الكتاب : تفسير الشعراوي
وكذلك النفس البشرية ، إن التقى الذكر مع الأنثى كما شرع الله فإن البشرية تسعد ، وإن حدث غير ذلك فالذي يحدث في المجتمع يصير حريقاً نفسياً واجتماعياً لا حدود لآثاره الضارة ، وهكذا نرى أن النفس ليس فيها دافع واحد بل فيها دوافع متعددة .
ونجد غريزة الجوع تحرك النفس إلى الطعام ، ويستجيب الدين لذلك لكنه يوصي أن يأكل الإنسان بشرط ألا يتحول تناول الطعام إلى شره ، كما جاء في الحديث : " بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه " .
فالطعام لبقاء النوع . والإنسان محب للاستطلاع ، فيأمر الإسلام الإنسان بأن يستطلع أسباب الله في الكون ليزيد من صلاح الكون ، وينهى الإسلام عن استخدام حب الاستطلاع في التجسس على الناس ، وهكذا تتوازن الملكات بمنهج الإسلام ، وعلى المسلم أن يعايش ملكاته في ضوء منهج الله معايشة سليمة حتى تكون النفس الإنسانية متساندة لا متعاندة ، لتعيش كل الملكات في سلام ، ويؤدي كل جهاز مهمته كما أراد الله .
لكن المنافق يحيا مذبذباً وقد صنع بنفسه ، فقد أرخى لبعض ملكاته العِنان على حساب ملكات أخرى { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } إن الكافر يمتاز عن المنافق - ظاهرا - بأنه منسجم مع نفسه ، هو غير مؤمن بالإسلام ويعلن ذلك ولكنه في حقيقة الأمر يتصارع مع فطرته التي تدعوه إلى الإيمان .
قد يقول قائل : وكيف يتساوى الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر مع الذي أعلن الكفر؟ ونقول : الكافر لم يخدع الطائفة المؤمنة ولم يقل كالمنافق إنه مع الفئة المؤمنة وهو ليس معها؛ بل يعلن الكافر كفره منسجماً مع نفسه ، لكن المنافق مذبذب خسيس في وضعه الإنساني والرجولي .
{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } .
والله لا يضل عبداً بشكل مباشر؛ فسبحانه يُعلم خلقه أولاً بالرسل والمنهج ، لكنه يضل من يصر على عدم الإيمان ، لذلك يتركه على ضلالة وعماه . صحيح أن في قدرة الله أن يأخذه إلى الإيمان قهراً ، لكنه سبحانه يترك الإنسان لاختياره .
فإن أقبل الإنسان على الله فسبحانه يعينه على الهداية ، أما إن لم يقبل فليذهب إلى تيه الضلال . ويزين له الدنيا ويعطيه منها لكنه لن يجد سبيلاً؛ فسبيل الله واحد . وليس هناك سبيلان .
ونذكر هذه الحكاية؛ لنعرف قيمة سبيل الله . كان الأصمعي - وهو مؤلف عربي له قيمة كبيرة - يملك أذناً أدبية تميل إلى الأساليب الجميلة من الشعر والنثر ، ووجد الأصمعي إنساناً يقف أمام باب الملتزم بالكعبة المشرفة ، وكان الرجل يدعو الله دعاء حاراً " يا رب : أنا عاصيك ، ولولا أنني عاصيك لما جئت أطلب منك المغفرة ، فلا إله إلا أنت ، كان يجب أن أخجل من معصيتك ولكن ماذا أفعل " . وأعجب الأصمعي بالدعاء ، فقال : يا هذا إن الله يغفر لك لحسن مسألتك .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . }
(1/1894)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
لقد أخذ الحق على المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون الله؛ وكذلك أخذ المؤمنون على المنافقين أنهم اتخذوا من معسكر الكفر ولياً لهم من دون الله ومن دون المؤمنين ، ولهذا فأولى بالمؤمنين ألا يصنعوا ذلك ، ويوضح سبحانه : لقد أخذنا على المنافقين أنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون الله ، فإياكم أن تفعلوا مثلهم .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } .
