك التخصيصات أن يكون كذباً ؟
سلمنا أنه لا بد وأن يفعل الله تعالى ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال : إن ذلك الثواب والعقاب عبارة عما يصل إلى الإنسان من أنواع الراحات واللذات ومن أنواع الآلام والأسقام ، وأقسام الهموم والغموم ؟
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
والجواب عن السؤال الأول : أن العقل وإن كان يدعوه إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية/ وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح قوي ومعاضد كامل ، وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك.
والجواب عن السؤال الثاني : أنه إذا جوز الإنسان حصول الكذب على الله تعالى فحينئذ لا يحصل من الوعد رغبة ، ولا من الوعيد رهبة ، لأن السامع يجوز كونه كذباً.
والجواب عن السؤال الثالث : أن العبد ما دامت حياته في الدنيا فهو كالأجير المشتغل بالعمل. والأجير حال اشتغاله بالعمل لا يجوز دفع الأجرة بكمالها إليه ، لأنه إذا أخذها فإنه لا يجتهد في العمل. وأما إذا كان محل أخذ الأجرة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل ، وأيضاً نرى / في هذه الدنيا أن أزهد الناس وأعلمهم مبتلي بأنواع الغموم والهموم والأحزان ، وأجهلهم وأفسقهم في اللذات والمسرات ، فعلمنا أن دار الجزاء يمتنع أن تكون هذه الدار فلا بد من دار أخرى ، ومن حياة أخرى ، ليحصل فيها الجزاء.
الحجة الثانية : أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن وبين المسيء ، وأن لا يجعل من كفر به ، أو جحده بمنزلة من أطاعه ، ولما وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التفرقة إما أن يكون في دار الدنيا ، أو في دار الآخرة ، والأول باطل. لأنا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات ، ونرى العلماء والزهاد بالضد منه ، ولهذا المعنى قال تعالى : {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ} (الزخرف : 33) فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى ، وهو المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } وهو المراد أيضاً بقوله تعالى في سورة طه : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } (طه : 15) وبقوله تعالى في سورة ص : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص : 28).
فإن قيل : أما أنكرتم أن يقال إنه تعالى لا يفصل بين المحسن وبين المسيء في الثواب والعقاب كما لم فصل بينهما في حسن الصورة وفي كثرة المال ؟
(1/2329)

جزء : 17 رقم الصفحة : 207
والجواب : أن هذا الذي ذكرته مما يقوي دليلنا ، فإنه ثبت في صريح العقل وجوب التفرقة ، ودل الحس على أنه لم تحصل هذه التفرقة في الدنيا ، بل كان الأمر على الضد منه ، فإنا نرى العالم والزاهد في أشد البلاء ، ونرى الكافر والفاسق في أعظم النعم. فعلمنا أنه لا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا التفاوت ، وأيضاً لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لو أعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ، وأن ذلك الكافر الفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد في الشر وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ} (الشورى : 27).
الحجة الثالثة : أنه تعالى كلف عبيده بالعبودية فقال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الطاريات : 56) والحكيم إذا أمر عبده بشيء ، فلا بد وأن يجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تلك التكاليف ، والناس جبلوا على طلب اللذات وتحصيل الراحات لأنفسهم ، فلو لم يكن لهم زاجر من خوف المعاد لكثر الهرج والمرج ولعظمت الفتن ، وحينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداء العبادات. فوجب القطع بحصول دار الثواب والعقاب لتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف على الاشتغال بأداء العبودية.
/ فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في بقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم ؟
وأيضاً فالأوباش يعلمون أنهم لو حكموا بحسن الهرج والمرج. لانقلب الأمر عليهم ولقدر غيرهم على قتلهم ، وأخذ أموالهم ، فلهذا المعنى يحترزون عن إثارة الفتن.
والجواب : أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفي في ذلك ، وذلك لأن السلطان إما أن يكون قد بلغ في القدرة والقوة إلى حيث لا يخاف من الرعية ، وإما أن يكون خائفاً منهم ، فإن كان لا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له من المعاد ، فحينئذ يقدم على الظلم والإيذاء على أقبح الوجوه ، لأن الداعية النفسانية قائمة ، ولا رادع له في الدنيا ولا في الآخرة ، وأما إن كان يخاف الرعية فحينئذ الرعية لا يخافون منه خوفاً شديداً ، فلا يصير ذلك رادعاً لهم عن القبائح والظلم. فثبت أن نظام العالم لا يتم ولا يكمل إلا بالرغبة في المعاد والرهبة عنه.
الحجة الرابعة : أن السلطان القاهر إذا كان له جمع من العبيد ، وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء ، وجب على ذلك السلطان إن كان رحيماً ناظراً مشفقاً عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي ، فإن لم يفعل ذلك كان راضياً بذلك الظلم ، والرضا بالظلم لا يليق بالرحيم الناظر المحسن.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
إذا ثبت هذا فنقول : إنه سبحانه سلطان قاهر قادر حكيم منزه عن الظلم والعبث. فوجب أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين ، وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار ، لأن المظلوم قد يبقى في غاية الذلة والمهانة ، والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة ، فلا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا العدل وهذا الإنصاف ، وهذه الحجة يصلح جعلها تفسيراً لهذه الآية التي نحن في تفسيرها.
فإن قالوا : إنه تعالى لما أقدر الظالم على الظلم في هذه الدار ، وما أعجزه عنه ، دل على كونه راضياً بذلك الظلم.
قلنا : الإقدار على الظلم عين الإقدار على العدل والطاعة ، فلو لم يقدره تعالى على الظلم لكان قد أعجزه عن فعل الخيرات والطاعات ، وذلك لا يليق بالحكيم ، فوجب في العقل إقداره على الظلم والعدل ، ثم إنه تعالى ينتقم للمظلوم من الظالم.
الحجة الخامسة : أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق كل من فيه من الناس فإما أن يقال : إنه تعالى خلقهم لا لمنفعة ولا لمصلحة ، أو يقال : إنه تعالى خلقهم لمصلحة ومنفعة.والأول : يليق بالرحيم الكريم. والثاني : وهو أن يقال : إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير ، فذلك الخير والمصلحة إما أن يحصل في هذه الدنيا أو في دار أخرى ، والأول باطل من وجهين : الأول : أن لذات هذا / العالم جسمانية ، واللذات الجسمانية لا حقيقية لها إلا إزالة الألم ، وإزالة الألم أمر عدمي ، وهذا العدم كان حاصلاً حال كون كل واحد من الخلائق معدوماً ، وحينئذ لا يبقى للتخليق فائدة. والثاني : أن لذات هذا العالم ممزوجة بالآلام والمحن ، بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات والمحن والبليات ، واللذة فيها كالقطرة في البحر. فعلمنا أن الدار التي يصل فيها الخلق إلى تلك الراحات المقصودة دار أخرى سوى دار الدنيا.
فإن قالوا : أليس أنه تعالى يؤلم أهل النار بأشد العذاب لا لأجل مصلحة وحكمة ؟
فلم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى يخلق الخلق في هذا العالم لا لمصلحة ولا لحكمة.
قلنا : الفرق أن ذلك الضرر ضرر مستحق على أعمالهم الخبيثة. وأما الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحق ، فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة ومنافع جابرة لتلك المضار السالفة ، وإلا لزم أن يكون الفاعل شريراً مؤذياً ، وذلك ينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
(1/2330)

الحجة السادسة : لو لم يحصل للإنسان معاد لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات في المنزلة والشرف. واللازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة أن مضار الإنسان في الدنيا أكثر من مضار جميع الحيوانات ، فإن سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام والأسقام تكون فارغة البال طيبة النفس/ لأنه ليس لها فكر وتأمل. أما الإنسان فإنه بسبب ما يحصل له من العقل يتفكر أبداً في الأحوال الماضية والأحوال المستقبلة ، فيحصل له بسبب أكثر الأحوال الماضية أنواع من الحزن والأسف ، ويحصل له بسبب أكثر الأحوال الآتية أنواع من الخوف ، لأنه لا يدري أنه كيف تحدث الأحوال. فثبت أن حصول العقل للإنسان سبب لحصول المضار العظيمة في الدنيا والآلام النفسانية الشديدة القوية. وأما اللذات الجسمانية فهي مشتركة بين الناس وبين سائر الحيوانات ، لأن السرقين في مذاق الجعل طيب ، كما أن اللوزينج في مذاق الإنسان طيب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
إذا ثبت هذا فنقول : لو لم يحصل للإنسان معاد به تكمل حالته وتظهر سعادته ، لوجب أن يكون كمال العقل ، سبباً لمزيد الهموم والغموم والأحزان من غير جابر يجبر ، ومعلوم أن كل ما كان كذلك فإنه يكون سبباً لمزيد الخسة والدناءة والشقاء والتعب الخالية عن المنفعة. فثبت أنه لولا حصول السعادة الأخروية لكان الأنسان أخس الحيوانات حتى الخنافس والديدان ، ولما كان ذلك باطلاً قطعاً ، علمنا أنه لا بد من الدار الآخرة ، وأن الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا ، وأنه بعقله يكتسب موجبات السعادات الأخروية. فلهذا السبب كان العقل شريفاً.
الحجة السابعة : أنه تعالى قادر على إيصال النعم إلى عبيده على وجهين : أحدهما : أن تكون / النعم مشوبة بالآفات والأحزان. والثاني : أن تكون خالصة عنها ، فلما أنعم الله تعالى في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى ، إظهاراً لكمال القدرة والرحمة والحكمة ، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين ، ويزيل الغموم والهموم والشهوات والشبهات. والذي يقوي ذلك ، ويقرر هذا الكلام أن الإنسان حين كان جنيناً في بطن أمه ، كان في أضيق المواضع وأشدها عفونة وفساداً ، ثم إذا خرج من بطن أمه كانت الحالة الثانية أطيب وأشرف من الحالة الأولى ، ثم إنه عند ذلك يوضع في المهد ويشد شداً وثيقاً ، ثم بعد حين يخرج من المهد ويعدو يميناً وشمالاً ، وينتقل من تناول اللبن إلى تناول الأطعمة الطيبة ، وهذه الحالة الثالثة لا شك أنها أطيب من الحالة الثانية ، ثم إنه بعد حين يصير أميراً نافذ الحكم على الخلق ، أو عالماً مشرفاً على حقائق الأشياء ، ولا شك أن هذه الحالة الرابعة أطيب وأشرف من الحالة الثالثة. وإذا ثبت هذا وجب بحكم هذا الاستقراء أن يقال : الحالة الحاصلة بعد الموت تكون أشرف وأعلى وأبهج من اللذات الجسدانية والخيرات الجسمانية.
الحجة الثامنة : طريقة الاحتياط ، فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له ، فإن كان هذا المذهب حقاً ، فقد نجونا وهلك المنكر ، وإن كان باطلاً ، لم يضرنا هذا الاعتقاد. غاية ما في الباب أن يقال إنه تفوتنا هذه اللذات الجسمانية إلا أنا نقول يجب على العاقل أن لا يبالي بفوتها لأمرين أحدهما : أنها في غاية الخساسة لأنها مشترك فيها بين الخنافس والديدان والكلاب. والثاني : أنها منقطعة سريعة الزوال. فثبت أن الاحتياط ليس إلا في الإيمان بالمعاد ، ولهذا قال الشاعر :
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تحشر الأموات قلت إليكما
إن صح لكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
(1/2331)

الحجة التاسعة : اعلم أن الحيوان ما دام يكون حيواناً ، فإنه إن قطع منه شيء مثل ظفر أو ظلف أو شعر ، فإنه يعود ذلك الشيء ، وإن جرح اندمل ، ويكون الدم جارياً في عروقه وأعضائه جريان الماء في عروق الشجر وأغصانه ، ثم إذا مات انقلبت هذه الأحوال ، فإن قطع منه شيء من شعره أو ظفره لم ينبت/ وإن جرح لم يندمل ولم يلتحم ، ورأيت الدم يتجمد في عروقه ، ثم بالآخرة يؤول حاله إلى الفساد والانحلال. ثم إنا لما نظرنا إلى الأرض وجدناها شبيهة بهذه الصفة ، فإنا نراها في زمان الربيع تفور عيونها وتربو تلالها وينجذب الماء إلى أغصان الأشجار وعروقها ، والماء في الأرض بمنزلة الدم الجاري في بدن الحيوان ، ثم تخرج أزهارها وأنوارها وثمارها كما / قال تعالى : {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنابَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجا بَهِيجٍ} (الحج : 5) وإن جذ من نباتها شيء أخلف ونبت مكانه آخر مثله ، وإن قطع غصن من أغصان الأشجار أخلف ، وإن جرح التأم ، وهذه الأحوال شبيهة بالأحوال التي ذكرناها للحيوان. ثم إذا جاء الشتاء واشتد البرد غارت عيونها وجفت رطوبتها وفسدت بقولها ، ولو قطعنا غصناً من شجرة ما أخلف ، فكانت هذه الأحوال شبيهة بالموت بعد الحياة. ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة ، فإذا عقلنا هذه المعاني في إحدى الصورتين ، فلم لا نعقل مثله في الصورة الثانية ، بل نقول لا شك أن الإنسان أشرف من سائر الحيوانات ، والحيوان أشرف من النبات ، وهو أشرف من الجمادات. فإذا حصلت هذه الأحوال في الأرض ، فلم لا يجوز حصولها في الإنسان.
فإن قالوا : إن أجساد الحيوان تتفرق وتتمزق بالموت ، وأما الأرض فليست كذلك.
فالجواب : أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة ، وهو جوهر باق ، أو إن لم نقل بهذا المذهب فهو عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول وقت تكون الجنين إلى آخر العمر ، وهي جارية في البدن ، وتلك الأجزاء باقية ، فزال هذا السؤال.
الحجة العاشرة : لا شك أن بدن الحيوان إنما تولد من النطفة ، وهذه النطفة إنما اجتمعت من جميع البدن ، بدليل أن عند انفصال النطفة يحصل الضعف والفتور في جميع البدن ، ثم إن مادة تلك النطفة إنما تولدت من الأغذية المأكولة ، وتلك الأغذية إنما تولدت من الأجزاء العنصرية وتلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها ، واتفق لها أن اجتمعت ، فتولد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان ، فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه ، فتولد منها أجزاء لطيفة. ثم عند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار معين ، وهو النطفة ، فانصب إلى فم الرحم ، فتولد منه هذا الإنسان ، فثبت أن الأجزاء التي منها تولد بدن الأنسان كانت متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء ، ثم إنها اجتمعت بالطريق المذكور ، فتولد منها هذا البدن ، فإذا مات تفرقت تلك الأجزاء على مثال التفرق الأول.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
وإذا ثبت هذا فنقول وجب القطع أيضاً بأنه لا يمتنع أن يجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول ، وأيضاً ، فذلك المني لما وقع في رحم الأم ، فقد كان قطرة صغيرة ثم تولد منه بدن الإنسان وتعلقت الروح به حال ما كان ذلك البدن في غاية الصغر ، ثم إن ذلك البدن لا شك أنه في غاية الرطوبة ، ولا شك أنه يتحلل منه أجزاء كثيرة بسبب عمل الحرارة الغريزية فيها ، وأيضاً فتلك الأجزاء البدنية الباقية أبداً في طول العمر تكون في التحلل ، ولولا ذلك لما حصل الجوع ، ولما / حصلت الحاجة إلى الغذاء ، مع أنا نقطع بأن هذا الإنسان الشيخ ، هو عين ذلك الإنسان الذي كان في بطن أمه. ثم انفصل ، وكان طفلاً ثم شاباً ، فثبت أن الأجزاء البدنية دائمة التحلل ، وأن الإنسان هو هو بعينه. فوجب القطع بأن الإنسان ، إما أن يكون جوهراً مفارقاً مجرداً ، وإما أن يكون جسماً نورانياً لطيفاً باقياً مع تحلل هذا البدن ، فإذا كان الأمر كذلك فعلى التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثة مرة أخرى ، ويكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأول ، فثبت أن القول بالمعاد صدق.
(1/2332)

الحجة الحادية عشر : ما ذكره الله تعالى في قوله : {أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} واعلم أن قوله سبحانه : {خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ} (يس : 77) إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها ، فجمعها الله تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان ، والذي يقويه قوله سبحانه : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون : 12 ، 13) فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه ، وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات ، ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم ، ثم الدم ينقلب نطفة ، فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية. ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر ، وهو قوله تعالى : {قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} (يس : 78) ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين : أحدهما : أن يقال : إن مثله ممكن ، فوجب أن يكون هذا أيضاً ممكناً. والثاني : أن يقال : إن ما هو أعظم منه وأعلى حالاً منه ، فهو أيضاً ممكن. ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولاً فقال : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍا وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس : 79) ثم فيه دقيقة وهي أن قوله : {قُلْ يُحْيِيهَا} إشارة إلى كمال القدرة ، وقوله : {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى كمال العلم. ومنكروا الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين ، لأنهم تارة يقولون : إنه تعالى موجب بالذات ، والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين ، وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالماً بالجزئيات ، فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ، ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين ، لا جرم كلما ذكر الله تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني ، وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى ، وتقريره من وجهين : الأول : أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة ، والتراب بارد يابس ، فحصلت المضادة بينهما. إلا أنا نقول : الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية ، فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة ، فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية / في جرم التراب ؟
الثاني : قوله تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 81) بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب ، فكيف يمكنكم الامتناع من كونه قادراً على الحشر والنشر ؟
ثم إنه تعالى حسم مادة الشبهات بقوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم ، والدليل عليه أنه خلق الأب الأول ، لا عن أب سابق عليه ، فدل ذلك على كونه سبحانه غنياً في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات. ثم قال سبحانه : {فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس : 83) أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين ، ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين ، وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها ، وهي قوله سبحانه : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } .
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
(1/2333)

الحجة الثانية عشر : دلت الدلائل على أن العالم محدث ولا بد له من محدث قادر ، ويجب أن يكون عالماً ، لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم/ ويجب أن يكون غنياً عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال ، فثبت أن لهذا العالم إلهاً قادراً عالماً غنياً ، ثم لما تأملنا فقلنا : هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى ، ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا ربوبيته ، ويأكلوا نعمته ، ويعبدوا الجبت والطاغوت ، ويجعلوا له أنداداً وينكروا أمره ونهيه ووعده ووعيده ؟
فههنا حكمت بديهة العقل بأن هذه المعاني لا تليق إلا بالسفيه الجاهل البعيد من الحكمة. القريب من العبث ، فحكمنا لأجل هذه المقدمة أن له أمراً ونهياً ، ثم تأملنا فقلنا : هل يجوز أن يكون له أمر ونهي مع أنه لا يكون له وعد ووعيد ؟
فحكم صريح العقل بأن ذلك غير جائز لأنه إن لم يقرن الأمر بالوعد بالثواب ، ولم يقرن النهي بالوعيد بالعقاب لم يتأكد الأمر والنهي ، ولم يحصل المقصود. فثبت أنه لا بد من وعد ووعيد ، ثم تأملنا فقلنا : هل يجوز أن يكون له وعد ووعيد ثم إنه لا يفي بوعده لأهل الثواب ، ولا بوعيده لأهل العقاب : فقلنا : إن ذلك لا يجوز ، لأنه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده ولا بوعيده ، وهذا يوجب أن لا يبقى فائدة في الوعد والوعيد ، فعلمنا أنه لا بد من تحقيق الثواب والعقاب ، ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالحشر والبعث ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فهذه مقدمات يتعلق بعضها بالبعض كالسلسلة متى صح بعضها صح كلها ، ومتى فسد بعضها فسد كلها ، فدل مشاهدة أبصارنا لهذه التغيرات على حدوث العالم ، ودل حدوث العالم على وجود الصانع الحكيم الغني ، ودل ذلك على وجود الأمر والنهي ، ودل ذلك على وجود الثواب والعقاب ، ودل ذلك على وجوب الحشر. فإن لم / يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع المقدمات المذكورة ولزم إنكار العلوم البديهية وإنكار العلوم النظرية القطعية. فثبت أنه لا بد لهذه الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة المتمزقة من البعث بعد الموت ، ليصل المحسن إلى ثوابه والمسيء إلى عقابه ، فإن لم تحصل هذه الحالة لم يحصل الوعد والوعيد ، وإن لم يحصلا لم يحصل الأمر والنهي ، وإن لم يحصلا لم تحصل الإلهية ، وإن لم تحصل الإلهية لم تحصل هذه التغيرات في العالم. وهذه الحجة هي المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } هذا كله تقرير إثبات المعاد بناء على أن لهذا العالم إلهاً رحيماً ناظراً محسناً إلى العباد.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
أما الفريق الثاني : وهم الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح ، فطريقهم إلى إثبات المعاد أن قالوا : المعاد أمر جائز الوجود ، والأنبياء عليهم السلام أخبروا عنه ، فوجب القطع بصحته ، أما إثبات الإمكان فهو مبني على مقدمات ثلاثة.
المقدمة الأولى : البحث عن حال القابل فنقول : الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن ، فإن كان عبارة عن النفس وهو القول الحق ، فنقول : لما كان تعلق النفس بالبدن في المرة الأولى ، جائزاً كان تعلقها بالبدن في المرة الثانية يجب أن يكون جائزاً. وهذا الكلام لا يختلف ، سواء قلنا النفس عبارة عن جوهر مجرد ، أو قلنا : إنه جسم لطيف مشاكل لهذا البدن باق في جميع أحوال البدن مصون عن التحلل والتبدل ، وأما إن كان الأنسان عبارة عن البدن ، وهذا القول أبعد الأقاويل فنقول : إن تألف تلك الأجزاء على الوجه المخصوص في المرة الأولى كان ممكناً ، فوجب أيضاً أن يكون في المرة الثانية ممكناً ، فثبت أن عود الحياة إلى هذا البدن مرة أخرى أمره ممكن في نفسه.
وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أن إله العالم قادر مختار. لا علة موجبة ، وأن هذا القادر قادر على كل الممكنات.
وأما المقدمة الثالثة : فهي في بيان أن إله العالم عالم بجميع الجزئيات/ فلا جرم أجزاء بدن زيد وإن اختطلت بأجزاء التراب ، والبحار إلا أنه تعالى لما كان عالماً بالجزئيات أمكنه تمييز بعضها عن بعض. ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة ، لزم القطع بأن الحشر والنشر أمر ممكن في نفسه.
وإذا ثبت هذا الإمكان فنقول : دل الدليل على صدق الأنبياء وهم قطعوا بوقوع هذا الممكن ، فوجب القطع بوقوعه ، وإلا لزمنا تكذيبهم ، وذلك باطل بالدلائل الدالة على صدقهم ، فهذا خلاصة ما وصل إليه عقلنا في تقرير أمر المعاد.
/ المسألة الثالثة : في الجواب عن شبهات المنكرين للحشر والنشر.
(1/2334)

الشبهة الأولى : قالوا : لو بدلت هذه الدار بدار أخرى لكانت تلك الدار إما أن تكون مثل هذه الدار أو شراً منها أو خيراً منها ، فإن كان الأول كان التبديل عبثاً ، وإن كان شراً منها كان هذا التبديل سفهاً ، وإن كان خيراً منها ففي أول الأمر هل كان قادراً على خلق ذلك الأجود أو ما كان قادراً عليه ؟
فإن قدر عليه ثم تركه وفعل الأردأ كان ذلك سفهاً ، وإن قلنا : إنه ما كان قادراً ثم صار قادراً عليه فقد انتقل من العجز إلى القدرة ، أو من الجهل إلى الحكمة ، وأن ذلك على خالق العالم محال.
والجواب : لم لا يجوز أن يقال تقديم هذه الدار على تلك الدار هو المصلحة ، لأن الكمالات النفسانية الموجبة للسعادة الأخروية لا يمكن تحصيلها إلا في هذه الدار ، ثم عند حصول هذه الكمالات كان البقاء في هذه الدار سبباً للفساد والحرمان عن الخيرات.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
الشبهة الثانية : قالوا : حركات الأفلاك مستديرة ، والمستدير لا ضد له ، وما لا ضد له لا يقبل الفساد.
والجواب : أنا أبطلنا هذه الشبهة في الكتب الفلسفية ، فلا حاجة إلى الإعادة. والأصل في إبطال أمثال هذه الشبهات أن نقيم الدليل على أن أجرام الأفلاك مخلوقة ، ومتى ثبت ذلك ثبت كونها قابلة للعدم والتفرق والتمزق. ولهذا السر ، فإنه تعالى في هذه السورة بدأ بالدلائل الدالة على حدوث الأفلاك ، ثم أردفها بما يدل على صحة القول بالمعاد.
الشبهة الثالثة : الإنسان عبارة عن هذا البدن ، وهو ليس عبارة عن هذه الأجزاء كيف كانت ، لأن هذه الأجزاء كانت موجودة قبل حدوث هذا الإنسان ، مع أنا نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان ما كان موجوداً ، وأيضاً أنه إذا أحرق هذا الجسد ، فإنه تبقى تلك الأجزاء البسيطة ، ومعلوم أن مجموع تلك الأجزاء البسيطة من الأرض والماء والهواء والنار ، ما كان عبارة عن هذا الإنسان العاقل الناطق ، فثبت أن تلك الأجزاء إنما تكون هذا الإنسان بشرط وقوعها على تأليف مخصوص ، ومزاج مخصوص ، وصورة مخصوصة ، فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصور والأعراض ، وعود المعدوم محال. وعلى هذا التقدير فإنه يمتنع عود بعض الأجزاء المعتبرة في حصول هذا الأنسان فوجب أن يمتنع عوده بعينه مرة أخرى.
والجواب : لا نسلم أن هذا الأنسان المعين عبارة عن هذا الجسد المشاهد ، بل هو عبارة عن النفس. سواء فسرنا النفس بأنه جوهر مفارق مجرد ، أو قلنا إنه جسم لطيف مخصوص مشاكل لهذا الجسد مصون عن التغير ، والله أعلم به.
/ الشبهة الرابعة : إذا قتل إنسان واغتذى به إنسان آخر. فيلزم أن يقال تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال.
والجواب : هذه الشبهة أيضاً مبنية على أن الإنسان المعين عبارة عن مجموع هذا البدن ، وقد بينا أنه باطل. بل الحق أنه عبارة عن النفس سواء.
قلنا : النفس جوهر مجرد وأجسام لطيفة باقية مشاكلة للجسد ، وهي التي سمتها المتكلمون بالأجزاء الأصلية. وهذا آخر البحث العقلي عن مسألة المعاد.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } فيه أبحاث :
البحث الأول : أن كلمة "إلى" لانتهاء الغاية/ وظاهره يقتضي أن يكون الله سبحانه مختصاً بحيز وجهة ، حتى يصح أن يقال : إليه مرجع الخلق.
والجواب عنه من وجوه : الأول : أنا إذا قلنا. النفس جوهر مجرد ، فالسؤال زائل. الثاني : أن يكون المراد منه : أن مرجعهم إلى حيث لا حاكم سواه. الثالث : أن يكون المراد : أن مرجعهم إلى حيث حصل الوعد فيه بالمجازاة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
البحث الثاني : ظاهر الآيات الكثيرة يدل على أن الإنسان عبارة عن النفس ، لا عن البدن ، ويدل أيضاً على أن النفس كانت موجودة قبل البدن. أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ} فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت ، والنص دال على أنه حي ، فوجب أن تكون حقيقته شيئاً مغايراً لهذا البدن الميت ، وأيضاً قال الله تعالى في صفة نزع روح الكفار {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ } (الأنعام : 93) وأما إن النفس كانت موجودة قبل البدن ، فلأن قوله تعالى في هذه الآية : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} يدل على ما قلنا ، لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك ، ونظيره قوله تعالى : {أَحَدٌ * يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} (الفجر : 27 ، 28) وقوله : {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ } (الأنعام : 62).
البحث الثالث ؛ المرجع بمعنى الرجوع و{جَمِيعًا } نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع ، وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت ، وإنما المراد منه القيامة.
(1/2335)

البحث الرابع : قوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} يفيد الحصر ، وأنه لا رجوع إلا إلى الله تعالى ، ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره ، وأما قوله : {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : {وَعْدَ اللَّهِ} منصوب على معنى : وعدكم الله وعداً ، لأن قوله : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} معناه : الوعد بالرجوع ، فعلى هذا التقدير يكون قوله : {وَعْدَ اللَّهِ} مصدراً مؤكداً لقوله : / {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} وقوله : {حَقًّا } مصدراً مؤكداً لقوله : {وَعْدَ اللَّهِ} فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم.
المسألة الثانية : قرىء {وَعْدَ اللَّهِ} على لفظ الفعل. واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر ، ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود. ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه. أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه : {إِنَّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } وفيه مسائل :
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
المسألة الأولى : تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقاً للأفلاك والأرضين ، ويدخل فيه أيضاً كونه خالقاً لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان ، وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادراً على شيء ، وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال ، وكان عالماً بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه ، فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته.
المسألة الثانية : اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم ، واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا ؟
فقال قوم إنه تعالى يعدمها ، واحتجوا بهذه الآية وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها ، فوجب أن يعيد الأجسام أيضاً ، وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها ، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال. ونظيره قوله تعالى : {يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِا كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُه } (الأنبياء : 104) فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء ، ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم/ فوجب أن يقال إنه تعالى يعيدها أيضاً من العدم.
المسألة الثالثة : في هذه الآية إضمار ، كأنه قيل : إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ، ثم يميتهم ثم يعيدهم ، كما قال في سورة البقرة : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ} (البقرة : 28) إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا ، لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية : {إِذْنِه ا ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه } (يونس : 3) وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الأعادة يدل عليها.
المسألة الرابعة : قرأ بعضهم {إِنَّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } بالكسر وبعضهم بالفتح. قال الزجاج : من كسر الهمزة من "أن" فعلى الاستئناف ، وفي الفتح وجهان : الأول : أن يكون التقدير : إليه مرجعكم جميعاً لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده. والثاني : أن يكون التقدير : وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته ، وقرىء {يُبْدِئُ} من أبدأ وقرىء {حَقًّا إِنَّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} كقولك : حق إن زيداً منطلق.
أما قوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } فاعلم أن المقصود منه إقامة الدلالة على أنه لا بد من حصول الحشر والنشر ، حتى يحصل الفرق بين المحسن والمسيء ، وحتى يصل / الثواب إلى المطيع والعقاب إلى العاصي ، وقد سبق الاستقصاء في تقرير هذا الدليل ، وفيه مسائل :
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
المسألة الأولى : قال الكعبي : اللام في قوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } يدل على أنه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة. وأيضاً فإنه أدخل لام التعليل على الثواب. وأما العقاب فما أدخل فيه لام التعليل ، بل قال : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} وذلك يدل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، وذلك يدل على أنه ما أراد منهم الكفر ، وما خلق فيهم الكفر ألبتة.
والجواب : أن لام التعليل في أفعال الله تعالى محال ، لأنه تعالى لو فعل فعلاً لعلة لكانت تلك العلة ، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل ، وإن كانت حادثة لزم التسلسل وهو محال.
المسألة الثانية : قال الكعبي أيضاً : هذه الآية تدل على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يبدأ خلقهم في الجنة ، لأنه لو حسن إيصال تلك النعم إليهم من غير واسطة خلقهم في هذا العالم ومن غير واسطة تكليفهم ، لما كان خلقهم وتكليفهم معللاً بإيصال تلك النعم إليهم ، وظاهر الآية يدل على ذلك.
(1/2336)

والجواب : هذا بناء على صحة تعليل أحكام الله تعالى وهو باطل ، سلمنا صحته. إلا أن كلامه إنما يصح لو عللنا بدء الخلق وإعادته بهذا المعنى وذلك ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال : إنه يبدأ الخلق لمحض التفضل ، ثم إنه تعالى يعيدهم لغرض إيصال نعم الجنة إليهم ؟
وعلى هذا التقدير : سقط كلامه. أما قوله تعالى : {بِالْقِسْطِ } ففيه وجهان :
الوجه الأول : {بِالْقِسْطِ } بالعدل ، وهو يتعلق بقوله : {لِيَجْزِىَ} والمعنى : ليجزيهم بقسطه ، وفيه سؤالان.
السؤال الأول : أن القسط إذا كان مفسراً بالعدل ، فالعدل هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً ، وذلك يقتضي أنه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم ، ولا يعطيهم شيئاً على سبيل التفضل ابتداء.
والجواب : عندنا أن الثواب أيضاً محض التفضل. وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق ، إلا أن لفظ {الْقِسْطَ} يدل على توفية الأجر ، فأما المنع من الزيادة فلفظ {الْقِسْطَ} لا يدل عليه.
السؤال الثاني : لم خص المؤمنين بالقسط مع أنه تعالى يجازي الكافرين أيضاً بالقسط ؟
والجواب : أن تخصيص المؤمنين بذلك يدل على مزيد العناية في حقهم ، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد هذا الاحتياط.
/ الوجه الثاني : في تفسير الآية أن يكون المعنى : ليجزي الذين آمنوا بقسطهم ، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حيث آمنوا وعملوا الصالحات ، لأن الشرك ظلم. قال الله تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم. قال الله تعالى : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه } (فاطر : 32) وهذا الوجه أقوى ، لأنه في مقابلة قوله : {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (يونس : 70).
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
وأما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمُا بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : الحميم : الذي سخن بالنار حتى انتهى حره. يقال : حممت الماء أي سخنته ، فهو حميم. ومنه الحمام.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمناً وبين أن يكون كافراً ، لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين.
وأجاب القاضي عنه : بأن ذكر هذين القسمين لا يدل على نفي القسم الثالث. والدليل عليه قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍا فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِه وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى} (النور : 45) ولم يدل ذلك على نفي القسم الرابع ، بل نقول : إن في مثل ذلك ربما يذكر المقصود أو الأكثر ، ويترك ذكر ما عداه ، إذا كان قد بين في موضع آخر. وقد بين الله تعالى القسم الثالث في سائر الآيات.
والجواب أن نقول : إنما يترك القسم الثالث الذي يجري مجرى النادر ، ومعلوم أن الفساق أكثر من أهل الطاعات ، وكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب ؟
وأما قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } فإنما ترك ذكر القسم الرابع والخامس ، لأن أقسام ذوات الأرجل كثيرة. فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب بخلاف هذه المسألة. فإنه ليس ههنا إلا القسم الثالث ، وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنه لا مؤمن ولا كافر. فظهر الفرق.
جزء : 17 رقم الصفحة : 207
210
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على الإلهية ، ثم فرع عليها صحة القول بالحشر والنشر ، عاد مرة أخرى إلى ذكر الدلائل الدالة على الإلهية.
واعلم أن الدلائل المتقدمة في إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السموات والأرض ، وهذا النوع إشارة إلى التمسك بأحوال الشمس والقمر ، وهذا النوع الأخير إشارة إلى ما يؤكد الدليل الدال على صحة الحشر والنشر ، وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر ، بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة ، وإيصال العقاب إلى أهل الكفر ، وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسيء ، ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب ، فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة ، وإعداد مهمات الشتاء والصيف ، فكأنه تعالى يقول : تمييز المحسن عن المسيء والمطيع عن العاصي ، أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور. فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا. فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت ، مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية ، كان ذلك أولى. فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه ، وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه ، لا جرم ذكر الله هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد.
(1/2337)

المسألة الثانية : الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال : الأجسام في ذواتها متماثلة ، وفي ماهياتها متساوية ، ومتى كان الأمر كذلك كان اختصاص جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر ، واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار ، أما بيان أن الأجسام متماثلة في ذواتها وماهياتها ، فالدليل عليه أن الأجسام لا شك أنها متساوية في الحجمية والتحيز والجرمية ، فلو خالف بعضها بعضاً لكانت تلك المخالفة في أمر وراء الحجمية والجرمية ضرورة أن ما به المخالفة غير ما به المشاركة ، وإذا كان كذلك فنقول أن ما به حصلت المخالفة من الأجسام إما أن يكون صفة لها أو موصوفاً بها أو لا صفة لها ولا موصوفاً بها والكل باطل.
جزء : 17 رقم الصفحة : 210
أما القسم الأول : فلأن ما به حصلت المخالفة لو كانت صفات قائمة بتلك الذوات ، فتكون / الذوات في أنفسها ، مع قطع النظر عن تلك الصفات ، متساوية في تمام الماهية ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكل ما يصح على جسم ، وجب أن يصح على كل جسم ، وذلك هو المطلوب.
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن الذي به خالف بعض الأجسام بعضاً ، أمور موصوفة بالجسمية والتحيز والمقدار. فنقول : هذا أيضاً باطل. لأن ذلك الموصوف ، إما أن يكون حجماً ومتحيزاً أو لا يكون ، والأول باطل ، وإلا لزم افتقاره إلى محل آخر ، ويستمر ذلك إلى غير النهاية. وأيضاً فعلى هذا التقدير يكون المحل مثلاً للحال ، ولم يكن كون أحدهما محلاً والآخر حالاً ، أولى من العكس ، فيلزم كون كل واحد منهما محلاً للآخر وحالاً فيه ، وذلك محال ، وأما إن كان ذلك المحل غير متحيز ، وله حجم. فنقول : مثل هذا الشيء لا يكون له اختصاص بحيز ولا تعلق بجهة والجسم مختص بالحيز ، وحاصل في الجهة ، والشيء الذي يكون واجب الحصول في الحيز والجهة/ يمتنع أن يكون حالاً في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة.
وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : ما به خالف جسم جسماً ، لا حال في الجسم ولا محل له ، فهذا أيضاً باطل ، لأن على هذا التقدير يكون ذلك الشيء شيئاً مبايناً عن الجسم لا تعلق له به ، فحينئذ تكون ذوات الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهية ، وذلك هو المطلوب ، فثبت أن الأجسام بأسرها متساوية في تمام الماهية.
وإذا ثبت هذا فنقول : الأشياء المتساوية في تمام الماهية تكون متساوية في جميع لوازم الماهية ، فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي ، فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر ، وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضاً ، وبالعكس. وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر ، واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد. وتقدير مقدر وذلك هو المطلوب ، فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل ، وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل ، فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا} وهو المطلوب.
المسألة الثالثة : قال أبو علي الفارسي : الضياء لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط وحوض وحياض ، أو مصدر ضاء يضوء ضياء كقولك قام قياماً ، وصام صياماً ، وعلى أي الوجهين حملته ، فالمضاف محذوف ، والمعنى جعل الشمس ذات ضياء ، والقمر ذا نور ، ويجوز أن يكون من غير ذلك لأنه لما عظم الضوء والنور فيهما جعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم أنه كرم وجود.
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 210
المسألة الرابعة : قال الواحدي : روي عن ابن كثير من طريق قنبل بهمزتين وأكثر الناس على تغليطه فيه ، لأن ياء ضياء منقلبة من واو مثل ياء قيام وصيام ، فلا وجه للهمزة فيها. ثم قال : وعلى البعد يجوز أن يقال قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين ، وأخر العين التي هي واو ، إلى موضع اللام ، فلما وقعت طرفاً بعد ألف زائدة انقلبت همزة ، كما انقلبت في سقاء وبابه. والله أعلم.
المسألة الخامسة : اعلم أن النور كيفية قابلة للأشد والأضعف ، فإن نور الصباح أضعف من النور الحاصل في أفنية الجدران عند طلوع الشمس ، وهو أضعف من النور الساطع من الشمس على الجدران ، وهو أضعف من الضوء القائم بجرم الشمس ، فكما هذه الكيفية المسماة بالضوء على ما يحس به في جرم الشمس ، وهو في الإمكان وجود مرتبة في الضوء أقوى من الكيفية القائمة بالشمس ، فهو من مواقف العقول. واختلف الناس في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض ؟
والحق أنه عرض ، وهو كيفية مخصوصة ، وإذا ثبت أنه عرض فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس أو لأجل أن الله تعالى أجرى عادته بخلق هذه الكيفية في الأجرام المقابلة لقرص الشمس على سبيل العادة ، فهي مباحث عميقة ، وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات.
(1/2338)

وإذا عرفت هذا فنقول : النور اسم لأصل هذه الكيفية ، وأما الضوء ، فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية ، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس {الشَّمْسَ ضِيَآءً} والكيفية القائمة بالقمر {نُورًا} ولا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى وأكمل من الكيفية القائمة بالقمر ، وقال في موضع آخر : {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} وقال في آية أخرى : {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} وفي آية أخرى {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} .
المسألة السادسة : قوله : {وَقَدَّرَه مَنَازِلَ} نظيره. قوله تعالى في سورة يس : {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ} (يس : 39) وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون المعنى وقدر مسيره منازل. والثاني : أن يكون المعنى وقدره ذا منازل.
المسألة السابعة : الضمير في قوله : {وَقَدَّرَه } فيه وجهان : الأول : أنه لهما ، وإنما وحد الضمير للإيجاز ، وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم ، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر ، ونظيره قوله تعالى : {وَاللَّهُ وَرَسُولُه ا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} (التوبة : 62) والثاني : أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى القمر وحده ، لأن بسير القمر تعرف الشهور ، وذلك لأن الشهور المعتبرة في / الشريعة مبنية على رؤية الأهلة ، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية ، كما قال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَـابِ اللَّهِ} (التوبة : 36).
جزء : 17 رقم الصفحة : 210
المسألة الثامنة : اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم ، فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل. وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة ، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم. وبحركة القمر تحصل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم. وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل ، فالنهار يكون زماناً للتكسب والطلب ، والليل يكون زماناً للراحة ، وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف ، وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله على الخلق وعظم عنايته بهم ، فإنا قد دللنا على أن الأجسام متساوية. ومتى كان كذلك كان اختصاص كل جسم بشكله المعين ووضعه المعين ، وحيزه المعين ، وصفته المعينة ، ليس إلا بتدبير مدبر حكيم رحيم قادر قاهر. وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك ومسير الشمس والقمر والكواكب ، ما حصل إلا بتدبير المدبر المقدر الرحيم الحكيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ثم إنه تعالى لما قرر هذه الدلائل ختمها بقوله : {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَالِكَ إِلا بِالْحَقِّ } ومعناه أنه تعالى خلقه على وفق الحكمة ومطابقة المصلحة ، ونظيره قوله تعالى في آل عمران : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا سُبْحَـانَكَ} (آل عمران : 191) وقال في سورة آخرى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (ص : 27) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان الجبر ، لأنه تعالى لو كان مريداً لكل ظلم ، وخالقاً لكل قبيح ، ومريداً لإضلال من ضل ، لما صح أن يصف نفسه بأنه ما خلق ذلك إلا بالحق.
المسألة الثانية : قال حكماء الإسلام : هذا يدل على أنه سبحانه أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواص معينة وقوى مخصوصة ، باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السفلي. إذ لو لم يكن لها آثار وفوائد في هذا العالم ، لكان خلقها عبثاً وباطلاً وغير مفيد ، وهذه النصوص تنافي ذلك. والله أعلم.
ثم بين تعالى أنه يفصل الآيات ، ومعنى التفصيل هو ذكر هذه الدلائل الباهرة ، واحداً عقيب الآخر ، فصلاً فصلاً مع الشرع والبيان. وفي قوله : {نُفَصِّلُ} قراءتان : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم {يُفَصِّلُ} بالياء ، وقرأ الباقون بالنون.
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 210
ثم قال : {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وفيه قولان : الأول : أن المراد منه العقل الذي يعم الكل. والثاني : أن المراد منه من تفكر وعلم فوائد مخلوقاته وآثار إحسانه ، وحجة القول الأول : عموم اللفظ ، وحجة القول الثاني : أنه لا يمتنع أن يخص الله سبحانه وتعالى العلماء بهذا الذكر ، لأنهم هم الذين انتفعوا بهذه الدلائل ، فجاء كما في قوله : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45) مع أنه عليه السلام كان منذراً للكل.
جزء : 17 رقم الصفحة : 210
210
(1/2339)

اعلم أنه تعالى استدل على التوحيد والإلهيات أولاً : بتخليق السموات والأرض ، وثانياً : بأحوال الشمس والقمر ، وثالثاً : في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار ، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة في تفسير قوله : {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (آل عمران : 9) ورابعاً : بكل ما خلق الله في السموات والأرض ، وهي أقسام الحوادث الحادثة في هذا العالم ، وهي محصورة في أربعة أقسام : أحدها : الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة ، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار والثلوج. ويدخل فيها أيضاً أحوال البحار ، وأحوال المد والجزر ، وأحوال الصواعق والزلازل والخسف. وثانيها : أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة. وثالثها : اختلاف أحوال النبات. ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات ، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى : {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} والاستقصاء في شرح هذه الأحوال مما لا يمكن في ألف مجلد ، بل كل ما ذكره العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.
ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الدلائل قال : {لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} فخصها بالمتقين ، لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر. قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها ، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم ، بل جعلها لهم دار عمل. وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ، ثم من ثواب وعقاب ، ليتميز المحسن عن المسيء ، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.
جزء : 17 رقم الصفحة : 210
212
/ اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها ، وفي شرح أحوال من يؤمن بها. فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية. واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة :
الصفة الأولى : قوله : {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذا الرجاء قولان :
القول الأول : وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي : معناه : لا يخافون البعث ، والمعنى : أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها. والدليل على تفسير الرجاء ههنا بالخوف قوله تعالى : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45) وقوله : {وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء : 49) وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى : {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (نوح : 13) قال الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والقول الثاني : تفسير الرجاء بالطمع ، فقوله : {لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يطمعون في ثوابنا ، فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس ، كما قال : {قَدْ يَـاـاِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَـاـاِسَ الْكُفَّارُ} .
واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد ، لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ، ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره ألبتة ، والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه ، وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته. فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات ، فالعاقل كيف لا يرجوه ، وكيف لا يتمناه ؟
وإن كان الثاني فكذلك ، لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته ، وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه ، وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء ، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر.
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 212
المسألة الثانية : اللقاء هو الوصول إلى الشيء ، وهذا في حق الله تعالى محال ، لكونه منزهاً عن الحد والنهاية ، فوجب أن يجعل مجازاً عن الرؤية ، وهذا مجاز ظاهر. فإنه يقال : لقيت فلاناً إذا رأيته ، وحمله على لقاء ثواب الله يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل.
واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة الله تعالى ويكمل إشراقها ويقوي لمعانها ، وذلك هو الرؤية ، وهي من أعظم السعادات. فمن كان غافلاً عن طلبها معرضاً عنها مكتفياً بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين.
الصفة الثانية : من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى : {وَرَضُوا بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا} .
واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية ، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية ، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها ، واستغراقه في طلبها.
والصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} وفيه مسألتان :
(1/2340)

المسألة الأولى : صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى : {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الحج : 35) ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى : {وَتَطْمَـاـاِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّه أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا ، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية : {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل ، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى.
المسألة الثانية : مقتضى اللغة أن يقال : واطمأنوا إليها ، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض ، فلهذا السبب قال : {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} .
والصفة الرابعة : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَـاتِنَا غَـافِلُونَ} والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى. بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء ، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية ، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية.
جزء : 17 رقم الصفحة : 212
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال : { أولئك مَأْوَاـاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وفيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : النيران على أقسام : النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق ، صاعداً بالطبع ، والإقرار به واجب ، لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق.
القسم الثاني : النار الروحانية العقلية ، وتقريره أن من أحب شيئاً حباً شديداً ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه ، فإنه يحترق قلبه وباطنه ، وكل عاقل يقول : إن فلاناً محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب. وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات ، فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته ، وهي أحوال هذا العالم ، وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم ، فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها ، ولا معرفة له بأحوالها ، فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة ، وتألم الروح فكذا هنا ، أما لو كان نفوراً عن هذه الجسمانيات عارفاً بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى ، عظيم الحب لله ، كان مثاله مثال من كان محبوساً في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة ، ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء ، كما قال تعالى {فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـالِحِينَا وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا} (النساء : 69) فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية.
المسألة الثانية : الباء في قوله : {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 212
218
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة ، ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين ، واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولاً ، ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات / الرفيعة ثانياً ، أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} وفي تفسيره وجوه :
الوجه الأول : أن النفس الإنسانية لها قوتان :
القوة النظرية : وكمالها في معرفة الأشياء ، ورئيس المعارف وسلطانها معرفة الله.
والقوة العملية : وكمالها في فعل الخيرات والطاعات ، ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة الله. فقوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله تعالى وقوله : {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة الله تعالى ، ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة ، لا جرم وجب تقديمها في الذكر.
الوجه الثاني : في تفسير هذه الآية قال القفال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} أي صدقوا بقلوبهم ، ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله تعالى.
(1/2341)

الوجه الثالث : {الَّذِينَ كَفَرُوا } أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} أي شغلوا جوارحهم بالخدمة ، فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى كما قال : {وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} (المائدة : 83) ولسانهم مشغول بذكر الله كما قال تعالى : {عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} (الأحزاب : 41) وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله كما قال : {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (النمل : 25).
جزء : 17 رقم الصفحة : 218
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة.
المرتبة الأولى : قوله : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِم تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير قوله : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِمْ } وجوه : الأول : أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة ، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه : أحدها : قوله تعالى : {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم} (الحديد : 12) وثانيها : ما روي أنه عليه السلام قال : "إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار" وثالثها : قال مجاهد : المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. ورابعها : وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس ، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس/ فإن حصل هذا الخط / النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى عالم القدس ، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ بالله منه.
والتأويل الثاني : قال ابن الأنباري : إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم ، وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم ، كقوله تعالى : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17) وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت ، قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا الوجه. كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ، إلا أن حذف الواو وجعل قوله : {تَجْرِى} خبراً مستأنفاً منقطعاً عما قبله :
والتأويل الثالث : أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات.
المقدمة الأولى : أن العلم نور والجهل ظلمة. وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك ، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين ، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر ، فإنك ترى وجه الفاهم متهللاً مشرقاً مضيئاً ، ووجه من لم يفهم عبوساً مظلماً منقبضاً ، ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور ، وعن الجهل والكفر بالظلمات.
جزء : 17 رقم الصفحة : 218
والمقدمة الثانية : أن الروح كاللوح ، والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح. ثم ههنا دقيقة ، وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه ، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك ، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم ، فإذا احتال وحصل شيء منها ، كان حصول ما حصل منها معيناً له على سهولة تحصيل الباقي ، وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل ، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعاً من حصول الباقي ، والنقوش الروحانية يكون بعضها معيناً على حصول البقية ، وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني.
المقدمة الثالثة : أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة ، والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك.
(1/2342)

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة ، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا ، وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد ، وكلما / كان الاستعداد أقوى وأكمل. كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى ، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية ، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِمْ } .
المسألة الثانية : قوله تعالى : {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ} المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم ، ونظيره قوله تعالى : {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (مريم : 24) وهي ما كانت قاعدة عليها ، ولكن المعنى بين يديك ، وكذا قوله : {وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى } (الزخرف : 51) المعنى بين يدي فكذا ههنا.
المسألة الثالثة : الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضاً من جنس المعارف ، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم. بل قال : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِمْ } وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة. ثم إذا حصل هذا الاستعداد ، كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى ، وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق ، ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
جزء : 17 رقم الصفحة : 218
المرتبة الثانية : من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى : {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في دعواهم وجوه : الأول : أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء ، يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى ، كما يقال : شكى يشكو شكاية وشكوى. قال بعض المفسرين : {دَعْوَاـاهُمْ} أي دعاؤهم. وقال تعالى في أهل الجنة : {لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} (يس : 57) وقال في آية أخرى {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ ءَامِنِينَ} (الدخان : 55) ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء. هو أنهم قالوا : اللهم. وهذا نداء لله سبحانه وتعالى ، ومعنى قولهم : {سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} إنا نسبحك ، كقول القانت في دعاء القنوت : "اللهم إياك نعبد" الثاني : أن يراد بالدعاء العبادة ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (مريم : 48) أي وما تعبدون. فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف ، بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى. الثالث : قال بعضهم : لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم. والمعنى : أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال : أصل ذلك أيضاً من الدعاء ، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. الرابع : قال مسلم : {دَعْوَاـاهُمْ} أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم ، وذلك هو قولهم : {سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} الخامس : قال القاضي : المراد من قوله : {دَعْوَاـاهُمْ} أي طريقتهم في تمجيد الله تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم. والدليل على أن المراد ذلك أن قوله : {سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} ليس بدعاء ولا بدعوى ، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظباً على ذكره ، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر ، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها. السادس : قال القفال : قيل في قوله : {مَا يَدْعُونَ} (يس : 57) أي ما يتمنونه ، والعرب تقول : ادع ما شئت علي ، أي تمن. وقال ابن جريج : أخبرت أن قوله : {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا {سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} فيأتيهم الملك بذلك المشتهى ، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه ، على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللهم ، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني ، وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم ، وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا الله تعالى ، أي تمنيهم لما يتمنونه ، ليس إلا في تسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه. السابع : قال القفال أيضاً : ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه ، كقولهم : يا آل فلان ، فأخبر الله تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم الله تعالى ، وسكونهم بتحميدهم الله. ولذتهم بتمجيدهم الله تعالى.
جزء : 17 رقم الصفحة : 218
المسألة الثانية : أن قوله : {سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} فيه وجهان :
(1/2343)

الوجه الأول : قول من يقول : أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج : إذا مر بهم طيراً اشتهوه ؛ قالوا سبحانك اللهم فيؤتون به ، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} وقال الكلبي : قوله : {سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} علم بين أهل الجنة والخدام/ فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون. واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جداً ، وبيانه من وجوه : أحدها : أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح ، وهذا في غاية الخساسة. وثانيها : أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة : {وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير ، فلا حاجة بهم إلى الطلب ، وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب ، فقد سقط هذا الكلام. وثالثها : أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به ، وهذا باطل.
الوجه الثاني : في تأويل هذه الآية أن نقول : المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس الله سبحانه وتمجيده والثناء عليه ، لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به ، وكمال حالهم لا يحصل إلا منه ، وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه. ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه : / أحدها : قال القاضي : إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم ، كما ذكر في أول هذه السورة من قوله : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } (يونس : 4) فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، ووجدوا تلك النعم العظيمة ، عرفوا أن الله تعالى كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم ، فعند هذا قالوا : {سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول. وثانيها : أن نقول : غاية سعادة السعداء ، ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال.
جزء : 17 رقم الصفحة : 218
واعلم أن معرفة ذات الله تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه ، بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية. إما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال ، وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام ، فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصوراً عليها ، كما قال سبحانه وتعالى : {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} (الرحمن : 78) وكان صلى الله عليه وسلّم يقول : "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات ، لا جرم كان ذكر الجلال متقدماً على ذكر الإكرام في اللفظ. وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين ، لا جرم ذكر الله سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس ، ولما كان لا نهاية لمعارج جلال الله ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه ، فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية. وثالثها : أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر ، ألا ترى أنهم قالوا : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم ، حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد ، ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي ، فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام ، بعد انقراض العالم ، ولما كان هذا الذكر مشتملاً على هذا الشرف العالي ، لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة ، فإن المصلي إذا كبر قال : "سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك".
المرتبة الثالثة : من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى : {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } قال المفسرون : تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام ، وتحية الملائكة لهم بالسلام ، كما قال تعالى : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23) وتحية الله تعالى لهم أيضاً بالسلام كما قال تعالى : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) قال الواحدي : وعلى هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول/ وعندي فيه وجه آخر : وهو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة ، مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات وفي معرض المخافات ، فإذا أخرجوا من الدنيا ووصلوا إلى كرامة الله تعالى ، فقد صاروا سالمين / من الآفات ، آمنين من المخافات والنقصانات. وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله : {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (فاطر : 34/ 35).
جزء : 17 رقم الصفحة : 218
(1/2344)

المرتبة الرابعة : من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى : {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب. فقالوا : إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئاً قالوا : سبحانك اللهم وبحمدك ، وإذا أكلوا وفرغوا. قالوا : الحمد لله رب العالمين ، وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب ، وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم. وأما المحقون المحققون ، فقد تركوا ذلك ، ولهم فيه أقوال. روى الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم" وقال الزجاج : أعلم الله تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه. ويختتمون بشكره والثناء عليه ، وأقول : عندي في هذا الباب وجوه أخر : فأحدها : أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللهم وبحمدك ، وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات ، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية ، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه ، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء. فقالوا : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح الله تعالى وتمجيده من أعظم نعم الله تعالى عليهم. والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة ، فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة ، وثانيها : أن لكل إنسان بحسب قوته معراجاً ، فتارة ينزل عن ذلك المعراج ، وتارة يصعد إليه. ومعراج العارفين الصادقين ، معرفة الله تعالى وتسبيح الله وتحميد الله ، فإذا قالوا : {سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ} فهم في عين المعراج ، وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات. كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين وإليه الإشارة بقوله : {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } ثم أنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه ، وعند الصعود يقول : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج. وثالثها : أن نقول : إن قولنا الله اسم لذات الحق سبحانه ، فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال ، وهي المشار إليها بقوله : {سُبْحَـاـنَكَ} ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات ، ترقياً يليق بالطاقة البشرية ، وهي المشار إليها بقوله : {اللَّهُمَّ} فإذا عرج عن ذلك المكان. واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام ، وهو / المشار إليه بقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال ، فإن حقت فالتوفيق من الله تعالى ، وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة الله تعالى.
جزء : 17 رقم الصفحة : 218
المسألة الثانية : قال الواحدي : {ءَانٍ} في قوله : {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} هي المخففة من الشديدة ، فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله :
أن هالك كل من يخفى وينتعل
على معنى أنه هالك. وقال صاحب "النظم" {ءَانٍ} ههنا زائدة ، والتقدير : وآخر دعواهم الحمد لله رب العالمين ، وهذا القول ليس بشيء ، وقرأ بعضهم {ءَانٍ} الحمد لله بالتشديد ، ونصب الحمد.
جزء : 17 رقم الصفحة : 218
219
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن الذي يغلب على ظني أن ابتداء هذه السورة في ذكر شبهات المنكرين للنبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى : أن القوم تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً عليه السلام بالنبوة فأزال الله تعالى ذلك التعجب بقوله : {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس : 2) ثم ذكر دلائل التوحيد ودلائل صحة المعاد ، وحاصل الجواب أنه يقول : إني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد ، وقد دللت على صحتها ، فلم يبق للتعجب من نبوتي معنى.
والشبهة الثانية : للقوم أنهم كانوا أبداً يقولون : اللهم إن كان ما يقول : محمد حقاً في ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب إليم. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بما ذكره في هذه الآية. فهذا هو الكلام في كيفية النظم. ومن الناس من ذكر فيه وجوهاً أخرى : فالأول : قال القاضي : لما بين تعالى فيما تقدم الوعد والوعيد أتبعه بما دل على أن من حقهما أن يتأخرا عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصولهما في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف. والثاني : ما ذكره القفال : وهو أنه تعالى لما وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا / واطمأنوا بها ، وكانوا عن آيات الله غافلين ؛ بين أن من غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً.
(1/2345)

المسألة الثانية : أنه تعالى أخبر في آيات كثيرة أن هؤلاء المشركين متى خوفوا بنزول العذاب في الدنيا استعجلوا ذلك العذاب كما قالوا : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال : 32) وقال تعالى : {سَأَلَ سَآاـاِلُا بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (المعارج : 1) الآية. ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية وهو قوله : { أولئك مَأْوَاـاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يونس : 8) استعجلوا ذلك العذاب ، وقالوا : متى يحصل ذلك كما قال تعالى : {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } (الشورى : 18) وقال في هذه السورة بعد هذه الآية : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} (الأنبياء : 38) إلى قوله : {وَقَدْ كُنتُم بِه تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ} (يونس : 51) وقال في سورة الرعد : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَـاتُ } (الرعد : 6) فبين تعالى أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم ، لأنه تعالى لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا ، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك ، وربما خرج من صلبهم من كان مؤمناً ، وذلك يقتضي أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 219
المسألة الثالثة : في لفظ الآية إشكال ، وهو أن يقال : كيف قابل التعجل بالاستعجال ، وكان الواجب أن يقابل التعجيل بالتعجيل ، والاستعجال بالاستعجال.
والجواب عنه من وجوه : الأول : قال صاحب "الكشاف" : أصل هذا الكلام ، ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته وإسعافه بطلبهم ، حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم. الثاني : قال بعضهم حقيقة قولك عجلت فلاناً طلبت عجلته/ وكذلك عجلت الأمر إذا أتيت به عاجلاً ، كأنك طلبت فيه العجلة والاستعجال أشهر وأظهر في هذا المعنى ، وعلى هذا الوجه يصير معنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم لقضى إليهم أجلهم ، قال صاحب هذا الوجه ، وعلى هذا التقدير : فلا حاجة إلى العدول عن ظاهر الآية. الثالث : أن كل من عجل شيئاً فقد طلب تعجيله ، وإذا كان كذلك ، فكل من كان معجلاً كان مستعجلاً ، فيصير التقدير ، ولو استعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها ، لأن اللائق به تعالى هو التكوين واللائق بهم هو الطلب.
المسألة الرابعة : أنه تعالى سمى العذاب شراً في هذه الآية ، لأن أذى في حق المعاقب ومكروه عنده كما أنه سماه سيئة في قوله : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} (الرعد : 6) وفي قوله : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40).
/ المسألة الخامسة : قرأ ابن عامر {لَقُضِىَ} بفتح اللام والقاف {أَجَلُهُمْ} بالنصب ، يعني لقضى الله ، وينصره قراءة عبدالله {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } وقرأ الباقون بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء {أَجَلُهُمْ} بالرفع على ما لم يسم فاعله.
المسألة السادسة : المراد من استعجال هؤلاء المشركين الخير هو أنهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله تعالى بكشفها ، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في آيات كثيرة كقوله : {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـاَرُونَ} (النمل : 53) وقوله : {وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ الضُّرُّ دَعَانَا} (يونس : 12).
المسألة السابعة : لسائل أن يسأل فيقول : كيف اتصل قوله : {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} (يونس : 11) بما قبله وما معناه ؟
جزء : 17 رقم الصفحة : 219
وجوابه أن قوله : {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ} متضمن معنى نفي التعجيل ، كأنه قيل : ولا يعجل لهم الشر ، ولا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم في طغيانهم أي فيمهلهم مع طغيانهم إلزاماً للحجة.
المسألة الثامنة : قال أصحابنا : إنه تعالى لما حكم عليهم بالطغيان والعمه امتنع أن لا يكونوا كذلك. وإلا لزم أن ينقلب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهله وحكمه باطلاً ، وكل ذلك محال ، ثم إنه مع هذا كلفهم وذلك يكون جارياً مجرى التكليف بالجمع بين الضدين.
جزء : 17 رقم الصفحة : 219
222
وفيه مسائل :
(1/2346)

المسألة الأولى : في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه ، فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه ، ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات. الثاني : أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب ، ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال ، لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه ، فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه / وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في هذا الطلب.
المسألة الثانية : المقصود من هذه الآية ، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء ، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء ، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعاً أو قائماً أو قاعداً مجتهداً في ذلك الدعاء طالباً من الله تعالى إزالة تلك المحنة ، وتبديلها بالنعمة والمنحة ، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر ، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام ، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره ، وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على أن هذه الطريقة مذمومة ، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابراً عند نزول البلاء شاكراً عند الفوز بالنعماء ، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية. حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء".
جزء : 17 رقم الصفحة : 222
واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة ، وجب عليه رعاية أمور : فأولها : أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه. وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق. فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء ، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث ، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل ، وإن أزالها عنه فهو فضل ، وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب. وثانيها : أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى والثناء عليه بدلاً عن الدعاء كان أفضل ، لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة "من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق ، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس ، ولا شك أن الأول أفضل ، ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحاً في الدين ، وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحاً عنده على الدنيا. وثالثها : أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء ، وأحوال الشدة والرخاء ، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء. وههنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه ، وهو أن أهل التحقيق قالوا : إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولاً بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولاً بالبلاء لا بالمبلى ، ومثل هذا الشخص يكون أبداً في البلاء ، أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء ، وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من / زوالها يكون أشد أنواع البلاء/ فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل ، كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشاً ، فثبت أن من كان مشغولاً بالنعمة كان أبداً في لجة البلية. أما من كان في وقت النعمة مشغولاً بالمنعم ، لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولاً بالمبلي. وإذا كان المنعم والمبلي واحداً ، كان نظره أبداً على مطلوب واحد ، وكان مطلوبه منزهاً عن التغير مقدساً عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء ، غرقاً في بحر السعادات ، واصلاً إلى أقصى الكمالات ، وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له ، ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر.
(1/2347)

المسألة الثالثة : اختلفوا في {الانسَـانَ} في قوله : {وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ الضُّرُّ} فقال بعضهم : إنه الكافر ، ومنهم من بالغ وقال : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان ، فالمراد هو الكافر ، وهذا باطل ، لأن قوله : {فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ * يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِه } (الانشقاق : 6 ، 7) لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه ، وكذلك قوله : {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} (الدهر : 1) وقوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون : 12) وقوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُه } (ق : 16) فالذي قالوه بعيد ، بل الحق أن نقول : اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه ، وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتعطيل. ولفظ {الانسَـانَ} ههنا لائق بالكافر ، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 222
المسألة الرابعة : في قوله : {دَعَانَا لِجَنابِه أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا} وجهان :
الوجه الأول : أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله : {لِجَنابِه } في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه ، والتقدير : دعانا مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً.
فإن قالوا : فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟
قلنا : معناه : إن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر ، سواء كان مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً.
والوجه الثاني : أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديداً لأحوال الضر ، والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعداً أو قائماً دعانا وهو قول الزجاج. والأول : أصح ، لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر ، ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء ، ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب.
المسألة الخامسة : في قوله : {مَرَّ} وجوه : الأول : المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى / قبل مس الضر ونسي حال الجهد. الثاني : مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به.
المسألة السادسة : قوله تعالى : {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّه } تقديره : كأنه لم يدعنا ، ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى : {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا } (يونس : 45) قال الحسن : نسي ما دعا الله فيه ، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه :
المسألة السابعة : قال صاحب "النظم" : قوله : {وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ} {إِذَآ} موضوعة للمستقبل.
ثم قال : {فَلَمَّا كَشَفْنَا} وهذا للماضي ، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل. فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي/ وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر ، وجبل أيضاً على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو ، فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع ، وإظهار الخضوع والانقياد ، وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه ، ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران. فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته ، وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 222
المسألة الثامنة : في قوله تعالى : {كَذَالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أبحاث :
البحث الأول : أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان ، فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم.
البحث الثاني : في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحنه الكافر مسرفاً. وفيه وجوه :
الوجه الأول : قال أبو بكر الأصم : الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما ، أما في النفس فلأنه جعلها عبداً للوثن ، وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
الوجه الثاني : قال القاضي : إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء ، وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضاً عن ذكر الله متغافلاً عنه غير مشتغل بشكره ، كان مسرفاً في أمر دينه متجاوزاً للحد في الغفلة عنه ، ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفاً في الإنفاق فكذلك يكون مسرفاً فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح ، إذا تجاوز الحد فيه.
(1/2348)

الوجه الثالث : وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت ، أن المسرف هو الذي ينفق المال / الكثير لأجل الغرض الخسيس ، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جداً في مقابلة سعادات الدار الآخرة. والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة ، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة ، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة ، لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة ، فوجب أن يكون من المسرفين.
البحث الثالث : الكاف في قوله تعالى : {كَذَالِكَ} للتشبيه. والمعنى : كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكرزين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات.
جزء : 17 رقم الصفحة : 222
223
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بيان كيفية النظم. اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم كانوا يقولون : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال : 32) ثم إنه أجاب عنه بأن ذكر أنه لا صلاح في إجابة دعائهم ، ثم بين أنهم كاذبون في هذا الطلب لأنه لو نزلت بهم آفة أخذوا في التضرع إلى الله تعالى في إزالتها والكشف لها ، بين في هذه الآية ما يجري مجرى التهديد ، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم ، والغرض منه أن يكون ذلك رادعاً لهم عن قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، لأنهم متى سمعوا أن الله تعالى قد يجيب دعاءهم وينزل عليهم عذاب الاستئصال ، ثم سمعوا من اليهود والنصارى أن ذلك قد وقع مراراً كثيرة. صار ذلك رادعاً لهم وزاجراً عن ذكر ذلك الكلام ، فهذا وجه حسن مقبول في كيفية النظم.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" {لَمَّآ} ظرف لأهلكنا ، والواو في قوله : {وَجَآءَتْهُمْ} للحال ، أي ظلموا بالتكذيب. وقد جاءتهم رسلهم بالدلائل والشواهد على صدقهم وهي المعجزات ، / وقوله : {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا } يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا ، وأن يكون اعتراضاً ، واللام لتأكيد النفي ، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر وهذا يدل على أنه تعالى إنما أهلكهم لأجل تكذيبهم الرسل ، فكذلك يجزى كل مجرم ، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله ، وقرىء {يُجْزَى } بالياء وقوله : {ثُمَّ جَعَلْنَـاكُمْ خَلَـا اـاِفَ} الخطاب للذين بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام ، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم ، لننظر كيف تعملون ، خيراً أو شراً ، فنعاملكم على حسب عملكم. بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : كيف جاز النظر إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة ؟
جزء : 17 رقم الصفحة : 223
والجواب : أنه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه ، وشبه هذا العلم بنظر الناظر وعيان المعاين.
السؤال الثاني : قوله : {ثُمَّ جَعَلْنَـاكُمْ خَلَـا اـاِفَ فِى الارْضِ مِنا بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} مشعر بأن الله تعالى ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم.
والجواب : المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ، ليجازيهم بحسبه كقوله : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } (هود : 7) وقد مر نظائر هذا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" وقال قتادة : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيراً ، بالليل والنهار.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : موضع {كَيْفَ} نصب بقوله : {تَعْمَلُونَ} لأنها حرف ، لاستفهام والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، ولو قلت : لننظر خيراً تعملون أم شراً ، كان العالم في خير وشر تعملون.
جزء : 17 رقم الصفحة : 223
225
فيه مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلّم ، حكاها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها.
واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره ، علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه.
المسألة الثانية : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن. الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن حنظلة ، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر ، كما قال : {إِنَّا كَفَيْنَـاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ} (الحجر : 95) فذكر الله تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات : {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـاذَآ أَوْ بَدِّلْه } وفيه بحثان :
(1/2349)

البحث الأول : أن وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر ، منكرين للبعث والقيامة ، ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه : الأول : قال الأصم : {لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يرجون في لقائنا خيراً على طاعة ، فهم من السيئات أبعد أن يخافوها. الثاني : قال القاضي : الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع ، لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه ، لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب ، وهو القصد بالتكليف ، لا يخاف أيضاً ما يوعده به من العقاب ، فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور.
واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم ، إلا أن البيان التام أن يقال : كل من كان مؤمناً بالبعث والنشور فإنه لا بد وأن يكون راجياً ثواب الله وخائفاً من عقابه ، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم ، فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث. فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة.
البحث الثاني : أنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحد أمرين على البدل : فالأول : أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن. والثاني : أن يبدل هذا القرآن وفيه إشكال ، لأنه إذا بدل هذا القرآن بغيره ، فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن ، وإذا كان كذلك كان كل واحد منهما شيئاً واحداً. وأيضاً مما يدل على أن كل واحد منهما هو عين الآخر أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في الجواب على نفي أحدهما ، وهو قوله : {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَه مِن تِلْقَآى ِ نَفْسِى } وإذا ثبت أن كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر ، كان إلقاء اللفظ على الترديد والتخيير فيه باطلاً.
جزء : 17 رقم الصفحة : 225
والجواب : أن أحد الأمرين غير الآخر ، فالإتيان بكتاب آخر ، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه ، يكون إتياناً بقرآن آخر ، وأما إذا أتى بهذا القرآن إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها ، ومكان آية رحمة آية عذاب ، كان هذا تبديلاً ، أو نقول : الإتيان بقرآن غير هذا هو أن / يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب. مع كون هذا الكتاب باقياً بحاله ، والتبديل هو أن يغير هذا الكتاب. وأما قوله : إنه اكتفى في الجواب على نفي أحد القسمين.
قلنا : الجواب المذكور عن أحد القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني. وإذا كان كذلك وقع الاكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الثاني. وإنما قلنا : الجواب عن أحد القسمين عين الجواب عن الثاني لوجهين : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام لما بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه ، لأنه وارد من الله تعالى ولا يقدر على مثله ، كما لا يقدر سائر العرب على مثله ، فكان ذلك متقرراً في نفوسهم بسبب ما تقدم من تحديه لهم بمثل هذا القرآن ، فقد دلهم بذلك على أنه لا يتمكن من قرآن غير هذا. والثاني : أن التبديل أقرب إلى الإمكان من المجيء بقرآن غير هذا القرآن ، فجوابه عن الأسهل يكون جواباً عن الأصعب ، ومن الناس من قال : لا فرق بين الإتيان بقرآن غير هذا القرآن وبين تبديل هذا القرآن ، وجعل قوله : {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَه } جواباً عن الأمرين ، إلا أنه ضعيف على ما بيناه.
المسألة الثالثة : اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ، مثل أن يقولوا : إنك لو جئتنا بقرآن آخر غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك ، وغرضهم من هذا الكلام السخرية والتطير. والثاني : أن يكونوا قالوه على سبيل الجد ، وذلك أيضاً يحتمل وجوهاً : أحدها : أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان ، حتى أنه إن فعل ذلك ، علموا أنه كان كذاباً في قوله : إن هذا القرآن نزل عليه من عند الله. وثانيها : أن يكون المقصود من هذا الالتماس أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم والطعن في طرائقهم ، وهم كانوا يتأذون منها ، فالتمسوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك. وثالثها : أن بتقدير أن يكونوا قد جوزوا كون هذا القرآن من عند الله ، التمسوا منه أن يلتمس من الله نسخ هذا القرآن وتبديله بقرآن آخر. وهذا الوجه أبعد الوجوه.
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك أمره الله تعالى أن يقول : إن هذا التبديل غير جائز مني {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى ا إِلَىَّ } ثم بين تعالى أنه بمنزلة غيره في أنه متوعد بالعذاب العظيم إن عصى. ويتفرع على هذه الآية فروع :
جزء : 17 رقم الصفحة : 225
الفرع الأول : أن قوله : {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى ا إِلَىَّ } معناه : لا أتبع إلا ما يوحى إلي ، فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالوحي ، وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد.
الفرع الثاني : تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : دل هذا النص على أنه عليه الصلاة / والسلام ما حكم إلا بالنص. فوجب أن يجب على جميع الأمة أن لا يحكموا إلا بمقتضى النص لقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} .
(1/2350)

الفرع الثالث : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن ذلك منسوخ بقوله : {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح : 2) وهذا بعيد لأن النسخ إنما يدخل في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية.
الفرع الرابع : قالت المعتزلة : إن قوله : {إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} مشروط بما يكون واقعاً بلا توبة ولا طاعة أعظم منها ، ونحن نقول فيه تخصيص ثالث. وهو أن لا يعفو عنه ابتداء ، لأن عندنا يجوز من الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 225
226
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا بينا فيما سلف ، أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس ، لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه ، على سبيل الاختلاق والافتعال ، لا على سبيل كونه وحياً من عند الله. فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره الله تعالى في هذه الآية. وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أول عمره إلى ذلك الوقت ، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتاباً ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد ، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ، ودقائق علم الأحكام ، ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأولين. وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء ، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى ، فقوله : {لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُه عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاـاكُم بِه } حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند الله تعالى ، لا من اختلاقي ولا من افتعالي. وقوله : {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِه } إشارة إلى الدليل الذي قررناه ، وقوله : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} يعني أن مثل / هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتاباً ولم يمارس مجادلة ، يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل. وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل. فلهذا السبب قال : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
المسألة الثانية : قوله : {وَلا أَدْرَاـاكُم بِه } هو من الدراية بمعنى العلم. قال سيبويه : يقال دريته ودريت به ، والأكثر هو الاستعمال بالباء. والدليل عليه قوله تعالى : {وَلا أَدْرَاـاكُم بِه } ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا أدراكموه.
إذا عرفت هذا فنقول : معنى {وَلا أَدْرَاـاكُم بِه } أي ولا أعلمكم الله به ولا أخبركم به. قال صاحب "الكشاف" : قرأ الحسن {وَلا أَدْرَاـاكُم بِه } على لغة من يقول أعطأته وأرضأته في معنى أعطيته وأرضيته ويعضده قراءة ابن عباس {وَلا أَدْرَاـاكُم بِه } ورواه الفراء {وَلا} به بالهمز ، والوجه فيه أن يكون من أدرأته إذا دفعته ، وأدرأته إذا جعلته دارياً ، والمعنى : ولا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال وتكذبونني ، وعن ابن كثير بلام الابتداء لإثبات الإدراء.
جزء : 17 رقم الصفحة : 226
وأما قوله تعالى : {بِه ا فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِه } فالقراءة المشهورة بضم الميم ، وقرىء {عُمُرًا} بسكون الميم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 226
226
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر ، وذلك لأنهم التمسوا منه قرآناً يذكره من عند نفسه ، ونسبوه إلى أنه إنما يأتي بهذا القرآن من عند نفسه ، ثم إنه أقام البرهان القاهر الظاهر على أن ذلك باطل ، وأن هذا القرآن ليس إلا بوحي الله تعالى وتنزيله ، فعند هذا قال : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} والمراد أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ، لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني ، حيث افتريته على الله ، ولما أقمت الدلالة على أنه ليس الأمر كذلك ، بل هو بوحي من الله تعالى وجب أن يقال إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه منكم ، لأنه لما ظهر بالبرهان المذكور كونه من عند الله ، فإذا أنكرتموه كنتم قد كذبتم بآيات الله. فوجب أن تكونوا أظلم الناس. والحاصل أن قوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} المقصود منه نفي الكذب عن نفسه وقوله : / {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ} المقصود منه إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث أنكروا دلائل الله ، وكذبوا بآيات الله تعالى.
وأما قوله : {إِنَّه لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} فهو تأكيد لما سبق من هذين الكلامين. والله أعلم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 226
228
(1/2351)

اعلم أنا ذكرنا أن القوم إنما التمسوا من الرسول صلى الله عليه وسلّم قرآناً غير هذا القرآن أو تبديل ، هذا القرآن لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي جعلوها آلهة لأنفسهم ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما يدل على قبح عبادة الأصنام ، ليبين أن تحقيرها والاستخفاف بها أمر حق وطريق متيقن.
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أمرين : أحدهما : أنهم كانوا يعبدون الأصنام. والثاني : أنهم كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله. أما الأول فقد نبه الله تعالى على فساده بقوله : {مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} وتقريره من وجوه : الأول : قال الزجاج : لا يضرهم إن لم يعبدوه ولا ينفعهم إن عبدوه. الثاني : أن المعبود لا بد وأن يكون أكمل قدرة من العابد ، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ألبتة ، وأما هؤلاء الكفار فهم قادرون على التصرف في هذه الأصنام تارة بالإصلاح وأخرى بالإفساد ، وإذا كان العابد أكمل حالاً من المعبود كانت العبادة باطلة. الثالث : أن العبادة أعظم أنواع التعظيم ، فهي لا تليق إلا بمن صدر عنه أعظم أنواع الأنعام ، وذلك ليس إلا الحياة والعقل والقدرة ومصالح المعاش والمعاد ، فإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله سبحانه وتعالى ، وجب أن لا تليق العبادة إلا بالله سبحانه.
وأما النوع الثاني : ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الآية ، وهو قولهم : {هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه } فاعلم أن من الناس من قال إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله سبحانه وتعالى. فقالوا ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى بل نحن نشتغل / بعبادة هذه الأصنام ، وأنها تكون شفعاء لنا عند الله تعالى. ثم اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله ؟
وذكروا فيه أقوالاً كثيرة : فأحدها : أنهم اعتقدوا أن المتولي لكل أقليم من أقاليم العالم ، روح معين من أرواح عالم الأفلاك ، فعينوا لذلك الروح صنماً معيناً واشتغلوا بعبادة ذلك الصنم ، ومقصودهم عبادة ذلك الروح ، ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عبداً للإله الأعظم ومشتغلاً بعبوديته. وثانيها : أنهم كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أن الكواكب هي التي لها أهلية عبودية الله تعالى ، ثم لما رأوا أن الكواكب تطلع وتغرب وضعوا لها أصناماً معينة واشتغلوا بعبادتها ، ومقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب. وثالثها : أنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام والأوثان ، ثم تقربوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات. ورابعها : أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم ، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل ، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى ، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر ، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. وخامسها : أنهم اعتقدوا أن الإله نور عظيم ، وأن الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم الأكبر ، وعلى صورة الملائكة صوراً أخرى. وسادسها : لعل القوم حلولية ، وجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 228
واعلم أن كل هذه الوجوه باطلة بالدليل الذي ذكره الله تعالى وهو قوله : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} وتقريره ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة.
قوله تعالى : {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِا سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
اعلم أن المفسرين قرروا وجهاً واحداً ، وهو أن المراد من نفي علم الله تعالى بذلك تقرير نفيه في نفسه ، وبيان أن لا وجود له ألبتة ، وذلك لأنه لو كان موجوداً لكان معلوماً لله تعالى ، وحيث لم يكن معلوماً لله تعالى وجب أن لا يكون موجوداً ، ومثل هذا الكلام مشهور في العرف ، فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول : ما علم الله هذا مني ، ومقصوده أنه ما حصل ذلك قط ، وقرىء {أَتُنَبِّئُونَ} بالتخفيف أما قوله : {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فالمقصود تنزيه الله تعالى نفسه عن ذلك الشرك ، قرأ حمزة والكسائي {تُشْرِكُونَ} بالتاء ، ومثله في أول النحل في موضعين ، وفي الروم كلها بالتاء على الخطاب ، قال صاحب "الكشاف" "ما" موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم ، قال الواحدي : من قرأ بالتاء فلقوله : {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ} ومن قرأ بالياء / فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلّم قل أنت {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ويجوز أن يكون الله سبحانه هو الذي نزه نفسه عما قالوه فقال : {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 228
230
(1/2352)

اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام ، بين السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد ، والمقالة الباطلة ، فقال : {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} واعلم أن ظاهر قوله : {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} فيماذا ؟
وفيه ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنهم كانوا جميعاً على الدين الحق ، وهو دين الإسلام ، واحتجوا عليه بأمور : الأول : أن المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلاً ، وتزييف طريق عبادة الأصنام ، وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل ، فوجب أن يكون المراد من قوله : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} هو أنهم كانوا أمة واحدة ، إما في الإسلام وإما في الكفر ، ولا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر. فبقي أنهم كانوا أمة واحدة في الإسلام ، إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر لوجوه : الأول : قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ} (النساء : 41) وشهيد الله لا بد وأن يكون مؤمناً عدلاً. فثبت أنه ما خلت أمة من الأمم إلا وفيهم مؤمن. الثاني : أن الأحاديث وردت بأن الأرض لا تخلو عمن يعبد الله تعالى ، وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض وبهم يرزقون. الثالث : أنه لما كانت الحكمة الأصلية في الخلق هو العبودية ، فيبعد خلو أهل الأرض بالكلية عن هذا المقصود. روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقية من أهل الكتاب" وهذا يدل على قوم تمسكوا بالإيمان قبل مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكيف يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر ؟
وإذا ثبت أن الناس كانوا أمة واحدة إما في الكفر وإما في الإيمان ، وأنهم ما كانوا أمة واحدة في الكفر ، ثبت أنهم كانوا أمة واحدة في الإيمان ، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنهم متى كانوا كذلك ؟
فقال ابن عباس ومجاهد كانوا على دين الإسلام في عهد آدم وفي عهد ولده ، واختلفوا عند / قتل أحد ابنيه الابن الثاني ، وقال قوم : إنهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح ، وكانوا عشرة قرون. ثم اختلفوا على عهد نوح. فبعث الله تعالى إليهم نوحاً. وقال آخرون : كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق ، إلى أن ظهر الكفر فيهم. وقال آخرون : كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي ، وهذا القائل قال : المراد من الناس في قوله تعالى : {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} فاختلفوا العرب خاصة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 230
إذا عرفت تفصيل هذا القول فنقول : إنه تعالى لما بين فيما قبل فساد القول بعبادة الأصنام بالدليل الذي قررناه ، بين في هذه الآية أن هذا المذهب ليس مذهباً للعرب من أول الأمر ، بل كانوا على دين الإسلام ، ونفي عبادة الأصنام. ثم حذف هذا المذهب الفاسد فيهم ، والغرض منه أن العرب إذا علموا أن هذا المذهب ما كان أصلياً فيهم ، وأنه إنما حدث بعد أن لم يكن ، لم يتعصبوا لنصرته ، ولم يتأذوا من تزييف هذا المذهب ، ولم تنفر طباعهم من إبطاله. ومما يقوي هذا القول وجهان : الأول : أنه تعالى قال : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه } (يونس : 18) ثم بالغ في إبطاله بالدليل. ثم قال عقيبه : {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} فلو كان المراد منه بيان أن هذا الكفر كان حاصلاً فيهم من الزمان القديم ، لم يصح جعل هذا الكلام دليلاً على إبطال تلك المقالة. أما لو حملناه على أن الناس في أول الأمر كانوا مسلمين ، وهذا الكفر إنما حدث فيهم من زمان ، أمكن التوسل به إلى تزييف اعتقاد الكفار في هذه المقالة ، وفي تقبيح صورتها عندهم ، فوجب حمل اللفظ عليه تحصيلاً لهذا الغرض. الثاني : أنه تعالى قال : {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} ولا شك أن هذا وعيد ، وصرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى ، والأقرب هو ذكر الاختلاف ، فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف ، لا إلى ما سبق من كون الناس أمة واحدة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يقال : كانوا أمة واحدة في الإسلام لا في الكفر ، لأنهم لو كانوا أمة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان ، ولا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سبباً لحصول الوعيد. أما لو كانوا أمة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر ، وحينئذ يصح جعل ذلك الاختلاف سبباً للوعيد.
(1/2353)

القول الثاني : قول من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الكفر ، وهذا القول منقول عن طائفة من المفسرين. قالوا : وعلى هذا التقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنه تعالى بين للرسول عليه الصلاة والسلام ، أنه لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الدين مجيباً لك ، قابلاً لدينك. / فإن الناس كلهم كانوا على الكفر ، وإنما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك ، فكيف تطمع في اتفاق الكل على الإيمان ؟
جزء : 17 رقم الصفحة : 230
القول الثالث : قول من يقول : المراد إنهم كانوا أمة واحدة في أنهم خلقوا على فطرة الإسلام ، ثم اختلفوا في الأديان. وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" ومنهم من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الشرائع العقلية ، وحاصلها يرجع إلى أمرين : التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله. وإليه الإشارة بقوله تعالى : {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْـاًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } (الأنعام : 151) واعلم أن هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة ، فلنكتف بهذا القدر ههنا.
أما قوله تعالى : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فاعلم أنه ليس في الآية ما يدل على أن تلك الكلمة ما هي ؟
وذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن يقال لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده ، وإن كانوا به كافرين ، لقضى بينهم بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم ، لكن لما كان ذلك سبباً لزوال التكليف ، ويوجب الإلجاء ، وكان إبقاء التكليف أصوب وأصلح ، لا جرم أنه تعالى أخر هذا العقاب إلى الآخرة. ثم قال هذا القائل ، وفي ذلك تصبير للمؤمنين على احتمال المكاره من قبل الكافرين والظالمين. الثاني : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاماً عليهم ، لقضى بينهم في اختلافهم ، بما يمتاز المحق من المبطل والمصيب من المخطىء الثالث : أن تلك الكلمة هي قوله : "سبقت رحمتي غضبي" فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال وإمهاله إلى وقت الوجدان.
جزء : 17 رقم الصفحة : 230
230
اعلم أن هذا الكلام هو النوع الرابع من شبهات القوم في إنكارهم نبوته ، وذلك أنهم. قالوا : أن القرآن الذي جئتنا به كتاب مشتمل على أنواع من الكلمات ، والكتاب لا يكون معجزاً ، ألا ترى أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما ، بل كان لهما أنواع من المعجزات دلت على نبوتهما / سوى الكتاب. وأيضاً فقد كان فيهم من يدعي إمكان المعارضة ، كما أخبر الله تعالى أنهم قالوا : {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآ } وإذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئاً آخر سوى القرآن ، ليكون معجزة له ، فحكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله : {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّه } فأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يقول عند هذا السؤال {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} .
واعلم أن الوجه في تقرير هذا الجواب أن يقال : أقام الدلالة القاهرة على أن ظهور القرآن عليه معجزة قاهرة ظاهرة. لأنه عليه الصلاة والسلام بين أنه نشأ فيما بينهم وتربى عندهم ، وهم علموا أنه لم يطالع كتاباً ، ولم يتلمذ لأستاذ. بل كان مدة أربعين سنة معهم ومخالطاً لهم ، وما كان مشتغلاً بالفكر والتعلم قط ، ثم إنه دفعة واحدة ظهر هذا القرآن العظيم عليه ، وظهور مثل هذا الكتاب الشريف العالي ، على مثل ذلك الإنسان الذي لم يتفق له شيء من أسباب التعلم ، لا يكون إلا بالوحي. فهذا برهان قاهر على أن القرآن معجز قاهر ظاهر ، وإذا ثبت هذا كان طلب آية أخرى سوى القرآن من الاقتراحات التي لا حاجة إليها في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام ، وتقرير رسالته ، ومثل هذا يكون مفوضاً إلى مشيئة الله تعالى ، فإن شاء أظهرها ، وإن شاء لم يظهرها ، فكان ذلك من باب الغيب ، فوجب على كل أحد أن ينتظر أنه هل يفعله الله أم لا ؟
ولكن سواء فعل أو لم يفعل ، فقد ثبتت النبوة ، وظهر صدقه في ادعاء الرسالة ، ولا يختلف هذا المقصود بحصول تلك الزيادة وبعدمها ، فظهر أن هذا الوجه جواب ظاهر في تقرير هذا المطلوب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 230
232
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية أخرى سوى القرآن ، وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله : {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} (يونس : 20) ذكر جواباً آخر وهو المذكور في هذه الآية ، وتقريره من وجهين :
(1/2354)

الوجه الأول : أنه تعالى بين في هذه الآية أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد / وعدم الإنصاف ، وإذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى ، فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم ، فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين : إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد ، ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة.
أما المقام الأول : فتقريره أنه روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم ، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء ، وعلى التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران. فقوله : {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} المراد منه تلك الأمطار النافعة. وقوله : {مِّنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} المراد منه ذلك القحط الشديد. وقوله : {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن } المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو إلى الأصنام.
واعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة ، وهو قوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنابِه أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّه مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى } (يونس : 12) إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية ، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة ، ويطلبون الغوائل ، وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة ، فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر وطلب الغوائل.
جزء : 17 رقم الصفحة : 232
وأما المقام الثاني : وهو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات ، لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها ، لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين ، وإنما غرضهم الدفع والمنع والمبالغة في صون مناصبهم الدنيوية ، والامتناع من المتابعة للغير ، والدليل عليه أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم وسلط البلاء عليهم ، ثم أزالها عنهم وأبدل تلك البليات بالخيرات ، فهم مع ذلك استمروا على التكذيب والجحود ، فدل ذلك على أنه تعالى لو أنزل عليهم الآيات التي طلبوها لم يلتفتوا إليها ، فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم.
الوجه الثاني : في تقرير هذا الجواب : أن أهل مكة قد حصل لهم أسباب الرفاهية وطيب العيش ، ومن كان كذلك تمرد وتكبر كما قال تعالى : {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6 ، 7) وقرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور ، فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة والاقتراحات الفاسدة ، إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة والخيرات المتوالية ، وقوله : {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم ، ويجعلهم منقادين للرسول مطيعين له ، تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة/ والله أعلم.
/ المسألة الثانية : قوله تعالى : {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} كلام ورد على سبيل المبالغة ، والمراد منه إيصال الرحمة إليهم.
واعلم أن رحمة الله تعالى لا تذاق بالفم ، وإنما تذاق بالعقل ، وذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق.
المسألة الثالثة : قال الزجاج {إِذَآ} في قوله : {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} للشرط و{إِذَآ} في قوله {إِذَا لَهُم مَّكْرٌ} جواب الشرط وهو كقوله : {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم : 36) والمعنى : إذا أذقنا الناس رحمة مكروا وإن تصبهم سيئة قنطوا. واعلم أن {إِذَآ} في قوله : {إِذَا لَهُم مَّكْرٌ} تفيد المفاجأة ، معناه أنهم في الحال أقدموا على المكر وسارعوا إليه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 232
المسألة الرابعة : سمي تكذيبهم بآيات الله مكراً ، لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بطريق الحيلة ، وهؤلاء يحتالون لدفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة. قال مقاتل : المراد من هذا المكر هو أن هؤلاء لا يقولون هذا رزق الله ، بل يقولون سقينا بنوء كذا.
أما قوله تعالى : {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} فالمعنى أن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر ، فالله سبحانه وتعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك ، وهو من وجهين : الأول : ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد ، وفي الدنيا من الفضيحة والخزي والنكال. والثاني : أن رسل الله يكتبون مكرهم ويحفظونه ، وتعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيثة يوم القيامة ، ويكون ذلك سبباً للفضيحة التامة والخزي والنكال نعوذ بالله تعالى منه.
(1/2355)

جزء : 17 رقم الصفحة : 232
236
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال : {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِى ءَايَاتِنَا } كان هذا الكلام كلاماً كلياً لا ينكشف معناه تمام الانكشاف. إلا بذكر مثال كامل ، فذكر الله تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالاً ، ولمكر الإنسان مثالاً ، حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية التي قبلها ، وذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي.
واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود ، حصل له الفرح التام والمسرة القوية ، ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة. فأولها : أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة. وثانيها : أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب. وثالثها : أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع ، وأن النجاة ليست متوقعة ، ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم ، والرعب الشديد ، وأيضاً مشاهدة هذه الأحوال والأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب ، والخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ، ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق ، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى ، ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة ، ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة ، ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة ، فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية.
جزء : 17 رقم الصفحة : 236
المسألة الثانية : يحكى أن واحداً قال لجعفر الصادق : اذكر لي دليلاً على إثبات الصانع فقال : أخبرني عن حرفتك : فقال : أنا رجل أتجر في البحر ، فقال : صف لي كيفية حالك. فقال : ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها ، وجاءت الرياح العاصفة ، فقال / جعفر : هل وجدت في قلبك تضرعاً ودعاء. فقال نعم. فقال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت.
المسألة الثالثة : قرأ ابن عامر من النشر الذي هو خلاف الطي كأنه أخذه من قوله تعالى : {الصَّلَواةُ فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ} (الجمعة : 10) والباقون قرؤا {يُسَيِّرُكُمْ} من التسيير.
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد يجب أن يكون خلقاً لله تعالى. قالوا : دلت هذه الآية على أن سير العباد من الله تعالى ، ودل قوله تعالى : {قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ} (الأنعام : 11) على أن سيرهم منهم ، وهذا يدل على أن سيرهم منهم ومن الله ، فيكون كسبياً لهم وخلقاً لله ونظيره. قوله تعالى : {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنا بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} (الأنفال : 5) وقال في آية أخرى : {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (التوبة : 40) وقال في آية أخرى : {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} (التوبة : 82) ثم قال في آية أخرى {وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } (النجم : 43) وقال في آية أخرى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (الأفال : 7) قال الجبائي : أما كونه تعالى مسيراً لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك. وأما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى الله تعالى على التوسع. فما كان منه طاعة فبأمره وتسهيله ، وما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه. وزاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث أنه تعالى سخر لهم المركب في البر ، وسخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها ، لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير. وقال القفال : {هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي هو الله الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلباً للمعاش لكم ، وهو المسير لكم ، لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. هذا جملة ما قيل في الجواب عنه. ونحن نقول : لا شك أن المسير في البحر هو الله تعالى ، لأن الله تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة ، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة. فنقول : وجب أيضاً أن يكون مسيراً لهم في البر بهذا التفسير ، إذ لو كان مسيراً لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات والأدوات لكان مجازاً بهذا الوجه ، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعة واحدة ، وذلك باطل.
جزء : 17 رقم الصفحة : 236
واعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى المعنى الواحد. وأما أبو هاشم فإنه يقول : إن ذلك ممتنع ، إلا أنه يقول : لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين.
(1/2356)

واعلم أن قول الجبائي : قد أبطلناه في أصول الفقه ، وقول أبي هاشم أنه تعالى تكلم به مرتين أيضاً بعيد. لأن هذا قول لم يقل به أحد من الأمة ممن كانوا قبله ، فكان هذا على خلاف الإجماع فيكون باطلاً.
واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات :
/ السؤال الأول : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر ؟
والجواب : لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير ، بل تقدير الكلام كأنه قيل هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا.
السؤال الثاني : ما جواب {إِذَآ} في قوله : {حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ} .
الجواب : هو أن جوابها هو قوله : {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} ثم قال صاحب "الكشاف" :
وأما قوله : {دَعَوُا اللَّهَ} فهو بدل من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك. وقال بعض الأفاضل لو حمل قوله : {دَعَوُا اللَّهَ} على الاستئناف. كان أوضح ، كأنه لما قيل : {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } قال قائل فما صنعوا ؟
فقيل : {دَعَوُا اللَّهَ} .
السؤال الثالث : ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة ؟
الجواب فيه وجوه : الأول : قال صاحب "الكشاف" : المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها ، ويستدعى منهم مزيد الإنكار والتقبيح. الثاني : قال أبو علي الجبائي : إن مخاطبته تعالى لعباده ، هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام ، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب. وكل من أقام الغائب مقام المخاطب ، حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب. الثالث : وهو الذي خطر بالبال في الحال ، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام. وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة ، يدل على المقت والتبعيد.
أما الأول : فكما في سورة الفاتحة ، فإن قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة : 2 ، 3) كله مقام الغيبة ، ثم انتقل منها إلى قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة : 5) وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور ، وهو يوجب علو الدرجة ، وكمال القرب من خدمة رب العالمين.
جزء : 17 رقم الصفحة : 236
وأما الثاني : فكما في هذه الآية ، لأن قوله : {حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ} خطاب الحضور ، وقوله : {وَجَرَيْنَ بِهِم} مقام الغيبة ، فههنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة ، وذلك يدل على المقت والتبعيد والطرد ، وهو اللائق بحال هؤلاء ، لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران ، كان اللائق به ما ذكرناه.
السؤال الرابع : كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء ؟
الجواب : أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة : أولها : الكون في الفلك ، وثانيها : جرى الفلك / بالريح الطيبة ، وثالثها : فرحهم بها. وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضاً : أولها : قوله : {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وفيه سؤالان :
السؤال الأول : الضمير في قوله : {جَآءَتْهَا} عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد ، والضمير في قوله : {وَجَرَيْنَ بِهِم} عائد إلى الفلك وهو الضمير الجمع ، فما السبب فيه ؟
الجواب عنه من وجهين : الأول : أنا لا نسلم أن الضمير في قوله : {جَآءَتْهَا} عائد إلى الفلك ، بل نقول إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله : {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} الثاني : لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ}الفلك} يصلح للواحد والجمع ، فحسن الضميران.
السؤال الثاني : ما العاطف. الجواب : قال القراء والزجاج : يقال ريح عاصف وعاصفة ، وقد عصفت عصوفاً وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة. قال الفراء : والألف لغة بني أسد ، ومعنى عصفت الريح اشتدت ، وأصل العصف السرعة ، يقال : ناقة عاصف وعصوف سريعة ، وإنما قيل الفلك} يصلح للواحد والجمع ، فحسن الضميران.
السؤال الثاني : ما العاطف. الجواب : قال القراء والزجاج : يقال ريح عاصف وعاصفة ، وقد عصفت عصوفاً وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة. قال الفراء : والألف لغة بني أسد ، ومعنى عصفت الريح اشتدت ، وأصل العصف السرعة ، يقال : ناقة عاصف وعصوف سريعة ، وإنما قيل يصلح للواحد والجمع ، فحسن الضميران.
السؤال الثاني : ما العاطف. الجواب : قال القراء والزجاج : يقال ريح عاصف وعاصفة ، وقد عصفت عصوفاً وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة. قال الفراء : والألف لغة بني أسد ، ومعنى عصفت الريح اشتدت ، وأصل العصف السرعة ، يقال : ناقة عاصف وعصوف سريعة ، وإنما قيل {رِيحٌ عَاصِفٌ} لأنه يراد ذات عصوف كما قيل : لابن وتامر أو لأجل أن لفظ الريح مذكر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 236
أما القيد الثاني : فهو قوله : {وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر.
(1/2357)

أما القيد الثالث : فهو قوله : {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك ، وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد ، فقد دنوا من الهلاك.
السؤال الخامس : ما المراد من الإخلاص في قوله : {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
والجواب : قال ابن عباس : يريد تركوا الشرك ، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية. قال الحسن : {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} الإخلاص الإيمان ، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى ، فيكون جارياً مجرى الإيمان الاضطراري. وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله. وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم.
السؤال السادس : ما الشيء المشاء إليه بقوله هذه في قوله : { لئن أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِه } .
والجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة ، وقيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج أو من هذه الشدائد ، وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها ، إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها.
السؤال السابع : هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار ؟
الجواب : نعم ، والتقدير : دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا ، ويمكن / أن يقال : لا حاجة إلا الإضمار ، لأن قوله : {دَعَوُا اللَّهَ} يصير مفسراً بقوله : { لئن أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ} فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق. قال ابن عباس : يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى ، ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم. قال الزجاج : البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي : يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترقى إلى الفساد ، وبغت المرأة إذا فجرت ، قال الواحدي : أصل هذا اللفظ من الطلب.
فإن قيل : فما معنى قوله : {بِغَيْرِ الْحَقِّ } والبغي لا يكون بحق ؟
جزء : 17 رقم الصفحة : 236
قلنا : البغي قد يكون بالحق ، وهو استيلاء المسلمين عل أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببني قريظة. ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال : {الْحَقِّا يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُما مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الأكثرون {مَتَـاعٌ} برفع العين ، وقرأ حفص عن عاصم {مَتَـاعٌ} بنصب العين ، أما الرفع ففيه وجهان : الأول : أن يكون قوله : {بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُم } مبتدأ ، وقوله : {مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } خبراً. والمراد من قوله : {بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُم } بغي بعضكم على بعض كما في قوله : {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } (البقرة : 54) ومعنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها. والثاني : أن قوله {بَغْيُكُمْ} مبتدأ ، وقوله : {عَلَى ا أَنفُسِكُم } خبره ، وقوله : {وَأَبْقَى * قَالُوا لَن} خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هو متاع الحياة الدنيا. وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول : إن قوله : {بَغْيُكُمْ} مبتدأ ، وقوله : {عَلَى ا أَنفُسِكُم } خبره ، وقوله : {مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } في موضع المصدر المؤكد ، والتقدير : تتمتعون متاع الحياة الدنيا.
المسألة الثانية : البغي من منكرات المعاصي. قال عليه الصلاة والسلام : "أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة" وروى "ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين" وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :
ف يا صاحب البغي إن البغي مصرعة
فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوماً على جبل
لاندك منه أعاليه وأسفله
/ وعن محمد بن كعب القرظي : ثلاث من كن فيه كن عليه ، البغي والنكث والمكر ، قال تعالى : {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُم } .
جزء : 17 رقم الصفحة : 236
المسألة الثالثة : حاصل الكلام في قوله تعالى : {الْحَقِّا يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُم } أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة ، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها {ثُمَّ إِلَيْنَا} أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم {مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا ، والأنباء هو الأخبار ، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت.
جزء : 17 رقم الصفحة : 236
238
في الآية مسائل :
(1/2358)

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال : {الْحَقِّا يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُما مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } (يونس : 23) أتبعه بهذا المثل العجيب الذي ضربه لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ، ويشتد تمسكه بها ، ويقوي إعراضه عن أمر الآخرة والتأهب لها ، فقال : {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِه نَبَاتُ الارْضِ} وهذا الكلام يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازل من السماء ، وذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع كثيرة من النبات ، وتكون تلك الأنواع مختلطة ، وهذا فيما لم يكن نابتاً قبل نزول المطر. والثاني : أن يكون المراد منه الذي نبت ، ولكنه لم يترعرع ، ولم يهتز. وإنما هو في أول بروزه من الأرض ومبدأ حدوثه ، فإذا نزل المطر عليه ، واختلط بذلك المطر ، أي اتصل كل واحد منهما بالآخر اهتز ذلك النبات وربا وحسن ، وكمل واكتسى كمال الرونق والزينة ، وهو المراد من قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَآ أَخَذَتِ الارْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} وذلك لأن التزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء. فجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون ، وتزينت بجميع الألوان الممكنة في الزينة من حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض ، ولا شك أنه متى صار البستان على هذا الوجه ، وبهذه الصفة ، فإنه يفرح به المالك ويعظم رجاؤه في الانتفاع به ، ويصير قلبه مستغرقاً فيه ، ثم إنه تعالى يرسل على هذا البستان العجيب آفة عظيمة دفعة واحدة في ليل أو نهار من برد ، أو ريح أو سيل ، فصارت تلك الأشجار والزروع باطلة هالكة كأنها ما حصلت ألبتة. فلا شك أنه تعظم حسرة مالك ذلك البستان ويشتد حزنه ، فكذلك من وضع قلبه على لذات الدنيا وطيباتها ، فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنه وتلهفه عليها.
جزء : 17 رقم الصفحة : 238
واعلم أن تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوهاً لخصها القاضي رحمه الله تعالى.
الوجه الأول : أن عاقبة هذه الحياة الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه ، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت. وهو معنى قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا فَرِحُوا بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (الأنعام : 44) خاسرون الدنيا ، وقد أنفقوا أعمارهم فيها ، وخاسرون من الآخرة ، مع أنهم متوجهون إليها.
والوجه الثاني : في التشبيه أنه تعالى بين أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد ، فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد.
والوجه الثالث : أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} ( ) فلما صار سعي هذا الزراع باطلاً بسبب حدوث الأسباب المهلكة ، فكذلك سعي المغتر بالدنيا.
والوجه الرابع : أن مالك ذلك البستان لما عمره بأتعاب النفس وكد الروح/ وعلق قلبه على الانتفاع به ، فإذا حدث ذلك السبب المهلك ، وصار العناء الشديد الذي تحمله في الماضي سبباً لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل ، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات. فكذلك حال من وضع قلبه على الدنيا وأتعب نفسه في تحصيلها ، فإذا مات ، وفاته كل ما نال ، صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا ، سبباً لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.
والوجه الخامس : لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد ، وذلك لأنا نرى الزرع الذي قد انتهى إلى الغاية القصوى في التربية ، قد بلغ الغاية في الزينة والحسن. ثم يعرض / للأرض المتزينة به آفة ، فيزول ذلك الحسن بالكلية ، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى. فذكر هذا المثال ليدل عل أن من قدر على ذلك ، كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
المسألة الثانية : المثل : قول يشبه به حال الثاني بالأول ، ويجوز أن يكون المراد من المثل الصفة. والتقدير : إنما صفة الحياة الدنيا. وأما قوله : {وَازَّيَّنَتْ} فقال الزجاج : يعني تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت الزاي فاجتلب لها ألف الوصل ، وهذا مثل ما ذكرنا في قوله : (البقرة : 72) {إِذَا ادَّارَكُوا } (الأعراف : 38).
جزء : 17 رقم الصفحة : 238
(1/2359)

وأما قوله : {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَـادِرُونَ عَلَيْهَآ} فقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أن أهل تلك الأرض قادرون على حصادها وتحصيل ثمراتها. والتحقيق أن الضمير وإن كان في الظاهر عائداً إلى الأرض ، إلا أنه عائد إلى النبات الموجود في الأرض. وأما قوله : {أَتَـاـاهَآ أَمْرُنَا} فقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد عذابنا. والتحقيق أن المعنى أتاها أمرنا بهلاكها. وقوله : {فَجَعَلْنَـاهَا حَصِيدًا} قال ابن عباس : لا شيء فيها ، وقال الضحاك : يعني المحصود. وعلى هذا ، المراد بالحصيد الأرض التي حصد نبتها ، ويجوز أن يكون المراد بالحصيد النبات ، قال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل ، وقال غيره : الحصيد المقطوع والمقلوع. وقوله : {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالامْسِ } قال الليث : يقال للشيء إذا فنى : كأن لم يغن بالأمس. أي كأن لم يكن من قولهم غني القوم في دارهم ، إذا أقاموا بها ، وعلى هذا الوجه يكون هذا صفة للنبات. وقال الزجاج : معناه : كأن لم تعمر بالأمس ، وعلى هذا الوجه فالمراد هو الأرض ، وقوله : {كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ} أي نذكر واحدة منها بعد الأخرى ، على الترتيب. ليكون تواليها وكثرتها سبباً لقوة اليقين ، وموجباً لزوال الشك والشبهة :
جزء : 17 رقم الصفحة : 238
239
المسألة الأولى : في كيفية النظم. اعلم أنه تعالى لما نفر الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق ، رغبهم في الآخرة بهذه الآية. ووجه الترغيب في الآخرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "مثلي ومثلكم شبه سيد بنى داراً ووضع مائدة وأرسل داعياً ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد. ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار دار الإسلام ، والمائدة الجنة ، والداعي محمد عليه السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنيبها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق / إلا الثقلين. أيها الناس ؛ هلموا إلى ربكم والله يدعوا إلى دار السلام".
المسألة الثانية : لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة ، إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه : الأول : أن السلام هو الله تعالى ، والجنة داره. ويجب علينا ههنا بيان فائدة تسمية الله تعالى بالسلام ، وفيه وجوه : أحدها : أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير ، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير ، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال : {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ } (محمد : 38) وقال : {خَبِيرٍ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّه } (فاطر : 15) وثانيها : أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه ، قال : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت : 46) ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه ، وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلماً. ولأن الظلم إنما يصدر إما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج ، ولما كان الكل محالاً على الله تعالى ، كان الظلم محالاً في حقه. وثالثها : قال المبرد : إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام ، أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو ، والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات. فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين ، وهو المجيب لدعوة المضطرين ، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين. قال المبرد : وعلى هذا التقدير : السلام مصدر سلم.
القول الثاني : السلام جمع سلامة ، ومعنى دار السلام : الدار التي من دخلها سلم من الآفات. فالسلام ههنا بمعنى السلامة ، كالرضاع بمعنى الرضاعة. فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات ، كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 239
والقول الثالث : أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) والملائكة يسلمون عليهم أيضاً ، قال تعالى : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } (الرعد : 23 ، 24) وهم أيضاً يحيي بعضهم بعضاً بالسلام قال تعالى : {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ} (يونس : 10) وأيضاً فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا ، قال تعالى : {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ * فَسَلَـامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ} (الواقعة : 90/ 91).
(1/2360)

المسألة الثالثة : اعلم أن كمال جود الله تعالى وكمال قدرته وكمال رحمته بعباده معلوم ، فدعوته عبيده إلى دار السلام ، تدل على أن دار السلام قد حصل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، لأن العظيم إذا استعظم شيئاً ورغب فيه وبالغ في ذلك الترغيب ، دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء/ لا سيما وقد ملأ الله هذا الكتاب المقدس من وصف الجنة مثل قوله : {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة : 89) ونحن نذكر ههنا كلاماً كلياً في تقرير هذا المطلوب ، فنقول : الإنسان إنما يسعى / في يومه لغده. ولكل إنسان غدان ، غد في الدنيا وغد في الآخرة. فنقول : غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه أربعة : أولها : أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة. وثانيها : أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه ، إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به. أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم ، فإنه لا بد وأن ينتفع به. وثالثها : أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله ، إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب ، لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات ، بل هي ممزوجة بالبليات ، والاستقراء يدل عليه. ولذلك قال عليه السلام : "من طلب مالم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق" فقيل يا رسول الله وما هو ؟
قال : "سرور يوم بتمامه" وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات. ورابعها : أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه ، وكان ذلك الانتفاع خالياً عن خلط الآفات ، إلا أنه لا بد وأن يكون منقطعاً. ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع ، فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة ، وأن سعادات الآخرة سالمة عنها. فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام.
جزء : 17 رقم الصفحة : 239
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر والإيمان بقضاء الله تعالى قالوا : إنه تعالى بين في هذه الآية أنه دعا جميع الخلق إلى دار السلام ، ثم بين أنه ما هدى إلا بعضهم فهذه الهداية الخاصة يجب أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامة ، ولا شك أيضاً أن الأقدار والتمكين وإرسال الرسل وإنزال الكتب أمور عامة ، فوجب أن تكون هذه الهداية الخاصة مغايرة لكل هذه الأشياء ، وما ذاك إلا ما ذكرناه من أنه تعالى خصه بالعلم والمعرفة دون غيره. واعلم أن هذه الآية مشكلة على المعتزلة وما قدروا على إيراد الأسئلة الكثيرة ، وحاصل ما ذكره القاضي في وجهين : الأول : أن يكون المراد ويهدي الله من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ، بمعنى أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها. والثاني : أن المراد من هذه الآية الألطاف. وأجاب أصحابنا عن هذين الوجهين بحرف واحد ، وهو أن عندهم أنه يجب على الله فعل هذه الهداية ، وما كان واجباً لا يكون معلقاً بالمشيئة ، وهذا معلق بالمشيئة ، فامتنع حمله على ما ذكروه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 239
242
/ اعلم أنه تعالى لما دعا عباده إلى دار السلام ، ذكر السعادات التي تحصل لهم فيها فقال : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } فيحتاج إلى تفسير هذه الألفاظ الثلاثة.
أما اللفظ الأول : وهو قوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا } فقال ابن عباس : معناه : للذين ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وقال الأصم : معناه : للذين أحسنوا في كل ما تعبدوا به ، ومعناه : أنهم أتوا بالمأمور به كما ينبغي ، واجتنبوا المنهيات من الوجه الذي صارت منهياً عنها.
والقول الثاني : أقرب إلى الصواب لأن الدرجات العالية لا تحصل إلا لأهل الطاعات.
وأما اللفظ الثاني : وهو {الْحُسْنَى } فقال ابن الأنباري : الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن ، والعرب توقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ، ولذلك لم تؤكد ، ولم تنعت بشيء ، وقال صاحب "الكشاف" : المراد : المثوبة الحسنى. ونظير هذه الآية قوله : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} (الرحمن : 60).
وأما اللفظ الثالث : وهو الزيادة. فنقول : هذه الكلمة مبهمة ، ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها ، وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين :
القول الأول : أن المراد من منها رؤية الله سبحانه وتعالى. قالوا : والدليل عليه النقل والعقل.
أما النقل : فالحديث الصحيح الوارد فيه ، وهو أن الحسنى هي الجنة ، والزيادة هي النظر إلى الله سبحانه وتعالى.
(1/2361)

وأما العقل : فهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف ، فانصرف إلى المعهود السابق ، وهو دار للسلام. والمعروف من المسلمين والمتقرر بين أهل الإسلام من هذه اللفظة هو الجنة ، وما فيها من المنافع والتعظيم. وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون المراد من الزيادة أمراً مغايراً لكل ما في الجنة من المنافع والتعظيم ، وإلا لزم التكرار. وكل من قال بذلك قال : إنما هي رؤية الله تعالى. فدل ذلك على أن المراد من هذه الزيادة : الرؤية. ومما يؤكد هذا وجهان : الأول : أنه تعالى قال : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة : 22 ، 23) فأثبت لأهل الجنة أمرين : أحدهما : نضرة الوجوه والثاني : النظر إلى الله تعالى ، وآيات القرآن يفسر بعضها بعضاً فوجب حمل الحسنى ههنا على نضرة الوجوه ، وحمل الزيادة على رؤية الله تعالى. الثاني : أنه تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلّم : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (الإنسان : 20) أثبت له النعيم ، ورأية الملك الكبير ، فوجب ههنا حمل الحسنى والزيادة على هذين الأمرين.
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 242
القول الثاني : أنه لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية. قالت المعتزلة ويدل على ذلك وجوه : الأول : أن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله تعالى ممتنعة. والثاني : أن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤية الله تعالى ليست من جنس نعيم الجنة. الثالث : أن الخبر الذي تمسكتم به في هذا الباب هو ما روي أن الزيادة ، هي النظر إلى وجه الله تعالى ، وهذا الخبر يوجب التشبيه ، لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي. وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة ، لأن الوجه اسم للعضو المخصوص ، وذلك أيضاً يوجب التشبيه. فثبت أن هذا اللفظ لا يمكن حمله على الرؤية ، فوجب حمله على شيء آخر ، وعند هذا قال الجبائي : الحسنى عبارة عن الثواب المستحق ، والزيادة هي ما يزيده الله تعالى على هذا الثواب من التفضل. قال : والذي يدل على صحته ، القرآن وأقوال المفسرين.
أما القرآن : فقوله تعالى : {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه } (فاطر : 30).
وأما أقوال المفسرين : فنقل عن علي رضي الله عنه أنه قال : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس : أن الحسنى هي الحسنة ، والزيادة عشر أمثالها وعن الحسن : عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وعن مجاهد : الزيادة مغفرة الله ورضوانه. ورضوانه وعن يزيد بن سمرة : الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم. فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم. أجاب أصحابنا عن هذه الوجوه فقالوا : أما قولكم إن الدلائل العقلية دلت على امتناع رؤية الله تعالى فهذا ممنوع ، لأنا بينا في كتب الأصول أن تلك الدلائل في غاية الضعف ونهاية السخافة ، وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأخبار الصحيحة بإثبات الرؤية ، وجب إجراؤها على ظواهرها. أما قوله الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه. فنقول : المزيد عليه ، إذا كان مقدراً بمقدار معين ، وجب أن تكون الزيادة عليه مخالفة له.
مثال الأول : قول الرجل لغيره : أعطيتك عشرة أمداد من الحنطة وزيادة ، فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة من الحنطة.
ومثال الثاني : قوله أعطيتك الحنطة وزيادة ، فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة غير الحنطة ، والمذكور في هذه الآية لفظ {الْحُسْنَى } وهي الجنة ، وهي مطلقة غير مقدرة بقدر معين ، فوجب أن تكون تلك الزيادة عليها شيئاً مغايراً لكل ما في الجنة. وأما قوله : الخبر المذكور في هذا الباب ، اشتمل على لفظ النظر ، وعلى إثبات الوجه لله تعالى ، وكلاهما يوجبان التشبيه. فنقول : هذا الخبر أفاد إثبات الرؤية ، وأفاد إثبات الجسمية. ثم قام الدليل على أنه ليس بجسم ، ولم يقم الدليل على امتناع رأيته ، فوجب ترك العمل بما قام الدليل على فساده فقط ، وأيضاً فقد بينا أن لفظ هذه الآية / يدل على أن الزيادة هي الرؤية من غير حاجة تنافي تقرير ذلك الخبر ، والله أعلم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 242
واعلم أنه تعالى لما شرح ما يحصل لأهل الجنة من السعادات ، شرح بعد ذلك الآفات التي صانهم الله بفضله عنها ، فقال : {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ } والمعنى : لا يغشاها قتر ، وهي غبرة فيها سواد {وَلا ذِلَّةٌ } ولا أثر هوان ولا كسوف.
فالصفة الأولى : هي قوله تعالى : {وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس : 40).
(1/2362)

والصفة الثانية : هي قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ خَـاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} (الغاشية : 2 ، 3) والغرض من نفي هاتين الصفتين ، نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم ، ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره الله تعالى خالص غير مشوب بالمكروهات ، وإنه لا يجوز عليهم ما إذا حصل غير صفحة الوجه ، ويزيل ما فيها من النضارة والطلاقة ، ثم بين أنهم خالدون في الجنة لا يخافون الانقطاع.
واعلم أن علماء الأصول قالوا : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ} (يونس : 25) يدل على غاية التعظيم. وقوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } يدل على حصول المنفعة وقوله : {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ } يدل على كونها خالصة وقوله : { أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع والله أعلم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 242
243
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة ، شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية ، وذكر تعالى من أحوالهم أموراً أربعة أولها : قوله : {جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا} والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات ، لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة وأما في عمل السيئات ، فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي / إلا بالمثل ، والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلاً وذلك حسن ، ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة ، وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات ، فهو ظلم ، ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير ، لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته ، ولو فعل الظلم لبطلت حكمته. تعالى الله عن ذلك ، هكذا قرره القاضي تفريعاً على مذهبه. وثانيها : قوله : {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } وذلك كناية عن الهوان والتحقير ، واعلم أن الكمال محبوب لذاته ، والنقصان مكروه لذاته ، فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات ، فيكون شعوره بكونه ناقصاً ، سبباً لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال. وثالثها : قوله : {مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات ، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية ، أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم. أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم. ورابعها : قوله : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ} والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال : {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ } (يونس : 26).
واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة ، فإن العلم طبعه طبع النور ، والجهل طبعه طبع الظلمة ، فقوله : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} المراد منه نور العلم ، وروحه وبشره وبشارته ، وقوله : {وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 243
المسألة الثانية : قوله : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} فيه وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفاً على قوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا } (آل عمران : 172) كأنه قيل : للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والثاني : أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وهذا يدل على أن حكم الله في حق المحسنين ليس إلا بالفضل ، وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل.
المسألة الثالثة : قال بعضهم : المراد بقوله : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر ، بدليل قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} (آل عمران : 106) وكذلك قوله : {وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} (الأنعام : 22) والضمير في قوله : {هُمْ} عائد إلى هؤلاء ، ثم إنه تعالى وصفهم بالشرك ، وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار ، ولأن العلم نور وسلطان العلوم والمعارف / هو معرفة الله تعالى ، فكل قلب حصل فيه معرفة الله تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلاً ، وكان الشبلي رحمة الله تعالى عليه يتمثل بهذا ويقول :
كل بيت أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج
(1/2363)

وقال القاضي : إن قوله : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} عام يتناول الكافر والفاسق. إلا أنا نقول : الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه :
المسألة الرابعة : قال الفراء : في قوله : {جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا} وجهان : الأول : أن يكون التقدير : فلهم جزاء السيئة بمثلها ، كما قال : {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} (البقرة : 196) أي فعليه. والثاني : أن يعلق الجزاء بالباء في قوله : {بِمِثْلِهَا} قال ابن الأنباري : وعلى هذا التقدير الثاني فلا بد من عائد الموصول. والتقدير : فجزاء سيئة منهم بمثلها.
جزء : 17 رقم الصفحة : 243
أما قوله : {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } فهو معطوف على يجازي ، لأن قوله : {جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا} تقديره : يجازي سيئة بمثلها ، وقرىء {وَلا ذِلَّةٌ } بالياء.
أما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : {أُغْشِيَتْ} أي ألبست {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا} قرأ ابن كثير والكسائي {قِطَعًا} بسكون الطاء ، وقرأ الباقون بفتح الطاء ، والقطع بسكون القطعة. وهي البعض ، ومنه قوله تعالى {قَالُوا يَـالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} (هود : 81) أي قطعة. وأما قطع بفتح الطاء ، فهو جمع قطعة ، ومعنى الآية : وصف وجوههم بالسواد ، حتى كأنها ألبست سواداً من الليل ، كقوله تعالى : {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } (الزمر : 60) وكقوله : {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} (آل عمران : 106) وكقوله : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} (الرحمن : 41) وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين.
المسألة الثانية : قوله : {مُظْلِمًا } قال الفراء والزجاج : هو نعت لقوله : {قِطَعًا} وقال أبو علي الفارسي : ويجوز أن يجعل حالاً كأنه قيل : أغشيت وجوههم قطعاً من الليل في حال ظلمته.
جزء : 17 رقم الصفحة : 243
245
/ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار ، فالضمير في قوله {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} عائد إلى المذكور السابق ، وذلك هو قوله : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} (يونس : 27) فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر ، دل على أن المراد من قوله : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} الكفار ، وحاصل الكلام : أنه تعالى يحشر العابد والمعبود ، ثم إن المعبود يتبرأ من العابد ، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته ، والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون : {هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه } (يونس : 180) فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار ، بل يتبرؤن منهم ، وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار ، ونظيره آيات منها قوله تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } (البقرة : 166) ومنها قوله تعالى : {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } (سبأ : 40/ 41).
واعلم أن هذا الكلام يشير على سبيل الرمز إلى دقيقة عقلية ، وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته ، والممكن لذاته محتاج بحسب ماهيته ، والشيء الواحد يمتنع أن يكون قابلاً وفاعلاً معاً ، فما سوى الواحد لأحد الحق لا تأثير له في الإيجاد والتكوين ، فالممكن المحدث لا يليق به أن يكون معبوداً لغيره ، بل المعبود الحق ليس إلا الموجد الحق ، وذلك ليس إلا الموجود الحق الذي هو واجب الوجود لذاته ، فبراءة المعبود من العابدين ، يحتمل أن يكون المراد منه ما ذكرناه. والله أعلم بمراده.
المسألة الثانية : {الْحَشْرِ } الجمع من كل جانب إلى موقف واحد و{جَمِيعًا } نصب على الحال أي نحشر الكل حال اجتماعهم. و{مَكَانَكُمْ} منصوب بإضمار الزموا. والتقدير : الزموا مكانكم و{أَنتُم} تأكيد للضمير {وَشُرَكَآؤُكُمْ } عطف عليه. واعلم أن قوله : {مَكَانَكُمْ} كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا ، ونظيره قوله تعالى : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُم إِنَّهُم} (الصافات : 22 ـ 24).
جزء : 17 رقم الصفحة : 245
أما قوله : {وَشُرَكَآؤُكُم فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } ففيه بحثان :
/ البحث الأول : أن هذه الكلمة جاءت على لفظ المضي بعد قوله : {ثُمَّ نَقُولُ} وهو منتظر ، والسبب فيه أن الذي حكم الله فيه ، بأن سيكون صار كالكائن الراهن الآن ، ونظيره قوله تعالى : {وَنَادَى ا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} (الأعراف : 44).
(1/2364)

البحث الثاني : زيلنا فرقنا وميزنا. قال الفراء : قوله : {فَزَيَّلْنَا} ليس من أزلت ، إنما هو من زلت إذا فرقت. تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل. أي ميزتها فلم تتميز ، ثم قال الواحدي : فالزيل والتزييل والمزايلة ، والتمييز والتفريق. قال الواحدي : وقرىء {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وهو مثل {فَزَيَّلْنَا} وحكى الواحدي عن ابن قتيبة أنه قال في هذه الآية : هو من زال يزول وأزلته أنا ، ثم حكى عن الأزهري أنه قال : هذا غلط ، لأنه لم يميز بين زال يزول ، وبين زال يزيل ، وبينهما بون بعيد ، والقول ما قاله الفراء ، ثم قال المفسرون : {فَزَيَّلْنَا} أي فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام ، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.
وأما قوله : {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} ففيه مباحث :
البحث الأول : إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه : الأول : أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام ، فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال ، فلهذا قال تعالى : {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم} الثاني : أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق ، فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة ، لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم. الثالث : أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله : {مَكَانَكُمْ} صاروا شركاء في هذا الخطاب.
البحث الثاني : اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء. فقال بعضهم : هم الملائكة ، واستشهدوا بقوله تعالى : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُم فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُم وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} (سبأ : 40) ومنهم من قال : بل هي الأصنام ، والدليل عليه : أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد ، وذلك لا يليق بالملائكة المقربين ، ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام. فقال بعضهم : إن الله تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها ، فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام. وقال آخرون إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام ، وهو ضعيف ، لأن ظاهر قوله : {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم} يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء.
جزء : 17 رقم الصفحة : 245
فإن قيل : إذا أحياهم الله تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم ؟
قلنا : الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله ، وأحوال القيامة غير معلومة ، إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن.
/ والقول الثالث : إن المراد بهؤلاء الشركاء ، كل من عبد من دون الله تعالى ، من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك.
البحث الثالث : هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين ، فهل يكون تهديداً في حق المعبودين. أما المعتزلة : فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز. قالوا : لأنه لا ذنب للمعبود ، ومن لا ذنب له ، فإنه يقبح من الله تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه. وأما أصحابنا ، فإنهم قالوا إنه تعالى لا يسئل عما يفعل.
البحث الرابع : أن الشركاء قالوا : {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} وهم كانوا قد عبدوهم ، فكان هذا كذباً ، وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا ، وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء ، والذي نذكره ههنا ، أن منهم من قال : إن المراد من قولهم {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا ؟
قالوا : والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان : الأول : أنهم استشهدوا بالله في ذلك حيث قالوا : {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} والثاني : أنهم قالوا : {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَـافِلِينَ} فأثبتوا لهم عبادة ، إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة ، وقد صدقوا في ذلك ، لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور ألبتة. ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها. وقالوا : إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها ، ثم ذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة ، فذلك الكذب يكون جارياً مجرى كذب الصبيان ، ومجرى كذب المجانين والمدهوشين. والثاني : أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم/ ولهذا المعنى قالوا : إنهم ما عبدونا. والثالث : أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة ، فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ، ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات ، فهم ما عبدوها وإنما عبدوا أموراً تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان ، وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله بغير إذنه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 245
246
/ واعلم أن هذه الآية كالتتمة لما قبلها. وقوله : {هُنَالِكَ} معناه : في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو يكون المراد في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان ، وفي قوله : {تَبْلُوا } مباحث :
(1/2365)

البحث الأول : قرأ حمزة والكسائي {تَتْلُوا } بتاءين ، وقرأ عاصم {تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} بالنون ونصب كل والباقون {تَبْلُوا } بالتاء والباء. أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان : الأول : أن يكون معنى قوله : {تَتْلُوا } أي تتبع ما أسلفت ، لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة وإلى طريق النار. الثاني : أن يكون المعنى : أن كل نفس تقرأ ما في صحيفتها من خير أو شر ومنه قوله تعالى : {اقْرَأْ كِتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء : 14) وقال : {فَ أولئك يَقْرَءُونَ كِتَـابَهُمْ} (الإسراء : 71) وأما قراءة عاصم فمعناها : أن الله تعالى يقول في ذلك الوقت نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل ، والمعنى : أنا نعرف حالها بمعرفة حال عملها ، إن كان حسناً فهي سعيدة ، وإن كان قبيحاً فهي شقية ، والمعنى نفعل بها فعل المختبر ، كقوله تعالى : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } (الملك : 2) وأما القراءة المشهورة فمعناها : أن كل نفس نختبر أعمالها في ذلك الوقت.
البحث الثاني : الابتلاء عبارة عن الاختبار قال تعالى : {وَبَلَوْنَـاهُم بِالْحَسَنَـاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} (الأعراف : 168) ويقال : البلاء ثم الابتلاء أي الاختبار ينبغي أن يكون قبل الابتلاء.
ولقائل أن يقول : إن في ذلك الوقت تنكشف نتائج الأعمال وتظهر آثار الأفعال ، فكيف يجوز تسمية حدوث العلم بالابتلاء ؟
وجوابه : أن الابتلاء سبب لحدوث العلم ، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور.
وأما قوله : {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاهُمُ الْحَقِّ } فاعلم أن الرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه ، وههنا فيه احتمالات : الأول : أن يكون المراد من قوله : {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ} أي وردوا إلى حيث لا حكم إلا لله على ما تقدم من نظائره. والثاني : أن يكون المراد {وَرُدُّوا } إلى ما يظهر لهم من الله من ثواب وعقاب ، منبهاً بذلك على أن حكم الله بالثواب والعقاب لا يتغير. الثالث : أن يكون المراد من قوله : {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ} أي جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلهيته ، بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله تعالى ، ولذلك قال : {مَوْلَـاهُمُ الْحَقِّ } أعني أعرضوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق.
جزء : 17 رقم الصفحة : 246
وأما قوله : {مَوْلَـاهُمُ الْحَقِّ } فقد مر تفسيره في سورة الأنعام.
وأما قوله : {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فالمراد أنهم كانوا يدعون فيما يعبدونه أنهم شفعاء وأن عبادتهم مقربة إلى الله تعالى ، فنبه تعالى على أن ذلك يزول في الآخرة ، ويعلمون أن ذلك باطل وافتراء واختلاق.
جزء : 17 رقم الصفحة : 246
248
/ اعلم أنه تعالى لما بين فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد هذا المذهب.
(1/2366)

فالحجة الأولى : ما ذكره في هذه الآية وهو أحوال الرزق وأحوال الحواس وأحوال الموت والحياة. أما الرزق فإنه إنما يحصل من السماء والأرض ، أما من السماء فبنزول الأمطار الموافقة وأما من الأرض ، فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً ، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض وأما الحيوان فهو محتاج أيضاً إلى الغذاء. ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيواناً آخر وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال ، فثبت أن أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات وثبت أن تولد النبات من الأرض ، فلزم القطع بأن الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض ، ومعلوم أن مدبر السموات والأرضين ليس إلا الله سبحانه وتعالى ، فثبت أن الرزق ليس إلا من الله تعالى ، وأما أحوال الحواس فكذلك ، لأن أشرفها السمع والبصر وكان علي رضي الله عنه يقول : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم ، وأما أحوال الموت والحياة فهو قوله : {وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ} وفيه وجهان : الأول : أنه يخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ} أي يخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر. والثاني : أن المراد منه أنه يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر / من المؤمن ، والأكثرون على القول الأول ، وهو إلى الحقيقة أقرب ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا التفصيل ذكر بعده كلاماً كلياً ، وهو قوله : {وَمَن يُدَبِّرُ الامْرَ } وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي وفي عالمي الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها ، وذكر كلها كالمتعذر ، فلما ذكر بعض تلك التفاصيل لا جرم عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بين تعالى أن الرسول عليه السلام ، إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون إنه الله سبحانه وتعالى ، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به ، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى الله زلفى وإنهم شفعاؤنا عند الله وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ، فعند ذلك قال لرسوله عليه السلام : {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} يعني أفلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في المعبودية ، مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وإحسانه ، واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 248
ثم قال تعالى : {فَذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ} ومعناه أن من هذه قدرته ورحمته هو {رَبُّكُمُ الْحَقُّ } الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه ، وإذا ثبت أن هذا هو الحق ، وجب أن يكون ما سواه ضلالاً ، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين ، فإذا كان أحدهما حقاً وجب أن يكون ما سواه باطلاً.
ثم قال : {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} والمعنى أنكم لما عرفتم هذا الأمر الواضح الظاهر {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} وكيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر/ واعلم أن الجبائي قد استدل بهذه الآية وقال : هذا يدل على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان ، لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يقول : {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} كما لا يقول إذا أعمى بصر أحدهم إني عميت ، واعلم أن الجواب عنه سيأتي عن قريب.
أما قوله : {كَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله تعالى وإرادته ، وتقريره أنه تعالى أخبر عنهم خبراً جزماً قطعاً أنهم لا يؤمنون ، فلو آمنوا لكان إما أن يبقى ذلك الخبر صدقاً أو لا يبقى ، والأول باطل ، لأن الخبر بأنه لا يؤمن يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يوجد الإيمان منه والثاني أيضاً باطل ، لأن انقلاب خبر الله تعالى كذباً محال فثبت أن صدور الإيمان منهم محال. والمحال لا يكون مراداً ، فثبت أنه تعالى ما أراد الإيمان من هذا الكافر وأنه أراد الكفر منه ، ثم نقول : إن كان قوله : {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} يدل على صحة مذهب القدرية ، فهذه الآية الموضوعة بجنبه / تدل على فساده ، وقد كان من الواجب على الجبائي مع قوة خاطره حين استدل بتلك الآية على صحة قوله أن يذكر هذه الحجة ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده.
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر {كَلِمَتُ رَبِّكَ} على الجمع وبعده {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (يونس : 96) وفي حم المؤمن {كَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ} (غافر : 6) كله بالألف على الجمع والباقون {كَلِمَتُ رَبِّكَ} في جميع ذلك على لفظ الوحدان.
جزء : 17 رقم الصفحة : 248
المسألة الثالثة : الكاف في قوله : {كَذَالِكَ} للتشبيه ، وفيه قولان : الأول : أنه كما ثبت وحق أنه ليس بعد الحق إلا الضلال كذلك حقت كلمة ربك بأنهم لا يؤمنون. الثاني : كما حق صدور العصيان منهم ، كذلك حقت كلمة العذاب عليهم.
(1/2367)

المسألة الرابعة : {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بدل من {كَلِمَـاتُ} أي حق عليهم انتفاء الإيمان.
المسألة الخامسة : المراد من كلمة الله إما إخباره عن ذلك وخبره صدق لا يقبل التغير والزوال ، أو علمه بذلك ، وعلمه لا يقبل التغير والجهل. وقال بعض المحققين : علم الله تعلق بأنه لا يؤمن وخبره تعالى تعلق بأنه لا يؤمن ، وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه ، بل بخلق الكفر فيه وإرادته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه ، بل بخلق الكفر فيه ، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ ، وأشهد عليه ملائكته ، وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه ، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء ، فينقلب علمه جهلاً ، وخبره الصدق كذباً ، وقدرته عجزاً ، وإرادته كرهاً ، وإشهاده باطلاً ، وإخبار الملائكة والأنبياء كذباً ، وكل ذلك محال.
جزء : 17 رقم الصفحة : 248
249
اعلم أن هذا هو الحجة الثانية ، وتقريرها ما شرح الله تعالى في سائر الآيات من كيفية ابتداء تخليق الإنسان من النطفة والعلقة والمضغة وكيفية إعادته ، ومن كيفية ابتداء تخليق السموات والأرض ، فلما فصل هذه المقامات ، لا جرم اكتفى تعالى بذكرها ههنا على سبيل الإجمال ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام.
/ والجواب : أن الكلام إذا كان ظاهراً جلياً ثم ذكر على سبيل الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول ، كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.
السؤال الثاني : القوم كانوا منكرين الإعادة والحشر والنشر فكيف احتج عليهم بذلك ؟
والجواب : أنه تعالى قدم في هذه السورة ذكر ما يدل عليه ، وهو وجوب التمييز بين المحسن وبين المسيء وهذه الدلالة ظاهرة قوية لا يتمكن العاقل من دفعها ، فلأجل كمال قوتها وظهورها تمسك به سواء ساعد الخصم عليه أو لم يساعد.
السؤال الثالث : لم أمر رسوله بأن يعترف بذلك ، والإلزام إنما يحصل لو اعترف الخصم به ؟
والجواب : أن الدليل لما كان ظاهراً جلياً ، فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام ، ثم إنه بنفسه يقول الأمر كذلك ، كان هذا تنبيهاً على أن هذا الكلام بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به ، وأنه سواء أقر أو أنكر ، فالأمر متقرر ظاهر.
أما قوله : {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فالمراد التعجب منهم في الذهاب عن هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتقليد أو الشبهة الضعيفة إلى مخالفته ، لأن الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب وإفك ، والاشتغال بعبادتها مع أنها لا تستحق هذه العبادة يشبه الإفك.
جزء : 17 رقم الصفحة : 249
252
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة ، واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً ، ثم بالهداية ثانياً ، عادة مطردة في القرآن ، فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك / فقال : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأمر محمداً صلى الله عليه وسلّم فقال : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى * الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } (الأعلى : 1 ـ 3) وهو في الحقيقة دليل شريف ، لأن الإنسان له جسد وله روح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى ، وهو قوله : {مَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } (النمل : 64) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية.
واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح ، كما قال تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الحل : 78) وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد ، وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم ، وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة ، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية ، فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد ، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية ، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية.
إذا ثبت هذا فنقول : العقول مضطربة والحق صعب ، والأفكار مختلطة ، ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون ، فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده ، ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماع الكلام القديم {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} (طه : 25) وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة ، مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة ، وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من الله تعالى.
جزء : 17 رقم الصفحة : 252
(1/2368)

إذا عرفت هذا فنقول : الهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق ، وإما أن تكون عبارة عن تحصيل تلك المعرفة وعلى التقديرين فقد دللنا على أنها أشرف المراتب البشرية وأعلى السعادات الحقيقية ، ودللنا على أنها ليست إلا من الله تعالى. وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ولا في الإرشاد إلى الصدق ، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة ، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد ، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك ، وإذا كان كذلك كان الاشتغال بعبادتها جهلاً محضاً وسفهاً صرفاً ، فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.
المسألة الثانية : قال الزجاج : يقال هديت إلى الحق ، وهديت للحق بمعنى واحد ، والله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله : {قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّا أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ} .
/ المسألة الثالثة : في قوله : {أَمَّن لا يَهِدِّى } ست قراءات : الأول : قرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع {يَهْدِى } بفتح الياء والهاء وتشديد الدال ، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم ، لأن أصله يهتدي أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء. الثانية : قرأ نافع ساكنة الهاء مشددة الدال أدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على حالها ، فجمع في قراءته بين ساكنين كما جمعوا في {يَخِصِّمُونَ} (يس : 49) قال علي بن عيسى وهو غلط على نافع. الثالثة : قرأ أبو عمرو بالإشارة إلى فتحة الهاء من غير إشباع فهو بين الفتح والجزم مختلسة على أصل مذهبه اختياراً للتخفيف ، وذكر علي بن عيسى أنه الصحيح من قراءة نافع. الرابعة : قرأ عاصم بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال فراراً من التقاء الساكنين ، والجزم يحرك بالكسر. الخامسة : قرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء أتبع الكسرة للكسرة. وقيل : هو لغة من قرأ {نَسْتَعِينُ} السادسة : قرأ حمزة والكسائي {مَّن يَهْدِى } ساكنة الهاء وبتخفيف الدال على معنى يهتدي والعرب تقول : يهدي ، بمعنى يهتدي يقال : هديته فهدى أي اهتدى.
المسألة الرابعة : في لفظ الآية إشكال ، وهو أن المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام وأنها جمادات لا تقبل الهداية ، فقوله : {أَمَّن لا يَهِدِّى إِلا أَن يُهْدَى } لا يليق بها.
جزء : 17 رقم الصفحة : 252
والجواب من وجوه : الأول : لا يبعد أن يكون المراد من قوله : {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم مَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } هو الأصنام. والمراد من قوله : {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ } رؤساء الكفر والضلالة والدعاة إليها. والدليل عليه قوله سبحانه : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} إلى قوله : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا سُبْحَـانَه عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة : 31) والمراد أن الله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين الحق بواسطة ما أظهر من الدلائل العقلية والنقلية. وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله تعالى ، فكان التمسك بدين الله تعالى أولى من قبول قول هؤلاء الجهال.
الوجه الثاني : في الجواب أن يقال : إن القوم لما اتخذوها آلهة ، لا جرم عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل ، ألا ترى أنه تعالى قال : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } (الأعراف : 194) مع أنها جمادات وقال : {إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ} (فاطر : 14) فأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل ويعلم فكذا ههنا وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل ، وإن لم يكن الأمر كذلك ، الثالث : أنا نحمل ذلك على التقدير ، يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي ، فإنها لا تهدي غيرها إلا بعد أن يهديها غيرها ، وإذا حملنا الكلام على هذا التقدير فقد زال السؤال. الرابع : أن البنية عندنا ليست شرطاً / لصحة الحياة والعقل ، فتلك الأصنام حال كونها خشباً وحجراً قابلة للحياة والعقل ، وعلى هذا التقدير فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ثم إنها تشتغل بهداية الغير. الخامس : أن الهدى عبارة عن النقل والحركة يقال : هديت المرأة إلى زوجها هدى ، إذا نقلت إليه والهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم ، وسميت الهدية هدية لانتقالها من رجل إلى غيره ، وجاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {أَمَّن لا يَهِدِّى إِلا أَن يُهْدَى } يحتمل أن يكون معناه أنه لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه/ وعلى هذا التقدير فالمراد الإشارة إلى كون هذه الأصنام جمادات خالية عن الحياة والقدرة. واعلم أنه تعالى لما قرر على الكفار هذه الحجة الظاهرة قال : {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} يعجب من مذهبهم الفاسد ومقالتهم الباطلة أرباب العقول.
(1/2369)

جزء : 17 رقم الصفحة : 252
ثم قال تعالى : {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا } وفيه وجهان : الأول : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً ، لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم ، بل سمعوه من أسلافهم. الثاني : وما يتبع أكثرهم في قولهم الأصنام آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن والقول الأول أقوى ، لأنا في القول الثاني نحتاج إلى أن نفسر الأكثر بالكل.
ثم قال تعالى : {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : تمسك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : العمل بالقياس عمل بالظن ، فوجب أن لا يجوز ، لقوله تعالى : {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا } .
أجاب مثبتو القياس ، فقالوا : الدليل الذي دل على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع ، فكان وجوب العمل بالقياس معلوماً ، فلم يكن العمل بالقياس مظنوناً بل كان معلوماً.
أجاب المستدل عن هذا السؤال ، فقال : لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله تعالى لكان ترك العمل به كفراً لقوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} (المائدة : 44) ولما لم يكن كذلك ، بطل العمل به وقد يعدون عن هذه الحجة بأنهم قالوا : الحكم المستفاد من القياس إما أن يعلم كونه حكماً لله تعالى أو يظن أو لا يعلم ولا يظن والأول باطل وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} (المائدة : 44) وبالاتفاق ليس كذلك. والثاني : باطل ، لأن العمل بالظن لا يجوز لقوله تعالى : {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا } والثالث : باطل ، لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوماً ولا مظنوناً ، كان مجرد التشهي ، فكان باطلاً لقوله تعالى : {فَخَلَفَ مِنا بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } (مريم : 59).
وأجاب مثبتو القياس : بأن حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بالعمومات ، والتمسك بالعمومات / لا يفيد إلا الظن. فلما كانت هذه العمومات دالة على المنع من التمسك بالظن ، لزم كونها دالة على المنع من التمسك بها ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكاً.
جزء : 17 رقم الصفحة : 252
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن كل من كان ظاناً في مسائل الأصول ، وما كان قاطعاً ، فإنه لا يكون مؤمناً.
فإن قيل : فقول أهل السنة أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر.
قلنا : هذا ضعيف من وجوه : الأول : مذهب الشافعي رحمه الله : أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، والشك أصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى ؟
والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية. الثاني : أن الغرض من قوله إن شاء الله بقاء الإيمان عند الخاتمة. الثالث : الغرض منه هضم النفس وكسرها. والله أعلم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 252
256
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا حين شرعنا في تفسير قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّه } (بونس : 20) ذكرنا أن القوم إنما ذكروا ذلك لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز ، وأن محمداً إنما يأتي به من / عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق ، ثم إنه تعالى ذكر الجوابات الكثيرة عن هذا الكلام ، وامتدت تلك البيانات على الترتيب الذي شرحناه وفصلناه إلى هذا الموضع ، ثم إنه تعالى بين في هذا المقام أن إتيان محمد عليه السلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى ، ولكنه وحي نازل عليه من عند الله ، ثم إنه تعالى احتج على صحة هذا الكلام بقوله : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه } وذلك يدل على أنه معجز نازل عليه من عند الله تعالى ، وأنه مبرأ عن الافتراء والافتعال فهذا هو الترتيب الصحيح في نظم هذه الآيات.
(1/2370)

المسألة الثانية : قوله تعالى : {وَمَا كَانَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى } فيه وجهان : الأول : أن قوله : {أَن يُفْتَرَى } في تقدير المصدر ، والمعنى : وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله ، كما تقول : ما كان هذا الكلام إلا كذباً. والثاني : أن يقال إن كلمة {ءَانٍ} جاءت ههنا بمعنى اللام ، والتقدير : ما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله ، كقوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً } (التوبة : 122) {كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (آل عمران : 179) أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك ، فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ، أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله ، لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر ، والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر ، والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع ، ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم : اختلف فلان هذا الحديث في الكذب ، فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل ، ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور :
جزء : 17 رقم الصفحة : 256
الحجة الأولى : قوله : {وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} وتقرير هذه الحجة من وجوه : أحدها : أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم ، وما كانت مكة بلدة العلماء ، وما كان فيها شيء من كتب العلم ، ثم إنه عليه السلام أتى بها القرآن ، فكان هذا القرآن مشتملاً على أقاصيص الأولين ، والقوم كانوا في غاية العداوة له ، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه ، ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي ، فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه ، وعلى تقبيح صورته ، علمنا أنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل ، مع أنه ما طالعهما ولا تلمذ لأحد فيهما ، وذلك يدل على أنه عليه السلام إنما أخبر عن هذه الأشياء بوحي من قبل الله تعالى.
الحجة الثانية : أن كتب الله المنزلة دلت على مقدم محمد عليه السلام ، على ما استقصينا في تقريره في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) وإذا كان الأمر كذلك / كان مجيء محمد عليه السلام تصديقاً لما في تلك الكتب ، من البشارة بمجيئه صلى الله عليه وسلّم ، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
الحجة الثالثة : أنه عليه السلام أخبر في القرآن عن الغيوب الكثيرة في المستقبل ، ووقعت مطابقة لذلك الخبر ، كقوله تعالى : { الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (الروم : 1 ، 2) الآية ، وكقوله تعالى : {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ } (الفتح : 27) وكقوله : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارْضِ} (النور : 55) وذلك يدل على أن الإخبار عن هذه الغيوب المستقبلة ، إنما حصل بالوحي من الله تعالى ، فكان ذلك عبارة عن تصديق الذي بين يديه ، فالوجهان الأولان : إخبار عن الغيوب الماضية والوجه الثالث : إخبار عن الغيوب المستقبلة ، ومجموعها عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
النوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 256
(1/2371)

واعلم أن الناس اختلفوا في أن القرآن معجز من أي الوجوه ؟
فقال بعضهم : إنه معجز لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة ، وهذا هو المراد من قوله : {تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} ومنهم من قال : إنه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة ، وإليه الإشارة بقوله : {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ} وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما أن تكون دينية أو ليست دينية ، ولا شك أن القسم الأول أرفع حالاً وأعظم شأناً وأكمل درجة من القسم الثاني. وأما العلوم الدينية ، فإما أن تكون علم العقائد والأديان ، وإما أن تكون علم الأعمال. أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أما معرفة الله تعالى ، فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ، ومعرفة صفات إكرامه ، ومعرفة أفعاله ، ومعرفة أحكامه ، ومعرفة أسمائه والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب ، بل لا يقرب منه شيء من المصنفات. وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه. ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن ، وإما أن يكون علماً بتصفية الباطن أو رياضة القلوب. وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره ، كقوله : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} (الأعراف : 199) وقوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ } (النمل : 90) فثبت أن القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة ، عقليها ونقليها ، اشتمالاً يمتنع حصوله في سائر الكتب فكان ذلك معجزاً ، وإليه الإشارة بقوله : {وَتَفْصِيلَ الْكِتَـابِ} .
أما قوله : {لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} فتقريره : أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه / العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض ، وحيث خلي هذا الكتاب عنه ، علمنا أنه من عند الله وبوحيه وتنزيله ، ونظيره قوله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82).
جزء : 17 رقم الصفحة : 256
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول هذه الآية أن هذا القرآن لا يليق بحاله وصفته أن يكون كلاماً مفترى على الله تعالى/ وأقام عليه هذين النوعين من الدلائل المذكورة ، عاد مرة أخرى بلفظ الاستفهام على سبيل الإنكار ، فقال : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه } ثم إنه تعالى ذكر حجة أخرى على إبطال هذا القول ، فقال : {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} وهذه الحجة بالغنا في تقريرها في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ} (البقرة : 23) وههنا سؤالات :
السؤال الأول : لم قال في سورة البقرة : {مِّن مِّثْلِه } وقال ههنا : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه } .
والجواب : أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً ، لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتاباً فقال في سورة البقرة : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } يعني فليأت إنسان يساوي محمداً عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة ، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز. فهذا لا يدل على أن السورة في نفسها معجزة ، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد عليه السلام في عدم التلمذ والتعلم معجز ، ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجز ، فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا ، فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور ، فلا جرم قال تعالى في هذه الآية : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه } ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز.
السؤال الثاني : قوله : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه } هل يتناول جميع السور الصغار والكبار ، أو يختص بالسور الكبار.
الجواب : هذه الآية في سورة يونس وهي مكية ، فالمراد مثل هذه السورة ، لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه.
السؤال الثالث : أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق ، قالوا : إنه عليه السلام تحدى العرب بالقرآن ، والمراد من التحدي : أنه طلب منهم الإتيان بمثله ، فإذا عجزوا عنه ظهر كونه حجة من عند الله على صدقه ، وهذا إنما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ، فوجب أن لا يصح التحدي.
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 256
(1/2372)

والجواب : أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى ، وعلى هذه الحروف والأصوات ، ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة ، والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة.
أما قوله : {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} فالمراد منه : تعليم أنه كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة لو كانوا قادرين عليها ، وتقريره أن الجماعة إذا تعاونت وتعاضدت صارت تلك العقول الكثيرة كالعقل الواحد ، فإذا توجهوا نحو شيء واحد ، قدر مجموعهم على ما يعجز كل واحد منهم ، فكأنه تعالى يقول : هب أن عقل الواحد والاثنين منكم لا يفي باستخراج معارضة القرآن فاجتمعوا وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة ، فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع وحالة الانفراد عن هذه المعارضة ، فحينئذ يظهر أن تعذر هذه المعارضة إنما كان لأن قدرة البشر غير وافية بها ، فحينئذ يظهر أن ذلك فعل الله لا فعل البشر.
واعلم أنه قد ظهر بهذا الذي قررناه أن مراتب تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالقرآن ستة ، فأولها : أنه تحداهم بكل القرآن كما قال : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء : 88) وثانيها : أنه عليه السلام تحداهم بعشر سور قال تعالى : {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِه مُفْتَرَيَـاتٍ} وثالثها : أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } (الطور : 34) ورابعها : أنه تحداهم بحديث مثله فقال : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه } وخامسها : أن في تلك المراتب الأربعة ، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عدم التلمذ والتعلم ، ثم في سورة يونس طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان سواء تعلم العلوم أو لم يتعلمها. وسادسها : أن في المراتب المتقدمة تحدى كل واحد من الخلق ، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم ، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة ، كما قال : {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} وههنا آخر المراتب ، فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أن القرآن معجز ، ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال : {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِه وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه } واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوهاً :
جزء : 17 رقم الصفحة : 256
الوجه الأول : أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا : ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها : فأولها : بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز / وذلك يدل على قدرة كاملة. وثانيها : أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى ، فنهاية كل متحرك سكون ، وغاية كل متكون أن لا يكون ، فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة ، كما قال : {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } (يوسف : 111) وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلّم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ ، دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى ، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص {وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} (الشعراء : 192 ـ 194).
والوجه الثاني : أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم بالقرآن. وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ} (آل عمران : 7).
والوجه الثالث : أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئاً فشيئاً ، فصار ذلك سبباً للطعن الرديء فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب الله تعالى عنه بقوله : {كَذَالِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } (الفرقان : 32) وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان.
والوجه الرابع : أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر ، والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، ولم يتقرر ذلك في قلوبهم ، فظنوا أن محمداً عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب ، والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة.
(1/2373)

الوجه الخامس : أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات ، والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا ، وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون : 115) وبقوله : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة ، فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن/ والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات ، وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة من عالم المحسوسات وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها ، فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل ، فقوله : {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِه وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه ا كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الظَّـالِمِينَ} إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء ، وقوله : {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه } إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار.
جزء : 17 رقم الصفحة : 256
ثم قال : {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الظَّـالِمِينَ} والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة ، فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم ، ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا ، قال أهل التحقيق قوله : / {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه } يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة ، لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة ، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق ، أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نوراً على نور يهدي الله لنوره من يشاء.
جزء : 17 رقم الصفحة : 256
257
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله : {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الظَّـالِمِينَ} وكان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا ، أتبعه بقوله : {وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِه وَمِنْهُم مَّن لا يُؤْمِنُ بِه } منبهاً على أن الصلاح عنده تعالى كان في هذه الطائفة التبقية دون الاستئصال ، من حيث كان المعلوم أن منهم من يؤمن به ، والأقرب أن يكون الضمير في قوله : {بِه ا } رجعاً إلى القرآن ، لأنه هو المذكور من قبل ، ثم يعلم أنه متى حصل الإيمان بالقرآن ، فقد حصل معه الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً. واختلفوا في قوله : {وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِه وَمِنْهُم مَّن لا يُؤْمِنُ بِه } لأن كلمة يؤمن فعل مستقبل وهو يصلح للحال والاستقبال ، فمنهم من حمله على الحال ، وقال : المراد أن منهم من يؤمن بالقرآن باطناً ، لكنه يتعمد الجحد وإظهار التكذيب ، ومنهم من باطنه كظاهره في التكذيب ، ويدخل فيه أصحاب الشبهات ، وأصحاب التقليد ، ومنهم من قال : المراد هو المستقبل ، يعني أن منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الفكر ويبدله بالإيمان ومنهم من بصر ويستمر على الكفر.
ثم قال : {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أي هو العالم بأحوالهم في أنه هل يبقى مصراً على الكفر أو يرجع عنه.
ثم قال : {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } قيل فقل لي عملي الطاعة والإيمان ، ولكم عملكم الشرك ، وقيل : لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم.
/ ثم قال : {أَنتُم بَرِى ـاُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} قيل معنى الآية الزجر والردع ، وقيل بل معناه استمالة قلوبهم. قال مقاتل والكلبي : هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد ، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب ، وذلك لا يقتضي حرمة القتال ، فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلاً.
جزء : 17 رقم الصفحة : 257
259
في الآية مسائل :
(1/2374)

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى في الآية الأولى ، قسم الكفار إلى قسمين منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ، وفي هذه الآية قسم من لا يؤمن به قسمين : منهم من يكون في غاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فوصف القسم الأول في هذه الآية فقال : ومنهم من يستمع كلامك مع أنه يكون كالأصم من حيث إنه لا ينتفع ألبتة بذلك الكلام فإن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر ، وعظمت نفرته عنه ، صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه ، فالصمم في الأذن ، معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف على محاسن ذلك الكلام والعمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة ، فكذلك البغض ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه والوقوف على ما آتاه الله تعالى من الفضائل ، فبين تعالى أن في أولئك الكفار من بلغت حالته في البغض والعداوة إلى هذا الحد ، ثم كما أنه لا يمكن جعل الأصم سميعاً ولا جعل الأعمى بصيراً ، / فكذلك لا يمكن جعل العدو البالغ في العداوة إلى هذا الحد صديقاً تابعاً للرسول صلى الله عليه وسلّم والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه الطائفة ، قد بلغوا في مرض العقل إلى حيث لا يقبلون العلاج والطبيب إدا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أعرض عنه ، ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج ، فكذلك وجب عليك أن لا تستوحش من حال هؤلاء الكفار.
المسألة الثانية : احتج ابن قتيبة بهذه الآية ، على أن السمع أفضل من البصر فقال : إن الله تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل ، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر. وزيف ابن الأنباري هذا الدليل فقال : إن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه الله مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب ، ولم يرد إبصار العيون والذي يبصره القلب هو الذي يعقله. واحتج ابن قتيبة على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن ، فقال : كلما ذكر الله السمع والبصر ، فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر ، وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى : فأحدها : أن العمى قد وقع في حق الأنبياء عليهم السلام أما الصمم فغير جائز عليهم لأنه يخل بأداء الرسالة ، من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب فيعجز عن تبليغ شرائع الله تعالى.
جزء : 17 رقم الصفحة : 259
الحجة الثانية : أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب ، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل.
الحجة الثالثة : أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ ، وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع ، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع ، ولا يتوقف على قوة البصر ، فكان السمع أفضل من البصر.
الحجة الرابعة : أنه تعالى قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} والمراد من القلب ههنا العقل ، فجعل السمع قريناً للعقل ويتأكد هذا بقوله تعالى : {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـابِ السَّعِيرِ} (الملك : 10) فجلوا السمع سبباً للخلاص من عذاب السعير.
الحجة الخامسة : أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام وإنما ينتفع بذلك القوة السامعة ، فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان ، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.
/ الحجة السادسة : أن الأنبياء عليهم السلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم ، فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية ، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأصوات المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع وبيان الأحكام ، فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي ، فلزم أن يكون السمع أفضل من البصر ، فهذا جملة ما تمسك به القائلون بأن السمع أفضل من البصر ، ومن الناس من قال : البصر أفضل من السمع ، ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : أنهم قالوا في المثل المشهور ليس وراء العيان بيان ، وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الأبصار.
الحجة الثانية : أن آلة القوة الباصرة هو النور وآلة القوة السامعة هي الهواء والنور أشرف من الهواء فالقوة الباصرة أشرف من القوة السامعة.
الحجة الثالثة : أن عجائب حكمة الله تعالى في تخليق العين التي هي محل الأبصار أكثر من عجائب خلقته في الأذن التي هي محل السماع ، فإنه تعالى جعل تمام روح واحد من الأرواح السبعة الدماغية من العصب آلة للأبصار ، وركب العين من سبع طبقات وثلاث رطوبات وخلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صورة مختلفة والأذن ليس كذلك وكثرة العناية في تخليق الشيء تدل على كونه أفضل من غيره.
جزء : 17 رقم الصفحة : 259
(1/2375)

الحجة الرابعة : أن البصر يرى ماحصل فوق سبع سموات والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ ، فكان البصر أقوى وأفضل وبهذا البيان يدفع قولهم إن السمع يدرك من كل الجوانب والبصر لا يدرك إلا من الجانب الواحد.
الحجة الخامسة : أن كثيراً من الأنبياء سمع كلام الله في الدنيا ، واختلفوا في أنه هل رآه أحد في الدنيا أم لا ؟
وأيضاً فإن موسى عليه السلام سمع كلامه من غير سبق سؤال والتماس ولما سأل الرؤية قال : {لَن تَرَانِى} (الأعراف : 143) وذلك يدل على أن حال الرؤية أعلى من حال السماع.
الحجة السادسة : قال ابن الأنباري : كيف يكون السمع أفضل من البصر وبالبصر يحصل جمال الوجه ، وبذهابه عيبه ، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً ، العرب تسمي العينين الكريمتين ولا تصف السمع بمثل هذا ؟
ومنه الحديث يقول الله تعالى : (من أذهبت كريمته فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة).
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية ، على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، قالوا : الآية دالة على أن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام ، وكالأعمى / بالنسبة إلى إبصار الأشياء ، وكما أن هذا ممتنع فكذلك ما نحن فيه. قالوا : والذي يقوي ذلك أن حصول العداوة القوية الشديدة ، وكذلك حصول المحبة الشديدة في القلب ليس باختيار الإنسان ، لأن عند حصول هذه العداوة الشديدة يجد وجداناً ضرورياً أن القلب يصير كالأصم والأعمى في استماع كلام العدو وفي مطالعة أفعاله الحسنة ، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب ، وأيضاً لما حكم الله تعالى عليها حكماً جازماً بعدم الإيمان ، فحينئذ يلزم من حصول الإيمان انقلاب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وذلك محال. وأما المعتزلة : فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْـاًا وَلَـاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وجه الاستدلال به ، أنه يدل على أنه تعالى ما ألجأ أحداً إلى هذه القبائح والمنكرات ، ولكنهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها ويباشرونها.
أجاب الواحدي عنه فقال : إنه تعالى إنما نفى الظلم عن نفسه ، لأنه يتصرف في ملك نفسه ، ومن كان كذلك لم يكن ظالماً ، وإنما قال : {وَلَـاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 259
261
اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد فقال : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حفص عن عاصم {يَحْشُرُهُمْ} بالياء والباقون بالنون.
المسألة الثانية : قوله : {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا } في موضع الحال ، أي مشابهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار. وقوله : {يَتَعَارَفُونَ} يجوز أن يكون متعلقاً بيوم نحشرهم ، ويجوز أن يكون حالاً بعد حال.
المسألة الثالثة : {كَانَ} هذه هي المحففة من الثقيلة. التقدير : كأنهم لم يلبثوا ، فخففت كقوله : وكأن قد.
/ المسألة الرابعة : قيل : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار وقيل في قبورهم ، والقرآن وارد بهذين الوجهين قال تعالى : {كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (المؤمنون : 112 ، 113) قال القاضي : والوجه الأول أولى لوجهين : أحدهما : أن حال المؤمنين كحال الكافرين في أنهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقت الحشر ، فيجب أن يحمل ذلك على أمر يختص بالكفار ، وهو أنهم لما لم ينتفعوا بعمرهم استقلوه ، والمؤمن لما انتفع بعمره فإنه لا يستقله. الثاني : أنه قال : {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } لأن التعارف إنما يضاف إلى حال الحياة لا إلى حال الممات.
جزء : 17 رقم الصفحة : 261
(1/2376)

المسألة الخامسة : ذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوهاً : الأول : قال أبو مسلم : لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم ألبتة ، فكان وجود ذلك العمر كالعدم ، فلهذا السبب استقلوه ونظيره قوله تعالى : {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِه مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } (البقرة : 96) الثاني : قال الأصم : قل ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة ، والأنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة. الثالث : أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد. الرابع : أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر. الخامس : المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا ، وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف. وأقول : تحقيق الكلام في هذا الباب ، أن عذاب الكافر مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإهانة والإذلال ، والإحساس بالمضرة أقوى من الإحساس باللذة بدليل أن أقوى اللذات هي لذات الوقاع ، والشعور بأم القولنج وغيره والعياذ بالله تعالى أقوى من الشعور بلذة الوقاع. وأيضاً لذات الدنيا مع خساستها ما كانت خالصة ، بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة ، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات ، وأيضاً إن لذات الدنيا ما حصلت إلا بعض أوقات الحياة الدنيوية ، وآلام الآخرة أبدية سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود.
إذا عرفت هذا فنقول : أنه متى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم فقوله : {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ} إشارة إلى ما ذكرناه من قلتها وحقارتها في جنب ما حصل من العذاب الشديد.
أما قوله : {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } ففيه وجوه : الأول : يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا يعرفون في الدنيا. الثاني : يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر ، ثم تنقطع المعرفة إذا / عاينوا العذاب وتبرأ بعضهم من بعض.
فإن قيل : كيف توافق هذه الآية قوله : {وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} (المعارج : 10) والجواب عنه من وجهين :
الوجه الأول : أن المراد من هذه الآية أنهم يتعارفون بينهم يوبخ بعضهم بعضاً ، فيقول : كل فريق للآخر أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح ، فهذا تعارف تقبيح وتعنيف وتباعد وتقاطع لا تعارف عطف وشفقة. وأما قوله تعالى : {وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} فالمراد سؤال الرحمة والعطف.
جزء : 17 رقم الصفحة : 261
والوجه الثاني : في الجواب حمل هاتين الآيتين على حالتين ، وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة فلذلك لا يسأل حميم حميماً.
أما قوله تعالى : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللَّهِ} ففيه وجهان : الأول : أن يكون التقدير : ويوم يحشرهم حال كونهم متعارفين ، وحال كونهم قائلين {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللَّهِ} الثاني : أن يكون {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا } كلام الله ، فيكون هذا شهادة من الله عليهم بالخسران ، والمعنى : أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر ، لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني.
وأما قوله : {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فالمراد أنهم ما اهتدوا إلى رعاية مصالح هذه التجارة ، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة ، فصاروا كمن رأى زجاجة حسنة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه ، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب. وأما قوله : {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} فاعلم أن قوله {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} جواب {نَتَوَفَّيَنَّكَ} وجواب {نُرِيَنَّكَ} محذوف ، والتقدير : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نرينك ذلك الموعد فإنك ستراه في الآخرة.
واعلم أن هذا يدل على أنه تعالى يُري رسوله أنواعاً من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا ، وسيزيد عليه بعد وفاته ، ولا شك أنه حصل الكثير منه في زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وحصل الكثير أيضاً بعد وفاته ، والذي سيحصل يوم القيامة أكثر ، وهو تنبيه على أن عاقبة المحقين محمودة وعاقبة المذنبين مذمومة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 261
262
/ اعلم أنه تعالى لما بين حال محمد صلى الله عليه وسلّم مع قومه ، بين أن حال كل الأنبياء مع أقوامهم كذلك ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولاً والله تعالى ما أهمل أمة من الأمم قط ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر : 24).
(1/2377)

فإن قيل : كيف يصح هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة ومع قوله سبحانه : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} (يس : 6).
قلنا : الدليل الذي ذكرناه لا يوجب أن يكون الرسول حاضراً مع القوم ، لأن تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولاً إليهم ، كما لا يمنع تقدم رسولنا من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد. وتحمل الفترة على ضعف دعوة الأنبياء ووقوع موجبات التخليط فيها.
المسألة الثانية : في الكلام إضمار والتقدير : فإذا جاء رسولهم وبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قضى بينهم أي حكم وفصل.
المسألة الثالثة : المراد من الآية أحد أمرين : إما بيان أن الرسول إذا بعث إلى كل أمة فإنه بالتبليغ وإقامة الحجة يزيح كل علة فلا يبقى لهم عذر في مخالفته أو تكذيبه ، فيدل ذلك على أن ما يجري عليهم من العذاب في الآخرة يكون عدلاً ولا يكون ظلماً ، لأنهم من قبل أنفسهم وقعوا في ذلك العقاب ، أو يكون المراد أن القوم إذا اجتمعوا في الآخرة جمع الله بينهم وبين رسولهم في وقت المحاسبة ، وبأن الفصل بين المطيع والعاصي ليشهد عليهم بما شاهد منهم ، وليقع منهم الاعتراف بأنه بلغ رسالات ربه فيكون ذلك من جملة ما يؤكد الله به الزجر في الدنيا كالمساءلة ، وإنطاق الجوارح ، والشهادة عليهم بأعمالهم والموازين وغيرها ، وتمام التقرير على هذا الوجه الثاني أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الله شهيد عليهم ، فكأنه تعالى يقول : أنا شهيد عليهم وعلى أعمالهم يوم القيامة ، ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة مع كل قوم رسولهم ، حتى يشهد عليهم بتلك الأعمال. والمراد منه المبالغة في إظهار العدل.
واعلم أن دليل القول الأول هو قوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء : 15) وقوله : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء : 165) وقوله : {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} (طه : 134) ودليل القول الثاني قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} إلى قوله : {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة : 143) وقوله : {وَقَالَ الرَّسُولُ يَـارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَـاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا} (الفرقان : 30) وقوله تعالى : {قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فالتكرير لأجل التأكيد والمبالغة في نفي الظلم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 262
263
/ اعلم أن هذه الشبهة الخامسة من شبهات منكري النبوة فإنه عليه السلام كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب ، قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، واحتجوا بعدم ظهوره على القدح في نوبته عليه السلام ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ} كالدليل على أن المراد مما تقدم من قوله : {قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} (يونس : 147) القضاء بذلك في الدنيا ، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في الدار الآخرة ، لأن الحال في الآخرة حال يقين ومعرفة لحصول كل وعد ووعيد وإلا ظهر أنهم إنما قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسول عليه السلام فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء والنصرة للأولياء أو على وجه الاستبعاد لكونه محقاً في ذلك الإخبار ، ويدل هذا القول على أن كل أمة قالت لرسولها مثل ذلك القول بدليل قوله : {إِن كُنتُمْ} وذلك لفظ جمع وهو موافق لقوله : {يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } (يونس : 47) ثم إنه تعالى أمره بأن يجيب عن هذه الشبهة بجواب يحسم المادة وهو قوله : {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَآءَ اللَّه } والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصرة للأولياء لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه ، وأنه تعالى ما عين لذلك الوعد والوعيد وقتاً معيناً حتى يقال : لما لم يحصل ذلك الموعود في ذلك الوقت ، دل على حصول الخلف فكان تعيين الوقت مفوضاً إلى الله سبحانه ، إما بحسب مشيئته وإلهيته عند من لا يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح ، وإما بحسب المصلحة المقدرة عند من يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح ، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه ، ويمتنع عليه التقدم والتأخر.
المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بقوله : {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَآءَ اللَّه } / فقالوا : هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملمصالح ، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه ، ويمتنع عليه التقدم والتأخر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 263
(1/2378)

المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بقوله : {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَآءَ اللَّه } / فقالوا : هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملوله : {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} يدل على أن أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله ، وكذلك المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه ، وهذه مسألة طويلة وقد ذكرناها في هذا الكتاب في مواضع كثيرة.
المسألة الخامسة : أنه تعالى قال ههنا : {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} فقوله : {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} شرط وقوله : {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} جزاء والفاء حرف الجزاء ، فوجب إدخاله على الجزاء كما في هذه الآية ، وهذه الآية تدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط لا متأخراً عنه وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي وإنما يدل على كونه جزاء.
إذا ثبت هذا فنقول : إذا قال الرجل لامرأة أجنبية إن نكحتك فأنت طالق قال الشافعي رضي الله عنه : لا يصح هذا التعليق ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يصح ، والدليل على أنه لا يصح أن هذه الآية دلت على أن الجزاء إنما يحصل حال حصول الشرط ، فلو صح هذا التعليق لوجب أن يحصل الطلاق مقارناً للنكاح ، لما ثبت أن الجزاء يجب حصوله مع حصول الشرط ، وذلك يوجب الجمع بين الضدين ، ولما كان هذا اللازم باطلاً وجب أن لا يصح هذا التعليق.
جزء : 17 رقم الصفحة : 263
264
/ اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن قولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب بتقدير أن يحصل هذا المطلوب وينزل هذا العذاب ما الفائدة لكم فيه ؟
فإن قلتم نؤمن عنده ، فذلك باطل ، لأن الإيمان في ذلك الوقت إيمان حاصل في وقت الإلجاء والقسر ، وذلك لا يفيد نفعاً ألبتة ، فثبت أن هذا الذي تطلبونه لو حصل لم يحصل منه إلا العذاب في الدنيا ، ثم يحصل عقيبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه ، وهو أنه يقال : للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد ، ثم يقرن بذلك العذاب كلام يدل على الإهانة والتحقير وهو أنه تعالى يقول : {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} فحاصل هذا الجواب : أن هذا الذي تطلبونه هو محض الضرر العاري عن جهات النفع والعاقل لا يفعل ذلك.
المسألة الثانية : قوله : {بَيَـاتًا} أي ليلاً يقال بت ليلتي أفعل كذا ، والسبب فيه أن الإنسان في الليل يكون ظاهراً في البيت ، فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل والبيات مصدر مثل التبييت كالوداع والسراح ، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا ، لأن الإنسان في النهار يكون ظاهراً في الظل. وانتصب بياتاً على الظرف أي وقت بيات وكلمة {مَاذَا} فيها وجهان : أحدهما : أن يكون ماذا اسماً واحداً ويكون منصوب المحل كما لو قال ماذا أراد الله ، ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي ، فيكون ماذا كلمتين ومحل ما الرفع على الابتداء وخبره ذا وهو بمعنى الذي ، فيكون معناه ما الذي يستعجل منه المجرمون ومعناه ، أي شيء الذي يستعجل من العذاب المجرمون.
واعلم أن قوله : {إِنْ أَتَـاـاكُمْ عَذَابُه بَيَـاتًا أَوْ نَهَارًا} شرط.
وجوابه : قوله ماذا يستعجل منه المجرمون ، وهو كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني ، يعني : إن حصل هذا المطلوب ، فأي مقصود تستعجلونه منه.
وأما قوله : {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِه ا } فاعلم أن دخول حرف الاستفهام على ثم كدخوله على الواو والفاء في قوله : {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } (الأعراف : 98) {أَفَأَمِنَ} (الأعراف : 97) وهو يفيد التقريع والتوبيخ ، ثم أخبر تعالى أن ذلك الإيمان غير واقع لهم بل يعيرون ويوبخون ، يقال : آلآن تؤمنون وترجون الانتفاع بالإيمان مع أنكم كنتم قبل ذلك به تستعجلون على سبيل السخرية والاستهزاء ، وقرىء {الْـاَـانَ} بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام.
جزء : 17 رقم الصفحة : 264
وأما قوله : {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} فهو عطف عى الفعل المضمر قبل {الْـاَـانَ} والتقدير : قيل : آلان وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد.
/ وأما قوله تعالى : {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ففيه ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أينما ذكر العقاب والعذاب ذكر هذه العلة كأن سائلاً يسأل وهو يقول : يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد والوعيد ، فهو تعالى يقول : "أنا ما عالمته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل" وذلك يدل على أن جانب الرحمة راجح غالب ، وجانب العذاب مرجوح مغلوب.
(1/2379)

المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن الجزاء يوجب العمل ، أما عند الفلاسفة فهو أثر العمل ، لأن العمل الصالح يوجب تنوير القلب ، وإشراقه إيجاب العلة معلولها وأما عند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله تعالى وأما عند أهل السنة ، فلأن ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض.
المسألة الثالثة : الآية تدل على كون العبد مكتسباً خلافاً للجبرية ، وعندنا أن كونه مكتسباً معناه أن مجموع القدرة مع الداعية الخالصة يوجب الفعل والمسألة الطويلة معروفة بدلائلها.
جزء : 17 رقم الصفحة : 264
265
اعلم أنه سبحانه أخبر عن الكفار بقوله : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} .
وأجاب عنه بما تقدم فحكى عنهم أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى في عين هذه الواقعة وسألوه عن ذلك السؤال مرة أخرى وقالوا : أحق هو واعلم أن هذا السؤال جهل محض من وجوه : أولها : أنه قد تقدم هذا السؤال مع الجواب فلا يكون في الإعادة فائدة. وثانيها : أنه تقدم ذكر الدلالة العقلية على كون محمد رسولاً من عند الله ، وهو بيان كون القرآن معجزاً ، وإذا صحت نبوته لزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه ، فهذه المعاني توجب الإعراض عنهم ، / وترك الالتفات إلى سؤالهم ، واختلفوا في الضمير في قوله : {أَحَقٌّ هُوَ } قيل : أحق ما جئتنا به من القرآن والنبوة والشرائع. وقيل : ما تعدنا من البعث والقيامة. وقيل : ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا.
ثم إنه تعالى أمره أن يجيبهم بقوله : {قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّه لَحَقٌّ } والفائدة فيه أمور : أحدها : أن يستمليهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء ، وأكده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل وأدخله في باب الجد. وثانيها : أن الناس طبقات فمنهم من لا يقر بالشيء إلا بالبرهان الحقيقي ، ومنهم من لا ينتفع بالبرهان الحقيقي ، بل ينتفع بالأشياء الإقناعية ، نحو القسم فإن الأعرابي الذي جاء الرسول عليه السلام ، وسأل عن نبوته ورسالته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم ، فكذا ههنا.
ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} ولا بد فيه من تقدير محذوف ، فيكون المراد وما أنتم بمعجزين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم والغرض منه التنبيه على أن أحداً لا يجوز أن يمانع ربه ويدافعه عما أراد وقضى ، ثم إنه تعالى بين أن هذا الجنس من الكلمات ، إنما يجوز عليهم ما داموا في الدنيا فأما إذا حضروا محفل القيامة وعاينوا قهر الله تعالى ، وآثار عظمته تركوا ذلك واشتغلوا بأشياء أخرى ، ثم إنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء : أولها : قوله : {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الارْضِ افْتَدَتْ بِه } إلا أن ذلك متعذر لأنه في محفل القيامة لا يملك شيئاً كما قال تعالى : {وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فَرْدًا} (مريم : 95) وبتقدير : أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى : {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة : 48) وقال في صفة هذا اليوم {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ } (البقرة : 254) وثانيها : قوله : {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } .
جزء : 17 رقم الصفحة : 265
واعلم أن قوله : {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} جاء على لفظ الماضي ، والقيامة من الأمور المستقبلة إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع ، جعل الله مستقبلها كالماضي ، واعلم أن الإسرار هو الإخفاء والإظهار وهو من الأضداد ، أما ورود هذه اللفظة بمعنى الإخفاء فظاهر وأما ورودها بمعنى الإظهار فهو من قولهم سر الشيء وأسره إذا أظهره.
إذا عرفت هذا فنقول : من الناس من قال : المراد منه إخفاء تلك الندامة ، والسبب في هذا الإخفاء وجوه : الأول : أنهم لما رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيرين ، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً سوى إسرار الندم كالحال فيمن يذهب به ليصلب فإنه يبقى مبهوتاً متخيراً لا ينطق بكلمة. الثاني : أنهم أسروا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم.
/ فإن قيل : إن مهاية ذلك الموقف تمنع الإنسان عن هذا التدبير فكيف قدموا عليه.
(1/2380)