وهذا أمر منطقي يستقيم مع منهج الإيمان؛ لأنكم إن فعلتم ذلك . فإنما تقدمون الحجة ليعذبكم الله ، وتعلمون أن المنافق يعلن الإيمان بلسانه ويخفي الكفر في قلبه ، فكيف يكون وضع المؤمن مع الكافر مثل وضع المنافق مع الكافر؟ ذلك أمر لا يستقيم . ومن يفعل ذلك إنما يقدم حجة لله ليعذبه .
الحق سبحانه في إرساله للرسل وفي تأييد الرسل بالمعجزات وفي إرساله المناهج المستوفية لتنظيم حركة الإنسان في الحياة ، كل ذلك ليقطع الحجة على الناس حتى لا يقولن واحد : أنت لم تقل لنا يارب كيف نسير على منهج ما؛ لذلك لم يترك - سبحانه - الإنسان ليفكر بعقله ليصل بفكره إلى وجود الله ، ويكتشف أن هناك خالقا للكون . لم يتركنا سبحانه لهذه الظنون ، ولكنه أرسل لنا الرسل بمنهج واضح ، من أجل ألا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل ، فلا يقولن واحد : أنت لم تنبهني يارب ، والجهل بالقانون في الشرع البشري لا يعفي الإنسان من العقوبة إن ارتكب جرما ، لكن الله لا يفعل ذلك؛ فهو أكرم على عباده من أنفسهم ، لذلك يرسل الرسول ليحمل المنهج الذي يبين الحلال من الحرام : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ]
فلا يقولن واحد : لقد أخذنا الله على غرّة . وأنتم أيها المؤمنون إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتقربتم إليهم ونصرتموهم فأنتم أكثر شرا من المنافقين؛ لأن المنافق له أسبابه ، وفي أعماقه خيط من الكفر وخيط من الإيمان ، والحجة واضحة عليكم أيها المؤمنون؛ فقد أبلغكم الحق المنهج وأعلنتم الإيمان به . فإن صنعتم غير ذلك تعطون الحق الحجة في أن يعذبكم .
{ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } والسلطان المبين هو السلطان الواضح المحيط الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد ، فإذا ما كانت هناك حجة ، قد يستطيع الإنسان أن ينقضها ، كالمحامي أمام المحاكم . لكن حجة الله هي سلطان مبين . أي لا تنقض أبداً .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { إِنَّ المنافقين فِي . . . }
(1/1895)

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
ولنر دقة التربية الإيمانية . فلم يأت الحق بفصل في كتابه عن المنافقين يورد فيه كل ما يتعلق بالمنافقين ، لا ، بل يأتي بلمحة عن المنافقين ثم يأتي بلقطة أخرى عن المؤمنين ، حتى ينفِّر السامع من وضع المنافق ويحببَه في صفات المؤمن ، وهنا يقول : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } . والدرك دائماً في نزول . والأثر الصالح يميز لنا ذلك بالقول :
" النار دركات كما أن الجنة درجات " .
فالنزول إلى أسفل هو الدرك ، والصعود إلى أعلى هو صعود الدرج . وفي عصرنا نضع مستوى سطح البحر كمقياس؛ لأن اليابسة متعرجة ، أما البحر فهو مستطرق .