قلنا : إن هذا الكتمان إنما يحصل قبل الاحتراق بالنار ، فإذا احترقوا تركوا هذا الإخفاء وأظهروه بدليل قوله تعالى : {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} (المؤمنون : 106) الثالث : أنهم أسروا تلك الندامة لأنهم اخلصوا لله في تلك الندامة ، ومن أخلص في الدعاء أسره ، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم يعني أنهم لما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته ولم ينفعهم ، بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف ، وأما من فسر الإسرار بالإظهار فقوله : ظاهر لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة ، وفي القيامة بطل هذا الغرض فوجب الإظهار. وثالثها : قوله تعالى : {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فقيل بين المؤمنين والكافرين ، وقيل بين الرؤساء والأتباع ، وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم.
واعلم أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه ، فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم ، وتثقيل لعذاب الباقين ، لأن العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين ، ولا سبيل إليه إلا بأن يخفف من عذاب المظلومين ويثقل في عذاب الظالمين.
جزء : 17 رقم الصفحة : 265
267
اعلم أن من الناس من قال : إن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى قال قبل هذه الآية {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الارْضِ افْتَدَتْ بِه } (يونس : 54) فلا جرم قال في هذه الآية ليس للظالم شيء يفتدى به ، فإن كل الأشياء ملك الله تعالى وملكه ، واعلم أن هذا التوجيه حسن ، أما الأحسن أن يقال إنا قد ذكرنا أن الناس على طبقات ، فمنهم من يكون انتفاعه بالإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات ، أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات ، أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات ، وإنما تعويلهم على الدلائل البينة والبراهين القاطعة ، فلما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا أحق هو ؟
أمر الرسول عليه السلام بأن يقول : {إِى وَرَبِّى } وهذا جار مجرى الإقناعيات ، فلما ذكر ذلك أتبعه بما هو البرهان القاطع / على صحته وتقريره أن القول بالنبوة والقول بصحة المعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم وأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه ، فعبر عن هذا المعنى بقوله : {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } ولم يذكر الدليل على صحة هذه القضية ، لأنه تعالى قد استقصى في تقرير هذه الدلائل فيما سبق من هذه السورة ، وهو قوله : {إِنَّ فِى اخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (يونس : 6) وقوله : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَه مَنَازِلَ} (يونس : 5) فلما تقدم ذكر هذه الدلائل القاهرة اكتفى بذكرها ، وذكر أن كل ما في العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور فهو ملكه وملكه ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان قادراً على كل الممكنات ، عالماً بكل المعلومات غنياً عن جميع الحاجات ، منزهاً عن النقائص والآفات ، فهو تعالى لكونه قادراً على جميع الممكنات يكون قادراً على إنزال العذاب على الأعداء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادراً على إيصال الرحمة إلى الأولياء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادراً على تأييد رسوله عليه السلام بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة ويكون قادراً على إعلاء شأن رسوله وإظهار دينه وتقوية شرعه ، ولما كان قادراً على كل ذلك فقد بطل الاستهزاء والتعجب ولما كان منزهاً عن النقائص والآفات ، كان منزهاً عن الخلف والكذب وكل ما وعد به فلا بد وأن يقع ، هذا إذا قلنا : إنه تعالى لا يراعي مصالح العباد ، أما إذا قلنا : إنه تعالى يراعيها فنقول : الكذب إنما يصدر عن العاقل ، إما للعجز أو للجهل أو للحاجة ، ولما كان الحق سبحانه منزهاً عن الكل كان الكذب عليه محالاً ، فلما أخبر عن نزول العذاب بهؤلاء الكفار ، وبحصول الحشر والنشر وجب القطع بوقوعه ، فثبت بهذا البيان أن قوله تعالى :
جزء : 17 رقم الصفحة : 267
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } مقدمة توجب الجزم بصحة قوله : {أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ثم قال : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} والمراد أنهم غافلون عن هذه الدلائل ، مغرورون بظواهر الأمور ، فلا جرم بقوا محرومين عن هذه المعارف ، ثم إنه أكد هذه الدلائل فقال : {هُوَ يُحْىِا وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} والمراد أنه لما قدر على الإحياء في المرة الأولى فإذا أماته وجب أن يبقى قادراً على إحيائه في المرة الثانية ، فظهر بما ذكرنا أنه تعالى أمر رسوله بأن يقول : {إِى وَرَبِّى } (يونس : 53) ثم إنه تعالى أتبع ذلك الكلام بذكر هذه الدلائل القاهرة.
(1/2381)

واعلم أن في قوله : {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } دقيقة أخرى وهي كلمة {إِلا} وذلك لأن هذه الكلمة إنما تذكر عند تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وأهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيقولون البستان للأمير والدار للوزير والغلام لزيد والجارية لعمرو فيضيفون كل شيء إلى مالك آخر والخلق لكونهم مستغرقين في نوم الجهل ورقدة الغفلة يظنون صحة تلك الإضافات فالحق نادى هؤلاء النائمين الغافلين بقوله : {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وذلك لأنه / لما ثبت بالعقل أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته ، وثبت أن الممكن مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة ، فثبت أن ما سواه ملكه وملكه ، وإذا كان كذلك ، فليس لغيره في الحقيقة ملك ، فلما كان أكثر الخلق غافلين عن معرفة هذا المعنى غير عالمين به ، لا جرم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يذكر هذا النداء ، لعل واحداً منهم يستيقظ من نوم الجهالة ورقدة الضلالة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 267
271
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام أمران : الأول : أن نقول إن هذا الشخص قد ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك ، فهو رسول من عند الله حقاً وصدقاً ، وهذا الطريق مما قد ذكره الله تعالى في هذه السورة وقرره على أحسن الوجوه في قوله : {وَمَا كَانَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَـابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} (يوس : 37 ، 38) وقد ذكرنا في تفسير هذه الآية ما يقوي الدين ويورث اليقين ويزيل الشكوك والشبهات ويبطل الجهالات والضلالات.
وأما الطريق الثاني فهو أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو ؟
فكل من جاء ودعا الخلق إليهم وحملهم عليه وكانت لنفسه قوة قوية في نقل الناس من الكفر إلى الإيمان ، ومن الاعتقاد الباطل إلى الاعتقاد الحق ، ومن الأعمال الداعية إلى الدنيا إلى الأعمال الداعية إلى الآخرة فهو النبي الحق الصادق المصدق ، وتقريره : أن نفوس الخلق قد استولى عليها أنواع النقص والجهل وحب الدنيا ، ونحن نعلم بعقولنا أن سعادة الإنسان لا تحصل إلا بالاعتقاد الحق والعمل الصالح ، وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو أن كل ما قوى نفرتك عن الدنيا ورغبتك في الآخرة فهو / العمل الصالح وكل ما كان بالضد من ذلك فهو العمل الباطل والمعصية ، وإذا كان الأمر كذلك كانوا محتاجين إلى إنسان كامل ، قوي النفس ، مشرق الروح ، علوي الطبيعة ، ويكون بحيث يقوى على نقل هؤلاء الناقصين من مقام النقصان إلى مقام الكمال ، وذلك هو النبي. فالحاصل أن الناس أقسام ثلاثة : الناقصون والكاملون الذين لا يقدرون على تكميل الناقصين ، والقسم الثالث هو الكامل الذي يقدر على تكميل الناقصين ، فالقسم الأول هو عامة الخلق ، والقسم الثاني هم الأولياء ، والقسم الثالث هم الأنبياء ، ولما كانت القدرة على نقل الناقصين من درجة النقصان إلى درجة الكمال مراتبها مختلفة ودرجاتها متفاوتة ، لا جرم كانت درجات الأنبياء في قوة النبوة مختلفة. ولهذا السر : قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل".
جزء : 17 رقم الصفحة : 271
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه تعالى لما بين صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بطريق المعجزة ، ففي هذه الآية بين صحة نبوته بالطريق الثاني ، وهذا الطريق طريق كاشف عن حقيقة النبوة معرف لماهيتها ، فالاستدلال بالمعجز هو الذي يسميه المنطقيون برهان الآن ، وهذا الطريق هو الطريق الذي يسمونه برهان اللم ، وهو أشرف وأعلى وأكمل وأفضل.
(1/2382)

المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف القرآن في هذه الآية بصفات أربعة : أولها : كونه موعظة من عند الله. وثانيها : كونه شفاء لما في الصدور. وثالثها : كونه هدى. ورابعها : كونه رحمة للمؤمنين. ولا بد لكل واحد من هذه الصفات من فائدة مخصوصة فنقول : إن الأرواح لما تعلقت بالأجساد كان ذلك التعلق بسبب عشق طبيعي وجب للروح على الجسد ، ثم إن جوهر الروح التذ بمشتهيات هذا العالم الجسداني وطيباته بواسطة الحواس الخمس وتمرن على ذلك وألف هذه الطريقة واعتادها. ومن المعلوم أن نور العقل إنما يحصل في آخر الدرجة ، حيث قويت العلائق الحسية والحوادث الجسدانية ، فصار ذلك الاستغراق سبباً لحصول العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة في جوهر الروح ، وهذه الأحوال تجري مجرى الأمراض الشديدة لجوهر الروح ، فلا بد لها من طبيب حاذق ، فإن من وقع في المرض الشديد ، فإن لم يتفق له طبيب حاذق يعالجه بالعلاجات الصائبة مات لا محالة ، وإن اتفق أن صادفه مثل هذا الطبيب ، وكان هذا البدن قابلاً للعلاجات الصائبة فربما حصلت الصحة وزال السقم.
إذا عرفت هذا فنقول : إن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان كالطبيب الحاذق ، وهذا القرآن عبارة عن مجموع أدويته التي بتركيبها تعالج القلوب المريضة. ثم إن الطبيب إذا وصل إلى المريض فله معه مراتب أربعة :
المرتبة الأولى : أن ينهاه عن تناول ما لا ينبغي ويأمره بالاحتراز عن تلك الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض ، وهذا هو الموعظة فإنه لا معنى للوعظ إلا الزجر عن كل ما يبعد عن رضوان الله تعالى ، والمنع عن كل ما يشغل القلب بغير الله.
المرتبة الثانية : الشفاء وهو أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض ، فكذلك الأنبياء عليهم السلام إذا منعوا الخلق عن فعل المحظورات صارت ظواهرهم مطهرة عن فعل ما لا ينبغي فحينئذ يأمرونهم بطهارة الباطن وذلك بالمجاهدة في إزالة الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الحميدة ، وأوائلها ما ذكره الله تعالى في قوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ } (النحل : 90) وذلك لأنا ذكرنا أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة جارية مجرى الأمراض ، فإذا زالت فقد حصل الشفاء للقلب وصار جوهر الروح مطهراً عن جميع النقوش المانعة عن مطالعة عالم الملكوت.
جزء : 17 رقم الصفحة : 271
والمرتبة الثالثة : حصول الهدى ، وهذه المرتبة لا يمكن حصولها إلا بعد المرتبة الثانية ، لأن جوهر الروح الناطقة قابل للجلايا القدسية والأضواء الإلهية وفيض الرحمة عام غير منقطع على ما قال عليه الصلاة والسلام : "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" وأيضاً فالمنع إنما يكون إما للعجز أو للجهل أو للبخل ، والكل في حق الحق ممتنع ، فالمنع في حقه ممتنع ، فعلى هذا عدم حصول هذه الأضواء الروحانية ، إنما كان لأجل أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة طبعها طبع الظلمة ، وعند قيام الظلمة يمتنع حصول النور ، فإذا زالت تلك الأحوال ، فقد زال العائق فلا بد وأن يقع ضوء عالم القدس في جوهر النفس القدسية ، ولا معنى لذلك الضوء إلا الهدى ، فعند هذه الحالة تصير هذه النفس بحيث قد انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت ، وأول هذه المرتبة هو قوله : {أَحَدٌ * يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} (الفجر : 27) وأوسطها قوله تعالى : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه } (الذاريات : 50) وآخرها قوله : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام : 91) ومجموعها قوله : {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامْرُ كُلُّه فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه وَمَا رَبُّكَ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (هود : 123) وسيجيء تفسير هذه الآيات في مواضعها بإذن الله تعالى ، وهذه المرتبة هي المراد بقوله سبحانه {وَهُدًى} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 271
(1/2383)

وأما المرتبة الرابعة : فهي أن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم ، وذلك هو المراد بقوله {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} وإنما خص المؤمنين بهذا المعنى/ لأن أرواح المعاندين لا تستضيء بأنوار أرواح الأنبياء عليهم السلام ، لأن الجسم القابل للنور عن قرص الشمس / هو الذي يكون وجهه مقابلاً لوجه الشمس ، فإن لم تحصل هذه المقابلة لم يقع ضوء الشمس عليه ، فكذلك كل روح لما لم تتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين ، لم تنتفع بأنوارهم ، ولم يصل إليها آثار تلك الأرواح المطهرة المقدسة ، وكما أن الأجسام التي لا تكون مقابلة لقرص الشمس مختلفة الدرجات والمراتب في البعد عن هذه المقابلة ولا تزال تتزايد درجات هذا البعد حتى ينتهي ذلك الجسم إلى غاية بعده عن مقابلة قرص الشمس ، فلا جرم يبقى خالص الظلمة ، فكذلك تتفاوت مراتب النفوس في قبول هذه الأنوار عن أرواح الأنبياء ولا تزال تتزايد حتى تنتهي إلى النفس التي كملت ظلمتها ، وعظمت شقاوتها وانتهت في العقائد الفاسدة ، والأخلاق الذميمة إلى أقصى الغايات ، وأبعد النهايات ، فالحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى وهو إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة وهي إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين وهي النبوة ، فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره ولا تقديم ما تأخر ذكره ، ولما نبه الله تعالى في هذه الآية على هذه الأسرار العالية الآلهية قال : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} والمقصود منه الإشارة إلى ما قرره حكماء الإسلام من أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية وقد سبق في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبالغة في تقرير هذا المعنى فلا فائدة في الإعادة انتهى.
جزء : 17 رقم الصفحة : 271
المسألة الثانية : قوله : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا } وتقديره : بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ، ثم يقول مرة أخرى : {فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا } والتكرير للتأكيد. وأيضاً قوله : {فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا } يفيد الحصر ، يعني يجب أن لا يفرح الإنسان إلا بذلك. واعلم أن هذا الكلام يدل على أمرين : أحدهما : أنه يجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن جماعة من المحققين قالوا : لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام ، والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به. والثاني : أن بتقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية ، لكنها معنوية من وجوه : الأول : أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها ألا ترى أن أقوى اللذات الجسمانية لذة الوقاع ، ولا شك أن الالتذاذ بها أقل مرتبة من الاستضرار بألم القولنج وسائر الآلام القوية. والثاني : أن مداخل اللذات الجسمانية قليلة ، فإنه لا سبيل إلى تحصيل اللذات الجسمانية إلا بهذين الطريقين أعني لذة البطن والفرج. وأما الآلام : فإن كل جزء من أجزاء بدن الإنسان معه نوع آخر من الآلام ، ولكل نوع منها خاصية ليست للنوع الآخر. والثالث : أن اللذات / الجسمانية لا تكون خالصة ألبتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره ، فلو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب النفس في مقدماتها وفي لواحقها لكفى. الرابع : أن اللذات الجسمانية لا تكون باقية ، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد ، ولذلك قال المعري :
إن حزنا في ساعة الموت أضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
فمن المعلوم أن الفرح الحاصل عند حدوث الولد لا يعادل الحزن الحاصل عند موته. الخامس : أن اللذات الجسمانية حال حصولها تكون ممتنعة البقاء ، لأن لذة الأكل لا تبقى بحالها ، بل كما زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل ولا يمكن استبقاء تلك اللذة. السادس : أن اللذات الجسمانية التذاذ بأشياء خسيسة ، فإنها التذاذ بكيفيات حاصلة في أجسام رخوة سريعة الفساد مستعدة للتغير ، فأما اللذات الروحانية فإنها بالضد في جميع هذه الجهات ، فثبت أن الفرح باللذات الجسمانية فرح باطل ، وأما الفرح الكامل فهو الفرح بالروحانيات والجواهر المقدسة وعالم الجلال ونور الكبرياء.
(1/2384)

والبحث الثاني : من مباحث هذه الآية أنه إذا حصلت اللذات الروحانية فإنه يجب على العاقل أن لا يفرح بها من حيث هي هي ، بل يجب أن يفرح بها من حيث إنها من الله تعالى وبفضل الله وبرحمته ، فلهذا السبب قال الصديقون : من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك ، أما من فرح بنعمة الله من حيث إنها من الله كان فرحه بالله ، وذلك هو غاية الكمال ونهاية السعادة فقوله سبحانه : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا } يعني فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي هي ، بل من حيث إنها بفضل الله وبرحمة الله ، فهذه أسرار عالية اشتملت عليها هذه الألفاظ التي ظهرت من عالم الوحي والتنزيل ، هذا ما تلخص عندنا في هذا الباب ، أما المفسرون فقالوا : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن. وقال أبو سعيد الخدري : فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله.
جزء : 17 رقم الصفحة : 271
المسألة الرابعة : قرىء بالتاء ، قال الفراء : وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ بالتاء وقال : معناه فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار ، قال وقريب من هذه القراءة قراءة أبي {فَبِذَالِكَ} والأصل في الأمر للمخاطب والغائب اللام نحو لتقم يا زيد وليقم زيد ، وذلك لأن حكم الأمر في الصورتين واحد ، إلا أن العرب حذفوا اللام من فعل المأمور المخاطب لكثرة استعماله ، وحذفوا التاء أيضاً وأدخلوا ألف الوصل نحو اضرب واقتل ليقع الابتداء به وكان الكسائي يعيب قولهم فليفرحوا لأنه وجده قليلاً فجعله عيباً إلا أن ذلك هو الأصل ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في بعض المشاهد : "لتأخذوا مصافكم" يريد به خذوا ، هذا كله كلام / الفراء. وقرىء بالتاء ووجهه أنه تعالى عنى المخاطبين والغائبين إلا أنه غلب المخاطب على الغائب كما يغلب التذكير على التأنيث ، فكأنه أراد المؤمنين هكذا قاله أهل اللغة وفيه دقيقة عقلية وهو أن الإنسان حصل فيه معنى يدعوه إلى خدمة الله تعالى وإلى الاتصال بعالم الغيب ومعارج الروحانيات ، وفيه معنى آخر يدعوه إلى عالم الحس والجسم واللذات الجسدانية ، وما دام الروح متعلقاً بهذا الجسد ، فإنه لا ينفك عن حب الجسد ، وعن طلب اللذات الجسمانية ، فكأنه تعالى خاطب الصديقين العارفين ، وقال : حصلت الخصومة بين الحوادث العقلية الإلهية وبين النوازع النفسانية الجسدانية ، والترجيح لجانب العقل لأنه يدعو إلى فضل الله ورحمته والنفس تدعو إلى جمع الدنيا وشهواتها وفضل الله ورحمته خير لكم مما تجمعون من الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى ، وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل.
جزء : 17 رقم الصفحة : 271
272
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الناس ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً ، ولا أستحسن واحداً منها. والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى وجهان : الأول : أن المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة. وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : "إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيل الافتراء على الله تعالى ، أو تعلمون أنه حكم حكم الله به" والأول طريق باطل بالاتفاق ، فلم يبق إلا الثاني ، ثم من المعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة ، ولما بطل هذا ، ثبت أن هذه الأحكام إنما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ونبي بعثه الله إليكم ، وحاصل الكلام أن حكمهم بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسة والمنافع المحسوسة ، يدل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة وإذا / كان الأمر كذلك ، فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة وحمل الآية على هذا الوجه الذي ذكرته طريق حسن معقول.
الطريق الثاني : في حسن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه عليه الصلاة والسلام ، لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها ، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة ، مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد ، والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم ، وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب.
(1/2385)

المسألة الثانية : المراد بالشيء الذي جعلوه حراماً ما ذكروه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأيضاً قوله تعالى : {يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا هَـاذِه أَنْعَـامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} (الأنعام : 138) إلى قوله : {وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَـاذِهِ الانْعَـامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى ا أَزْوَاجِنَا } (الأنعام : 139) وأيضاً قوله تعالى : {ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍا مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } (الأنعام : 143) والدليل عليه أن قوله : {فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا} إشارة إلى أمر تقدم منهم ، ولم يحك الله تعالى عنهم إلا هذا ، فوجب توجه هذا الكلام إليه ، ثم لما حكى تعالى عنهم ذلك قال لرسوله عليه الصلاة والسلام : {قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُم أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وهذه القسمة صحيحة ، لأن هذه الأحكام إما أن تكون من الله تعالى أو لم تكن من الله فإن كانت من الله تعالى ، فهو المراد بقوله : {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } وإن كانت ليست من الله. فهو المراد بقوله : {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 272
ثم قال تعالى : {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وهذا وإن كان في صورة الاستعلام فالمراد منه تعظيم وعيد من يفتري على الله. وقرأ عيسى بن عمر {وَمَا ظَنُّ} على لفظ الفعل ومعناه أي ظن ظنوه يوم القيامة وجيء به على لفظ الماضي لما ذكرنا أن أحوال القيامة وإن كانت آتية إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع في الحكمة ولا جرم عبر الله عنها بصيغة الماضي.
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} فلا يستعملون للعقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله ولا ينتفعون باستماع كتب الله.
المسألة الثالثة : ما في قوله تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ} فيه وجهان : أحدهما : بمعنى الذي فينتصب برأيتم والآخر أن يكون بمعنى أي في الاستفهام ، فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج ، ومعنى أنزل ههنا خلق وأنشأ كقوله : {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الانْعَـامِ ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ } (الزمر : 6) وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال ، لأن كل ما في الأرض من رزق فما أنزل من السماء من ضرع وزرع وغيرهما ، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالاً.
جزء : 17 رقم الصفحة : 272
275
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار ، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم ، وفي أمره بتحمل أذاهم ، وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين ، وتمام الخوف والفزع للمذنبين ، وهو كونه سبحانه عالماً بعمل كل واحد ، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف ، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكاً وطاعة وزهداً وتقوى ، ويكون باطنه مملوأ من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالماً بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين.
(1/2386)

المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين ، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد ، أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام. فالأول : منهما قوله : {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ} واعلم أن {مَّآ} ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤن ، تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله ، قال الأخفش : وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله ، وفيه وجهان : قال ابن عباس : وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن : في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها. والثاني : منهما قوله تعالى : {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا} واختلفوا في أن الضمير في قوله : {مِنْهُ} إلى ماذا يعود ؟
وذكروا فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، بل هو معظم / شأنه ، وعلى هذا التقدير ، فكان هذا داخلاً تحت قوله : {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ} إلا أنه خصه بالذكر تنبيهاً على علو مرتبته ، كما في قوله تعالى : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) وكما في قوله : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} (الأحزاب : 7) والثاني : أن هذا الضمير عائد إلى القرآن والتقدير : وما تتلو من القرآن من قرآن ، وذلك لأن كما أن القرآن اسم للمجموع ، فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن والإضمار قبل الذكر ، يدل على التعظيم. الثالث : أن يكون التقدير : وما تتلو من قرآن من الله أي نازل من عند الله. وأقول : قوله : {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ} أمران مخصوصان بالرسول صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 275
وأما قوله : {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة. والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولاً ، ثم عمم الخطاب مع الكل ، هو أن قوله : {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ} وإن كان بحسب الظاهر خطاباً مختصاً بالرسول ، إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه ، لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب. والدليل عليه قوله تعالى : {الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} (الطلاق : 1) ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال : {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين.
ثم قال تعالى : {إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} وذلك لأن الله تعالى شاهد على كل شيء ، وعالم بكل شيء ، أما على أصول أهل السنة والجماعة ، فالأمر فيه ظاهر ، لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى. فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة ، فكلها حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه. والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالماً به ، فوجب كونه تعالى عالماً بكل المعلومات ، وأما على أصول المعتزلة ، فقد قالوا : إنه تعالى حي وكل من كان حياً ، فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات ، والموجب لتلك العالمية ، هو ذاته سبحانه. فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات ، فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات فثبت كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات.
أما قوله تعالى : {لِّلْعَـالَمِينَ} فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل ، يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه ، وقد أفاضوا من عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم ، فتفرقوا.
فإن قيل : {إِذْ} ههنا بمعنى حين ، فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهوداً حين تفيضون فيه ، / وشهادة الله تعالى عبارة عن علمه ، فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها وذلك باطل.
جزء : 17 رقم الصفحة : 275
قلنا : هذا السؤال بناء على أن شهادة الله تعالى عبادة عن علمه ، وهذا ممنوع ، فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه ، وأما العلم ، فلا يمتنع تقدمه على الشيء ، والدليل عليه أن الرسول عليه السلام ، لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غداً كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها. واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه لا يخرج عن علم الله شيء ، ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد ، فقال : {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا} وفيه مسائل :
(1/2387)

المسألة الأولى : أصل العزوب من البعد. يقال : كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب ، وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل ، والرجل سمي عزباً لبعده عن الأهل ، وعزب الشيء عن علمي إذا بعد.
المسألة الثانية : قرأ الكسائي {وَمَا يَعْزُبُ} بكسر الزاي ، والباقون بالضم ، وفيه لغتان : عزب يعزب ، وعزب يعزب.
المسألة الثالثة : قوله : {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي وزن ذرة ، ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل ، والمعنى : ما يساوي ذرة والذر صغار النمل واحدها ذرة ، وهي تكون خفيفة الوزن جداً ، وقوله : {فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} فالمعنى ظاهر.
فإن قيل : لم قدم الله ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ : {عَـالِمِ الْغَيْبِا لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ} (سبأ : 3).
قلنا : حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم ، ثم وصل ذلك قوله لا يعزب عنه ، ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع.
ثم قال : {وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ} وفيه قراءتان قرأ حمزة {وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ} بالرفع فيهما ، والباقون بالنصب.
واعلم أن قوله : {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ {مِّثْقَالِ} عند دخول كلمة {مِّنْ} عليه مجرور بحسب الظاهر ، ولكنه مرفوع في المعنى/ فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجروراً إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف ، فكان مفتوحاً / وإن عطف على المحل ، وجب كونه مرفوعاً ، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل ، وكذا قوله : {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه } (الأعراف : 59) وغيره وقال الشاعر :
جزء : 17 رقم الصفحة : 275
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
هذا ما ذكره النحويون ، قال صاحب "الكشاف" : لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب : وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله تعالى وأنه باطل.
وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين :
الوجه الأول : أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد.
وإذا ثبت هذا فنقول : الأشياء المخلوقة على قسمين : قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض ، وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول ، مثل : الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله : {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه ، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالماً بها محيطاً بأحوالها ، والغرض منه الرد على من يقول : إنه تعالى غير عالم بالجزئيات ، وهو المراد من قوله : {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية : 29).
والوجه الثاني : في الجواب أن نجعل كلمة {إِلا} في قوله : {إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} استثناء منقطعاً لكن بمعنى هو في كتاب مبين ، وذكر أبو علي الجرجاني صاحب "النظم" عنه جواباً آخر فقال : قوله : {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ} ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر ، وهو قوله : {إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} أي وهو أيضاً في كتاب مبين. قال : والعرب تضع "إلا" موضع "واو النسق" كثيراً على معنى الابتداء ، كقوله تعالى : {لا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَن ظَلَمَ} (النمل : 10) يعني ومن ظلم. وقوله : {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا } (البقرة : 150) يعني والذين ظلموا ، وهذا الوجه في غاية التعسف.
جزء : 17 رقم الصفحة : 275
وأجاب صاحب "الكشاف" : بوجه رابع فقال : الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله : {وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ} على قوله : {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل ، لكنا لا نقول ذلك ، بل نقول : الوجه في القراءة بالنصب في قوله : {وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ} الحمل / على نفي الجنس وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء ، وخبره قوله : {فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} وهذا الوجه اختيار الزجاج.
جزء : 17 رقم الصفحة : 275
278
(1/2388)

اعلم أنا بينا أن قوله تعالى : {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ} (يونس : 61) مما يقوي قلوب المطيعين ، ومما يكسر قلوب الفاسقين فأتبعه الله تعالى بشرح أحوال المخلصين الصادقين الصديقين وهو المذكور في هذه الآية. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا نحتاج في تفسير هذه الآية إلى أن نبين أن الولي من هو ؟
ثم نبين تفسير نفي الخوف والحزن عنه. فنقول : أما إن الوحي من هو ؟
فيدل عليه القرآن والخبر والأثر والمعقول. أما القرآن ، فهو قوله في هذه الآية : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فقوله : {ءَامَنُوا } إشارة إلى كمال حال القوة النظرية وقوله : {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} إشارة إلى كمال حال القوة العملية. وفيه قيام آخر ، وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ، ثم نصف الولي بأنه كان متقياً في الكل. أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال الله أعلى من أن يحيط به عقل البشر ، فالصديق إذا وصف الله سبحانه بصفة من صفات الجلال ، فهو يقدس الله عن أن يكون كماله وجلاله مقتصراً على ذلك المقدار الذي عرفه ووصفه به ، وإذا عبد الله تعالى فهو يقدس الله تعالى عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار فثبت أنه أبداً يكون في مقام الخوف والتقوى. وأما الأخبار فكثيرة روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم قرأ هذه الآية ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "هم الذين يذكر الله تعالى برؤيتهم" قال أهل التحقيق : السبب فيه أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما يشاهد فيهم من آيات الخشوع والخضوع ، ولما ذكر الله تعالى سبحانه في قوله : {سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (
جزء : 17 رقم الصفحة : 278
الفتح : 29) وأما الأثر ، فقال أبو بكر الأصم : أولياء الله هم الذين تولى الله تعالى هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية الله تعالى والدعوة إليه ، وأما المعقول فنقول : ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب ، فولى كل شيء هو الذي يكون قريباً منه ، والقرب من الله تعالى بالمكان والجهة محال ، فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقاً في نور معرفة الله تعالى سبحانه ، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله ، وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله ، وإن تحرك تحرك تحرك في خدمة الله ، وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله ، فهنالك يكون في غاية القرب من الله ، فهذا الشخص يكون ولياً لله تعالى ، وإذا كان كذلك كان الله تعالى ولياً له أيضاً كما قال الله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } (البقرة : 257) ويجب أن يكون الأمر كذلك ، لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين. وقال المتكلمون : ولي الله من يكون آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتياً بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة ، فهذا كلام مختصر في تفسير الولي.
وأما قوله تعالى في صفتهم : {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ففيه بحثان :
البحث الأول : أن الخوف إنما يكون في المستقبل بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف ، والحزن إنما يكون على الماضي إما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 278
(1/2389)

البحث الثاني : قال بعض المحققين : إن نفي الحزن والخوف إما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة والأول باطل لوجوه : أحدها : أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصاً لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وعلى ما قال : "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" وثانيها : أن المؤمن ، وإن صفا عيشه في الدنيا ، فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد ، وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة الله تعالى ، وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى : {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على أمر الآخرة ، فهذا كلام محقق ، وقال بعض العارفين : إن الولاية عبارة عن القرب ، فولى الله تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من الله تعالى ، وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة الله تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى الله ، ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة ، ومتى كانت هذه الحالة حاصلة فإن صاحبها لا يخاف شيئاً ، ولا يحزن بسبب شيء ، وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به ، والمستغرق في نور جلال الله غافل عن كل ما سوى الله تعالى ، فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن ؟
/ وهذه درجة عالية ، ومن لم يذقها لم يعرفها ، ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة ، وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية ، كما يحصل لغيره ، وسمعت أن إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه ، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له ، فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه ، والمريد تسلق على رأس شجرة خوفاً منها والشيخ ما كان فازعاً من تلك السباع ، فلما أصبح وزالت تلك الحالة ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة ، فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها ؟
فقال الشيخ : إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي ، فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق الله تعالى.
المسألة الثانية : قال أكثر المحققين : إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محقل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وبقوله تعالى : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ وَتَتَلَقَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ} (الأنبياء : 103) وأيضاً فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال : بل يحصل فيه أنواع من الخوف ، وذكروا فيه أخباراً تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.
جزء : 17 رقم الصفحة : 278
وأما قوله : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ففيه ثلاثة أوجه : الأول : النصب بكونه صفة للأولياء. والثاني : النصب على المدح. والثالث : الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى.
وأما قوله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ } ففيه أقوال : الأول : المراد منه الرؤيا الصالحة ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم : أنه قال : "البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" وعنه عليه الصلاة والسلام : "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات" وعنه عليه الصلاة والسلام : "الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان ، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره" وعنه صلى الله عليه وسلّم : "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" وعن ابن مسعود ، الرؤيا ثلاثة : الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل ، وحضور الشيطان ، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة. وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة ، فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءاً من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رؤيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي.
واعلم أنا إذا حملنا قوله : {لَهُمُ الْبُشْرَى } على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضاً يدل عليه ، وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب / والروح بذكر الله ، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله ، ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق ، وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم ، فإنه إذا نام يبقى كذلك ، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه ، فلهذا السبب قال : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} على سبيل الحصر والتخصيص.
القول الثاني : في تفسير البشرى ، أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن عن أبي ذر. قال ؟
قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. فقال : "تلك عاجل بشرى المؤمن".
(1/2390)

واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى ، وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره ، وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال ، صار محبوباً لكل أحد ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله ، مستغرق اللسان بذكر الله ، مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية الله ، فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب ، صارت الألسنة جارية بمدحه ، والقلوب مجبولة على حبه ، وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر ، كانت هذه المحبة أقوى ، وأيضاً فنور معرفة الله مخدوم بالذات ، ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوماً بالطبع ألا ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان ، ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 278
والقول الثالث : في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى : {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} (فصلت : 30) وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23) وسلام الله عليهم كما قال : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) ويندرج في هذا الباب ما ذكره الله في هذا الكتاب الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يلقون فيها من الأحوال السارة فكل ذلك من المبشرات.
والقول الرابع : إن ذلك عبارة عما بشر الله عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه. ودليله قوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} (التوبة : 21).
واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه ، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية ، ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة ، فيكون الكل داخلاً فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله : {وَفِى الآخِرَةِ } ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء الله وشرح أحوالهم / قال تعالى : {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَـاتِ اللَّه } والمراد أنه لا خلف فيها ، والكلمة والقول سواء. ونظيره قوله : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} (ق : 29) وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد الله بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} ثم بين تعالى أن : {ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وهو كقوله تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (الإنسان : 20) ثم قال القاضي : قوله : {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَـاتِ اللَّه } يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديماً. ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم الله تعالى لا يكون قديماً وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 278
والقول الثالث : في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى : {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} (فصلت : 30) وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23) وسلام الله عليهم كما قال : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) ويندرج في هذا الباب ما ذكره الله في هذا الكتاب الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يلقون فيها من الأحوال السارة فكل ذلك من المبشرات.
والقول الرابع : إن ذلك عبارة عما بشر الله عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه. ودليله قوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} (التوبة : 21).
(1/2391)

واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه ، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية ، ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة ، فيكون الكل داخلاً فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله : {وَفِى الآخِرَةِ } ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء الله وشرح أحوالهم / قال تعالى : {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَـاتِ اللَّه } والمراد أنه لا خلف فيها ، والكلمة والقول سواء. ونظيره قوله : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} (ق : 29) وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد الله بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} ثم بين تعالى أن : {ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وهو كقوله تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (الإنسان : 20) ثم قال القاضي : قوله : {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَـاتِ اللَّه } يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديماً. ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم الله تعالى لا يكون قديماً وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 278
280
اعلم أن القوم لما أوردوا أنواع الشبهات التي حكاها الله تعالى عنهم فيما تقدم من هذه السورة وأجاب الله عنها بالأجوبة التي فسرناها وقررناها ، عدلوا إلى طريق آخر ، وهو أنهم هددوه وخوفوه وزعموا أنا أصحاب التبع والمال ، فنسعى في قهرك وفي إبطال أمرك ، والله سبحانه أجاب عن هذا الطريق بقوله : {وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُم إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } .
واعلم أن الإنسان إنما يحزن من وعيد الغير وتهديده ومكره وكيده ، لو جوز كونه مؤثراً في حاله ، فإذا علم من جهة علام الغيوب أن ذلك لا يؤثر ، خرج من أن يكون سبباً لحزنه. ثم إنه تعالى كما أزال عن الرسول حزن الآخرة بسبب قوله : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس : 62) فكذلك أزال حزن الدنيا بقوله : {وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُم إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } فإذا كان الله تعالى هو الذي أرسله إلى الخلق وهو الذي أمره بدعوتهم إلى هذا الدين كان لا محالة ناصراً له ومعيناً ، ولما ثبت أن العزة والقهر والغلبة ليست إلا له ، فقد حصل الأمن وزال الخوف.
/ فإن قيل : فكيف آمنه من ذلك ولم يزل خائفاً حتى احتاج إلى الهجرة والهرب ، ثم من بعد ذلك يخاف حالاً بعد حال ؟
قلنا : إن الله تعالى وعده الظفر والنصرة مطلقاً والوقت ما كان معيناً ، فهو في كل وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعين ذلك الوقت ، فحينئذ يحصل الانكسار والانهزام في هذا الوقت.
وأما قوله تعالى : {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } ففيه أبحاث :
البحث الأول : قال القاضي : إن العزة بالألف المكسورة وفي فتحها فساد يقارب الكفر لأنه يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون : {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزنه ذلك. أما إذا كسرت الألف كان ذلك استئنافاً ، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب. قال صاحب "الكشاف" : وقرأ أبو حيوة {إِنَّ الْعِزَّةَ} بالفتح على حذف لام العلة يعني : لأن العزة على صريح التعليل.
جزء : 17 رقم الصفحة : 280
البحث الثاني : فائدة {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} في هذا المقام أمور : الأول : المراد منه أن جميع العزة والقدرة هي لله تعالى يعطي ما يشاء لعباده ، والغرض منه أنه لا يعطي الكفار قدرة عليه ، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو بذلك أعز منهم ، فآمنه الله تعالى بهذا القول من إضرار الكفار به بالقتل والإيذاء ، ومثله قوله تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } (المجادلة : 21) {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} (غافر : 51) الثاني : قال الأصم : المراد أن المشركين يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ويخوفونك بها وتلك الأشياء كلها لله تعالى فهو القادر على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء وأن ينصرك وينقل أموالهم وديارهم إليك.
فإن قيل : قوله : {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } كالمضادة لقوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8).
قلنا : لا مضادة ، لأن عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله.
أما قوله : {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي يسمع ما يقولون ويعلم ما يعزمون عليه وهو يكافئهم بذلك.
(1/2392)

وأما قوله : {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ } ففيه وجهان : الأول : أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وهذا يدل على أن كل ما لا يعقل فهو ملك لله تعالى وملك له ، وأما ههنا فكلمة {مِّنْ} مختصة بمن يعقل ، فتدل على أن كل العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه فيكون مجموع الآيتين دالاً على أن الكل ملكه وملكه. والثاني : أن المراد {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ} العقلاء المميزون وهم الملائكة والثقلان. وإنما خصهم بالذكر ليدل على أن / هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه فالجمادات أولى بهذه العبودية فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شركاء لله تعالى.
ثم قال تعالى : {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَا إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} وفي كلمة {مَّآ} قولان : الأول : أنه نفي وجحد ، والمعنى أنهم ما اتبعوا شريك الله تعالى إنما اتبعوا شيئاً ظنوه شريكاً لله تعالى. ومثاله أن أحدنا لو ظن أن زيداً في الدار وما كان فيها ، فخاطب إنساناً في الدار ظنه زيداً فإنه لا يقال : إنه خاطب زيداً بل يقال خاطب من ظنه زيداً. الثاني : أن {مَّآ} استفهام ، كأنه قيل : أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، والمقصود تقبيح فعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء.
جزء : 17 رقم الصفحة : 280
ثم قال تعالى : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} والمعنى أنهم إنما اتبعوا ظنونهم الباطلة وأوهامهم الفاسدة ، ثم بين أن هذا الظن لا حكم له {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} وذكرنا معنى الخرص في سورة الأنعام عند قوله : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} (الأنعام : 16).
جزء : 17 رقم الصفحة : 280
280
اعلم أنه تعالى لما ذكر قوله : {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } احتج عليه بهذه الآية ، والمعنى أنه تعالى جعل الليل ليزول التعب والكلال بالسكون فيه ، وجعل النهار مبصراً أي مضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم بالأبصار ، والمبصر الذي يبصر ، والنهار يبصر فيه ، وإنما جعله مبصراً على طريق نقل الاسم من السبب إلى المسبب.
فإن قيل : إن قوله : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يدل على أنه تعالى ما خلقه إلا لهذا الوجه ، وقوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} يدل على أنه تعالى أراد بتخليق الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل.
قلنا : إن قوله تعالى : {لِتَسْكُنُوا } لا يدل على أنه لا حكمة فيه إلا ذلك ، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.
/ أما قوله تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} فالمراد يتدبرون ما يسمعون ويعتبرون به.
جزء : 17 رقم الصفحة : 280
282
اعلم أن هذا نوع آخر من الأباطيل التي حكاها الله تعالى عن الكفار وهي قولهم : {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } ويحتمل أن يكون المراد حكاية قول من يقول : الملائكة بنات الله ، ويحتمل أن يكون المراد قول من يقول : الأوثان أولاد الله ، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قوم من النصارى قالوا ذلك ثم إنه تعالى لما استنكر هذا القول قال بعده : {هُوَ الْغَنِيُّا لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } .
واعلم أن كونه تعالى غنياً مالكاً لكل ما في السموات والأرض يدل على أنه يستحيل أن يكون له ولد ، وبيان ذلك من وجوه : الأول : أنه سبحانه غني مطلقاً على ما في هذه الآية ، والعقل أيضاً يدل عليه ، لأنه لو كان محتاجاً لافتقر إلى صانع آخر ، وهو محال وكل من كان غنياً فإنه لا بد أن يكون فرداً منزهاً عن الأجزاء والأبعاض ، وكل من كان كذلك امتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه ، والولد عبارة عن أن ينفصل جزء من أجزاء الإنسان ، ثم يتولد عن ذلك الجزء مثله ، وإذا كان هذا محالاً ثبت أن كونه تعالى غنياً يمنع ثبوت الولد له.
الحجة الثانية : أنه تعالى غني وكل من كان غنياً كان قديماً أزلياً باقياً سرمدياً ، وكل من كان كذلك ، امتنع عليه الانقراض والانقضاء ، والولد إنما يحصل للشيء الذي ينقضي ، وينقرض ، فيكون ولده قائماً مقامه ، فثبت أن كونه تعالى غنياً ، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
الحجة الثالثة : أنه تعالى غني وكل من كان غنياً فإنه يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون له صاحبة وولد.
الحجة الرابعة : أنه تعالى غني ، وكل من كان غنياً امتنع أن يكون له ولد ، لأن اتخاذ الولد إنما يكون في حق من يكون محتاجاً حتى يعينه ولده على المصالح الحاصلة والمتوقعة ، فمن كان غنياً مطلقاً امتنع عليه اتخاذ الولد.
(1/2393)

/ الحجة الخامسة : ولد الحيوان إنما يكون ولداً له بشرطين : إذا كان مساوياً له في الطبيعة والحقيقة ، ويكون ابتداء وجوده وتكونه منه ، وهذا في حق الله تعالى محال ، لأنه تعالى غني مطلقاً ، وكل من كان غنياً مطلقاً كان واجب الوجود لذاته ، فلو كان لواجب الوجود ولد ، لكان ولده مساوياً له. فيلزم أن يكون ولد واجب الوجود أيضاً واجب الوجود ، لكن كونه واجب الوجود يمنع من تولده من غيره ، وإذا لم يكن متولداً من غيره لم يكن ولداً ، فثبت أن كونه تعالى غنياً من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا ولد له ، وهذه الثلاثة مع الثلاثة الأول في غاية القوة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 282
الحجة السادسة : أنه تعالى غني ، وكل من كان غنياً امتنع أن يكون له أب وأم ، وكل من تقدس عن الوالدين وجب أن يكون مقدساً عن الأولاد.
فإن قيل : يشكل هذا بالوالد الأول ؟
قلنا : الوالد الأول لا يمتنع كونه ولداً لغيره ، لأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق الوالد الأول من أبوين يقدمانه أما الحق سبحانه فإنه يمتنع افتقاره إلى الأبوين ، وإلا لما كان غنياً مطلقاً.
الحجة السابعة : إنه تعالى غني مطلقاً ، وكل من كان غنياً مطلقاً امتنع أن يفتقر في إحداث الأشياء إلى غيره.
إذا ثبت هذا فنقول : هذا الولد ، إما أن يكون قديماً أو حادثاً ، فإن كان قديماً فهو واجب الوجود لذاته ، آذ لو كان ممكن الوجود لافتقر إلى المؤثر ، وافتقار القديم إلى المؤثر يقتضي إيجاد الموجود وهو محال ، وإذا كان واجب الوجود لذاته لم يكن ولداً لغيره/ بل كان موجوداً مستقلاً بنفسه ، وأما إن كان هذا الولد حادثاً والحق سبحانه غني مطلقاً فكان قادراً على إحداثه ابتداء من غير تشريك شيء آخر ، فكان هذا عبداً مطلقاً ، ولم يكن ولداً ، فهذه جملة الوجوه المستنبطة من قوله : {هُوَ الْغَنِىُّ} الدالة على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
أما قوله : {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } فاعلم أنه نظير قوله : {إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَـن ِ عَبْدًا} (مريم : 93) وحاصله يرجع إلى أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن ، وكل ممكن محتاج ، وكل محتاج محدث ، فكل ما سوى الواحد الأحد الحق محدث ، والله تعالى محدثه وخالقه وموجده وذلك يدل على فساد القول بإثبات الصاحبة والولد ، ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه ، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ فقال : {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَـانا بِهَـاذَآ } منبهاً بهذا على أنه لا حجة عندهم في ذلك ألبتة. ثم بالغ في ذلك الإنكار فقال : {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقد / ذكرنا أن هذه الآية يحتج بها في إبطال التقليد في أصول الديانات ونفاة القياس وأخبار الآحاد قد يحتجون بها في إبطال هذين الأصلين وقد سبق الكلام فيه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 282
282
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل القاهر أن إثبات الولد لله تعالى قول باطل ثم بين أنه ليس لهذا القائل دليل على صحة قوله ، فقد ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله ونسبه لما لا يليق به إليه ، فبين أن من هذا حاله فإنه لا يفلح ألبتة ألا ترى أنه تعالى قال في أول سورة المؤمنون : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون : 1) وقال في آخر هذه السورة : {إِنَّه لا يُفْلِحُ الْكَـافِرُونَ} (المؤمنون : 117).
واعلم أن قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} يدخل فيه هذه الصورة ولكنه لا يختص بهذه الصورة بل كل من قال في ذات الله تعالى وفي صفاته قولاً بغير علم وبغير حجة بينة كان داخلاً في هذا الوعيد ، ومعنى قوله : {لا يُفْلِحُ} قد ذكرناه في أول سورة البقرة في قوله تعالى : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران : 104) وبالجملة فالفلاح عبارة عن الوصول إلى المقصود والمطلوب ، فمعنى أنه لا يفلح هو أنه لا ينجح في سعيه ولا يفوز بمطلوبه بل خاب وخسر ، ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة ، ظن أنه قد فاز بالمقصد الأقصى ، والله سبحانه أزال هذا الخيال بأن قال : إن ذلك المقصود الخسيس متاع قليل في الدنيا ، ثم لا بد من الموت ، وعند الموت لا بد من الرجوع إلى الله وعند هذا الرجوع لا بد من أن يذيقه العذاب الشديد بسبب ذلك الكفر المتقدم ، وهذا كلام في غاية الانتظام ونهاية الحسن والجزالة. والله أعلم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 282
286
(1/2394)

/ اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات ، وفي الجواب عن الشبه والسؤالات ، شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء عليهم السلام لوجوه : أحدها : أن الكلام إذا أطال في تقرير نوع من أنواع العلوم ، فربما حصل نوع من أنواع الملالة فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر ، انشرح صدره وطاب قلبه ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوة حادثة وميلاً قوياً. وثانيها : ليكون للرسول عليه الصلاة والسلام ولأصحابه أسوة بمن سلف من الأنبياء ، فإن الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفار مع الكل الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه ، كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت. وثالثها : أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أن الجهال ، وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدمين إلا أن الله تعالى أعانهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم ، كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سبباً لانكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف والوجل في صدورهم ، وحينئذ يقللون من أنواع الإيذاء والسفاهة. ورابعها : أنا قد دللنا على أن محمداً عليه الصلاة والسلام لما لم يتعلم علماً ، ولم يطالع كتاباً ثم ذكر هذه الأقاصيص من غير تفاوت ، ومن غير زيادة ومن غير نقصان ، دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلّم إنما عرفها بالوحي والتنزيل.
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة من قصص الأنبياء عليهم السلام ثلاثة.
فالقصة الأولى : قصة نوح عليه السلام ، وهي المذكورة في هذه الآية ، وفيها وجهان من الفائدة : الأول : أن قوم نوح عليهم السلام لما أصروا على الكفر والجحد عجل الله هلاكهم بالغرق فذكر الله تعالى قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار ، وداعية إلى مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة. والثاني : أن كفار مكة كانوا يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول عليه / السلام لهم وكانوا يقولون له كذبت ، فإنه ما جاءنا هذا العذاب ، فالله تعالى ذكر لهم قصة نوح عليه السلام لأنه عليه السلام كان يخوفهم بهذا العذاب وكانوا يكذبونه فيه ، ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا ههنا.
جزء : 17 رقم الصفحة : 286
المسألة الثانية : أن نوحاً عليه السلام قال لقومه : {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِـاَايَـاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} وهذا جملة من الشرط والجزاء ، أما الشرط فهو مركب من قيدين :
القيد الأول : قوله : {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى} قال الواحدي في "البسيط" : يقال كبر يكبر كبراً في السن ، وكبر الأمر والشيء إذا عظم يكبر كبراً وكبارة. قال ابن عباس : ثقل عليكم وشق عليكم وعظم أمره عندكم والمقام بفتح الميم مصدر كالإقامة. يقال : أقام بين أظهرهم مقاماً وإقامة ، والمقام بضم الميم الموضع الذي يقام فيه ، وأراد بالمقام ههنا مكثه ولبثه فيهم وبالجملة فقوله : {كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى} جار مجرى قولهم : فلان ثقيل الظل.
واعلم أن سبب هذا الثقل أمران : أحدهما : أنه عليه السلام مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً. والثاني : أن أولئك الكفار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة والطرائق الباطلة والغالب أن من ألف طريقة في الدين فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها/ ويذكر له ركاكتها ، فإن اقترن بذلك طول مدة الدعاء كان أثقل وأشد كراهية ، فإن اقترن به إيراد الدلائل القاهرة على فساد تلك المذهب كانت النفرة أشد فهذا هو السبب في حصول ذلك الثقل.
والقيد الثاني : هو قوله : {وَتَذْكِيرِى بِـاَايَـاتِ اللَّهِ} .
واعلم أن الطباع المشغوفة بالدنيا الحريصة على طلب اللذات الهاجلة تكون شديدة النفرة عن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات ، قوية الكراهة لسماع ذكر الموت وتقبيح صورة الدنيا ومن كان كذلك فإنه يستثقل الإنسان الذي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون قوله : {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِـاَايَـاتِ اللَّهِ} معناه أنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم ظاهراً وكلامهم مسموعاً ، كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود.
واعلم أن هذا هو الشرط المذكور في هذه الآية ، أما الجزاء ففيه قولان :
القول الأول : أن الجزاء هو قوله : {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} يعني أن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله.
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 286
واعلم أنه عليه السلام كان أبداً متوكلاً على الله تعالى ، وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على الله في هذه الساعة ، لكن المعنى أنه إنما توكل على الله في دفع هذا الشر في هذه الساعة.
(1/2395)

والقول الثاني : وهو قول الأكثرين إن جواب الشرط هو قوله : {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} وقوله : {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} كلام اعترض به بين الشرط وجوابه كما تقول في الكلام إن كنت أنكرت علي شيئاً فالله حسبي فاعمل ما تريد واعلم أن جواب هذا الشرط مشتمل على قيود خمسة على الترتيب.
القيد الأول : قوله : {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} وفيه بحثان :
البحث الأول : قال الفراء : الإجماع الإعداد والعزيمة على الأمر وأنشد :
ف يا ليت شعري والمنى لا ينفع
هل اغدون يوماً وأمري مجمع
فإذا أردت جمع التفرق قلت : جمعت القوم فهم مجموعون ، وقال أبو الهيثم : أجمع أمره ، أي جعله جميعاً بعد ما كان متفرقاً ، قال : وتفرقه ، أي جعل يتدبره فيقول : مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه ، أي جعله جميعاً فهذا هو الأصل في الإجماع ، ومنه قوله تعالى : {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} (يوسف : 102) ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى فقيل : أجمعت على الأمر ، أي عزمت عليه ، والأصل أجمعت الأمر.
البحث الثاني : روى الأصمعي عن نافع {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} بوصل الألف من الجمع وفيه وجهان : الأول : قال أبو علي الفارسي : فاجمعوا ذوي الأمر منكم فحذف المضاف ، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت. الثاني : قال ابن الأنباري : المراد من الأمر ههنا وجوه كيدهم ومكرهم ، فالتقدير : ولا تدعوا من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه.
والقيد الثاني : قوله : {وَشُرَكَآءَكُمْ} وفيه أبحاث :
البحث الأول : الواو ههنا بمعنى مع ، والمعنى : فأجمعوا أمركم مع شركائكم ، ونظيره قولهم لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها ، ولو خليت نفسك والأسد لأكلك.
البحث الثاني : يحتمل أن يكون المراد من الشركاء الأوثان التي سموها بالآلهة ، ويحتمل أن يكون المراد منها من كان على مثل قولهم ودينهم ، فإن كان المراد هو الأول فإنما حث الكفار على الاستعانة بالأوثان بناء على مذهبهم من أنها تضر وتنفع ، وإن كان المراد هو الثاني فوجه الاستعانة بها ظاهر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 286
البحث الثالث : قرأ الحسن وجماعة من القراء {وَشُرَكَآؤُكُمْ } بالرفع عطفاً على الضمير / المرفوع ، والتقدير : فأجمعوا أنتم وشركاؤكم. قال الواحدي : وجاز ذلك من غير تأكيد الضمير كقوله : {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة : 35) لأن قوله : {أَمْرَكُمْ} فصل بين الضمير وبين المنسوق ، فكان كالعوض من التوكيد وكان الفراء يستقبح هذه القراءة ، لأنها توجب أن يكتب وشركاؤكم بالواو وهذا الحرف غير موجود في المصاحف.
القيد الثالث : قوله : {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} قال أبو الهيثم : أي مبهماً من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس قال طرفة :
ف لعمري ما أمري علي بغمة
نهاري ولا ليلي علي بسرمد
وقال الليث : إنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد له. قال الزجاج : أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً.
القيد الرابع : قوله : {ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ} وفيه بحثان :
البحث الأول : قال ابن الأنباري معناه ثم امضوا إلي بمكروهكم وما توعدونني به ، تقول العرب : قضى فلان ، يريدون مات ومضى ، وقال بعضهم : قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه وبه يسمى القاضي ، لأنه إذا حكم فقد فرغ فقوله : {ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ} أي افرغوا من أمركم وامضوا ما في أنفسكم واقطعوا ما بيني وبينكم ، ومنه قوله تعالى : {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل فِى الْكِتَـابِ} (الإسراء : 4) أي أعلمناهم إعلاماً قاطعاً ، قال تعالى : {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَالِكَ الامْرَ} (الحجر : 66) قال القفال رحمه الله تعالى ومجاز دخول كلمة {إِلَى} في هذا الموضع من قولهم برئت إليك وخرجت إليك من العهد ، وفيه معنى الإخبار فكأنه تعالى قال : ثم اقضوا ما يستقر رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه.
البحث الثاني : قرىء ثم أفضوا إلي بالفاء بمعنى ثم انتهوا إلى بشركم ، وقيل : هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء ، أي أصحروا به إلي وأبرزوه إلي.
جزء : 17 رقم الصفحة : 286
(1/2396)

القيد الخامس : قوله : {وَلا تُنظِرُونِ} معناه لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه فهذا هو تفسير هذه الألفاظ ، وقد نظم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه فقال إنه عليه السلام قال : "في أول الأمر فعلى الله توكلت فإني واثق بوعد الله جازم بأنه لا يخلف الميعاد ولا تظنوا أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى" ثم إنه عليه السلام أورد ما يدل على صحة دعوته فقال : "فأجمعوا أمركم" فكأنه يقول لهم أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضموا إلى أنفسهم شركائهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانتهم وبالتقرب إليهم ، ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثاً وهو قوله : {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} وأراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة ، ثم لم يقتصر على ذلك حتى / ضم إليها : رابعاً فقال : {ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ} والمراد أن وجهوا كل تلك الشرور إلي ، ثم ضم إلى ذلك خامساً. وهو قوله : {وَلا تُنظِرُونِ} أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من عير أنظار فهذا آخر هذا الكلام ومعلوم أن مثل هذا الكلام يدل على أنه عليه السلام كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله تعالى وأنه كان قاطعاً بأن كيدهم لا يصل إليه ومكرهم لا ينفذ فيه.
وأما قوله تعالى : {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ } فقال المفسرون : هذا إشارة إلى أنه ما أخذ منهم مالاً على دعوتهم إلى دين الله تعالى ومتى كان الإنسان فارغاً من الطمع كان قوله أقوى تأثيراً في القلب. وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال : إنه عليه السلام بين أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه وذلك لأن الخوف إنما يحصل بأحد شيئين إما بإيصال الشر أو بقطع المنافع ، فبين فيما تقدم أنه لا يخاف شرهم وبين بهذه الآية أنه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعوا عنه خيراً ، لأنه ما أخذ منهم شيئاً فكان يخاف أن يقطعوا منه خيراً.
ثم قال : {إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى اللَّه وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وفيه قولان : الأول : أنكم سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوا ، فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام. والثاني : أني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إلي لأجل هذه الدعوة. وهذا الوجه أليق بهذا الموضع ، لأنه لما قال : {ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ} بين لهم أنه مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إليه في هذا الباب ، والله أعلم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 286
286
اعلم أنه تعالى لما حكى الكلمات التي جرت بين نوح وبين أولئك الكفار ، ذكر ما إليه رجعت عاقبة تلك الواقعة ، أما في حق نوح وأصحابه فأمران : أحدهما : أنه تعالى نجاهم من الكفار. الثاني : أنه جعلهم خلائف بمعنى أنهم يخلفون من هلك بالغرق ، وأما في حق الكفار فهو أنه تعالى أغرقهم وأهلكهم. وهذه القصة إذا سمعها من صدق الرسول ومن كذب به كانت زجراً للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان ، ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح ، وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا جرت على / سبيل الحكاية عمن تقدم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ وعلى هذا الوجه ذكر تعالى أقاصيص الأنبياء عليهم السلام.
وأما تفاصيل هذه القصة فهي مذكورة في سائر السور.
جزء : 17 رقم الصفحة : 286
286
اعلم أن المراد : ثم بعثنا من بعد نوح رسلاً ولم يسمهم ، وكان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوات الله عليهم أجمعين بالبينات ، وهي المعجزات القاهرة ، فأخبر تعالى عنهم أنهم جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب ، ولم يزجرهم ما بلغهم من إهلاك الله تعالى المكذبين من قوم نوح عن ذلك ، فلهذا قال : {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِه مِن قَبْلُ } وليس المراد عين ما كذبوا به ، لأن ذلك لم يحصل في زمانه بل المراد بمثل ما كذبوا به من البينات ، لأن البينات الظاهرة على الأنبياء عليهم السلام أجمع كأنها واحدة.
ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} واحتج أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان بهذه الآية وتقريره ظاهر. قال القاضي : الطبع غير مانع من الإيمان بدليل قوله تعالى : {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} (النساء : 155) ولو كان هذا الطبع مانعاً لما صح هذا الاستثناء ؟
والجواب : أن الكلام في هذه المسألة قد سبق على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } (البقرة : 7) فلا فائدة في الإعادة.
/ القصة الثانية
قصة موسى عليه السلام
جزء : 17 رقم الصفحة : 286
287
(1/2397)

اعلم أن هذا الكلام غني عن التفسير وفيه سؤال واحد ، وهو أن القوم لما قالوا : {إِنَّ هَـاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} فكيف حكى موسى عليه السلام أنهم قالوا : {أَسِحْرٌ هَـاذَا} على سبيل الاستفهام ؟
وجوابه : أن موسى عليه السلام ما حكى عنهم أنهم قالوا : {أَسِحْرٌ هَـاذَا} بل قال : {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } ما تقولون ، ثم حذف عنه مفعول {أَتَقُولُونَ} لدلالة الحال عليه ، ثم قال مرة أخرى {أَسِحْرٌ هَـاذَا} وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، ثم احتج على أنه ليس بسحر ، وهو قوله : {وَلا يُفْلِحُ السَّـاحِرُونَ} يعني أن حاصل صنعهم تخييل وتمويه {وَلا يُفْلِحُ السَّـاحِرُونَ} وأما قلب العصا حية وفلق البحر ، فمعلوم بالضرورة أنه ليس من باب التخييل والتمويه فثبت أنه ليس بسحر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 287
288
/ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى حكى عن فرعون وقومه أنهم لم يقبلوا دعوة موسى عليه السلام ، وعللوا عدم القبول بأمرين : الأول : قوله : {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا} قال الواحدي : اللفت في أصل اللغة الصرف عن أمر ، وأصله اللي يقال : لفت عنقه إذا لواها ، ومن هذا يقال : التفت إليه ، أي أمال وجهه إليه. قال الأزهري : لفت الشيء وفتله إذا لواه ، وهذا من المقلوب.
واعلم أن حاصل هذا الكلام أنهم قالوا : لا نترك الدين الذي نحن عليه ، لأنا وجدنا آبائنا عليه ، فقد تمسكوا بالتقليد ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار.
والسبب الثاني : في عدم القبول قوله : {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الارْضِ} قال المفسرون : المعنى ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر ، والخطاب لموسى وهرون. قال الزجاج : سمى الملك كبرياء ، لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وأيضاً فالنبي إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه ، فصار أكبر القوم.
واعلم أن السبب الأول : إشارة إلى التمسكل بالتقليد ، والسبب الثاني : إشارة إلى الحرص على طلب / الدنيا ، والجد في بقاء الرياسة ، ولما ذكر القوم هذين السببين صرحوا بالحكم وقالوا : {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} .
واعلم أن القوم لما ذكروا هذه المعاني حاولوا بعد ذلك ، وأرادوا أن يعارضوا معجزة موسى عليه السلام بأنواع من السحر ، ليظهروا عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السحر ، فجمع فرعون السحرة وأحضرهم ، {قَالَ لَهُم مُّوسَى ا أَلْقُوا مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 288
فإن قيل : كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر ؟
قلنا : إنه عليه السلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصي ، ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل ، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر ، فلما ألقوا حبالهم وعصيهم قال لهم موسى ما جئتم به هو السحر الباطل ، والغرض منه أن القوم قالوا لموسى : إن ما جئت به سحر ، فذكر موسى عليه السلام أن ما ذكرتموه باطل ، بل الحق أن الذي جئتم به هو السحر والتمويه الذي يظهر بطلانه ، ثم أخبرهم بأن الله تعالى يحق الحق ويبطل الباطل ، وقد أخبر الله تعالى في سائر السور أنه كيف أبطل ذلك السحر ، وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف كل تلك الجبال والعصي.
المسألة الثانية : قوله : {مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ } ما ههنا موصولة بمعنى الذي وهي مرتفعة بالابتداء ، وخبرها السحر ، قال الفراء : وإنما قال : {السِّحْرُ } بالألف واللام ، لأنه جواب كلام سبق ألا ترى أنهم قالوا : لما جاءهم موسى هذا سحر ، فقال لهم موسى : بل ما جئتم به السحر ، فوجب دخول الألف واللام ، لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة ، يقول الرجل لغيره : لقيت رجلاً فيقول له من الرجل فيعيده بالألف واللام ، ولو قال له من رجل لم يقع في فهمه أنه سأله عن الرجل الذي ذكره له. وقرأ أبو عمرو : {السِّحْرُ } بالاستفهام/ وعلى هذه القراءة ما استفهامية مرتفع بالابتداء ، وجئتم به في موضع الخبر كأنه قيل : أي شيء جئتم به. ثم قال على وجه التوبيخ والتقريع : {السِّحْرُ } كقوله تعالى : {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى} (المائدة : 116) والسحر بدل من المبتدأ ، ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام ، كما تقول كم مالك أعشرون أم ثلاثون ؟
فجعلت أعشرون بدلاً من كم ، ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر ، لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه وصار ما كان خبراً عن المبدل منه خبراً عنه.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُه ا } أي سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يقويه ولا يكمله.
ثم قال : {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} ومعنى إحقاق الحق إظهاره وتقويته. وقوله : {بِكَلِمَـاتِه } أي بوعده / موسى. وقيل بما سبق من قضائه وقدره ، وفي كلمات الله أبحاث غامضة عميقة عالية ، وقد ذكرناها في بعض مواضع من هذا الكتاب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 288
289
(1/2398)

واعلم أنه تعالى بين فيما تقدم ما كان من موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة وما ظهر من تلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السحر ، ثم إنه تعالى بين أنهم مع مشاهدة المعجزات العظيمة ما آمن به منهم إلا ذرية من قومه ، وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر ، فبين أن له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة ، لأن الذي ظهر من موسى عليه السلام كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ، ومع ذلك فما آمن به منهم إلا ذرية. واختلفوا في المراد بالذرية على وجوه : الأول : أن الذرية ههنا معناها تقليل العدد. قال ابن عباس : لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير ، ولا سبيل إلى حمله على التقدير على وجه الإهانة في هذا الموضع فوجب حمله على التصغير بمعنى قلة العدد. الثاني : قال بعضهم : المراد أولاد من دعاهم ، لأن الآباء استمروا على الكفر ، إما لأن قلوب الأولاد ألين أو دواعيهم على الثبات على الكفر أخف. الثالث : أن الذرية قوم كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل. الرابع : الذرية من آل فرعون آسية امرأة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطتها. وأما الضمير في قوله : {مِّن قَوْمِه } فقد اختلفوا أن المراد من قوم موسى أو من قوم فرعون ، لأن ذكرهما جميعاً قد تقدم والأظهر أنه عائد إلى موسى ، لأنه أقرب المذكورين ولأنه نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل.
أما قوله : {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } ففيه أبحاث :
البحث الأول : أن أولئك الذين آمنوا بموسى كانوا خائفين من فرعون جداً ، لأنه كان شديد البطش وكان قد أظهر العداوة مع موسى ، فإذا علم ميل القوم إلى موسى كان يبالغ في إيذائهم ، فلهذا السبب كانوا خائفين منه.
/ البحث الثاني : إنما قال : {وَمَلايْهِمْ} مع أن فرعون واحد لوجوه : الأول : أنه قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع ، والمراد التعظيم قال الله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9) الثاني : أن المراد بفرعون آل فرعون. الثالث : أن هذا من باب حذف المضاف كأنه أريد بفرعون آل فرعون.
جزء : 17 رقم الصفحة : 289
ثم قال : {أَن يَفْتِنَهُمْ } أي يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم.
ثم قال : {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارْضِ} أي لغالب فيها قاهر {وَإِنَّه لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} قيل : المراد أنه كثير القتل كثير التعذيب لمن يخالفه في أمر من الأمور ، والغرض منه بيان السبب في كون أولئك المؤمنين خائفين ، وقيل : إنما كان مسرفاً لأنه كان من أخس العبيد فادعى الإلهية.
جزء : 17 رقم الصفحة : 289
290
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن قوله : {وَقَالَ مُوسَى يَـاقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا } جزاء معلق على شرطين : أحدهما متقدم والآخر متأخر ، والفقهاء قالوا : المتأخر يجب أن يكون متقدماً والمتقدم يجب أن يكون متأخراً ومثاله أن يقول الرجل لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً وإنما كان الأمر كذلك ، لأن مجموع قوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ، صار مشروطاً بقوله إن كلمت زيداً ، والمشروط متأخر عن الشرط ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدماً في المعنى ، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى والتقدير : كأنه يقول لامرأته حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدار فأنت طالق ، فلو حصل هذا التعليق قبل إن كلمت زيداً لم يقع الطلاق.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَقَالَ مُوسَى يَـاقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا } يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً لأن يصيروا مخاطبين بقوله : {وَقَالَ مُوسَى يَـاقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم} فكأنه / تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل ، والأمر كذلك ، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام ، وهو إشارة إلى الانقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالى وإظهار الخضوع وترك التمرد ، وأما الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفاً بأن واجب الوجود لذاته واحد وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه ، وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله فهذه الآية من لطائف الأسرار ، والتوكل على الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى.
واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات كفاه الله تعالى كل الملمات لقوله : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ا } (الطلاق : 3).
جزء : 17 رقم الصفحة : 290
(1/2399)

المسألة الثانية : أن هذا الذي أمر موسى قومه به وهو التوكل على الله هو الذي حكاه الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال : {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} (يونس : 71) وعند هذا يظهر التفاوت بين الدرجتين لأن نوحاً عليه السلام وصف نفسه بالتوكل على الله تعالى ، وموسى عليه السلام أمر قومه بذلك فكان نوحاً عليه السلام تاماً ، وكان موسى عليه السلام فوق التمام.
المسألة الثالثة : إنما قال : {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا } ولم يقل توكلوا عليه ، لأن الأول يفيد الحصر كأنه عليه السلام أمرهم بالتوكل عليه ونهاهم عن التوكل على الغير ، والأمر كذلك ، لأنه لما ثبت أن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وتسخيره وتحت حكمه وتدبيره ، امتنع في العقل أن يتوكل الإنسان على غيره ، فلهذا السبب جاءت هذ الكلمة بهذه العبارة ، ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام لما أمرهم بذلك قبلوا قوله : {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي توكلنا عليه ، ولا نلتفت إلى أحد سواه ، ثم لما فعلوا ذلك اشتغلوا بالدعاء ، فطلبوا من الله تعالى شيئين : أحدهما : أن قالوا : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} وفيه وجوه : الأول : أن المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا لوقع في قلوبهم أنا لو كنا على الحق لما سلطتهم علينا/ فيصير ذلك شبهة قوية في إصرارهم على الكفر فيصير تسليطهم علينا فتنة لهم. الثاني : أنك لو سلطتهم علينا لاستوجبوا العقاب الشديد في الآخرة وذلك يكون فتنة لهم. الثالث : {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ} أي موضع فتنة لهم ، أي موضع عذاب لهم. الرابع : أن يكون المراد من الفتنة المفتون ، لأن إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز ، كالخلق بمعنى المخلوق ، والتكوين بمعنى المكون ، والمعنى : لا تجعلنا مفتونين ، أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه ، وهذا التأويل متأكد بما ذكره الله / تعالى قبل هذه الآية وهو قوله : {فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَى ا إِلا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِه عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى : {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 290
واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم ، وذلك لأنا إن حملنا قولهم : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلي تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم ، وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم وإن حملناه على أن لا يمكن الله تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضاً دليلاً على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 290
291
اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهرون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات يقال : تبوأ المكان ، أي اتخذه مبوأ كقوله توطنه إذا اتخذه موطناً ، والمعنى : اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة والصلاة.
ثم قال : {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} وفيه أبحاث :
البحث الأول : من الناس من قال : المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى : {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه } (النور : 36) ومنهم من قال : المراد مطلق البيوت ، أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة ، ثم قالوا : والمراد من قوله : {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة ، وقال الفراء : واجعلوا بيوتكم قبلة ، أي إلى القبلة ، وقال ابن الأنباري : واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلاً يعني مساجد فأطلق لفظ الوحدان ، والمراد الجمع ، واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت ؟
فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه ، إلا أنه نقل عن / ابن عباس أنه قال : كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام. وكان الحسن يقول : الكعبة قبلة كل الأنبياء ، وإنما وقع العدول عنها بأمر الله تعالى في أيام الرسول عليه السلام بعد الهجرة. وقال آخرون : كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس. وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت ، فهؤلاء لهم في تفسير قوله : {قِبْلَةً} وجهان : الأول : المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة ، والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبضع. وقال آخرون : المراد واجعلوا دوركم قبلة ، أي صلوا في بيوتكم.
(1/2400)

البحث الثاني : أنه تعالى خص موسى وهرون في أول هذه الآية بالخطاب فقال : {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} ثم عمم هذا الخطاب فقال : {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} والسبب فيه أنه تعالى أمر موسى وهرون أن يتبوآ لقومهما بيوتاً للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء ، ثم جاء الخطاب بعد ذلك عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الكل ، ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة ، فخص الله تعالى موسى بها ، ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام وأن هرون تبع له.
جزء : 17 رقم الصفحة : 291
البحث الثالث : ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة : الأول : أن موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة ، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة. الثاني : قيل : إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة ، فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون. الثالث : أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهرون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل تعالى أنه يصونهم عن شر الأعداء.
جزء : 17 رقم الصفحة : 291
295
/ اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار ، أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولاً سبب إقدامه على تلك الجرائم ، وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين ، فلهذا السبب قال موسى عليه السلام : {رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاه زِينَةً وَأَمْوَالا} والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب ، وأثاث البيت والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق.
ثم قال : {لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وعاصم {لِيُضِلُّوا } بضم الياء وقرأ الباقون بفتح الياء.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يضل الناس ويريد إضلالهم وتقريره من وجهين : الأول : أن اللام في قوله : {لِيُضِلُّوا } لام التعليل ، والمعنى : أن موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا ، فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين. الثاني : أنه قال : {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فقال الله تعالى : {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} وذلك أيضاً يدل على المقصود. قال القاضي : لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه : الأول : أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح وإرادة الكفر قبيحة. والثاني : أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين لله تعالى بسبب كفرهم ، لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب ، والثالث : أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد ، لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهم السلام للدعاء إلى الضلال ، ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم ، وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن والرابع : أنه لا يجوز أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه : 44) وأن يقول : {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف : 130) ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا ، لأن ذلك كالمناقضة ، فلا بد من حمل أحدهما / على موافقة الآخر. الخامس : أنه لا يجوز أن يقال : إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان.
جزء : 17 رقم الصفحة : 295
واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
(1/2401)

وإذا ثبت هذا فنقول : وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه : الأول : أن اللام في قوله {لِيُضِلُّوا } لام العاقبة كقوله تعالى : {فَالْتَقَطَه ا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (القصص : 8) ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال ، وقد أعلمه الله تعالى ، لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ. الثاني : أن قوله : {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ } أي لئلا يضلوا عن سبيلك ، فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا } (النساء : 176) والمراد أن لا تضلوا ، وكقوله تعالى : {قَالُوا بَلَى ا شَهِدْنَآا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} (الأعراف : 172) والمراد لئلا تقولوا ، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام. الثالث : أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال : آتيتهم زينة وأموالاً لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
أراد أكذبتك فكذا ههنا. الرابع : قال بعضهم : هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام ، فيقال ليغفر الله للمؤمنين وليعذب الله الكافرين ، والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك. الخامس : أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سبباً لمزيد البغي والكفر ، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى. السادس : بينا في تفسير قوله تعالى : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا} في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال : الماء في اللبن أي هلك فيه.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ } معناه : ليهلكون ويموتوا ، ونظيره قوله تعالى : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} (التوبة : 55) فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 295
واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مراراً كثيرة في هذا الكتاب ، ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول : الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه : الأول : أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية ، فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده ، علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى.
/ قوله تعالى : {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ {فَمِن نَّفْسِكَ } على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك ، لأنه قلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار ، فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن ، فلعله تعالى إنما قال : {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَاتَّقُوه وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} على سبيل الإنكار والتعجب وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها.
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال : {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى ا أَمْوَالِهِمْ} وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى : {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} (النساء : 47) والطمس هو المسخ. قال ابن عباس رضي الله عنهما : بلغنا أن الدراهم والدنانير ، صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً ، وجعل سكرهم حجارة.
ثم قال : {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان. قال الواحدي : وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك بمن يشاء ، ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال.
ثم قال : {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ} وفيه وجهان : أحدهما : أنه يجوز أن يكون معطوفاً على قوله : {لِيُضِلُّوا } والتقدير : ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله : {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى ا أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يكون اعتراضاً. والثاني : يجوز أن يكون جواباً لقوله : {وَاشْدُدْ} والتقدير : اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا ، فإنها تستحق ذلك.
جزء : 17 رقم الصفحة : 295
(1/2402)

ثم قال تعالى : {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} وفيه وجهان : الأول : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن موسى كان يدعو وهرون كان يؤمن ، فلذلك قال : {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} وذلك لأن من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضاً داع ، لأن قوله آمين تأويله استجب فهو سائل كما أن الداعي سائل أيضاً. الثاني : لا يبعد أن يكون كل واحد منهما ، ذكر هذا الدعاء غاية ما في الباب أن يقال : إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله : {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاه زِينَةً وَأَمْوَالا} إلا أن هذا لا ينافي أن يكون هرون قد ذكر ذلك الدعاء أيضاً.
وأما قوله : {فَاسْتَقِيمَا} يعني فاستقيما على الدعوة والرسالة ، والزيادة في إلزام الحجة فقد لبث / نوح في قومه ألف سنة إلا قليلاً فلا تستعجلا ، قال ابن جريج : إن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة.
وأما قوله : {وَلا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ففيه بحثان :
البحث الأول : المعنى : لا تتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجاباً كان المقصود حاصلاً في الحال ، فربما أجاب الله تعالى دعاء إنسان في مطلوبه ، إلا أنه إنما يوصله إليه في وقته المقدر ، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال ، وهذا كما قال لنوح عليه السلام : {إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (هود : 46).
واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام كما أن قوله : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) لا يدل على صدور الشرك منه.
البحث الثاني : قال الزجاج : قوله : {وَلا تَتَّبِعَآنِّ} موضعه جزم ، والتقدير : ولا تتبعا ، إلا أن النون الشديدة دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها ، وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة ، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية ، وقرأ ابن عامر {وَلا تَتَّبِعَآنِّ} بتخفيف النون.
جزء : 17 رقم الصفحة : 295
298
/ اعلم أن تفسير اللفظ في قوله : {وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل الْبَحْرَ} مذكور في سورة الأعراف ، والمعنى : أنه تعالى لما أجاب دعاءهما أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسر لهم أسبابه ، وفرعون كان غافلاً عن ذلك ، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج على عقبهم وقوله : {فَأَتْبَعَهُمْ} أي لحقهم يقال : أتبعه حتى لحقه ، وقوله : {بَغْيًا وَعَدْوًا } البغي طلب الاستعلاء بغير حق ، والعدو الظلم ، روي أن موسى عليه السلام لما خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر وقرب فرعون مع عسكره منهم ، فوقعوا في خوف شديد ، لأنهم صاروا بين بحر مغرق وجند مهلك ، فأنعم الله عليهم بأن أظهر لهم طريقاً في البحر على ما ذكر الله تعالى هذه القصة بتمامها في سائر السور ، ثم إن موسى عليه السلام مع أصحابه دخلوا وخرجوا وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ، ليطمع فرعون وجوده في التمكن من العبور ، فلما دخل مع جمعه أغرقه الله تعالى بأن أوصل أجزاء الماء ببعضها وأزال الفلق ، فهو معنى قوله : {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه } وبين ما كان في قلوبهم من البغي وهي محبة الإفراط في قتلهم وظلمهم ، والعدو وهوتجاوز الحد ، ثم ذكر تعالى أنه لما أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظناً منه أنه ينجيه من تلك الآفات وههنا سؤالان :
السؤال الأول : أن الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفظ بهذا اللفظ فكيف حكى الله تعالى عنه أنه ذكر ذلك ؟
والجواب : من وجهين : الأول : أن مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو كلام النفس لا كلام اللسان فهو إنما ذكر هذا الكلام بالنفس ، لا بكلام اللسان ، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات كلام النفس لأنه تعالى حكى عنه أنه قال هذا الكلام ، وثبت بالدليل أنه ما قاله باللسان ، فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللسان وهو المطلوب. الثاني : أن يكون المراد من الغرق مقدماته.
جزء : 17 رقم الصفحة : 298
السؤال الثاني : أنه آمن ثلاث مرات أولها قوله : {ءَامَنتُ} وثانيها قوله : {لا إِلَـاهَ إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِه بَنُوا إسرائيل } وثالثها قوله : {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فما السبب في عدم القبول والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد حتى يقال : إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار ؟
والجواب : العلماء ذكروا فيه وجوهاً :
الوجه الأول : أنه إنما آمن عند نزول العذاب ، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول ، لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء ، وفي هذا الحال لا تكون التوبة مقبولة ، ولهذا السبب قال تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 85).
(1/2403)

الوجه الثاني : هو أنه إنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة والمحنة الناجزة ، فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى ، والاعتراف بعزة الربوبية / وذلة العبودية ، وعلى هذا التقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقروناً بالإخلاص ، فلهذا السبب ما كان مقبولاً.
الوجه الثالث : هو أن ذلك الإقرار كان مبنياً على محض التقليد ، ألا ترى أنه قال : {لا إِلَـاهَ إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِه بَنُوا إسرائيل } فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله ، إلا أنه سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلهاً ، فهو أقر بذلك الإله الذي سمع من بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده ، فكان هذا محض التقليد ، فلهذا السبب لم تصر الكلمة مقبولة منه ، ومزيد التحقيق فيه أن فرعون على ما بيناه في سورة {طه} كان من الدهرية ، وكان من المنكرين لوجود الصانع تعالى ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته ، إلا بنو الحجج القطعية ، والدلائل اليقينية ، وأما بالتقليد المحض فهو لا يفيد ، لأنه يكون ضماً لظلمة التقليد إلى ظلمة الجهل السابق.
الوجه الرابع : رأيت في بعض الكتب أن بعض أقوام من بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل ، فلما قال فرعون {أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِه بَنُوا إسرائيل } انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت ، فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر.
الوجه الخامس : أن اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم ولهذا السبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حل في جسد ذلك العجل ونزل فيه ، فلما كان الأمر كذلك وقال فرعون {وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى ا إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِه بَنُوا إسرائيل } فكإنه آمن بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول ، وكل من اعتقد ذلك كان كافراً فلهذا السبب ما صح إيمان فرعون.
جزء : 17 رقم الصفحة : 298
الوجه السادس : لعل الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى ، والإقرار بنبوة موسى عليه السلام. فههنا لما أقر فرعون بالوحدانية ولم يقر بالنبوة لا جرم لم يصح إيمانه. ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمان إلا إذا قال معه وأشهد أن محمداً رسول الله ، فكذا ههنا.
الوجه السابع : روى صاحب "الكشاف" أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا فيها ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته ، فكفر نعمته وجحد حقه ، وادعى السيادة دونه ، فكتب فرعون فيها يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ، ثم إن فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه.
أما قوله تعالى : {ءَآلَْاـانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : من القائل له {ءَآلَْاـانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} .
/ الجواب : الأخبار دالة على أن قائل هذا القول هو جبريل ، وإنما ذكر قوله : {وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} في مقابلة قوله : {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ومن الناس من قال : إن قائل هذا القول هو الله تعالى ، لأنه ذكر بعده {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} إلى قوله : {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً } وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى.
السؤال الثاني : ظاهر اللفظ يدل على أنه إنما لم تقبل توبته للمعصية المتقدمة والفساد السابق ، وصحة هذا التعليل لا تمنع من قبول التوبة.
والجواب : مذهب أصحابنا أن قبول التوبة غير واجب عقلاً ، وأحد دلائلهم على صحة ذلك هذه الآية. وأيضاً فالتعليل ما وقع بمجرد المعصية السابقة ، بل بتلك المعصية مع كونه من المفسدين.
السؤال الثالث : هل يصح أن جبريل عليه السلام أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضباً عليه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 298
(1/2404)

والجواب : الأقرب أنه لا يصح ، لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف كان ثابتاً أو ما كان ثابتاً ، فإن كان ثابتاً لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة/ بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة ، لقوله تعالى : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ا وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الاثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (المائدة : 2) وأيضاً فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة ، لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح ، وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة ، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر ، والرضا بالكفر كفر ، وأيضاً فكيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه : 44) ثم يأمر جبريل عليه السلام بأن يمنعه من الإيمان ، ولو قيل : إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى ، فهذا يبطله قول جبريل {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } (مريم : 64) وقوله تعالى في صفتهم : {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِه مُشْفِقُونَ} (الأنبياء : 28) وقوله : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ} (الأنبياء : 27) وأما إن قيل : إن التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت ، فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبريل إليه فائدة أصلاً.
ثم قال تعالى : {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} وفيه وجوه : الأول : {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع. الثاني : نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ، ولكن بعد أن تغرق. وقوله : {بِبَدَنِكَ} في موضع الحال ، أي في الحال التي أنت فيه حينئذ لا روح فيك. الثالث : أن هذا وعد له بالنجاة على سبيل التهكم ، كما في قوله : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران : 21) كأنه قيل له ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك ، ومثل هذا الكلام قد / يذكر على سبيل الاستهزاء كما يقال : نعتقك ولكن بعد الموت ، ونخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت. الرابع : قرأ بعضهم {نُنَجِّيكَ} بالحاء المهملة ، أي نلقيك بناحية مما يلي البحر ، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب البحر. قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور.
جزء : 17 رقم الصفحة : 298
وأما قوله : {بِبَدَنِكَ} ففيه وجوه : الأول : ما ذكرنا أنه في موضع الحال ، أي في الحال التي كنت بدناً محضاً من غير روح. الثاني : المراد ننجيك ببدنك كاملاً سوياً لم تتغير. الثالث : {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس. الرابع : {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي بدرعك ، قال الليث : البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين ، فقوله : {بِبَدَنِكَ} أي بدرعك ، وهذا منقول عن ابن عباس قال : كان عليه درع من ذهب يعرف بها ، فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف. أقول : إن صح هذا فقد كان ذلك معجزة لموسى عليه السلام.
وأما قوله : {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً } ففيه وجوه : الأول : أن قوماً ممن اعتقدوا فيه الإلهية لما لم يشاهدوا غرقه كذبوا بذلك وزعموا أن مثله لا يموت ، فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى شاهدوه وزالت الشبهة عن قلوبهم. وقيل كان مطرحه على ممر بني إسرائيل. الثاني : لا يبعد أنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } (النازعات : 24) ليكون ذلك زجراً للخلق عن مثل طريقته ، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة ثم آل أمره إلى ما يرون. الثالث : قرأ بعضهم {خَلَقَكَ} بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته. الرابع : أنه تعالى لما أغرقه مع جميع قومه ثم إنه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قعر البحر ، بل خصه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة العجيبة دالاً على كمال قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة.
وأما قوله : {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً } فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام وخاطب به محمداً عليه الصلاة والسلام فيكون ذلك زاجراً لأمته عن الإعراض عن الدلائل ، وباعثاً لهم على التأمل فيها والاعتبار بها ، فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار ، كما قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } (يوسف : 111).
جزء : 17 رقم الصفحة : 298
299
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده ، ذكر أيضاً في هذه الآية ما وقع عليه الختم في أمر بني إسرائيل ، وههنا بحثان :
(1/2405)

البحث الأول : أن قوله : {بَوَّأْنَا بَنِى إسرائيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي أسكناهم مكان صدق أي مكاناً محموداً ، وقوله : {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} فيه وجهان : الأول : يجوز أن يكون مبوأ صدق مصدراً ، أي بوأناهم تبوأ صدق. الثاني : أن يكون المعنى منزلاً صالحاً مرضياً ، وإنما وصف المبوأ بكونه صدقاً ، لأن عادة العرب أنها إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق تقول : رجل صدق ، وقدم صدق. قال تعالى : {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} (الإسراء : 80) والسبب فيه أن ذلك الشيء إذا كان كاملاً في وقت صالحاً للغرض المطلوب منه ، فكل ما يظن فيه من الخبر ، فإنه لا بد وأن يصدق ذلك الظن.
البحث الثاني : اختلفوا في أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية أهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام أم الذين كانوا في زمن محمد عليه السلام.
أما القول الأول : فقد قال به قوم ودليلهم أنه تعالى لما ذكر هذه الآية عقيب قصة موسى عليه السلام كان حمل هذه الآية على أحوالهم أولى ، وعلى هذا التقدير : كان المراد بقوله : {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إسرائيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ} الشام ومصر ، وتلك البلاد فإنها بلاد كثيرة الخصب. قال تعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا الَّذِى بَـارَكْنَا حَوْلَه } (الإسراء : 1) والمراد من قوله : {وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} تلك المنافع ، وأيضاً المراد منها أنه تعالى أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق والصامت والحرث والنسل ، كما قال : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا} (الأعراف : 137).
جزء : 17 رقم الصفحة : 299
ثم قال تعالى : {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} والمراد أن قوم موسى عليه السلام بقوا على ملة واحدة ومقالة واحدة من غير اختلاف حتى قرؤا التوراة ، فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع / الاختلاف بينهم. ثم بين تعالى أن هذا النوع من الاختلاف لا بد وأن يبقى في دار الدنيا ، وأنه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة.
وأما القول الثاني : وهو أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام فهذا قال به قوم عظيم من المفسرين. قال ابن عباس : وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من الطيبات ، والمراد ما في تلك البلاد من الرطب والتمر التي ليس مثلها طيباً في البلاد ، ثم إنهم بقوا على دينهم ، ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم العلم ، والمراد من العلم القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام ، وإنما سماه علماً ، لأنه سبب العلم وتسمية السبب باسم المسبب مجاز مشهور. وفي كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان : الأول : أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام ويفتخرون به على سائر الناس ، فلما بعثه الله تعالى كذبوه حسداً وبغياً وإيثاراً لبقاء الرياسة وآمن به طائفة منهم ، فبهذا الطريق صار نزول القرآن سبباً لحدوث الاختلاف فيهم. الثاني : أن يقال : إن هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلية وبقوا على هذه الحالة حتى جاءهم العلم ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي أقوام آخرون على كفرهم.
وأما قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فالمراد منه أن هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في دار الدنيا ، وأنه تعالى في الآخرة يقضي بينهم ، فيتميز المحق من المبطل والصديق من الزنديق.
جزء : 17 رقم الصفحة : 299
302
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل اختلافهم عند ما جاءهم العلم أورد على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية ما يقوي قلبه في صحة القرآن والنبوة ، فقال تعالى : {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي الشك في وضع اللغة ، ضم بعض الشيء إلى بعض ، يقال : شك الجواهر في العقد إذا ضم بعضها إلى بعض. ويقال شككت الصيد إذا رميته فضممت يده أو رجله إلى رجله والشكائك من الهوادج ما شك بعضها ببعض والشكاك البيوت المصطفة والشكائك الأدعياء ، لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم ، أي يضمون ، وشك الرجل في السلاح ، إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه وألزمه إياها ، فإذا قالوا : شك فلان في الأمور أرادوا أنه وقف نفسه بين شيئين ، فيجوز هذا ، ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه.
المسألة الثانية : اختلف المفسرون : في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو ؟
فقيل النبي عليه الصلاة والسلام. وقيل غيره ، أما من قال بالأول : فاختلفوا على وجوه.
(1/2406)

الوجه الأول : أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر ، والمراد غيره كقوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } (الأحزاب : 1) وكقوله : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) وكقوله : {اللَّهُ يَـاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} (المائدة : 116) ومن الأمثلة المشهورة : إياك أعني واسمعي يا جاره.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه : الأول : قوله تعالى في آخر السورة {قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى} (يونس : 104) فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز ، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني : أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية. والثالث : أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه ، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار ، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل ، فالكل مصحف محرف ، فثبت أن الحق هو أن الخطاب ، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلّم إلا أن المراد هو الأمة ، ومثل هذا معتاد ، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير ، / وكان تحت راية ذلك الأمير جمع ، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص ، فإنه لا يوجه خطابه عليهم ، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 302
الوجه الثاني : أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك ، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام ، فإنه يصرح ويقول : "يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة" ونظيره قوله تعالى للملائكة : {أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (سبأ : 40) أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا : {سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } (سبأ : 41) وكما قال لعيسى عليه السلام : {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّه قَالَ} (المائدة : 116) والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا.
الوجه الثالث : هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر ، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات ، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات ، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس ، ونظيره قوله تعالى : {فَلَعَلَّكَ تَارِكُا بَعْضَ مَا يُوحَى ا إِلَيْكَ وَضَآئِقُا بِه صَدْرُكَ} (هود : 12) وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله : {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع. ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع ، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط ، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين ، فهو كلام حق ، لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين ، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية ، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا ، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع ، فليس في الآية دلالة عليه ، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر ، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.
والوجه الرابع : في تقرير هذا المعنى أن تقول : المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان ، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى ، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات ، وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى : {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل ، يعني أولى الناس بأن لا يشك / في نبوته هو نفسه ، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب. ولا يحصل بسببه نقصان ، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى ، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.
جزء : 17 رقم الصفحة : 302
(1/2407)

الوجه الخامس : أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة. ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً ، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا. ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.
الوجه السادس : قال الزجاج : إن الله خاطب الرسول في قوله : {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} وهو شامل للخلق وهو كقوله : {الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} (الطلاق : 1) قال : وهذا أحسن الأقاويل ، قال القاضي : هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال ، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره ، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر ، ثم قال : ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.
الوجه السابع : هو أن لفظ {ءَانٍ} في قوله : {إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ} للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة ، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه ، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته ، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع ، كما في قوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِى خَلَقَكَ} (الانفطار : 6 ، 7) و{وَحُقَّتْ * يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} (الانشقاق : 6) وقوله : {فَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ} (الزمر : 49) ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه ، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال : {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 302
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله : {فَسْـاَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَـابَ} من هم ؟
فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام ، وعبدالله بن صوريا ، وتميم / الداري ، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم ، ومنهم من قال : الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار ، لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤا آية من التوراة والإنجيل ، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلّم فقد حصل الغرض.
فإن قيل : إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير ، فكيف يمكن التعويل عليها.
قلنا : إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، لأنها لما بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دل ذلك على أنها كانت في غاية الظهور ، وأما أن المقصود من ذلك السؤال معرفة أي الأشياء ، ففيه قولان : الأول : أنه القرآن ومعرفة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلّم. والثاني : أنه رجع ذلك إلى قوله تعالى : {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} (يونس : 93) والأول أولى ، لأنه هو الأهم والحاجة إلى معرفته أتم. واعلم أنه تعالى لما بين هذا الطريق قال بعده : {لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ} أي فأثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك ، وانتفاء التكذيب بآيات الله ، ويجوز أن يكون ذلك على طريق التهييج وإظهار التشدد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عند نزوله "لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق".
ثم قال : {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه لَكُنتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} .
واعلم أن فرق المكلفين ثلاثة ، إما أن يكون من المصدقين بالرسول ، أو من المتوقفين في صدقه ، أو من المكذبين ، ولا شك أن أمر المتوقف أسهل من أمر المكذب ، لا جرم قد ذكر المتوقف بقوله : {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ثم أتبعه بذكر المكذب ، وبين أنه من الخاسرين ، ثم إنه تعالى لما فصل هذا التفصيل ، بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء فلا يتغيرون وعباداً قضى لهم بالكرامة ، فلا يتغيرون ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} وفيه مسائل :
جزء : 17 رقم الصفحة : 302
(1/2408)

المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر : كلمات على الجمع ، وقرأ الباقون : كلمة على لفظ الواحد ، وأقول إنها كلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة واحدة بحسب الواحدة الجنسية.
المسألة الثانية : المراد من هذه الكلمة حكم الله بذلك وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة والداعية ، الذي هو موجب لحصول ذلك الأثر ، أما الحكم والأخبار والعلم فظاهر ، وأما مجموع / القدرة والداعي فظاهر أيضاً ، لأن القدرة لما كانت صالحة للطرفين لم يترجح أحد الجانبين على الآخر إلا لمرجح ، وذلك المرجح من الله تعالى قطعاً للتسلسل ، وعند حصول هذا المجموع يجب الفعل ، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب وهو حق وصدق ولا محيص عنه.
ثم قال تعالى : {وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ} والمراد أنهم لا يؤمنون ألبتة ، ولو جاءتهم الدلائل التي لا حد لها ولا حصر ، وذلك لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى فإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل.
القصة الثالثة
من القصص المذكورة في هذه السورة ، قصة يونس عليه السلام
جزء : 17 رقم الصفحة : 302
304
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ} (يونس : 96 ، 97) أتبعه بهذه الآية ، لأنها دالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم وانتفعوا بذلك الإيمان ، وذلك يدل على أن الكفار فريقان : منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر ، ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان وكل ما قضى الله به فهو واقع. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كلمة {لَوْلا} في هذه الآية طريقان :
الطريق الأول : أن معناه النفي ، روى الواحدي في "البسيط" قال : قال أبو مالك صاحب ابن عباس كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر لولا ، فمعناه هلا ، إلا حرفين ، {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَـانُهَآ} معناه فما كانت قرية آمنت ، فنفعها إيمانها ، وكذلك {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ} (هود : 116) معناه ، فما كان من القرون ، فعلى هذا تقدير الآية ، فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس. وانتصب قوله : {إِلا قَوْمَ يُونُسَ} على أنه استثناء منقطع عن الأول ، لأن أول الكلام جرى على القرية ، وإن كان المراد أهلها ووقع استثناء القول من القرية ، فكان كقوله :
/ وما بالربع من أحد
ألاأواري
وقرىء أيضاً بالرفع على البدل.
الطريق الثاني : أن {لَوْلا} معناه هلا ، والمعنى هلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت في الإيمان قبل معاينة العذاب إلا قوم يونس. وظاهر اللفظ يقتضي استثناء قوم يونس من القرى ، إلا أن المعنى استثناء قوم يونس من أهل القرى ، وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا.
المسألة الثانية : روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً ، فلما فقدوه خافوا نزول العقاب ، فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة ، وكان يونس قال لهم إن أجلكم أربعون ليلة. فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود شديد السواد ، فظهر منه دخان شديد وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة وسود سطوحهم فخرجوا إلى الصحراء ، وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض فعلت الأصوات ، وكثرت التضرعات وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم ، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود بلغ من توبتهم أن يردوا المظالم حتى أن الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه فيرده إلى مالكه ، وقيل خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟
فقال لهم قولوا يا حي حين لاحي. ويا حي يا محيي الموتى. ويا حي لا إله إلا أنت ، فقالوا فكشف الله العذاب عنهم ، وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله.
جزء : 17 رقم الصفحة : 304
المسألة الثالثة : إن قال قائل إنه تعالى حكى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته وحكى عن قوم يونس أنهم تابوا وقبل توبتهم فما الفرق ؟
والجواب : أن فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب/ وأما قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك فإنهم لما ظهرت لهم أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن شاهدوا فظهر الفرق.
جزء : 17 رقم الصفحة : 304
المسألة الثالثة : إن قال قائل إنه تعالى حكى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته وحكى عن قوم يونس أنهم تابوا وقبل توبتهم فما الفرق ؟
(1/2409)

والجواب : أن فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب/ وأما قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك فإنهم لما ظهرت لهم أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن شاهدوا فظهر الفرق.
جزء : 17 رقم الصفحة : 304
306
/ اعلم أن هذه السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان حكاية شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين ، وبعد اتباعه إن الله ينصرهم ويعلي شأنهم ويقوي جانبهم ، ثم إن الكفار ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد ، ثم ضرب لهذا أمثلة وهي واقعة نوح وواقعة موسى عليهما السلام مع فرعون وامتدت هذه البيانات إلى هذه المقامات ، ثم في هذه الآية بين أن جد الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ومبالغته في تقرير الدلائل ، وفي الجواب عن الشبهات لا تفيد ، لأن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته ، فإذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن جميع الكائنات بمشيئة الله تعالى ، فقالوا كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لامَنَ مَن فِى الارْضِ كُلُّهُمْ} يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل ، أجاب الجبائي والقاضي وغيرهما بأن المراد مشيئة الإلجاء ، أي لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ولصح ذلك منه ، ولكنه ما فعل ذلك ، لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة ، ثم قال الجبائي : ومعنى إلجاء الله تعالى إياهم إلى ذلك ، أن يعرفهم اضطراراً أنهم لو حاولوا تركه ، حال الله بينهم وبين ذلك وعند هذا لا بد وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه كما أن من علم منا أنه إن حاول قتل ملك فإنه يمنعه منه قهراً لم يكن تركه لذلك الفعل سبباً لاستحقاق المدح والثواب فكذا ههنا.
جزء : 17 رقم الصفحة : 306
واعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه : الأول : أن الكافر كان قادراً على الكفر فهل كان قادراً على الإيمان ، أو ما كان قادراً عليه ؟
فإن قدر على الكفر ولم يقدر على الإيمان فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم / أن يقال إنه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر فوجب أن يقال إنه أراد منه الكفر وأما إن كانت القدرة صالحة للضدين كما هو مذهب القوم ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن لم يتوقف على المرجح فقد حصل الرجحان لا لمرجح وهذا باطل ، وإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من الله فإن كان من العبد عاد التقسيم فيه ولزم التسلسل وهو محال ، وإن كان من الله تعالى فحينئذ يكون مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية موجباً لذلك الكفر فإذا كان خالق القدرة والداعية هو الله تعالى فحينئذ عاد الإلزام. الثاني : أن قوله : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ} لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم ما كان يطلب أن يحصل لهم إيمان لا يفيدهم في الآخرة ، فبين تعالى أنه لا قدرة للرسول على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لامَنَ مَن فِى الارْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } فوجب أن يكون المراد من الإيمان المذكور في هذه الآية هو هذا الإيمان النافع حتى يكون الكلام منتظماً/ فأما حمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء فإنه لا يليق بهذا الموضع. الثالث : المراد بهذا الإلجاء ، إما أن يكون هو أن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، ثم يأتي بالإيمان عندها. وإما أن يكون المراد خلق الإيمان فيهم. والأول باطل ، لأنه تعالى بين فيما قبل هذه الآية أن إنزال هذه الآيات لا يفيد وهو قوله : {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ} (يونس : 96 ، 97) وقال أيضاً : {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} (الأنعام : 111) وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان ذلك عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، ثم يقال لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدل على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم وهذا عين مذهبنا.
جزء : 17 رقم الصفحة : 306
(1/2410)

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال : {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد ، والمقصود منه بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا على صحة قولهم أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع بقوله : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّه } قالوا وجه الاستدلال به أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان ، ثم قالوا : والذي يدل عليه من جهة العقل وجوه : الأول : أن معرفة الله تعالى والاشتغال بشكره والثناء عليه لا يدل العقل على حصول نفع فيه ، فوجب أن لا يجب ذلك بحسب العقل ، بيان الأول أن ذلك النفع إما أن يكون عائداً إلى المشكور أو إلى الشاكر والأول باطل لأن / في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران ، فلا جرم كان الشكر حسناً والكفران قبيحاً ، أما الله سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران ، فلا ينتفع بهذا الشكر أصلاً. والثاني : أيضاً باطل لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة مع أن المشكور لا ينتفع به ألبتة ولا يمكن أن يقال إن ذلك الشكر علة الثواب ، لأن الاستحقاق على الله تعالى محال فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه ، ولما كان الحق سبحانه منزهاً عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه ، فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر ، لا يفيد نفعاً بحسب العقل المحض وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجباً له ، فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّه } قال القاضي : المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله أو بتكليفه أو بإقداره عليه.
وجوابنا : أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر وذلك لا يجوز ، لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا.
المسألة الثالثة : قرأ أبو بكر عن عاصم {وَنَجْعَلُ} بالنون وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم الله تعالى.
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى : {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح قال تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب : 33) والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح ، سواء كان كفراً أو معصية ، وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة ، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه ، ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه. والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر ، فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من الله تعالى.
جزء : 17 رقم الصفحة : 306
أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرجس ، يحتمل وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب ، فقوله : {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} أي يلحق العذاب بهم كما قال : {وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ} (الفتح : 6) والثاني : أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة : 28) والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.
والجواب : أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلاً للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد / إلى تكوينه ، وإنما يريد ضده ، وإنما قصد إلى تحصيل ضده ، فلو كان به لما حصل إلا ما قصده وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب. وأما حمل الرجس على العذاب ، فهو باطل ، لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره ، فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقاً صدقاً صواباً ، وأما حمل لفظ الرجس على حكم الله برجاستهم ، فهو في غاية البعد ، لأن حكم الله تعالى بذلك صفته ، فكيف يجوز أن يقال إن صفة الله رجس ، فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 306
307
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة {قُلِ انظُرُوا } بكسر اللام لالتقاء الساكنين والأصل فيه الكسر ، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللام.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته ، أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض. فقال : {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } .
(1/2411)

واعلم أن هذا يدل على مطلوبين : الأول : أنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بالتدبر في الدلائل كما قال عليه الصلاة والسلام : "تفكروا في الخلق ولاتتفكروا في الخلق" والثاني : وهو أن الدلائل إما أن تكون من عالم السموات أو من عالم الأرض ، أما الدلائل السماوية ، فهي حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب ، وما يختص به كل واحد منها من المنافع والفوائد ، وأما الدلائل الأرضية ، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية ، وفي أحوال المعادن وأحوال النبات وأحوال الإنسان خاصة ، ثم ينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها. ولو أن الإنسان أخذ يتفكر في كيفية حكمة الله سبحانه في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقله قبل أن يصل إلى أقل مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد. ولا شك أن الله سبحانه أكثر من ذكر هذه الدلائل في القرآن المجيد ، فلهذا السبب ذكر قوله : {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } ولم يذكر التفصيل ، فكأنه تعالى نبه على القاعدة الكلية ، حتى أن العاقل يتنبه لأقسامها وحينئذ يشرع في تفصيل حكمة كل واحد منها بقدر القوة العقلية والبشرية ، ثم إنه تعالى لما أمر بهذا التفكر والتأمل بين بعد ذلك أن هذا التفكر والتدبر في هذه الآيات لا ينفع في حق من حكم الله تعالى عليه في الأزل بالشقاء والضلال ، فقال : {وَمَا تُغْنِى الايَـاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال النحويون : {مَّآ} في هذا الموضع تحتمل وجهين : الأول : أن تكون نفياً بمعنى أن هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله عليه بأنه لا يؤمن ، كقولك : ما يغني عنك المال إذا لم تنفق. والثاني : أن تكون استفهاماً كقولك : أي شيء يغني عنهم ، وهو استفهام بمعنى الإنكار.
جزء : 17 رقم الصفحة : 307
المسألة الثانية : الآيات هي الدلائل ، والنذر الرسل المنذرون أو الإنذارات.
المسألة الثالثة : قرىء {وَمَا يُغْنِى} بالياء من تحت.
جزء : 17 رقم الصفحة : 307
308
واعلم أن المعنى هل ينتظرون إلا أياماً مثل أيام الأمم الماضية ، والمراد أن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كانوا يتوعدون كفار زمانهم بمجيء أيام مشتملة على أنواع العذاب ، وهم كانوا يكذبون بها ويستعجلونها على سبيل السخرية ، وكذلك الكفار الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا كانوا يفعلون. ثم إنه تعالى أمره بأن يقول لهم : {فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} ثم إنه تعالى قال : {ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الكسائي في رواية نصير {نُنَجِّى} خفيفة ، وقرأ الباقون : مشددة وهما لغتان وكذلك في قوله : {نُـاجِى الْمُؤْمِنِينَ} .
/ المسألة الثانية : ثم حرف عطف ، وتقدير الكلام كانت عادتنا فيما مضى أن نهلكهم سريعاً ثم ننجي رسلنا.
المسألة الثالثة : لما أمر الرسول في الآية الأولى أن يوافق الكفار في انتظار العذاب ذكر التفصيل فقال : العذاب لا ينزل إلا على الكفار وأما الرسول وأتباعه فهم أهل النجاة.
ثم قال : {كَذَالِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : أي مثل ذلك الإنجاء ننصر المؤمنين ونهلك المشركين وحقاً علينا اعتراض ، يعني حق ذلك علينا حقاً.
المسألة الثانية : قال القاضي قوله : {حَقًّا عَلَيْنَا} المراد به الوجوب ، لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ولولاه لما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشاقة وإذا ثبت وجوبه لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدم.
والجواب : أنا نقول إنه حق بسبب الوعد والحكم ، ولا نقول إنه حق بسبب الاستحقاق ، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً.
جزء : 17 رقم الصفحة : 308
309
/ واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات ، أمر رسوله بإظهار دينه وبإظهار المباينة عن المشركين ، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره وتخرج عبادة الله من طريقة السر إلى الإظهار فقال : {قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى} واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن هؤلاء الكفار ما كانوا يعرفون دين رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وفي الخبر إنهم كانوا يقولون فيه قد صبأ وهو صابىء فأمر الله تعالى أن يبين لهم أنه على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً لقوله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا} (النحل : 120) ولقوله : {وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ حَنِيفًا } (الأنعام : 79) ولقوله : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون : 2) والمعنى : أنكم إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل ثم ذكر فيه أموراً.
(1/2412)

فالقيد الأول : قوله : {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} وإنما وجب تقديم هذا النفي لما ذكرنا أن إزالة النقوش الفاسدة عن اللوح لا بد وأن تكون مقدمة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللوح ، وإنما وجب هذا النفي لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن حصلت له غاية الجلال والإكرام ، وأما الأوثان فإنها أحجار والإنسان أشرف حالاً منها ، وكيف يليق بالأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس.
القيد الثاني : قوله : {وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُمْ } والمقصود أنه لما بين أنه يجب ترك عبادة غير الله ، بين أنه يجب الاشتغال بعبادة الله.
فإن قيل : ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصفة وهي قوله : {الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 309
قلنا فيه وجوه الأول : يحتمل أن يكون المراد أني أعبد الله الذي خلقكم أولاً ثم يتوفاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً ، وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مراراً وأطواراً فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبهاً على البواقي. الثاني : أن الموت أشد الأشياء مهابة ، فنخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام ، ليكون أقوى في الزجر والردع. الثالث : أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى : {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِم قُلْ فَانتَظِرُوا إِنَّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } (يونس : 102 ، 103) فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا : {وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُمْ } وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول : أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وبإبقائي.
والقيد الثالث : من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله : {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} / واعلم أنه لما ذكر العبادة وهي من جنس أعمال الجوارح انتقل منها إلى الإيمان والمعرفة/ وهذا يدل على أنه ما لم يصر الظاهر مزيناً بالأعمال الصالحة ، فإنه لا يحصل في القلب نور الإيمان والمعرفة.
والقيد الرابع : قوله : {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الواو في قوله : {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} حرف عطف وفي المعطوف عليه وجهان : الأول : أن قوله : {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ} قائم مقام قوله وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} الثاني : أن قوله : {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} قائم مقام قوله : {وَأُمِرْتُ} بإقامة الوجه ، فصار التقدير وأمرت بأن أكون من المؤمنين وبإقامة الوجه للدين حنيفاً.
المسألة الثانية : إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين ، لأن من يريد أن ينظر إلى شيء نظراً بالاستقصاء ، فإنه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه لا بالقليل ولا بالكثير ، لأنه لو صرفه عنه ، ولو بالقليل فقد بطلت تلك المقابلة ، وإذا بطلت تلك المقابلة ، فقد اختل الأبصار ، فلهذا السبب حسن جعل إقامة الوجه للدين كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين ، وقوله : {حَنِيفًا} أي مائلاً إليه ميلاً كلياً معرضاً عما سواه إعراضاً كلياً ، وحاصل هذا الكلام هو الإخلاص التام ، وترك الالتفات إلى غيره ، فقوله أولاً : {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان ، وقوله : {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 309
والقيد الخامس : قوله : {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
واعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا نهياً عن عبادة الأوثان ، لأن ذلك صار مذكوراً بقوله تعالى في هذه الآية : {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة وهو أن من عرف مولاه ، فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً ، وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي.
والقيد السادس : قوله تعالى : {وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق ، وإذا كان كذلك فما سوى الحق فلا وجود له إلا إيجاد الحق ، وعلى هذا التقدير فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا الحق ، فكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك ، فلا حكم إلا لله ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله.
(1/2413)

ثم قال في آخر الآية : {فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين ، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، فإذا كان ما سوى / الحق معزولاً عن التصرف ، كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً.
فإن قيل : فطلب الشبع من الأكل والري من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص ؟
قلنا : لا لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وتكوينه ، وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله للانتفاع به لا يكون منافياً للرجوع بالكلية إلى الله ، إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الحق وهالكة بأنفسها وباقية بإبقاء الحق ، فحينئذ يرى ما سوى الحق عدماً محضاً بحسب أنفسها ويرى نور وجوده وفيض إحسانه عالياً علي الكل.
جزء : 17 رقم الصفحة : 309
310
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه سبحانه وتعالى قرر في آخر هذه السورة أن جميع الممكنات مستندة إليه وجميع الكائنات محتاجة إليه ، والعقول والهة فيه ، والرحمة والجود والوجود فائض منه.
واعلم أن الشيء إما أن يكون ضاراً وإما أن يكون نافعاً ، وإما أن يكون لا ضاراً ولا نافعاً ، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير ، ولما كان الضر أمراً وجودياً لا جرم قال فيه : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} ولما كان الخير قد يكون وجودياً وقد يكون عدمياً ، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال : {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} والآية دالة على أن الضر والخير واقعان بقدرة الله تعالى وبقضائه فيدخل فيه الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والسرور والآفات والخيرات والآلام واللذات والراحات والجراحات ، فبين سبحانه وتعالى أنه إن قضى لأحد شراً فلا كاشف له إلا هو ، وإن قضى لأحد خيراً فلا راد لفضله ألبتة ثم في الآية دقيقة أخرى ، وهي أنه تعالى رجح جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه : الأول : أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو ، وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار ، لأن الاستثناء من النفي إثبات ، ولما ذكر الخير لم / يقل بأنه يدفعه بل قال إنه لا راد لفضله ، وذلك يدل على أن الخير مطلوب بالذات ، وأن الشر مطلوب بالعرض كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم رواية عن رب العزة أنه قال : "سبقت رحمتي غضبي" الثاني : أنه تعالى قال في صفة الخير : {يُصِيبُ بِه مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } وذلك يدل على أن جانب الخير والرحمة أقوى وأغلب. والثالث : أنه قال : {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وهذا أيضاً يدل على قوة جانب الرحمة وحاصل الكلام في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى بين أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع ، وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه ، ثم نبه على أن الخير مراد بالذات ، والشر مراد بالعرض وتحت هذا الباب أسرار عميقة ، فهذا ما نقوله في هذه الآية.
المسألة الثانية : قال المفسرون : إنه تعالى لما بين في الآية الأولى في صفة الأصنام أنها لا تضر ولا تنفع ، بين في هذه الآية أنها لا تقدر أيضاً على دفع الضرر الواصل من الغير ، وعلى الخير الواصل من الغير. قال ابن عباس رضي الله عنهما : {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُه ا وَتِلْكَ الايَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} يعني بمرض وفقر فلا دافع له إلا هو.
جزء : 17 رقم الصفحة : 310
وأما قوله : {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} فقال الواحدي : هو من المقلوب معناه وإن يرد بك الخير ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر ، وأقول التقديم في اللفظ يدل على زيادة العناية فقوله : {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} يدل على أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله ، فهذه الدقيقة لا تستفاد إلا من هذا التركيب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 310
312

واعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوة والمعاد وزين آخر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مستبداً بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع ، ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية ، وفي تفسيرها وجهان : الأول : أنه من حكم له في الأزل بالاهتداء ، فسيقع له ذلك ، ومن حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه. الثاني : وهو الكلام اللائق بالمعتزلة قال القاضي : إنه تعالى بين أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه ا وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} فلا يجب علي من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم ، وفي تخليصكم من العذاب الأليم أزيد مما فعلت. قال ابن عباس : هذه الآية منسوخة بآية القتال.
ثم إنه تعالى ختم هذه الخاتمة بخاتمة أخرى لطيفة فقال : {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى ا إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّه وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} .
والمعنى أنه تعالى أمره باتباع الوحي والتنزيل ، فإن وصل إليه بسبب ذلك الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله فيه وهو خير الحاكمين. وأنشد بعضهم في الصبر شعراً فقال :
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري
وأصبر حتى يحكم الله في أمري
أصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمر من الصبر
جزء : 17 رقم الصفحة : 312
312
(1/2414)

سورة هود
مكية ، إلا الآيات : 12 و17 و114 فمدنية
وآياتها 123 نزلت بعد سورة يونس
جزء : 17 رقم الصفحة : 312
314
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله {الر} اسم للسورة وهو مبتدأ. وقوله {كِتَابٌ} خبره ، وقوله : {الارا كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُه } صفة للكتاب. قال الزجاج : لا يجوز أن يقال : {الر} مبتدأ ، وقوله : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ} خبر ، لأن {الر} ليس هو الموصوف بهذه الصفة وحده ؛ وهذا الاعتراض فاسد ، لأنه ليس من شرط كون الشيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ، ولا أدري كيف وقع للزجاج هذا السؤال ، ثم إن الزجاج اختار قولاً آخر وهو أن يكون التقدير : الر هذا كتاب أحكمت آياته ، وعندي أن هذا القول ضعيف لوجهين : الأول : أن على هذا التقدير يقع قوله : {الر} كلاماً باطلاً لا فائدة فيه ، والثاني : أنك إذا قلت هذا كتاب ، فقوله : "هذا" يكون إشارة إلى أقرب المذكورات ، وذلك هو قوله : {الر} فيصير حينئذ {الر} مخبراً عنه بأنه كتاب أحكمت / آياته ، فيلزمه على هذا القول ما لم يرض به في القول الأول ، فثبت أن الصواب ما ذكرناه.
المسألة الثانية : في قوله : {الارا كِتَابٌ} وجوه : الأول : {الارا كِتَابٌ} نظمت نظماً رصيفاً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل ، كالبناء المحكم المرصف. الثاني : أن الإحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء. فقوله : {الارا كِتَابٌ} أي لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها.
واعلم أن على هذا الوجه لا يكون كل الكتاب محكماً ، لأنه حصل فيه آيات منسوخة ، إلا أنه لما كان الغالب كذلك صح إطلاق هذا الوصف عليه إجراء للحكم الثابت في الغالب مجرى الحكم الثابت في الكل. الثالث : قال صاحب "الكشاف" {أُحْكِمَتْ} يجوز أن يكون نقلاً بالهمزة من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً ، أي جعلت حكيمة ، كقوله : {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ} (يونس : 1) الرابع : جعلت آياته محكمة في أمور : أحدها : أن معاني هذا الكتاب هي التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والمعاد ، وهذه المعاني لا تقبل النسخ ، فهي في غاية الإحكام ، وثانيها : أن الآيات الواردة فيه غير متناقضة ، والتناقض ضد الإحكام فإذا خلت آياته عن التناقض فقد حصل الإحكام. وثالثها : أن ألفاظ هذه الآيات بلغت في الفصاحة والجزالة إلى حيث لا تقبل المعارضة ، وهذا أيضاً مشعر بالقوة والإحكام. ورابعها : أن العلوم الدينية إما نظرية وإما عملية. أما النظرية فهي معرفة الإله تعالى ومعرفة الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ، وهذا الكتاب مشتمل على شرائف هذه العلوم ولطائفها ، وأما العملية فهي إما أن تكون عبارة عن تهذيب الأعمال الظاهرة وهو الفقه ، أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علم التصفية ورياضة النفس ، ولا نجد كتاباً في العالم يساوي هذا الكتاب في هذه المطالب ، فثبت أن هذا الكتاب مشتمل على أشرف المطالب الروحانية وأعلى المباحث الإلهية ، فكان كتاباً محكماً غير قابل للنقض والهدم. وتمام الكلام في تفسير المحكم ذكرناه في تفسير قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} (آل عمران : 7).
جزء : 17 رقم الصفحة : 314
(1/2415)

المسألة الثالثة : في قوله : {فُصِّلَتْ} وجوه : أحدها : أن هذا الكتاب فصل كما تفصل الدلائل بالفوائد الروحانية ، وهي دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص. والثاني : أنها جعلت فصولاً سورة سورة ، وآية آية. الثالث : {فُصِّلَتْ} بمعنى أنها فرقت في التنزيل وما نزلت جملة واحدة ، ونظيره قوله تعالى : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَـاتٍ مُفَصَّلَـاتٍ} (الأعراف : 133) والمعنى مجيء هذه الآيات متفرقة متعاقبة. الرابع : فصل ما يحتاج إليه العباد أي جعلت مبينة ملخصة. الخامس : جعلت فصولاً حلالاً وحراماً ، وأمثالاً وترغيباً ، وترهيباً ومواعظ ، وأمراً ونهياً لكل معنى فيها فصل ، قد أفرد به غير مختلط بغيره حتى تستكمل فوائد كل واحد منها ، / ويحصل الوقوف على كل باب واحد منها على الوجه الأكمل.
المسألة الرابعة : معنى {ثُمَّ} في قوله : {ثُمَّ فُصِّلَتْ} ليس للتراخي في الوقت ، لكن في الحال كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وكما تقول : فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
المسألة الخامسة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {الارا كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُه } أي أحكمتها أنا ثم فصلتها ، وعن عكرمة والضحاك {ثُمَّ فُصِّلَتْ} أي فرقت بين الحق والباطل.
المسألة السادسة : احتج الجبائي بهذه الآية على أن القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه : الأول : قال المحكم : هو الذي أتقنه فاعله ، ولولا أن الله تعالى يحدث هذا القرآن وإلا لم يصح ذلك لأن الإحكام لا يكون إلا في الأفعال ، ولا يجوز أن يقال : كان موجوداً غير محكم ثم جعله الله محكماً ، لأن هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً أن يكون محدثاً ، ولم يقل أحد بأن القرآن بعضه قديم وبعضه محدث. الثاني : أن قوله : {ثُمَّ فُصِّلَتْ} يدل على أنه حصل فيه انفصال وافتراق ، ويدل على أن ذلك الانفصال والافتراق إنما حصل بجعل جاعل ، وتكوين مكون ، وذلك أيضاً يدل على المطلوب. الثالث : قوله : {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} والمراد من عنده ، والقديم لا يجوز أن يقال : إنه حصل من عند قديم آخر ، لأنهما لو كانا قديمين لم يكن القول بأن أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.
جزء : 17 رقم الصفحة : 314
أجاب أصحابنا بأن هذه النعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ونحن معترفون بأنها محدثة مخلوقة ، وإنما الذي ندعي قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.
المسألة السابعة : قال صاحب "الكشاف" قوله : {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} يحتمل وجوهاً : الأول : أنا ذكرنا أن قوله : {كِتَـابٌ} خبر و{أُحْكِمَتْ} صفة لهذا الخبر ، وقوله : {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفة ثانية والتقدير : الر كتاب من لدن حكيم خبير. والثاني : أن يكون خبراً بعد خبر والتقدير : الر من لدن حكيم خبير. والثالث : أن يكون ذلك صفة لقوله : {أُحْكِمَتْ} أي أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير ، وعلى هذا التقدير فقد حصل بين أول هذه الآية وبين آخرها نكتة لطيفة كأنه يقول أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور.
جزء : 17 رقم الصفحة : 314
317
/ اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في قوله : {خَبِيرٍ * أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } وجوهاً : الأول : أن يكون مفعولاً له والتقدير : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل ألا تعبدوا إلا الله وأقول هذا التأويل يدل على أنه لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد ، فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب ، فقد خاب وخسر. الثاني : أن تكون {ءَانٍ} مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول والحمل على هذا أولى ، لأن قوله : {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا } معطوف على قوله : {أَلا تَعْبُدُوا } فيجب أن يكون معناه : أي لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفاً على النهي ، فإن كونه بمعنى لئلا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه. والثالث : أن يكون التقدير : الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ليأمر الناس أن لا يعبدوا إلا الله ويقول لهم ، إنني لكم منه نذير وبشير والله أعلم.
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية مشتملة على التكليف من وجوه : الأول : أنه تعالى أمر بأن لا يعبدوا إلا الله ، وإذا قلنا : الاستثناء من النفي إثبات ، كان معنى هذا الكلام النهي عن عبادة غير الله تعالى ، والأمر بعبادة الله تعالى ، وذلك هو الحق ، لأنا بينا أن ما سوى الله فهو محدث مخلوق مربوب ، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده ، والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل وهذا لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن ، فثبت أن عبادة غير الله منكرة ، والإعراض عن عبادة الله منكر.
(1/2416)

واعلم أن عبادة الله مشروطة بتحصيل معرفة الله تعالى قبل العبادة ، لأن من لا يعرف معبوده لا ينتفع بعبادته فكان الأمر بعبادة الله أمراً بتحصيل المعرفة أولاً. ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة : {قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (البقرة : 21) ثم أتبعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وهو قوله : {الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة : 21) إنما حسن ذلك لأن الأمر بالعبادة يتضمن الأمر بتحصيل المعرفة فلا جرم ذكر ما يدل على تحصيل المعرفة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 317
ثم قال : {إِنَّنِى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وفيه مباحث :
البحث الأول : أن الضمير في قوله : {مِنْه } عائد إلى الحكيم الخبير ، والمعنى : إنني لكم نذير وبشير من جهته.
البحث الثاني : أن قوله : {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } مشتمل على المنع عن عبادة غير الله ، وعلى الترغيب في عبادة الله تعالى ، فهو عليه الصلاة والسلام نذير على الأول بإلحاق العذاب الشديد لمن لم يأت بها وبشير على الثاني بإلحاق الثواب العظيم لمن أتى بها.
واعلم أنه صلى الله عليه وسلّم ما بعث إلا لهذين الأمرين ، وهو الإنذار على فعل ما لا ينبغي ، والبشارة على فعل ما ينبغي.
المرتبة الثانية : من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله : {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} .
والمرتبة الثالثة : قوله : {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه } واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه :
الوجه الأول : أن معنى قوله : {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا } اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم/ ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة ، فقال : {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه } لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة ، والأمر في الحقيقة كذلك ، لأن المذنب معرض عن طريق الحق ، والمعرض المتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات ، فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده ، فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات ، وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار ، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب ، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة.
الوجه الثاني : في فائدة هذا الترتيب أن المراد : استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف.
الوجه الثالث : وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ، ثم توبوا من الأعمال الباطلة.
الوجه الرابع : الاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي ، فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي / يقدر على تحصيله ، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل الله تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس.
جزء : 17 رقم الصفحة : 317
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة ، ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين ، لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة ، أما المنافع الدنيوية : فهي المراد من قوله : {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال ، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وقال أيضاً : "خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل" وقال تعالى : {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ} (الزخرف : 33) فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية. ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما ؟
(1/2417)

الجواب : من وجوه. الأول : المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا. الثاني : أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارة بقوله : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } (طه : 132) الثالث : وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل ، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر ، كان الابتهاج والسرور أتم ، لأنه أمن من تغير مطلوبه ، وأمن من زوال محبوبه ، فأما من كان مشتغلاً بحب غير الله ، كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله ، فكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً ، ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً } (النحل : 97).
السؤال الثاني : هل يدل قوله : {إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى} على أن للعبد أجلين ، وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير ؟
والجواب : لا. ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني/ ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين ، فثبت أن لكل إنسان أجلاً واحداً فقط.
جزء : 17 رقم الصفحة : 317
السؤال الثالث : لم سمى منافع الدنيا بالمتاع ؟
/ الجواب : لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ، ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى : {إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى} فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية ، ثم لما بين تعالى ذلك قال : {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه } والمراد منه السعادات الأخروية ، وفيها لطائف وفوائد.
الفائدة الأولى : أن قوله : {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه } معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصاً لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت ، إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية ، فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات ، فهذا هو المراد من قوله : {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه } .
الفائدة الثانية : أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا ، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية ، فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية ، فلهذا السبب قال : {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه } .
الفائدة الثالثة : أنه تعالى قال في منافع الدنيا : {يُمَتِّعْكُم مَّتَـاعًا حَسَنًا} وقال في سعادات الآخرة {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه } وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده. وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب ، فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه ، فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده ، فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع.
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال : {وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} والأمر كذلك ، لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى ، {وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى فَهُوَ فِى الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} (الإسراء : 72) والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها ، فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزاً عن الوصول إلى محبوبه ، فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء ، فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم ، وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية. ثم / بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله : {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُم وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 317
(1/2418)

واعلم أن قوله : {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } فيه دقيقة ، وهي : أن هذا اللفظ يفيد الحصر ، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره ، فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو والأمر كذلك أيضاً في هذه الحياة الدنيوية ، إلا أن أقواماً اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب ، فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء ، وأما في دار الآخرة ، فهذا الحال الفاسد زائل أيضاً ، فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله : {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } .
ثم قال : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وأقول إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه وبشارة عظيمة من سائر الوجوه. أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى : {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه ، وقوله : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} يدل على أنه قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل وأما أنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد ، والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك ، ومنه المثل المشهور : ملكت فاسجح.
يقول مصنف هذا الكتاب : قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور والكريم إذا قدر غفر ، وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 317
318
اعلم أنه تعالى لما قال : {وَإِن تَوَلَّوْا } يعني عن عبادته وطاعته {فَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} بين بعده أن التولي عن ذلك باطناً كالتولي عنه ظاهراً فقال : {أَلا إِنَّهُمْ} يعني الكفار من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم يثنون صدورهم ليستخفوا منه.
/ واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار شيئين : الأول : أنه يثنون صدورهم يقال : ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته ، وفي الآية وجهان :
الوجه الأول : روي أن طائفة من المشركين قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأرسلنا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد ، فكيف يعلم بنا ؟
وعلى هذا التقدير : كان قوله : {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} كناية عن النفاق ، فكأنه قيل : يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى ، ثم نبه بقوله : {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} على أنهم يستخفون منه حين يستغشون ثيابهم.
الوجه الثاني : روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه ، والتقدير كأنه قيل : إنهم يتصرفون عنه ليستخفوا منه حين يستغشون ثيابهم ، لئلا يسمعوا كلام رسول الله وما يتلو من القرآن ، وليقولوا في أنفسهم ما يشتهون من الطعن. وقوله : {إِلا} للتنبيه ، فنبه أولاً على أنهم ينصرفوا عنه ليستخفوا ثم كرر كلمة {إِلا} للتنبيه على ذكر الاستخفاء لينبه على وقت استخفائهم ، وهو حين يستغشون ثيابهم ، كأنه قيل : ألا إنهم ينصرفون عنه ليستخفوا من الله ، ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم. ثم ذكر أنه لا فائدة لهم في استخفائهم بقوله : {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } .
جزء : 17 رقم الصفحة : 318
319
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أردفه بما يدل على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى ، فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات ، وفي الآية مسائل :
(1/2419)

المسألة الأولى : قال الزجاج : الدابة اسم لكل حيوان ، لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب ، وبنيت هذه اللفظة على هاء التأنيث ، وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكراً كان أو أنثى ، إلا أنه بحسب عرف العرب اختص بالفرس ، والمراد بهذا اللفظ في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات ، وهذا متفق عليه بين المفسرين ، ولا شك أن أقسام الحيوانات / وأنواعها كثيرة ، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال ، والله يحصيها دون غيره ، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها ، وما يوافقها وما يخالفها ، فالإله المدبر لإطباق السموات والأرضين ؛ وطبائع الحيوان والنبات ، كيف لا يكون عالماً بأحوالها ؟
روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي إليه تعلق قلبه بأحوال أهله ، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ثانية ؛ ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة ، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، ورفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ، ويسمع كلامي ، ويعرف مكاني ، ويذكرني ولا ينساني.
المسألة الثانية : تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية وقال : إن كلمة {عَلَى} للوجوب ، وهذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله.
وجوابه : أنه واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان.
المسألة الثالثة : تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حراماً ، قالوا لأنه ثبت أن إيصال كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد وبحسب الاستحقاق ، والله تعالى لا يحل بالواجب ، ثم قد نرى إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره ، فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه ، فيكون تعالى قد أخل بالواجب وذلك محال ، فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقاً ، وأما قوله : {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } فالمستقر هو مكانه من الأرض والمستودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة ، وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً ، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه ، وقد مضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام ، ثم قال : {كُلٌّ فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} قال الزجاج : المعنى أن ذلك ثابت في علم الله تعالى ، ومنهم من قال : في اللوح المحفوظ ، وقد ذكرنا ذلك في قوله : {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام : 59).
جزء : 17 رقم الصفحة : 319
320
/ واعلم أنه تعالى لما أثبت بالدليل المتقدم كونه عالماً بالمعلومات ، أثبت بهذا الدليل كونه تعالى قادراً على كل المقدورات وفي الحقيقة فكل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته.
واعلم أن قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} قد مضى تفسيره في سورة يونس على سبيل الاستقصاء. بقي ههنا أن نذكر {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} قال كعب خلق الله تعالى ياقوتة خضراء ، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء ، قال أبو بكر الأصم : معنى قوله : {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} كقولهم : السماء على الأرض. وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر وكيف كانت الواقعة فذلك يدل على أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض ، وقالت المعتزلة : في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما ، لأنه لا يجوز أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض والماء ، لأنه تعالى لما خلقهما فإما أن يكون قد خلقهما لمنفعة أو لا لمنفعة والثاني عبث ، فبقي الأول وهو أنه خلقهما لمنفعة ، وتلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله وهو محال لكونه متعالياً عن النفع والضرر أو إلى الغير فوجب أن يكون ذلك الغير حياً ، لأن غير الحي لا ينتفع. وكل من قال بذلك قال ذلك الحي كان من جنس الملائكة ، وأما أبو مسلم الأصفهاني فقال معنى قوله : {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} أي بناؤه السموات كان على الماء ، وقد مضى تفسير ذلك في سورة يونس ، وبين أنه تعالى إذا بنى السموات على الماء كانت أبدع وأعجب ، فإن البناء الضعيف إذا لم يؤسس على أرض صلبة لم يثبت ، فكيف بهذا الأمر العظيم إذا بسط على الماء ؟
وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما الفائدة في ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ؟
(1/2420)

والجواب : فيه دلالة على كمال القدرة من وجوه : الأول : أن العرش كونه مع أعظم من السموات والأرض كان على الماء فلولا أنه تعالى قادر على إمساك الثقيل بغير عمد لما صح ذلك ، والثاني : أنه تعالى أمسك الماء لا على قرار وإلا لزم أن يكون أقسام العالم غير متناهية ، وذلك يدل على ما ذكرناه. والثالث : أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع / سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه ، وذلك يدل أيضاً على ما ذكرنا.
جزء : 17 رقم الصفحة : 320
السؤال الثاني : هل يصح ما يروى أنه قيل يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض ؟
فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء.
والجواب : أن هذه الرواية ضعيفة ، والأولى أن يكون الخبر المشهور أولى بالقبول وهو قوله صلى الله عليه وسلّم كان الله وما كان معه شيء ، ثم كان عرشه على الماء.
السؤال الثالث : اللام في قوله : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } يقتضي أنه تعالى خلق السموات والأرض لابتلاء المكلف فكيف الحال فيه ؟
والجواب ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكثير لمصلحة المكلفين ، وقد قال بهذا القول طوائف من العقلاء ، ولكل طائفة فيه وجه آخر سوى الوجه الذي قال به الآخرون ، وشرح تلك المقالات لا يليق بهذا الكتاب. والذين قالوا إن أفعاله وأحكامه غير معللة بالمصالح قالوا : لام التعليل وردت على ظاهر الأمر ، ومعناه أنه تعالى فعل فعلاً لو كان يفعله من تجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض.
السؤال الرابع : الابتلاء إنما يصح على الجاهل بعواقب الأمور وذلك عليه تعالى محال ، فكيف يعقل حصول معنى الابتلاء في حقه ؟
والجواب : أن هذا الكلام على سبيل الاستقصاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى في أول سورة البقرة : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 21).
واعلم أنه تعالى لما بين أنه خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم فهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر ، لأن الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب ، وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة ، فعند هذا خاطب محمداً عليه الصلاة والسلام وقال : {وَلَـاـاِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِنا بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ومعناه أنهم ينكرون هذا الكلام ويحكمون بفساد القول بالبعث.
فإن قيل : الذي يمكن وصفه بأنه سحر ما يكون فعلاً مخصوصاً ، وكيف يمكن وصف هذا القول بأنه سحر ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : قال القفال : معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم. الثاني : أن معنى قوله : {إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} هو أن السحر أمر باطل ، قال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام {مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُا إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُه ا } (يونس : 81) فقوله : {إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي باطل مبين. الثالث : أن / القرآن هو الحاكم بحصول البعث وطعنوا في القرآن بكونه سحراً لأن الطعن في الأصل يفيد الطعن في الفرع. الرابع : قرأ حمزة والكسائي {إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ} يريدون النبي صلى الله عليه وسلّم والساحر كاذب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 320
321
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلّم بقولهم : {إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أباطيلهم وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول صلى الله عليه وسلّم به أخذوا في الاستهزاء ويقولون : ما السبب الذي حبسه عنا ؟
فأجاب الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزؤن به لم ينصرف ذلك العذاب عنهم وأحاط بهم ذلك العذاب. بقي ههنا سؤالات :
السؤال الأول : المراد من هذا العذاب هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ؟
الجواب : للمفسرين فيه وجوه : الأول : قال الحسن : معنى حكم الله في هذه الآية أنه لا يعذب أحداً منهم بعذاب الاستئصال وأخر ذلك إلى يوم القيامة ، فلما أخر الله عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء ما الذي حبسه عنا ؟
والثاني : أن المراد الأمر بالجهاد وما نزل بهم يوم بدر ، وعلى هذا الوجه تأولوا قوله : {وَحَاقَ بِهِم} أي نزل بهم هذا العذاب يوم بدر.
السؤال الثاني : ما المراد بقوله : {إِلَى ا أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} .
(1/2421)

الجواب من وجهين : الأول : أن الأصل في الأمة هم الناس والفرقة فإذا قلت : جاءني أمة من الناس ، فالمراد طائفة مجتمعة قال تعالى : {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (القصص : 23) وقوله : {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} (يوسف : 45) أي بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا ههنا قوله : {وَ لئن أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى ا أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} أي إلى حين تنقضي أمة من الناس انقرضت بعد هذا الوعيد بالقول ، لقالوا ماذا يحبسه عنا وقد انقرض من الناس الذين كانوا متوعدين بهذا الوعيد ؟
وتسمية الشيء باسم ما يحصل فيه كقولك : كنت عند فلان صلاة العصر ، أي في ذلك الحين. الثاني : أن اشتقاق الأمة من الأَم ، وهو القصد ، كأنه يعني الوقت المقصود بإيقاع هذا الموعود فيه.
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 321
السؤال الثالث : لم قال : {وَحَاقَ} على لفظ الماضي مع أن ذلك لم يقع ؟
والجواب : قد مر في هذا الكتاب آيات كثيرة من هذا الجنس ، والضابط فيها أنه تعالى أخبر عن أحوال القيامة بلفظ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير.
جزء : 17 رقم الصفحة : 321
323
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم ، ذكر بعده ما يدل على كفرهم ، وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب. فقال : {وَ لئن أَذَقْنَا الانسَـانَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ {الانسَـانَ} في هذه الآية فيه قولان :
القول الأول : أن المراد منه مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى استثنى منه قوله : {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر ، وذلك يدل على ما قلناه. الثاني : أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله تعالى : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (العصر : 1 ـ 3) وموافقة أيضاً لقوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج : 19 ـ 21) الثالث : أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز. قال ابن جريج في تفسير هذه الآية يا ابن آدم إذا نزلت لك نعمة من الله فأنت كفور ، فإذا نزعت منك فيؤس قنوط.
والقول الثاني : أن المراد منه الكافر ، ويدل عليه وجوه : الأول : ن الأصل في المفرد المحلى بالألف واللام أن يحمل على المعهود السابق لولا المانع ، وههنا لا مانع فوجب حمله عليه / والمعهود السابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدمة. الثاني : أن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر لأنه وصفه بكونه يؤساً ، وذلك من صفات الكافر لقوله تعالى : {يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَا يـاَسُواْ مِن} (يوسف : 87) ووصفه أيضاً بكونه كفوراً ، وهو تصريح بالكفر ووصفه أيضاً بأنه عند وجدان الراحة يقول : ذهب السيئات عني ، وذلك جراءة على الله تعالى ، ووصفه أيضاً بكونه فرحاً و{اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص : 76) ووصفه أيضاً بكونه فخوراً ، وذلك ليس من صفات أهل الدين. ثم قال الناظرون لهذا القول : وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع حتى لا تلزمنا هذه المحذورات.
جزء : 17 رقم الصفحة : 323
المسألة الثانية : لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم ، فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان ، وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران فالدنيا في نفسها قليلة ، والحاصل منها للإنسان الواحد قليل ، والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين ، فهذه الإذاقة من قليل ، ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها. وأما النعماء فقال الواحدي : إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضراء مضرة يظهر أثرها على صاحبها ، لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حمراء وعوراء ، وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء ، والمضرة والضراء.
المسألة الثالثة : اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية/ بل هي أبداً في التغير والزوال ، والتحول والانتقال ، إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة ، ومن اللذات إلى الآفات وإما أن يكون بالعكس من ذلك ، وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب ، ومن المحرمات إلى الطيبات.
(1/2422)

أما القسم الأول : فهو المراد من قوله : {وَ لئن أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَـاهَا مِنْهُ إِنَّه لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يؤس كفور. وتقريره أن يقال : أنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤساً ، وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي ، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس. وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس ، بل يقول لعله تعالى يردها إلى بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت ، وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفوراً لأنه لما اعتقد أن / حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده ، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة. فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوساً وعند حصولها يكون كفوراً.
جزء : 17 رقم الصفحة : 323
وأما القسم الثاني : وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب ، ومن المحنة إلى النعمة ، فههنا الكافر يكون فرحاً فخوراً. أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر للسعادات الأخروية الروحانية ، فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها ، وأما كونه فخوراً فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به ، فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين ، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين. ثم لما قرر ذلك قال : {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} والمراد منه ضد ما تقدم فقوله : {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } المراد منه أن يكون عند البلاء من الصابرين ، وقوله : {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} المراد منه أن يكون عند الراحة والخير من الشاكرين. ثم بين حالهم فقال : {أُوالَـا ئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} فجمع لهم بين هذين المطلوبين. أحدهما : زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله : {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} والثاني : الفوز بالثواب وهو المراد من قوله : {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ومن وقف على هذا التفصيل الذي ذكرناه علم أن هذا الكتاب الكريم كما أنه معجز بحسب ألفاظه فهو أيضاً معجز بحسب معانيه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 323
324
اعلم أن هذا نوع آخر من كلمات الكفار ، والله تعالى بين أن قلب الرسول ضاق بسببه ، ثم إنه تعالى قواه وأيده بالإكرام والتأييد ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد اجعل لنا / جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك. فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية. واختلفوا في المراد بقوله : {تَارِكُا بَعْضَ مَا يُوحَى ا إِلَيْكَ} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلّم : "ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك ، وقال الحسن اطلبوا منه لا يقول : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ} (طه : 15) وقال بعضهم : المراد نسبتهم إلى الجهل والتقليد والإصرار على الباطل.
المسألة الثانية : أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخون في الوحي والتنزيل وأن يترك بعض ما يوحى إليه ، لأن تجويزه يؤدي إلى الشك في كل الشرائع والتكاليف وذلك يقدح في النبوة وأيضاً فالمقصود من الرسالة تبليغ تكاليف الله تعالى وأحكامه فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها المطلوبة منها ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله : {فَلَعَلَّكَ تَارِكُا بَعْضَ مَا يُوحَى ا إِلَيْكَ} شيئاً آخر سوى أنه عليه السلام فعل ذلك وللناس فيه وجوه : الأول : لا يمتنع أن يكون في معلوم الله تعالى أنه إنما ترك التقصير في أداء الوحي والتنزيل لسبب يرد عليه من الله تعالى أمثال هذه التهيدات. البليغة الثاني : أنهم كانوا لا يعتقدون بالقرآن ويتهاونون به ، فكان يضيق صدر الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فهيجه الله تعالى لأداء الرسالة وطرح المبالاة بكلماتهم الفاسدة وترك الالتفات إلى استهزائهم ، والغرض منه التنبيه على أنه إن أدى ذلك الوحي وقع في سخريتهم وسفاهتهم وإن لم يؤد ذلك الوحي إليهم وقع في ترك وحي الله تعالى وفي إيقاع الخيانة فيه ، فإذا لا بد من تحمل أحد الضررين وتحمل سفاهتهم أسهل من تحمل إيقاع الخيانة في وحي الله تعالى ، والغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة ، لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك يشتمل على ضرر عظيم ، ثم علم أن الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف ، فالمقصود من ذكر هذا الكلام ما ذكرناه.
(1/2423)

جزء : 17 رقم الصفحة : 324
فإن قيل : قوله : {فَلَعَلَّكَ} كلمة شك فما الفائدة فيها ؟
قلنا : المراد منه الزجر ، والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنه لا شك فيه ، ويقول لولده لو أمره لعلك تقصر فيما أمرتك به ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك.
وأما قوله : {وَضَآئِقُا بِه صَدْرُكَ} فالضائق بمعنى الضيق ، قال الواحدي : الفرق بينهما أن الضائق يكون بضيق عارض غير لازم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان أفسح الناس صدراً ، ومثله قولك : زيد سيد جواد تريد السيادة والجودالثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد / وجائد ، والمعنى : ضائق صدرك لأجل أن يقولوا : {لَوْلا أُنُزِلَ عَلَيْهِ} .
فإن قيل : الكنز كيف ينزل ؟
قلنا : المراد ما يكنز وجرت العادة على أنه يسمي المال الكثير بهذا الاسم ، فكأن القوم قالوا : إن كنت صادقاً في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وإنك عزيز عنده فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكد والعناء وتستعين به على مهماتك وتعين أنصارك وإن كنت صادقاً فهلا أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ويعينك على تحصيل مقصودك فتزول الشبهة في أمرك ، فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق ، فبين تعالى أنه رسول منذر بالعقاب ومبشر بالثواب ولا قدرة له على إيجاد هذه الأشياء. والذي أرسله هو القادر على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وفي حكمه. ومعنى {وَكِيلٌ} حفيظ أي يحفظ عليهم أعمالهم ، أي يجازيهم بها ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَالِكَ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورَا } (الفرقان : 10) وقوله : {قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ} إلى قوله : {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا} (الإسراء : 90 ـ 93).
جزء : 17 رقم الصفحة : 324
فإن قيل : قوله : {فَلَعَلَّكَ} كلمة شك فما الفائدة فيها ؟
قلنا : المراد منه الزجر ، والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنه لا شك فيه ، ويقول لولده لو أمره لعلك تقصر فيما أمرتك به ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك.
وأما قوله : {وَضَآئِقُا بِه صَدْرُكَ} فالضائق بمعنى الضيق ، قال الواحدي : الفرق بينهما أن الضائق يكون بضيق عارض غير لازم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان أفسح الناس صدراً ، ومثله قولك : زيد سيد جواد تريد السيادة والجودالثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد / وجائد ، والمعنى : ضائق صدرك لأجل أن يقولوا : {لَوْلا أُنُزِلَ عَلَيْهِ} .
فإن قيل : الكنز كيف ينزل ؟
قلنا : المراد ما يكنز وجرت العادة على أنه يسمي المال الكثير بهذا الاسم ، فكأن القوم قالوا : إن كنت صادقاً في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وإنك عزيز عنده فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكد والعناء وتستعين به على مهماتك وتعين أنصارك وإن كنت صادقاً فهلا أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ويعينك على تحصيل مقصودك فتزول الشبهة في أمرك ، فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق ، فبين تعالى أنه رسول منذر بالعقاب ومبشر بالثواب ولا قدرة له على إيجاد هذه الأشياء. والذي أرسله هو القادر على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وفي حكمه. ومعنى {وَكِيلٌ} حفيظ أي يحفظ عليهم أعمالهم ، أي يجازيهم بها ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَالِكَ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورَا } (الفرقان : 10) وقوله : {قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ} إلى قوله : {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا} (الإسراء : 90 ـ 93).
جزء : 17 رقم الصفحة : 324
325
اعلم أن القول لما طلبوا منه المعجز قال معجزي هذا القرآن ولما حصل المعجز الواحد كان طلب الزيادة بغياً وجهلاً ، ثم قرر كونه معجزاً بأن تحداهم بالمعارضة ، وتقرير هذا الكلام بالاستقصاء قد تقدم في البقرة وفي سورة يونس وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الضمير في قوله : {افْتَرَاـاه } عائد إلى ما سبق من قوله : {يُوحَى ا إِلَيْكَ} أي إن قالوا إن هذا الذي يوحى إليك مفترى فقل لهم حتى يأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقوله مثله بمعنى أمثاله حملا على كل واحد من تلك السور ولا يبعد أيضاً أن يكون المراد هو المجموع ، لأن مجموع السور العشرة شيء واحد.
(1/2424)

المسألة الثانية : قال ابن عباس : هذه السورة التي وقع بها هذا التحدي معينة ، وهي سورة / البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود عليهما السلام ، وقوله : {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِه مُفْتَرَيَـاتٍ} إشارة إلى السور المتقدمة على هذه السورة ، وهذا فيه إشكال ، لأن هذه السورة مكية ، وبعض السور المتقدمة على هذه السورة مدنية ، فكيف يمكن أن يكون المراد من هذه العشر سور التي ما نزلت عند هذا الكلام ، فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور التي يظهر فيها قوة تركيب الكلام وتأليفه.
واعلم أن التحدي بعشر سور لا بد وأن يكون سابقاً على التحدي بسورة واحدة ، وهو مثل أن يقول الرجل لغيره أكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب ، فإذا ظهر عجزه عنه قال : قد اقتصرت منها على سطر واحد مثله.
إذا عرفت هذا فنقول : التحدي بالسورة الواحدة ورد في سورة البقرة ، وفي سورة يونس كما تقدم ، أما تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر ، لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية ، وأما في سورة يونس فالإشكال زائل أيضاً ، لأن كل واحدة من هاتين السورتين مكية ، والدليل الذي ذكرناه يقتضي أن تكون سورة هود متقدمة في النزول على سورة يونس حتى يستقيم الكلام الذي ذكرناه.
المسألة الثالثة : اختلف الناس في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزاً ، فقال بعضهم : هو الفصاحة ، وقال بعضهم : هو الأسلوب ، وقال ثالث : هو عدم التناقض ، وقال رابع : هو اشتماله على العلوم الكثيرة ، وقال خامس : هو الصرف ، وقال سادس : هو اشتماله على الإخبار عن الغيوب ، والمختار عندي وعند الأكثرين أنه معجز بسبب الفصاحة ، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية لأنه لو كان وجه الإعجاز هو كثرة العلوم أو الأخبار عن الغيوب أو عدم التناقض لم يكن لقوله : {مُفْتَرَيَـاتٍ} معنى أما إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الفصيح تظهر بالكلام ، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً ، وأيضاً لو كان الوجه في كونه معجزاً هو الصرف لكان دلالة الكلام الركيك النازل في الفصاحة على هذا المطلوب أوكد من دلالة الكلام العالي في الفصاحة ثم إنه تعالى لما قرر وجه التحدي قال : {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} والمراد إن كنتم صادقين في ادعاء كونه مفترى كما قال : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه } .
جزء : 17 رقم الصفحة : 325
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه لا بد في إثبات الدين من تقرير الدلائل والبراهين ، وذلك لأنه تعالى أورد في إثبات نبوة محمد عليه السلام هذا الدليل وهذه الحجة ، ولولا أن الدين لا يتم إلا بالدليل لم يكن في ذكره فائدة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 325
327
/ اعلم أن الآية المتقدمة اشتملت على خطابين : أحدهما : خطاب الرسول ، وهو قوله : {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِه مُفْتَرَيَـاتٍ} والثاني : خطاب الكفار وهو قوله : {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} (يونس : 38) فلما أتبعه بقوله : {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لتعذرها عليهم ، واحتمل أن من يدعونه من دون الله لم يستجيبوا ، فلهذا السبب اختلف المفسرون على قولين : فبعضهم قال : هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين ، والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة ، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله. والمعنى : فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله ، ومعنى قوله : {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي فهل أنتم مخلصون ، ومنهم من قال فيه إضمار ، والتقدير : فقولوا أيها المسلمون للكفار اعلموا أنما أنزل بعلم الله.
والقول الثاني : أن هذا خطاب مع الكفار ، والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة ، فاعلموا أيها الكفار أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله فهل أنتم مسلمون بعد لزوم الحجة عليكم ، والقائلون بهذا القول قالوا هذا أولى من القول الأول ، لأنكم في القول الأول احتجتم إلى أن حملتم قوله : {فَاعْلَمُوا } على الأمر بالثبات أو على إضمار القول ، وعلى هذا الاحتمال لا حاجة فيه إلى إضمار ، فكان هذا أولى ، وأيضاً فعود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب ، وأقرب المذكورين في هذه الآية هو هذا الاحتمال الثاني ، وأيضاً أن الخطاب الأول كان مع الرسول عليه الصلاة والسلام وحده بقوله : {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} (هود : 13) والخطاب الثاني كان مع جماعة الكفار بقوله : {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} (يونس : 38) وقوله : {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} خطاب مع الجماعة فكان حمله على هذا الذي قلناه أولى. بقي في الآية سؤالات :
جزء : 17 رقم الصفحة : 327
(1/2425)

السؤال الأول : ما الشيء الذي لم يستجيبوا فيه ؟
الجواب : المعنى فإن لم يستجيبوا لكم في معارضة القرآن ، وقال بعضهم فإن لم يستجيبوا لكم في جملة الإيمان وهو بعيد.
/ السؤال الثاني : من المشار إليه بقوله : {لَكُمْ} ؟
والجواب : إن حملنا قوله : {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} على المؤمنين فذلك ظاهر ، وإن حملناه على الرسول فعنه جوابان : الأول : المراد فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين ، لأن الرسول عليه السلام والمؤمنين كانوا يتحدونهم ، وقال في موضع آخر فإن لم يستجيبوا لك فاعلم. والثاني : يجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
السؤال الثالث : أي تعلق بين الشرط المذكور في هذه الآية وبين ما فيها من الجزاء.
والجواب : أن القوم ادعوا كون القرآن مفترى على الله تعالى ، فقال : لو كان مفترى على الله لوجب أن يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه ، ثبت أنه من عند الله ، فقوله : {أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} كناية عن كونه من عند الله ومن قبله ، كما يقول الحاكم هذا الحكم جرى بعلمي.
السؤال الرابع : أي تعلق لقوله : {وَأَن لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } يعجزهم عن المعارضة.
والجواب فيه من وجوه : الأول : أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم حتى يطلب من الكفار أن يستعينوا بالأصنام في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب ألبتة/ ومتى كان كذلك ، فقد بطل القول بإثبات كونهم آلهة ، فصار عجز القوم المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام ودليلاً على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكان قوله : {وَأَن لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } إشارة إلى ما ظهر من فساد القول بإلهية الأصنام : الثاني : أنه ثبت في علم الأصول أن القول بنفي الشريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرسول عليه السلام ، وعلى هذا فكأنه قيل : لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً ، وثبت كون محمد صلى الله عليه وسلّم صادقاً في دعوى الرسالة ، ثم إنه كان يخبر عن أنه لا إله إلا الله فلما ثبت كونه محقاً في دعوى النبوة ثبت قوله : {أَن لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ} الثالث : أن ذكر قوله {وَأَن لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } جار مجرى التهديد ، كأنه قيل : لما ثبت بهذا الدليل كون محمد عليه السلام صادقاً في دعوى الرسالة وعلمتم إنه لا إله إلا الله ، فكونوا خائفين من قهره وعذابه واتركوا الإصرار على الكفر واقبلوا الإسلام ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة عند ذكر آية التحدي : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} (البقرة : 24).
جزء : 17 رقم الصفحة : 327
وأما قوله : {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} .
فإن قلنا : إنه خطاب مع المؤمنين كان معناه الترغيب في زيادة الإخلاص. وإن قلنا : إنه خطاب مع الكفار كان معناه الترغيب في أصل الإسلام.
جزء : 17 رقم الصفحة : 327
329
/ اعلم أن الكفار كانوا ينازعون محمداً صلى الله عليه وسلّم في أكثر الأحوال ، فكانوا يظهرون من أنفسهم أن محمداً مبطل ونحن محقون ، وإنما نبالغ في منازعته لتحقيق الحق وإبطال الباطل ، وكانوا كاذبين فيه ، بل كان غرضهم محض الحسد والاستنكاف من المتابعة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية لتقرير هذا المعنى. ونظير هذه الآية قوله تعالى : {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَه فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} (الإسراء : 18) وقوله : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه ا وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى : 20) وفيه الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في الآية قولين :
القول الأول : أنها مختصة بالكفار ، لأن قوله : {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق ، لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها والانتفاع بخيراتها وشهواتها ، إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد من هذا العام الخاص وهو الكافر ، لأن قوله تعالى : {أُوالَـا ـاـاِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلا النَّارُا وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَـاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لا يليق إلا بالكفار ، فصار تقدير الآية : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط ، أي تكون إرادته مقصورة على حب الدنيا وزينتها ولم يكن طالباً لسعادات الآخرة ، كان حكمه كذا وكذا ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فيه ، فمنهم من قال : المراد منهم منكرو البعث فإنهم ينكرون الآخرة ولا يرغبون إلا في سعادات الدنيا ، وهذا قول الأصم وكلامه ظاهر.
(1/2426)

القول الثاني : أن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول عليه السلام الغنائم من دون أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها.
والقول الثالث : أن المراد : اليهود والنصارى ؛ وهو منقول عن أنس.
جزء : 17 رقم الصفحة : 329
والقول الرابع : وهو الذي اختاره القاضي أن المراد : من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا / وزينتها ، وعمل الخير قسمان : العبادات ، وإيصال المنفعة إلى الحيوان ، ويدخل في هذا القسم الثاني البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناظر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وإجراء الأنهار. فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافر لأجل الثناء في الدنيا ، فإن بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين ، فكلها تكون من أعمال الخير ، فلا جرم هذه الأعمال تكون طاعات سواء صدرت من الكافر أو المسلم. وأما العبادات : فهي إنما تكون طاعات بنيات مخصوصة ، فإذا لم يؤت بتلك النية ، وإنما أتى فاعلها بها على طلب زينة الدنيا ، وتحصيل الرياء والسمعة فيها صار وجودها كعدمها فلا تكون من باب الطاعات.
وإذا عرفت هذا فنقول قوله : {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} المراد منه الطاعات التي يصح صدورها من الكافر.
القول الثاني : وهو أن تجري الآية على ظاهرها في العموم ، ونقول : إنه يندرج فيه المؤمن الذي يأتي بالطاعات على سبيل الرياء والسمعة ، ويندرج فيه الكافر الذي هذا صفته ، وهذا القول مشكل ، لأن قوله : {أُوالَـا ـاـاِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلا النَّارُ } لا يليق المؤمن إلا إذا قلنا المراد {أُوالَـا ـاـاِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلا النَّارُ } بسبب هذه الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة المقرونة بالرياء/ ثم القائلون بهذ القول ذكروا أخباراً كثيرة في هذا الباب. روي أن الرسول عليه السلام قال : "تعوذوا بالله من جب الحزن قيل وما جب الحزن ؟
قال عليه الصلاة والسلام : "واد في جهنم يلقى فيه القراء المراؤون" وقال عليه الصلاة والسلام : "أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه" وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جمع القرآن ، فيقال له ما عملت فيه ؟
فيقول يا رب قمت به آناء الليل والنهار فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال : فلان قارىء ، وقد قيل ذلك ، ويؤت بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك فماذا عملت فيما آتيتك فيقول : وصلت الرحم وتصدقت ، فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد ، وقد قيل ذلك ويؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك" قال أبو هريرة رضي الله عنه ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركبتي وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه ذكر هذا الحديث عند معاوية قال الراوي فبكى حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق وقال صدق الله ورسوله {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَـالَهُمْ فِيهَا} .
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 329
المسألة الثانية : المراد من توفية أجور تلك الأعمال هو أن كل ما يستحقون بها من الثواب فإنه يصل إليهم حال كونهم في دار الدنيا ، فإذا خرجوا من الدنيا لم يبق معهم من تلك الأعمال أثر من آثار الخيرات ، بل ليس لهم منها إلا النار.
واعلم أن العقل يدل عليه قطعاً ، وذلك لأن من أتى بالأعمال لأجل طلب الثناء في الدنيا ولأجل الرياء ، فذلك لأجل أنه غلب على قلبه حب الدنيا ، ولم يحصل في قلبه حب الآخرة ، إذ لو عرف حقيقة الآخرة وما فيها من السعادات لامتنع أن يأتي بالخيرات لأجل الدنيا وينسى أمر الآخرة ، فثبت أن الآتي بأعمال البر لأجل الدنيا لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الدنيا عديم الطلب للآخرة ومن كان كذلك فإذا مات فإنه يفوته جميع منافع الدنيا ويبقى عاجزاً عن وجدانها غير قادر على تحصيلها ، ومن أحب شيئاً ثم حيل بينه وبين المطلوب فإنه لا بد وأن تشتعل في قلبه نيران الحسرات فثبت بهذا البرهان العقلي ، أن كل من أتى بعمل من الأعمال لطلب الأحوال الدنيوية فإنه يجد تلك المنفعة الدنيوية اللائقة بذلك العمل ، ثم إذا مات فإنه لا يحصل له منه إلا النار ويصير ذلك العمل في الدار الآخرة محبطاً باطلاً عديم الأثر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 329
331
(1/2427)

اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر والتقدير : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار ، إلا أنه حذف الجواب لظهوره ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى : {أَفَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} (فاطر : 8) وقوله : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا} (الزمر : 9) وقوله : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } (الزمر : 9).
واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد محتمل. فالأول : أن هذا الذي / وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو. والثاني : أنه ما المراد بهذه البينة. والثالث : أن المراد بقوله : القرآن أو كونه حاصلاً عقيب غيره. والرابع : أن هذا الشاهد ما هو ؟
فهذه الألفاظ الأربعة مجملة فلهذا كثر اختلاف المفسرين في هذه الآية.
أما الأول : وهو أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو ؟
فقيل : المراد به النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل : المراد به من آمن من اليهود كعبدالله بن سلام وغيره ، وهو الأظهر لقوله تعالى في آخر الآية : {تِلاوَتِه أُوالَـا ئِكَ يُؤْمِنُونَ بِه } وهذا صيغة جمع ، فلا يجوز رجوعه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ، والمراد بالبينة هو البيان والبرهان الذي عرف به صحة الدين الحق والضمير في يرجع إلى معنى البينة ، وهو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ، ومنه أي من الله ومن قبله كتاب موسى ، أي ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى.
واعلم أن كون كتاب موسى تابعاً للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و{لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} نصب على الحال ، فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة أولها : دلالة البينات العقلية على صحته. وثانيها : شهادة القرآن بصحته. وثالثها : شهادة التوراة بصحته ، فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا ارتياب ، فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها إلى مطابقة اللفظ وفيها أقوال أخر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 331
فالقول الأول : أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه هو محمد عليه السلام والبينة هو القرآن ، والمراد بقوله : هو التلاوة بمعنى القراءة وعلى هذا التقدير فذكروا في تفسير الشاهد وجوهاً : أحدها : أنه جبريل عليه السلام ، والمعنى : أن جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على محمد عليه السلام. وثانيها : أن ذلك الشاهد هو لسان محمد عليه السلام وهو قول الحسن ورواية عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنهما قال : قلت لأبي أنت التالي قال : وما معنى التالي قلت قوله : {رَّبِّه وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولما كان الإنسان إنما يقرأ القرآن ويتلوه بلسانه لا جرم جعل اللسان تالياً على سبيل المجاز كما يقال : عين باصرة وأذن سامعة ولسان ناطق. وثالثها : أن المراد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله : {مِنْه } أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه/ والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد عليه السلام. ورابعها : أن لا يكون المراد بقوله : {وَيَتْلُوهُ} القرآن بل حصول هذا الشاهد عقيب تلك البينة ، وعلى هذا الوجه قالوا إن المراد أن صورة النبي عليه السلام ووجهه ومخايله كل ذلك يشهد بصدقه ، لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون / ولا كاهن ولا ساحر ولا كذاب والمراد بكون هذا الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلقة بذات النبي صلى الله عليه وسلّم.
القول الثاني : أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة هم المؤمنون وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم ، والمراد بالبينة القرآن {وَيَتْلُوهُ} أي ويتلو الكتاب الذي هو الحجة يعني ويعقبه شاهد من الله تعالى ، وعلى هذا القول اختلفوا في ذلك الشاهد فقال بعضهم : إنه محمد عليه السلام وقال آخرون : بل ذلك الشاهد هو كون القرآن واقعاً على وجه يعرف كل من نظر فيه أنه معجزة وذلك الوجه هو اشتماله على الفصاحة التامة والبلاغة الكاملة وكونه بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله ، وقوله : {شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي من تلك البينة لأن أحوال القرآن وصفاته من القراآت متعلقة به. وثالثها : قال الفراء : {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} يعني الإنجيل يتلو القرآن وإن كان قد أنزل قبله ، والمعنى أنه يتلوه في التصديق ، وتقريره : أنه تعالى ذكر محمداً صلى الله عليه وسلّم في الإنجيل ، وأمر بالإيمان به.
جزء : 17 رقم الصفحة : 331
واعلم أن هذين القولين وإن كانا محتملين إلا أن القول الأول أقوى وأتم.
(1/2428)

واعلم أنه تعالى وصف كتاب موسى عليه السلام بكونه إماماً ورحمة ، ومعنى كونه إماماً أنه كان مقتدى العالمين ، وإماماً لهم يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع ، وأما كونه رحمة فلأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين ، وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب فلما كان سبباً للرحمة أطلق اسم الرحمة عليه إطلاقاً لاسم المسبب على السبب.
ثم قال تعالى : { أولئك يُؤْمِنُونَ بِه } والمعنى : أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون.
واعلم أن المطالب على قسمين منها ما يعلم صحتها بالبديهة ، ومنها ما يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب واجتهاد ، وهذا القسم الثاني على قسمين ، لأن طريق تحصيل المعارف إما الحجة والبرهان المستنبط بالعقل وإما الاستفادة من الوحي والإلهام ، فهذا الطريقان هما الطريقان اللذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات ، فإذا اجتمعا واعتضد كل واحد منهما بالآخر بلغا الغاية في القوة والوثوق ، ثم إن في أنبياء الله تعالى كثرة ، فإذا توافقت كلمات الأنبياء على صحته ، وكان البرهان اليقيني قائماً على صحته ، فهذه المرتبة قد بلغت في القوة إلى حيث لا يمكن الزيادة فقوله : {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه } المراد بالبينة الدلائل العقلية اليقينية ، وقوله : {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} إشارة إلى الوحي الذي حصل لمحمد عليه السلام ، وقوله : {وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى ا إِمَامًا وَرَحْمَةً } / إشارة إلى الوحي الذي حصل لموسى عليه السلام ، وعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والظهور والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه.
ثم قال تعالى : {وَمَن يَكْفُرْ بِه مِنَ الاحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُه } والمراد من الأحزاب أصناف الكفار ، فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس. روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار" قال أبو موسى : فقلت في نفسي إن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن ، فوجدت الله تعالى يقول : {وَمَن يَكْفُرْ بِه مِنَ الاحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُه } وقال بعضهم : لما دلت الآية على أن من يكفر به فالنار موعده ، دلت على أن من لا يكفر به لم تكن النار موعده.
جزء : 17 رقم الصفحة : 331
ثم قال تعالى : {فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْه إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} ففيه قولان : الأول : فلا تك في مرية من صحة هذا الدين ، ومن كون القرآن نازلاً من عند الله تعالى ، فكان متعلقاً بما تقدم من قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه } (السجدة : 3) الثاني : فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار. وقرىء {مِرْيَةٍ} بضم الميم.
ثم قال : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} والتقدير : لما ظهر الحق ظهوراً في الغاية ، فكن أنت متابعاً له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا ، والأقرب أن يكون المراد لا يؤمنون بما تقدم ذكره من وصف القرآن.
جزء : 17 رقم الصفحة : 331
332
اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة ، فمنها شدة حرصهم على الدنيا ورغبتهم في تحصيلها ، وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله : {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} (هود : 15) إلى آخر الآية ، / ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول صلى الله عليه وسلّم ، ويقدحون في معجزاته ، وقد أبطل الله تعالى بقوله : {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه } (محمد : 14) ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله ، وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية ، وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى ، فلما بين وعيد المفترين على الله ، فقد دخل فيه هذا الكلام.
واعلم أن قوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } إنما يورد في معرض المبالغة. وفيه دلالة على أن الافتراء على الله تعالى أعظم أنواع الظلم.
ثم إنه تعالى بين وعيد هؤلاء بقوله : { أولئك يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} وما وصفهم بذلك لأنهم مختصون بذلك العرض ، لأن العرض عام في كل العباد كما قال : {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} (الكهف : 48) وإنما أراد به أنهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم {هَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ } فحصل لهم من الخزي والنكال مالا مزيد عليه ، وفيه سؤالات :
السؤال الأول : إذا لم يجز أن يكون الله تعالى في مكان ، فكيف قال : {يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} والجواب : أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال ، ويجوز أيضاً أن يكون ذلك عرضاً على من شاء الله من الخلق بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
السؤال الثاني : من الأشهاد الذين أضيف إليهم هذا القول ؟
(1/2429)

الجواب قال مجاهد : هم الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا. وقال قتادة ومقاتل : {الاشْهَـادُ} الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد ، يعني على رؤوس الناس. وقال الآخرون : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال الله تعالى : {فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف : 6) والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 332
السؤال الثالث : الأشهاد جمع فما واحده ؟
والجواب : يجوز أن يكون جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب ، وناصر وأنصار ، ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل شريف وأشراف. قال أبو علي الفارسي : وهذا كأنه أرجح ، لأن ما جاء من ذلك في التنزيل جاء على فعيل ، كقوله : {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة : 143) {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) ثم لما أخبر عن حالهم في عذاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال فقال : {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ} وبين أنهم في الحال لملعونون من عند الله ، ثم ذكر من صفاتهم أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً يعني أنهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال ، فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات ، وتعويج الدلائل المستقيمة ، لأنه لا يقال في العاصي يبغي / عوجاً ، وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيفية الاستقامة ، وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات.
ثم قال : {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} قال الزجاج : كلمة "هم" كررت على جهة التوكيد لثبتهم في الكفر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 332
335
اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم.
الصفة الأولى : كونهم مفترين على الله ، وهي قوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } (الأنعام : 93).
والصفة الثانية : أنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال وهي قوله : { أولئك يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} (هود : 18).
والصفة الثالثة : حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة وهي قوله : {وَيَقُولُ الاشْهَـادُ هَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ } (هود : 18).
والصفة الرابعة : كونهم ملعونين من عند الله ، وهي قوله : {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ} (هود : 18).
والصفة الخامسة : كونهم صادين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق ، وهي قوله : {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأعراف : 45).
والصفة السادسة : سعيهم في إلقاء الشبهات ، وتعويج الدلائل المستقيمة ، وهي قوله : {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} (الأعراف : 45).
/ والصفة السابعة : كونهم كافرين ، وهي قوله : {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} (هود : 19).
والصفة الثامنة : كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله ، وهي قوله : { أولئك لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِى الارْضِ} قال الواحدي : معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد. يقال أعجزني فلان أي منعني عن مرادي ، ومعنى معجزين في الأرض أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابنا فإن هرب العبد من عذاب الله محال ، لأنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات ، ولا تتفاوت قدرته بالبعد والقرب والقوة والضعف.
والصفة التاسعة : أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عذاب الله عنهم ، والمراد منه الرد عليهم في وصفهم الأصنام بأنها شفعاؤهم عند الله والمقصود أن قوله : { أولئك لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِى الارْضِ} دل على أنهم لا قدرة لهم على الفرار وقوله : {وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } هو أن أحداً لا يقدر على تخليصهم من ذلك العذاب ، فجمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة ، ثم اختلفوا فقال قوم المراد إن عدم نزول العذاب ليس لأجل أنهم قدروا على منع الله من إنزال العذاب ولا لأجل أن لهم ناصراً يمنع ذلك العذاب عنهم ، بل إنما حصل ذلك الإمهال لأنه تعالى أمهلهم كي يتوبوا فيزولوا عن كفرهم فإذا أبوا إلا الثبات عليه فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة ، وقال بعضهم : بل المراد أن يكونوا معجزين لله عما يريد إنزاله عليهم من العذاب في الآخرة أو في الدنيا ولا يجدون ولياً ينصرهم ويدفع ذلك عنهم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 335
والصفة العاشرة : قوله تعالى : {يُضَـاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } قيل سبب تضعيف العذاب في حقهم أنهم كفروا بالله وبالبعث وبالنشور ، فكفرهم بالمبدأ والمعاد صار سبباً لتضعيف العذاب ، والأصوب أن يقال إنهم مع ضلالهم الشديد ، سعوا في الإضلال ومنع الناس عن الدين الحق ، فلهذا المعنى حصل هذا التضعيف عليهم.
(1/2430)

الصفة الحادية عشرة : قوله : {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} والمراد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلب وعمى النفس/ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يخلق في المكلف ما يمنعه الإيمان ، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إنه تعالى منع الكافر من الإيمان في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا ففي قوله تعالى : {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وأما في الآخرة فهو قوله : {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم : 42) وحاصل الكلام في هذا الاستدلال أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا يستطيعون السمع ، فإما أن يكون المراد أنهم ما كانوا يستطيعون سمع الأصوات والحروف ، وإما أن يكون المراد / كونهم عاجزين عن الوقوف على دلائل الله تعالى ، والقول الأول باطل لأن البديهة دلت على أنهم كانوا يسمعون الأصوات والحروف ، وجب حمل اللفظ على الثاني أجاب الجبائي عنه بأن السمع إما أن يكون عبارة عن الحاسة المخصوصة ، أو عن معنى يخلقه الله تعالى في صماخ الأذن ، وكلاهما لا يقدر العبد عليه ، لأنه لو اجتهد في أن يفعل ذلك أو يتركه لتعذر عليه ، وإذا ثبت هذا كان إثبات الاستطاعة فيه محالاً ، وإذا كان إثباتها محالاً كان نفي الاستطاعة عنه هو الحق ، فثبت أن ظاهر الآية لا يقدح في قولنا. ثم قال المراد بقوله : {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} إهمالهم له ونفورهم عنه كما يقول القائل : هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه ، وهذا مما يمجه سمعي وذكر غير الجبائي عذراً آخر ، فقال إنه تعالى نفى أن يكون لهم أولياء والمراد الأصنام ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله : {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} فكيف يصلحون للولاية.
والجواب : أما حمل الآية على أنه لا قدرة لهم على خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها فباطل ، لأن هذه الآية وردت في معرض الوعيد فلا بد وأن يكون ذلك معنى مختصاً بهم ، والمعنى الذي قالوه حاصل في الملائكة والأنبياء فكيف يمكن حمل اللفظ عليه ، وأما قوله إن ذلك محمول على أنهم كانوا يستثقلون سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإبصار صورته.
جزء : 17 رقم الصفحة : 335
فالجواب أنه تعالى نفى الاستطاعة فحمله على معنى آخر خلاف الظاهر ، وأيضاً أن حصول ذلك الاستثقال إما أن يمنع من الفهم والوصول إلى الغرض أو لم يمنع ، فإن منع فهو المقصود ، وإن لم يمنع منه فحينئذ كان ذلك سبباً أجنبياً عن المعاني المعتبرة في الفهم والإدراك ، ولا تختلف أحوال القلب في العلم والمعرفة بسببه ، فكيف يمكن جعله ذماً لهم في هذا المعرض ، وأيضاً قد بينا مراراً كثيرة في هذا الكتاب أن حصول الفعل مع قيام الصارف محال ، فلما بين تعالى كون هذا المعنى صارفاً عن قبول الدين الحق وبين فيه أنه حصل حصولاً على سبيل اللزوم بحيث لا يزول ألبتة في ذلك الوقت كان المكلف في ذلك الوقت ممنوعاً عن الإيمان ، وحينئذ يحصل المطلوب ، وأما قوله فإنا نجعل هذه الصفة من صفة الأوثان فبعيد لأنه تعالى قال : {يُضَـاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } ثم قال : {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} فوجب أن يكون الضمير في هذه الآية المتأخرة عائداً إلى عين ما عاد إليه الضمير المذكور في هذه الآية الأولى. وأما قوله : {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} فقيل : المراد منه البصيرة ، وقيل : المراد منه أنهم عدلوا عن إبصار ما يكون حجة لهم.
الصفة الثانية عشرة : قوله : { أولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} ومعناه أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
/ الصفة الثالثة عشرة : قوله : {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} والمعنى أنهم لما باعوا الدين بالدنيا فقد خسروا ، لأنهم أعطوا الشريف ، ورضوا بأخذ الخسيس ، وهذا عين الخسران في الدنيا ثم في الآخرة فهذا الخسيس يضيع ويهلك ولا يبقى منه أثر/ وهو المراد بقوله : {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
(1/2431)

الصفة الرابعة عشرة : قوله : {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ} وتقريره ما تقدم ، وهو أنه لما أعطى الشريف الرفيع ورضي بالخسيس الوضيع فقد خسر في التجارة. ثم لما كان هذا الخسيس بحيث لا يبقى بل لا بد وأن يهلك ويفنى انقلبت تلك التجارة إلى النهاية في صفة الخسارة ، فلهذا قال : {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ} وقوله {لا جَرَمَ} قال الفراء : إنها بمنزلة قولنا لا بد ولا محالة ، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً ، تقول العرب : لا جرم أنك محسن ، على معنى حقاً إنك محسن ، وأما النحويون فلهم فيه وجوه : الأول : لا حرف نفي وجزم ، أي قطع ، فإذا قلنا : لا جرم معناه أنه لا قطع قاطع عنهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. الثاني : قال الزجاج إن كلمة {لا} نفي لما ظنوا أنه ينفعهم ، و{جَرَمَ} معناه كسب ذلك الفعل ، والمعنى : لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة ، وذكرنا {جَرَمَ} بمعنى كسب في تفسير قوله تعالى : {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} (المائدة : 2) قال الأزهري ، وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب ، الثالث : قال سيبويه والأخفش : {لا} رد على أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح ، والتأويل أنه حق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم. واحتج سيبويه بقول الشاعر :
جزء : 17 رقم الصفحة : 335
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزاة بعدها أن يغضبوا
أراد حقت الطعنة فزارة أن يغضبوا.
جزء : 17 رقم الصفحة : 335
335
اعلم أنه تعالى لما ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم ، أتبعه بذكر أحوال المؤمنين ، والإخبات هو الخشوع والخضوع وهو مأخوذ من الخبت وهو الأرض المطمئنة وخبت ذكره أي خفي ، / فقوله : "أخبت" أي دخل في الخبت ، كما يقال فيمن صار إلى نجد أنجد وإلى تهامة أتهم ، ومنه المخبت من الناس الذي أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه ، ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام ، فإذا قلنا : أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه ، وإذا قلنا أخبت له فمعناه خشع له.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة ، وقوله {وَأَخْبَتُوا } إشارة إلى أن هذه الأعمال لا تنفع في الآخرة إلا مع الأحوال القلبية ثم إن فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان المراد أنهم يعبدون الله وكانت قلوبهم عند أداء العبادات مطمئنة بذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى أو يقال إنما قلوبهم صارت مطمئنة إلى صدق الله بكل ما وعدهم من الثواب والعقاب ، وأما إن فسرنا الإخبات بالخشوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين من أن يكونوا أتوا بها مع وجود الإخلال والتقصير ، ثم بين أن من حصل له هذه الصفات الثلاثة فهم أصحاب الجنة ، ويحصل لهم الخلود في الجنة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 335
336
واعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين ذكر فيهما مثالاً مطابقاً ثم اختلفوا فقيل : إنه راجع إلى من ذكر آخراً من المؤمنين والكافرين من قبل ، وقال آخرون : بل رجع إلى قوله : {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه } (هود : 17) ثم ذكر من بعده الكافرين ووصفهم بأنهم لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ، والسميع والبصير هم الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم.
واعلم أن وجه التشبيه هو أنه سبحانه خلق الإنسان مركباً من الجسد ومن النفس ، وكما أن للجسد بصراً وسمعاً فكذلك حصل لجوهر الروح سمع وبصر ، وكما أن الجسد إذا كان أعمى أصم بقي متحيراً لا يهتدي إلى شيء من المصالح ، بل يكون كالتائه في حضيض الظلمات لا يبصر نوراً يهتدي به ولا يسمع صوتاً ، فكذلك الجاهل الضال المضل ، يكون أعمى وأصم القلب ، فيبقى في ظلمات الضلالات حائراً تائهاً.
ثم قال تعالى : {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} منبهاً على أنه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصمم ، وإذا كان /العلاج ممكناً من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى وهذا الصمم وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.
واعلم أنه قد جرت العادة بأنه تعالى إذا ورد على الكافر أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ، ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل على ما قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة ، وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص.
القصة الأولى
قصة نوح عليه السلام
جزء : 17 رقم الصفحة : 336
336
اعلم أنه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصة في سورة يونس وقد أعادها في هذه السورة أيضاً لما فيها من زوائد الفوائد وبدائع الحكم ، وفيه مسألتان :
(1/2432)

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {إِنِّى } بفتح الهمزة ، والمعنى : أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير مبين ، ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام وهو قوله : {إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فلما اتصل به حرف الجر وهو الباء فتح كما فتح في كان ، وأما سائر القراء فقرؤا {إِنِّى } بالكسر على معنى قال {إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} .
المسألة الثانية : قال بعضهم : المراد من النذير كونه مهدداً للعصاة بالعقاب ، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب ، والأولى أن يكون المعنى أنه نذير للعصاة من العقاب وأنه مبين بمعنى أنه بين ذلك الإنذار على الطريق الأكمل والبيان الأقوى الأظهر ، ثم بين تعالى أن ذلك الإنذار إنما حصل في النهي عن عبادة غير الله وفي الأمر بعبادة الله لأن قوله : {أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } استثناء من النفي وهو يوجب نفي غير المستثنى.
واعلم أن تقدير الآية كأنه تعالى قال ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بهذا الكلام وهو قوله : {إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} .
/ ثم قال : {أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } فقوله : {أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } بدل من قوله : {إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ} ثم إنه أكد ذلك بقوله : {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} والمعنى أنه لما حصل الألم العظيم في ذلك اليوم أسند ذلك الألم إلى اليوم ، كقولهم نهارك صائم ، وليلك قائم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 336
338
اعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوته بثلاثة أنوع من الشبهات.
فالشبهة الأولى : أنه بشر مثلهم ، والتفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة لجميع العالمين.
والشبهة الثانية : كونه ما أتبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع الخسيسة ، قالوا ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم ، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} (الشعراء : 111).
والشبهة الثالثة : قوله تعالى : {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل } والمعنى : لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات ، فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات.
واعلم أن الشبهة الأولى لا تليق إلا بالبراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق ، أما الشبهتان الباقيتان فيمكن أن يتمسك بهما من أقر بنبوة سائر الأنبياء ، وفي لفظ الآية مسائل :
المسألة الأولى : الملأ الأشراف وفي اشتقاقه وجوه : الأول : أنه مأخوذ من قولهم مليء بكذا إذا كان مطيقاً له وقد ملؤا بالأمر ، والسبب في إطلاق هذا اللفظ عليهم أنهم ملؤا بترتيب المهمات / وأحسنوا في تدبيرها. الثاني : أنهم وصفوا بذلك لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون عليه. الثالث : وصفوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة. الرابع : وصفوا به لأنهم ملؤوا العقول الراجحة والآراء الصائبة.
ثم حكى الله تعالى عنهم الشبهة الأولى ، وهي قولهم : {مَا نَرَاـاكَ إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا} وهو مثل ما حكى الله تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا : {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } (الأنعام : 8) وهذا جهل ، لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة ، لا بالصورة والخلقة ، بل نقول : إن الله تعالى لو بعث إلى البشر ملكاً لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى ، فلهذه الحكمة ما بعث الله إلى البشر رسولاً إلا من البشر.
جزء : 17 رقم الصفحة : 338
ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله : {وَمَا نَرَاـاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ} والمراد منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضاً جهل ، لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية ، بل الفقر أهون على الدين من الغنى ، بل نقول : الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعناً في النبوة والرسالة.
(1/2433)

ثم حكى الله تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله : {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل } وهذا أيضاً جهل ، لأن الفضيلة المعتبرة عند الله ليست إلا بالعلم والعمل ، فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة ، ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـاذِبِينَ} وفيه وجهان : الأول : أن يكون هذا خطاباً مع نوح ومع قومه/ والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرسالة. والثاني : أن يكون هذا خطاباً مع الأراذل فنسبوهم إلى أنهم كذبوا في أن آمنوا به واتبعوه.
المسألة الثانية : قال الواحدي : الأرذل جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته ورجل رذل الثياب والفعل. والأراذل جمع الأرذل ، كقولهم أكابر مجرميها ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "أحاسنكم أخلاقاً" فعلى هذا الأراذل جمع الجمع ، وقال بعضهم : الأصل فيه أن يقال : هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا : هو الأرذل فصارت الألف واللام عوضاً عن الإضافة وقوله : {بَادِىَ الرَّأْىِ} البادي هو الظاهر من قولك : بدا الشيء إذا ظهر ، ومنه يقال : بادية لظهورها وبروزها للناظر ، واختلفوا في بادي الرأي وذكروا فيه وجوهاً : الأول : اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه ، والثاني : يجوز أن يكون المراد اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي وما احتاطوا في / ذلك الرأي وما أعطوه حقه من الفكر الصائب والتدبر الوافي. الثالث : أنهم لما وصفوا القوم بالرذالة قالوا : كونهم كذلك بادي الرأي أمر ظاهر لكل من يراهم ، والرأي على هذا المعنى من رأي العين لا من رأي القلب ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه كان يقرأ {إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ} .
المسألة الثالثة : قرأ أبو عمرو ونصير عن الكسائي بالهمزة والباقون بالياء غير مهموز فمن قرأ بالهمزة فالمعنى أول الرأي وابتداؤه ومن قرأ بالياء غير مهموز كان من بدا يبدو أي ظهر و{أَرَاذِلُنَا بَادِىَ} نصب على المصدر كقولك : ضربت أول الضرب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 338
339
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكى شبهات منكري نبوة نوح عليه الصلاة والسلام حكى بعده ما يكون جواباً عن تلك الشبهات.
فالشبهة الأولى : قولهم : {مَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فقال نوح حصول المساواة في البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة ، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه ، فقال : {أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى} من معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه ، ثم إنه تعالى أتاني رحمة من عنده ، والمراد بتلك الرحمة إما النبوة وإما المعجزة الدالة على النبوة {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي صارت مظنة مشتبهة ملتبسة في عقولكم ، فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفتها شئتم أم أبيتم ؟
والمراد أني لا أقدر على ذلك ألبتة ، وعن قتادة : والله لو استطاع نبي الله لألزمها ولكنه لم يقدر عليه ، وحاصل الكلام أنهم لما قالوا : {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل } (هود : 27) ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت ، فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهر المقصود ، وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلاً عظيماً.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} بضم العين وتشديد / الميم على ما لم يسم فاعله ، بمعنى ألبست وشبهت والباقون بفتح العين مخففة الميم ، أي التبست واشتبهت.
واعلم أن الشيء إذا بقي مجهولاً محضاً أشبه المعمي ، لأن العلم نور البصيرة الباطنة والأبصار نور البصر الظاهر فحسن جعل كل واحد منها مجازاً عن الآخر وتحقيقه أن البينة توصف بالأبصار قال تعالى : {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـاتُنَا مُبْصِرَةً} (النمل : 13) وكذلك توصف بالعمى ، قال تعالى : {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانابَآءُ} (القصص : 66) وقال في هذه الآية : {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 339
المسألة الثالثة : {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} فيه ثلاث مضمرات : ضمير المتكلم وضمير الغائب وضمير المخاطب ، وأجاز الفراء إسكان الميم الأولى ، وروي ذلك عن أبي عمرو قال : وذلك أن الحركات توالت فسكنت الميم وهي أيضاً مرفوعة وقبلها كسرة والحركة التي بعدها ضمة ثقيلة ، قال الزجاج : جميع النحوين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في ضرورة الشعر وما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء ، وروي عن سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحق وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقول امرىء القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب
جزء : 17 رقم الصفحة : 339
341
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم لا يتبعك إلا الأراذل من الناس وتقرير هذا الجواب من وجوه :
(1/2434)

الوجه الأول : أنه عليه الصلاة والسلام قال : "أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالاً حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيراً أو غنياً وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين" وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك.
الوجه الثاني : كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيراً وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم على تبليغ الرسالة أجراً إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد.
والوجه الثالث : في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا : {مَا نَرَاـاكَ إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا} إلى قوله : {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل } (هود : 27) فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعاً كثيرة توجب فضله عليهم ولذلك لم يسع في طلب الدنيا ، وإنما يسعى في طلب الدين ، والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل ، فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه.
فأما قوله : {وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } فهذا كالدليل على أن القوم سألوه طردهم رفعاً لأنفسهم عن مشاركة أولئك الفقراء. روى ابن جريج أنهم قالوا : إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم فقال عليه الصلاة والسلام : {وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } وقوله تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا : {وَمَا نَرَاـاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ} (هود : 27) كالدليل على أنهم طلبوا منه طردهم لأنه كالدليل على أنهم كانوا يقولون : لو اتبعك أشراف القوم لوافقناهم ، ثم إنه تعالى حكى عنه أنه ما طردهم ، وذكر في بيان ما يوجب الامتناع من هذا الطرد أموراً : الأول : أنهم ملاقو ربهم وهذا الكلام يحتمل وجوهاً منها أنهم قالوا هم منافقون فيما أظهروا فلا تغتر بهم فأجاب بأن هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربهم في الآخرة. ومنها أنه جعله علة في الامتناع من الطرد وأراد أنهم ملاقوا ما وعدهم ربهم ، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة ، ومنها أنه نبه بذلك الأمر على أنا نجتمع في الآخرة فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني ، ثم بين أنهم يبنون أمرهم على الجهل بالعواقب والاغترار بالظواهر فقال {وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 341
ثم قال بعده {تَجْهَلُونَ * وَيَـاقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُم أَفَلا تَذَكَّرُونَ} والمعنى : أن العقل والشرع تطابقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر التقي ومن إهانة الفاجر الكافر ، فلو قلبت القصة / وعكست القضية وقربت الكافر الفاجر على سبيل التعظيم/ وطردت المؤمن التقي على سبيل الإهانة كنت على ضد أمر الله تعالى ، وعلى عكس حكمه وكنت في هذا الحكم على ضد ما أمر الله تعالى من إيصال الثواب إلى المحقين ، والعقاب إلى المبطلين وحينئذ أصير مستوجباً للعقاب العظيم فمن ذا الذي ينصرني من الله تعالى ومن الذي يخلصني من عذاب الله أفلا تذكرون فتعلمون أن ذلك لا يصح ثم أكد هذا البيان بوجه ثالث فقال : {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ} أي كما لا أسألكم فكذلك لا أدعي أني أملك مالاً ولا لي غرض في المال لا أخذاً ولا دفعاً ، ولا أعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي ولا أقول إني ملك حتى أتعظم بذلك عليكم ، بل طريقي الخضوع والتواضع ومن كان هذا شأنه وطريقه فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ، ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين وإنما شأنه طلب الدين وسيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين فلما كانت طريقتي توجب مخالطة الفقراء فكيف جعلتم ذلك عيباً علي ، ثم إنه أكد هذا البيان بطريق رابع فقال : {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ } وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق فقال : إني لا أقول ذلك ، لأنه من باب الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله ، فربما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله ملك الآخرة فأكون كاذباً فيما أخبرت به ، فإني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي ومن الظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله تعالى آتاهم الخير في الآخرة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 341
(1/2435)

المسألة الثانية : احتج قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقالوا : إن الإنسان إذا قال : أنا لا أدعي كذا وكذا ، فهذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل فلما كان قائل هذا القول هو نوح عليه السلام وجب أن تكون درجة الملائكة أعلى وأشرف من درجات الأنبياء ، ثم قالوا : وكيف لا يكون الأمر كذلك والملائكة داوموا على عبادة الله تعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقوم الساعة ، وتمام التقرير أن الفضائل الحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء : أولها : الاستغناء المطلق وجرت العادة في الدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصف بكونه غنياً فقوله : {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ} إشارة إلى أني لا أدعي الاستغناء المطلق وثانيها : العلم التام وإليه الإشارة بقوله : {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وثالثها : القدرة التامة الكاملة ، وقد تقرر في الخواطر أن أكمل المخلوقات في القدرة والقوة هم الملائكة وإليه الإشارة بقوله : {وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ} والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أن ما حصل عندي من هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية ، فأما الكمال المطلق فأنا لا أدعيه وإذا كان الأمر كذلك / فقد ظهر أن قوله : {وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ} يدل على أنهم أكمل من البشر ، وأيضاً يمكن جعل هذا الكلام جواباً عما ذكروه من الشبهة فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال : {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ} حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضاً بأنهم منافقون فقال : {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما أُجري الأحوال على الظواهر وطعنوا فيهم بأنهم قد يأتون بأفعال لا كما ينبغي فقال : {وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ} حتى أكون مبرأ عن جميع الدواعي الشهوانية والبواعث النفسانية.
المسألة الثالثة : احتج قوم بهذه الآية على صدور الذنب من الأنبياء فقالوا : إن هذه الآية دلت على أن طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي ، ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلّم طرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله تعالى في قوله : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه } (الأنعام : 52) وذلك يدل على إقدام محمد صلى الله عليه وسلّم على الذنب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 341
والجواب : يحمل الطرد المذكور في هذه الآية على الطرد المطلق على سبيل التأبيد ، والطرد المذكور في واقعة محمد صلى الله عليه وسلّم ، على التقليل في أوقات معينة لرعاية المصالح.
المسألة الرابعة : احتج الجبائي على أنه لا تجوز الشفاعة عند الله في دفع العقاب بقول نوح عليه السلام {مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } معناه إن كان هذا الطرد محرماً فمن ذا الذي ينصرني من الله ، أي من الذي يخلصني من عقابه ولو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق نوح عليه السلام أيضاً جائزة وحينئذ يبطل قوله : {مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ} واعلم أن هذا الاستدلال يشبه استدلالهم في هذه المسألة بقوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} إلى قوله : {لا يُنصَرُونَ} (البقرة : 48) والجواب المذكور هناك هو الجواب عن هذا الكلام.
جزء : 17 رقم الصفحة : 341
343
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الكفار لما أوردوا تلك الشبهة.
وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أورد الكفار على نوح كلامين : الأول : أنهم وصفوه بكثرة المجادلة فقالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم ، وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوة والمعاد ، وهذا يدل على أن الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء ، وعلى أن التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار. والثاني : أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به ، فقالوا : {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} ثم إنه عليه السلام أجاب عنه بجواب صحيح فقال : {إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} والمعنى أن إنزال العذاب ليس إلي وإنما هو خلق الله تعالى فيفعله إن شاء كما شاء ، وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحداً لا يعجزه ، أي لا يمنعه منه ، والمعجز هو الذي يفعل ما عنده لتعذر مراد الغير فيوصف بأنه أعجزه ، فقوله : {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي لا سبيل لكم إلى فعل ما عنده ، فلا يمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم ، وقد قيل معناه : وما أنتم بمانعين ، وقيل : وما أنتم بمصونين ، وقيل : وما أنتم بسابقين إلى الخلاص ، وهذه الأقوال متقاربة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 343
(1/2436)

واعلم أن نوحاً عليه السلام لما أجاب عن شبهاتهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة ، فقال : {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} أي إن كان الله يريد أن يغويكم فإنه لا ينفعكم نصحي ألبتة ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يريد الكفر من العبد ، وأنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه ، قالوا : إن نوحاً عليه السلام قال : {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } والتقدير : لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ويضلكم ، وهذا صريح في مذهبنا ، أما المعتزلة فإنهم قالوا ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إن أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول ، وهذا مسلم ، فإنا نعرف أن الله تعالى لو أراد إغواء عبد فإنه لا ينفعه نصح الناصحين ، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء فإن النزاع ما وقع إلا فيه ، بل نقول إن نوحاً عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام ليدل على أنه تعالى ما أغواهم ، بل فوض الاختيار إليهم وبيانه من وجهين الأول : أنه عليه السلام بين أنه تعالى لو أراد إغوائهم لما بقي في النصح فائدة فلو لم يكن فيه فائدة لما أمره بأن ينصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أنه عليه السلام مأمور / بدعوة الكفار ونصيحتهم ، فعلمنا أن هذا النصح غير خال عن الفائدة ، وإذا لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنه تعالى ما أغواهم ، فهذا صار حجة لنا من هذا الوجه. الثاني : أنه لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم لصار هذا عذراً لهم في عدم إتيانهم بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم ، لأنهم يقولون له إنك سلمت أن الله أغوانا فإنه لا يبقى في نصحك ولا في جدنا واجتهادنا فائدة/ فإذا ادعيت بأن الله تعالى قد أغوانا فقد جعلتنا معذورين فلم يلزمنا قبول هذه الدعوة ، فثبت أن الأمر لو كان كما قاله الخصم ، لصار هذا حجة للكفار على نوح عليه السلام ، ومعلوم أن نوحاً عليه السلام لا يجوز أن يذكر كلاماً يصير بسببه مفحماً ملزماً عاجزاً عن تقرير حجة الله تعالى ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية لا تدل على قول المجبرة ، ثم إنهم ذكروا وجوهاً من التأويلات : الأول : أولئك الكفار كانوا مجبرة ، وكانوا يقولون إن كفرهم بإرادة الله تعالى ، فعند هذا قال نوح عليه السلام : إن نصحه لا ينفعهم إن كان الأمر كما قالوا ، ومثاله أن يعاقب الرجل ولده على ذنبه فيقول الولد : لا أقدر على غير ما أنا عليه ، فيقول الوالد فلن ينفعك إذاً نصحي ولا زجري ، وليس المراد أنه يصدقه على ما ذكره بل على وجه الإنكار لذلك. الثاني : قال الحسن معنى {يُغْوِيَكُمْ } أي يعذبكم ، والمعنى : لا ينفعكم نصحي اليوم إذا نزل بكم العذاب فآمنتم في ذلك الوقت ، لأن الإيمان عند نزول العذاب لا يقبل ، وإنما ينفعكم نصحي إذا آمنتم قبل مشاهدة العذاب. الثالث : قال الجبائي : الغواية هي الخيبة من الطلب بدليل قوله تعالى : {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم : 59) أي خيبة من خير الآخرة قال الشاعر :
جزء : 17 رقم الصفحة : 343
ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
الرابع : أنه إذا أصر على الكفر وتمادى فيه منعه الله تعالى الألطاف وفوضه إلى نفسه ، فهذا شبيه ما إذا أراد إغواءه فلهذا السبب حسن أن يقال إن الله تعالى أغواه هذا جملة كلمات المعتزلة في هذا الباب. والجواب عن أمثال هذه الكلمات قد ذكرناه مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الثانية : قوله : {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } جزاء معلق على شرط بعده شرط آخر وهذا يقتضي أن يكون الشرط المؤخر في اللفظ مقدماً في الوجود وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار ، كان المفهوم كون ذلك الطلاق من لوازم ذلك الدخول ، فإذا ذكر بعده شرطاً آخر مثل أن يقول : إن أكلت الخبز كان المعنى أن تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول مشروط بحصول هذا الشرط الثاني والشرط مقدم على المشروط في الوجود فعلى هذا إن حصل الشرط الثاني تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول إما إن / لم يوجد الشرط المذكور ثانياً لم يتعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول ، هذا هو التحقيق في هذا التركيب ، فلهذا المعنى قال الفقهاء : إن الشرط المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى ، والمقدم في اللفظ مؤخر في المعنى.
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما قرر هذه المعاني قال : {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهذا نهاية الوعيد أي هو إلهكم الذي خلقكم ورباكم ويملك التصرف في ذواتكم وفي صفاتكم قبل الموت وعند الموت وبعد الموت مرجعكم إليه وهذا يفيد نهاية التحذير.
جزء : 17 رقم الصفحة : 343
343
(1/2437)

اعلم أن معنى افتراه اختلقه وافتعله وجاء به من عند نفسه ، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم ، وقوله : {فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} الإجرام اقتراح المحظورات واكتسابها ، وهذا من باب حذف المضاف ، لأن المعنى : فعليَّ عقاب إجرامي ، وفي الآية محذوف آخر وهو أن المعنى : إن كنت افتريته فعليَّ عقاب جرمي ، وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب ، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه ، كقوله : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ} (الزمر : 9) ولم يذكر البقية ، وقوله : {وَأَنَا بَرِى ءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} أي أنا بريء من عقاب جرمكم ، وأكثر المفسرين على أن هذا من بقية كلام نوح عليه السلام ، وهذه الآية وقعت في قصة محمد صلى الله عليه وسلّم في أثناء حكاية نوح ، وقولهم بعيد جداً ، وأيضاً قوله : {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُه فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} لا يدل على أنه كان شاكاً ، إلا أنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول.
جزء : 17 رقم الصفحة : 343
344
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما جاء هذا من عند الله تعالى دعا على / قومه فقال : {رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح : 26) وقوله : {فَلا تَبْتَـاـاِسْ} أي لا تحزن ، قال أبو زيد : ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه ، وأنشد أبو عبيدة :
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس
به وأقعد كريماً ناعم البال
أي غير حزين ولا كاره.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في القضاء والقدر وقالوا : إنه تعالى أخبر عن قومه أنهم لا يؤمنون بعد ذلك ، فلو حصل إيمانهم لكان إما مع بقاء هذا الخبر صدقاً ، ومع بقاء هذا العلم علماً أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلاب هذا العلم جهلاً والأول ظاهر البطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقاً ، ومع كون العلم بعدم الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمع بين النقيضين ، والثاني أيضاً باطل ، لأن انقلاب خبر الله كذباً وعلم الله جهلاً محال ، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بد وأن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالاً مع أنهم كانوا مأمورين به ، وأيضاً القوم كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه. ومنه قوله : {وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا} (هود : 36) فيلزم أن يقال : إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة. وذلك تكليف الجمع بين النقيضين ، وتقرير هذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مراراً وأطواراً.
المسألة الثالثة : اختلف المعتزلة في أنه هل يجوز أن ينزل الله تعالى عذاب الاستئصال على قوم كان في المعلوم أن فيهم من يؤمن أو كان في أولادهم من يؤمن ، فقال قوم : إنه لا يجوز. واحتجوا بما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال : {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح : 26 ، 27) وهذا يدل على أنه إنما حسن منه تعالى إنزال عذاب الاستئصال عليهم ، لأجل أنه تعالى علم أنه ليس من يؤمن ، ولا في أولادهم أحد يؤمن. قال القاضي وقال كثير من علمائنا : إن ذلك من الله تعالى جائز وإن كان منهم من يؤمن. وأما قول نوح عليه السلام : {رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} فذلك يدل على أنه إنما سأل ذلك من حيث إنه كان في المعلوم أنهم يضلون عباده ولايلدون إلا فاجراً كفاراً وذلك يدل على أن ذلك الحكم كان قولاً بمجموع هاتين العلتين ، وأيضاً فلا دليل فيه على أنهما لو لم يحصلا لما جاز إنزال الإهلاك ، والأقرب أن يقال : إن نوحاً عليه السلام لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم ، فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل / فيه من تلك المحبة ، ولذلك قال تعالى من بعد : {فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي لا تحزن من ذلك ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة ، فإن الدين عزيز ، وإن قل عدد من يتمسك به ، والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به.
جزء : 17 رقم الصفحة : 344
345
[بم قوله تعالى :
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا ا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} .
واعلم أن قوله تعالى : {أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ} يقتضي تعريف نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم ، فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب ، فعرفه الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق ، ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة. لا جرم أمر الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها ، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جوجؤ الطائر.
(1/2438)

فإن قيل : قوله تعالى : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} أمر إيجاب أو أمر إباحة.
قلنا : الأظهر أنه أمر إيجاب ، لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس عن الهلاك واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب بل كان أمر إباحة ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً ليسكنها ويقيم بها.
أما قوله : {بِأَعْيُنِنَا} فهذا لا يمكن أجراؤه على ظاهره من وجوه : أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة. وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } وثانيها : أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين ، كما يقال : قطعت بالسكين ، وكتبت بالقلم ، ومعلوم أن ذلك باطل. وثالثها : أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزهاً عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض ، فوجب المصير فيه إلى التأويل ، وهو من وجوه : الأول : أن معنى {بِأَعْيُنِنَا} أي بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة ، يقال فلان عين على فلان نصب عليه ليكون منفحصاً عن أحواله ولا تحول عنه عينه. الثاني : أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه ، فلما كان وضع العين على الشيء سبباً لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية / عن الاحتياط ، فلهذا قال المفسرون معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك ، وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل. والثاني : أن يكون عالماً بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه ، وقوله : {وَوَحْيِنَا} إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب.
جزء : 17 رقم الصفحة : 345
وأما قوله : {وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا ا إِنَّهُم} ففيه وجوه : الأول : يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم ، فلما علم نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال : {نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح : 26) الثاني : {وَلا تُخَـاطِبْنِى} في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا ، فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً ، الثالث : المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان.
جزء : 17 رقم الصفحة : 345
346
أما قوله تعالى : {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في قوله : {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} قولان : الأول : أنه حكاية حال ماضية أي في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. الثاني : التقدير وأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله : {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} .
المسألة الثانية : ذكروا في صفة السفينة أقوالاً كثيرة : فأحدها : أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين ، وقيل في أربع سنين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد ، وحمل معه جسد آدم عليه السلام ، وثانيها : قال الحسن / كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع.
واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها ألبتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلاً وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه إنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان ، لأن هذا القدر مذكور في القرآن ، فأما غير ذلك القدر فغير مذكور.
أما قوله تعالى : {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلا مِّن قَوْمِه سَخِرُوا مِنْه } ففي تفسير الملأ وجهان قيل جماعة وقيل طبقة من أشرافهم وكبرائهم واختلفوا فيما لأجله كانوا يسخرون وفيه وجوه أحدهما : أنهم كانوا يقولون : يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجاراً. وثانيها : أنهم كانوا يقولون له : لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وثالثها : أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون. ورابعها : أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جداً وكانوا يقولون : ليس ههنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار ، فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون. وخامسها : أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كونه كاذباً في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 346
(1/2439)

ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول : {إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} وفيه وجوه : الأول : التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة. الثاني : إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا. الثالث : أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد ، لأنكم لا تشتجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال.
فإن قيل : السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قلنا : إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40).
أما قوله تعالى : {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة ، وفي قوله : {مَن يَأْتِيهِ} وجهان : أحدهما : أن يكون استفهاماً بمعنى أي كأنه قيل : فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب ، وعلى هذا الوجه فمحل "من" رفع بالابتداء. والثاني : أن / يكون بمعنى الذي ويكون في محل النصب ، وقوله تعالى : {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي يجب عليه وينزل به.
جزء : 17 رقم الصفحة : 346
348
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" {حَتَّى } هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء ووقعت غاية لقوله : {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد.
المسألة الثانية : الأمر في قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} يحتمل وجهين : الأول : أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر الله تعالى كما قال : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) فكان المراد هذا. والثاني : أن يكون المراد من الأمر ههنا هو العذاب الموعد به.
المسألة الثالثة : في التنور قولان : أحدهما : أنه التنورالذي يخبز فيه. والثاني : أنه غيره ، أما الأول وهو أنه التنور الذي يخبز فيه فهو قول جماعة عظيمة من المفسرين كابن عباس والحسن ومجاهد. وهؤلاء اختلفوا ، فمنهم من قال : إنه تنور لنوح عليه السلام ، وقيل : كان لآدم قال الحسن : كان تنوراً من حجارة ، وكان لحواء حتى صار لنوح عليه السلام ، واختلفوا في موضعه فقا الشعبي : إنه كان بناحية الكوفة ، وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة ، قال : وقد صلى فيه سبعون نبياً ، وقيل بالشام بموضع يقال له : عين وردان وهو قول مقاتل وقيل : فار التنور بالهند ، وقيل : إن امرأته كانت تخبز في ذلك التنور فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السفينة.
القول الثاني : ليس المراد من التنور تنور الخبز ، وعلى هذا التقدير ففيه أقوال : الأول : أنه انفجر الماء من وجه الأرض كما قال : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى ا أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} والعرب تسمي وجه الأرض تنوراً. الثاني : أن التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها وقد أخرج إليه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له ، وأيضاً / المعنى أنه لما نبع الماء من أعالي الأرض ، ومن الأمكنة المرتفعة فشبهت لارتفاعها بالتنانير. الثالث : {وَفَارَ التَّنُّور } أي طلع الصبح وهو منقول عن علي رضي الله عنه. الرابع : {وَفَارَ التَّنُّور } يحتمل أن يكون معناه أشد الأمر كما يقال : حمي الوطيس ومعنى الآية إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فانج بنفسك ومن معك إلى السفينة.
جزء : 17 رقم الصفحة : 348
فإن قيل : فما الأصح من هذه اقوال ؟
قلنا : الأصل حمل الكلام على حقيقته ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه ولا امتناع في العقل في أن يقال : إن الماء نبع أولاً من موضع معين وكان ذلك الموضع تنوراً.
فإن قيل : ذكر التنور بالألف واللام وهذا إنما يكون معهود سابق معين معلوم عند السامع وليس في الأرض تنور هذا شأنه ، فوجب أن يحمل ذلك على أن المراد إذا رأيت الماء يشتد نبوعه والأمر يقوى فانج بنفسك وبمن معك.
قلنا : لا يبعد أن يقال : إن ذلك التنور كان لنوح عليه السلام بأن كان تنور آدم أو حواء أو كان تنوراً عينه الله تعالى لنوح عليه السلام وعرفه أنك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أن الأمر قد وقع ، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره.
(1/2440)

المسألة الرابعة : معنى نبع على قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور/ والذي روى أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة ، وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين ، فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة.
المسألة الخامسة : قال الليث : التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار ، قال الأزهري : وهذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجمياً فتعربه العرب فيصير عربياً ، والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا ، ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والاستبرق فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية.
واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء. فالأول : قوله : {التَّنُّورا قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قال الأخفش : تقول الاثنان هما زوجان قال تعالى : {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات : 49) فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج ، وتقول للمرأة هي زوج وهو زوجها قال تعالى : {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء : 1) / يعني المرأة ، وقال : {وَأَنَّه خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى } (النجم : 45) فثبت أن الواحد قد يقال له : زوج ومما يدل على ذلك قوله تعالى : {ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍا مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِا قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِا نَبِّـاُونِى بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } (الأنعام : 143).
جزء : 17 رقم الصفحة : 348
إذا عرفت هذا فنقول : الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى والتقدير كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر والآخر أنثى ، ولذلك قرأ حفص {مِن كُلٍّ} بالتنوين وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين الذكر زوج والأنثى زوج لا يقال عليه إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين فما الفائدة في قوله : {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} لأنا نقول هذا على مثال قوله : {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ } (النحل : 51) وقوله : {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (الحاقة : 13) وأما على القراءة المشهورة ، فهذا السؤال غير وارد واختلفوا في أنه هل دخل في قوله : {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} غير الحيوان أم لا ؟
فنقول : أما الحيوان فداخل لأن قوله : {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يدخل فيه كل الحيوانات ، وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه ، وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال : لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى وذلك أن نوحاً عليه السلام قال : يا رب فمن أين أطعم الأسد إذا حملته قال تعالى : "فسوف أشغله عن الطعام" فسلط الله تعالى عليه الحمى وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ، فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى. الثاني : من الأشياء التي أمر الله نوحاً عليه السلام بحملها في السفينة.
قوله تعالى : {وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} قالوا : كانوا سبعة نوح عليه السلام وثلاثة أبناء له وهم سام وحام ويافث ، ولكل واحد منهم زوجة ، وقيل أيضاً كانوا ثمانية ، هؤلاء وزوجة نوح عليه السلام.
وأما قوله : {إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} فالمراد ابنه وامرأته وكانا كافرين ، حكم الله تعالى عليهم بالهلاك.
فإن قيل : الإنسان أشرف من جميع الحيوانات فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات ؟
قلنا : الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه ، فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب ، بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات/ فلهذا السبب وقع الابتداء به.
واعلم أن أصحابنا احتجوا بقوله : {إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب ، قالوا : لأن قوله : {سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} مشعر بأن كل من سبق عليه القول فإنه لا يتغير عن حاله وهو كقوله عليه الصلاة والسلام : "السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه".
/
جزء : 17 رقم الصفحة : 348
(1/2441)

النوع الثالث : من تلك الأشياء قوله : {وَمَنْ ءَامَنَ } قالوا كانوا ثمانين. قال مقاتل : في ناحية الموصل قرية يقال لها قرية الثمانين سميت بذلك ، لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها ، فسميت بهذا الاسم وذكروا ماهو أزيد منه وما هو أنقص منه وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا أن الله تعالى وصفهم بالقلة وهو قوله تعالى : {وَمَآ ءَامَنَ مَعَه ا إِلا قَلِيلٌ} .
فإن قيل : لما كان الذين آمنوا معه ودخلوا في السفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله : {إِنَّ هَـا ؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} (الشعراء : 54).
قلنا : كلا اللفظين جائز ، والتقدير ههنا وما آمن معه إلا نفر قليل ، فأما الذي يروي أن إبليس دخل السفينة فبعيد ، لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي وكيف يؤثر الغرق فيه ، وأيضاً كتاب الله تعالى لم يدل عليه وخبر صحيح ما ورد فيه ، فالأولى ترك الخوض فيه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 348
350
أما قوله : {وَقَالَ} يعني نوح عليه السلام لقومه : {ارْكَبُوا } والركوب العلو على ظهر الشيء ومنه ركوب الدابة وركوب السفينة وركوب البحر وكل شيء علا شيئاً فقد ركبه ، يقال ركبه الدين قال الليث : وتسمي العرب من يركب السفينة راكب السفينة. وأما الركبان والركب من ركبوا الدواب والإبل. قال الواحدي : ولفظة (في) في قوله : {ارْكَبُوا فِيهَا} لا يجوز أن تكون من صلة الركوب ، لأنه يقال ركبت السفينة ولا يقال ركبت في السفينة ، بل الوجه أن يقال مفعول اركبوا محذوف والتقدير اركبوا الماء في السفينة ، وأيضاً يجوز أن يكون فائدة هذه الزيادة ، أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال اركبوها : لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهر السفينة.
أما قوله تعالى : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مجريها بفتح الميم والباقون بضم الميم واتفقوا في مرساها أنه بضم الميم ، وقال صاحب "الكشاف" : قرأ مجاهد بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله تعالى. قال الواحدي : المجرى مصدر كالإجراء ، ومثله قوله : {رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكًا} (المؤمنون : 29) {أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} (الإسراء : 80) وأما من قرأ بفتح الميم ، فهو أيضاً مصدر ، مثل الجري. واحتج صاحب هذه القراءة بقوله : {رَّحِيمٌ * وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ} (هود : 42) ولو كان مجراها لكان وهي تجريهم ، وحجة من ضم الميم أن جرت بهم وأجرتهم يتقاربان في المعنى ، فإذا قال : {تَجْرِى بِهِمْ} فكأنه قال : تجريهم ، وأما المرسي فهو أيضاً مصدر كالإرساء. يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غيره ، قال تعالى : {وَالْجِبَالَ أَرْسَـاـاهَا} (النازعات : 32) قال ابن عباس : يريد تجري بسم الله وقدرته ، وترسو بسم الله وقدرته ، وقيل : كان إذا أراد أن تجري بهم قال : {بِسْمِ اللَّهِ} فتجري ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله مرساها فترسو.
جزء : 17 رقم الصفحة : 350
المسألة الثانية : ذكروا في عامل الإعراب في {بِسْمِ اللَّهِ} وجوهاً : الأول : اركبوا بسم الله ، والثاني : ابدؤا بسم الله ، والثالث : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، وقيل : إنها سارت لأول يوم من رجب ، وقيل : لعشر مضين من رجب ، فصارت ستة أشهر ، واستوت يوم العاشر من المحرم على الجودي.
المسألة الثالثة : في الآية احتمالان :
الاحتمال الأول : أن يكون مجموع قوله : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } كلاماً واحداً ، والتقدير : وقال اركبوا فيها بسم مجريها ومرساها ، يعني ينبغي أن يكون الركوب مقروناً بهذا الذكر.
والاحتمال الثاني : أن يكونا كلامين ، والتقدير : أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ، ثم أخبرهم بأن مجريها ومرساها ليس إلا بسم الله وأمره وقدرته.
فالمعنى الأول : يشير إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يشرع في أمر من الأمور إلا ويكون في وقت الشروع فيه ذاكراً لاسم الله تعالى بالأذكار المقدسة حتى يكون ببركة ذلك الذكر سبباً لتمام ذلك المقصود.
والمعنى الثاني : يدل على أنه لما ركب السفينة أخبر القوم بأن السفينة ليست سبباً لحصول النجاة بل الواجب ربط الهمة وتعليق القلب بفضل الله تعالى ، وأخبرهم أنه تعالى هو المجري والمرسي للسفينة ، فإياكم أن تعولوا على السفينة ، بل يجب أن يكون تعويلكم على فضل الله فإنه هو المجري والمرسي لها/ فعلى التقدير الأول كان نوح عليه السلام وقت ركوب السفينة في مقام الذكر ، وعلى التقدير الثاني كان في مقام الفكر والبراءة عن الحول والقوة وقطع النظر عن الأسباب واستغراق القلب في نور جلال مسبب الأسباب.
(1/2442)

واعلم أن الإنسان إذا تفكر في طلب معرفة الله تعالى بالدليل والحجة فكأنه جلس في سفينة التفكر والتدبر ، وأمواج الظلمات والضلالات قد علت تلك الجبال وارتفعت إلى مصاعد القلال ، فإذا ابتدأت سفينة الفكرة والروية بالحركة وجب أن يكون هناك اعتماده على الله تعالى وتضرعه / إلى الله تعالى وأن يكون بلسان القلب ونظر العقل. يقول : بسم الله مجريها ومرساها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل النجاة وتتخلص عن أمواج الضلالات.
وأما قوله : {إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ففيه سؤال وهو أن ذلك الوقت وقت الإهلاك وإظهار القهر فكيف يليق به هذا الذكر ؟
وجوابه : لعل القوم الذين ركبوا السفينة اعتقدوا في أنفسهم أنا إنما نجونا ببركة علمنا فالله تعالى نبههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب منهم ، فإن الإنسان لا ينفك عن أنواع الزلات وظلمات الشهوات ، وفي جميع الأحوال فهو محتاج إلى إعانة الله وفضله وإحسانه ، وأن يكون رحيماً لعقوبته غفوراً لذنوبه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 350
353
واعلم أن قوله : {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ} متعلق بمحذوف ، والتقدير : وقال اركبوا فيها ، فركبوا فيها يقولون : بسم الله وهي تجري بهم في موج كالجبال.
المسألة الثانية : الأمواج العظيمة إنما تحدث عند حصول الرياح القوية الشديدة العاصفة فهذا يدل على أنه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة شديدة ، والمقصود منه : بيان شدة الهول والفزع.
المسألة الثالثة : الجريان في الموج ، هو أن تجري السفينة داخل الموج ، وذلك يوجب الغرق ، / فالمراد أن الأمواج لما أحاطت بالسفينة من الجوانب ، شبهت تلك السفينة بما إذا جرت في داخل تلك الأمواج.
ثم حكى الله تعالى عنه أنه نادى ابنه ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أنه كان ابناً له ، وفيه أقوال :
القول الأول : أنه ابنه في الحقيقة ، والدليل عليه : أنه تعالى نص عليه فقال : {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَه } ونوح أيضاً نص عليه فقال : {أَوْ بَنِى } وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه ، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز ، والذين خالفوا هذا الظاهر إنما خالفوه لأنهم استبعدوا أن يكون ولد الرسول المعصوم كافراً ، وهذا بعيد ، فإنه ثبت أن والد رسولنا صلى الله عليه وسلّم كان كافراً ، ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافراً بنص القرآن ، فكذلك ههنا ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام لما قال : {رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح : 26) فكيف ناداه مع كفره ؟
فأجابوا عنه من وجوه : الأول : أنه كان ينافق أباه فظن نوح أنه مؤمن فلذلك ناداه ولولا ذلك لما أحب نجاته. والثاني : أنه عليه السلام كان يعلم أنه كافر ، لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله : {مَعْزِلٍ يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا} كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان وتأكد هذا بقوله : {وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ} أي تابعهم في الكفر واركب معنا. والثالث : أن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدم من قوله : {إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} كان كالمجمل فلعله عليه السلام جوز أن لا يكون هو داخلاً فيه.
جزء : 17 رقم الصفحة : 353
القول الثاني : أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر وقول الحسن البصري ويروى أن علياً رضي الله عنه قرأ {وَنَادَى نُوحٌ} والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير {نُوحٌ ابْنَه } بفتح الهاء يريد أن ابنها إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف ، وقال قتادة سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إن الله حكى عنه أنه قال : {إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} وأنت تقول : ما كان ابناً له ، فقال : لم يقل : إنه مني ولكنه قال من أهلي وهذا يدل على قولي.
(1/2443)

القول الثالث : أنه ولد على فراشه لغير رشدة ، والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نص القرآن. أما قوله تعالى {فَخَانَتَاهُمَا} فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه. قبل لابن عباس رضي الله عنهما : ما كانت تلك الخيانة ، فقال : / كانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون ، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به. ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب قوله تعالى : {الْخَبِيثَـاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـاتِا وَالطَّيِّبَـاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـاتِ } (النور : 26) وأيضاً قوله تعالى : {الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَآ إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌا وَحُرِّمَ ذَالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (النور : 3) وبالجملة فقد دللنا على أن الحق هو مقول الأول.
وأما قوله : {وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ} فاعلم أن المعزل في اللغة معناه : موضع منقطع عن غيره ، وأصله من العزل ، وهو التنحية والإبعاد. تقول : كنت بمعزل عن كذا ، أي بموضع قد عزل منه.
واعلم أن قوله : {وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ} لا يدل على أنه في معزل من أي شيء فلهذا السبب ذكروا وجوهاً : الأول : أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق : الثاني : أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه : الثالث : أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم.
جزء : 17 رقم الصفحة : 353
أما قوله : {يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ} فنقول : قرأ حفص عن عاصم {أَوْ بَنِى } بفتح الياء في جميع القرآن والباقون بالكسر. قال أبو علي : الوجه الكسر وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو فإذا صغرت ألحقت ياء التحقير ، فلزم أن ترد اللام المحذوفة وإلا لزم أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب لكنها لا تحرك لأنها لو حركت لزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف المد واللين إذا كانت حروف إعراب ، نحو عصا وقفا ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير ثم أضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث آيات. الأولى : منها للتحقير. والثانية : لام الفعل. والثالثة : التي للإضافة تقول : هذا بني فإذا ناديته صار فيه وجهان : إثبات الياء وحذفها والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو يا غلام ومن قرأ {أَوْ بَنِى } بفتح الياء فإنه أراد الإضافة أيضاً كما أرادها من قرأ بالكسر لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف تخفيفا فصار يا بنيا كما قال :
يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف للتخفيف.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعاه إلى أن يركب السفينة حكى عن ابنه أنه قال : {سَـاَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ } وهذا يدل على أن الابن كان متمادياً في الكفر مصراً عليه مكذباً لأبيه فيما أخبر عنه فعند هذا قال نوح عليه السلام : {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ } وفيه سؤال ، وهو أن الذي رحمه الله معصوم ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم وهو قوله : {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} وذكروا في الجواب طرقاً كثيرة.
/ الوجه الأول : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (هود : 41) فبين أنه تعالى رحيم وأنه برحمته يخلص هؤلاء الذين ركبوا السفينة من آفة الغرق.
إذا عرفت هذا فنقول : إن ابن نوح عليه السلام لما قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام أخطأت {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ } والمعنى : إلا ذلك الذي ذكرت أنه برحمته يخلص هؤلاء من الغرق فصار تقدير الآية : لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا الله الرحيم وتقديره : لا فرار من الله إلا إلى الله ، وهو نظير قوله عليه السلام في دعائه : "وأعوذ بك منك" وهذا تأويل في غاية الحسن.
جزء : 17 رقم الصفحة : 353
الوجه الثاني : في التأويل وهو الذي ذكره صاحب "حل العقد" أن هذا الاستثناء وقع من مضمر هو في حكم الملفوظ لظهور دلالة اللفظ عليه ، والتقدير : لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا من رحم وهو كقولك لا نضرب اليوم إلا زيداً ، فإن تقديره لا تضرب أحداً إلا زيداً إلا أنه ترك التصريح به لدلالة اللفظ عليه فكذا ههنا.
(1/2444)

الوجه الثالث : في التأويل أن قوله : {لا عَاصِمَ} أي لاذا عصمة كما قالوا : رامح ولابن ومعناه ذو رمح ، وذو لبن وقال تعالى : {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} (الطارق : 6) و{عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) ومعناه ما ذكرنا فكذا ههنا ، وعلى هذا التقدير : العاصم هو ذو العصمة ، فيدخل فيه المعصوم ، وحينئذ يصح استثناء قوله : {إِلا مَن رَّحِمَ} منه.
الوجه الرابع : قوله : {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ } عنى بقوله إلا من رحم نفسه ، لأن نوحاً وطائفته هم الذين خصهم الله تعالى برحمته ، والمراد : لا عاصم لك إلا الله بمعنى أن بسببه تحصل رحمة الله ، كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام في قوله : {وَرَسُولا إِلَى } (آل عمران : 49) لأجل أن الإحياء حصل بدعائه.
الوجه الخامس : أن قوله : {إِلا مَن رَّحِمَ} استثناء منقطع ، والمعنى لكن من رحم الله معصوم ونظيره قوله تعالى : {مَا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } (النساء : 157) ثم إنه تعالى بين بقوله : {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
جزء : 17 رقم الصفحة : 353
357
/اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر لواقعة الطوفان ، فكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفان قيل كذا وكذا {وَقِيلَ يَـا أَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ} يقال بلع الماء يبلعه بلعاً إذا شربه وابتلع الطعام ابتلاعاً إذا لم يمضغه ، وقال أهل اللغة : الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها {مَآءَكِ وَيَـاسَمَآءُ أَقْلِعِى} يقال أقلع الرجل عن عمله إذا كف عنه ، وأقلعت السماء بعدما مطرت إذا أمسكت {وَغِيضَ الْمَآءُ} يقال غاض الماء يغيض غيضاً ومغاضاً إذا نقص وغضته أنا وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا ومثله جبر العظم وجبرته وفغر الفم وفغرته ، ودلع اللسان ودلعته ، ونقص الشيء ونقصته ، فقوله : {وَغِيضَ الْمَآءُ} أي نقص وما بقي منه شيء.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه : فأولها : قوله : {وَقِيلَ} وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة ، بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه ، على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو. وثانيها : قوله : {الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَـا أَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَيَـاسَمَآءُ أَقْلِعِى} فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ، صار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره ، وكمال قدرته ومشيئته. وثالثها : أن السماء والأرض من الجمادات فقوله : {وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ} مشعر بحسب الظاهر ، على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذاً على العقلاء كان أولى وليس مرادي منه أنه تعالى يأمر الجمادات فإن ذلك باطل بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع عظمته وجلاله تقريراً كاملاً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 357
وأما قوله : {وَقُضِىَ الامْرُ} فالمراد أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزماً حتماً فقد وقع تنبيهاً على أن كل ما قضى الله تعالى فهو واقع في وقته وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه.
فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفار ؟
/ قلنا : الجواب عنه من وجهين : الأول : أن كثيراً من المفسرين يقولون إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين.
ولقائل أن يقول : لو كان الأمر على ما ذكرتم ، لكان ذلك آية عجيبة قاهرة. ويبعد مع ظهورها استمرارهم على الكفر ، وأيضاً فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها ألبتة.
والجواب الثاني : وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} (الأنبياء : 23) وأما المعتزلة فهم يقولون إنه تعالى أغرق الأطفال والحيوانات ، وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة.
وأما قوله تعالى : {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ } فالمعنى واستوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي ، وكان ذلك الجبل جبلاً منخفضاً/ فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة ذلك الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء.
(1/2445)

وأما قوله تعالى : {وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} ففيه وجهان : الأول : أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد. والثاني : أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق.
جزء : 18 رقم الصفحة : 357
357
/ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله : {رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} فقد ذكرنا الخلاف في أنه هل كان ابناً له أم لا فلا نعيده ، ثم إنه تعالى ذكر أنه قال : {قَالَ يَـانُوحُ إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه كان ابناً له وجب حمل قوله : {إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } على أحد وجهين : أحدهما : أن يكون المراد أنه ليس من أهل دينك. والثاني : المراد أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك والقولان متقاربان.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب فإن في هذه الصورة / كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ولكن لما انتفت قرابة الدين لا جرم نفاه الله تعالى بأبلغ الألفاظ وهو قوله : {إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } .
ثم قال تعالى : {إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ } قرأ الكسائي : عمل على صيغة الفعل الماضي ، وغير بالنصب ، والمعنى : إن ابنك عمل عملاً غير صالح يعني أشرك وكذب ، وكلمة {غَيْرَ} نصب ، لأنها نعت لمصدر محذوف ، وقرأ الباقون : عمل بالرفع والتنوين ، وفيه وجهان : الأول : أن الضمير في قوله إنه عائد إلى السؤال ، يعني أن هذا السؤال عمل وهو قوله : {إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} غير صالح ، لأن طلب نجاة الكافر بعد أن سبق الحكم ، الجزم بأنه لا ينجي أحداً منهم سؤال باطل. الثاني : أن يكون هذا الضمير عائداً إلى الابن ، وعلى هذا التقدير ففي وصفه بكوه عملاً غير صالح وجوه : الأول : أن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له : إنه علم وكرم وجود ، فكذا ههنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه في نفسه عمل باطل. الثاني : أن يكون المراد أنه ذو عمل باطل ، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. الثالث : قال بعضهم معنى قوله : {إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ } أي إنه ولد زنا وهذا القول باطل قطعاً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 357
ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام : {فَلا تَسْـاَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌا إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه :
الوجه الأول : أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة ، وهذا يقتضي عود الضمير في قوله : {إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ } إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال ، فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر. ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا ، لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير ، فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال ، فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح ، أي قولك : إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح ، وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنباً ومعصية.
الوجه الثاني : أن قوله : {فَلا تَسْـاَلْنِ} نهي له عن السؤال ، والمذكور السابق هو قوله {إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنباً ومعصية.
الوجه الثالث : أن قوله : {فَلا تَسْـاَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم ، والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى : {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة : 169).
الوجه الرابع : أن قوله تعالى : {إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} يدل على أن ذلك السؤال / كان محض الجهل. وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر ، وأيضاً جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن. قال تعالى : {يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ} (النساء : 17) وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (البقرة : 67).
الوجه الخامس : أن نوحاً عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال : {إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌا وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنباً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 357
(1/2446)

الوجه السادس : في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحاً نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق ، والآية المتقدمة وهي قوله : {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَه } وقال : {مَعْزِلٍ يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا} تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة. فنقول : إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقاً على طلبه من الولد أو كان بالعكس ، والأول باطل لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقاً على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق ، وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب ، وبعد هذا كيف قال له : {مَعْزِلٍ يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ} وأما إن قلنا : إن هذا الطلب من الابن كان متقدماً فكان قد سمع من الابن قوله : {سَـاَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ } وظهر بذلك كفره ، فكيف طلب من الله تخليصه ، وأيضاً أنه تعالى أخبر أن نوحاً لما طلب ذلك منه وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين ، فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام.
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي ، وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار ، ولا يدل على سابقة الذنب كما قال : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه } (النصر : 1 ـ 3) ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } (محمد : 19) وليس جميعهم مذنبين ، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل.
المسألة الثانية : قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء ، وقرأ أبو عمرو بتخفيف / النون وكسرها وحذف الياء أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل ، وأما ترك التشديد والحذف فللتخيف من غير إخلال.
جزء : 18 رقم الصفحة : 357
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال : {قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌا وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} والمعنى أنه تعالى لما قال له : {فَلا تَسْـاَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف ، ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك ، فلهذا بدأ أولاً بقوله : {إِنِّى أَعُوذُ بِكَ} .
(1/2447)

واعلم أن قوله : {إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ } إخبار عما في المستقبل ، أي لا أعود إلى هذا العمل ، ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى ، فقال : {وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} وحقيقة التوبة تقتضي أمرين : أحدهما : في المستقبل ، وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله : {إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ } والثاني : في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله : {وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام. فنقول : إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين ، وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق ، وكان ذلك معلوماً ، وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفياً وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمناً ، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً ، بل على الوجوه الصحيحة ، فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال : {سَـاَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ } وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق ، وقول نوح : {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ } لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند بنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح ، وهذا أيضاً لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافراً فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن ، فطلب من الله تعالى تخليصه بطريق من الطرق إما بأن يمكنه من الدخول في السفينة ، وإما أن يحفظه على قلة جبل ، فعند ذلك أخبره الله تعالى بأنه منافق وأنه ليس من أهل دينه ، فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنه لم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره ، بل اجتهد في ذلك وكان يظن أنه مؤمن ، مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد ، لأنه كان كافراً فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذا الاجتهاد ، كما قررنا ذلك في أن آدم عليه السلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنه أخطأ في هذا الاجتهاد ، فثبت بما ذكرنا أن الصادر عن نوح عليه السلام ما كان من باب الكبائر وإنما هو من باب الخطأ في الاجتهاد ، والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 357
361
/ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي ، فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة ، ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض فقوله : {اهْبِطْ} يحتمل أن يكون أمراً بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل وأن يكون أمراً بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية.
المسألة الثانية : أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولاً ، ثم بالبركة ثانياً ، أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين : الأول : أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحاً عليه السلام تاب عن زلته وتضرع إلى الله تعالى بقوله : {وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} (هود : 47) وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم عليه السلام عند توبته من زلته وهو قوله : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} (الأعراف : 23) فكان نوح عليه السلام محتاجاً إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد فلما قيل له : {قِيلَ يَـانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا} حصل له الأمن من جمبع المكاره المتعلقة بالدين. والثاني أن ذلك الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعند ما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان ، فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب ، فلما قال الله تعالى : {اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا} زال عنه ذلك الخوف ، لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق ، ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة هي عبارة عن الدوام والبقاء ، والثبات ، ونيل الأمل ، ومنه بروك الإبل ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها ، ومنه تبارك وتعالى ، أي ثبت تعظيمه ، ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء.
(1/2448)

فالقول الأول : أنه تعالى صير نوحاً أبا البشر ، لأن جميع من بقي كانوا من نسله وعند هذا / قال هذا القائل : إنه لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته ، فالخلق كلهم من نسله وذريته ، وقال آخرون : لم يكن في سفينة نوح عليه السلام إلا من كان من نسله وذريته ، وعلى التقديرين فالخلق كلهم إنما تولدوا منه ومن أولاده ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَه هُمُ الْبَاقِينَ} (الصافات : 77) فثبت أن نوحاً عليه السلام كان آدم الأصغر ، فهذا هو المراد من البركات التي وعده الله بها.
جزء : 18 رقم الصفحة : 361
والقول الثاني : أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات ، وعده بأن موجبات السلامة ، والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار ، ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال : {وَعَلَى ا أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال : منهم من حمله على أولئك الأقوام الذين نجوا معه وجعلهم أمماً وجماعات ، لأنه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلا هم ، فلهذا السبب جعلهم أمماً ، ومنهم من قال : بل المراد ممن معك نسلاً وتولداً قالوا : ودليل ذلك أنه ما كان معه إلا الذين آمنوا وقد حكم الله تعالى عليهم بالقلة في قوله تعالى : {وَمَآ ءَامَنَ مَعَه ا إِلا قَلِيلٌ} (هود : 40) ومنهم من قال : المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الذين سيولدون بعد ذلك ، والمختار هو القول الثاني : ومن في قوله : {مِّمَّن مَّعَكَ } لابتداء الغاية ، والمعنى : وعلى أمم ناشئة من الذين معك.
واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين : أحدهما : الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم وهم أهل الإيمان. والثاني : أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم ، فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح عليه السلام لا بد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر. قال المفسرون : دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة ، ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ، ثم قال أهل التحقيق : إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه ، لأنه قال : {بِسَلَـامٍ مِّنَّا} وهدا يدل على أن الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق ، وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق وطلبهم للحق وتوجههم إلى الحق ، وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى ، فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير ، والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير ، والأول : نصيب عامة الخلق ، والثاني : نصيب المقربين ، ولهذا السبب قال بعضهم : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ، ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة / الوصول ، وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيباً من متاع الدنيا فدل ذلك على خساسة الدنيا ، فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر ألبتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا. ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا ، وهذا تنبيه عظيم على خساسة السعادات الجسمانية والترغيب في المقامات الروحانية.
جزء : 18 رقم الصفحة : 361
والقول الثاني : أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات ، وعده بأن موجبات السلامة ، والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار ، ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال : {وَعَلَى ا أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال : منهم من حمله على أولئك الأقوام الذين نجوا معه وجعلهم أمماً وجماعات ، لأنه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلا هم ، فلهذا السبب جعلهم أمماً ، ومنهم من قال : بل المراد ممن معك نسلاً وتولداً قالوا : ودليل ذلك أنه ما كان معه إلا الذين آمنوا وقد حكم الله تعالى عليهم بالقلة في قوله تعالى : {وَمَآ ءَامَنَ مَعَه ا إِلا قَلِيلٌ} (هود : 40) ومنهم من قال : المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الذين سيولدون بعد ذلك ، والمختار هو القول الثاني : ومن في قوله : {مِّمَّن مَّعَكَ } لابتداء الغاية ، والمعنى : وعلى أمم ناشئة من الذين معك.
(1/2449)

واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين : أحدهما : الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم وهم أهل الإيمان. والثاني : أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم ، فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح عليه السلام لا بد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر. قال المفسرون : دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة ، ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ، ثم قال أهل التحقيق : إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه ، لأنه قال : {بِسَلَـامٍ مِّنَّا} وهدا يدل على أن الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق ، وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق وطلبهم للحق وتوجههم إلى الحق ، وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى ، فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير ، والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير ، والأول : نصيب عامة الخلق ، والثاني : نصيب المقربين ، ولهذا السبب قال بعضهم : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ، ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة / الوصول ، وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيباً من متاع الدنيا فدل ذلك على خساسة الدنيا ، فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر ألبتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا. ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا ، وهذا تنبيه عظيم على خساسة السعادات الجسمانية والترغيب في المقامات الروحانية.
جزء : 18 رقم الصفحة : 361
362
واعلم أنه تعالى لما شرح قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال : {تِلْكَ} أي تلك الآيات التي ذكرناها ، وتلك التفاصيل التي شرحناها من أنباء الغيب ، أي من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق فقوله : {تِلْكَ} في محل الرفع على الابتداء ، و{مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ} الخبر و{نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } خبر ثان وما بعده أيضاً خبر ثالث.
ثم قال تعالى : {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلا قَوْمُكَ} والمعنى : أنك ما كنت تعرف هذه القصة ، بل قومك ما كانوا يعرفونها أيضاً ، ونظيره أن تقول لإنسان لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك.
فإن قيل : أليس قد كانت قصة طوفان نوح عليه السلام مشهورة عند أهل العلم ؟
قلنا : تلك القصة بحسب الإجمال كانت مشهورة ، أما التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة.
ثم قال : {فَاصْبِرْا إِنَّ الْعَـاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} والمعنى : يا محمد اصبر أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار ، وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه.
فإن قال قائل : إنه تعالى ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم إنه أعادها ههنا مرة أخرى ، فما الفائدة في هذا التكرير ؟
قلنا : إن القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه : ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب ، فذكر تعالى قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر / ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش ، فذكر الله تعالى هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلاً في زمان نوح ، إلا أنه عليه السلام لما صبر نال الفتح والظفر ، فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود ، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 362
363
اعلم أن هذا هو القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ، واعلم أن هذا معطوف على قوله : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} (الحديد : 26) والتقدير : ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً وقوله : {هُودًا } عطف بيان.
واعلم أنه تعالى وصف هوداً بأنه أخوهم ومعلوم أن تلك الأخوة ما كانت في الدين ، وإنما كانت في النسب ، لأن هوداً كان رجلاً من قبيلة عاد ، وهذه القبيلة كانت قبيلة من العرب وكانوا بناحية اليمن ، ونظيره ما يقال للرجل يا أخا تميم ويا أخا سليم ، والمراد رجل منهم.
فإن قيل : إنه تعالى ، قال في ابن نوح {إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } (هود : 46) فبين أن قرابة النسب لا تفيد إذا لم تحصل قرابة الدين ، وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدين ، فما الفرق بينهما ؟
(1/2450)

قلنا : المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمد صلى الله عليه وسلّم ، لأن قومه كانوا يستعبدون في محمد مع أنه واحد من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله ، فذكر الله تعالى أن هوداً كان واحداً من عاد وأن صالحاً كان واحداً من ثمود لإزالة هذا الاستبعاد.
واعلم أنه تعالى حكى عن هود عليه السلام ، أنه دعا قومه إلى أنواع من التكاليف.
فالنوع الأول : أنه دعاهم إلى التوحيد ، فقال : {يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا إِنْ أَنتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ} وفيه سؤال وهو أنه كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل أن أقام الدلالة على ثبوت الإله تعالى ؟
قلنا : دلائل وجود الله تعالى ظاهرة ، وهي دلائل الآفاق والأنفس وقلما توجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله تعالى ، ولذلك قال تعالى في صفة الكفار : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } .
قال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله وختم له بالحسن ، دخلت بلاد الهند فرأيت أولئك الكفار مطبقين على الاعتراف بوجود الإله ، وأكثر بلاد الترك أيضاً كذلك ، وأنما الشأن في عبادة الأوثان ، فإنها آفة عمت أكثر أطراف الأرض وهكذا الأمر كان في الزمان القديم ، أعني زمان نوح وهود وصالح عليهم السلام ، فهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، كانوا يمنعونهم من عبادة الأصنام ، فكان قوله : {اعْبُدُوا اللَّهَ} معناه لا تعبدوا غير الله والدليل عليه أنه قال عقيبه : {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا } وذلك يدل على أن المقصود من هذا الكلام منعهم عن الاشتغال بعبادة الأصنام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 363
وأما قوله : {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا } فقرىء {غَيْرُه ا } بالرفع صفة على محل الجار والمجرور ، وقرىء بالجر صفة على اللفظ.
ثم قال : {إِنْ أَنتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ} يعني أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام تحسن عبادتها ، أو في قولكم إنها تستحق العبادة ، وكيف لا يكون هذا كذباً وافتراء وهي جمادات لاحس لها ولا إدراك ، والإنسان هو الذي ركبها وصورها فكيف يليق بالإنسان الذي صنعها أن يعبدها وأن يضع الجبهة على التراب تعظيماً لها ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لما أرشدهم إلى التوحيد ومنعهم عن عبادة الأوثان قال : و{مُفْتَرُونَ * يَـاقَوْمِ لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى } وهو عين ما ذكره نوح عليه السلام/ وذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى إذا كانت مطهرة عن دنس الطمع ، قوي تأثيرها في القلب.
ثم قال {أَفَلا تَعْقِلُونَ} يعني أفلا تعقلون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام ، وذلك لأن العلم بصحة هذا المنع ، كأنه مركوز في بدائه العقول.
جزء : 18 رقم الصفحة : 363
364
(1/2451)

/ اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التكاليف التي ذكرها هود عليه السلام لقومه ، وذلك لأنه في المقام الأول دعاهم إلى التوحيد ، وفي هذا المقام دعاهم إلى الاستغفار ثم إلى التوبة ، والفرق بينهما قد تقدم في أول هذه السورة. قال أبو بكر الأصم : استغفروا ، أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ثم توبوا من بعده بالندم على ما مضى وبالعزم على أن لا تعدوا إلى مثله ؛ ثم إنه عليه السلام قال : "إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم" وهذا غاية ما يراد من السعادات ، فإن النعم إن لم تكن حاصلة تعذر الانتفاع وإن كانت حاصلة ، إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضاً ، أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها ، فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة فقوله تعالى : {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} إشارة إلى تكثير النعم لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة ، وقوله : {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} إشارة إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة ، ولا شك أن هذه الكلمة جامعة في البشارة بتحصيل السعادات وأن الزيادة عليها ممتنعة في صريح العقل ، ويجب على العاقل أن يتأمل في هذه اللطائف ليعرف ما في هذا الكتاب الكريم من الأسرار المخفية ، وأما المفسرون فإنهم قالوا القوم كانوا مخصوصين في الدنيا بنوعين من الكمال : أحدهما : أن بساتينهم ومزارعهم كانت في غاية الطيب والبهجة ، والدليل عليه قوله : {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَـادِ} (الفجر : 7 ، 8) والثاني : أنهم كانوا في غاية القوة والبطش ولذلك قالوا : {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } (فصلت : 15) ، ولما كان القوم مفتخرين على سائر الخلق بهذين الأمرين وعدهم هود عليه السلام ، أنهم لو تركوا عبادة الأصنام واشتغلوا بالاستغفار والتوبة فإن الله تعالى يقوي حالهم في هذين المطلوبين ويزيدهم فيها درجات كثيرة ، ونقل أيضاً أن الله تعالى لما بعث هوداً عليه السلام إليهم وكذبوه وحبس الله عنهم المطر سنين وأعقم أرحام نسائهم فقال لهم هود : إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد ، فذلك قوله : {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} والمدرار الكثير الدر وهو من أبنية المبالغة وقوله : {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ففسروا هذه القوة بالمال والولد ، والشدة في الأعضاء ، لأن كل ذلكم ما يتقوى به الإنسان.
/
جزء : 18 رقم الصفحة : 364
فإن قيل : حاصل الكلام هو أن هوداً عليه السلام قال : لو اشتغلتم بعبادة الله تعالى لانفتحت عليكم أبواب الخيرات الدنيوية ، وليس الأمر كذلك ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال : "خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل" فكيف الجمع بينهما ، وأيضاً فقد جرت عادة القرآن بالترغيب في الطاعات بسبب ترتيب الخيرات الدنيوية والأخروية عليها ، فأما الترغيب في الطاعات ، لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها ، فذلك لا يليق بالقرآن بل هو طريق مذكور في التوراة.
الجواب : أنه لما أكثر الترغيب في السعادات الأخروية لم يبعد الترغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفاية.
وأما قوله : {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} فمعناه : لا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأرغبكم فيه مجرمين أي مصرين على إجرامكم وآثامكم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 364
365
اعلم أنه تعالى لما حكى عن هود عليه السلام ما ذكره للقوم ، حكى أيضاً ما ذكره القوم له وهو أشياء : أولها : قولهم : {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي بحجة ، والبينة سميت بينة لأنها تبين الحق من الباطل ، ومن المعلوم أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزات إلا أن القوم بجهلهم أنكروها ، وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات. وثانيها : قولهم : {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} وهذا أيضاً ركيك ، لأنهم / كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ، ومتى كان الأمر كذلك فقد ظهر في بديهة العقل أنه لا تجوز عبادتها وتركهم آلهتهم لا يكون عن مجرد قوله بل عن حكم نظر العقل وبديهة النفس. وثالثها : قوله : {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وهذا يدل على الإصرار والتقليد والجحود. ورابعها : قولهم : {إِن نَّقُولُ إِلا اعْتَرَاـاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُواءٍ } يقال : اعتراه كذا إذا غشيه وأصابه. والمعنى : أنك شتمت آلهتنا فجعلتك مجنوناً وأفسدت عقلك ، ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك قال هود عليه السلام : {إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِه } وهو ظاهر.
(1/2452)

ثم قال : {فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ} وهذا نظير ما قاله نوح عليه السلام لقومه : {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} إلى قوله : {وَلا تُنظِرُونِ} (يونس : 71).
واعلم أن هذا معجزة قاهرة ، وذلك أن الرجل الواحد إذا أقبل على القوم العظيم وقال لهم : بالغوا في عداوتي وفي موجبات إيذائي ولا تؤجلون فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقاً من عند الله تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الأعداء.
جزء : 18 رقم الصفحة : 365
ثم قال : {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآ } قال الأزهري : الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدم الرأس ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته.
واعلم أن العرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلا بيد فلان ، أي أنه مطيع له ، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته ، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون فقوله : {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآ } أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته ، ومنقاد لقضائه وقدره.
ثم قال : {إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وفيه وجوه : الأول : أنه تعالى لما قال : {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآ } أشعر ذلك بقدرة عالية وقهر عظيم فأتبعه بقوله : {إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي أنه وإن كان قادراً عليهم لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب ، قالت المعتزلة قوله : {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآ } يدل على التوحيد وقوله : {إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يدل على العدل/ فثبت أن الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل. والثاني : أنه تعالى لما ذكر أن سلطانه قهر جميع الخلق أتبعه بقوله : {إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعني أنه لا يخفى عليه مستتر ، ولا يفوته هارب ، فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه ، كما قال : {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر : 14) الثالث : أن يكون المراد {إِنَّ رَبِّى} يدل على الصراط المستقيم ، أي يحث ، أو يحملكم بالدعاء إليه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 365
365
/ اعلم أن قوله : {فَإِن تَوَلَّوْا } يعني فإن تتولوا ثم فيه وجهان : الأول تقدير الكلام فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ وكنتم محجوبين كأنه يقول : أنتم الذين أصررتم على التكذيب. الثاني : {فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِه إِلَيْكُمْ } .
ثم قال : {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ} يعني يخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم ، وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال ولا تضرونه شيئاً ، يعني أن إهلاككم لا ينقص من ملكه شيئاً.
ثم قال : {إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} وفيه ثلاثة أوجه : الأول : حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها. الثاني : يحفظني من شركم ومكركم. الثالث : حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء.
جزء : 18 رقم الصفحة : 365
367
اعلم أن قوله : {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي عذابنا وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله بها سبع ليال وثمانية أيام ، تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية.
/ فإن قيل : فهذه الريح كيف تؤثر في إهلاكهم ؟
قنلا : يحتمل أن يكون ذلك لشدة حرها أو لشدة بردها أو لشده قوتها ، فتخطف الحيوان من الأرض ، ثم تضربه على الأرض ، فكل ذلك محمل.
وأما قوله : {نَجَّيْنَا هُودًا} فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معاً ، وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذاباً على الكافر ، فأما العذاب النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه ، ولولا ذلك لما عرف كونه عذاباً على كفرهم ، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا : {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه } .
وأما قوله : {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} ففيه وجوه : الأول : أراد أنه لا ينجو أحد وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلا برحمة من الله ، والثاني : المراد من الرحمة : ما هداهم إليه من الإيمان بالله والعمل الصالح. الثالث : أنه رحمهم في ذلك الوقت ، وميزهم عن الكافرين في العقاب.
وأما قوله : {وَنَجَّيْنَـاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} فالمراد من النجاة الأولى هي النجاة من عذاب الدنيا ، والنجاة الثانية من عذاب القيامة ، وإنما وصفه بكونه غليظاً تنبيهاً على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذاباً غليظاً ، والمراد من قوله تعالى : {وَنَجَّيْنَـاهُم} أي حكمنا بأنهم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ ولا يقعون فيه.
(1/2453)

جزء : 18 رقم الصفحة : 367
واعلم أنه تعالى لما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمد صلى الله عليه وسلّم ، فقال : {عَادٌا جَحَدُوا } فهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم ، كأنه تعالى قال : سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا. ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة ، فأما أوصافهم فهي ثلاثة.
الصفة الأولى : قوله : {جَحَدُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ} والمراد : جحدوا دلالة المعجزات على الصدق ، أو الجحد ، ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم ، إن ثبت أنهم كانوا زنادقة.
الصفة الثانية : قوله : {وَعَصَوْا رُسُلَه } والسبب فيه أنهم إذا عصوا رسولاً واحداً ، فقد عصوا جميع الرسل لقوله تعالى : {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } (البقرة : 285) وقيل : لم يرسل إليهم إلا هود عليه السلام.
الصفة الثالثة : قوله : {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} والمعنى أن السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم : {مَا هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (المؤمنون : 24) والمراد من الجبار المرتفع المتمرد العنيد العنود والمعاند ، وهو المنازع المعارض.
/ واعلم أنه تعالى لما ذكر أوصافهم ذكر بعد ذلك أحوالهم فقال : {وَأُتْبِعُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ } أي جعل اللعن رديفاً لهم ، ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا وفي الآخرة/ ومعنى اللعنة الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير.
ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم فقال : {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ } قيل : أراد كفروا بربهم فحذف الباء ، وقيل : الكفر هو الجحد فالتقدير : ألا إن عاداً جحدوا ربهم. وقيل : هو من باب حذف المضاف أي كفروا نعمة ربهم.
ثم قال : {أَلا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} وفيه سؤالان :
السؤال الأول : اللعن هو البعد ، فلما قال : {وَأُتْبِعُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ } فما الفائدة في قوله : {أَلا بُعْدًا لِّعَادٍ} .
والجواب : التكرير بعبارتين مختلفتين يدل على غاية التأكيد.
جزء : 18 رقم الصفحة : 367
السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله : {لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} .
الجواب : كان عاد عادين ، فالأولى : القديمة هم قوم هود ، والثانية : هم إرم ذات العماد ، فذكر ذلك لإزالة الاشتباه. والثاني : أن المبالغة في التنصيص تدل على مزيد التأكيد.
جزء : 18 رقم الصفحة : 367
368
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة وهي قصة صالح مع ثمود ، ونظمها مثل النظم المذكور في قصة هود ، إلا أن ههنا لما أمرهم بالتوحيد ذكر في تقريره دليلين :
الدليل الأول : قوله : {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ} وفيه وجهان :
/ الوجه الأول : أن الكل مخلوقون من صلب آدم ، وهو كان مخلوقاً من الأرض. وأقول : هذا صحيح لكن فيه وجه آخر وهو أقرب منه ، وذلك لأن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني إنما تولد من الدم ، فالإنسان مخلوق من الدم ، والدم إنما تولد من الأغذية ، وهذه الأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، والحيوانات حالها كحال الإنسان ، فوجب انتهاء الكل إلى النبات وظاهر أن تولد النبات من الأرض ، فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض.
والوجه الثاني : أن تكون كلمة {مَنِ} معناها في التقدير : أنشأكم في الأرض ، وهذا ضعيف لأنه متى أمكن حمل الكلام على ظاهره فلا حاجة إلى صرفه عنه ، وأما تقرير أن تولد الإنسان من الأرض كيف يدل على وجود الصانع فقد شرحناه مراراً كثيرة.
الدليل الثاني : قوله : {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وفيه ثلاثة أوجه : الأول : جعلكم عمارها ، قالوا : كان ملوك فارس قد أكثروا في حفر الأنهار وغرس الأشجار ، لا جرم حصلت لهم الأعمار الطويلة فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه ، ما سبب تلك الأعمار ؟
فأوحى الله تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي ، وأخذ معاوية في إحياء أرض في آخر عمره فقيل له ما حملك عليه ، فقال : ما حملني عليه إلا قول القائل :
ليس الفتى بفتى لا يستضاء به
ولا يكون له في الأرض آثار
الثاني : أنه تعالى أطال أعماركم فيها واشتقاق {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} من العمر مثل استبقاكم من البقاء. والثالث : أنه مأخوذ من العمرى ، أي جعلها لكم طول أعماركم فإذا متم انتقلت إلى غيركم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 368
368
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة وهي قصة صالح مع ثمود ، ونظمها مثل النظم المذكور في قصة هود ، إلا أن ههنا لما أمرهم بالتوحيد ذكر في تقريره دليلين :
الدليل الأول : قوله : {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ} وفيه وجهان :
(1/2454)

/ الوجه الأول : أن الكل مخلوقون من صلب آدم ، وهو كان مخلوقاً من الأرض. وأقول : هذا صحيح لكن فيه وجه آخر وهو أقرب منه ، وذلك لأن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني إنما تولد من الدم ، فالإنسان مخلوق من الدم ، والدم إنما تولد من الأغذية ، وهذه الأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، والحيوانات حالها كحال الإنسان ، فوجب انتهاء الكل إلى النبات وظاهر أن تولد النبات من الأرض ، فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض.
والوجه الثاني : أن تكون كلمة {مَنِ} معناها في التقدير : أنشأكم في الأرض ، وهذا ضعيف لأنه متى أمكن حمل الكلام على ظاهره فلا حاجة إلى صرفه عنه ، وأما تقرير أن تولد الإنسان من الأرض كيف يدل على وجود الصانع فقد شرحناه مراراً كثيرة.
الدليل الثاني : قوله : {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وفيه ثلاثة أوجه : الأول : جعلكم عمارها ، قالوا : كان ملوك فارس قد أكثروا في حفر الأنهار وغرس الأشجار ، لا جرم حصلت لهم الأعمار الطويلة فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه ، ما سبب تلك الأعمار ؟
فأوحى الله تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي ، وأخذ معاوية في إحياء أرض في آخر عمره فقيل له ما حملك عليه ، فقال : ما حملني عليه إلا قول القائل :
ليس الفتى بفتى لا يستضاء به
ولا يكون له في الأرض آثار
الثاني : أنه تعالى أطال أعماركم فيها واشتقاق {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} من العمر مثل استبقاكم من البقاء. والثالث : أنه مأخوذ من العمرى ، أي جعلها لكم طول أعماركم فإذا متم انتقلت إلى غيركم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 368
واعلم أن في كون الأرض قابلة للعمارات النافعة للإنسان ، وكون الإنسان قادراً عليها دلالة عظيمة على وجود الصانع ، ويرجع حاصله إلى ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله : {وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } (الأعلى : 3) وذلك لأن حدوث الإنسان مع أنه حصل في ذاته العقل الهادي والقدرة على التصرفات الموافقة يدل على وجود الصانع الحكيم وكون الأرض موصوفة بصفات مطابقة للمصالح موافقة للمنافع يدل أيضاً على وجود الصانع الحكيم.
أما قوله : {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه } فقد تقدم تفسيره.
وأما قوله : {إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} يعني أنه قريب بالعلم والسمع {مُّجِيبٌ} دعاء المحتاجين بفضله ورحمته ، ثم بين تعالى أن صالحاً عليه السلام لما قرر هذه الدلائل {قَالُوا يَـاصَـالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـاذَآ } وفيه وجوه : الأول : أنه لما كان رجلاً قوي العقل قوي الخاطر وكان من قبيلتهم قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم ويقرر طريقتهم لأنه متى حدث رجل فاضل في قوم / طمعوا فيه من هذا الوجه. الثاني : قال بعضهم المراد أنك كنت تعطف على فقرائنا وتعين ضعفاءنا وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأنصار والأحباب ، فكيف أظهرت العداوة والبغضة ثم إنهم أضافوا إلى هذا الكلام التعجب الشديد من قوله : {قَالُوا يَـاصَـالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا} والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف ، ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} (ص : 5) ثم قالوا : {وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} والشك هو أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات والمريب هو الذي يظن به السوء فقوله : {وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ} يعني به أنه لم يترجح في اعتقادهم صحة قوله وقوله : {مُرِيبٍ} يعني أنه ترجح في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغة في تزييف كلامه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 368
369
اعلم أن قوله : {إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى} ورد بحرف الشك وكان على يقين تام في أمره إلا أن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول ، فكأنه قال : قدروا أني على بينة من ربي وأني نبي على الحقيقة ، وانظروا أني إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره فمن يمنعني من عذاب الله فما تزيدونني على هذا لتقدير غير تخسير ، وفي تفسير هذه الكلمة وجهان : الأول : أن على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها. الثاني : أن يكون التقدير فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوني عليه غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران ، وأقول لكم إنكم خاسرون ، والقول الأول أقرب لأن قوله : {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُه } (هود : 63) كالدلالة على أنه أراد إن أتبعكم فيما أنتم عليه من الكفر الذي دعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين فأصير من الهالكين الخاسرين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 369
370
(1/2455)

/ اعلم أن العادة فيمن يدعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام أن يبتدىء بالدعوة إلى عبادة الله ثم يتبعه بدعوى النبوة لا بد وأن يطلبوا منه المعجزة وأمر صالح عليه السلام هكذا كان ، يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة فدعا صالح ربه فخرجت الناقة كما سألوا.
واعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه ، الأول : أنه تعالى خلقها من الصخرة وثانيها : أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل. وثالثها : أنه تعالى خلقها حاملاً من غير ذكر. ورابعها : أنه خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة ، وخامسها : ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر ، وسادسها : أنه كان يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم ، وكل من هذه الوجوه معجز قوي وليس في القرآن ، إلا أن تلك الناقة كانت آية ومعجزة ، فأما بيان أنها كانت معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه.
ثم قال : {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ} والمراد أنه عليه السلام رفع عن القوم مؤنتها ، فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرهم ، لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها على ما روي أنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر ، فإن الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه ، بل يسعى في إخفاءها وإبطالها بأقصى الإمكان ، فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها ، فلهذا احتاط وقال : {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ} وتوعدهم إن مسوها بسوء بعذاب قريب ، وذلك تحذير شديد لهم من الإقدام على قتلها ، ثم بين الله تعالى أنهم مع ذلك عقروها وذبحوها ، ويحتمل أنهم عقروها لإبطال تلك الحجة ، وأن يكون لأنها ضيقت الشرب على القوم ، وأن يكون لأنهم رغبوا في شحمها ولحمها ، وقوله : {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} يريد اليوم الثالث ، وهو قوله : {تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ} ثم بين تعالى أن / القوم عقروها ، فعند ذلك قال لهم صالح عليه السلام : {تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ } ومعنى التمتع : التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس ، ولما كان التمتع لا يحصل إلا للحي عبر به عن الحياة ، وقوله : {فِى دَارِكُمْ} فيه وجهان : الأول : أن المراد من الدار البلد ، وتسمى البلاد بالديار ، لأنه يدار فيها أي يتصرف يقال : ديار بكر أي بلادهم. الثاني : أن المراد بالديار الدنيا. وقوله : {ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غير مكذب والمصدر قد يرد بلفظ المفعول كالمجلود والمعقول وبأيكم المفتون ، وقيل غير مكذوب فيه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان ، وذلك لأنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه السلام بنزول العذاب ، فقالوا وما علامة ذلك ؟
فقال : تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة ، وفي الثاني محمرة ، وفي الثالث مسودة ، ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع ، فلما رأوا وجوههم قد اسودت أيقنوا بالعذاب فاحتاطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع وهي الصيحة والصاعقة والعذاب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 370
فإن قيل : كيف يعقل أن تظهر فيهم هذه العلامات مطابقة لقول صالح عليه السلام ، ثم يبقون مصرين على الكفر.
قلنا : ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حد الجزم واليقين لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينية قطعية/ فقد انتهى الأمر إلى حد الإلجاء والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول.
جزء : 18 رقم الصفحة : 370
371
اعلم أن مثل هذه الآية قد مضى في قصة عاد ، وقوله : {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِـاـاِذٍ } فيه مسائل :
المسألة الأولى : الواو في قوله : {وَمِنْ خِزْىِ} واو العطف وفيه وجهان : الأول : أن يكون / التقدير : نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم وبقي العار فيه مأثوراً عنهم ومنسوباً إليهم ، لأن معنى الخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله فحذف ما حذف اعتماداً على دلالة ما بقي عليه. الثاني : أن يكون التقدير : نجينا صالحاً برحمة منا ونجيناهم من خزي يومئذ.
المسألة الثانية : قرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون وإحدى الروايات عن الأعشى {يَوْمِـاـاِذٍ } بفتح الميم ، وفي المعارج {عَذَابِ يَوْمِـاـاِذ } (المعارج : 11) والباقون بكسرالميم فيهما فمن قرأ بالفتح فعلى أن يوم مضاف إلى إذ وأن إذ مبني ، والمضاف إلى المبني يجوز جعله مبنياً ألا ترى أن المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا ههنا ، وأما الكسر في إذ فالسبب أنه يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر تقول : جئتك إذ الشمس طالعة ، فلما قطع عن المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين ، وأما القراءة بالكسر فعلى إضافة الخزي إلى اليوم ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنياً لأن هذه الإضافة غير لازمة.
(1/2456)

المسألة الثالثة : الخزي الذل العظيم حتى يبلغ حد الفضيحة ولذلك قال تعالى في المحاربين {ذَالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا } (المائدة : 33) وإنما سمى الله تعالى ذلك العذاب خزياً لأنه فضيحة باقية يعتبر بها أمثالهم ثم قال : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ} وإنما حسن ذلك ، لأنه تعالى بين أنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه ، وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً ثم إنه تعالى بين ذلك الأمر فقال : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } وفيه مسألتان :
جزء : 18 رقم الصفحة : 371
المسألة الأولى : إنما قال : {أَخْذُ} ولم يقل أخذت لأن الصيحة محمولة على الصياح ، وأيضاً فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث ، وقد سبق لها نظائر.
المسألة الثانية : ذكروا في الصيحة وجهين. قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد الصاعقة الثاني : الصيحة صيحة عظيمة هائلة سمعوها فماتوا أجمع منها فأصبحوا وهم موتى جاثمين في دورهم ومساكنهم ، وجثومهم سقوطهم على وجوههم ، يقال إنه تعالى أمر جبريل عليه السلام أن يصيح بهم تلك الصيحة التي ماتوا بها ، ويجوز أن يكون الله تعالى خلقها ، والصياح لا يكون إلا الصوت الحادث في حلق وفم وكذلك الصراخ ، فإن كان من فعل الله تعالى فقد خلقه في حلق حيوان وإن كان فعل جبريل عليه السلام فقد حصل في فمه وحلقه ، والدليل عليه أن صوت الرعد أعظم من كل صيحة ولا يسمى بذلك ولا بأنه صراخ.
/ فإن قيل : فما السبب في كون الصيحة موجبة للموت ؟
قلنا : فيه وجوه : أحدها : أن الصيحة العظيمة إنما تحدث عند سبب قوي يوجب تموج الهواء وذلك التموج الشديد ربما يتعدى إلى صماخ الإنسان فيمزق غشاء الدماغ فيورث الموت. والثاني : أنها شيء مهيب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النفسانية إذا قويت أوجبت الموت الثالث : أن الصيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برق شديد محرق ، وذلك هو الصاعقة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما.
ثم قال تعالى : {فَأَصْبَحُوا فِى دِيَـارِهِمْ جَـاثِمِينَ} والجثوم هو السكون يقال للطير إذا باتت في أوكارها أنها جثمت ، ثم إن العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموت فوصف الله تعالى هؤلاء المهلكين بأنهم سكنوا عند الهلاك ، حتى كأنهم ما كانوا أحياء وقوله : {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ } أي كأنهم لم يوجدوا ، والمغنى المقام الذي يقيم الحي به يقال : غني الرجل بمكان كذا إذا أقام به.
ثم قال تعالى : {أَلا إِنَّ ثَمُودَا كَفرُوا رَبَّهُم أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ} قرأ حمزة وحفص عن عاصم {أَلا إِنَّ ثَمُودَا } غير منون في كل القرآن ، وقرأ الباقون بالتنوين ولثمود كلاهما بالصرف ، والصرف للذهاب إلى الحي ، أو إلى الأب الأكبر ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 371
375
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال النحويون : دخلت كلمة "قد" ههنا لأن السامع لقصص الأنبياء عليهم السلام يتوقع قصة بعد قصة ، وقد للتوقع ، ودخت اللام في "لقد" لتأكيد الخبر ولفظ {جَآءَتْ رُسُلُنَآ} جمع / وأقله ثلاثة فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة ، وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر ، وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام ، ثم اختلفت الروايات فقيل : أتاه جبريل عليه السلام ومعه اثنا عشر ملكاً على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن وقال الضحاك كانوا تسعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ، وهم الذين ذكرهم الله في سورة والذاريات في قوله : {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} (الذاريات : 24) وفي الحجر {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} (الحجر : 51).
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بالبشرى على وجهين : الأول : أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله : {فَبَشَّرْنَـاهَا بِإِسْحَـاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـاقَ يَعْقُوبَ} الثاني : أن المراد منه أنه بشر إبراهيم عليه السلام بسلامة لوط وبإهلاك قومه.
وأما قوله : {قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌ } ففيه مسائل :
(1/2457)

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكساني {قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌ } بكسر السين وسكون اللام بغير ألف ، وفي والذاريات مثله. قال الفراء : لا فرق بين القراءتين كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام لأن في التفسير أنهم لما جاؤا سلموا عليه. قال أبو علي الفارسي : ويحتمل أن يكون سلم خلاف العدو والحرب كأنهم لما امتنعوا من تناول ما قدمه إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قال إنا سلم ولست بحرب ولا عدو فلا تمتنعوا من تناول طعامي كما يمتنع من تناول طعام العدو ، وهذا الوجه عندي بعيد ، لأن على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلم إبراهيم عليه السلام بهذا اللفظ بعد إحضار الطعام ، إلا أن القرآن يدل على أن هذا الكلام إنما وجد قبل إحضار الطعام لأنه تعالى قال : {قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌا فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (هود : 69) والفاء للتعقيب ، فدل ذلك على أن مجيئه بذلك العجل الحنيذ كان بعد ذكر السلام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 375
المسألة الثانية : قالوا سلاماً تقديره : سلمنا عليك سلاماً قال سلام تقديره : أمري سلام ، أي لست مريداً غير السلامة والصلح. قال الواحدي : ويحتمل أن يكون المراد : سلام عليكم ، فجاء به مرفوعاً حكاية لقوله كما قال : وحذف عنه الخبر كما حذف من قوله : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } (يوسف : 18) وإنما يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوماً بعد الحذف ، وههنا المقصود معلوم فلا جرم حسن الحذف ، ونظيره قوله تعالى : {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـامٌ } (الزخرف : 89) على حذف الخبر.
واعلم أنه إنما سلم بعضهم على بعض ، رعاية للإذن المذكور في قوله تعالى : {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى ا أَهْلِهَا } .
/ المسألة الثالثة : أكثر ما يستعمل {سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ} بغير ألف ولام ، وذلك لأنه في معنى الدعاء ، فهو مثل قولهم : خير بين يديك.
فإن قيل : كيف جاز جعل النكرة مبتدأ ؟
قلنا : النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ ، فإذا قلت سلام عليكم : فالتنكير في هذا الموضع يدل على التمام والكمال ، فكأنه قيل : سلام كامل تام عليكم ، ونظيره قولنا : سلام عليك ، وقوله تعالى : {قَالَ سَلَـامٌ عَلَيْكَا سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى } (مريم : 47) وقوله : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَـالَمِينَ} (الصافات : 79) {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23 ، 24) فأما قوله تعالى : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } (طه : 47) فهذا أيضاً جائز ، والمراد منه الماهية والحقيقة. وأقول : قوله : {سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ} أكمل من قوله : السلام عليكم ، لأن التنكير في قوله : {سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ} يفيد الكمال والمبالغة والتمام. وأما لفظ السلام : فإنه لا يفيد إلا الماهية. قال الأخفش : من العرب من يقول : سلام عليكم فيعرى قوله : سلام عن الألف واللام والتنوين ، والسبب في ذلك كثرة الاستعمال أباح هذا التخفيف ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} قالوا : مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك ، ثم جاءه الملائكة فرأى أضيافاً لم ير مثلهم ، فعجل وجاء بعجل حنيذ ، فقوله : {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} معناه : فما لبت في المجيء به بل عجل فيه ، أو التقدير : فما لبث مجيئه والعجل ولد البقرة. أما الحنيذ : فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة ، وهو من فعل أهل البادية معروف ، وهو محنوذ في الأصل كما قيل : طبيخ ومطبوخ ، وقيل : الحنيذ الذي يقطر دسمه. يقال : حنذت الفرس إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقاً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 375
ثم قال تعالى : {فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ} أي إلى العجل ، وقال الفراء : إلى الطعام ، وهو ذلك العجل {نَكِرَهُمْ} أي أنكرهم. يقال : نكره وأنكره واستنكره.
(1/2458)

واعلم أن الأضياف إنما امتنعوا من الطعام لأنهم ملائكة والملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، وإنما أتوه في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها ، وهو كان مشغوفاً بالضيافة. وأما إبراهيم عليه السلام. فنقول : إما أن يقال : إنه عليه السلام ما كان يعلم أنهم ملائكة ، بل كان يعتقد فيهم أنهم من البشر ، أو يقال : إنه كان عالماً بأنهم من الملائكة. أما على الاحتمال الأول فسبب خوفه أمران : أحدهما : أنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس ، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به مكروهاً ، وثانيها : أن من لا يعرف إذا حضر وقدم إليه طعام فإن أكل حصل الأمن وإن لم يأكل حصل الخوف. وأما الاحتمال الثاني : وهو أنه عرف أنهم ملائكة الله تعالى ، / فسبب خوفه على هذا التقدير أيضاً أمران : أحدها : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه : والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه.
فإن قيل : فأي هذين الاحتمالين أقرب وأظهر ؟
قلنا : أما الذي يقول إنه ما عرف أنهم ملائكة الله تعالى فله أن يحتج بأمور : أحدها : أنه تسارع إلى إحضار الطعام ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك. وثانيها : أنه لما رآهم ممتنعين من الأكل خافهم ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما استدل بترك الأكل على حصول الشر ، وثالثها : أنه رآهم في أول الأمر في صورة البشر ، وذلك لا يدل على كونهم من الملائكة. وأما الذي يقول : إنه عرف ذلك احتج بقوله : {لا تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف بأي سبب أرسلوا/ ثم بين تعالى أن الملائكة أزالوا ذلك الخوف عنه فقالوا : {لا تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} ومعناه : أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط ، لأنه أضمر لقيام الدليل عليه في سورة أخرى ، وهو قوله : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} (الذاريات : 33).
ثم قال تعالى : {وَامْرَأَتُه قَآئِمَةٌ} يعني سارة بنت آزر بن باحورا بنت عم إبراهيم عليه السلام ، وقوله : {قَآئِمَةٌ} قيل : كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل ، لأنها ربما خافت أيضاً. وقيل : كانت قائمة تخدم الأضياف وإبراهيم عليه السلام جالس معهم ، ويأكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود {وَامْرَأَتُه قَآئِمَةٌ} وهو قاعد.
جزء : 18 رقم الصفحة : 375
(1/2459)

ثم قال تعالى : {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَـاهَا بِإِسْحَـاقَ} واختلفوا في الضحك على قولين : منهم من حمله على نفس الضحك ، ومنهم من حمل هذا اللفظ على معنى آخر سوى الضحك. أما الذين حملوه على نفس الضحك فاختلفوا في أنها لم ضحكت ، وذكروا وجوهاً : الأول : قال القاضي إن ذلك السبب لا بد وأن يكون سبباً جرى ذكره في هذه الآية ، وما ذاك إلا أنها فرحت بزوال ذلك الخوف عن إبراهيم عليه السلام حيث قالت الملائكة : {لا تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} وعظم سرورها بسبب سروره بزوال خوفه ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان ، وبالجملة فقد كان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام {لا تَخَفْ} فكان كالبشارة ، فقيل لها : نجعل هذه البشارة بشارتين ، فكما حصلت البشارة بزوال الخوف ، فقد حصلت البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أول العمر إلى هذا الوقت وهذا تأويل في غاية الحسن. الثاني : يحتمل أنها كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لما كانوا عليه من الكفر والعمل الخبيث ، فلما أظهروا أنهم جاؤا لإهلاكهم لحقها السرور فضحكت. الثالث : قال السدي قال إبراهيم عليه السلام لهم : {أَلا تَأْكُلُونَ} قالوا : / لا نأكل طعاماً إلا بالثمن ، فقال : ثمنه أن تذكروا اسم الله تعالى على أوله وتحمدوه على آخره ، فقال جبريل لميكائيل عليهما السلام : "حق لمثل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً" فضحكت امرأته فرحاً منها بهذا الكلام. الرابع : أن سارة قالت لإبراهيم عليه السلام أرسل إلى ابن أخيك وضمه إلى نفسك ، فإن الله تعالى لا يترك قومه حتى يعذبهم ، فعند تمام هذا الكلام دخل الملائكة على إبراهيم عليه السلام ، فلما أخبروه بأنهم إنما جاؤا لإهلاك قوم لوط صار قولهم موافقاً لقولها ، فضحكت لشدة سرورها بحصول الموافقة بين كلامها وبين كلام الملائكة. الخامس : أن الملائكة لما أخبروا إبراهيم عليه السلام أنهم من الملائكة لا من البشر وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قوم لوط طلب إبراهيم عليه السلام منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي من الموضع الذي كان موضوعاً فيه إلى مرعاه ، وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام قائمة فضحكت لما رأت ذلك العجل المشوي قد طفر من موضعه. السادس : أنها ضحكت تعجباً من أن قوماً أتاهم العذاب وهم في غفلة. السابع : لا يبعد أن يقال إنهم بشروها بحصول مطلق الولد فضحكت ، إما على سبيل التعجب فإنه يقال إنها كانت في ذلك الوقت بنت بضع وتسعين سنة وإبراهيم عليه السلام ابن مائة سنة ، وإما على سبيل السرور. ثم لما ضحكت بشرها الله تعالى بأن ذلك الولد هو إسحق ومن وراء إسحق يعقوب. الثامن : أنها ضحكت بسبب أنها تعجبت من خوف إبراهيم عليه السلام من ثلاث أنفس حال ما كان معه حشمه وخدمه. التاسع : أن هذا على التقديم والتأخير والتقدير : وامرأته قائمة فبشرناها بإسحق فضحكت سروراً بسبب تلك البشارة فقدم الضحك/ ومعناه التأخير. الثاني : هو أن يكون معنى فضحكت حاضت وهو منقول عن مجاهد وعكرمة قالا : ضحكت أي حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف ، فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد ، وأنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت ، قال أبو بكر الأنباري هذه اللغة إن لم يعرفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم ، حكى الليث في هذه الآية {فَضَحِكَتْ} طمثت ، وحكى الأزهري عن بعضهم أن أصله من ضحاك الطلعة يقال ضحكت الطلعة إذا انشقت.
جزء : 18 رقم الصفحة : 375
واعلم أن هذه الوجوه كلها زوائد. وإنما الوجه الصحيح هو الأول.
ثم قال تعالى : {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـاقَ يَعْقُوبَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بالنصب والباقون بالرفع أما وجه النصب ، فهو أن يكون التقدير : بشرناها بإسحق ومن وراء إسحق وهبنا لها يعقوب ، وأما وجه الرفع فهو أن يكون التقدير : ومن وراء إسحق يعقوب مولود أو موجود.
/ المسألة الثانية : في لفظ وراء قولان : الأول : وهو قول الأكثرين أن معناه بعد أي بعد إسحق يعقوب وهذا هو الوجه الظاهر. والثاني : أن الوراء ولد الولد ، عن الشعبي أنه قيل له هذا ابنك ، فقال نعم من الوراء ، وكان ولد ولده ، وهذا الوجه عندي شديد التعسف ، واللفظ كأنه ينبو عنه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 375
376
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء أصل الويل وي وهو الخزي ، ويقال : وي لفلان أي خزي له فقوله ويلك أي خزي لك ، وقال سيبويه : ويح زجر لمن أشرف على الهلاك ، وويل لمن وقع فيه. قال الخليل : ولم أسمع على بنائه إلا ويح ، وويس ، وويك ، وويه ، وهذه الكلمات متقاربة في المعنى وأما قوله : فمنهم من قال هذه الألف ألف الندبة وقال صاحب "الكشاف" : الألف في ويلتا مبدلة من ياء الإضافة في وكذلك في يا لهفا ويا عجبا ثم أبدل من الياء والكسرة الألف والفتحة ، لأن الفتح والألف أخف من الياء والكسرة.
(1/2460)

أما قوله : {يَـاوَيْلَتَى ا ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو آلد بهمزة ومدة ، والباقون بهمزتين بلا مد.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول إنها تعجبت من قدرة الله تعالى والتعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر ، بيان المقدمة الأولى من ثلاثة أوجه : أولها : قوله تعالى حكاية عنها في معرض التعجب {وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـاذَا} وثانيها : قوله : {إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} وثالثها : قول الملائكة لها {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّه } وأما بيان أن التعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر ، فلأن هذا التعجيب يدل على جهلها بقدرة الله تعالى ، وذلك يوجب الكفر.
والجواب : أنها إنما تعجبت بحسب العرف والعادة لا بحسب القدرة فإن الرجل المسلم لو أخبره / مخبر صادق بأن الله تعالى يقلب هذا الجبل ذهباً إبريزاً فلا شك أنه يتعجب نظراً إلى أحوال العادة لا لأجل أنه استنكر قدرة الله تعالى على ذلك.
المسألة الثالثة : قوله : {وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } فاعلم أن شيخاً منصوب على الحال ، قال الواحدي رحمه الله : وهذا من لطائف النحو وغامضه فإن كلمة هذا للإشارة ، فكان قوله : {وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } قائم مقام أن يقال أشير إلى بعلي حال كونه شيخاً ، والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 376
المسألة الرابعة : قرأ بعضهم {وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا بعلي وهو شيخ ، أو بعلي بدل من المبتدأ وشيخ خبر أو يكونان معاً خبرين ، ثم حكى تعالى أن الملائكة قالوا : {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّه } والمعنى : أنهم تعجبوا من تعجبها ، ثم قالوا : {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّه رَحْمَتُ} والمقصود من هذا الكلام ذكر ما يزيل ذلك التعجب وتقديره : إن رحمة الله عليكم متكاثرة وبركاته لديكم متوالية متعاقبة ، وهي النبوة والمعجزات القاهرة والتوفيق للخيرات العظيمة فإذا رأيت أن الله خرق العادات في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية الرفيعة وفي إظهار خوارق العادات وإحداث البينات والمعجزات ، فكيف يليق به التعجب.
وأما قوله : {أَهْلَ الْبَيْتِ } فإنه مدح لهم فهو نصب على النداء أو على الاختصاص ، ثم أكدوا ذلك بقولهم : {إِنَّه حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} والحميد هو المحمود وهو الذي تحمد أفعاله ، والمجيد الماجد ، وهو ذو الشرف والكرم ، ومن محامد الأفعال إيصال العبد المطيع إلى مراده ومطلوبه ، ومن أنواع الفضل والكرم أن لا يمنع الطالب عن مطلوبه ، فإذا كان من المعلوم أنه تعالى قادر على الكل وأنه حميد مجيد/ فكيف يبقى هذا التعجب في نفس الأمر فثبت أن المقصود من ذكر هذه الكلمات إزالة التعجب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 376
377
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وهي قصة لوط عليه السلام ، واعلم أن الروع هو الخوف / وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه والمعنى : أنه لما زال الخوف وحصل السرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد ، أخذ يجادلنا في قوم لوط وجواب لما هو قوله : {أَخْذُ} إلا أنه حذف في اللفظ لدلالة الكلام عليه ، وقيل تقديره : لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا.
واعلم أن قوله : {يُجَـادِلُنَا} أي يجادل رسلنا.
فإن قيل : هذه المجادلة إن كانت مع الله تعالى فهي جراءة على الله ، والجراءة على الله تعالى من أعظم الذنوب ، ولأن المقصود من هذه المجادلة إزالة ذلك الحكم وذلك يدل على أنه ما كان راضياً بقضاء الله تعالى وأنه كفر وإن كانت هذه المجادلة مع الملائكة فهي أيضاً عجيبة ، لأن المقصود من هذه المجادلة أن يتركوا إهلاك قوم لوط ، فإن كان قد اعتقد فيهم أنهم من تلقاء أنفسهم يجادلون في هذا الإهلاك فهذا سوء ظن بهم. وإن اعتقد فيهم أنهم بأمر الله جاؤا فهذه المجادلة تقتضي أنه كان يطلب منهم مخالفة أمر الله تعالى وهذا منكر.
والجواب : من وجهين :
الوجه الأول : وهو الجواب الإجمالي أنه تعالى مدحه عقيب هذه الآية فقال : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ولو كان هذا الجدل من الذنوب لما ذكر عقيبه ما يدل على المدح العظيم.
والوجه الثاني : وهو الجواب التفصيلي أن المراد من هذه المجادلة سعي إبراهيم في تأخير العذاب عنهم وتقريره من وجوه :
(1/2461)

الوجه الأول : أن الملائكة قالوا : {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ } فقال إبراهيم : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها ؟
قالوا : لا. قال : فأربعون قالوا : لا. قال : فثلاثون قالوا لا. حتى بلغ العشرة قالوا : لا. قال : أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها ؟
قالوا : لا. فعند ذلك قال : إن فيها لوطاً وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت فقال : {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِا إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّه وَأَهْلَه ا إِلا امْرَأَتَه كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ} (العنكبوت : 31/ 32).
جزء : 18 رقم الصفحة : 377
ثم قال : {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا} فبان بهذا أن مجادلة إبراهيم عليه السلام ، إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيما بينهم.
الوجه الثاني : يحتمل أن يقال إنه عليه السلام كان يميل إلى أن تلحقهم رحمة الله بتأخير العذاب عنهم رجاء أنهم أقدموا على الإيمان والتوبة عن المعاصي ، وربما وقعت تلك المجادلات / بسبب أن إبراهيم كان يقول إن أمر الله ورد بإيصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور بل يقبل التراخي فاصبروا مدة أخرى ، والملائكة كانوا يقولون إن مطلق الأمر يقبل الفور ، وقد حصلت هناك قرائن دالة على الفور ، ثم أخذ كل واحد منهم يقرر مذهبه بالوجوه المعلومة فحصلت المجادلة بهذا السبب ، وهذا الوجه عندي هو المعتمد.
الوجه الثالث : في الجواب لعل إبراهيم عليه السلام سأل عن لفظ ذلك الأمر وكان ذلك الأمر مشروطاً بشرط فاختلفوا في أن ذلك الشرط هل حصل في ذلك القوم أم لا فحصلت المجادلة بسببه/ وبالجملة نرى العلماء في زماننا يجادل بعضهم بعضاً عند التمسك بالنصوص ، وذلك لا يوجب القدح في واحد منها فكذا ههنا.
ثم قال تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم ، أما الحليم فهو الذي لا يتعجل بمكافأة غيره ، بل يتأنى فيه فيؤخر ويعفو ومن هذا حاله فإنه يحب من غيره هذه الطريقة ، وهذا كالدلالة على أن جداله كان في أمر متعلق بالحلم وتأخير العقاب ، ثم ضم إلى ذلك ماله تعلق بالحلم وهو قوله : {أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} لأن من يستعمل الحلم في غيره فإنه يتأوه إذا شاهد وصول الشدائد إلى الغير فلما رأى مجيء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك وأخذ يتأوه عليه فلذلك وصفه الله تعالى بهذه الصفة ، ووصفه أيضاً بأنه منيب ، لأن من ظهرت فيه هذه الشفقة العظيمة على الغير فإنه ينيب ويتوب ويرجع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم أو يقال : إن من كان لا يرضى بوقوع غيره في الشدائد فأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها كان أولى ولا طريق إلى صون النفس عن الوقوع في عذاب الله إلا بالتوبة والإنابة فوجب فيمن هذا شأنه يكون منيباً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 377
378
اعلم أن قوله : {يَـا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ } معناه : أن الملائكة قالوا له : اترك هذه المجادلة لأنه / قد جاء أمر ربك بإيصال هذا العذاب إليهم وإذا لاح وجه دلالة النص على هذا الحكم فلا سبيل إلى دفعه فلذلك أمروه بترك المجادلة ، ولما ذكروا {إِنَّه قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } ولم يكن في هذا اللفظ دلالة على أن هذا الأمر بماذا جاء لا جرم بين الله تعالى أنهم آتيهم عذاب غير مردود ، أي عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده.
ثم قال : {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} وهؤلاء الرسل هم الرسل الذين بشروا إبراهيم بالولد عليهم السلام. قال ابن عباس رضي الله عنهما : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربع فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم وكانوا في غاية الحسن ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله وذكروا فيه ستة أوجه : الأول : أنه ظن أنهم من الإنس فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجزوا عن مقاومتهم. الثاني : ساءه مجيئهم لأنه ما كان يجد ما ينفقه عليهم وما كان قادراً على القيام بحق ضيافتهم. والثالث : ساءه ذلك لأن قومه منعوه من إدخال الضيف داره. الرابع : ساءه مجيئهم ، لأنه عرف بالحذر أنهم ملائكة وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قومه ، والوجه الأول هو الأصح لدلالة قوله تعالى : {وَجَآءَه قَوْمُه يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} (هود : 78) وبقي في الآية ألفاظ ثلاثة لا بد من تفسيرها :
اللفظ الأول : قوله : {سِى ءَ بِهِمْ} ومعناه ساء مجيئهم وساء يسوء فعل لازم مجاوز يقال سؤته فسيء مثل شغلته فشغل وسررته فسر. قال الزجاج : أصله سوىء بهم إلا أن الواو سكنت ونقلت كسرتها إلى السين.
(1/2462)

اللفظ الثاني : قوله : {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة والأصل فيه البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوته ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف ومد عنقه ، فجعل ضيق الذرع عبارة عن قدر الوسع والطاقة. فيقال : مالي به ذرع ولا ذراع أي مالي به طاقة ، والدليل على صحة ما قلناه أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بالأمر ذراعاً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 378
واللفظ الثالث : قوله : {هَـاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي يوم شديد ، وإنما قيل للشديد عصيب لأنه يعصب الإنسان بالشر.
جزء : 18 رقم الصفحة : 378
380
/ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه لما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام مضت امرأته عجوز السوء فقالت لقومه دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً ولا أنظف ثياباً ولا أطيب رائحة منهم {وَجَآءَه قَوْمُه يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي يسرعون ، وبين تعالى أن إسراعهم ربما كان لطلب العمل الخبيث بقوله : {وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّـاَاتِ } نقل أن القوم دخلوا دار لوط وأرادوا أن يدخلوا البيت الذي كان فيه جبريل عليه السلام ، فوضع جبريل عليه السلام يده على الباب ، فلم يطيقوا فتحه حتى كسروه ، فمسح أعينهم بيده فعموا ، فقالوا : يا لوط قد أدخلت علينا السحرة وأظهرت الفتنة. ولأهل اللغة في {يُهْرَعُونَ} قولان :
القول الأول : أن هذا من باب ما جاءت صيغة الفاعل فيه على لفظ المفعول ولا يعرف له فاعل نحو : أولع فلان في الأمر ، وأرعد زيد ، وزهى عمرو من الزهو.
والقول الثاني : أنه لا يجوز ورود الفاعل على لفظ المفعول ، وهذه الأفعال حذف فاعلوها فتأويل أولع زيد أنه أولعه طبعه وأرعد الرجل أرعده غضبه وزهى عمرو معناه جعله ماله زاهياً وأهرع معناه أهرعه خوفه أو حرصه ، واختلفوا أيضاً فقال بعضهم : الإهراع هو الإسراع مع الرعدة. وقال آخرون : هو العدو الشديد.
جزء : 18 رقم الصفحة : 380
أما قوله تعالى : {قَالَ يَـاقَوْمِ هَـا ؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } ففيه قولان : قال قتادة : المراد بناته لصلبه. وقال مجاهد وسعيد بن جبير : المراد نساء أمته ؛ لأنهن في أنفسهن بنات ولهن إضافة إليه بالمتابعة وقبول الدعوة. قال أهل النحو : يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، لأنه كان نبياً لهم فكان كالأب لهم. قال تعالى : {وَأَزْوَاجُه ا أُمَّهَـاتُهُمْ } (الأحزاب : 6) وهو أب لهم وهذا القول عندي هو المختار ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار أمر متبعد لا يليق بأهل المروءة فكيف بأكابر الأنبياء ؟
الثاني : وهو أنه قال : {هَـا ؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فبناته اللواتي من / صلبه لا تكفي للجمع العظيم. أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل. الثالث : أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان ، وهما : زنتا ، وزعوراً ، وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة ، فأما القائلون بالقول الأول فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما دعا القوم إلى لزنا بالنسوان بل المراد أنه دعاهم إلى التزوج بهن ، وفيه قولان : أحدهما : أنه دعاهم إلى التزوج بهن بشرط أن يقدموا الإيمان. والثاني : أنه كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر في شريعته ، وهكذا كان في أول الإسلام بدليل أنه عليه السلام زوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع وكان مشركاً وزوج ابنته من عتبة بن أبي لهب ثم نسخ ذلك بقوله : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (البقرة : 221) وبقوله : {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } (البقرة : 221) واختلفوا أيضاً ، فقال الأكثرون : كان له بنتان ، وعلى هذا التقدير ذكر الاثنتين بلفظ الجمع ، كما في قوله : {فَإِن كَانَ لَه ا إِخْوَةٌ} (النساء : 21) {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (التحريم : 4) وقيل : إنهن كن أكثر من اثنتين.
أما قوله تعالى : {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : ظاهر قوله : {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهراً ومعلوم أنه فاسد ولأنه لا طهارة في نكاح الرجل ، بل هذا جار مجرى قولنا : الله أكبر ، والمراد أنه كبير ولقوله تعالى : {أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} (الصافات : 62) ولاخير فيها ولما قال أبو سفيان : اعل أحداً واعل هبل قال النبي : "الله أعلى وأجل" ولامقاربة بين الله وبين الصنم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 380
(1/2463)

المسألة الثانية : روي عن عبد الملك بن مروان والحسن وعيسى بن عمر أنهم قرؤا {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله تعالى : {وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } (هود : 72) إلا أن أكثر النحويين اتفقوا على أنه خطأ قالوا لو قرىء {هَـا ؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ} كان هذا نظير قوله : {وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } إلا أن كلمة "هن" قد وقعت في البين وذلك يمنع من جعل أطهر حالاً وطولوا فيه ، ثم قال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ونافع ولا تخزوني بإثبات الياء على الأصل ، والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليه.
المسألة الثانية : في لفظ {لا} وجهان : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تفضحوني في أضيافي ، يريد أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة. والثاني : لا تخزوني في ضيفي أي لا تخجلوني فيهم ، لأن مضيف الضيف يلزمه الخجالة من كل فعل قبيح يوصل إلى الضيف يقال : خزي الرجل إذا استحيا.
/ المسألة الثالثة : الضيف ههنا قائم مقام الأضياف ، كما قام الطفل مقام الأطفال. في قوله تعالى : {الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا } (النور : 31) ويجوز أن يكون الضيف مصدراً فيستغنى عن جمعه كما يقال : رجال صوم. ثم قال : {أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} وفيه قولان : الأول : {رَّشِيدٌ} بمعنى مرشد أي يقول الحق ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. والثاني : رشيد بمعنى مرشد ، والمعنى : أليس فيكم رجل أرشده الله تعالى إلى الصلاح. وأسعده بالسداد والرشاد حتى يمنع عن هذا العمل القبيح ، والأول أولى.
ثم قال تعالى : {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} وفيه وجوه : الأول : مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة ، والتقدير أن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ، فلهذا السبب جعل نفي الحق كناية عن نفي الحاجة. الثاني : أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول : معناه إنهن لسن لنا بأزواج ولا حق لنا فيهن ألبتة. ولا يميل أيضاً طبعنا إليهن فكيف قيامهن مقام العمل الذي نريده وهو إشارة إلى العمل الخبيث. الثالث : {مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نجيبك إلى ذلك فلا يكون لنا فيهن حق. ثم إنه تعالى حكى عن لوط أنه عند سماع هذا الكلام قال : {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وفيه مسألتان :
جزء : 18 رقم الصفحة : 380
المسألة الأولى : جواب "لو" محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير : لمنعتكم ولبالغت في دفعكم ونظيره قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (الرعد : 31) وقوله : {وَلَوْ تَرَى ا إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (الأنعام : 27) قال الواحدي وحذف الجواب ههنا لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من المنع والدفع.
المسألة الثانية : {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} أي لو أن لي ما أتقوى به عليكم وتسمية موجب القوة بالقوة جائز قال الله تعالى : {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} (الأنفال : 60) والمراد السلاح ، وقال آخرون القدرة على دفعهم ، وقوله : {أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} المراد منه الموضع الحصين المنيع تشبيهاً له بالركن الشديد من الجبل/
فإن قيل : ما الوجه ههنا في عطف الفعل على الاسم ؟
قلنا : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {أَوْ ءَاوِى } بالنصب بإضمار أن ، كأنه قيل لو أن لي بكم قوة أو آوياً.
واعلم أن قوله : {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} لا بد من حمل كل واحد من هذين الكلامين على فائدة مستقلة ، وفيه وجوه : الأول : المراد بقوله : {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} كونه بنفسه قادراً على الدفع وكونه متمكناً إما بنفسه وإما بمعاونة غيره على قهرهم وتأديبهم ، والمراد بقوله : / {أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} هو أن لا يكون له قدرة على الدفع لكنه يقدر على التحصن بحصن ليأمن من شرهم بواسطته. الثالث : أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمنى حصول قوة قوية على الدفع ، ثم استدرك على نفسه وقال : بلى الأولى أن آوى إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله تعالى ، وعلى هذا التقدير فقوله : {أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} كلام منفصل عما قبله ولا تعلق له به ، وبهذا الطريق لا يلزم عطف الفعل على الاسم ، ولذلك قال النبي عليه السلام : "رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد".
جزء : 18 رقم الصفحة : 380
382
(1/2464)

اعلم أن قوله تعالى مخبراً عن لوط عليه السلام أنه قال : {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود : 80) يدل على أنه كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حق أضيافه ، فلما رأت الملائكة تلك الحالة بشروه بأنواع من البشارات : أحدها : أنهم رسل الله. وثانيها : أن الكفار لا يصلون إلى ما هموا به. وثالثها : أنه تعالى يهلكهم. ورابعها : أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب. وخامسها : إن ركنك شديد وإن ناصرك هو الله تعالى فحصل له هذه البشارات ، وروي أن جبريل عليه السلام قال له إن قومك لن يصلوا إليك فافتح الباب فدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم ، وذلك قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِه فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} (القمر : 37) ومعنى قوله : {لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ } أي بسوء ومكروه فإنا نحول بينهم وبين ذلك. ثم قال : {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} قرأ نافع وابن كثير {فَأَسْرِ} موصولة والباقون بقطع الألف وهما لغتان ، يقال سريت بالليل وأسريت وأنشد حسان :
أسرت إليك ولم تكن تسري
/ فجاء باللغتين فمن قرأ بقطع الألف فحجته قوله سبحانه وتعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } (الإسراء : 1) ومن وصل فحجته قوله : {وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (الفجر : 4) والسرى السير في الليل. يقال : سرى يسري إذا سار بالليل وأسرى بفلان إذا سير به بالليل ، والقطع من الليل بعضه وهو مثل القطعة ، يريد اخرجوا ليلاً لتسبقوا نزول العذاب الذي موعده الصبح. قال نافع بن الأزرق لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما : أخبرني عن قول الله {بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ} قال هو آخر الليل سحر ، وقال قتادة : بعد طائفة من الليل ، وقال آخرون هو نصف الليل فإنه في ذلك الوقت قطع بنصفين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 382
ثم قال : {وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} نهى من معه عن الالتفات والالتفات نظر الإنسان إلى ما وراءه ، والظاهر أن المراد أنه كان لهم في البلدة أموال وأقمشة وأصدقاء ، فالملائكة أمروهم بأن يخرجوا ويتركوا تلك الأشياء ولا يلتفتوا إليها ألبتة ، وكان المراد منه قطع القلب عن تلك الأشياء وقد يراد منه الانصراف أيضاً. كقوله تعالى : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} (يونس : 78) أي لتصرفنا ، وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله : {وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} النهي عن التخلف.
ثم قال : {إِلا امْرَأَتَكَ } قرأ ابن كثير وأبو عمر {إِلا امْرَأَتَكَ } بالرفع والباقون بالنصب. قال الواحدي : من نصب وهو الاختيار فقد جعلها مستثناة من الأهل على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة عبدالله {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ } فأسقط قوله : {وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} من هذا الموضع ، وأما الذين رفعوا فالتقدير {وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ } .
فإن قيل : فهذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم أحد إلا زيد كان ذلك أمراً لزيد بالقيام.
وأجاب أبو بكر الأنباري عنه فقال : معنى {إِلا} ههنا الاستثناء المنقطع على معنى/ لا يلتفت منكم أحد ، لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم ، وإذا ان هذا الاستثناء منقطعاً كان التفاتها معصية ويتأكد ما ذكرنا بما روي عن قتادة أنه قال إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية فلما سمعت هذا العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأصابها حجر فأهلكها.
واعلم أن القراءة بالرفع أقوى ، لأن القراءة بالنصب تمنع من خروجها مع أهله لكن على هذا التقدير الاستثناء يكون من الأهل كأنه أمر لوطاً بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة مع الهالكين وأما القراءة بالنصب فإنها أقوى من وجه آخر ، وذلك لأن مع القراءة بالنصب يبقى الاستثناء متصلاً / ومع القراءة بالرفع يصير الاستثناء منقطعاً. ثم بين الله تعالى أنهم قالوا : إنه مصيبها ما أصابهم. والمراد أنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم. ثم قالوا : {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } روى أنهم لما قالوا لوط عليه السلام : {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } قال أريد أعجل من ذلك بل الساعة فقالوا : {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} قال المفسرون إن لوطاً عليه السلام لما سمع هذا الكلام خرج بأهله في الليل.
جزء : 18 رقم الصفحة : 382
384
في الآية مسائل :
(1/2465)

المسألة الأولى : في الأمر وجهان : الأول : أن المراد من هذا الأمر ما هو ضد النهي ويدل عليه وجوه : الأول : أن لفظ الأمر حقيقة في هذا المعنى مجاز في غيره دفعاً للاشتراك. الثاني : أن الأمر لا يمكن حمله ههنا على العذاب ، وذلك لأنه تعالى قال : {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـالِيَهَا سَافِلَهَا} وهذا الجعل هو العذاب ، فدلت هذه الآية على أن هذا الأمر شرط والعذاب جزاء ، والشرط غير الجزاء ، فهذا الأمر غير العذاب ، وكل من قال بذلك قال إنه هو الأمر الذي هو ضد النهي. والثالث : أنه تعالى قال : قبل هذه الآية {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} (هود : 70) فدل هذا على أنهم كانوا مأمورين من عند الله تعالى بالذهاب إلى قوم لوط وبإيصال هذا العذاب إليهم.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى أمر جمعاً من الملائكة بأن يخربوا تلك المدائن في وقت معين ، فلما جاء ذلك الوقت أقدموا على ذلك العمل ، فكان قوله : {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} إشارة إلى ذلك التكليف.
فإن قيل : لو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يقال : فلما جاء أمرنا جعلوا عاليها سافلها ، لأن الفعل صدر عن ذلك المأمور.
قلنا : هذا لا يلزم على مذهبنا ، لأن فعل العبد فعل الله تعالى عندنا. وأيضاً أن الذي وقع منهم إنما وقع بأمر الله تعالى وبقدرته ، فلم يبعد إضافته إلى الله عز وجل ، لأن الفعل كما تحسن إضافته إلى المباشر ، فقد تحسن أيضاً إضافته إلى السبب.
/ القول الثاني : أن يكون المراد من الأمر ههنا قوله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) وقد تقدم تفسير ذلك الأمر.
القول الثالث : أن يكون المراد من الأمر العذاب وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الإضمار ، والمعنى : ولما جاء وقت عذابنا جعلنا عاليها سافلها.
المسألة الثانية : اعلم أن ذلك العذاب قد وصفه الله تعالى في هذه الآية بنوعين من الوصف فالأول : قوله : {جَعَلْنَا عَـالِيَهَا سَافِلَهَا} روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك ، ولم تنكفىء لهم جرة ولم ينكب لهم إناء ، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض.
جزء : 18 رقم الصفحة : 384
واعلم أن هذا العمل كان معجزة قاهرة من وجهين : أحدهما : أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من السماء فعل خارق للعادات. والثاني : أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض بحيث لم تتحرك سائر القرى المحيطة بها ألبتة ، ولم تصل الآفة إلى لوط عليه السلام وأهله مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضاً. الثاني : قوله : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} واختلفوا في السجيل على وجوه : الأول : أنه فارسي معرب وأصله سنككل وأنه شيء مركب من الحجر والطين بشرط أن يكون في غاية الصلابة ، قال الأزهري : لماعربته العرب صار عربياً وقد عربت حروفاً كثيرة كالديباج والديوان والاستبرق. والثاني : سجيل ، أي مثل السجل وهو الدلو العظيم. والثالث : سجيل ، أي شديد من الحجارة. الرابع : مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته وهو فعيل منه. الخامس : من أسجلته ، أي أعطيته تقديره مثل العطية في الإدرار ، وقيل : كان كتب عليها أسامي المعذبين. السادس : وهو من السجل وهو الكتاب تقديره من مكتوب في الأزل أي كتب الله أن يعذبهم بها/ والسجيل أخذ من السجل وهو الدلو العظيمة لأنه يتضمن أحكاماً كثيرة ، وقيل : مأخوذ من المساجلة وهي المفاخرة. والسابع : من سجيل أي من جهنم أبدلت النون لاماً ، والثامن : من السماء الدنيا ، وتسمى سجيلاً عن أبي زيد ، والتاسع : السجيل الطين ، لقوله تعالى : {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} (الذاريات : 33) وهو قول عكرمة وقتادة. قال الحسن كان أصل الحجر هو من الطين ، إلا أنه صلب بمرور الزمان ، والعاشر : سجيل موضع الحجارة ، وهي جبال مخصوصة ، ومنه قوله تعالى : {مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنا بَرَدٍ} (النور : 43).
واعلم أنه تعالى وصف تلك الحجارة بصفات :
فالصفة الأولى : كونها من سجيل ، وقد سبق ذكره.
/ الصفة الثانية : قوله تعالى : {مَّنضُودٍ} قال الواحدي : هو مفعول من النضد ، وهو موضع الشيء بعضه على بعض ، وفيه وجوه : الأول : أن تلك الحجارة كان بعضها فوق بعض في النزول فأتى به على سبيل المبالغة. والثاني : أن كل حجر فإن ما فيه من الأجزاء منضود بعضها ببعض ، وملتصق بعضها ببعض. والثالث : أنه تعالى كان قد خلقها في معادنها ونضد بعضها فوق بعض ، وأعدها لإهلاك الظلمة.
واعلم أن قوله : {مَّنضُودٍ} صفة للسجيل.
(1/2466)

الصفة الثالثة : مسومة ، وهذه الصفة صفة للأحجار ومعناها المعلمة ، وقد مضى الكلام فيه في تفسير قوله : {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} (آل عمران : 14) واختلفوا في كيفية تلك العلامة على وجوه : الأول : قال الحسن والسدي : كان عليها أمثال الخواتيم. الثاني : قال ابن صالح : رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. الثالث : قال ابن جريج : كان عليها سيما لا تشارك حجارة الأرض ، وتدل على أنه تعالى إنما خلقها للعذاب. الرابع : قال الربيع : مكتوب على كل حجر اسم من رمى به.
جزء : 18 رقم الصفحة : 384
ثم قال تعالى : {عِندَ رَبِّكَ } أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو.
ثم قال : {وَمَا هِىَ مِنَ الظَّـالِمِينَ بِبَعِيدٍ} يعني به كفار مكة ، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها. عن أنس أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام عن هذا فقال : يعني عن ظالمي أمتك ، ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. وقيل : الضمير في قوله : {وَمَا هِىَ} للقرى. أي وما تلك القرى التي وقعت فيها هذه الواقعة من كفار مكة ببعيد ، وذلك لأن القرى كانت في الشأم ، وهي قريب من مكة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 384
386
/ اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة. واعلم أن مدين اسم ابن لإبراهيم عليه السلام ، ثم صار اسماً للقبيلة ، وكثير من المفسرين يذهب إلى أن مدين اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم عليه السلام والمعنى على هذا التقدير : وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف الأهل.
واعلم أنا بينا أن الأنبياء عليهم السلام يشرعون في أول الأمر بالدعوة إلى التوحيد ، فلهذا قال شعيب عليه السلام : {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه } ثم إنهم بعد الدعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ثم الأهم ، ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال والميزان ، دعاهم إلى ترك هذه العادة فقال : {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } والنقص فيه على وجهين : أحدهما : أن يكون الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره. والآخر : أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من الواجب وذلك يوجب نقصان حق الغير ، وفي القسمين حصل النقصان في حق الغير. ثم قال : {إِنِّى أَرَاـاكُم بِخَيْرٍ} وفيه وجهان : الأول : أنه حذرهم من غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا فكأنه قال : اتركوا هذا التطفيف وإلا أزال الله عنكم ما حصل عندكم من الخير والراحة. والثاني : أن يكون التقدير أنه تعالى أتاكم بالخير الكثير والمال والرخص والسعة فلا حاجة بكم إلى هذا التطفيف. ثم قال : {وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} وفيه أبحاث :
البحث الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أخاف أي أعلم حصول عذاب يوم محيط وقال آخرون : بل المراد هو الخوف ، لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية أن يحصل لهم العذاب ولما كان هذا التخويف قائماً فالحاصل هو الظن لا لعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 386
البحث الثاني : أنه تعالى توعدهم بعذاب يحيط بهم بحيث لا يخرج منه أحد ، والمحيط من صفة اليوم في الظاهر ، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور كقوله : {هَـاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} (هود : 77).
البحث الثالث : اختلفوا في المراد بهذا العذاب فقال بعضهم : هو عذاب يوم القيامة ، لأنه اليوم الذي نصب لإحاطة العذاب بالمعذبين ، وقال بعضهم : بل يدخل فيه عذاب الدنيا والآخرة / وقال بعضهم : بل المراد منه عذاب الاستئصال في الدنيا كما في حق سائر الأنبياء والأقرب دخول كل عذاب فيه وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم من كل وجه وذلك مبالغة في الوعد كقوله : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِه } (الكهف : 42) ثم قال : {مُّحِيطٍ * وَيَـاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } .
فإن قيل : وقع التكرير في هذه الآية من ثلاثة أوجه لأنه قال أولاً {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } ثم قال : {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} وهذا عين الأول. ثم قال : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير ؟
قلنا : إن فيه وجوهاً :
الوجه الأول : أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد/ والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام.
(1/2467)

والوجه الثاني : أن قوله : {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } نهي عن التنقيص وقوله : {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أمر بإيفاء العدل ، والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به ، وليس لقائل أن يقول : النهي عن ضد الشيء أمر به ، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه ، لأنا نقول : الجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى جمع بين الأمر والشيء ، وبين النهي عن ضده للمبالغة ، كما تقول : صل قرابتك ولا تقطعهم ، فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد. الثاني : أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصل المعاملة ، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق ، ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات ، وإنما منع من التطفيف ، وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية ، فلأجل إبطال هذا الخيال ، منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء ، وأما قوله ثالثاً : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان. ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة ، بل في كل واحد منها فائدة زائدة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 386
والوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } وفي الثانية قال : {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام ، لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدراً زائداً على الحق ، ولهذا المعنى قال الفقهاء : إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس. فالحاصل : أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان ، وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب / إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً لتحصل له تلك الزيادة ، وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله : {بِالْقِسْطِ } يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل. ثم قال : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} والبخس هو النقص في كل الأشياء ، وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص في المكيال والميزان ، وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الاْشياء. ثم قال : {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} .
فإن قيل : العثو الفساد التام فقوله : {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} جار مجرى أن يقال : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 386
قلنا : فيه وجوه : الأول : أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله : {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم. والثاني : أن يكون المراد من قوله : {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} مصالح دنياكم وآخرتكم. والثالث : ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان. ثم قال : {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ} قرىء تقية الله وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي. ثم نقول المعنى : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف وقال الحسن : بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل ، لأن ثواب الطاعة يبقى أبداً ، وقال قتادة : حظكم من ربكم خير لكم ، وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا ، وإما ثواب الله ، وأما كونه تعالى راضياً عنه والكل خير من قدر التطفيف ، أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنساناً بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق ، وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه ألبتة فتضيق أبواب الرزق عليه ، وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر ، لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق ، وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر ، فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير. ثم قال : {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } وإنما شرط الإيمان في كونه خيراً لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل.
(1/2468)

واعلم أن المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط ، فهذه الآية تدل بظاهرها على أن من لم يحترز / عن هذا التطفيف فإنه لا يكون مؤمناً.
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} وفيه وجهان : الأول : أن يكون المعنى : إني نصحتكم وأرشدتكم إلى الخير {وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} أي لا قدرة لي على منعكم عن هذا العمل القبيح. الثاني : أنه قد أشار فيما تقدم إلى أن الاشتغال بالبخس والتطفيف يوجب زوال نعمة الله تعالى فقال : {وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} يعني لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت نعم الله عنكم وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 386
387
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بغير واو. والباقون {يَـاشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ} على الجمع.
المسألة الثانية : اعلم أن شعيباً عليه السلام أمرهم بشيئين ، بالتوحيد وترك البخس فالقوم أنكروا عليه أمره بهذين النوعين من الطاعة ، فقوله : {أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَآ} إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد وقوله : {قَالُوا يَـاشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا} إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس. أما الأول : فقد أشاروا فيه إلى التمسك بطريقة التقليد ، لأنهم استبعدوا منه أن يأمرهم بترك عبادة ما كان يعبد آباؤهم يعني الطريقة التي أخذناها من آبائنا وأسلافنا كيف نتركها ، وذلك تمسك بمحض التقليد.
المسألة الثالثة : في لفظ الصلاة وههنا قولان : الأول : المراد منه الدين والإيمان ، لأن الصلاة أظهر شعار الدين فجعلوا ذكر الصلاة كناية عن الدين ، أو نقول : الصلاة أصلها من الإتباع ومنه أخذ المصلي من الخيل الذي يتلو السابق لأن رأسه يكون على صلوى السابق وهما ناحيتا الفخذين والمراد : دينك يأمرك بذلك. والثاني : أن المراد منه هذه الأعمال المخصوصة ، روي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا ، فقصدوا بقولهم : أصلاتك تأمرك السخرية والهزؤ ، وكما أنك إذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فيقال له : هذا من مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزؤ والسخرية فكذا ههنا.
/ فإن قيل : تقدير الآية : أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وهم إنما ذكروا هذا الكلام على سبيل الإنكار ، وهم ما كانوا ينكرون كونهم فاعلين في أموالهم ما يشاؤن ، فكيف وجه التأويل.
قلنا : فيه وجهان : الأول : التقدير : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نترك فعل ما نشاء ، وعلى هذا فقوله : {أَوْ أَن نَّفْعَلَ} معطوف على ما في قوله : {مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَآ} والثاني : أن تجعل الصلاة آمرة وناهية والتقدير : أصلواتك تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان وتنهاك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، وقرأ ابن أبي عبلة {أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَـا ؤُا } بتاء الخطاب فيهما وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس والاقتناع بالحلال القليل وأنه خير من الحرام الكثير.
جزء : 18 رقم الصفحة : 387
ثم قال تعالى حكاية عنهم : {إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} وفيه وجوه :
الوجه الأول : أن يكون المعنى إنك لأنت السفيه الجاهل إلا أنهم عكسوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية به ، كما يقال للبخيل الخسيس لو رآك حاتم لسجد لك.
والوجه الثاني : أن يكون المراد إنك موصوف عند نفسك وعند قومك بالحلم والرشد.
والوجه الثالث : أنه عليه السلام كان مشهوراً عندهم بأنه حليم رشيد ، فلما أمرهم بمفارقة طريقتهم قالوا له : إنك لأنت الحليم الرشيد المعروف الطريقة في هذا الباب ، فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا وأسلافنا ، والمقصود استبعاد مثل هذا العمل ممن كان موصوفاً بالحلم والرشد وهذا الوجه أصوب الوجوه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 387
390
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى حكى عن شعيب عليه السلام ما ذكره في الجواب عن كلماتهم فالأول قوله : {قَالَ يَـاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ} وفيه وجوه : الأول : أن قوله : {إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى} إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من العلم والهداية والدين والنبوة وقوله : {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال ، فإنه يروى أن شعيباً عليه السلام كان كثير المال.
(1/2469)

واعلم أن جواب إن الشرطية محذوف والتقدير : أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه وأن أخالفه في أمره ونهيه ، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم وذلك لأنهم قالوا له : {إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا فكأنه قال إنما أقدمت على هذا العمل ، لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة ، فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره وتكليفه. الثاني : أن يكون التقدير كأنه يقول لما ثبت عندي أن الاشتغال بعبادة غير الله والاشتغال بالبخس والتطفيف عمل منكر ، ثم أنا رجل أريد إصلاح أحوالكم ولا أحتاج إلى أموالكم لأجل أن الله تعالى آتاني رزقاً حسناً فهل يسعني مع هذه الأحوال أن أخون في وحي الله تعالى وفي حكمه. الثالث : قوله : {إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى} أي ما حصل عنده من المعجزة وقوله : {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } المراد أنه لا يسألهم أجراً ولا جعلاً وهو الذي ذكره سائر الأنبياء من قولهم : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 390
المسألة الثانية : قوله : {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } يدل على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته وأنه لا مدخل للكسب فيه ، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى والإذلال من الله تعالى ، وإذا كان الكل من الله تعالى فأنا لا أبالي بمخالفتكم ولا أفرح بموافقتكم ، وإنما أكون على تقرير دين الله تعالى وإيضاح شرائع الله تعالى.
/ وأما الوجه الثاني : من الأجوبة التي ذكرها شعيب عليه السلام فقوله : {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَـاـاكُمْ عَنْه } قال صاحب "الكشاف" : يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده ، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه. فيقول : خالفني إلى الماء ، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذهب عنه صادراً ، ومنه قوله : {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَـاـاكُمْ عَنْه } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة/ وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد ، وذلك يدل على كمال العقل ، وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح ، فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لا بد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلهما إلى جزأين ، التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال ألبتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة ، فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق ، وأشرف الأديان والشرائع.
وأما الوجه الثالث : من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله : {إِنْ أُرِيدُ إِلا الاصْلَـاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } والمعنى ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي ، وقوله : {مَا اسْتَطَعْتُ } فيه وجوه : الأول : أنه ظرف والتقدير : مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه لا آلو فيه جهداً. والثاني : أنه بدل من الإصلاح ، أي المقدار الذي استطعت منه. والثالث : أن يكون مفعولاً له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد ، وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهوراً فيما بين الخلق بهذه الصفة ، فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة ، فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس ، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة ، فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي ، وذلك هو الإبلاغ والإنذار ، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه ، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله : {وَمَا تَوْفِيقِى إِلا بِاللَّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته.
جزء : 18 رقم الصفحة : 390
(1/2470)

واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد ، لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد / الحصر ، وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته فإن بذاته ، ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه ، وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى وأعظم مراتب معرفة المبدأ هو الذي ذكرناه ، وأما قوله : {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فهو إشارة إلى معرفة المعاد ، وهو أيضاً يفيد الحصر لأن قوله : {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} يدل على أنه لا مرجع للخلق إلا إلى الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا ذكر شعيب عليه السلام قال : "ذاك خطيب الأنبياء" لحسن مراجعته في كلامه بين قومه.
وأما الوجه الرابع : من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله : {أُنِيبُ * وَيَـاقَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم} قال صاحب "الكشاف" : جرم مثل كسب في تعديته تارة إلى مفعول واحد وأخرى إلى مفعولين يقال جرم ذنباً وكسبه وجرمه ذنباً وكسبه إياه ، ومنه قوله تعالى : {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم} أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب ، وقرأ ابن كثير {يَجْرِمَنَّكُمْ} بضم الياء من أجرمته ذنباً إذا جعلته جارماً له أي كاسباً له. وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد ، وعلى هذا فلا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه ، والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما إلا أن المشهورة أفصح لفظاً كما أن كسبه مالاً أفصح من أكسبه.
إذا عرفت هذا فنقول : المراد من الآية لا تكسبنكم معاداتكم إياي أي يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا مثل ما حصل لقوم نوح عليه السلام من الغرق/ ولقوم عود من الريح العقيم ولقوم صالح من الرجفة ، ولقوم لوط من الخسف.
وأما قوله : {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} ففيه وجهان : الأول : أن المراد نفي البعد في المكان لأن بلاد قوم لوط عليه السلام قريبة من مدين ، والثاني : أن المراد نفي البعد في الزمان لأن إهلاك قوم لوط عليه السلام أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب عليه السلام ، وعلى هذين التقديرين فإن القرب في المكان وفي الزمان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال فكأنه يقول اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله تعالى ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 390
فإن قيل : لم قال : {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} وكان الواجب أن يقال ببعيدين ؟
أجاب عنه صاحب "الكشاف" من وجهين : الأول : أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيد. الثاني : أنه يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما.
/ وأما الوجه الخامس : من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله : واستغفروا ربكم من عبادة الأوثان ثم توبوا إليه عن البخس والنقصان إن ربي رحيم بأوليائه ودود. قال أبو بكر الأنباري : الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده ، من قولهم وددت الرجل أوده ، وقال الأزهري في "كتاب شرح أسماء الله تعالى" ويجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب ، ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.
واعلم أن هذا الترتيب الذي راعاه شعيب عليه السلام في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف وذلك لأنه بين أولاً أن ظهور البينة له وكثرة إنعام الله تعالى عليه في الظاهر والباطن يمنعه عن الخيانة في وحي الله تعالى ويصده عن التهاون في تكاليفه. ثم بين ثانياً أنه مواظب على العمل بهذه الدعوة ولو كانت باطلة لما اشتغل هو بها مع اعترافكم بكونه حليماً رشيداً ، ثم بين صحته بطريق آخر وهو أنه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلاح وإخفاء موجبات الفتن ، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما شتغل بها ، ثم لما بين صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال لا ينبغي أن تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشديد من الله تعالى ، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ، ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله : {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه } ثم بين لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة لأنه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق لأن رحمته وحبه لهم يوجب ذلك ، وهذا التقرير في غاية الكمال.
جزء : 18 رقم الصفحة : 390
391
اعلم أنه عليه السلام لما بالغ في التقرير والبيان ، أجابوه بكلمات فاسدة. فالأول : قولهم : {قَالُوا يَـاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} وفيه مسائل :
(1/2471)

المسألة الأولى : لقائل أن يقول : أنه عليه السلام كان يخاطبهم بلسانهم ، فلم قالوا : {مَا نَفْقَهُ} والعلماء ذكروا عنه أنواعاً من الجوابات : فالأول : أن المراد : ما نفهم كثيراً مما تقول ، لأنهم / كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدة نفرتهم عن كلامه وهو كقوله : {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} (الأنعام : 25) الثاني : أنهم فهموه بقلوبهم ولكنهم ما أقاموا له وزناً ، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذ لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول. الثالث : أن هذه الدلائل التي ذكرها ما أقنعتهم في صحة التوحيد والنبوة والبعث ، وما يجب من ترك الظلم والسرقة ، فقولهم : {مَا نَفْقَهُ} أي لم نعرف صحة الدلائل التي ذكرتها على صحة هذه المطالب.
المسألة الثانية : من الناس من قال : الفقه اسم لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه واحتجوا بهذه الآية وهي قوله : {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} فأضاف الفقه إلى القول ثم صار اسماً لنوع معين من علوم الدين ، ومنهم من قال : إنه اسم لمطلق الفهم. يقال : أوتي فلان فقهاً في الدين ، أي فهماً. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" أي يفهمه تأويله.
والنوع الثاني : من الأشياء التي ذكروها قولهم : {وَإِنَّا لَنَرَاـاكَ فِينَا ضَعِيفًا } وفيه وجهان : الأول : أنه الضعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه ، والثاني : أن الضعيف هو الأعمى بلغة حمير. واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه : الأول : أنه ترك للظاهر من غير دليل ، والثاني : أن قوله : {فِينَا} يبطل هذا الوجه ؛ ألا ترى أنه لو قال : إنا لنراك أعمى فينا كان فاسداً ، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم ، الثالث : أنهم قالوا بعد ذلك {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـاكَ } فنفوا عنه القوة التي أثبتوها في رهطه ، ولما كان المراد بالقوة التي أثبتوها للرهط هي النصرة ، وجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النصرة ، والذين حملوا اللفظ على ضعف البصر لعلهم إنما حملوه عليه ، لأنه سبب للضعف.
جزء : 18 رقم الصفحة : 391
واعلم أن أصحابنا يحوزون العمى على الأنبياء ، إلا أن هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى لما بيناه. وأما المعتزلة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال : إنه لا يجوز لكونه متعبداً فإنه لا يمكنه الاحتراز عن النجاسات ، ولأنه ينحل بجواز كونه حاكماً وشاهداً ، فلأن يمنع من النبوة كان أولى ، والكلام فيه لا يليق بهذه الآية ، لأنا بينا أن الآية لا دلالة فيها على هذا المعنى.
والنوع الثالث : من الأشياء التي ذكروها قولهم : {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـاكَ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الرهط من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل إلى السبعة ، وقد كان رهطه على ملتهم. قالوا لولا حرمة رهطك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لرجمناك ، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا أنه لا حرمة له عندهم ، ولا وقع له في صدورهم ، وأنهم إنما لم يقتلوه / لأجل احترامهم رهطه.
المسألة الثانية : الرجم في اللغة عبارة عن الرمي ، وذلك قد يكون بالحجارة عند قصد القتل ، ولما كان هذا الرجم سبباً للقتل لا جرم سموا القتل رجماً/ وقد يكون بالقول الذي هو القذف ، كقوله : {رَجْمَا بِالْغَيْبِ } (الكهف : 22) وقوله : {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} (سبأ : 53) وقد يكون بالشتم واللعن ، ومنه قوله : {الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} (النحل : 98) وقد يكون بالطرد كقوله : {رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } (الملك : 5).
إذا عرفت هذا ففي الآية وجهان : الأول : {لَرَجَمْنَـاكَ } لقتلناك. الثاني : لشتمناك وطردناك.
النوع الرابع : من الأشياء التي ذكروها قولهم : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} ومعناه أنك لما لم تكن علينا عزيزاً سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك.
واعلم أن كل هذه الوجوه التي ذكروها ليست دافعاً لما قرره شعيب عليه السلام من الدلائل والبينات ، بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 391
392
اعلم أن الكفار لما خوفوا شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء ، حكى الله تعالى عنه ما ذكره في هذا المقام ، وهو نوعان من الكلام :
النوع الأول : قوله : {قَالَ يَـاقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والمعنى : أن القوم زعموا أنهم تركوا إيذاءه رعاية لجانب قومه. فقال : أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراماً لرهطي ، والله تعالى أولى أن يتبع أمره ، فكأنه يقول : حفظتكم / إياي رعاية لأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي.
(1/2472)

وأما قوله : {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيًّا } فالمعنى : أنكم نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به. قال صاحب "الكشاف" : والظهري منسوب إلى الظهر ، والكسر من تغيرات النسب ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس إمسي بكسر الهمزة ، وقوله : {إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} يعني أنه عالم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.
والنوع الثاني : قوله : {قُلْ يَـاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ } والمكانة الحالة يتمكن بها صاحبها من عمله ، والمعنى اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلي فإني أيضاً عامل بقدر ما آتاني الله تعالى من القدرة.
ثم قال : {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَـاذِبٌ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول لم لم يقل {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} والجواب : إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، وإما بحذف الفاء فإنه يجعله جواباً عن سؤال مقدر والتدير : أنه لما قال : {قُلْ يَـاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ } فكأنهم قالوا فماذا يكون بعد ذلك ؟
فقال : {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في باب الفظاعة والتهويل. ثم قال {وَارْتَقِبُوا إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} والمعنى : فانتظروا العاقبة إني معكم رقيب أي منتظر ، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم ، أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
جزء : 18 رقم الصفحة : 392
393
روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم / وقوله : {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} يحتمل أن يكون المراد منه ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصيحة ، ويحتمل أن يكون المراد من الأمر العقاب ، وعلى التقديرين فأخبر الله أنه نجى شعيباً ومن معه من المؤمنين برحمة منه وفيه وجهان : الأول : أنه تعالى إنما خلصه من ذلك العذاب لمحض رحمته ، تنبيهاً على أن كل ما يصل إلى العبد فليس إلا بفضل الله ورحمته. والثاني : أن يكون المراد من الرحمة الإيمان والطاعة وسائر الأعمال الصالحة وهي أيضاً ما حصلت إلا بتوفيق الله تعالى ، ثم وصف كيفية ذلك العذاب فقال : {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وإنما ذكر الصيحة بالألف واللام إشارة إلى المعهود السابق وهي صيحة جبريل عليه السلام {فَأَصْبَحُوا فِى دِيَـارِهِمْ جَـاثِمِينَ} والجاثم الملازم لمكانه الذي لا يتحول عنه يعني أن جبريل عليه السلام لما صاح بهم تلك الصيحة زهق روح كل واحد منهم بحيث يقع في مكانه ميتاً {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ } أي كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين.
ثم قال تعالى : {أَلا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 393
395
(1/2473)

واعلم أن هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر القصص من هذه السورة ، أما قوله : {بِـاَايَـاتِنَا وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} ففيه وجوه : الأول : أن المراد من الآيات التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام ، ومن السلطان المبين المعجزات القاهرة الباهرة / والتقدير : ولقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف وأيدناه بمعجزات قاهرة وبينات باهرة الثاني : أن الآيات هي المعجزات والبينات وهو كقوله : {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَـانا بِهَـاذَآ } (يونس : 68) وقوله : {مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } (النجم : 23) وعلى هذا التقدير ففي الآية وجهان : الأول : أن هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته. الثاني : أن يراد السلطان المبين العصا ، لأنه أشهرها وذلك لأنه تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات ، وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والأنفس. ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر ، واختلفوا في أن الحجة لم سميت بالسلطان. فقال بعض المحققين : لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه عند النظر كما يقهر السلطان غيره ، فلهذا توصف الحجة بأنها سلطان ، وقال الزجاج : السلطان هو الحجة والسلطان سمي سلطاناً لأنه حجة الله في أرضه واشتقاقه من السليط والسليط ما يضاء به ومن هذا قيل للزيت السليط وفيه قول ثالث : وهو أن السلطان مشتق من التسليط ، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية والملوك سلاطين بسبب ما معهم من القدرة والمكنة ، إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك ، لأن سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأن سلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة.
فإن قيل : إذا حملتم الآيات المذكورة في قوله : {بِـاَايَـاتِنَا} على المعجزات والسلطان أيضاً على الدلائل والمبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهور فما الفرق بين هذه المراتب الثلاثة ؟
جزء : 18 رقم الصفحة : 395
قلنا : الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن ، وبين الدلائل التي تفيد اليقين وأما السلطان فهو اسم لما يفيد القطع واليقين ، إلا أنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس ، وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس ، وأما الدليل القاطع الذي تأكد بالحس فهو السلطان المبين ، ولما كانت معجزات موسى عليه السلام هكذا لا جرم وصفها الله بأنها سلطان مبين. ثم قال : {إِلَى فِرْعَوْنَ} يعني وأرسلنا موسى بآياتنا بمثل هذه الآيات إلى فرعون وملائه ، أي جماعته. ثم قال : {وَمَلايْه فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } ويحتمل أن يكون المراد أمره إياهم بالكفر بموسى ومعجزاته ويحتمل أن يكون المراد من الأمر الطريق والشأن.
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي بمرشد إلى خير ، وقيل رشيد أي ذي رشد.
واعلم أن بعد طريق فرعون من الرشد كان ظاهراً لأنه كان دهرياً نافياً للصانع والمعاد وكان يقول : لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية / لمصلحة العالم وأنكر أن يكون الرشد في عبادة الله ومعرفته فلما كان هو نافياً لهذين الأمرين كان خالياً عن الرشد بالكلية/ ثم إنه تعالى ذكر صفته وصفة قومه فقال : {يَقْدُمُ قَوْمَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } وفيه بحثان :
البحث الأول : من حيث اللغة يقال : قدم فلان فلاناً بمعنى تقدمه ، ومنه قادمة الرجل كما يقال قدمه بمعنى تقدمه ، ومنه مقدمة الجيش.
والبحث الثاني : من حيث المعنى وهو أن فرعون كان قدوة لقومه في الضلال حال ما كانوا في الدنيا وكذلك مقدمهم إلى النار وهم يتبعونه ، أو يقال كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم في البحر وأغرقهم فكذلك يتقدمهم يوم القيامة فيدخلهم النار ويحرقهم ، ويجوز أيضاً أن يريد بقوله : {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي وما أمره بصالح حميد العاقبة ويكون قوله : {يَقْدُمُ قَوْمَه } تفسيراً لذلك ، وأيضاحاً له ، أي كيف يكون أمره رشيداً مع أن عاقبته هكذا.
فإن قيل : لم لم يقل : يقدم قومه فيوردهم النار ؟
بل قال : يقدم قومه فأوردهم النار بلفظ الماضي.
قلنا : لأن الماضي قد وقع ودخل في الوجود فلا سبيل ألبتة إلى دفعه ، فإذا عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل على غاية المبالغة ، ثم قال : {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} وفيه بحثان :
جزء : 18 رقم الصفحة : 395
البحث الأول : لفظ "النار" مؤنث ، فكان ينبغي أن يقال : وبئست الورد المورود إلا أن لفظ "الورد" مذكر ، فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول : نعم المنزل دارك ، ونعمت المنزل دارك ، فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار هكذا قاله الواحدي.
(1/2474)

البحث الثاني : الورد قد يكون بمعنى الورود فيكون مصدراً وقد يكون بمعنى الوارد. قال تعالى : {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} (مريم : 86) وقد يكون بمعنى المورود عليه كالماء الذي يورد عليه. قال صاحب "الكشاف" : الورد المورود الذي حصل وروده. فشبه الله تعالى فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردين إلى الماء ، ثم قال بئس الورد الذي يوردونه النار ، لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنار ضده.
ثم قال : {وَأُتْبِعُوا فِى هَـاذِه لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ } والمعنى أنهم أتبعوا في هذه الدنيا لعنة وفي يوم القيامة أيضاً ، ومعناه أن اللعن من الله ومن الملائكة والأنبياء ملتصق بهم في الدنيا وفي الآخرة لا يزول عنهم ، ونظيره قوله في سورة القصص : {وَأَتْبَعْنَـاهُمْ فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةًا وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} (القصص : 42).
/ ثم قال : {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} والرفد هو العطية وأصله الذي يعين على المطلوب سأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله : {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} قال هو اللعنة بعد اللعنة. قال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة وكل شيء جعلته عوناً لشيء فقد رفدته به.
جزء : 18 رقم الصفحة : 395
396
اعلم أنه تعالى لما ذكر قصص الأولين قال : {ذَالِكَ مِنْ أَنابَآءِ الْقُرَى نَقُصُّه عَلَيْكَ } والفائدة في ذكرها أمور : أولها : أن الانتفاع بالدليل العقلي المحض إنما يحصل للإنسان الكامل ، وذلك إنما يكون في غاية الندرة. فأما إذا ذكرت الدلائل ثم أكدت بأقاصيص الأولين صار ذكر هذه الأقاصيص كالموصل لتلك الدلائل العقلية إلى العقول.
الوجه الثاني : أنه تعالى خلط بهذه الأقاصيص أنواع الدلائل التي كان الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بها ويذكر مدافعات الكفار لتلك الدلائل وشبهاتهم في دفعها ، ثم يذكر عقيبهما أجوبة الأنبياء عنها ثم يذكر عقيبها أنهم لما أصروا واستكبروا وقعوا في عذاب الدنيا وبقي عليهم اللعن والعقاب في الدنيا وفي الآخرة ، فكان ذكر هذه القصص سبباً لإيصال الدلائل والجوابات عن الشبهات إلى قلوب المنكرين ، وسبباً لإزالة القسوة والغلظة عن قلوبهم ، فثبت أن أحسن الطرق في الدعوة إلى الله تعالى ما ذكرناه.
الفائدة الثالثة : أنه عليه السلام كان يذكر هذه القصص من غير مطالعة كتب ، ولا تلمذ لأحد وذلك معجزة عظيمة تدل على النبوة كما قررناه.
الفائدة الرابعة : إن الذين يسمعون هذه القصص يتقرر عندهم أن عاقبة الصديق والزنديق والموافق والمنافق إلى ترك الدنيا والخروج عنها ، إلا أن المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا ، والثواب الجزيل في الآخرة ، والكافر يخرج من الدنيا مع اللعن في الدنيا / والعقاب في الآخرة ، فإذا تكررت هذه الأقاصيص على السمع ، فلا بد وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال ، فهذا كلام جليل في فوائد ذكر هذه القصص.
أما قوله : {ذَالِكَ مِنْ أَنابَآءِ الْقُرَى } ففيه أبحاث :
البحث الأول : أو قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى الغائب ، والمراد منه ههنا الإشارة إلى هذه القصص التي تقدمت ، وهي حاضرة ، إلا أن الجواب عنه ما تقدم في قوله : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه } (البقرة : 2).
جزء : 18 رقم الصفحة : 396
البحث الثاني : أن لفظ "ذلك" يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة لقوله تعالى : {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَالِكَ } (البقرة : 68) وأيضاً يحتمل أن يكون المراد ذلك الذي ذكرناه هو كذا وكذا.
البحث الثالث : قال صاحب "الكشاف" : "ذلك" مبتدأ {مِنْ أَنابَآءِ الْقُرَى } خبر {نَقُصُّه عَلَيْكَ } خبر بعد خبر أي ذلك المذكور بعض أنبار القرى مقصوص عليك. ثم قال : {مِنْهَا قَآاـاِمٌ وَحَصِيدٌ} والضمير في قوله : {مِنْهَا} يعود إلى القرى شبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه وما عفا منها وبطر بالحصيد ، والمعنى أن تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتة.
ثم قال تعالى : {وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } وفيه وجوه : الأول : وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك ، ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. الثاني : أن الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله بل هو عدل وحكمة ، لأجل أن القوم أولاً ظلموا أنفسهم بسبب إقدامهم على الكفر والمعاصي فاستوجبوا لأجل تلك الأعمال من الله ذلك العذاب. الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد وما نقصناهم من النعيم في الدنيا والرزق/ ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله تعالى.
(1/2475)

ثم قال : {فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ} أي ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة.
ثم قال : {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : غير تخسير. يقال : تب إذا خسر وتببه غيره إذا أوقعه في الخسران ، والمعنى أن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار ثم إنه تعالى أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين ما وجدوا منها شيئاً لا جلب نفع ولا دفع ضر ، ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده ، وهو أن ذلك / الاعتقاد زال عنهم به منافع الدنيا والآخرة وجلب إليهم مضار الدنيا والآخرة ، فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران.
جزء : 18 رقم الصفحة : 396
397
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم والجحدري : {إِذَآ أَخَذَ الْقُرَى } بألف واحدة ، وقرأ الباقون بألفين.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما أخبر الرسول عليه السلام في كتابه بما فعل بأمم من تقدم من الأنبياء لما خالفوا الرسل وردوا عليهم من عذاب الاستئصال ، وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا قال بعده : {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ } فبين أن عذابه ليس بمقتصر على من تقدم ، بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك وقوله : {وَهِىَ ظَـالِمَةٌ } الضمير فيه عائد إلى القرى وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها ، ونظيره قوله : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} (الأنبياء : 11) وقوله : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةا بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } (القصص : 58).
واعلم أنه تعالى لما بين كيفية أخذ الأمم المتقدمة ثم بين أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيداً وتقوية فقال : {إِنَّ أَخْذَه ا أَلِيمٌ شَدِيدٌ} فوصف ذلك العذاب بالإيلام وبالشدة ، ولا منغصة في الدنيا إلا الألم ، ولا تشديد في الدنيا وفي الآخرة ، وفي الوهم والعقل إلا تشديد الألم.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة لئلا يقع في الأخذ الذي وصفه الله تعالى بأنه أليم شديد ولا ينبغي أن يظن أن هذه الأحكام / مختصة بأولئك المتقدمين ، لأنه تعالى لما حكى أحوال المتقدمين قال : {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ } فبين أن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي ، فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد.
ثم قال تعالى : {إِنَّ فِى ذالِكَ لايَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ } قال القفال : تقرير هذا الكلام أن يقال : إن هؤلاء إنما عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله ، فإذا عذبوا في الدنيا على ذلك وهي دار العمل ، فلأن يعذبوا عليه في الآخرة التي هي دار الجزاء كان أولى.
جزء : 18 رقم الصفحة : 397
واعلم أن كثيراً ممن تنبه لهذا البحث من المفسرين عولوا على هذا الوجه ، بل هو ضعيف وذلك لأن على هذا الوجه الذي ذكره القفال يكون ظهور عذاب الاستئصال في الدنيا دليلاً على أن القول بالقيامة والبعث والنشر حق وصدق ، وظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال ، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال ، لأن القفال يجعل العلم بعذاب الاستئصال أصلاً للعلم بأن القيامة حق ، فبطل ما ذكره القفال والأصوب عندي أن يقال : العلم بأن القيامة حق موقوف على العلم بأن المدبر لوجود هذه السموات والأرضين فاعل مختار لا موجب بالذات وما لم يعرف الإنسان أن إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكنات وأن جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرضين لا تحصل إلا بتكوينه وقضائه ، لا يمكنه أن يعتبر بعذاب الاستئصال ، وذلك لأن الذين يزعمون أن المؤثر في وجود هذا العالم موجب بالذات لا فاعل مختار ، يزعمون أن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء مثل الغرق والحرق والخسف والمسخ والصيحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب واتصال بعضها ببعض/ وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لا يكون حصولها دليلاً على صدق الأنبياء ، فأما الذي يؤمن بالقيامة ، فلا يتم ذلك الإيمان إلا إذا اعتقد أنه إله العالم فاعل مختار وأنه عالم بجميع الجزئيات ، وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بأن حدوث هذه الحوادث الهائلة والوقائع العظيمة إنما كان بسبب أن إله العالم خلقها وأوجدها وأنها ليست بسبب طوالع الكواكب وقراناتها ، وحينئذ ينتفع بسماع هذه القصص ، ويستدل بها على صدق الأنبياء ، فثبت بهذا صحة قوله : {إِنَّ فِى ذالِكَ لايَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ } .
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} .
(1/2476)

واعلم أنه تعالى لما ذكر الآخرة وصف ذلك اليوم بوصفين : أحدهما : أنه يوم مجموع له الناس ، والمعنى أن خلق الأولين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون. والثاني : أنه يوم مشهود قال ابن عباس رضي الله عنهما يشهده البر والفاجر. وقال آخرون يشهده أهل السماء / وأهل الأرض ، والمراد من الشهود الحضور ، والمقصود من ذكره أنه ربما وقع في قلب إنسان أنهم لما جمعوا في ذلك الوقت لم يعرف كل أحد إلا واقعة نفسه ، فبين تعالى أن تلك الوقائع تصير معلومة للكل بسبب المحاسبة والمساءلة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 397
ثم قال تعالى : {وَمَا نُؤَخِّرُه ا إِلا لاجَلٍ مَّعْدُودٍ} والمعنى أن تأخير الآخرة وإفناء الدنيا موقوف على أجل معدود وكل ماله عدد فهو متناه وكل ما كان متناهياً فإنه لا بد وأن يفنى ، فيلزم أن يقال إن تأخير الآخرة سينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم الله القيامة فيه ، وأن تخرب الدنيا فيه ، وكل ما هو آت قريب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 397
404
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة {يَأْتِ} بحذف الياء والباقون بإثبات الياء. قال صاحب "الكشاف" : وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ، ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : فاعل يأتي هو الله تعالى كقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} (البقرة : 210) وقوله : {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} (الأنعام : 158) ويعضده قراءة من قرأ {وَمَآ} بالياء أقول لا يعجبني هذا التأويل ، لأن قوله : {حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} حكاه الله تعالى عن أقوام والظاهر أنهم هم اليهود ، وذلك ليس فيه حجة وكذا قوله : {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} أما ههنا فهو صريح كلام الله تعالى وإسناد فعل الإتيان إليه مشكل.
فإن قالوا : فما قولك في قوله تعالى : {وَجَآءَ رَبُّكَ} .
قلنا : هناك تأويلات ، وأيضاً فهو صريح ، فلا يمكن دفعه فوجب الامتناع منه بل الواجب أن يقال : المراد منه يوم يأتي الشيء المهيب الهائل المستعظم ، فحذف الله تعالى ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : العامل في انتصاب الظرف هو قوله : {لا تَكَلَّمُ} أو إضمار اذكر.
أما قوله : {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِه } ففيه حذف ، والتقدير : لا تكلم نفس فيه إلا بإذن الله تعالى.
فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى : {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا} (النحل : 111) ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23) ومنها قوله تعالى : {وَقِفُوهُم إِنَّهُم} (الصافات : 24) ومنها قوله : {هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات : 35).
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
والجواب من وجهين : الأول : أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقية الصحيحة. الثاني : أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.
أما قوله : {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الضمير في قوله : {فَمِنْهُمْ} لأهل الموقف ولم يذكر لأنه معلوم ولأن قوله : {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِه } يدل عليه لأنه قد مر ذكر الناس في قوله : {مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ} (هود : 103).
المسألة الثانية : قوله : {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين.
/ فإن قيل : أليس في الناس مجانين وأطفال وهم خارجون عن هذين القسمين ؟
قلنا : المراد من يحشر ممن أطلق للحساب وهم لا يخرجون عن هذين القسمين.
فإن قيل : قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار فما قولكم فيه ؟
قلنا : لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين لأنهم لا يحاسبون فلم لا يجوز أيضاً أن يقال : إن أصحاب الأعراف خارجون عنه لأنهم أيضاً لا يحاسبون ، لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم ، فلا فائدة في حسابهم.
فإن قيل : القاضي استدل بهذه الآية أيضاً على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو يكون عقابه زائداً ، فأما من كان ثوابه مساوياً لعقابه فإنه وإن كان جائزاً في العقل ، إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود.
(1/2477)

قلنا : الكلام فيه ما سبق من أن السعيد هو الذي يكون من أهل الثواب ، والشقي هو الذي يكون من أهل العقاب ، وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث ، والدليل على ذلك : أن أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر فقط ، وليس فيه ذكر ثالث لا يكون لا مؤمناً ولا كافراً مع أن القاضي أثبته ، فإذا لم يلزم من عدم ذكر ذلك الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من ذكر هذا الثالث عدمه.
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي ، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه ، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذباً وعلمه جاهلاً وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً وأن الشقي لا ينقلب سعيداً ، وتقرير هذا الدليل مر في هذا الكتاب مراراً لا تحصى. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لما نزل قوله تعالى : {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} قلت يا رسول الله فعلى ماذا نعمل على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه ؟
فقال : "على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار ، ولكن كل ميسر لما خلق له" وقالت المعتزلة : نقل عن الحسن أنه قال : فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله.
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
قلنا : الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضاً فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقياً.
/ واعلم أنه تعالى لما قسم أهل القيامة إلى هذين القسمين شرح حال كل واحد منهما فقال : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في الفرق بين الزفير والشهيق وجوهاً :
الوجه الأول : قال الليث : الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ولم يخرجه ، والشهيق أن يخرج ذلك النفس ، وقال الفراء : يقال للفرس إنه عظيم الزفرة أي عظيم البطن وأقول إن الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب فإذا انحصر الروح قويت الحرارة وعظمت وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء كثيراً بارداً حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة ، فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل البدن وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ، ولما كانت الحرارة الغريزية والروح الحيواني محصوراً داخل القلب استولت البرودة على الأعضاء الخارجة فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء الكثير المستنشق فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر ويقرب من أن يختنق الإنسان منه وحينئذ تجتهد الطبيعة في إخراج ذلك الهواء فعلى قياس قول الأطباء الزفير هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه ، والشهيق هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه وكل واحدة من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم.
الوجه الثاني : في الفرق بين الزفير والشهيق. قال بعضهم : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق. وأما الشهيق فهو بمنزلة آخر صوت الحمار.
الوجه الثالث : قال الحسن : قد ذكرنا أن الزفير عبارة عن الارتفاع. فنقول : الزفير لهيب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى درجات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من جهنم ، وذلك قوله تعالى : {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا} فارتفاعهم في النار هو الزفير وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق.
الوجه الرابع : قال أبو مسلم : الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس ، والشهيق هوا لذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن ، وربما تبعهما الغشية ، وربما حصل عقيبه الموت.
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
الوجه الخامس : قال أبو العالية : الزفير في الحلق والشهيق في الصدر.
/ الوجه السادس : قال قوم : الزفير الصوت الشديد ، والشهيق الصوت الضعيف.
الوجه السابع : قال ابن عباس رضي الله عنهما : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} يريد ندامة ونفساً عالية وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع.
الوجه الثامن : الزفير مشعر بالقوة ، والشهيق بالضعف على ما قررناه بحسب اللغة.
إذا عرفت هذا فنقول : لم يبعد أن يكون المراد من الزفير قوة ميلهم إلى عالم الدنيا وإلى اللذات الجسدانية ، والمراد من الشهيق ضعفهم عن الاستسعاد بعالم الروحانيات والاستكمال بالأنوار الإلهية والمعارج القدسية.
ثم قال تعالى : {خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَا إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وفيه مسألتان :
(1/2478)

المسألة الأولى : قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية ، واحتجوا بالقرآن والمعقول. أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين : الأول : أنه تعالى قال : {مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض ، ثم توافقنا على أن مدة بقاء السموات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة. الثاني : أن قوله : {إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضاً قوله تعالى في سورة عم يتساءلون : {لَّـابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا} (النبأ : 23) بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة.
وأما العقل فوجهان : الأول : أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز. الثاني : أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره ، لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم ، فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز ، وأما الجمهور الأعظم من الأمة ، فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية. أما قوله : {خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} فذكروا عنه جوابين : الأول : قالوا المراد سموات الآخرة وأرضها. قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ} (إبراهيم : 48) وقوله : {وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } (الزمر : 74) وأيضاً لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم ، وذلك / هو الأرض والسموات.
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوماً مقرراً فيشبه به غيره تأكيداً لثبوت الحكم في المشبه ووجود السموات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى ألبتة غير معلوم/ فإذا كان أصل وجودهما مجهولاً لأكثر الخلق ودوامهما أيضاً مجهولاً للأكثر ، كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاماً عديم الفائدة ، أقصى ما في الباب أن يقال : لما ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به ، وحينئذ يحسن التشبيه ، إلا أنا نقول : لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع ، ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر ، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع ، وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل ، فكذا ههنا.
والوجه الثاني : في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السموات والأرض ، ونظيره أيضاً قولهم ما اختلف الليل والنهار ، وما طما البحر ، وما أقام الجبل ، وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد ، علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع.
ولقائل أن يقول : هل تسلمون أن قول القائل : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات ، أو تقولون إنه لا يدل على هذا المعنى ، فإن كان الأول ، فالإشكال لازم ، لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السموات ، ثم ثبت أنه لا بد من فناء السموات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب ، وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السموات والأرض ، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة ، فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع.
واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر ، وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السموات والأرض دائمتين ، كان كونهم في النار باقياً فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط : ألا ترى أنا نقول : إن كان هذا إنساناً فهو حيوان.
/ فإن قلنا : لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان ، أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان ، لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً ، فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم ، فإذا قلنا لكن السموات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً ، أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لم يلزم عدم دوام عقابهم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
فإن قالوا : فإذا كان العقاب حاصلاً سواء بقيت السموات أو لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة ؟
(1/2479)

قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهراً دهراً ، وزماناً لا يحيط العقل بطوله وامتداده ، فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر ، وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئاً من المعقولات.
وأما الشبهة الثانية : وهي التمسك بقوله تعالى : {إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } فقد ذكروا فيه أنواعاً من الأجوبة.
الوجه الأول : في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء. قالوا هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ألبتة ، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه ، فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب ، وفي ضرب الأمثلة فيه ، وحاصله ما ذكرناه.
ولقائل أن يقول : هذا ضعيف لأنه إذا قال : لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، معناه : لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب ، وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله : {خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك/ فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزماً ، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام.
الوجه الثاني : في الجواب أن يقال : إن كلمة {إِلا} ههنا وردت بمعنى : سوى. والمعنى أنه تعالى لما قال : {خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السموات والأرض في الدنيا ، ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولاً في خلودهم ماليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله : {إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } المعنى : إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها.
الوجه الثالث : في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون / في النار ، وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر ، أو المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة ، والمعنى : خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار.
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
الوجه الرابع : في الجواب قالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (هود : 106) وتقريره أن نقول : قوله : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَـالِدِينَ فِيهَا} يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار.
الوجه الخامس : في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبداً في النار ، بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء.
الوجه السادس : في الجواب قال قوم : هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار ، لأن قوله : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ} يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم ، ثم قوله : {إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع. ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم ، فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ، ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال : الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة ، وهذا كلام قوي في هذا الباب.
فإن قيل : فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها ، فما الدليل على فسادها ، وأيضاً فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء ، فإنه تعالى قال : {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَا عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
قلنا : إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار ، ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار.
(1/2480)

قلنا : أما حمل كلمة "إلا" على سوى فهو عدول عن الظاهر ، وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضاً ، لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ، ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار ، فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار ، وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وامتنع حصول الاستثناء. وأما قوله الاستثناء عائد / إلى الزفير والشهيق فهذا أيضاً ترك للظاهر ، فلم يبق للآية محمل صحيح إلا هذا الذي ذكرناه ، وأما قوله المراد من الاستثناء نقله من النار إلى الزمهرير. فنقول : لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض. والأخبار الصحيحة دلت على أن النقل من النار إلى الزمهرير وبالعكس يحصل في كل يوم مراراً فبطل هذا الوجه ، وأما قوله إن مثل هذا الاستثناء حاصل في جانب السعداء فنقول : أجمعت الأمة على أنه يمتنع أن يقال : إن أحداً يدخل الجنة ثم يخرج منها إلى النار ، فلأجل هذا الإجماع افتقرنا فيه إلى حمل ذلك الاستثناء على أحد تلك التأويلات. أما في هذه الآية لم يحصل هذا الإجماع ، فوجب إجراؤها على ظاهرها فهذا تمام الكلام في هذه الآية.
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء قال : {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وهذا يحسن انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفساق من النار ، كأنه تعالى يقول أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد وليس لأحد عليَّ حكم ألبتة.
ثم قال : {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {سُعِدُوا } بضم السين والباقون بفتحها وإنما جاز ضم السين لأنه على حذف الزيادة من أسعد ولأن سعد لا يتعدى وأسعد يتعدى وسعد وأسعد بمعنى ومنه المسعود من أسماء الرجال.
المسألة الثانية : الاستثناء في باب السعداء يجب حمله على أحد الوجوه المذكورة فيما تقدم وههنا وجه آخر وهو أنه ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنة إلى العرش وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى. قال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍا وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} (التوبة : 72) وقوله : {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : جذه يجذه جذاً إذا قطعه وجذ الله دابرهم ، فقوله : {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع ، ونظيره قوله تعالى في صفة نعيم الجنة {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} (الواقعة : 33).
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما صرح في هذه الآية أنه ليس المراد من هذا الاستثناء كون هذه الحالة منقطعة ، فلما خص هذا الموضع بهذا البيان ولم يذكر ذلك في جانب الأشقياء دل ذلك على أن المراد من ذلك الاستثناء هو الانقطاع ، فهذا تمام الكلام في هذه الآية.
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
404
/ اعلم أنه تعالى لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول عليه الصلاة والسلام أحوال الكفار من قومه فقال : {فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ} والمعنى : فلا تكن ، إلا أنه حذف النون لكثرة الاستعمال ، ولأن النون إذا وقع على طرف الكلام لم يبق عند التلفظ به إلا مجرد الغنة فلا جرم أسقطوه ، والمعنى : فلا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع.
ثم قال تعالى : {مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبْلُ } والمراد أنهم أشبهوا آباءهم في لزوم الجهل والتقليد.
ثم قال : {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} فيحتمل أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم أي ما يخصهم من العذاب. ويحتمل أن يكون المراد أنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية. ويحتمل أيضاً أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم من إزالة العذر وإزاحة العلل وإظهار الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، ويحتمل أيضاً أن يكون الكل مراداً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 404
406
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد ، بين أيضاً إصرارهم على إنكار نبوته عليه السلام وتكذيبهم بكتابه ، وبين تعالى أن هؤلاء الكفار كانوا على / هذه السيرة الفاسدة مع كل الأنبياء عليهم السلام وضرب لذلك مثلاً ؛ وهو أنه لما أنزل التوراة على موسى عليه السلام اختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره آخرون ، وذلك يدل على أن عادة الخلق هكذا.
(1/2481)

ثم قال تعالى : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } وفيه وجوه : الأول : أن المراد : ولولا ما تقدم من حكم الله تعالى بتأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقه هؤلاء الكفار عند عظيم كفرهم إنزال عذاب الاستئصال عليهم لكن المتقدم من قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم. الثاني : لولا كلمة سبقت من ربك وهي أن الله تعالى إنما يحكم بين المختلفين يوم القيامة وإلا لكان من الواجب تمييز المحق عن المبطل في دار الدنيا. الثالث : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} وهي أن رحمته سبقت غضبه وأن إحسانه راجح على قهره وإلا لقضى بينهم ولما قرر تعالى هذا المعنى قال : {وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} يعني أن كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مريب.
ثم قال تعالى : {وَإِنَّ كُلا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَـالَهُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى أن من عجلت عقوبته ومن أخرت ومن صدق الرسل ومن كذب فحالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة ، فجمعت الآية الوعد والوعيد فإن توفية جزاء الطاعات وعد عظيم وتوفية جزاء المعاصي وعيد عظيم ، وقوله تعالى : {إِنَّه بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} توكيد الوعد والوعيد ، فإنه لما كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطاعات والمعاصي فكان عالماً بالقدر اللائق بكل عمل من الجزاء ، فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق والأجزية وذلك نهاية البيان.
جزء : 18 رقم الصفحة : 406
المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو والكسائي وإن مشددة النون {لَّمَّا} خفيفة قال أبو علي : اللام في {لَّمَّا} هي التي تقتضيه إن وذلك لأن حرف إن يقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقوله : {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل : 18) وقوله : {إِنَّ فِى ذالِكَ لايَةً} (الحجر : 77) واللام الثانية هي التي تجيء بعد القسم كقولك والله لتفعلن ولما اجتمع لامان دخلت ما لتفصل بينهما فكلمة ما على هذا التقدير زائدة ، وقال الفراء : ما موصولة بمعنى من وبقية التقرير كما تقدم ومثله : {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} (النساء : 72).
والقراءة الثانية : في هذه الآية قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم {وَإِنَّ كُلا لَّمَّا} مخففتان والسبب فيه أنهم أعملوا إن مخففة كما تعمل مشددة لأن كلمة إن تشبه الفعل فكما يجوز أعمال الفعل تاماً ومحذوفاً في قولك لم يكن زيد قائماً ولم يك زيد قائماً فكذلك أن وإن.
/ والقراءة الثالثة : قرأ حمزة وابن عامر وحفص : {وَإِنَّ كُلا لَّمَّا} (الفجر : 19) مشددتان ، قالوا : وأحسن ما قيل فيه إن أصل لما بالتنوين كقوله : {أَكْلا لَّمًّا} والمعنى أن كلاً ملمومين أي مجموعين كأنه قيل : وإن كلاً جميعاً.
المسألة الثالثة : سمعت بعض الأفاضل قال : إنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات : أولها : كلمة {ءَانٍ} وهي للتأكيد. وثانيها : كلمة "كل" وهي أيضاً للتأكيد. وثالثها : اللام الداخلة على خبر {ءَانٍ} وهي تفيد التأكيد أيضاً. ورابعها : حرف {مَآ} إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً. وخامسها : القسم المضمر ، فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم. وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها : النون المؤكدة في قوله {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ثم أردفه بقوله : {إِنَّه بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وهو من أعظم المؤكدات.
جزء : 18 رقم الصفحة : 406
407
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعلى لما أطنب في شرح الوعد والوعيد قال لرسوله : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} وهذ الكلمة كلمة جامعة في كل ما يتعلق بالعقائد والأعمال ، سواء كان مختصاً به أو كان متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشرائع ، ولا شك أن البقاء على الاستقامة الحقيقية مشكل جداً وأنا أضرب لذلك مثالاً يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السليم ، وهو أن الخط المستقيم الذي يفصل بين الظل وبين الضوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض ، إلا أن عين ذلك الخط مما لا يتميز في الحس عن طرفيه ، فإنه إذا قرب طرف الظل من طرف الضوء اشتبه البعض بالبعض في الحس ، فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كل ما سواه.
(1/2482)

/ إذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية ، فأولها : معرفة الله تعالى وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العبد مصوناً في طرف الإثبات عن التشبيه ، وفي طرف النفي عن التعطيل في غاية الصعوبة ، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك ، وأيضاً فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرفا إفراط وتفريط وهما مذمومان ، والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين ، والوقوف عليه صعب ثم العمل به أصعب ، فثبت أن معرفة الصراط المستقيم في غاية الصعوبة ، بتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب ، ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة لا جرم قال ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "شيبتني هود وأخواتها ، وعن بعضهم قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في النوم فقلت له : روي عنك أنك قلت شيبتني هود وأخواتها فقال : "نعم" فقلت : وبأي آية ؟
فقال بقوله : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} .
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة وذلك لأن القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به وعندي أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس ، لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} والعمل بالقياس انحراف عنه ، ثم قال : {وَمَن تَابَ مَعَكَ} وفيه مسائل :
جزء : 18 رقم الصفحة : 407
المسألة الأولى : قال الواحدي : من في محل الرفع من وجوه : الأول : أن يكون عطفاً على الضمير المستتر في قوله : {فَاسْتَقِمْ} وأغنى الوصل بالجار عن تأكيده بضمير المتصل في صحة العطف أي فاستقم أنت وهم. والثاني : أن يكون عطفاً على الضمير فى أمرت. والثالث : أن يكون ابتداء على تقدير ومن تاب معك فليستقم.
المسألة الثانية : أن الكافر والفاسق يجب عليهما الرجوع عن الكفر والفسق ففي تلك الحالة لا يصح اشتغالهما بالاستقامة ، وأما التائب عن الكفر والفسق فإنه يصح منه الاشتغال بالاستقامة على مناهج دين الله تعالى والبقاء على طريق عبودية الله تعالى ، ثم قال : {وَلا تَطْغَوْا } ومعنى الطغيان أن يجاوز المقدار. قال ابن عباس : يريد تواضعوا لله تعالى ولا تتكبروا على أحد وقيل ولا تطغوا في القرآن فتحلوا حرامه وتحرموا حلاله/ وقيل : لا تتجاوزوا ما أمرتم به وحد لكم ، وقيل : ولا تعدلوا عن طريق شكره والتواضع له عند عظم نعمه عليكم والأولى دخول الكل فيه ، ثم قال : {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } والركون هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة ونقيضه / النفور عنه ، وقرأ العامة بفتح التاء والكاف والماضي من هذا ركن كعلم وفيه لغة أخرى ركن يركن قال الأزهري : وليست بفصيحة. قال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون ، ومعنى قوله : {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي أنكم إن ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون ، ثم قال : {لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } أي ليس لكم أولياء يخلصونكم من عذاب الله.
ثم قال : {ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} والمراد لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة.
واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن إلى الظلمة لا بد وأن تمسه النار وإذا كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 407
409
اعلم أنه تعالى لما أمره بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة وذلك يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : رأيت في بعض "كتب القاضي أبي بكر الباقلاني" أن الخوارج تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الواجب ليس إلا الفجر والعشاء من وجهين.
الوجه الأول : أنهما واقعان على طرفي النهار والله تعالى أوجب إقامة الصلاة طرفي النهار ، فوجب أن يكون هذا القدر كافياً.
فإن قيل : قوله : {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } يوجب صلوات أخرى.
قلنا : لا نسلم فإن طرفي النهار موصوفان بكونهما زلفاً من الليل فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف إلا أن ذلك كثير في القرآن والشعر.
الوجه الثاني : أنه تعالى قال : {إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ } وهذا يشعر بأن من صلى طرفي النهار كان إقامتهما كفارة لكل ذنب سواهما فبتقدير أن يقال إن سائر الصلوات واجبة إلا / أن إقامتهما يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات. واعلم أن هذا القول باطل بإجماع الأمة فلا يلتفت إليه.
(1/2483)

المسألة الثانية : كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأقرب أن الصلاة التي تقام في طرفي النهار وهي الفجر والعصر ، وذلك لأن أحد طرفي النهار طلوع الشمس والطرف الثاني منه غروب الشمس فالطرف الأول هو صلاة الفجر والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله : {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر.
إذا عرفت هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن التنوير بالفجر أفضل ، وفي أن تأخير العصر أفضل وذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب إقامة الصلاة في طرفي النهار وبينا أن طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس ، والزمان الثاني لغروبها ، وأجمعت الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة ، فقد تعذر العمل بظاهر هذه الآية ، فوجب حمله على المجاز ، وهو أن يكون المراد : أقم الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار ، لأن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه ، وإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب إلى طلوع الشمس وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطلوع من إقامتها عند التغليس ، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظل كل شيء مثله ، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى ، فثبت أن ظاهر هذه الآية يقوي قول أبي حنيفة في هاتين المسألتين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 409
وأما قوله : {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } فهو يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلف من الليل ، لأن أقل الجمع ثلاثة وللمغرب والعشاء وقتان ، فيجب الحكم بوجوب الوتر حتى يحصل زلف ثلاثة يجب إيقاع الصلاة فيها ، وإذا ثبت وجوب الوتر في حق النبي صلى الله عليه وسلّم وجب في حق غيره لقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} (سبأ : 20) ونظير هذه الآية بعينها قوله سبحانه وتعالى : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } (طه : 30) فالذي هو قبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر ، والذي هو قبل غروبها هو صلاة العصر.
ثم قال تعالى : {وَمِنْ ءَانَآى ِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ} وهو نطير قوله : {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } .
المسألة الثالثة : قال المفسرون : نزلت هذه الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : ما تقولون في رجل أصاب من امرأة محرمة كلما يصيبه الرجل من امرأته غير الجماع ، فقال عليه الصلاة والسلام : "ليتوضأ وضوءاً حسناً ثم ليقم وليصل" فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقيل / للنبي عليه الصلاة والسلام : هذا له خاصة ، فقال : "بل هو للناس عامة" وقوله : {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } قال الليث : زلفة من أول الليل طائفة ، والجمع الزلف. قال الواحدي : وأصل الكلمة من الزلفى والزلفى هي القربى ، يقال : أزلفته فازدلف أي قربته فاقترب.
المسألة الرابعة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء بضمتين وبإسكان اللام وزلفى بوزن قربى فالزلف جمع زلفة كظلم جمع ظلمة والزلف بالسكون نحو بسرة وبسر والزلف بضمتين نحو : يسر في يسر ، والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من نحو : يسر في يسر ، والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل ، وقيل في تفسير قوله : {النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } وقرباً من الليل ، ثم قال : {إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في تفسير الحسنات قولان : الأول : قال ابن عباس : المعنى أن الصلوات الخمس كفارات لسائر الذنوب بشرط الاجتناب عن الكبائر. والثاني : روي عن مجاهد أن الحسنات هي قول العبد سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
جزء : 18 رقم الصفحة : 409
المسألة الثانية : احتج من قال إن المعصية لا تضر مع الإيمان بهذه الآية وذلك لأن الإيمان أشرف الحسنات وأجلها وأفضلها. ودلت الآية على أن الحسنات يذهبن السيئات ، فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل السيئات درجة كان أولى ، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم المؤبد.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فقوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى قوله : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} إلى آخرها {ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين.
ثم قال : {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} قيل على الصلاة وهو كقوله : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } (طه : 132).
جزء : 18 رقم الصفحة : 409
410
اعلم أنه تعالى لما بين أن الأمم المتقدمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أن السبب فيه أمران :
(1/2484)

السبب الأول : أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض. فقال تعالى : {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} والمعنى فهلا كان ، وحكي عن الخليل أنه قال كل ما كان في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات. قال صاحب "الكشاف" : وما صحت هذه الرواية عنه بدليل قوله تعالى في غير الصافات {لَّوْلا أَن تَدَارَكَه نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّه لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ} (القلم : 49) {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} (الفتح : 25) {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا} (الإسراء : 74) ، وقوله : {أُوْلُوا بَقِيَّةٍ} فالمعنى أولو فضل وخير ، وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار هذا اللفظ مثلاً في الجودة يقال فلان من بقية القيوم أي من خيارهم ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ، ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وقرىء {أُوْلُوا بَقِيَّةٍ} بوزن لقية من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ، والبقية المرة من مصدره ، والمعنى فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله تعالى. ثم قال : {إِلا قَلِيلا} ولا يمكن جعله استثناء متصلاً لأنه على هذا التقدير يكون ذلك ترغيباً لأولي البقية في النهي عن الفساد إلا القليل من الناجين منهم كما تقول هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم تريد استثناء الصلحاء من المرغبين في قراءة القرآن. وإذا ثبت هذا قلنا : إنه استثناء منقطع ، والتقدير : لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهواعن الفساد وسائرهم تاركون للنهي.
والسبب الثاني : لنزول عذاب الاستئصال قوله : {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ أُتْرِفُوا فِيهِ} والترفه النعمة وصبي مترف إذا كان منعم البدن ، والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة المعيشة وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتبعوا طلب الشهوات واللذات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ أُتْرِفُوا } أي واتبعوا حراماً أترفوا فيه ، ثم قال : {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} ومعناه ظاهر.
جزء : 18 رقم الصفحة : 410
412
اعلم أنه تعالى بين أنه ما أهلك أهل القرى إلا بظلم وفيه وجوه :
الوجه الأول : أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر ، بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم. ولهذا قال الفقهاء إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة. وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم ، فمعنى الآية : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أي لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح والسداد. وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية ، قالوا : والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق.
والوجه الثاني : في التأويل وهو الذي تختاره المعتزلة هو أنه تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لما كان متعالياً عن الظلم فلا جرم لا يفعل ذلك بل إنما يهلكهم لأجل سوء أفعالهم.
ثم قال تعالى : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار وقد سبق الكلام عليه.
ثم قال تعالى : {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال.
(1/2485)

/ واعلم أنه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه "بالرياض المونقة" إلا أنا نذكر ههنا تقسيماً جامعاً للمذاهب. فنقول : الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ، ومنهم من أنكرهما ، والمنكرون هم السفسطائية ، والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم ، وهم فريقان : منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية ، ومنهم من أنكره ، وهم الذين ينكرون أيضاً النظر إلى العلوم ، وهم قليلون ، والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم ، وهم فريقان : منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلاً وهم الأقلون ، ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان : منهم من يقول : ذلك المبدأ موجب بالذات ، وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان ، ومنهم من يقول : إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم ، ثم هؤلاء فريقان : منهم من يقول : إنه ما أرسل رسولاً إلى العباد ، ومنهم من يقول : إنه أرسل الرسول ، فالأولون هم البراهمة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 412
والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان ، وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس ، وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حدَّ لها ولا حصر ، والعقول مضطربة ، والمطالب غامضة ، ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة ، ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير ، والصناعة طويلة ، والقضاء عسر ، والتجربة خطر ، فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة/ كان ذلك أولى.
فإن قيل : إنكم حملتم قوله تعالى : {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} على الاختلاف في الأديان ، فما الدليل عليه ، ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال.
قلنا : الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة ، وما بعد هذه الآية هو قوله : {إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله : {إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } وذلك ليس إلا ما قلنا.
ثم قال تعالى : {إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ، وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته ، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار ، فلم يبق إلا أن / يقال : تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة. قال القاضي معناه : إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب ، فيرحمه الله بالثواب ، ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه ، فصار مؤمناً بألطافه وتسهيله ، وهذان الجوابان في غاية الضعف.
أما الأول : فلأن قوله : {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة ، فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف ، والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف ، فالاختلاف جار مجرى المسبب له ، ومجرى المعلول ، فحمل هذه الرحمة على الثواب بعيد.
وأما الثاني : وهو حمل هذه الرحمة على الألطاف فنقول : جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضاً في حق الكافر ، وهذه الرحمة أمر مختص به المؤمن ، فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف ، وأيضاً فحصول تلك الألطاف هل يوجب رجحان وجود الإيمان على عدمه أو لا يوجبه ، فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يك لطفاً فيه ، وإن أوجب الرجحان فقد بينا في "الكتب العقلية" أنه متى حصل الرجحان فقد وجب ، وحينئذ يكون حصول الإيمان من الله ، ومما يدل على أن حصول الإيمان لا يكون إلا بخلق الله ، أنه ما لم يتميز الإيمان عن الكفر ، والعلم عن الجهل ، امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم ، وإنما يحصل هذا الامتياز إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد وكون الآخر ليس كذلك ، وإنما يصح حصول هذا العلم ، أن لو عرف أن ذلك المعتقد في نفسه كيف يكون ، وهذا يوجب أنه لا يصح من العبد القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً ، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم والهداية لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وهو المطلوب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 412
ثم قال تعالى : {وَلِذَالِكَ خَلَقَهُمْ } وفيه ثلاثة أقوال :
(1/2486)

القول الأول : قال ابن عباس : وللرحمة خلقهم ، وهذا اختيار جمهور المعتزلة. قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما ، وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة ، والاختلاف أبعدهما. والثاني : أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان ، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه ، إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف. الثالث : إذا فسرنا الآية بهذا المعنى ، كان مطابقاً لقوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56).
/ فإن قيل : لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال : ولتلك خلقهم ولم يقل : ولذلك خلقهم.
قلنا : إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً ، فكان محمولاً على الفضل والغفران كقوله : {هَـاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى } (الكهف : 98) وقوله : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} (الأعراف : 56).
والقول الثاني : أن المراد وللاختلاف خلقهم.
والقول الثالث : وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا ، وأهل العذاب لأن يختلفوا ، وخلق الجنة وخلق لها أهلاً ، وخلق النار وخلق لها أهلاً ، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه : الأول : الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلا بتخليق الله تعالى. الثاني : أن يقال : إنه تعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة وعلم ذلك امتنع انقلاب ذلك ، وإلا لزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال. الثالث : أنه تعالى قال بعده : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقواماً للهداية والجنة ، وأقواماً آخرين للضلالة والنار ، وذلك يقوي هذا التأويل.
جزء : 18 رقم الصفحة : 412
413
اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة.
الفائدة الأولى : تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى ، وذلك لأن الإنسان إذا ابتلى بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه ، كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت ، فإذا سمع الرسول هذه القصص ، وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا ، سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه.
والفائدة الثانية : قوله : {وَجَآءَكَ فِى هَـاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} وفي قوله : {فِى هَـاذِهِ} وجوه : أحدها : في هذه السورة. وثانيها : في هذه الآية. وثالثها : في هذه الدنيا ، وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع.
/ واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذ السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك ، لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالاً مما ذكر في سائر السور ، ولو لم يكن فيها إلا قوله : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} (هود : 112) لكان الأمر كما ذكرنا ، ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة الحق والموعظة والذكرى.
أما الحق : فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة.
وأما الذكرى : فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة.
وأما الموعظة : فهي إشارة إلى التنفير من الدنيا وتقبيح أحوالها في الدار الآخرة ، والمذكرة لما هنالك من السعادة والشقاوة ، وذلك لأن الروح إنما جاء من ذلك العالم إلا أنه لاستغراقه في محبة الجسد في هذا العالم نسي أحوال ذلك العالم فالكلام الإلهي يذكره أحوال ذلك العالم ، فلهذا السبب صح إطلاق لفظ الذكر عليه.
ثم ههنا دقيقة أخرى عجيبة : وهي أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل ومن موجب ، وقابلها هو القلب ، والقلب ما لم يكن كامل الاستعداد لقبول تلك المعارف الإلهية والتجليات القدسية ، لم يحصل الانتفاع بسماع الدلائل ، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر إصلاح القلب ، وهو تثبيت الفؤاد ، ثم لما ذكر صلاح حال القابل ، أردفه بذكر الموجب ، وهو مجيء هذه السورة المشتملة على الحق والموعظة والذكرى ، وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 413
416
(1/2487)

اعلم أنه تعالى لما بلغ الغاية في الأعذار والإنذار ، والترغيب والترهيب ، أتبع ذلك بأن قال للرسول : {وَقُل لِّلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} وهذا عين ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه ، والمعنى : افعلوا كل ما تقدرون / عليه في حقي من الشر ، فنحن أيضاً عاملون. وقوله : {اعْمَلُوا } وإن كانت صيغته صيغة الأمر ، إلا أن المراد منها التهديد ، كقوله تعالى لإبليس : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (الإسراء : 64) وكقوله : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف : 29) وانتظروا ما يعدكم الشيطان من الخذلان فإنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان. قال ابن عباس رضي الله عنهما : {وَانتَظِرُوا } الهلاك فإنا منتظرون لكم العذاب. ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدسة فقال : {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} .
واعلم أن مجموع مايحتاج الإنسان إلى معرفته أمور ثلاثة. وهي : الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فهو أن يعرف الموجود الذي كان موجوداً قبله ، وذلك الموجود المتقدم عليه هو الذي نقله من العدم إلى الوجود ، وذلك هو الإله تعالى وتقدس.
جزء : 18 رقم الصفحة : 416
واعلم أن حقيقة ذات الإله وكنه هويته غير معلومة للبشر ألبتة ، وإنما المعلوم للبشر صفاته ، ثم إن صفاته قسمان : صفات الجلال ، وصفات الإكرام. أما صفات الجلال ، فهي سلوب ، كقولنا : إنه ليس بجوهر ولا جسم ، ولا كذا ولا كذا. وهذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال ، لأن السلوب عدم ، والعدم المحض والنفي الصرف ، لا كمال فيه ، فقولنا لا تأخذه سنة ولا نوم إنما أفاد الكلام لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرأ عن التغير ولولا ذلك كان عدم النوم ليس يدل على كمال أصلاً ، ألا ترى أن الميت والجماد لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله : {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } (الأنعام : 14) إنما أفاد ، الجلال والكمال والكبرياء ، لأن قوله : {وَلا يُطْعَمُ } يفيد كونه واجب الوجود لذاته غنياً عن الطعام والشراب بل عن كل ما سواه ، فثبت أن صفات الكمال والعز والعلو هي الصفات الثبوتية ، وأشرف الصفات الثبوتية الدالة على الكمال والجلال صفتان : العلم والقدرة ، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذاته في هذه الآية بهما في معرض التعظيم والثناء والمدح. أما صفة العلم فقوله : {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} والمراد أن علمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات والمعدومات والموجودات والحاضرات والغائبات ، وتمام البيان والشرح في دلالة هذا اللفظ على نهاية الكمال ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } (الأنعام : 59) وأما صفة القدرة ، فقوله : {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامْرُ كُلُّه } والمراد أن مرجع الكل إليه ، وإنما يكون كذلك لو كان مصدر الكل ومبدأ الكل هو هو والذي يكون مبدأ لجميع الممكنات وإليه يكون مرجع كل المحدثات والكائنات ، كان عظيم القدرة نافذ المشيئة قهاراً للعدم بالوجود والتحصيل جباراً له بالقوة والفعل والتكميل/ فهذان الوصفان هما المذكوران في شرح جلال المبدأ ونعت كبريائه.
/ والمرتبة الثانية : من المراتب التي يجب على الإنسان كونه عالماً بها أن يعرف ما هو مهم له في زمان حياته في الدنيا ، وما ذلك إلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية ، وهذه المرتبة لها بداية ونهاية. أما بدايتها فالاشتغال بالعبادات الجسدانية والروحانية. أما العبادات الجسدانية ، فأفضل الحركات الصلاة ، وأكمل السكنات الصيام ، وأنفع البر الصدقة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 416
وأما العبادة الروحانية فهي : الفكر ، والتأمل في عجائب صنع الله تعالى في ملكوت السموات والأرض ، كما قال تعالى : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (آل عمران : 191) وأما نهاية هذه المرتبة ، فالانتهاء من الأسباب إلى مسببها ، وقطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات ، وتوجيه حدقة العقل إلى نور عالم الجلال ، واستغراق الروح في أضواء عالم الكبرياء ، ومن وصل إلى هذه الدرجة رأى كل ما سواه مهرولاً تائهاً في ساحة كبريائه هالكاً فانياً في فناء سناء أسمائه. وحاصل الكلام : أن أول درجات السير إلى الله تعالى هو عبودية الله ، وآخرها التوكل على الله ، فلهذا السبب قال : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه } .

والمرتبة الثالثة : من المراتب المهمة لكل عامل معرفة المستقبل وهو أنه يعرف كيف يصير حاله بعد انقضاء هذه الحياة الجسمانية ، وهل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} والمقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين ، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقطمير ويعاتبوا في الصغير والكبير ، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير ، فظهر أن هذه الآية وافية بالإشارة إلى جميع المطالب العلوية ، والمقاصد القدسية ، وأنه ليس وراءها للعقول مرتقى ولا للخواطر منتهى والله الهادي للصواب ، تمت السورة بحمد الله وعونه ، وقد وجد بخط المصنف رضي الله عنه في النسخة المنتقل منها ثم تفسير هذه السورة قبل طلوع الصبح ليلة الاثنين من شهر رجب ختمه الله بالخير والبركة سنة إحدى وستمائة ، وقد كان لي ولد صالح حسن السيرة فتوفى في الغربة في عنفوان شبابه ، وكان قلبي كالمحترق لذلك السبب ، فأنا أنشد الله إخواني في الدين وشركائي في طلب اليقين وكل من نظر في هذا الكتاب وانتفع به أن يذكر ذلك الشاب بالرحمة والمغفرة ، وأن يذكر هذا المسكين بالدعاء وهو يقول : {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةًا إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران : 8) وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 416
416
(1/2488)

سورة يوسف
مكية ، إلا الآيات : 1 و2 و3 و7 ، فمدنية
وآياتها : 111 ، نزلت بعد سورة هود
جزء : 18 رقم الصفحة : 416
417
وقد ذكرنا في أول سورة يونس تفسير : {الارا تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (يونس : 1) فقوله : {تِلْكَ} إشارة إلى آيات هذه السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة {الر} هي {الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّآ} وهو القرآن ، وإنما وصف القررن بكونه مبيناً لوجوه : الأول : أن القرآن معجزة قاهرة وآية بينة لمحمد صلى الله عليه وسلّم. والثاني : أنه بين فيه الهدى والرشد ، والحلال والحرام ، ولما بينت هذه الأشياء فيه كان الكتاب مبيناً لهذه الأشياء. الثالث : أنه بينت فيه قصص الأولين وشرحت فيه أحوال المتقدمين.
ثم قال : {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين ، سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ، وعن كيفية قصة يوسف ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وذكر فيها أنه / تعالى عبر عن هذه القصة بألفاظ عربية ، ليتمكنوا من فهمها ويقدروا على تحصيل المعرفة بها. والتقدير : إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قرآناً عربياً ، وسمى بعض القرآن قرآناً ، لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض.
المسألة الثانية : احتج الجبائي بهذه الآية على كون القرآن مخلوقاً من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله : {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} يدل عليه ، فإن القديم لا يجوز تنزيله وإنزاله وتحويله من حال إلى حال ، الثاني : أنه تعالى وصفه بكونه عربياً والقديم لا يكون عربياً ولا فارسياً. الثالث : أنه لما قال : {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} دل على أنه تعالى كان قادراً على أن ينزله لا عربياً ، وذلك يدل على حدوثه. الرابع : أن قوله : {تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ} يدل على أنه مركب من الآيات والكلمات ، وكل ما كان مركباً كان محدثاً.
والجواب عن هذه الوجوه بأسرها أن نقول : إنها تدل على أن المركب من الحروف والكلمات والألفاظ والعبارات محدث وذلك لا نزاع فيه ، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر فسقط هذا الاستدلال.
جزء : 18 رقم الصفحة : 417
المسأل الثالثة : احتج الجبائي بقوله : {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فقال : كلمة "لعل" يجب حملها على الجزم والتقدير : إنا أنزلناه قرآناً عربياً لتعقلوا معانيه في أمر الدين ، إذ لا يجوز أن يراد بلعلكم تعقلون ؟
الشك لأنه على الله محال ، فثبت أن المراد أنه أنزله لإرادة أن يعرفوا دلائله ، وذلك يدل على أنه تعالى أراد من كل العباد أن يعقلوا توحيده وأمر دينه ، من عرف منهم ، ومن لم يعرف ، بخلاف قول المجبرة.
والجواب : هب أن الأمر ما ذكرتم إلا أنه يدل على أنه تعالى أنزل هذه السورة ، وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ولكن لم قلتم إنها تدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح.
جزء : 18 رقم الصفحة : 417
418
وفيه مسائل :
(1/2489)

المسألة الأولى : روى سعيد بن جبير أنه تعالى لما أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم / وكان يتلوه على قومه ، فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت هذه السورة فتلاها عليهم فقالوا لو حدثتنا فنزل : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـابًا} (الزمر : 23) فقالوا لو ذكرتنا فنزل : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (الحديد : 16).
المسألة الثانية : القصص اتباع الخبر بعضه بعضاً وأصله في اللغة المتابعة قال تعالى : {وَقَالَتْ لاخْتِه قُصِّيه } (القصص : 11) أي اتبعي أثره وقال تعالى : {فَارْتَدَّا عَلَى ا ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف : 64) أي اتباعاً وإنما سميت الحكاية قصصاً لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً كما يقال تلا القرآن إذا قرأه لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية والقصص في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص يقال قص الحديث يقصه قصاً وقصصاً إذا طرده وساقه كما يقال أرسله يرسله إرسالاً ويجوز أن يكون من باب تسمية المفعول بالمصدر كقولك هذا قدرة الله تعالى أي مقدوره وهذا الكتاب علم فلان أي معلومه وهذا رجاؤنا أي مرجونا فإن حملناه على المصدر كان المعنى نقص عليك أحسن الاقتصاص ، وعلى هذا التقدير فالحسن يعود إلى حسن البيان لا إلى القصة والمراد من هذا الحسن كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ألا ترى أن هذه القصة مذكورة في كتب التواريخ مع أن شيئاً منها لا يشابه هذه السورة في الفصاحة والبلاغة وإن حملناه على المفعول كان معنى كونه أحسن القصص لما فيه من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها فإن إحدى الفوائد التي في هذه القصة أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدر الله تعالى وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا عليه لم يقدروا على دفعه.
والفائدة الثانية : دلالتها على أن الحسد سبب للخذلان والنقصان.
والفائدة الثالثة : أن الصبر مفتاح الفرج كما في حق يعقوب عليه السلام فإنه لما صبر فاز بمقصوده ، وكذلك في حق يوسف عليه السلام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 418
فأما قوله : {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـاذَا الْقُرْءَانَ} فالمعنى بوحينا إليك هذا القرآن ، وهذا التقدير إن جعلنا "ما" مع الفعل بمنزلة المصدر.
ثم قال : {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِه } يريد من قبل أن نوحي إليك {لَمِنَ الْغَـافِلِينَ} عن قصة يوسف وإخوته ، لأنه عليه السلام إنما علم ذلك بالوحي ، ومنهم من قال : المراد أنه كان من الغافلين عن الدين والشريعة قبل ذلك كما قال تعالى : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ} (الشورى : 52).
جزء : 18 رقم الصفحة : 418
420
/ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الآية : اذكر {إِذْ قَالَ يُوسُفُ} قال صاحب "الكشاف" : الصحيح أنه اسم عبراني ، لأنه لو كان عربياً لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف ، وقرأ بعضهم {يُوسُفَ} بكسر السين {وَيُوسُفَ} بفتحها. وأيضاً روى في يونس هذه اللغات الثلاث ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إذا قيل من الكريم فقولوا الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام".
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر بفتح التاء في جميع القرآن ، والباقون بكسر التاء. أما الفتح فوجهه أنه كان في الأصل يا أبتاه على سبيل الندبة ، فحذفت الألف والهاء. وأما الكسر فأصله يا أبي ، فحذفت الياء واكتفى بالكسرة عنها ثم أدخل هاء الوقف فقال : ثم كثر استعماله حتى صار كأنه من نفس الكلمة فأدخلوا عليه الإضافة ، وهذا قول ثعلب وابن الأنباري.
واعلم أن النحويين طولوا في هذه المسألة ، ومن أراد كلامهم فليطالع "كتبهم".
المسألة الثالثة : أن يوسف عليه السلام رأى في المنام أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سجدت له ، وكان له أحد عشر نفراً من الأخوة ، ففسر الكواكب بالأخوة ، والشمس والقمر بالأب والأم ، والسجود بتواضعهم له ودخولهم تحت أمره ، وإنما حملنا قوله : {لابِيهِ يَـا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} على الرؤيا لوجهين : الأول : أن الكواكب لا تسجد في الحقيقة ، فوجب حمل هذا الكلام على الرؤيا. والثاني : قول يعقوب عليه السلام : {لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى ا إِخْوَتِكَ} (يوسف : 5) وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : قوله : {رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} فقوله : {سَـاجِدِينَ} لا يليق إلا بالعقلاء ، والكواكب جمادات ، فكيف جازت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات.
(1/2490)

قلنا : إن جماعة من الفلاسفة الذين يزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة احتجوا بهذه الآية ، وكذلك احتجوا بقوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء : 33) والجمع بالواو والنون مختص بالعقلاء. وقال / الواحدي : إنه تعالى لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل ، فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام {وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (الأعراف : 198) وكما في قوله : {نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} (النمل : 18).
جزء : 18 رقم الصفحة : 420
السؤال الثاني : قال : {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ثم أعاد لفظ الرؤيا مرة ثانية ، وقال : {رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} فما الفائدة في هذا التكرير ؟
الجواب : قال القفال رحمه الله : ذكر الرؤية الأولى لتدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر ، والثانية لتدل على مشاهدة كونها ساجدة له ، وقال بعضهم : إنه لما قال : {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} فكأنه قيل له : كيف رأيت ؟
فقال : رأيتهم لي ساجدين ، وقال آخرون : يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤية ، وهذا القائل لم يبين أن أيهما يحمل على الرؤيا وأيهما الرؤيا فذكر قولاً مجملاً غير مبين.
السؤال الثالث : لم أخر الشمس والقمر ؟
قلنا : أخرهما لفضلهما على الكواكب ، لأن التخصيص بالذكر يدل على مزيد الشرف كما في قوله : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98).
السؤال الرابع : المراد بالسجود نفس السجود أو التواضع كما في قوله :
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
قلنا : كلاهما محتمل ، والأصل في الكلام حمله على حقيقته ولا مانع أن يرى في المنام أن الشمس والقمر والكواكب سجدت له.
السؤال الخامس : متى رأى يوسف عليه السلام هذه الرؤيا ؟
قلنا : لا شك أنه رآها حال الصغر ، فأما ذلك الزمان بعينه فلا يعلم إلا بالأخبار. قال وهب : رأى يوسف عليه السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها فذكر ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكر هذا لأخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال لا تذكرها لهم فيكيدوا لك كيداً. وقيل : كان بين رؤيا يوسف ومصير أخوته إليه أربعون سنة وقيل : ثمانون سنة.
واعلم أن الحكماء يقولون إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب ، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين. قالوا : والسبب في ذلك أن رحمة الله تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول / الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل ، وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدماً على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وأتم.
السؤال السادس : قال بعضهم : المراد من الشمس والقمر أبوه وخالته فما السبب فيه ؟
جزء : 18 رقم الصفحة : 420
قلنا : إنما قالوا ذلك من حيث ورد في الخبر أن والدته توفيت وما دخلت عليه حال ما كان بمصر قالوا : ولو كان المراد من الشمس والقمر أباه وأمه لما ماتت لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام لا بد وأن تكون وحياً وهذه الحجة غير قوية لأن يوسف عليه السلام ما كان في ذلك الوقت من الأنبياء.
السؤال السابع : وما تلك الكواكب ؟
قلنا : روى صاحب "الكشاف" أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام لليهودي : "إن أخبرتك هل تسلم" قال نعم قال : "جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلت من السماء وسجدت له" فقال اليهودي : أي والله إنها لأسماؤها.
واعلم أن كثيراً من هذه الأسماء غير مذكور في الكتب المصنفة في صورة الكواكب والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : 18 رقم الصفحة : 420
422
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حفص {أَوْ بَنِى } بفتح الياء والباقون بالكسر.
/ المسألة الثانية : أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك المعنى ليعقوب عليه السلام بالأمارات الكثيرة فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك كيداً.
(1/2491)

المسألة الثالثة : قال الواحدي : الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسماً لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء. قال صاحب "الكشاف" : الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقطة فلا جرم فرق بينهما بحرفي التأنيث ، كما قيل : القربة والقربى وقرىء روياك بقلب الهمزة واواً وسمع الكسائي يقرأ رياك ورياك بالإدغام وضم الراء وكسرها وهي ضعيفة.
ثم قال تعالى : {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } وهو منصوب بإضمار أن والمعنى إن قصصتها عليهم كادوك.
فإن قيل : فلم لم يقل فيكيدوك كما قال : {فَكِيدُونِى} (هود : 55).
قلنا : هذه اللام تأكيد للصلة كقوله {لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} ، وكقولك نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك ، وقيل هي من صلة الكيد على معنى فيكيدوا كيداً لك. قال أهل التحقيق : وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بتعبير الرؤيا وإلا لم يعلموا من هذه الرؤيا ما يوجب حقداً وغضباً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 422
ثم قال : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لِلانسَـانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافاً إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان ، ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أموراً : أولها : قوله : {وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام. قال الزجاج : الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض ، واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء ، فقال الحسن : يجتبيك ربك بالنبوة ، وقال آخرون : المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه. وثانيها : قوله : {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ} وفيه وجوه : الأول : المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلاً لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم. قالوا : إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية ، والثاني : تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين ، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله ، وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلّم ، والثالث : الأحاديث جمع حديث ، / والحديث هو الحادث ، وتأويلها مآلها ، ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته ، والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته ، وثالثها : قوله : {وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَعَلَى ا ءَالِ يَعْقُوبَ} .
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة ههنا بالنبوة أيضاً وإلا لزم التكرار ، بل يفسر إتمام النعمة ههنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة. أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد. وأما سعادات الآخرة : فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى. وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية ، فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور : الأول : أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان. وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة ، فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة ، فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة ، والثاني : قوله : {كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى ا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ } ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة ، فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 422
واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء ، وذلك لأنه قال : {وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَعَلَى ا ءَالِ يَعْقُوبَ} وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب ، فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولاً به في حق أولاده. وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال : {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض ، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام ؟
قلنا : ذاك وقع قبل النبوة ، وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها.
(1/2492)

القول الثاني : أن المراد من قوله : {وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ} خلاصه من المحن ، ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحق عليهما السلام هو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحق بتخليصه من الذبح.
والقول الثالث : أن إتمام النعمة هو وصل نعمة الله عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن / جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة.
واعلم أن القول الصحيح هو الأول ، لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة ، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها ، ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله : {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقوله : {عَلِيمٌ} إشارة إلى قوله : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) وقوله : {حَكِيمٌ} إشارة إلى أن الله تعالى مقدس عن السفه والعبث ، لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية.
فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعاً بصحتها أم لا ؟
فإن كان قاطعاً بصحتها ، فكيف حزن على يوسف عليه السلام ، وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله ، وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه ، وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ، مع علمه بأن الله سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولاً ، فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالماً بصحة هذه الأحوال ، فكيف قطع بها ؟
وكيف حكم بوقوعها حكماً جازماً من غير تردد ؟
.
جزء : 18 رقم الصفحة : 422
قلنا : لا يبعد أن يكون قوله : {وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} مشروطاً بأن لا يكيدوه/ لأن ذكر ذلك قد تقدم ، وأيضاً فبتقدير أن يقال : إنه عليه السلام كان قاطعاً بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله : {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} (يوسف : 13) الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 422
424
في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكر صاحب "الكشاف" أسماء إخوة يوسف : يهودا ، روبيل ، شمعون لاوي ، ربالون ، يشجر ، دينة ، دان ، نفتالي ، جاد ، آشر. ثم قال : السبعة الأولون من ليا بنت /خالة يعقوب والأربعة الآخرون من سريتين زلفة وبلهة ، فلما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف.
المسألة الثانية : قوله : {لِّلسَّآئِلِينَ * إِذْ} قرأ ابن كثير آية بغير ألف حمله على شأن يوسف والباقون {ءايَـاتٌ} على الجمع لأن أمور يوسف كانت كثيرة وكل واحد منها آية بنفسه.
المسألة الثالثة : ذكروا في تفسير قوله تعالى : {لِّلسَّآئِلِينَ * إِذْ} وجوهاً : الأول : قال ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلّم فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة ، فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع ، فقالوا له من علمك هذه القصة ؟
فقال : الله علمني ، فنزل : {لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِه ءايَـاتٌ لِّلسَّآئِلِينَ} وهذا الوجه عندي بعيد ، لأن المفهوم من الآية أن في واقعة يوسف آيات للسائلين وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة يوسف ، بل كانت الآيات في أخبار محمد صلى الله عليه وسلّم عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة وبين الكلامين فرق ظاهر. والثاني : أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد فذكر الله تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد وبالآخرة فإن الله تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته ، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجراً له عن الإقدام على الحسد والثالث : أن يعقوب لما عبر رؤيا يوسف وقع ذلك التعبير ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة فكذلك أن الله تعالى لما وعد محمداً عليه الصلاة والسلام بالنصر والظفر على الأعداء ، فإذا تأخر ذلك الموعود مدة من الزمان لم يدل ذلك على كون محمد عليه الصلاة والسلام كاذباً فيه فذكر هذه القصة نافع من هذا الوجه. الرابع : أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره ، ولكن الله تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء ، فكذلك واقعة محمد صلى الله عليه وسلّم فإن الله لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره. وأما قوله : {لِّلسَّآئِلِينَ} فاعلم أن هذه القصة فيها آيات كثيرة لمن سأل عنها ، وهو كقوله تعالى : {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآاـاِلِينَ} (فصلت : 10).
جزء : 18 رقم الصفحة : 424
ثم قال تعالى : {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى ا أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} وفيه مسألتان :
(1/2493)

المسألة الأولى : قوله : {لِيُوسُفَ} اللام لام الابتداء ، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر لا شبهة فيه وأخوه هو بنيامين ، وإنما قالوا أخوه ، وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة والعصبة والعصابة العشرة فصاعداً ، وقيل إلى الأربعين سموا بذلك / لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ، ونقل عن علي عليه السلام أنه قرأ {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} بالنصب قيل : معناه ونحن نجتمع عصبة.
المسألة الثانية : المراد منه بيان السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف ، وذلك أن يعقوب كان يفضل يوسف وأخاه على سائر الأولاد في الحب وأنهم تأذوا منه لوجوه : الأول : أنهم كانوا أكبر سناً منهما. وثانيها : أنهم كانوا أكثر قوة وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما. وثالثها : أنهم قالوا إنا نحن القائمون بدفع المفاسد والآفات ، والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات. إذا ثبت ما ذكرناه من كونهم متقدمين على يوسف وأخيه في هذه الفضائل ، ثم إنه عليه السلام كان يفضل يوسف وأخاه عليهم لا جرم قالوا : {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} يعني هذا حيف ظاهر وضلال بين. وههنا سؤالات :
السؤال الأول : إن من الأمور المعلومة أن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد ، ويورث الآفات ، فلما كان يعقوب عليه السلام عالماً بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل وأيضاً الأسن والأعلم والأنفع أفضل ، فلم قلب هذه القضية ؟
والجواب : أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة ، والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم.
السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى فكيف اعترضوا عليه ، وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله ، وإن كانوا مكذبين لنبوته فهذا يوجب كفرهم.
والجواب : أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى ، إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد الاجتهاد ، ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد ، وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل. وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول : زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة ، فليس لله علي فيه تكليف. وأما تخصيصهما بمزيد البر فيحتمل أنه كان لوجوه : أحدها : أن أمهما ماتت وهما صغار. وثانيها : لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد ، وثالثها : لعله عليه السلام وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدم أشرف وأعلى بما كان يصدر عن سائر الأولاد ، والحاصل / أن هذه المسألة كانت اجتهادية ، وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة ، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر أو في عرضه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 424
السؤال الثالث : أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين ، وذلك مبالغة في الذم والطعن ، ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر ، لا سيما إذا كان الطاعن ولداً فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم.
والجواب : المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب.
السؤال الرابع : أن قولهم : {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى ا أَبِينَا مِنَّا} محض الحسد ، والحسد من أمهات الكبائر ، لا سيما وقد أقدموا على الكذب بسبب ذلك الحسد ، وعلى تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في ذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق ، وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم ، وأقدموا على الكذب فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها ، وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة.
والجواب : الأمر كما ذكرتم ، إلا أن المعتبر عندنا عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت حصول النبوة. وأما قبلها فذلك غير واجب والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 424
425
(1/2494)

واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه : وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك ، ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم : {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة {وَتَكُونُوا مِنا بَعْدِه قَوْمًا صَـالِحِينَ} وفيه وجوه : الأول : أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا : إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين. والثاني : أنه ليس المقصود ههنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محباً لكم مشتغلاً بشأنكم. الثالث : المراد أنكم بسبب / هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم ، فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم ، واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان ؟
على قولين : أحدهما : أن بعض إخوته قال هذا. والثاني : أنهم شاوروا أجنبياً فأشار عليهم بقتله ، ولم يقل ذلك أحد من إخوته ، فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب : إنه شمعون ، وقال مقاتل : روبيل.
فإن قيل : كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء ؟
قلنا : من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين ، وهذا ضعيف ، لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح. وأيضاً أنهم قالوا : {وَتَكُونُوا مِنا بَعْدِه قَوْمًا صَـالِحِينَ} وهدا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين ، وذلك ينافي كونهم من الصبيان ، ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر ، وهذا أيضاً بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم ، والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر ، بل الجواب الصحيح أن يقال : إنهم ما كانوا أنبياء ، وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 425
ثم إنه تعالى حكى أن قائلاً قال : {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأياً فيه فمنعهم عن القتل ، وقيل يهودا ، وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن.
ثم قال : {وَأَلْقُوهُ فِى غَيَـابَتِ الْجُبِّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع {فِى غَيَـابَتِ الْجُبِّ} على الجمع في الحرفين ، هذا والذي بعده ، والباقون {غَيَـابَتِ} على الواحد في الحرفين. أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطاراً ونواحي ، فيكون فيها غيابات ، ومن وحد قال : المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف ، فالتوحيد أخص وأدل على المعنى المطلوب. وقرأ الجحدري {فِى غَيَـابَتِ الْجُبِّ} .
المسألة الثانية : قال أهل اللغة : الغيابة كل ما غيب شيئاً وستره ، فغيابة الجب غوره ، وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جباً ، لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك ، وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين.
المسألة الثالثة : الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق ، اختلفوا في ذلك الجب / فقال قتادة : هو بئر ببيت المقدس ، وقال وهب : هو بأرض الأردن ، وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب ، وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم : {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيراً ، وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب ، لأن السيارة إذا جازوا وردوها ، وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها ، وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك.
المسألة الرابعة : الالتقاط تناول الشيء من الطريق ، ومنه : اللقطة واللقيط ، وقرأ الحسن بالتاء على المعنى ، لأن بعض السيارة أيضاً سيارة ، والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر. قال ابن عباس : يريد المارة وقوله : {السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَـاعِلِينَ} فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك ، وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه } (النحل : 126) يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك.
جزء : 18 رقم الصفحة : 425
426
اعلم أن هذا الكلام يدل على أن يعقوب عليه السلام كان يخافهم على يوسف ولولا ذلك وإلا لما قالوا هذا القول.
(1/2495)

واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه ، وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : {لا تَأْمَانَّا} قرىء بإظهار النونين وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام ، والمعنى لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به.
المسألة الثانية : في {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} خمس قراآت :
القراءة الأولى : قرأ ابن كثير : بالنون ، وبكسر عين نرتع من الارتعاء ، ويلعب بالياء والارتعاء افتعال من رعيت ، يقال : رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً إذا أكلته ، وقوله : / الارتعاء للإبل والمواشي ، وقد أضافوه إلى أنفسهم ، لأن المعنى نرتع إبلنا ، ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي ، والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره.
القراءة الثانية : قرأ نافع : كلاهما بالياء وكسر العين من يرتع أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان.
القراءة الثالثة : قرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون وجزم العين ومثله نلعب. قال ابن الأعرابي : الرتع الأكل بشره ، وقيل : إنه الخصب ، وقيل : المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان ، وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو : كيف يقولون نلعب وهم أنبياء ؟
فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء ، وأيضاً جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال لجابر : "فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك" وأيضاً كان لعبهم الاستباق ، والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار ، والدليل عليه قولهم : إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعباً لأنه في صورته.
القراءة الرابعة : قرأ أهل الكوفة : كليهما بالياء وسكون العين ، ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 426
القراءة الخامسة : {غَدًا يَرْتَعْ} بالياء {وَنَلْعَبُ } بالنون وهذا بعيد ، لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب ، والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 426
427
اعلم أنهم لما طلبوا منه أن يرسل يوسف معهم اعتذر إليهم بشيئين : أحدهما : أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني : خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم لقلة اهتمامهم به. قيل : إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف ، فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك ، وكأنه لقنهم الحجة ، وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. وقيل : الذئاب كانت في أراضيهم كثيرة ، وقرىء {الذِّئْبُ} بالهمز على الأصل وبالتفخيف. وقيل : اشتقاقه من / تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة ، فلما ذكر يعقوب عليه السلام هذا الكلام أجابوا بقولهم : { لئن أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ} وفيه سؤالات :
السؤال الأول : ما فائدة اللام في قوله : { لئن أَكَلَهُ الذِّئْبُ} .
والجواب من وجهين : الأول : أن كلمة إن تفيد كون الشرط مستلزماً للجزاء ، أي إن وقعت هذه الواقعة فنحن خاسرون ، فهذه اللام دخلت لتأكيد هذا الاستلزام. الثاني : قال صاحب "الكشاف" هذه اللام تدل على إضمار القسم تقديره : والله لئن أكله الذئب لكنا خاسرين.
السؤال الثاني : ما فائدة الواو في قوله : {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} .
الجواب : أنها واو الحال حلفوا لئن حصل ما خافه من خطف الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب إنهم إذاً لقوم خاسرون.
السؤال الثالث : ما المراد من قولهم : {إِنَّآ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ} .
الجواب فيه وجوه : الأول : خاسرون أي هالكون ضعفاً وعجزاً ، ونظيره قوله تعالى : {وَ لئن أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ} (المؤمنون : 34) أي لعاجزون : الثاني : أنهم يكونون مستحقين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار وأن يقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حين أكل الذئب أخاهم وهم حاضرون. الثالث : المعنى أنا إن لم نقدر على حفظ أخينا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. الرابع : أنهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم واجتهدوا في القيام بمهماته وإنما تحملوا تلك المتاعب ليفوزوا منه بالدعاء والثناء فقالوا : لو قصرنا في هذه الخدمة فقد أحبطنا كل تلك الأعمال وخسرنا كل ما صدر منا من أنواع الخدمة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 427
السؤال الرابع : أن يعقوب عليه السلام اعتذر بعذرين فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر ؟
والجواب : أن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأول ، وهو شدة حبه له فلما سمعوا ذكر ذلك المعنى تغافلوا عنه.
(1/2496)

جزء : 18 رقم الصفحة : 427
428
/ اعلم أنه لا بد من الإضمار في هذه الآية في موضعين : الأول : أن تقدير الآية قالوا : { لئن أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ} فأذن له وأرسله معهم ثم يتصل به قوله : {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِه } والثاني : أنه لا بد لقوله : {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِه وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَـابَتِ الْجُبِّ } من جواب إذ جواب لما غير مذكور وتقديره فجعلوه فيها ، وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلاً عليه وههنا كذلك. قال السدي : إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة ، وجعل هذا الأخ يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيماً فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك ، فقال يهودا أليس قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه ، وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب ، فقال لهم ردوا علي قميصي لأتوارى به ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً لتؤنسك ، ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي فنادوه فظن أنه رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فقام يهودا فمنعهم وكان يهودا يأتيه بالطعام ، وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال يا شاهداً غير غائب. ويا قريباً غير بعيد. ويا غالباً غير مغلوب. اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً ، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحق ، وإسحق إلى يعقوب ، فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف عليه السلام فجاء جبريل عليه السلام فأخرجه وألبسه إياه.
ثم قال تعالى : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} قولان : أحدهما : أن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة وهذا قول طائفة عظيمة من المحققين ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صبياً قال بعضهم : إنه كان في ذلك الوقت بالغاً وكان سنه سبع عشرة سنة ، وقال آخرون : إنه كان صغيراً إلا أن الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه السلام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 428
والقول الثاني : إن المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّ مُوسَى } (القصص : 7) وقوله : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (النحل : 68) والأول : لأن الظاهر من الوحي ذلك.
فإن قيل : كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة ؟
قلنا : لا يمتنع أن يشرفه بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة / تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه.
المسألة الثانية : في قوله : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قولان : الأول : المراد أن الله تعالى أوحى إلى يوسف إنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون في ذلك الوقت إنك يوسف ، والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصير مستولياً عليهم ويصيرون تحت قهره وقدرته. وروي أنهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة وعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ، ثم نقره فظن ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه في البئر وقلتم لأبيكم أكله الذئب. والثاني : أن المراد إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبىء إخوتك بهذه الأعمال ، وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه ، والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
المسألة الثالثة : إذا حملنا قوله : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} على التفسير الأول ، كان هذا أمراً من الله تعالى نحو يوسف في أن يستر نفسه عن أبيه وأن لا يخبره بأحوال نفسه ، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه طول تلك المدة ، مع علمه بوجد أبيه به خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى ، وصبر على تجرع تلك المرارة ، فكان الله سبحانه وتعالى قد قضى على يعقوب عليه السلام أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى ، وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة. والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 428
432
(1/2497)

اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين ورواه ابن جني / عشا بضم العين والقصر وقال : عشوا من البكاء فعند ذلك فزع يعقوب وقال : هل أصابكم في غنمكم شيء ؟
قالوا : لا قال : فما فعل يوسف ؟
قالوا : {ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } فبكى وصاح وقال : أين القميص ؟
فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص ، وروي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي : يا أبا أمية ما تراها تبكي ؟
قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق ، واختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج : يسابق بعضهم بعضاً في الرمي ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" يعني بالنصل الرمي ، وأصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهماً وأبعد غلوة ، ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال : استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهماً ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبدالله {إِنَّا ذَهَبْنَا} .
والقول الثاني : في تفسير الاستباق ما قاله السدي ومقاتل : {ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدواً.
فإن قيل : كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون وهذا من فعل الصبيان ؟
قلنا : الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كالآلة لهم في محاربة العدو ومدافعة الذئب إذا اختلس الشاة وقوله : {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } قيل أكل الذئب يوسف وقيل عرَّضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع ، والوجه هو الأول.
ثم قالوا : {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـادِقِينَ} وفيه مسائل :
جزء : 18 رقم الصفحة : 432
المسألة الأولى : ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق ، بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه ولظننت أنا قد كذبنا والحاصل أنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا. وقيل : المعنى : إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق ، لأن المراد من قوله : {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} أي بمصدق ، وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك ، وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3).
ثم قال تعالى : {وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِه بِدَمٍ كَذِبٍ } وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : إنما جاؤا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم. قيل : ذبحوا جدياً ولطخوا ذلك القميص بدمه. قال القاضي : ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم ، لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان ، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى ، فلما شاهد يعقوب القميص صحيحاً علم كذبهم.
المسألة الثانية : قوله : {وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِه } أي وجاؤا فوق قميصه بدم كما يقال : جاؤا على جمالهم بأحمال.
المسألة الثالثة : قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري {بِدَمٍ كَذِبٍ } أي مكذوب فيه ، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذباً للمبالغة قالوا : والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال : ماء سكب ، أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن ، والفاعل كقوله : {إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا} (الملك : 30) ورجل عدل وصوم ، ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضاً بهما فقالوا : للعقل المعقول ، وللجلد المجلود ، ومنه قوله تعالى {بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (القلم : 6) وقوله : {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (سبأ : 7) قال الشعبي : قصة يوسف كلها في قميصه ، وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ، ولما شهد الشاهد قال : {إِن كَانَ قَمِيصُه قُدَّ مِن قُبُلٍ} (يوسف : 26) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيراً ، ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } .
جزء : 18 رقم الصفحة : 432
قال ابن عباس : معناه : بل زينت لكم أنفسكم أمراً. والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري : كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان ، وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره. وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب "الكشاف" : {سَوَّلَتْ} سهلت من السول وهو الاسترخاء.
(1/2498)

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {بَلْ} رد لقولهم : {أَكَلَهُ الذِّئْبُ} كأنه قال : ليس كما تقولون : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} في شأنه {أَمْرًا } أي زينت لكم أنفسكم أمراً غير ما تصفون ، واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه : لأول : أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم. والثاني : أنه كان عالماً بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف : {وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} (يوسف : 6) وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك.
/ القول الثالث : قال سعيد بن جبير : لما جاؤا على قميصه بدم كذب ، وما كان متخرقاً ، قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه ، وعن السدي أنه قال : إن يعقوب عليه السلام قال : إن هذا الذئب كان رحيماً ، فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه ؟
وقيل : إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوص ، فقال كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله ؟
فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم. ثم قال يعقوب عليه السلام : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : منهم من قال : إنه مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف ، والتقدير : فصبر جميل أولى من الجزع ، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل. وقال قطرب : معناه : فصبري صبر جميل. وقال الفراء : فهو صبر جميل.
المسألة الثانية : كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة ، فقيل له : ما هذا ؟
فقال طول الزمان وكثرة الأحزان : فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني ؟
فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وروي عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أنها قالت : والله لئن حلفت لا تصدقوني وإن اعتذرت لا تعذروني ، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده {فَصَبْرٌ جَمِيلٌا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} فأنزل الله عز وجل في عذرها ما أنزل.
جزء : 18 رقم الصفحة : 432
المسألة الثالثة : عن الحسن أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن قوله : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } فقال : "صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر" ويدل عليه من القرآن قوله تعالى : {إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ} (يوسف : 86) وقال مجاهد : فصبر جميل ، أي من غير جزع ، وقال الثوري : من الصبر أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك ، ولا تزكي نفسك ، وههنا بحث وهو أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين ، ومكر الماكرين فغير واجب ، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير ، وههنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم وخيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك ؟
ولم لم يبالغ في التفتيش والبحث سعياً منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه ، فثبت أن الصبر في المقام مذموم.
ومما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي سليم لأنه قال له : {وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ} (يوسف : 6) والظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي وإذا كان عالماً بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه. وأيضاً إن يعقوب عليه السلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه ، وكان من بيت عظيم شريف ، وأهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه ويعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في أنه / عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام ، ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات ، فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلاً وشرعاً.
والجواب عنه : أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه ، وتغليظاً للأمر عليه ، وأيضاً لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص ، وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله ، وأيضاً لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ، ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه ، فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى الله تعالى بالكلية.
جزء : 18 رقم الصفحة : 432
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلاً وما قد يكون غير جميل ، فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو الله تعالى ، ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً له من إظهار الشكاية.
(1/2499)

والوجه الثاني : أنه يعلم أن منزل هذا البلاء ، حكيم لا يجهل ، وعالم لا يغفل ، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى ، وإذا كان كذلك ، فكان كل ما صدر عنه حكمة وصواباً ، فعند ذلك يسكت ولا يعترض.
والوجه الثالث : أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق ، فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل : المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء ، لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض ، فهذا هو الصبر الجميل. أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض ، فذلك الصبر لا يكون جميلاً ، والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا ، وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر "استفت قلبك/ ولو أفتاك المفتون" فليتأمل الرجل تأملاً شافياً ، أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا ؟
فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة. ولما ذكر يعقوب قوله : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال : {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} والمعنى : أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى ، لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا ، فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين ، فما لم تحصر إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة ، فقوله : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يجري مجرى قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة : 5) وقوله : {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} يجري مجرى قوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة : 5).
جزء : 18 رقم الصفحة : 432
434
اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة ، فقال : {وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ} يعني رفقة تسير للسفر. قال ابن عباس : جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطؤا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق ، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام ، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة ، وقيل : كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلاً يقال له : مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء ، والوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم {فَأَدْلَى دَلْوَه } ونقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال : أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها إذا نزعها من البئر يقال : أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل ودلا يدلو دلواً إذا جذب وأخرج ، والدلو معروف ، والجمع دلاء {قَالَ يَـابُشْرَى هَـاذَا غُلَـامٌ } وههنا محذوف ، والتقدير : فظهر يوسف قال المفسرون : لما أدلى الوارد دلوه وكان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه ورأى حسنه نادى ، فقال : يا بشرى. وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي {بُشْرَا } بغير الألف وبسكون الياء ، والباقون يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة.
المسألة الثانية : في قوله : {الرِّيَـاحَ بُشْرَا } قولان :
القول الأول : أنها كلمة تذكر عند البشارة ونظيره قولهم : يا عجباً من كذا وقوله : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} وعلى هذا القول ففي تفسير النداء وجهان : الأول : قال الزجاج : معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة فإذا قلت : يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا. الثاني : قال أبو علي : كأنه يقول : يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك ، ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور.
واعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن وقالوا : نبيعه بثمن عظيم ويصير ذلك سبباً لحصول الغنى.
جزء : 18 رقم الصفحة : 434
والقول الثاني : وهو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه وكان اسمه ، فقال يا بشرى كما تقول يا زيد. وعن الأعمش أنه قال : دعا امرأة اسمها بشرى {الرِّيَـاحَ بُشْرَا } قال أبو علي الفارسي : إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة ، وهو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل : يا رجل لاختصاصه بالنداء ، وجاز أن يكون في موضع النصب على تقدير : أنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى ، ولم يخص كما تقول : يا رجلاً {يَـاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } (يس : 30).
وأما قوله تعالى : {وَأَسَرُّوهُ بِضَـاعَةً } ففيه مسألتان :
(1/2500)

المسألة الأولى : الضمير في {وَأَسَرُّوهُ} إلى من يعود ؟
فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجب ، وذلك لأنهم قالوا : إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه ، وإن قلنا اشتريناه : سألونا الشركة ، فالأصوب أن نقول : إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر. والثاني : نقل عن ابن عباس أنه قال : {وَأَسَرُّوهُ} يعني : إخوة يوسف أسروا شأنه ، والمعنى : أنهم أخفوا كونه أخاً لهم ، بل قالوا : إنه عبد لنا أبق منا وتابعهم على ذلك يوسف لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية ، والأول أولى لأن قوله : {وَأَسَرُّوهُ بِضَـاعَةً } يدل على أن المراد أسروه حال ما حكموا بأنه بضاعة/ وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.
المسألة الثانية : البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته. قال الزجاج : وبضاعة منصوبة على الحال كأنه قال : وأسروه حال ما جعلوه بضاعة.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِمَا يَعْمَلُونَ} والمراد منه أن يوسف عليه السلام لما رأى الكواكب والشمس والقمر في النوم سجدت له وذكر ذلك حسده إخوته عليه واحتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه فأوقعوه في البلاء الشديد حتى لا يتيسر له ذلك المقصود ، وأنه تعالى جعل وقوعه في ذلك البلاء سبباً إلى وصوله إلى مصر ، ثم تمادت وقائعه وتتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيره / الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب ، فلهذا المعنى قال : {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِمَا يَعْمَلُونَ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 434
ثم قال تعالى : {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} أما قوله : {وَشَرَوْهُ} ففيه قولان :
القول الأول : المراد من الشراء هو البيع ، وعلى هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان :
القول الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره ، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا : هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منا فباعوه منهم ، والمراد من قوله : {وَشَرَوْهُ} أي باعوه يقال : شريت الشيء إذا بعته ، وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع ، لأن الضمير في قوله : {وَشَرَوْهُ} وفي قوله : {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزاَّهِدِينَ} عائد إلى شيء واحد لكن الضمير في قوله : {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزاَّهِدِينَ} عائد إلى الإخوة فكذا في قوله : {وَشَرَوْهُ} يجب أن يكون عائداً إلى الإخوة ، وإذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع.
والقول الثاني : أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر ، وقال محمد بن إسحق : ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة ، وههنا قول آخر وهو أنه يحتمل أن يقال : المراد من الشراء نفس الشراء ، والمعنى أن القوم اشتروه وكانوا فيه من الزاهدين ، لأنهم علموا بقائن الحال أن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا وربما عرفوا أيضاً أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفاً من الله تعالى ، ومن ظهور تلك الواقعة ، إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين ، وغرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن ، ويحتمل أيضاً أن يقال إن الأخوة لما قالوا : إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه. قال مجاهد : وكانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق.
ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث.
الصفة الأولى : كونه بخساً. قال ابن عباس : يريد حراماً لأن ثمن الحر حرام ، وقال كل بخس في كتاب الله نقصان إلا هذا فإنه حرام ، قال الواحدي سموا الحرام بخساً لأنه ناقص البركة ، وقال قتادة : بخس ظلم والظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه ، وقال عكرمة والشعبي قليل وقيل : ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً ، وقيل كانت الدراهم زيوفاً ناقصة العيار. قال الواحدي رحمه الله تعالى : وعلى الأقوال كلها ، فالبخس مصدر وضع موضع الاسم ، والمعنى بثمن مبخوس.
جزء : 18 رقم الصفحة : 434
الصفة الثانية : قوله : {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قيل تعد عداً ولا توزن ، لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية ، وهي الأربعون ويعدون ما دونها فقيل للقليل معدود ، لأن الكثيرة يمتنع من عدها / لكثرتها ، وعن ابن عباس كانت عشرين درهماً ، وعن السدي اثنين وعشرين درهماً. قالوا والإخوة كانوا أحد عشر فكل واحد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئاً.
(1/2501)

الصفة الثالثة : قوله : {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزاَّهِدِينَ} ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه وأصله القلة. يقال : رجل زهيد إذا كان قليل الطمع ، وفيه وجوه : أحدها : أن إخوة يوسف باعوه ، لأنهم كانوا فيه من الزاهدين. والثاني : أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين ، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم ، فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان. والثالث : أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين ، وقد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم ، والضمير في قوله : {فِيهِ} يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام ، ويحتمل أن يكون عائداً إلى الثمن البخس والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 434
436
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه هناك. وقيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير وهو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق ، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل كان الملك في أيامه فرعوه موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـاتِ} (غافر : 34) وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، وقيل اشتراه / العزيز بعشرين ديناراً ، وفيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك والورق والحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن. وقالوا : اسم تلك المرأة زليخا ، وقيل راعيل.
واعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ، ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات ، فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها.
المسألة الثانية : قوله : {أَكْرِمِى مَثْوَاـاهُ} (يوسف : 23) أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به ، ومصدره الثواء والمعنى : اجعلي منزله عندك كريماً حسناً مرضياً بدليل قوله : {إِنَّه رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } وقال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه ، يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال : سلام الله على المجلس العالي ، ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال : {عَسَى ا أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَه وَلَدًا } أي يقوم بإصلاح مهماتنا ، أو نتخذه ولداً ، لأنه كان لا يولد له ولد ، وكان حصوراً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 436
ثم قال تعالى : {وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ} أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز ، حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكناً من الأمر والنهي في أرض مصر.
واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين ، أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله : {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ} وأما تكميله في صفة العلم ، فإليه الإشارة بقوله : {وَلِنُعَلِّمَه مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } وقد تقدم تفسير هذه الكلمة.
واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا} (يوسف : 15) وذلك يدل ظاهراً على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت. وعندنا الإرهاص جائز ، فلا يبعد أن يقال : إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق ، بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام ، ثم إنه تعالى قال ههنا {وَلِنُعَلِّمَه مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف/ ودعوة الخلق إلى الدين الحق ، ويحتمل أيضاً أن يقال : إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله : {وَلِنُعَلِّمَه مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالاً مما كان قبله وقال ابن مسعود : أشد النار فراسة ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ، والمرأة لما رأت موسى ، فقالت : {إِحْدَاهُمَا يَـا أَبَتِ اسْتَـاْجِرْه } (القصص : 26) /وأبو بكر حين استخلف عمر.
(1/2502)

ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى ا أَمْرِه } وفيه وجهان : الأول : غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه ، والثاني : والله غالب على أمر يوسف ، يعني أن انتظام أموره كان إلهياً ، وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير ، فكان كما أراد الله تعالى ودبر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله. واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله ، وأن قضاء الله غالب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 436
437
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : وجه النظم أن يقال : بين تعالى أن إخوته لما أساؤا إليه ، ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه الله تعالى في الاْرض ، ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم والعلم ، والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن ، ومن الناس من قال : إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة ، ومنهم من قال : إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى وشكر نعماء الله تعالى وجد منصب الرسالة. واحتجوا على صحة قولهم : بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة.
ثم قال تعالى : {وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف ، فإن الله يعطيه تلك المناصب ، وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة.
واعلم أن من قال : إن يوسف ما كان رسولاً ولا نبياً ألبتة ، وإنما كان عبداً أطاع الله تعالى فأحسن الله إليه ، وهذا القول باطل بالإجماع. وقال الحسن : إنه كان نبياً من الوقت الذي قال الله تعالى في حقه : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا} (يوسف : 15) وما كان رسولاً ، ثم إنه صار رسولاً من هذا الوقت أعني قوله : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه ا ءَاتَيْنَـاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } (يوسف : 22) ومنهم من قال : إنه كان رسولاً من الوقت الذي ألقى في غيابة الجب.
المسألة الثانية : قال أبو عبيدة تقول العرب بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم ، وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله : {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّه } (الأنعام : 152) وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس ، ولما بلغ أشده قال ثلاثاً وثلاثين سنة ، وأقول هذه الرواية شديدة / الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال ، ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء ، فكانت حالته شبيهة بحال القمر ، فإنه يظهر هلالاً ضعيفاً ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدراً تاماً ، ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق.
جزء : 18 رقم الصفحة : 437
إذا عرفت هذا فنقول : مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام ، كان كل قسم منها سبعة أيام ، فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين ، ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة. فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث. وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة ، ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين ، وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين ، وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء ، فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء ، وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده ، وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة ، ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان ؛ فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدأ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين/ وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين ، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب ، والله أعلم بحقائق الأشياء.
المسألة الثالثة : في تفسير الحكم والعلم ، وفيه أقوال :
(1/2503)

القول الأول : أن الحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها ، ومنعها مما يشينها ، فالمراد من الحكم الحكمة العملية ، والمراد من العلم الحكمة النظرية. وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العملية ، لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية. وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولاً ، ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية ، وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول ، لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات ، فلهذا السبب قال : {حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ} .
القول الثاني : الحكم هو النبوة ، لأن النبي يكون حاكماً على الخلق ، والعلم علم الدين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 437
والقول الثالث : يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة / فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية ، إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ومنها حرة ونذلة ومنها شريفة وخسيسة ، ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات فهذه الأقسام كثيرة وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهراً مشرقاً شريفاً شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية ، فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال ، لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها ، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت ، فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها ، فقوله : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه } إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية ، وقوله : {حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ} إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية ، والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 437
439
اعلم أن يوسف عليه السلام كان في غاية الجمال والحسن ، فلما رأته المرأة طمعت فيه ويقال أيضاً إن زوجها كان عاجزاً يقال : راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منها الوطء والجماع {وَغَلَّقَتِ الابْوَابَ} والسبب أن ذلك العمل لا يؤتى به إلا في المواضع المستورة لا سيما إذا كان حراماً ، ومع قيام الخوف الشديد وقوله : {وَغَلَّقَتِ الابْوَابَ} أي أغلقتها قال الواحدي : وأصل هذا من قولهم في كل شيء تشبث في شيء فلزمه قد غلق يقال : غلق في الباطل وغلق في غضبه ، ومنه غلق الرهن ، ثم يعدى بالألف فيقال : أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه. قال المفسرون : وإنما جاء غلقت على التكثير لأنها غلقت سبعة أبواب ، ثم دعته إلى نفسها. / ثم قال تعالى : {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : هيت لك اسم للفعل نحو : رويداً ، وصه ، ومه. ومعناه هلم في قول جميع أهل اللغة ، وقال الأخفش : {هَيْتَ لَكَ } مفتوحة الهاء والتاء ، ويجوز أيضاً كسر التاء ورفعها. قال الواحدي : قال أبو الفضل المنذري : أفادني ابن التبريزي عن أبي زيد قال : هيت لك بالعبرانية هيالح ، أي تعال عربه القرآن ، وقال الفراء : إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى بكة فتكلموا بها. قال ابن الأنباري : وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في "القسطاس" ولغة العرب والفرس في السجيل ولغة العرب والترك في "الغساق" ولغة العرب والحبشة في "ناشئة الليل".
(1/2504)

المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان {هَيْتَ} بكسر الهاء وفتح التاء ، وقرأ ابن كثير {هَيْتَ لَكَ } مثل حيث ، وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر {أَحْلَلْنَا لَكَ} بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء مثل جئت من تهيأت لك ، والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء ، ثم إنه تعالى قال : إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام قال يوسف عليه السلام : {مَعَاذَ اللَّه إِنَّه رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } فقوله : {مَعَاذَ اللَّهِ} أي أعوذ بالله معاذاً ، والضمير في قوله : {إِنَّه } للشأن والحديث {رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } أي ربي وسيدي ومالكي أحسن مثواي حين قال لك : أكرمي مثواه ، فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة {إِنَّه لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ} الذين يجازون الإحسان بالإساءة ، وقيل : أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم أو لأن عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه ، وههنا سؤالات :
جزء : 18 رقم الصفحة : 439
السؤال الأول : أن يوسف عليه السلام كان حراً وما كان عبداً لأحد فقوله : {إِنَّه رَبِّى } يكون كذباً وذلك ذنب وكبيرة.
والجواب : أنه عليه السلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر وعلى وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً له وأيضاً أنه رباه وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة فعنى بكونه رباً له كونه مربياً له ، وهذا من باب المعاريض الحسنة ، فإن أهل الظاهر يحملونه على كونه رباً له وهو كان يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه.
السؤال الثاني : هل يدل قول يوسف عليه السلام : {مَعَاذَ اللَّهِ} على صحة مذهبنا في القضاء والقدر.
والجواب : أنه يدل عليه دلالة ظاهرة لأن قوله عليه السلام أعوذ بالله معاذاً ، طلب من الله أن يعيذه من ذلك العمل ، وتلك الإعاذة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل والآلة/ وإزاحة / الأعذار ، وإزالة الموانع وفعل الألطاف ، لأن كل ما كان في مقدور الله تعالى من هذا الباب فقد فعله ، فيكون ذلك إما طلباً لتحصيل الحاصل ، أو طلباً لتحصيل الممتنع وأنه محال فعلمنا أن تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها ، إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية ، وذلك هو المطلوب ، والدليل على أن المراد ما ذكرناه ما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما وقع بصره على زينب قال : "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" وكان المراد منه تقوية داعية الطاعة ، وإزالة داعية المعصية فكذا ههنا ، وكذا قوله عليه السلام : "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" فالمراد من الأصبعين داعية الفعل ، وداعية الترك وهاتان الداعيتان لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى ، وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ولزم التسلسل فثبت أن قول يوسف عليه السلام : {مَعَاذَ اللَّهِ} من أدل الدلائل على قولنا والله أعلم.
السؤال الثالث : ذكر يوسف عليه السلام في الجواب عن كلامها ثلاثة أشياء : أحدها : قوله : {مَعَاذَ اللَّهِ} والثاني : قوله تعالى عنه : {إِنَّه رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } والثالث : قوله : {إِنَّه لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ} فما وجه تعلق بعض هذا الجواب ببعض ؟
والجواب : هذا الترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأن الانقياد لأمر الله تعالى وتكليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه في حق العبد فقوله : {مَعَاذَ اللَّهِ} إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل ، وأيضاً حقوق الخلق واجبة الرعاية ، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة ، وأيضاً صون النفس عن الضرر واجب ، وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا ، وعذاب شديد في الآخرة ، واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد ، فالعقل يقتضي تركها والاحتزاز عنها فقوله : {إِنَّه لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ} إشارة إليه ، فثبت أن هذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه الترتيب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 439
444
اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل :
(1/2505)

/ المسألة الأولى : في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا ؟
وفي هذه المسألة قولان : الأول : أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة. قال الواحدي في كتاب "البسيط" قال المفسرون : الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضاً بهذه المرأة هما صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة ، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه. قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال : طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضاً أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه ، ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب ، وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة ، وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (يوسف : 52) قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك : {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى } (يوسف : 53) ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه ، فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب.
والقول الثاني : أن يوسف عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل ، والهم المحرم ، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين ، وبه نقول وعنه نذب.
واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة ، ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوهاً :
فالحجة الأولى : أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضاً من منكرات الذنوب ، وأيضاً مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب ، وأيضاً الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال.
جزء : 18 رقم الصفحة : 444
إذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه ، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة. ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة : {كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّواءَ وَالْفَحْشَآءَ } (يوسف : 24) وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه ، ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع / وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئاً من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء. وأيضاً فالآية تدل على قولنا من وجه آخر ، وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه ، إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ ، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم/ فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه ، فإن ذلك يستنكر جداً فكذا ههنا والله أعلم. الثالث : أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة ، أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع ، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية. الرابع : أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية.
جزء : 18 رقم الصفحة : 444
(1/2506)

واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام ، وتلك المرأة وزوجها ، والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب ، وإبليس أقر ببراءته أيضاً عن المعصية ، وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب. أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام : {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } (يوسف : 26) وقوله عليه السلام : {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْه } (يوسف : 33) وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة : {وَلَقَدْ رَاوَدتُّه عَن نَّفْسِه فَاسْتَعْصَمَ } (يوسف : 32) وأيضاً قالت : {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِه ا قُلْنَ حَـاشَ} (يوسف : 51) وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك ، فهو قوله : {إِنَّه مِن كَيْدِكُنَّا إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنابِكِ} (يوسف : 28 ، 29) وأما الشهود فقوله تعالى : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُه قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} (يوسف : 26) وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله : {كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّواءَ وَالْفَحْشَآءَا إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف : 24) فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات : أولها : قوله : {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّواءَ} واللام للتأكيد والمبالغة. والثاني : قوله : {وَالْفَحْشَآءَ } أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. والثالث : قوله : {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا} مع أنه تعالى قال : {وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا} (الفرقان : 63) والرابع : قوله : {الْمُخْلَصِينَ} وفيه قراءتان : تارة باسم الفاعل وأخرى باسم / المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص. ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته ، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه ، وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته ، فلأنه قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} (ص : 82 ، 83) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى : (ص : 82 ، 83) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى : {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى ، وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي :
جزء : 18 رقم الصفحة : 444
فوكنت امرأ من جند إبليس فارتقى
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برىء عما يقوله هؤلاء الجهال.
وإذا عرفت هذا فنقول : الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين :
المقام الأول : أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها. والدليل عليه : أنه تعالى قال : {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَـانَ رَبِّه } وجواب {لَوْلا} ههنا مقدم ، وهو كما يقال : قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك ، وطعن الزجاج في هذا الجواب من وجهين : الأول : أن تقديم جواب {لَوْلا} شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح. الثاني : أن {لَوْلا} يجاب جوابها باللام ، فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال : ولقد همت ولهم بها لولا. وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله : {لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَـانَ رَبِّه } فائدة.
واعلم أن ما ذكره الزجاج بعيد ، لأنا نسلم أن تأخير جواب {لَوْلا} حسن جائز ، إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب ، وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال : إنهم يقدمون الأهم فالأهم ، والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام. وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة ، وأيضاً ذكر جواب {لَوْلا} باللام جائز. أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز ، ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزجاج في هذين السؤالين ، وهو قوله تعالى : {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِه لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (القصص : 10).
(1/2507)

وأما السؤال الثالث : وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله : {لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَـانَ رَبِّه } فائدة. / فنقول : بل فيه أعظم الفوائد ، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء ، وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، ثم نقول : إن الذي يدل على أن جواب {لَوْلا} ما ذكرناه أن {لَوْلا} تستدعي جواباً ، وهذا المذكور يصلح جواباً له ، فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً ، وترك الجواب كثير في القرآن ، لأنا نقول : لا نزاع أنه كثير في القرآن ، إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً. وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه ، وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب ، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها ، وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق. والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 444
المقام الثاني : في الكلام على هذه الآية أن نقول : سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول : إن قوله : {وَهَمَّ بِهَا} لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية ، فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه : الأول : المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد ، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به ، فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر/ يقال : هممت بفلان أي بضربه ودفعه.
فإن قالوا : فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله : {لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَـانَ رَبِّه } فائدة.
قلنا : بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله ، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صوناً للنفس عن الهلاك ، والثاني : أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به ، فكان يتمزق ثوبه من قدام ، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن ، ولو كان ثوبه ممزقاً من خلف لكانت المرأة هي الخائنة ، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى ، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً عنها ، حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني : في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة ، وهذا مستعمل في اللغة الشائعة. يقول القائل : فيما لا يشتهيه مايهمني هذا ، وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي ، فسمى الله تعالى شهوة يوسف / عليه السلام هماً ، فمعنى الآية : ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود. الثالث : أن يفسر الهم بحديث النفس ، وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات ، فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة. فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة ، ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية ، ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف ، إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه ، إلا أن دينه وهداه يمنعه منه ، فهذا لا يدل على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل ، فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 444
واعلم أن بعض الحشوية روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات" فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له : يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي : ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين ، والله أعلم.
(1/2508)

المسألة الثانية : في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه : الأول : أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب والثاني : أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة. بل نقول : إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب : 33) فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات. والثالث : أنه رأى مكتوباً في سقف البيت {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ا إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلا} (الإسراء : 32) والرابع : أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش ، والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها/ ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى : {الْحَكِيمُ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف : 2 ، 3) / وأيضاً أن الله تعالى عير اليهود بقوله : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} (البقرة : 44) وما يكون عيباً في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات.
جزء : 18 رقم الصفحة : 444
وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أموراً : الأول : قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف : لم فعلت ذلك ؟
قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية ، فقال يوسف : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فوالله لا أفعل ذلك أبداً قالوا : فهذا هو البرهان. الثاني : نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضاً على أصابعه ويقول له : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه. قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله. والثالث : قالوا إنه سمع في الهواء قائلاً يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه. والرابع : نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج ، ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال : هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد التنزيل فيقال له : إنك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجة والدليل ، وأيضاً فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز ، وأنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية ، فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجب أنهم نقلوا أن جرواً دخل حجرة النبي صلى الله عليه وسلّم وبقي هناك بغير عمله قالوا : فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوماً ، وههنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام ، والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ، ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل ، وههنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه ، ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين ، والخذلان في طلب اليقين فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 444
المسألة الثالثة : في الفرق بين السوء والفحشاء وفيه وجوه : الأول : أن السوء جناية اليد / والفحشاء هو الزنا. الثاني : السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة والفحشاء هو الزنا. أما قوله : {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ومن فتح اللام أراد الذين خلصهم الله من الأسواء ، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذي قال الله فيهم : {إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ} (ص : 46).
المسألة الرابعة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {الْمُخْلَصِينَ} بكسر اللام في جميع القرآن والباقون بفتح اللام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 444
447
(1/2509)

اعلم أنه تعالى لما حكى عنها أنها {هَمَّتْ} أتبعه بكيفية طلبها وهربه فقال : {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} والمراد أنه هرب منها وحاول الخروج من الباب وعدت المرأة خلفه لتجذبه إلى نفسها ، والاستباق طلب السبق إلى الشيء ، ومعناه تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف فتح / الباب وخرج ، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج ، وقوله : {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي استبقا إلى الباب كقوله : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه سَبْعِينَ رَجُلا} (الأعراف : 155) أي من قومه.
واعلم أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب وأراد الخروج والمرأة تعدو خلقه فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته ، أي قطعته طولاً ، وفي ذلك الوقت حضر زوجها وهو المراد من قوله {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ } أي صادفا بعلها تقول المرأة لبعلها سيدي ، وإنما لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام ما كان مملوكاً لذلك الرجل في الحقيقة ، فعند ذلك خافت المرأة من التهمة فبادرت إلى أن رمت يوسف بالفعل القبيح ، وقالت : {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُواءًا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والمعنى ظاهر. وفي الآية لطائف : إحداها : أن "ما" يحتمل أن تكون نافية ، أي ليس جزاؤه إلا السجن ، ويجوز أيضاً أن تكون استفهامية يعني أي شيء جزاؤه إلا أن يسجن كما تقول : من في الدار إلا زيد. وثانيها : أن حبها الشديد ليوسف حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن ، وأخرت ذكر العذاب ، لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب ، وأيضاً أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين ، بل ذكرت ذلك ذكراً كلياً صوناً للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم ، وأيضاً قالت : {إِلا أَن يُسْجَنَ} والمراد أن يسجن يوماً أو أقل على سبيل التخفيف.
جزء : 18 رقم الصفحة : 447
فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر بهذه العبارة ، بل يقال : يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون هكذا قال حين تهدد موسى عليه السلام في قوله : {لَـاـاِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـاهًَا غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشعراء : 29) وثالثها : أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة ، عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء ، وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض ، فانظر إلى تلك المرأة ما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب وأن هؤلاء الحشوية يرمونه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بهذا الذنب القبيح. ورابعها : أن يوسف عليه السلام أراد يضربها ويدفعها عن نفسه ، وكان ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السوء فقولها : {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ} جارياً مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي.
واعلم أن المرأة لما ذكرت هذا الكلام ولطخت عرض يوسف عليه السلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال : }هي راودتني عن نفسي} ، وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر.
/ واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق : فالأول : أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني : أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه ، والثالث : أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه ، وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى ، الرابع : أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر ، وذلك أيضاً مما يقوي الظن ، الخامس : أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً ، وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف ؛ السادس : قيل : إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى ، فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ، ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة ، وهو قوله : هي راودتني عن نفسي} ، وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر.
/
جزء : 18 رقم الصفحة : 447
(1/2510)

واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق : فالأول : أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني : أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه ، والثالث : أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه ، وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى ، الرابع : أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر ، وذلك أيضاً مما يقوي الظن ، الخامس : أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً ، وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف ؛ السادس : قيل : إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى ، فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ، ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة ، وهو قوله : ، وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر.
/
جزء : 18 رقم الصفحة : 447
(1/2511)

واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق : فالأول : أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني : أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه ، والثالث : أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه ، وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى ، الرابع : أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر ، وذلك أيضاً مما يقوي الظن ، الخامس : أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً ، وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف ؛ السادس : قيل : إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى ، فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ، ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة ، وهو قوله : {نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} وفي هذا الشاهد ثلاثة أقوال : الأول : أنه كان لها ابن عم وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه ، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه ، قال ابن عمها : {إِنَّه مِن كَيْدِكُنَّا إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي من عملكن. ثم قال ليوسف أعرض عن هذا واكتمه ، وقال لها استغفري لذنبك ، وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين. والثاني : وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك : إن ذلك الشاهد كان صبياً أنطقه الله تعالى في المهد ، فقال ابن عباس : تكلم في المهد أربعة صغار شاهد يوسف ، وابن ماشطة بنت فرعون ، وعيسى بن مريم ، وصاحب جريج الراهب قال الجبائي : والقول الأول أولى لوجوه : الأول : أنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً ، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة ، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز. الثاني : أنه تعالى قال : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} وإنما قال من أهلها / ليكون أولى بالقبول في حق المرأة لأن الظاهر من حال من يكون من أقرباء المرأة ومن أهلها أن لا يقصدها بالسوء والإضرار ، فالمقصود بذكر كون ذلك الرجل من أهلها تقوية قول ذلك الرجل وهذه الترجيحات إنما يصار إليها عند كون الدلالة ظنية ، ولو كان هذا القول صادراً عن الصبي الذي في المهد لكان قوله حجة قاطعة ولا يتفاوت الحال بين أن يكون من أهلها ، وبين أن لا يكون من أهلها وحينئذ لا يبقى لهذا القيد أثر. والثالث : أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا على من تقدمت له معرفة بالواقعة وإحاطة بها.
جزء : 18 رقم الصفحة : 447
والقول الثالث : أن ذلك الشاهد هو القميص ، قال مجاهد : الشاهد كون قميصه مشقوقاً من دبر ، وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل. واعلم أن القول الأول عليه أيضاً إشكال وذلك لأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف عليه السلام عن المعصية لأن من المحتمل أن الرجل قصد المرأة لطلب الزنا فالمرأة غضبت عليه فهرب الرجل فعدت المرأة خلف الرجل وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً فعلى هذا الوجه يكون القميص متخرقاً من دبر مع أن المرأة تكون برية عن الذنب والرجل يكون مذنباً.
وجوابه : أنا بينا أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها ، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقويات والمرجحات.
ثم إنه تعالى أخبر وقال : {فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَه } وذلك يحتمل السيد الذي هو زوجها ويحتمل الشاهد فلذلك اختلفوا فيه ، قال : {إِنَّه مِن كَيْدِكُنَّ } أي أن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً من كيدكن إن كيدكن عظيم.
فإن قيل : إنه تعالى لما خلق الإنسان ضعيفاً فكيف وصف كيد المرأة بالعظم ، وأيضاً فكيد الرجال قد يزيد على كيد النساء.
(1/2512)

والجواب عن الأول : أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسموات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوات بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضاً فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال.
واعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَا } فقيل : إن هذا من قول العزيز ، وقيل : إنه من قول الشاهد ، ومعناه : أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها ، وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال : {وَاسْتَغْفِرِى لِذَنابِكِ} وظاهر ذلك طلب المغفرة ، / ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح ، وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد ، ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله ، لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع ، إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال : {مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا} (يوسف : 29) وعلى هذا التقدير : فيجوز أن يكون القائل هو الزوج. وقوله : {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِـاِينَ} نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم ، وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف ، لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي. وقال أبو بكر الأصم : إن ذلك لزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار. قال صاحب "الكشاف" : وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير ، تغليباً للذكور على الإناث ، ويحتمل أن يقال : المراد إنك من نسل الخاطئين ، فمن ذلك النسل سرى هذا العرق الخبيث فيك. والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 447
450
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لم لم يقل : {وَقَالَ نِسْوَةٌ} قلنا لوجهين : الأول : أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث ، الثاني : قال الواحدي تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع.
/ المسألة الثانية : قال الكلبي : هن أربع ، امرأة ساقي العزيز. وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه. وامرأة صاحب دوابه ، وزاد مقاتل وامرأة الحاجب. والأشبه أن تلك الواقعة شاعت في البلد واشتهرت وتحدث بها النساء. وامرأة العزيز هي هذه المرأة المعلومة {تُرَاوِدُ فَتَـاـاهَا عَن نَّفْسِه } الفتى الحدث الشاب والفتاة الجارية الشابة {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن الشغاف فيه وجوه : الأول : أن الشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب يقال شغفت فلاناً إذا أصبت شغافه كما تقول كبدته أي أصبت كبده فقوله : {شَغَفَهَا حُبًّا } أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب. والثاني : أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب ، ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه. والثالث : قال الزجاج : الشغاف حبة القلب وسويداء القلب. والمعنى : أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها ، وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم.
المسألة الثانية : قرأ جماعة من الصحابة والتابعين بالعين. قال ابن السكيت : يقال شعفه الهوى إذا بلغ إلى حد الاحتراق ، وشعف الهناء البعير إذا بلغ منه الألم إلى حد الاحتراق ، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى فقال : الشعف بالعين إحراق الحب القلب مع لذة يجدها ، كما أن البعير إذا هنىء بالقطران يبلغ منه مثل ذلك ثم يستروح إليه. وقال ابن الأنباري : الشعف رؤوس الجبال ، ومعنى شعف بفلان إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 450
المسألة الثالثة : قوله : نصب على التمييز.
ثم قال : {حُبًّا إِنَّا لَنَرَاـاهَا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} أي في ضلال عن طريق الرشد بسبب حبها إياه كقوله : {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (يوسف : 8).
ثم قال تعالى : {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَـاًا} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المراد من قوله : {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أنها سمعت قولهن وإنما سمي قولهن مكراً لوجوه : الأول : أن النسوة إنما ذكرت ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه السلام والنظر إلى وجهه لأنهن عرفن أنهن إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن. الثاني : أن امرأة العزيز أسرت إليهن حبها ليوسف وطلبت منهن كتمان هذا السر ، فلما أظهرن السر كان ذلك غدراً ومكراً. الثالث : أنهن وقعن في غيبتها ، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر.
(1/2513)

/ المسألة الثانية : أنها لما سمعت أنهن يلمنها على تلك المحبة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتخذت مائدة ودعت جماعة من أكابرهن وأعتدت لهن متكأ/ وفي تفسيره وجوه : الأول : المتكأ النمرق الذي يتكأ عليه. الثاني : أن المتكأ هو الطعام. قال العتبي والأصل فيه أن من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسادة تسمى الطعام متكأ على الاستعارة ، والثالث : متكأ أترجاً ، وهو قول وهب وأنكر أبو عبيد ذلك ولكنه محمول على أنها وضعت عندهن أنواع الفاكهة في ذلك المجلس. والرابع : متكأ طعاماً يحتاج إلى أن يقطع بالسكين ، لأن الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتكأ عليه عند القطع. ثم نقول : حاصل ذلك أنها دعت أولئك النسوة وأعدت لكل واحدة منهن مجلساً معيناً وآتت كل واحدة منهن سكيناً أي لأجل أكل الفاكهة أو لأجل قطع اللحم ثم إنها أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج إليهن ويعبر عليهن وأنه عليه السلام ما قدر على مخالتها خوفاً منها {فَلَمَّا رَأَيْنَه ا أَكْبَرْنَه وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وههنا مسائل :
المسألة الأولى : في {أَكْبَرْنَه } قولان : الأول : أعظمنه. والثاني : بمعنى حضن. قال الأزهري والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وفيه وجه آخر ، وهو أن المرأة إذا خافت وفزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت ، فإن صح تفسير الإكبار بالحيض فالسبب فيه ما ذكرناه وقوله : {قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } كناية عن دهشتهن وحيرتهن ، والسبب في حسن هذه الكناية أنها لما دهشت فكانت تظن أنها تقطع الفاكهة وكانت تقطع يد نفسها ، أو يقال : إنها لما دهشت صارت بحيث لا تميز نصابها من حديدها وكانت تأخذ الجانب الحاد من ذلك السكين بكفها فكان يحصل الجراحة في كفها.
جزء : 18 رقم الصفحة : 450
المسألة الثالثة : اتفق الأكثرون على أنهن إنما أكبرنه بحسب الجمال الفائق والحسن الكامل قيل : كان فضل يوسف على الناس في الفضل والحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "مررت بيوسف عليه السلام ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل عليه السلام من هذا ؟
فقال هذا يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته ؟
قال : كالقمر ليلة البدر" وقيل : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها ، وقيل : كان يشبه آدم يوم خلقه ربه ، وهذا القول هو الذي اتفقوا عليه ، وعندي أنه يحتمل وجهاً آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة ، وآثار الخضوع والاحتشام ، وشاهدن منها مهابة النبوة ، وهيئة الملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح ، وعدم الاعتداد بهن ، وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك / الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه ، ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن ، وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى.
فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها : {فَذَالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيه } وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوة العشق وإفراط المحبة ؟
قلنا : قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة ، والحسرة ، والأرق والقلق ، وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن والله أعلم.
المسألة الثالثة : قرأ أبو عمرو {وَقُلْنَ حَـاشَ لِلَّهِ مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد ، والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعاً للمصحف "وحاشا" كلمة يفيد معنى التنزيه ، والمعنى ههنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله. أما قوله : {حَـاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُواءٍ } فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله.
المسألة الرابعة : قوله : {مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} فيه وجهان :
جزء : 18 رقم الصفحة : 450
الوجه الأول : وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا : لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك ، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان ، ولذلك قال تعالى في صفة جهنم {طَلْعُهَا كَأَنَّه رُءُوسُ الشَّيَـاطِينِ} (الصافات : 65) وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك ، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك.
(1/2514)

والوجه الثاني : وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة ، وجواذب الغضب ، ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى ، ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن ألبتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة ، وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثراً من أثر الشهوة ، ولا شيئاً من البشرية ، ولا صفة من الإنسانية ، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر ، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية.
فإن قالوا : فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة ؟
فالجواب قد سبق. والله أعلم.
/ المسألة الخامسة : القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا : لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام. فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سبباً لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته ، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالاً من البشر ، ثم نقول : لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر ، أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن ، والأول باطل لوجهين : الأول : أنهم وصفوه بكونه كريماً ، وإنما يكون كريماً بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة ، والثاني : أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة. أما كونه بعيداً عن الشهوة والغضب معرضاً عن اللذات الجسمانية متوجهاً إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب ، والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة.
وإذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه ألبتة ، فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن ، لا في الصورة الظاهرة ، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان من هذه الفضائل ، فثبت أن الملك أفضل من البشر والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 450
المسألة السادسة : لغة أهل الحجاز إعمال "ما" عمل ليس وبها ورد قوله : {مَا هَـاذَا بَشَرًا} ومنها قوله : {مَّا هُنَّ أُمَّهَـاتِهِمْ } (المجادلة : 2) ومن قرأ على لغة بني تميم. قرأ {مَا هَـاذَا بَشَرًا} وهي قراءة ابن مسعود وقرىء {مَا هَـاذَا بَشَرًا} أي ما هو بعبد مملوك للبشر {إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ثم نقول : ما هذا بشراً ، أي حاصل بشراً بمعنى هذا مشترى ، وتقول : هذا لك بشراً أم بكراً ، والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف ، ولمقابلة البشر للملك.
جزء : 18 رقم الصفحة : 450
451
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين ، عظم ذلك / عليها فجمعتهن {فَلَمَّا رَأَيْنَه ا أَكْبَرْنَه وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها.
فإن قيل : فلم قالت : {فَذَالِكُنَّ} مع أن يوسف عليه السلام كان حاضراً ؟
والجواب عنه من وجوه : الأول : قال ابن الأنباري : أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. والثاني : وهو الذي ذكره صاحب "الكشاف" وهو أحسن ما قيل : إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني ، فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت : هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني : أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة.
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت : {وَلَقَدْ رَاوَدتُّه عَن نَّفْسِه فَاسْتَعْصَمَ } .
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئاً عن تلك التهمة ، وعن السدي أنه قال : {فَاسْتَعْصَمَ } بعد حل السراويل وما الذي يحمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب.
ثم قال : {وَلَـاـاِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُه لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّـاغِرِينَ} والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار ، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام ، وقوله : {وَلَيَكُونًا} كان حمزة والكسائي يقفان على {وَلَيَكُونًا} بالألف ، وكذلك قوله : {لَنَسْفَعَا } (العلق : 15) والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 451
452
(1/2515)

واعلم أن المرأة لما قالت : {وَلَـاـاِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُه لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّـاغِرِينَ} (يوسف : 32) وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها / وإلا وقعت في السجن وفي الصغار فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة : أحدها : أن زليخا كانت في غاية الحسن. والثاني : أنها كانت ذات مال وثروة ، وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها. والثالث : أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر ، ومكر النساء في هذا الباب شديد ، والرابع : أنه عليه السلام كان خائفاً من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه ، فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها ، فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه.
واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية ، فعند هذا التجأ إلى الله تعالى وقال : {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْه } وقرىء {السِّجْنِ} بالفتح على المصدر ، وفيه سؤالان :
السؤال الأول : السجن في غاية المكروهية ، وما دعونه إليه في غاية المطلوبية ، فكيف قال : المشقة أحب إلي من اللذة ؟
والجواب : أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاماً عظيمة ، وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، وذلك المكروه وهو اختيار السجن كان يستعقب سعادات عظيمة ، وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة ، فلهذا السبب قال : {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْه } .
السؤال الثاني : أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية ، فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية.
والجواب : تقدير الكلام أنه إذا كان لا بد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا والسجن ، فهذا أولى ، لأنه متى وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل.
جزء : 18 رقم الصفحة : 452
ثم قال : {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَـاهِلِينَ} أصب إليهن أمل إليهن يقال : صبا إلى اللهو يصبو صبواً إذا مال ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها قالوا : لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه وتقريره : أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل ، لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال ، وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية بل هو من الله تعالى فالصرف عبارة عن جعله مرجوحاً لأنه متى / صار مرجوحاً صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان ، فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية ، وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال ، فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى. ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر ، وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة/ ومتى كان الأمر كذلك ، فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك ، فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعاً من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه ، وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله : {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَـاهِلِينَ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 452
455
وفي الآية مسائل :
(1/2516)

المسألة الأولى : اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له ، فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها ، فلم يلتفت يوسف إليها ، فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه ، وأنا لا أقدر على إظهار عذري ، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني ، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة ، فهذا هو المراد من قوله {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنا بَعْدِ مَا رَأَوُا الايَـاتِ لَيَسْجُنُنَّه حَتَّى حِينٍ} لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه / في الأول ، والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر ، وخمش الوجه ، وإلزام الحكم أياها بقوله : {إِنَّه مِن كَيْدِكُنَّا إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (يوسف : 28) وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعياً في إخفاء الفضيحة.
المسألة الثالثة : قوله : فعل وفاعله في هذا الموضع قوله : {الايَـاتِ لَيَسْجُنُنَّه } وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر ، إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز ، فإذا قلت خرج ضرب لم يفد ألبتة ، فعند هذا قالوا : تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه ، إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم ، وأقول : الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبراً فجعل الخبر مخبراً عنه لا يجوز ، لأنا نقول : الاسم قد يكون خبراً كقولك : زيد قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبراً لا ينافي كونه مخبراً عنه ، بل نقول في هذا المقام : شكوك أحدها : أنا إذا قلنا : ضرب فعل فالمخبر عنه بأنه فعل هو ضرب ، فالفعل صار مخبراً عنه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 455
فإن قالوا : المخبر عنه هو هذه الصيغة وهي اسم فنقول : فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل اسم لا فعل وذلك كذب وباطل ، بل نقول المخبر عنه بأنه فعل إن كان فعلاً فقد ثبت أن الفعل يصح الإخبار عنه وإن كان اسماً كان معناه : أنا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ومعلوم أنه باطل ، وفي هذا الباب مباحث عميقة ذكرناها في "كتب المعقولات".
المسألة الثالثة : قال أهل اللغة : الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه ، وعلى الطويل ، وقال ابن عباس : يريد إلى انقطاع المقالة وما شاع في المدينة من الفاحشة ، ثم قيل : الحين ههنا خمس سنين ، وقيل : بل سبع سنين ، وقال مقاتل بن سليمان : حبس يوسف اثنتي عشر سنة ، والصحيح أن هذه المقادير غير معلومة ، وإنما القدر المعلوم أنه بقي محبوساً مدة طويلة لقوله تعالى : {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} (يوسف : 45).
أما قوله تعالى : {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } فههنا محذوف ، والتقدير : لما أرادوا حبسه حبسوه وحذف ذلك لدلالة قوله : {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } عليه قيل : هما غلامان كانا للملك الأكبر بمصر أحدهما صاحب طعامه ، والآخر صاحب شرابه رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر يساعده عليه فأمر بحبسهما بقي في الآية سؤالات :
السؤال الأول : كيف عرفا أنه عليه السلام عالم بالتعبير ؟
والجواب : لعله عليه السلام سألهما عن حزنهما وغمهما فذكرا إنا رأينا في المنام هذه الرؤيا ، ويحتمل أنهما رأياه وقد أظهر معرفته بأمور منها تعبير الرؤيا فعندها ذكرا له ذلك.
/ السؤال الثاني : كيف عرف أنهما كانا عبدين للملك :
الجواب : لقوله : {فَيَسْقِى رَبَّه خَمْرًا } (يوسف : 41) أي مولاه ولقوله : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} (يوسف : 42).
السؤال الثالث : كيف عرف أن أحدهما صاحب شراب الملك ، والآخر صاحب طعامه ؟
والجواب : رؤيا كل واحد منهما تناسب حرفته لأن أحدهما رأى أنه يعصر الخمر والآخر كأنه يحمل فوق رأسه خبزاً.
السؤال الرابع : كيف وقعت رؤية المنام ؟
والجواب : فيه قولان :
القول الأول : أن يوسف عليه السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين ، هلم فلنخبر هذا العبد العبراني برؤيا نخترعها له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً. قال ابن مسعود : ما كانا رأيا شيئاً وإنما تحالما ليختبرا علمه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 455
(1/2517)

والقول الثاني : قال مجاهد كانا قد رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف عليه السلام فسألاه عنها ، فقال الساقي أيها العالم إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل عنبة حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكأن كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيتها الملك فشربه فذلك قوله : {إِنِّى أَرَاـانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } وقال صاحب الطعام إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها خبز وألوان وأطعمه وإذا سباع الطير تنهش منه فذلك قوله تعالى : {وَقَالَ الاخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْه } .
السؤال الخامس : كيف عرف يوسف عليه السلام أن المراد من قوله : {إِنِّى أَرَاـانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } رؤيا المنام ؟
الجواب : لوجوه : الأول : أنه لو لم يقصد النوم كان ذكر قوله : {أَعْصِرُ} يغنيه عن ذكر قوله {أَرَاـانِى } والثاني : دل عليه قوله : {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِه } (يوسف : 36).
السؤال السادس : كيف يعقل عصر الخمر ؟
الجواب : فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن يكون المعنى أعصر عنب خمر ، أي العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف. الثاني : أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤل إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس يقولون فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً. والثالث : قال أبو صالح : أهل عمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها قال الضحاك : نزل القرآن بألسنة جميع العرب.
/ السؤال السابع : ما معنى التأويل في قوله : {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِه } .
الجواب : تأويل الشيء ما يرجع إليه وهو الذي يؤل إليه آخر ذلك الأمر.
السؤال الثامن : ما المراد من قوله : {إِنَّا نَرَاـاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
الجواب من وجوه : الأول : معناه إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة. قيل : إنه كان يعود مرضاهم ، ويؤنس حزينهم فقالوا إنك من المحسنين أي في حق الشركاء والأصحاب ، وقيل : إنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة فقالوا إنك من المحسنين في أمر الدين ، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا ، وفي سائر الأمور ، وقيل : المراد {إِنَّا نَرَاـاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في علم التعبير ، وذلك لأنه متى عبر لم يخط كما قال {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } (يوسف : 101).
جزء : 18 رقم الصفحة : 455
السؤال التاسع : ما حقيقة علم التعبير ؟
الجواب : القرآن والبرهان يدلان على صحته. أما القرآن فهو هذه الآية ، وأما البرهان فهو أنه قد ثبت أنه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك/ ومطالعة اللوح المحفوظ والمانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن وفي وقت النوم يقل هذا التشاغل فتقوى على هذه المطالعة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فالمعبر يستدل بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات العقلية فهذا كلام مجمل ، وتفصيله مذكور في "الكتب العقلية" ، والشريعة مؤكدة له روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "الرؤيا ثلاثة : رؤيا ما يحدث به الرجل نفسه ، ورؤيا تحدث من الشيطان ورؤيا التي هي الرؤيا الصادقة حقة" وهذا تقسيم صحيح في العلوم العقلية وقال عليه السلام : "رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".
جزء : 18 رقم الصفحة : 455
457
/ وفي الآية مسائل :
(1/2518)

المسألة الأولى : اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلا بد ههنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوهاً : الأول : أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب ، ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام ، فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه ، حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة. الثاني : لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه ، وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير ، ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين ، فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه ، وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقاً على كل الناس في علم التعبير كان أولى ، فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقاً في علم التعبير واصلاً فيه إلى ما لم يصل غيره ، والثالث : قال السدي : {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِه } في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره ، ولذلك قال : {إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِه } الرابع : لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله : فأورد عليهما ما دل على كونه رسولاً من عند الله تعالى ، فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا ، والخامس : لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر ، ولا يستوجب العقاب الشديد {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنا بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنا بَيِّنَةٍ } (الأنفال : 42) والسادس : قوله : {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِه إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِه } محمول على اليقظة ، والمعنى : أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو ، وأي لون هو ، وكم هو ، وكيف يكون عاقبته ؟
أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم ، وفيه وجه آخر ، قيل : كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً فأرسله إليه ، فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سماً أم لا ، هذا هو المراد من قوله : {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِه إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِه } وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب ، وهو يجري مجرى / قوله عيسى عليه السلام ، {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } (آل عمران : 49) فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقاً في علم التعبير ، والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبياً صادقاً من عند الله تعالى.
جزء : 18 رقم الصفحة : 457
فإن قيل : كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة ؟
قلنا : إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لا بد وأن يقال : إنه كان قد ذكره ، وأيضاً ففي قوله : {ذَالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى } وفي قوله : {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِي } ما يدل على ذلك.
ثم قال تعالى : {ذَالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى } أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم ، وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله.
ثم قال : {إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : في قوله : {إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة. فنقول جوابه من وجوه : الأول : أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه. والثاني : وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد ، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفاً منهم على سبيل التقية ، ثم إنه أظهره في هذا الوقت ، فكان هذا جارياً مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
المسألة الثانية : تكرير لفظ {هُمْ} في قوله : {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} لبيان اختصاصهم بالكفر ، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد.
واعلم أن قوله : {إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إشارة إلى علم المبدأ. وقوله : {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} إشارة إلى علم المعاد ، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد ، وإن ما وراء ذلك عبث.
ثم قال تعالى : {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ } وفيه سؤالات :
السؤال الأول : ما الفائدة في ذكر هذا الكلام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 457
(1/2519)

الجواب : أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة ، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله ، فإن الإنسان متى ادعى حرفة / أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه ، وأيضاً فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمراً مشهوراً في الدنيا ، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال ، فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل.
السؤال الثاني : لما كان نبياً فكيف قال : إني اتبعت ملة آبائي ، والنبي لا بد وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه.
قلنا : لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير ، وأيضاً لعله كان رسولاً من عند الله ، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام.
السؤال الثالث : لم قال : {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ } وحال كل المكلفين كذلك ؟
والجواب : ليس المراد بقوله : {مَا كَانَ لَنَآ} أنه حرم ذلك عليهم ، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر ، ونظيره قوله : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } (مريم : 35).
السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله : {مِن شَىْءٍ} .
الجواب : أن أصناف الشرك كثيرة ، فمنهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد النار ، ومنهم من يعبد الكواكب ، ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة ، فقوله : {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ } رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق ، وإرشاد إلى الدين الحق ، وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله.
ثم قال : {ذَالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} وفيه مسألة. وهي أنه قال : {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ } .
ثم قال : {ذَالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} فقوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك/ فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله. ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه ، وفي حق الناس. ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون ، ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان ، حكي أن واحداً من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر ، وقال : هل تشكر الله على الإيمان أم لا. فإن قلت : لا ، فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلاً له ، فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة ، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة ، فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلاً له ، فذلك باطل ، وصعب الكلام على بشر ، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال : إنا لا نشكر الله على الإيمان ، بل الله يشكرنا عليه كما قال : {فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (الإسراء : 19) فقال بشر : لما صعب الكلام سهل.
/
جزء : 18 رقم الصفحة : 457
واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية ، وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة ، وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة. قال القاضي قوله : {ذَالِكَ} إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب : أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق ، وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى ، والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل ، فكان هذا تركاً للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد ، لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك.
جزء : 18 رقم الصفحة : 457
460
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {يَشْكُرُونَ * يَـاصَـاحِبَىِ السِّجْنِ} يريد صاحبي في السجن ، ويحتمل أيضاً أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحباً فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب.
المسألة الثانية : اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنياً على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات ، ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناماً على صورة الأرواح الفلكية / ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان ، فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام ، فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعاً من الدلائل والحجج.
(1/2520)

الحجة الأولى : قوله : {مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا} وتقرير هذه الحجة أن نقول : إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل ، وكون الإله واحداً يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا : {مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا} والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار.
والحجة الثانية : أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة ، فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها ، ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار ، فقوله : {ءَأَرْبَابٌ} إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحداً وقوله : {مُّتَفَرِّقُونَ} إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر ، واللون والشكل ، وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله : {مُّتَفَرِّقُونَ} إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهاراً فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 460
والحجة الثالثة : أن كونه تعالى واحداً يوجب عبادته ، لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا ، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك ، وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما ، وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحداً ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو/ فهذا أيضاً وجه لطيف مستنبط من هذه الآية.
الحجة الرابعة : أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة ، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى.
/ الحجة الخامسة : وهي شريفة عالية ، وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهاراً لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكناً لكان مقهوراً لا قاهراً ويجب أن يكون واحداً ، إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهراً لكل ما سواه ، فالإله لا يكون قهاراً إلا إذا كان واجباً لذاته وكان واحداً ، وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئاً غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس. فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة ، وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان :
السؤال الأول : لم سماها أرباباً وليست كذلك.
والجواب : لاعتقادهم فيها أنها كذلك ، وأيضاً الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير : والمعنى أنها إن كانت أرباباً فهي خير أم الله الواحد القهار.
السؤال الثاني : هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار ؟
الجواب : أنه خرج على سبيل الفرض ، والمعنى : لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار.
ثم قال : {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِه إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } وفيه سؤال : وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية : {مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا} وذلك يدل على وجود هذه المسميات. ثم قال عقيب تلك الآية : {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِه إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ} وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض.
جزء : 18 رقم الصفحة : 460
(1/2521)

الجواب : أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل وبيانه من وجهين : الأول : أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية ، وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل ، الثاني : يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأثان ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية ، وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسماً كبيراً مستقراً على العرش ويعبدونه وهذا المتخيل غير موجود ألبتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء.
/ واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول : إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك ، فأجاب الله تعالى عنه ، فقال أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهاناً ولا دليلاً ولا سلطاناً ، وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له ، ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا أياه ، وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية/ ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء ، قال {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لا بد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة ، إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس ، ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة ، فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب ، ثم إنه تعالى إذا وفق إنساناً حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم ، فذلك الشخص يكون في غاية الندرة ، فلهذا قال : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 460
460
اعلم أنه عليه السلام لما قرر أمر التوحيد والنبوة عاد إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه ، والمعنى ظاهر ، وذلك لأن الساقي لما قص رؤياه على يوسف ، وقد ذكرنا كيف قص عليه قال له يوسف : ما أحسن ما رأيت أما حسن العنبة فهو حسن حالك ، وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن ، وقال للخباز : لما قص / عليه بئسما رأيت السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيصلبك وتأكل الطير من رأسك ، ثم نقل في التفسير أنهما قالا ما رأينا شيئاً فقال : {قُضِىَ الامْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} واختلف فيما لأجله قالا ما رأينا شيئاً فقيل إنهما وضعا هذا الكلام ليختبرا علمه بالتعبير مع أنهما ما رأيا شيئاً وقيل : إنهما لما كرها ذلك الجواب قالا ما رأينا شيئاً.
فإن قيل : هذا الجواب الذي ذكره يوسف عليه السلام ذكره بناء على الوحي من قبل الله تعالى أو بناء على علم التعبير ، والأول باطل لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نقل أنه إنما ذكره على سبيل التعبير ، وأيضاً قال تعالى : {وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّه نَاجٍ مِّنْهُمَا} (يوسف : 42) ولو كان ذلك التعبير مبنياً على الوحي لكان الحاصل منه القطع واليقين لا الظن والتخمين ، والثاني : أيضاً باطل لأن علم التعبير مبني على الظن والحسبان.
الجواب : لا يبعد أن يقال : إنهما لما سألاه عن ذلك المنام صدقا فيه أو كذبا فإن الله تعالى أوحى إليه أن عاقبة كل واحد منهما تكون على الوجه المخصوص ، فلما نزل الوحي بذلك الغيب عند ذلك السؤال وقع في الظن أنه ذكره على سبيل التعبير ، ولا يبعد أيضاً أن يقال : إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير ، وقوله : {قُضِىَ الامْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ما عنى به أن الذي ذكره واقع لا محالة بل عنى به أنه حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.
جزء : 18 رقم الصفحة : 460
463
فيه مسائل :
(1/2522)

المسألة الأولى : اختلفوا في أن الموصوف بالظن هو يوسف عليه السلام أو الناجي فعلى الأول كان المعنى وقال الرجل الذي ظن يوسف عليه السلام كونه ناجياً ، وعلى هذا القول وجهان : الأول : أن تحمل هذا الظن على العلم واليقين ، وهذا إذا قلنا بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الوحي. قال هذا القائل وورود لفظ الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن. قال تعالى : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة : 46) وقال : {إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ} (الحاقة : 20) والثاني : أن تحمل هذا الظن على حقيقة / الظن ، وهذا إذا قلنا إنه عليه السلام ذكر ذلك التعبير لا بناء على الوحي ، بل على الأصول المذكورة في ذلك العلم ، وهي لا تفيد إلا الظن والحسبان.
والقول الثاني : أن هذا الظن صفة الناجي ، فإن الرجلين السائلين ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف ورسالته ، ولكنهما كانا حسني الاعتقاد فيه ، فكان قوله لا يفيد في حقهما إلا مجرد الظن.
المسألة الثانية : قال يوسف عليه السلام لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} أي عند الملك. والمعنى : اذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه ، ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس ، فهذا هو المراد من الذكر.
ثم قال تعالى : {فَأَنْسَـاهُ الشَّيْطَـانُ ذِكْرَ رَبِّه } وفيه قولان : الأول : أنه راجع إلى يوسف ، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه ، وعلى هذا القول ففيه وجهان : أحدهما : أن تمسكه بغير الله كان مستدركاً عليه ، وتقريره من وجوه : الأول : أن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله ، وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام ، فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال : هل من حاجة ، فقال أما إليك فلا ، فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض ، وذلك التوحيد ، ودعاه إلى عرض الحاجة إلى المخلوقين ، ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين ، والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين ، وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سبباً لأمرين : أحدهما : أنه صار سبباً لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه ، الثاني : أنه صار سبباً لبقاء المحنة عليه مدة طويلة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 463
الوجه الثاني : أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان {مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا} ثم إنه ههنا أثبت رباً غيره حيث قال : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} ومعاذ الله أن يقال إنه حكم عليه بكونه رباً بمعنى كونه إلهاً ، بل حكم عليه بالربوبية كما يقال : رب الدار ، ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب.
الوجه الثالث : أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، وذلك نفي للشرك على الإطلاق ، وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى ، فههنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد.
واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين / فهذا وإن كان جائزاً لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب.
الوجه الثاني : في تأويل الآية أن يقال : هب أنه تمسك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك ، إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك.
القول الثاني : أن يقال إن قوله : {فَأَنْسَـاهُ الشَّيْطَـانُ ذِكْرَ رَبِّه } راجع إلى الناجي والمعنى : أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر {فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} بهذا السبب ، ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال : "رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن" وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله ، وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه : ما حاجتك قال : أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف ، وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال : طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي.
(1/2523)

قال مصنف الكتاب فخر الدين الرازي رحمه الله ، والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة ، والشدة والرزية ، وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين ، فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه ومن الناس من رجح القول الثاني لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل أولى من صرفها إلى يوسف الصديق ، ولأن الاستعانة بالعباد في التخلص من الظلم جائزة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 463
واعلم أن الحق هو القول الأول وما ذكره هذا القائل الثاني تمسك بظاهر الشريعة وما قرره القائل الأول تمسك بأسرار الحقيقة ومكارم الشريعة ، ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه ، وأيضاً ففي لفظ الآية ما يدل على أن هذا القول ضعيف ، لأنه لو كان المراد ذلك لقال فأنساه الشيطان ذكره لربه.
المسألة الثالثة : الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة لا إنكار عليه إلا أنه لما كان ذلك مستدركاً من المحققين المتوغلين في بحار العبودية لا جرم صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً / به ، وعند هذا نقول : الذي يصير مؤاخذاً بهذا القدر لأن يصير مؤاخذاً بالإقدام على طلب الزنا ومكافأة الإحسان بالإساءة كان أولى فلما رأينا الله تعالى آخذه بهذا القدر ، ولم يؤاخذه في تلك القضية ألبتة ، وما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء علمنا أنه عليه السلام كان مبرأ مما نسبه الجهال والحشوية إليه.
المسألة الرابعة : الشيطان يمكنه إلقاء الوسوسة ، وأما النسيان فلا ، لأنه عبارة عن إزالة العلم عن القلب ، والشيطان لا قدرة له عليه ، وإلا لكان قد أزال معرفة الله تعالى عن قلوب بني آدم.
وجوابه : أنه يمكنه من حيث إنه بوسوسته يدعو إلى سائر الأعمال واشتغال الإنسان بسائر الأعمال يمنعه عن استحضار ذلك العلم وتلك المعرفة.
المسألة الخامسة : قوله : {فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} فيه بحثان :
البحث الأول : بحسب اللغة قال الزجاج : اشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت ومعناه القطعة من العدد قال الفراء : ولا يذكر البضع إلا مع عشرة أو عشرين إلى التسعين وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعة ، وقال هكذا رأيت العرب يقولون وما رأيتهم يقولون بضع ومائة ، وروى الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه : "كم البضع" قالوا الله ورسوله أعلم قال : "ما دون العشرة" واتفق الأكثرون على أن المراد ههنا ببضع سنين ، سبع سنين قالوا : إن يوسف عليه السلام حين قال لذلك الرجل : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} كان قد بقي في السجن خمس سنين ثم بقي بعد ذلك سبع سنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما تضرع يوسف عليه السلام إلى ذلك الرجل كان قد اقترب وقت خروجه فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنين ، وروي أن الحسن روى قوله صلوات الله عليه وسلامه : "رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها لما لبث في السجن هذه المدة الطويلة" ثم بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا أمر تضرعنا إلى الناس.
جزء : 18 رقم الصفحة : 463
464
اعلم أنه تعالى إذا أراد شيئاً هيأ له أسباباً ، ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها ، وسبعاً أخر يابسات ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكمنة وذكرها لهم وهو المراد من قوله : {يَابِسَـاتٍا يَـا أَيُّهَا الْمَلا أَفْتُونِى فِى رُءْيَـاىَ} فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر على تأويلها وتعبيرها ، فهذا ظاهر الكلام وفيه مسائل :
(1/2524)

المسألة الأولى : قال الليث : العجف ذهاب السمن والفعل عجف يعجف والذكر أعجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف في الذكران والإناث. وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعاً على فعال غير أعجف وعجاف وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا : سمان وعجاف لأنهما نقيضان ومن دأبهم حمل النظير على النظير ، والنقيض على النقيض ، واللام في قوله : {لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} على قول البعض زائدة لتقدم المفعول على الفعل ، وقال صاحب "الكشاف" : يجوز أن تكون الرؤيا خبر كان كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبراً آخر أو حالاً ، ويقال عبرت الرؤيا أعبرها وعبرتها تعبيراً إذا فسرتها ، وحكى الأزهري أن هذا مأخوذ من العبر ، وهو جانب النهر ومعنى عبرت النهر ، والطريق قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا عابر ، لأنه يتأمل جانبي الرؤيا فيتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر ، والأضغاث جمع الضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش بشرط أن يكون مما قام على ساق واستطال قال تعالى : {وَخُذْ بِيَدِكَ} (ص : 44).
إذا عرفت هذا فنقول : الرؤيا إن كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة كانت شبيهة بالضغث.
المسألة الثانية : أنه تعالى جعل تلك الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام من السجن ، وذلك لأن الملك لما قلق واضطرب بسببه ، لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل القوي فشهدت فطرته بأن هذا ليس بجيد وأنه منذر بنوع من أنواع الشر ، إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه والشيء إذا صار معلوماً من وجه وبقي مجهولاً من وجه آخر عظم تشوف الناس إلى تكميل تلك المعرفة وقويت الرغبة في إتمام الناقص لا سيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة ، وكان ذلك الشيء دالاً على الشر من بعض الوجوه فبهذا الطريق قوى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتعبير هذه الرؤيا ، ثم إنه تعالى أعجز المعبرين اللذين حضروا عند ذلك الملك عن جواب هذه المسألة وعماه عليهم ليصير ذلك سبباً لخلاص يوسف من تلك المحنة.
/
جزء : 18 رقم الصفحة : 464
واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير ، بل قالوا : إن علم التعبير على قسمين منه ما تكون الرؤيا فيه منتسقة منتظمة فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ومنه ما تكون فيه مختلطة مضطربة ولا يكون فيها ترتيب معلوم وهو المسمى بالأضغاث والقوم قالوا إن رؤيا الملك من قسم الأضغاث ثم أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم وكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة وما كان كذلك فنحن لا نهتدي إليها ولا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل في هذا العلم والمتبحر فيه قد يهتدي إليها/ فعند هذه المقالة تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف فإنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 464
465
اعلم أن الملك لما سأل الملأ عن الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب قال الشرابي إن في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب. فهذا هو قوله : {بِعَـالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا} .
وأما قوله : {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} فنقول : سيجيء اذكر في تفسير قوله تعالى : {مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر : 51) في سورة القمر قال صاحب "الكشاف" {وَادَّكَرَ} بالدال هو الفصيح عن الحسن {وَاذْكُرْ} بالذال أي تذكر ، وأما الأمة ففيه وجوه : الأول : {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين ، وذلك لأن الحين إنما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم فالحين كان أمة من الأيام والساعات والثاني : قرأ الأشهب العقيلي {بَعْدَ أُمَّةٍ} بكسر الهمزة والإمة النعمة قال عدي :
ثم بعد الفلاح والملك والإمة وارتهم هناك القبور
/ والمعنى : بعدما أنعم عليه بالنجاة. الثالث : قرىء {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والصحيح أنها بفتح الميم وذكره أبو عبيدة بسكون الميم ، وحاصل الكلام أنه إما أن يكون المراد وادكر بعد مضي الأوقات الكثيرة من الوقت الذي أوصاه يوسف عليه السلام بذكره عند الملك ، والمراد وادكر بعد وجدان النعمة عند ذلك الملك أو المراد وادكر بعد النسيان.
فإن قيل : قوله : {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} يدل على أن الناسي هو الشرابي وأنتم تقولون الناسي هو يوسف عليه السلام.
(1/2525)

قلنا : قال ابن الأنباري : اذكر بمعنى ذكر وأخبر وهذا لا يدل على سبق النسيان فلعل الساقي إنما لم يذكره للملك خوفاً من أن يكون ذلك اذكاراً لذنبه الذي من أجله حبسه فيزداد الشر ويحتمل أيضاً أن يقال : حصل النسيان ليوسف عليه السلام وحصل أيضاً لذلك الشرابي. وأما قوله : {فَأَرْسِلُونِ} خطاب إما للملك والجمع أو للملك وحده على سبيل التعظيم ، أما قوله : {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} ففيه محذوف ، والتقدير : فأرسل وأتاه وقال أيها الصديق ، والصديق هو البالغ في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه لم يجرب عليه كذباً وقيل : لأنه صدق في تعبير رؤياه وهذا يدل على أن من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه ، وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال ثم إنه أعاد السؤال بعين اللفظ الذي ذكره الملك ونعم ما فعل ، فإن تعبير الرؤيا قد يختلف بسبب اختلاف اللفظ كما هو مذكور في ذلك العلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 465
أما قوله تعالى : {لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} فالمراد لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لعلهم يعلمون فضلك وعلمك وإنما قال لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لأنه رأى عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضاً عنها ، فلهذا السبب قال : {لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 465
466
اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال : {تَزْرَعُونَ} وهو خبر بمعنى الأمر ، كقوله : {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (البقرة : 228) {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} (البقرة : 233) وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر ، ويخرج الأمر في صورة الخير للمبالغة في الإيجاب ، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه والدليل على كونه في معنى الأمر قوله : {فَذَرُوهُ فِى سُنابُلِه } وقوله : {دَأَبًا} قال أهل اللغة : الدأب استمرار الشيء على حالة واحدة وهو دائب بفعل كذا إذا استمر في فعله ، وقد دأب يدأب دأباً ودأباً أي زراعة متوالية في هذه السنين. قال أبو علي الفارسي : الأكثرون في دأب الإسكان ولعل الفتحة لغة ، فيكون كشمع وشمع ، ونهر ونهر. قال الزجاج : وانتصب دأباً على معنى تدأبون دأباً. وقيل : إنه مصدر وضع في موضع الحال ، وتقديره تزرعون دائبين فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون كل ما أردتم أكله فدوسوه ودعوا الباقي في سنبله حتى لا يفسد ولا يقع السوس فيه ، لأن إبقاء الحبة في سنبله يوجب بقاءها على الصلاح {ثُمَّ يَأْتِى مِنا بَعْدِ ذَالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} أي سبع سنين مجدبات ، والشداد الصعاب التي تشتد على الناس ، وقوله : {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} هذا مجاز ، فإن السنة لا تأكل فيجعل أكل أهل تلك السنين مسنداً إلى السنين. وقوله : {إِلا قَلِيلا مِّمَّا تُحْصِنُونَ} الإحصان الإحراز ، وهو إلقاء الشيء في الحصن يقال أحصنه إحصاناً إذا جعله في حرز ، والمراد إلا قليلاً مما تحرزون أي تدخرون وكلها ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما ، وقوله : {ثُمَّ يَأْتِى مِنا بَعْدِ ذَالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} قال المفسرون السبعة المتقدمة سنو الخصب وكثرة النعم والسبعة الثانية سنو القحط والقلة وهي معلومة من الرؤيا ، وأما حال هذه السنة فما حصل في ذلك المنام شيء يدل عليه بل حصل ذلك من الوحي فكأنه عليه السلام ذكر أنه يحصل بعد السبعة المخصبة والسبعة المجدبة سنة مباركة كثيرة الخير والنعم ، وعن قتادة زاده الله علم سنة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 466
فإن قيل : لما كانت العجاف سبعاً دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد ، ومن المعلوم أن الحاصل بعد انقضاء القحط هو الخصب وكان هذا أيضاً من مدلولات المنام ، فلم قلتم إنه حصل بالوحي والإلهام ؟
قلنا : هب أن تبدل القحط بالخصب معلوم من المنام ، أما تفصيل الحال فيه ، وهو قوله : {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} لا يعلم إلا بالوحي ، قال ابن السكيت يقال : غاث الله البلاد يغيثها غيثاً إذا أنزل فيها الغيث وقد غيثت الأرض تغاث ، وقوله : {يُغَاثُ النَّاسُ} معناه يمطرون ، ويجوز أن / يكون من قولهم : أغاثه الله إذا أنقذه من كرب أو غم ، ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب ، وقوله : {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي يعصرون السمسم دهناً والعنب خمراً والزيتون زيتاً ، وهذا يدل على ذهاب الجدب وحصول الخصب والخير ، وقيل : يحلبون الضروع ، وقرىء {يَعْصِرُونَ} من عصره إذا نجاه ، وقيل : معناه يمطرون من أعصرت السحابة إذا عصرت بالمطر ، ومنه قوله : {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجًا} (النبأ : 14).
جزء : 18 رقم الصفحة : 466
469
(1/2526)

اعلم أنه لما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه الملك فقال : ائتوني به ، وهذا يدل على فضيلة العلم ، فإنه سبحانه جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية ، فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية ، فعاد الشرابي إلى يوسف عليه السلام قال أجب الملك ، فأبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن ينكشف أمره وتزول التهمة بالكلية عنه. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوا لي ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال : {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم إلى الباب ؛ ولما ابتغيت العذر أنه كان حليماً ذا أناة".
/ واعلم أن الذي فعله يوسف من الصبر والتوقف إلى أن تفحص الملك عن حاله هو اللائق بالحزم والعقل ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه لو خرج في الحال فربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثرها ، فلما التمس من الملك أن يتفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوسل بها إلى الطعن فيه. الثاني : أن الإنسان الذي بقي في السجن اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه الظاهر أنه يبادر بالخروج ، فحيث لم يخرج عرف منه كونه في نهاية العقل والصبر والثبات ، وذلك يصير سبباً لأن يعتقد فيه بالبراءة عن جميع أنواع التهم ، ولأن يحكم بأن كل ما قيل فيه كان كذباً وبهتاناً. الثالث : أن التماسه من الملك أن يتفحص عن حاله من تلك النسوة يدل أيضاً على شدة طهارته إذ لو كان ملوثاً بوجه ما ، لكان خائفاً أن يذكر ما سبق. الرابع : أنه حين قال للشرابي : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن بضع سنين وههنا طلبه الملك فلم يلتفت إليه ولم يقم لطلبه وزناً ، واشتغل بإظهار براءته عن التهمة ، ولعله كان غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله ، وكان هذا العمل جارياً مجرى التلافي لما صدر من التوسل إليه في قوله : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} ليظهر أيضاً هذا المعنى لذلك الشرابي ، فإنه هو الذي كان واسطة في الحالتين معاً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 469
أما قوله : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِه ا فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير والكسائي بغير همز والباقون {رَبِّكَ فَسْـاَلْهُ} بالهمز ، وقرأ عاصم برواية أبي بكر عنه {النِّسْوَةِ} بضم النون والباقون بكسر النون ، وهما لغتان.
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية فيها أنواع من اللطائف : أولها : أن معنى الآية : فسل الملك يأن يسأل ما شأن تلك النسوة وما حالهن ليعلم براتي عن تلك التهمة ، إلا أنه اقتصر على أن يسأل الملك عن تلك الواقعة لئلا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل وثانيها : أنه لم يذكر سيدته مع أنها هي التي سعت في إلقائه في السجن الطويل ، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة. وثالثها : أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عمل قبيح وفعل شنيع عند الملك ، فاقتصر يوسف عليه السلام على مجرد قوله : {مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّـاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وما شكا منهن على سبيل التعيين والتفصيل. ثم قال يوسف بعد ذلك : {إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} وفي المراد من قوله : {إِنَّ رَبِّى} وجهان : الأول : أنه هو الله تعالى ، لأنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور. والثاني : أن المراد الملك وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً وله وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهن ومكرهن.
(1/2527)

واعلم أن كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً : أحدها : أن كل واحدة منهن ربما طمعت فيه ، / فلما لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه وتنسبه إلى القبيح. وثانيها : لعل كل واحدة منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقة سيدته على مرادها ، ويوسف علم أن مثل هذه الخيانة في حق السيد المنعم لا تجوز ، فأشار بقوله : {إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} إلى مبالغتهن في الترغيب في تلك الخيانة. وثالثها : أنه استخرج منهن وجوهاً من المكر والحيل في تقبيح صورة يوسف عليه السلام عند الملك فكان المراد من هذا اللفظ ذاك ، ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك ، أمر الملك بإحضارهن وقال لهن : {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِه } وفيه وجهان : الأول : أن قوله : {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِه } وإن كانت صيغة الجمع ، فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آل عمران : 173) والثاني : أن المراد منه خطاب الجماعة. ثم ههنا وجهان : الأول : أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها. والثاني : أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه ، وعند هذا السؤال {قُلْنَ حَـاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُواءٍ } وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن : {مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 469
واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة ، وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت : {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِه ا قُلْنَ حَـاشَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن بوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهراً عن جميع العيوب ، وههنا دقيقة ، وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال : {مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّـاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة ألبتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عليها ، فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل ، ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر ، فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة ، فقال الزوج : لا حاجة إلى ذلك ، فإني مقر بصدقها في دعواها ، فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك.
المسألة الثانية : قال أهل اللغة : {حَصْحَصَ الْحَقُّ} معناه : وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم : حصحص البعير في بروكه ، إذا تمكن واستقر في الأرض. قال الزجاج : اشتقاقه في اللغة من الحصة ، أي بانت حصة الحق من حصة الباطل.
/ المسألة الثالثة : اختلفوا في أن قوله : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} كلام من ؟
وفيه أقوال :
القول الأول : وهو قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام. قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى : {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } (النمل : 34) وهذا كلام بلقيس. ثم إنه تعالى قال : {وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ} وأيضاً قوله تعالى : {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيه } (آل عمران : 9) كلام الداعي.
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} بقي على هذا القول سؤالات :
جزء : 18 رقم الصفحة : 469
السؤال الأول : قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى الغائب ، والمراد ههنا : الإشارة إلى تلك الحادثة الحاضرة.
والجواب : أجبنا عنه في قوله : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ} (البقرة : 2) وقيل : ذلك إشارة إلى ما فعله من رد الرسول كأنه يقول ذلك الذي فعلت من ردي الرسول إنما كان ، ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب.
السؤال الثاني : متى قال يوسف عليه السلام هذا القول ؟
الجواب : روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال ذلك ليعلم وإنما ذكره على لفظ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب والأولى أنه عليه السلام إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه لأن ذكر هذا الكلام في حضرة الملك سوء أدب.
السؤال الثالث : هذه الخيانة وقعت في حق العزيز فكيف يقول : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} .
(1/2528)

والجواب : قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة ، وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه ، وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله : {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى كَيْدَ الْخَآاـاِنِينَ} ولعل المراد منه أني لو كنت خائناً لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة ، وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه.
والقول الثاني : أن قوله : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} كلام امرأة العزيز والمعنى : أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته ، أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف الحق. ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول ، وقالت : {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى كَيْدَ الْخَآاـاِنِينَ} يعني أني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئاً عن الذنب لا جرم طهره الله تعالى عنه. قال صاحب هذا القول : والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها : {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِه ا قُلْنَ حَـاشَ} ففي تلك الحالة يقول يوسف : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية ، ثم إن يوسف يقول ابتداء {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 469
المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة : الأول : أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهماً بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة ، لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعياً منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك/ وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلاً ، والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه. والثاني : أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن : {حَـاشَ لِلَّهِ مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف : 31) وفي المرة الثانية حيث قلن : {حَـاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُواءٍ } والثالث : أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت : {وَلَقَدْ رَاوَدتُّه عَن نَّفْسِه فَاسْتَعْصَمَ } (يوسف : 32) وفي المرة الثانية في هذه الآية.
واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه : أولها : قول المرأة : {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِه } وثانيها : قولها : {وَإِنَّه لَمِنَ الصَّـادِقِينَ} وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله : {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } (يوسف : 26) وثالثها : قول يوسف عليه السلام : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال جبريل عليه السلام ، ولا حين هممت ، وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن. ورابعها : قوله : {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى كَيْدَ الْخَآاـاِنِينَ} يعني أن صاحب الخيانة لا بد وأن يفتضح ، فلو كنت خائناً لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني الله تعالى من هذه الورطة ، فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين ، وههنا وجه آخر وهو أقوى من الكل ، وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة ، وتلك المحنة صارت منتهية ، فإقدامه على قوله : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة ، وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما ، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء ، فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء ، وقدوة الأصفياء ؟
فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على / براءته مما يقوله الجهال والحشوية.
جزء : 18 رقم الصفحة : 469
471
وفي الآية مسائل :
(1/2529)

المسألة الأولى : اعلم أن تفسير هذه الآية يختلف بحسب اختلاف ما قبلها لأنا إن قلنا إن قوله : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (يوسف : 52) كلام يوسف كان هذا أيضاً من كلام يوسف ، وإن قلنا إن ذلك من تمام كلام المرأة كان هذا أيضاً كذلك ونحن نفسر هذه الآية على كلا التقديرين ، أما إذا قلنا إن هذا كلام يوسف عليه السلام فالحشوية تمسكوا به وقالوا : إنه عليه السلام لما قال : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت بفك سراويلك فعند ذلك قال يوسف : {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى ا إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة بِالسُّواءِ} أي بالزنا {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى } أي عصم ربي {إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ} للهم الذي هممت به {رَّحِيمٌ} أي لو فعلته لتاب علي.
واعلم أن هذا الكلام ضعيف فإنا بينا أن الآية المتقدمة برهان قاطع على براءته عن الذنب بقي أن يقال : فما جوابكم عن هذه الآية فنقول فيه وجهان :
الوجه الأول : أنه عليه السلام لما قال : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} كان ذلك جارياً مجرى مدح النفس وتزكيتها ، وقال تعالى : {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } (النجم : 32) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله : {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى } والمعنى : وما أزكي نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية.
والوجه الثاني : في الجواب أن الآية لا تدل ألبتة على شيء مما ذكروه وذلك لأن يوسف عليه السلام لما قال : {أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} بين أن ترك الخيانة ما كان لعدم الرغبة ولعدم ميل النفس والطبيعة ، لأن النفس أمارة بالسوء والطبيعة تواقة إلى الذات فبين بهذا الكلام أن الترك ما كان لعدم الرغبة ، بل لقيام الخوف من الله تعالى. أما إذا قلنا : إن هذا الكلام من بقية كلام المرأة ففيه وجهان : الأول : وما أبرىء نفسي عن مراودته ومقصودها تصديق يوسف عليه السلام في قوله : {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } الثاني : أنها لما قالت : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (يوسف : 52) قالت وما أبرىء نفسي عن الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قد أحلت الذنب عليه وقلت : {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُواءًا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (يوسف : 25) وأودعته السجن كأنها أرادت الاعتذار مما كان.
جزء : 18 رقم الصفحة : 471
فإن قيل جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف أولى أم جعله كلاماً للمرأة ؟
قلنا : جعله كلاماً ليوسف مشكل ، لأن قوله : {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الَْاـانَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} (يوسف : 51) كلام موصول بعضه ببعض إلى آخره ، فالقول بأن بعضه كلام المرأة والبعض كلام يوسف مع تخلل الفواصل الكثيرة بين القولين وبين المجلسين بعيد ، وأيضاً جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً ، لأن قوله : {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى ا إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة بِالسُّواءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى } كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي ، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النفس ، وذلك لا يليق بالمرأة التي استفرغت جهدها في المعصية.
المسألة الثانية : قالوا : {مَآ} في قوله : {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى } بمعنى "من" والتقدير : إلا من رحم ربي ، وما ومن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر كقوله تعالى : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 3) وقال : {وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى ا أَرْبَعٍ } (النور : 45) وقوله : {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى } استثناء متصل أو منقطع ، فيه وجهان : الأول : أنه متصل ، وفي تقريره وجهان : الأول : أن يكون قوله : {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى } أي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة. الثاني : إلا ما رحم ربي أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت العصمة.
والقول الثاني : أنه استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله : {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة : 48) {إِلا رَحْمَةً مِّنَّا} (يس : 44).
(1/2530)

المسألة الثالثة : اختلف الحكماء في أن النفس الإمارة بالسوء ما هي ؟
والمحققون قالوا إن النفس الإنسانية شيء واحد ، ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفساً مطمئنة ، وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء ، وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها ، فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه ، فذلك لا يحصل إلا نادراً في حق الواحد ، فالواحد وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادراً لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء ، ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية ، وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية ، والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات.
جزء : 18 رقم الصفحة : 471
المسألة الرابعة : تمسك أصحابنا في أن الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله بقوله : / {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى } قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته ؛ ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف. فنقول : لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر ، وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضاً بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 471
474
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال : هو العزيز ، ومنهم من قال : بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر ، وهذا هو الأظهر لوجهين : الأول : أن قول يوسف : {اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآاـاِنِ الارْضِ } يدل عليه. الثاني : أن قوله : {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له ، وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز ، فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر.
المسألة الثانية : ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال : "قل اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب" فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن ، وتقرير الكلام : أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه : أحدها : أنه عظم اعتقاده في علمه ، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه ، وثانيها : أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته ، وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولاً ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم ، وثالثها : أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه ، وذلك لأنه اقتصر على قوله : {مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّـاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } (يوسف : 50) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها ، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء / وهذا من الأدب العجيب. ورابعها : براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم. وخامسها : أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوافي السجن. وسادسها : أنه بقي في السجن بضع سنين ، وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان ، فكيف مجموعها ، فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئاً جمع أسبابه وقواها.
إذا عرفت هذا فنقول : لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال : {ائْتُونِى بِه أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفاً من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ، ولما دخل عليه قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به.
جزء : 18 رقم الصفحة : 474
(1/2531)

روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام ، أما ترى أن آكل معك ، وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام ، ثم قال : {فَلَمَّا كَلَّمَه } وفيه قولان : أحدهما : أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدىء بالكلام وإنما الذي يبتدىء به هو الملك ، والثاني : أن المراد : فلما كلم يوسف الملك قيل : لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة/ فلما رآه الملك حدثاً شاباً قال للشرابي : هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ماعلموها قال نعم ، فأقبل على يوسف وقال : إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاهاً ، فأجاب بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته ، فعند ذلك قال له : {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} يقال : فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة ، وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد. وقوله : {أَمِينٌ} أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه.
واعلم أن قوله : {مَكِينٌ أَمِينٌ} كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب ، وذلك لأنه لا بد في كونه مكيناً من القدرة والعلم. أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة. وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي / بالفعل ، وتخصيص ما لا ينبغي بالترك ، فثبت أن كونه مكيناً لا يحصل إلا بالقدرة والعلم. أما كونه أميناً فهو عبارة عن كونه حكيماً لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة ، فثبت أن كونه مكيناً أميناً يدل على كونه قادراً ، وعلى كونه عالماً بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد ، وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة ، وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا : وإنما يكون غنياً عن القبيح إذا كان قادراً ، وإذا كان منزهاً عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكيناً أميناً نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام {اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآاـاِنِ الارْضِا إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وفيه مسائل :
جزء : 18 رقم الصفحة : 474
المسألة الأولى : قال المفسرون : لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك : فما ترى أيها الصديق قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف : {اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآاـاِنِ الارْضِ } أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض ، والمراد منه المعهود السابق. روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية أنه قال : "رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة" وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل الله عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى.
(1/2532)

المسألة الثانية : لقائل أن يقول : لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة : "لا تسأل الإمارة" وأيضاً فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر ، وأيضاً لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الأمارة في الحالة ، وأيضاً لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر ، مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضاً كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله : {إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} مع أنه تعالى يقول : {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } (النجم : 32) وأيضاً فما الفائدة في قوله : {إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وأيضاً لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول : إني حفيظ عليم إن شاء الله بدليل قوله تعالى : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الكهف : 23 ، 24) فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول : الأصل في جواب هذه / المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه ، فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان ، إنما قلنا : إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه : الأول : أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق ، والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان ، والثاني : وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم ، فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق ، والثالث : أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول.
جزء : 18 رقم الصفحة : 474
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه عليه السلام كان مكلفاً برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه ، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق ، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، فكان هذا الطريق واجباً عليه ولما كان واجباً سقطت الأسئلة بالكلية ، وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي : كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة ، وأقول : لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء ، وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه : الأول : لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفاً بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب ، وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر ، ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل ، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى : {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } (النجم : 32) المراد منه تزكية النفس حال مايعلم كونها غير متزكية ، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } أما إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه والله أعلم.
قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم ؟
قلنا : إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال ، عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها ، ويقال : حفيظ بجميع مصالح الناس ، عليم بجهات حاجاتهم أو يقال : حفيظ لوجوه أياديك وكرمك ، عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده.
جزء : 18 رقم الصفحة : 474
476
/ فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال : قد فعلت ، بل الله سبحانه قال : {وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ} فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره : قال الملك قد فعلت ، إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل. وأقول : ما قالوه حسن ، إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر وأما المؤثر الحقيقي : فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض ، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكناً من القبول ومن الرد ، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي ، وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول ، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك ، وذلك الترجح لا يكون إلا بمرجح يخلقه الله تعالى ، إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة ، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر ، فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي ، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو.
(1/2533)

المسألة الثانية : روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت ، فقال يوسف عليه السلام : أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي ، وجلس على السرير ودانت له القوم ، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت ، فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء ، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية / ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا والله ما رأينا ملكاً أعظم شأناً من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيداً له فلما سمع ذلك قال إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم ، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب "الكشاف" والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 476
المسألة الثالثة : قوله : {وَكَذالِكَ} الكاف منصوبة بالتمكين ، وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس ، وقوله : {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ} أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله : {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير : {نَّشَآءُ } بالنون مضافاً إلى الله تعالى والباقون بالياء مضافاً إلى يوسف.
واعلم أن قوله : {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد ، ولا ينازعه منازع بل صار مستقلاً بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال : {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ } .
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله : {وَكَذَالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ} ثم أكد ذلك ثانياً بقوله : {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ } وفيه فائدتان :
الفائدة الأولى : أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى. قال القاضي : تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى.
وجوابه : أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى ، لأن لفظ القرآن يدل على قولنا ، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا ، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه.
الفائدة الثانية : أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة. قال القاضي : هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح.
قلنا : الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح ، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه.
ثم قال تعالى : {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى ، فكانت الإضاعة ممتنعة.
واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول / بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال : إنه كان من المحسنين ، فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق.
جزء : 18 رقم الصفحة : 476
ثم قال تعالى : {وَلاجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأول : في تفسير هذه الآية قولان :
القول الأول : المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً ، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعاً خالصاً دائماً مقروناً بالتعظيم ، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا.
القول الثاني : أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال : الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال : الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله.
إذا ثبت هذا فقوله : {وَلاجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً ، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضاً خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير ، وأما ما سواه فعبث.
(1/2534)

المسألة الثانية : لا شك أن المراد من قوله : {وَلاجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهذا تنصيص من الله عز وجل. على أنه كان في الزمان السابق من المتقين ، وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِه ا وَهَمَّ بِهَا} (يوسف : 24) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين ، وأيضاً قوله : {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين ، وقوله : {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين/ والجاهل الحشوي يقول : إنه كان من الأخسرين المذنبين ، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين.
/
جزء : 18 رقم الصفحة : 476
المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله تعالى : {وَلاجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يدل على بطلان قول المرجئة : الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر.
قلنا : هذا ضعيف ، لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلاً ، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية ، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير.
جزء : 18 رقم الصفحة : 476
478
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد ، ووصل أيضاً إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلاً صالحاً يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب {لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (يوسف : 15) وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه ألبتة ، أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله : {لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ} بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه ، وأيضاً الرؤيا التي رآها كانت دليلاً على أنهم يصلون إليه ، فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصداً لذلك الأمر ، وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة / يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصاً ظهر له أنهم إخوته ، وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه : الأول : أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف ، وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان. والثاني : هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً. ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية ، وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالساً على سريره ، وعليه ثياب الحرير ، وفي عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج من ذهب ، والقوم أيضاً نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة. فيقال : إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة ، وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة ، لا سيما عند اجتماعها ، والثالث : أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى ، فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقاً لما أخبره عنه بقوله : {لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 478
ثم قال تعالى : {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} قال الليث : جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازهم للسفر ، وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه. قال : وسمعت أهل البصرة يقولون : الجهاز بالكسر. قال الأزهري : القراء كلهم على فتح الجيم ، والكسر لغة ليست بجيدة ، قال المفسرون : حمل لكل رجل منهم بعيراً وأكرمهم أيضاً بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر ، فذلك قوله : {جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال : {ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ } .
واعلم أنه لا بد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سبباً لسؤال يوسف عن حال أخيهم ، وذكروا فيه وجوهاً :
(1/2535)

الوجه الأول : وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص ، وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة ، فأعطاهم عشرة أحمال/ فقالوا : إن لنا أباً شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه ، وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر ، وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضاً من شيء من الطعام فجهز لهما أيضاً بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم ، وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل ، وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب.
/ والوجه الثاني : أنهم لما دخلوا عليه ، عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم : من أنتم ؟
قالوا : نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال : لعلكم جئتم عيوناً فقالوا معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال : كم أنتم قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك ، ونحن عشرة وقد جئناك قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده.
والوجه الثالث : لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف : فلم تركتموه وحيداً فريداً ؟
قالوا : ما تركناه وحيداً ، بل بقي عنده واحد. فقال لهم : لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده ؟
فقالوا : لا. بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة ، ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائداً عليكم في الفضل ، وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به ، والسبب الثاني : ذكره المفسرون ، والأول والثالث محتمل والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 478
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال : {أَلا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ} أي أتمه ولا أبخسه ، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم ، وأنا خير المنزلين ، أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم. وأقول : هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين ، لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ، ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم : {أَلا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون ، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة ، لأن البهتان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال : {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِه فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلا تَقْرَبُونِ} .
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب. أما الترغيب : فهو قوله : {أَلا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} وأما الترهيب : فهو قوله : {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِه فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلا تَقْرَبُونِ} وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام ، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده ، فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف ، ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا : {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَـاعِلُونَ} أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده ، وإنا لفاعلون هذه المراودة ، والغرض من التكرير / التأكيد ، ويحتمل أن يكون {وَإِنَّا لَفَـاعِلُونَ} أن نجيئك به ، ويحتمل {وَإِنَّا لَفَـاعِلُونَ} كل ما في وسعنا من هذا الباب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 478
480
في الآية مسائل :
المسائل الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون بالتاء من غير ألف ، وهما لغتان كالصبيان والصبية ، والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير ، فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال : {لِفِتْيَـانِهِ اجْعَلُوا بِضَـاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ} والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين.
(1/2536)

المسألة الثانية : اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به ، وهو ضعيف لأن قوله : {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ} يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه : الأول : أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه ، علموا أن ذلك كان كرماً من يوسف وسخاء محضاً فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته. الثاني : خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى / الثالث : أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان القحط. الرابع : رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم. الخامس : قال الفراء : إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه ، أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه. السادس : أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة. السابع : مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن. الثامن : أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. التاسع : أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان ، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق ، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم. العاشر : أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 480
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا : {قَالُوا يَـا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} وفيه قولان : الأول : أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه ، فقولهم : {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} إشارة إليه. والثاني : أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف : {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِه فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} (يوسف : 60) والدليل على أن المراد ذلك قولهم : {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ} قرأ حمزة والكسائي : بالياء ، والباقون بالنون ، والقراءة الأولى تقوى القول الأول ، والقراءة الثانية تقوي القول الثاني. ثم قالوا : {وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} ضمنوا كونهم حافظين له ، فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام : {هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى ا أَخِيهِ مِن قَبْلُ } والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم : {وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} (يوسف : 12) ثم ههنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون ههنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل ههنا.
ثم قال : {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} قرأ حمزة والكسائي {حَـافِظًا } بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظاً كقولهم : هو خيرهم رجلاً ولله دره فارساً ، وقيل : على الحال والباقون : {حَـافِظًا } بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظاً يعني حفظ الله لبنيامين خير من حفظكم ، وقرأ الأعمش {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا } وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه {خَيْرٌ حَـافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} وقيل : معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على الله في حفظ بنيامين.
فإن قيل : لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد.
/ قلنا : لوجوه : أحدها : أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح ، وثانيها : أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام ، وثالثها : أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك ، ورابعها : لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 480
فإن قيل : هل يدل قوله : {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا } على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت.
قلنا : الأكثرون قالوا : يدل عليه. وقال آخرون : لا يدل عليه ، وفيه وجهان : الأول : التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ الله لا في حفظهم. الثاني : أنه لما ذكر يوسف قال : {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا } أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي.
جزء : 18 رقم الصفحة : 480
481
اعلم أن المتاع ما يصلح لأن يستمتع به وهو عام في كل شيء ، ويجوز أن يراد به ههنا الطعام الذي حملوه ، ويجوز أن يراد به أوعية الطعام.
ثم قال : {وَجَدُوا بِضَـاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } واختلف القراء في {رُدَّتْ} فالأكثرون بضم الراء ، وقرأ علقمة بكسر الراء. قال صاحب "الكشاف" : كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء كما في قيل وبيع. وحكى قطرب أنهم قالوا في قولنا : ضرب زيد على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد. وأما قوله : {مَا نَبْغِى } ففي كلمة {مَآ} قولان :
(1/2537)

القول الأول : أنها للنفي ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه : الأول : أنهم كانوا قد وصفوا يوسف بالكرم واللطف وقالوا : إنا قدمنا على رجل في غاية الكرم أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب لمافعل ذلك ، فقولهم : {مَا نَبْغِى } أي بهذا الوصف الذي ذكرناه كذباً ولا ذكر شيء لم يكن. الثاني : أنه بلغ في الإكرام إلى غاية ما وراءها شيء آخر ، فإنه بعد أن بالغ في إكرامنا أمر ببضاعتنا فردت إلينا. الثالث : المعنى أنه رد بضاعتنا إلينا ، فنحن لا نبغي منك عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى ، فإن هذه التي معنا كافية لنا.
/ والقول الثاني : أن كلمة "ما" ههنا للاستفهام ، والمعنى : لما رأوا أنه رد إليهم بضاعتهم قالوا : ما نبغي بعد هذا ، أي أعطانا الطعام ، ثم رد علينا ثمن الطعام على أحسن الوجوه ، فأي شيء نبغي وراء ذلك ؟
واعلم أنا إذا حملنا "ما" على الاستفهام صار التقدير أي شيء نبغي فوق هذا الإكرام إن الرجل رد دراهمنا إلينا فإذا ذهبنا إليه نمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير بسبب حضور أخينا. قال الأصمعي : يقال ماره يميره ميراً إذا أتاه بميرة أي بطعام ومنه يقال : ما عنده خير ولا مير وقوله : {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } معناه : أن يوسف عليه السلام كان يكيل لكل رجل حمل بعير فإذا حضر أخوه فلا بد وأن يزداد ذلك الحمل ، وأما إذا حملنا كلمة "ما" على النفي كان المعنى لا نبغي شيئاً آخر هذه بضاعتنا ردت إلينا فهي كافية لثمن الطعام في الذهاب الثاني ، ثم نفعل كذا وكذا.
جزء : 18 رقم الصفحة : 481
وأما قوله : {ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} ففيه وجوه : الأول : قال مقاتل : ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل وهو اختيار الزجاج. والثاني : ذلك كيل يسير ، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير. والثالث : أن يكون المراد ذلك الذي يدفع إلينا دون أخينا شيء يسير قليل فابعث أخانا معنا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 481
481
اعلم أن الموثق مصدر بمعنى الثقة ومعناه : العهد الذي يوثق به فهو مصدر بمعنى المفعول يقول : لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً موثوقاً به وقوله : {مَنَّ اللَّهُ} أي عهداً موثوقاً به بسبب تأكده بإشهاد الله وبسبب القسم بالله عليه ، وقوله : {لَتَأْتُنَّنِى بِه } دخلت اللام ههنا لأجل أنا بينا أن المراد بالموثق من الله اليمين فتقديره : حتى تحلفوا بالله لتأتنني به. وقوله : {إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ } فيه بحثان :
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" : هذا الاستثناء متصل. فقوله : {إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ } مفعوله له ، والكلام المثبت الذي هو قوله : {لَتَأْتُنَّنِى بِه } في تأويل المنفي ، فكان المعنى : لا تمتنعون / من الإتيان به لعلة من العلل إلا لعلة واحدة.
البحث الثاني : قال الواحدي للمفسرين فيه قولان :
القول الأول : أن قوله : {إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ } معناه الهلاك قال مجاهد : إلا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذراً عندي ، والعرب تقول أحيط بفلان إذا قرب هلاكه قال تعالى : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِه } (الكهف : 42) أي أصابه ما أهلكه. وقال تعالى : {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } (يونس : 22) وأصله أن من أحاط به العدو وانسدت عليه مسالك النجاة دنا هلاكه ، فقيل : لكل من هلك قد أحيط به.
والقول الثاني : ما ذكره قتادة {إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ } إلا أن تصيروا مغلوبين مقهورين ، فلا تقدرون على الرجوع.
ثم قال تعالى : {فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} يريد شهيد ، لأن الشهيد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد فإن وفيتم به جازاكم بأحسن الجزاء ، وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات.
جزء : 18 رقم الصفحة : 481
484
اعلم أن أبناء يعقوب لما عزموا على الخروج إلى مصر. وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد قال لهم : {لا تَدْخُلُوا مِنا بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } وفيه قولان : الأول : وهو قول جمهور المفسرين أنه خاف من العين عليهم ولنا ههنا مقامان.
(1/2538)

المقام الأول : إثبات أن العين حق والذي يدل عليه وجوه : الأول : إطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك. والثاني : ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول : "أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسمعيل وإسحق صلوات الله عليهم. والثالث : ما روى عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم / عدت إليه آخر النهار فرأيته معافى فقال : "إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك" قال فأفقت ، والرابع : روي أن بني جعفر ابن أبي طالب كانوا غلمناً بيضاً فقالت أسماء : يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين فقال لها نعم. والخامس : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين فقال أفلا تسترقون له من العين. والسادس : قوله عليه السلام : "العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر" والسابع : قالت عائشة رضي الله عنها : كن يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغسل منه المعين الذي أصيب بالعين.
المقام الثاني : في الكشف عن ماهيته فنقول : إن أبا علي الجبائي أنكر هذا المعنى إنكاراً بليغاً ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلاً عن حجة ، وأما الذين اعترفوا به وأقروا بوجوده فقد ذكروا فيه وجوهاً : الأول : قال الحافظ : إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار ، وإن كان مخالفاً في جهة التأثير لهذه الأشياء قال القاضي : وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال ، لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئاً فقد يحب بقاءه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه ، وقد يكره بقاءه أيضاً كما إذا أحس الحاسد بشيء حصل لعدوه ، فإن كان الأول فإنه يحصل له عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جداً ، ويحصل في الروح الباصرة كيفية قوية مسخنة وإن كان الثاني : فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه. والحزن أيضاً يوجب انحصار الروح في داخل القلب ويحصل فيه سخونة شديدة ، فثبت أن عند الاستحسان القوي تسخن الروح جداً فيسخن شعاع العين بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة فظهر الفرق بين الصورتين ، ولهذا السبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال.
جزء : 18 رقم الصفحة : 484
الوجه الثاني : قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي إنه لا يمتنع أن تكون العين حقاً ، ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحساناً كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقاً به/ فهذا المعنى غير ممتنع ، ثم لا يبعد أيضاً أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه تقية ذلك ، فعنده تتعين المصلحة ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل العين حق.
/ الوجه الثالث : وهو قول الحكماء قالوا هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعاً على الأرض ، قدر الإنسان على المشي عليه ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه ، وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه ، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة ، وأيضاً أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذياً له حصل في قلبه غضب ، ويسخن مزاجه جداً فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني ، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية ، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان. فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان وأيضاً جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه ، فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك.
وإذا ثبت هذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده.
(1/2539)

القول الثاني : وهو قول أبي علي الجبائي : أن أبناء يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وكمالهم. فقال : {لا تَدْخُلُوا } تلك المدينة {مِنا بَابٍ وَاحِدٍ} على ما أنتم عليه من العدد والهيئة فلم يأمن عليهم حسد الناس أو يقال : لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم ، واعلم أن هذا الوجه محتمل لا إنكار فيه إلا أن القول الأول قد بينا أنه لا امتناع فيه بحسب العقل والمفسرون أطبقوا عليه فوجب المصير إليه ، ونقل عن الحسن أنه قال : خاف عليهم العين ، فقال : {لا تَدْخُلُوا مِنا بَابٍ وَاحِدٍ} ثم رجع إلى علمه وقال : {وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } وعرف أن العين ليست بشيء وكان قتادة يفسر الآية بإصابة العين ويقول : ليس في قوله : {وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } إبطال له لأن العين وإن صح فالله قادر على دفع أثره.
جزء : 18 رقم الصفحة : 484
القول الثالث : أنه عليه السلام كان عالماً بأن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن الله تعالى ما أذن له في إظهار ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال : {لا تَدْخُلُوا مِنا بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة ، وهذا قول إبراهيم النخعي ، فأما / قوله : {وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } فاعلم أن الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ومأمور أيضاً بأن يعتقد ويجزم بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله تعالى وأن الحذر لا ينجي من القدر ، فإن الإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة ، والأغذية الضارة ، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ثم إنه مع ذلك ينبغي أن يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله فقوله عليه السلام : {لا تَدْخُلُوا مِنا بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } فهو إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم/ وقوله : {وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى التوحيد المحض والبراءة عن كل شيء سوء الله تعالى وقول القائل : كيف السبيل إلى الجمع بين هذين القولين ، فهذا السؤال غير مختص به ، وذلك لأنه لا نزاع في أنه لا بد من إقامة الطاعات ، والاحتراز عن المعاصي والسيئات مع أنا نعتقد أن السعيد من سعد في بطن أمه ، وأن الشقي من شقي في بطن أمه فكذا ههنا نأكل ونشرب ونحترز عن السموم وعن الدخول في النار مع أن الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله تعالى ، فكذا ههنا ، فظهر أن هذا السؤال غير مختص بهذا المقام ، بل هو بحث عن سر مسألة الجبر والقدر ، بل الحق أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة ، وبعد ذلك السعي البليغ والجد الجهيد فإنه يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فلا بد وأن يكون بقضاء الله تعالى ومشيئته وسابق حكمه وحكمته ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى ، فقال : {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّه } .
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا في القضاء والقدر ، وذلك لأن الحكم عبارة عن الإلزام والمنع من النقيض وسميت حكمة الدابة بهذا الاسم ، لأنها تمنع الدابة عن الحركات الفاسدة والحكم إنما سمي حكماً لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بحيث يصير الطرف الآخر ممتنع الحصول ، فبين تعالى أن الحكم بهذا التفسير ليس إلا لله سبحانه وتعالى ، وذلك يدل على أن جميع الممكنات مستندة إلى قضائه وقدره ومشيئته وحكمه ، إما بغير واسطة وإما بواسطة ثم قال : {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُا وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} ومعناه أنه لما ثبت أن الكل من الله ثبت أنه لا توكل إلا على الله وأن الرغبة ليست إلا في رجحان وجود الممكنات على عدمها وذلك الرجحان المانع عن النقيض هو الحكم ، وثبت بالبرهان أنه لا حكم إلا لله فلزم القطع بأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله ، ويوجب أنه لا توكل إلا على الله فهذا مقام شريف عال ونحن قد أشرنا إلى ما هو البرهان الحق فيه والشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله أطنب في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتاب "إحياء علوم الدين" فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب.
جزء : 18 رقم الصفحة : 484
485
/ قال المفسرون : لما قال يعقوب : {وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } (يوسف : 67) صدقه الله في ذلك فقال : وما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء وفيه بحثان :
(1/2540)

البحث الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمراً قدره الله. وقال الزجاج : إن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون. وقال ابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم ، وهذه الكلمات متقاربة ، وحاصلها أن الحذر لا يدفع القدر.
البحث الثاني : قوله : {مِن شَىْءٍ} يحتمل النصب بالمفعولية والرفع بالفاعلية.
أما الأول : فهو كقوله : ما رأيت من أحد ، والتقدير : ما رأيت أحداً ، فكذا ههنا تقدير الآية : أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً ، أي ذلك التفرق ما كان يخرج شيئاً من تحت قضاء الله تعالى.
وأما الثاني : فكقولك : ما جاءني من أحد ، وتقديره ما جاءني أحد فكذا ههنا التقدير : ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.
أما قوله : {إِلا حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَا ـهَا } فقال الزجاج : إنه استثناء منقطع ، والمعنى : لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها ، يعني أن الدخول على صفة التفرق قضاء حاجة في نفس يعقوب قضاها ، ثم ذكروا في تفسير تلك الحاجة وجوهاً : أحدها : خوفه عليهم من إصابة العين ، وثانيها : خوفه عليهم من حسد أهل مصر ، وثالثها : خوفه عليهم من أن يقصدهم ملك مصر بشر ، ورابعها : خوفه عليهم من أن لا يرجعوا إليه ، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وأما قوله : {وَإِنَّه لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَـاهُ} فقال الواحدي : يحتمل أن يكون {مَآ} مصدرية والهاء عائدة إلى يعقوب ، والتقدير : وإنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه ، ويمكن أن تكون {مَآ} بمعنى الذي والهاء / عائدة إليها ، والتأويل وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه ، يعني أنا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء وفي الآية قولان آخران : الأول : أن المراد بالعلم الحفظ ، أي أنه لذو حفظ لما علمناه ومراقبة له والثاني : لذو علم لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وهو إشارة إلى كونه عاملاً بما علمه ، ثم قال : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وفيه وجهان : الأول : ولكن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علم يعقوب. والثاني : لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم ، والمراد بأكثر الناس المشركون ، فإنهم لا يعلمون بأن الله كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 485
487
اعلم أنهم لما أتوه بأخيه بنيامين أكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدة ثم أمر أن ينزل منهم كل اثنين بيتاً وقال : هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه ، ولما رأى يوسف تأسفه على أخ له هلك قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال : من يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقال : إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {إِلَيْهِ أَخَاه قَالَ} أي أنزله في الموضع الذي كان يأوي إليه. وقوله : {إِنِّى أَنَا أَخُوكَ} فيه قولان : قال وهب : لم يرد أنه أخوه من النسب ، ولكن أراد به إني / أقوم لك مقام أخيك في الإيناس لئلا تستوحش بالتفرد. والصحيح ما عليه سائر المفسرين من أنه أراد تعريف النسب ، لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة وحصول الأنس ، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة ، فلا وجه لصرفه عنها إلى المجاز من غير ضرورة.
وأما قوله : {فَلا تَبْتَـاـاِسْ} فقال أهل اللغة : تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس. وقوله : {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فيه وجوه : الأول : المراد بما كانوا يعملون من إقامتهم على حسدنا والحرص على انصراف وجه أبينا عنا ، الثاني : أن يوسف عليه السلام ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافياً مع إخوته ، فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معه أيضاً ، فقال : {فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم ، ولا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي أقدموا عليها. الثالث : أنهم إنما فعلوا بيوسف ما فعلوه ، لأنهم حسدوه على إقبال الأب عليه وتخصيصه بمزيد الإكرام ، فخاف بنيامين أن يحسدوه بسبب أن الملك خصه بمزيد الإكرام ، فأمنه منه وقال : لا تلتفت إلى ذلك فإن الله قد جمع بيني وبينك. الرابع : روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا يعيرون يوسف وأخاه بسبب أن جدهما أبا أمهما كان يعبد الأصنام ، وأن أم يوسف امرأت يوسف فسرق جونة كانت لأبيها فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها. فقال له : {فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي من التعيير لنا بما كان عليه جدنا. والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 487
(1/2541)

ثم قال تعالى : {فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ} وقد مضى الكلام في الجهاز والرحل ، أما السقاية فقال صاحب "الكشاف" : مشربة يسقي بها وهو الصواع قيل : كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به ، وهو بعيد لأن الإناء الذي يشرب الملك الكبير منه لا يصلح أن يجعل صاعاً ، وقيل : كانت الدواب تسقى بها ويكال بها أيضاً وهذا أقرب ، ثم قال وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب ، وقيل : كانت من ذهب ، وقيل : كانت مرصعة بالجواهر وهذا أيضاً بعيد لأن الآنية التي يسقى الدواب فيها لا تكون كذلك ، والأولى أن يقال : كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة/ أما إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا.
ثم قال تعالى : {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَـارِقُونَ} يقال : أذنه أي أعلمه وفي الفرق بين أذن وبين أذن وجهان : قال ابن الأنباري : أذن معناه أعلم إعلاماً بعد إعلام لأن فعل يوجب تكرير الفعل قال ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً من قبيل أن العرب تجعل فعل بمعنى أفعل في كثير من المواضع ، وقال سيبويه : أذنت وأذنت معناه أعلمت لا فرق بينهما ، والتأذين معناه : النداء والتصويت بالإعلام.
/ وأما قوله تعالى : {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَـارِقُونَ} قال أبو الهيثم : كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير وقول من قال العير الإبل خاصة باطل ، وقيل : العير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء ، وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وجمعها فعل كسقف وسقف.
إذا عرفت هذا فنقول : {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} المراد أصحاب العير كقوله : يا خيل الله اركبي وقرأ ابن مسعود : {جَعَلَ السِّقَايَةَ} على حذف جواب لما كأنه قيل فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَـارِقُونَ} .
فإن قيل : هل كان ذلك النداء بأمر يوسف أو ما كان بأمره ؟
فإن كان بأمره فكيف يليق بالرسول الحق من عند الله أن يتهم أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً ، وإن كان الثاني وهو أنه ما كان ذلك بأمره فهلا أنكره وهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 487
قلنا : العلماء ذكروا في الجواب عنه وجوهاً : الأول : أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال له : إني أريد أن أحبسك ههنا ، ولا سبيل إليه إلا بهذه الحيلة فإن رضيت بها فالأمر لك فرضي بأن يقال في حقه ذلك ، وعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام فخرج عن كونه ذنباً. والثاني : أن المراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام والمعاريض لا تكون إلا كذلك. والثالث : أن ذلك المؤذن ربما ذكر ذلك النداء على سبيل الاستفهام ، وعلى هذا التقدير يخرج عن أن يكون كذباً. الرابع : ليس في القرآن أنهم نادوا بذلك النداء عن أمر يوسف عليه السلام والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم لما طلبوا السقاية وما وجدوها وما كان هناك أحد إلا هم غلب على ظنونهم أنهم هم الذين أخذوها ثم إن إخوة يوسف {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {تَفْقِدُونَ} من أفقدته إذا وجدته فقيداً قالوا تفقد صواع الملك. قال صاحب "الكشاف" : قرىء صواع وصاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها ، والعين معجمة وغير معجمة. قال بعضهم جمع صواع صيعان ، كغراب وغربان ، وجمع صاع أصواع ، كباب وأبواب. وقال آخرون : لا فرق بين الصاع والصواع ، والدليل عليه قراءة أبي هريرة : {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} وقال بعضهم : الصواع اسم ، والسقاية وصف ، كقولهم : كوز وسقاء ، فالكوز اسم والسقاء وصف.
ثم قال : {وَلِمَن جَآءَ بِه حِمْلُ بَعِيرٍ} أي من الطعام {وَأَنَا بِه زَعِيمٌ} قال مجاهد : الزعيم هو المؤذن الذي أذن. وتفسير زعيم كفيل. قال الكلبي : الزعيم الكفيل بلسان أهل اليمن. وروى أبو عبيدة / عن الكسائي : زعمت به تزعم زعماً وزعامة. أي كفلت به ، وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم ، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله : "الزعيم غارم".
فإن قيل : هذه كفالة بشيء مجهول ؟
قلنا : حمل بعير من الطعام كان معلوماً عندهم ، فصحت الكفالة به إلا أن هذه الكفالة مال لرد سرقة/ وهو كفالة بما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة ، ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 487
488
(1/2542)

قال البصريون : الواو في {وَاللَّهُ} بدل من التاء والتاء بدل من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل. قال المفسرون : حلفوا على أمرين : أحدهما : على أنهم ما جاؤا لأجل الفساد في الأرض لأنه ظهر من أحواله امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس ، حتى روي أنهم كانوا قد سدوا أفواه دوابهم لئلا تعبث في زرع ، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ، ومن كانت هذه صفته فالفساد في الأرض لا يليق به. والثاني : أنهم ما كانوا سارقين ، وقد حصل لهم فيه شاهداً قاطع ، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها ، والسارق لا يفعل ذلك ألبتة ثم لما بينوا براءتهم عن تلك التهمة قال أصحاب يوسف عليه السلام : {فَمَا جَزَا ؤُه ا إِن كُنتُمْ كَـاذِبِينَ} فأجابوا و{قَالُوا جَزَا ؤُه مَن وُجِدَ فِى رَحْلِه فَهُوَ جَزَا ؤُه } قال ابن عباس كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان استعباد السارق في شرعهم يجري مجرى وجوب القطع في شرعنا ، والمعنى جزاء هذا الجرم من وجد المسروق في رحله ، أي ذلك الشخص هو جزاء ذلك الجرم ، والمعنى : أن استعباده هو جزاء ذلك الجرم ، قال الزجاج : وفيه وجهان : أحدهما : أن يقال جزاؤه مبتدأ ومن وجد في رحله خبره. والمعنى : جزاء السرقة هو الإنسان الذي / وجد في رحله السرقة ، ويكون قوله : {فَهُوَ جَزَا ؤُه } زيادة في البيان كما تقول جزاء السارق القطع فهو جزاؤه. الثاني : أن يقال : {جَزَا ؤُه } مبتدأ وقوله : {مَن وُجِدَ فِى رَحْلِه فَهُوَ جَزَا ؤُه } جملة وهي في موضع خبر المبتدأ. والتقدير : كأنه قيل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ، إلا أنه أقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان وأنشد النحويون :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
نغص الموت الغني والفقيرا
وأما قوله : {كَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ} أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين يريد إذا سرق استرق ثم قيل : هذا من بقية كلام أخوة يوسف. وقيل : إنهم لما قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، فقال أصحاب يوسف : {كَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 488
489
اعلم أن إخوة يوسف لما أقروا بأن من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترق قال لهم المؤذن : إنه لا بد من تفتيش أمتعتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} لإزالة التهمة والأوعية جمع الوعاء وهو كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به استخرجها من وعاء أخيه ، وقرأ الحسن {وِعَآءِ أَخِيهِ} بضم الواو وهي لغة ، وقرأ سعيد بن جبير {مِنْ أَخِيهِ} فقلب الواو همزة.
فإن قيل : لم ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه ؟
قلنا : قالوا رجع ضمير المؤنث إلى السقاية وضمير المذكر إلى الصواع أو يقال : الصواع يؤنث ويذكر ، فكان كل واحد منهما جائزاً أو يقال : لعل يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعاً فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية وفيما يتصل بهم صواعاً ، عن قتادة أنه قال : كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تائباً مما قذفهم به ، حتى إنه لما لم يبق إلا أخوه قال ما أرى هذا قد أخذ شيئاً ، / فقالوا : لا نذهب حتى تتفحص عن حاله أيضاً ، فلما نظروا في متاعه استخرجوا الصواع من وعائه والقوم كانوا قد حكموا بأن من سرق يسترق ، فأخذوا برقبته وجروا به إلى دار يوسف.
ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَا مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ} وفيه بحثان : الأول : المعنى ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف ، وذلك إشارة إلى الحكم باسترقاق السارق ، أي مثل هذا الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف. الثاني : لفظ الكيد مشعر بالحيلة والخديعة ، وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا ذكرنا قانوناً معتبراً في هذا الباب ، وهو أن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض لا على بدايات الأغراض ، وقررنا هذا الأصل في تفسير قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِ } (البقرة : 26) فالكيد السعي في الحيلة والخديعة ، ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له إلى دفعه ، فالكيد في حق الله تعالى محمول على هذا المعنى. ثم اختلفوا في المراد بالكيد ههنا فقال بعضهم : المراد أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمر يوسف ، والله تعالى نصره وقواه وأعلى أمره. وقال آخرون : المراد من هذا الكيد هو أنه تعالى ألقى في قلوب إخوته أن حكموا بأن جزاء السارق هو أن يسترق ، لا جرم لما ظهر الصواع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق ، وصار ذلك سبباً لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 489
(1/2543)

ثم قال تعالى : {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ} والمعنى : أنه كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق ، فما كان يوسف قادراً على حبس أخيه عند نفسه بناء على دين الملك وحكمه ، إلا أنه تعالى كاد له ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق فقد بينا أن هذا الكلام توسل به إلى أخذ أخيه وحبسه عند نفسه وهو معنى قوله : {إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } ثم قال : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة وعاصم والكسائي {دَرَجَـاتٍ} بالتنوين غير مضاف ، والباقون بالإضافة.
المسألة الثانية : المراد من قوله : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } هو أنه تعالى يريه وجوه الصواب في بلوغ المراد ، ويخصه بأنواع العلوم ، وأقسام الفضائل ، والمراد ههنا هو أنه تعالى رفع درجات يوسف على إخوته في كل شيء.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات ، لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة والفكرة مدحه لأجل ذلك فقال : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } وأيضاً وصف إبراهيم عليه السلام بقوله : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } (الأنعام : 83) عند إيراده ذكر دلائل التوحيد والبراءة عن / إلهية الشمس والقمر والكواكب ووصف ههنا يوسف أيضاً بقوله : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } لما هداه إلى هذه الحيلة وكم بين المرتبتين من التفاوت.
ثم قال تعالى : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} والمعنى أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء فضلاء ، إلا أن يوسف كان زائداً عليهم في العلم.
واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى عالم بذاته لا بالعلم فقالوا : لو كان عالماً بالعلم لكان ذا علم ولو كان كذلك ، لحصل فوقه عليم تمسكاً بعموم هذه الآية وهذا باطل.
واعلم أن أصحابنا قالوا دلت سائر الآيات على إثبات العلم لله تعالى وهي قوله : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) {أَنزَلَه بِعِلْمِه } (النساء : 166) {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه } (البقرة : 255) {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه } (فاطر : 11) وإذا وقع التعارض فنحن نحمل الآية التي تمسك الخصم بها على واقعة يوسف وإخوته خاصة غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص العموم ، إلا أنه لا بد من المصير إليه لأن العالم مشتق من العلم ، والمشتق مركب والمشتق منه مفرد ، وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل فكان الترجيح من جانبنا.
جزء : 18 رقم الصفحة : 489
ثم قال تعالى : {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ} والمعنى : أنه كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق ، فما كان يوسف قادراً على حبس أخيه عند نفسه بناء على دين الملك وحكمه ، إلا أنه تعالى كاد له ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق فقد بينا أن هذا الكلام توسل به إلى أخذ أخيه وحبسه عند نفسه وهو معنى قوله : {إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } ثم قال : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة وعاصم والكسائي {دَرَجَـاتٍ} بالتنوين غير مضاف ، والباقون بالإضافة.
المسألة الثانية : المراد من قوله : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } هو أنه تعالى يريه وجوه الصواب في بلوغ المراد ، ويخصه بأنواع العلوم ، وأقسام الفضائل ، والمراد ههنا هو أنه تعالى رفع درجات يوسف على إخوته في كل شيء.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات ، لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة والفكرة مدحه لأجل ذلك فقال : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } وأيضاً وصف إبراهيم عليه السلام بقوله : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } (الأنعام : 83) عند إيراده ذكر دلائل التوحيد والبراءة عن / إلهية الشمس والقمر والكواكب ووصف ههنا يوسف أيضاً بقوله : {نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } لما هداه إلى هذه الحيلة وكم بين المرتبتين من التفاوت.
ثم قال تعالى : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} والمعنى أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء فضلاء ، إلا أن يوسف كان زائداً عليهم في العلم.
واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى عالم بذاته لا بالعلم فقالوا : لو كان عالماً بالعلم لكان ذا علم ولو كان كذلك ، لحصل فوقه عليم تمسكاً بعموم هذه الآية وهذا باطل.
(1/2544)

واعلم أن أصحابنا قالوا دلت سائر الآيات على إثبات العلم لله تعالى وهي قوله : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) {أَنزَلَه بِعِلْمِه } (النساء : 166) {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه } (البقرة : 255) {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه } (فاطر : 11) وإذا وقع التعارض فنحن نحمل الآية التي تمسك الخصم بها على واقعة يوسف وإخوته خاصة غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص العموم ، إلا أنه لا بد من المصير إليه لأن العالم مشتق من العلم ، والمشتق مركب والمشتق منه مفرد ، وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل فكان الترجيح من جانبنا.
جزء : 18 رقم الصفحة : 489
491
اعلم أنه لما خرج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤسهم وقالوا : هذه الواقعة عجيبة أن راحيل ولدت ولدين لصين ، ثم قالوا : يا بني راحيل ما أكثر البلاء علينا منكم ، فقال بنيامين ماأكثر البلاء علينا منكم ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة ، ثم تقولون لي هذا الكلام ، قالوا له : فكيف خرج الصواع من رحلك ، فقال : وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم.
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك : إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضاً سارقاً ، وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته ، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة لأنهما من أم أخرى ، واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال : الأول : قال سعيد بن جبير : كان جده أبو أمه كافراً يعبد الأوثان فأمرته / أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك ، فهذا هو السرقة ، والثاني : أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه ويدفعه إلى الفقراء ، وقيل سرق عناقاً من أبيه ودفعه إلى المسكين وقيل دجاجة. والثالث : أن عمته كانت تحبه حباً شديداً فأرادت أن تمسكه عند نفسها ، وكان قد بقي عندها منطقة لاسحق عليه السلام وكانوا يتبركون بها فشدتها على وسط يوسف ثم قالت بأنه سرقها وكان من حكمهم بأن من سرق يسترق ، فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. والرابع : أنهم كذبوا عليه وبهتوه وكانت قلوبهم مملوءة بالغضب على يوسف بعد تلك الوقائع ، وبعد انقضاء تلك المدة الطويلة ، وهذه الواقعة تدل على أن قلب الحاسد لا يطهر عن الغل ألبتة.
ثم قال تعالى : {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِه وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } واختلفوا في أن الضمير في قوله : {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} إلى أي شيء يعود على قولين قال الزجاج : فأسرها إضمار على شريطة التفسير ، تفسيره أنتم شر مكاناً وإنما أنث لأن قوله : {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا } جملة أو كلمة لأنهم يسمون الطائفة من الكلام كلمة كأنه قال : فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله : {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا } وفي قراءة ابن مسعود {فَأَسْرِ} بالتذكير يريد القول أو الكلام وطعن أبو علي الفارسي في هذا الوجه فيما استدركه على الزجاج من وجهين :
جزء : 18 رقم الصفحة : 491
الوجه الأول : قال الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين : أحدهما : أن يفسر بمفرد كقولنا : نعم رجلاً زيد ففي نعم ضمير فاعلها ، ورجلاً تفسير لذلك الفاعل المضمر والآخر أن يفسر بجملة وأصل هذا يقع في الابتداء كقوله : {فَإِذَا هِىَ شَـاخِصَةٌ أَبْصَـارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الأنبياء : 97) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الصمد : 1) والمعنى القصة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر الله أحد. ثم إن العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً نحو إن كقوله : {إِنَّه مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا} (طه : 74) {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ} (الحج : 46).
إذا عرفت هذا فنقول : نفس المضمر على شريطة التفسير في كلا القسمين متصل بالجملة التي حصل منها الإضمار ، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة ولا مبايناً لها. وههنا التفسير منفصل عن الجملة التي حصل منها الإضمار فوجب أن لا يحسن. والثاني : أنه تعالى قال : {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا } وذلك يدل على أنه ذكر هذا الكلام ، ولو قلنا : إنه عليه السلام أضمر هذا الكلام لكان قوله أنه قال ذلك كذباً. واعلم أن هذا الطعن ضعيف لوجوه :
أما الأول : فلأنه لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث.
وأما الثاني : فلأنا نحمل ذلك على أنه عليه السلام قال ذلك على سبيل الخفية وبهذا التفسير يسقط هذا السؤال.
(1/2545)

/ والوجه الثاني : وهو أن الضمير في قوله : {فَأَسَرَّهَا} عائد إلى الإجابة كأنهم قالوا : {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّه مِن قَبْلُ } فأسر يوسف إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقت ثان ويجوز أيضاً أن يكون إضماراً للمقالة. والمعنى : أسر يوسف مقالتهم ، والمراد من المقالة متعلق تلك المقالة كما يراد بالخلق المخلوق وبالعلم المعلوم يعني أسر يوسف في نفسه كيفية تلك السرقة ، ولم يبين لهم أنها كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والطعن. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عوقب يوسف عليه السلام ثلاث مرات لأجل همه بها ، عوقب بالحبس وبقوله : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} (يوسف : 42) عوقب بالحبس الطويل وبقوله : {إِنَّكُمْ لَسَـارِقُونَ} (يوسف : 7) عوقب بقولهم : {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّه مِن قَبْلُ } ثم حكى تعالى عن يوسف أنه قال : {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا } أي أنتم شر منزلة عند الله تعالى لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم فأخذتم أخاكم وطرحتموه في الجب ، ثم قلتم لأبيكم إن الذئب أكله وأنتم كاذبون ، ثم بعتموه بعشرين درهماً ، ثم بعد المدة الطويلة والزمان الممتد ما زال الحقد والغضب عن قلوبكم فرميتموه بالسرقة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 491
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} يريد أن سرقة يوسف كانت رضا لله ، وبالجملة فهذه الوجوه المذكورة في سرقته لا يوجب شيء منها عود الذم واللوم إليه ، والمعنى : والله أعلم بأن هذا الذي وصفتموه به هل يوجب عود مذمة إليه أم لا.
جزء : 18 رقم الصفحة : 491
492
اعلم أنه تعالى بين أنهم بعد الذي ذكروه من قولهم : {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّه مِن قَبْلُ } (يوسف : 77) أحبوا موافقته والعدول إلى طريقة الشفاعة فإنهم وإن كانوا قد اعترفوا أن حكم الله تعالى في السارق أن يستعبد ، إلا أن العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزا ، فقالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً أي في السن ، ويجوز أن يكون في القدر والدين ، وإنما ذكروا ذلك لأن كونه ابناً لرجل كبير القدر / يوجب العفو والصفح. ثم قالوا : {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَه ا } يحتمل أن يكون المراد على طريق الاستبعاد ويحتمل أن يكون المراد على طريق الرهن حتى نوصل الفداء إليك. ثم قالوا : {إِنَّا نَرَاـاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وفيه وجوه : أحدها : إنا نراك من المحسنين لو فعلت ذلك. وثانيها : إنا نراك من المحسنين إلينا حيث أكرمتنا وأعطيتنا البذل الكثير وحصلت لنا مطلوبنا على أحسن الوجوه ووردت إلينا ثمن الطعام. وثالثها : نقل أنه عليه السلام لما اشتد القحط على القوم ولم يجدوا شيئاً يشترون به الطعام ، وكانوا يبيعون أنفسهم منه فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له ثم إنه أعتق الكل ، فلعلهم قالوا : {إِنَّا نَرَاـاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إلى عامة الناس بالإعتاق فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بإعتاقه من هذه المحنة ، فقال يوسف : {مَعَاذَ اللَّهِ} أي أعود بالله معاذاً أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ، أي أعوذ بالله أن آخذ بريئاً بمذنب قال الزجاج : موضع "أن" نصب والمعنى : أعوذ بالله من أخذ أحد بغيره فلما سقطت كلمة "من" انتصب الفعل عليه وقوله : {إِنَّآ إِذًا لَّظَـالِمُونَ} أي لقد تعديت وظلمت إن آذيت إنساناً بجرم صدر عن غيره.
فإن قيل : هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب ، فكيف يجوز من يوسف عليه السلام مع رسالته الإقدام على هذا التزوير والترويج وإيذاء الناس من غير سبب لا سيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عند نفسه بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه ، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد.
جزء : 18 رقم الصفحة : 492
والجواب : لعله تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر تعالى صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر.
جزء : 18 رقم الصفحة : 492
493
في الآية مسائل :
(1/2546)