ونستخدم في الأمر الدقيق - أيضا - ميزان المياه ، وعندما تسقط الأمطار على الطرق تكشف لنا عمل المقاول الذي رصف الطرق ، هل أتقن هذا العمل أو لا؟ ونحن نلقي دلوا من المياه في الحمام بعد تبليطه حتى ينكشف جودة أو رداءة عمل العامل ، إذن هناك شيء يفضح شيئا آخر . والقول المصري الشائع : " إن الذي يقوم بعمل المحارة هو الذي يكشف عامل البناء " . فلو أن الحائط غير مستو؛ فعامل المحارة مضطر أن يسد الفجوات والميول حتى يستوي سطح الحائط . . والذي يكشف جودة عامل المحارة هو عامل طلاء الحائط؛ لأنه إما أن يستخدم المعجون بكثرة ليملأ المناطق غير المستوية في الحائط ، وإما أن يجد الأمر سهلا . والذي يكشف جودة أو رداءة عمل عامل الطلاء هي أشياء طبيعية مثل الغبار . والعامل الذي يريد أن يغش هو الذي يسرع بتسليم البناء؛ لأن الغبار الذي يوجد في الجو يمشي في خط مستقيم ، وعندما يوجد جدار تم طلاؤه بمادة غير جيدة فالغبار يلتصق به وكأن الله قد أراد بذلك أن يفضح من لا يتقن عمله ، وكل شيء مرده إلى الله حتى يصل الخلق جميعا إلى الحق سبحانه مفضوحين ، إلا المؤمنين الذين يعملون صالحاً ، فهؤلاء يسترهم بعملهم الصالح .
{ إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } . وسبحانه وتعالى سبق أن عرض لنا صورة المنافقين المهزوزة التي لا ثبات لها على رأي ، ولا وجود لها على لون يحترمه المجتمع الذي يعيشون فيه فقال عنهم : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } [ النساء : 143 ]
والذبذبة لون من أرجحة الشخصية التي لا يوجد لها مقوم ذاتي . وسبحانه وتعالى حين عرضهم هذا العرض المشوه ، يوضح : أن جزائي لهم حق يناسب ما فعلوه .
وقد هيأ الحق الأذهان ليجعلها مستعدة لقبول الحكم الذي أنزله عليهم حتى لا تأخذ الناس شفقة عليهم أو رحمة بهم ، وسبحانه حين يحكم حكما فهو يضمن بقيوميته ووحدانيته ألا يوجد منازع له في الحكم .
(1/1896)

وكان من الممكن أن يقول سأجعله في الدرك الأسفل من النار . ولن توجد قوة أخرى تنتشل المنافق؛ لذلك أتبع الحق الحكم بقوله : { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } أي أنه حكم مشمول بالنفاذ ، ولن يعدله أحد من خلق الله ، فسبحانه له الملك وحده ، وقد جعل سبحانه الملك في الدنيا لأسباب الناس أيضاً ، أما في الآخرة فلا مِلك لأحد ولا مُلك لأحد . { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ]
وبعد ذلك يتيح الحق لأقوام من المنافقين أن يعدلوا رأيهم في المسألة وأن يعلنوا إيمانهم وأن يتوبوا عما فعلوه - أتاح لهم أن يراجعوا أنفسهم ويحاسبوها فلم يغلق الباب دونهم بل قال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ . . . }
(1/1897)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
إذن فمن الممكن أن توجد فتحة خير قد تدفع الإنسان إلى التوبة ، وحتى لا يظن أحد أن الحكم هنا نهائي ، وذلك حتى لا يفقد الإنسان نفسه ويتورط في مزيد من الشرور؛ لذلك قال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } أي تاب عن نفاقه الأول ، وإذا ما كان قد ترتب على نفاقه السابق إفساد فلا بد أن يصلح ما أفسده ويعتصم بالله ويُخْلِص لله نيّةً وعملاً . { إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ واعتصموا بالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } . إذن فشروط النجاة من الدرك الأسفل من النار هي التوبة ، وإصلاح ما أفسد ، والاعتصام بالله ، وإخلاص دينه لله .
والتوبة هنا إقلاع عن النفاق ، وألا يترك المنافق الفساد الذي صنعه نفاقه بل عليه أن يحاول جاهداً أن يصلح ما أفسده بهذا النفاق . والاعتصام بالله كيف يكون؟
لقد عرفنا من قبل أنهم كانوا يفعلون ذلك لابتغاء العزة عند الكافرين . . أي أن نفس المنافق تطمئن إلى هؤلاء الكافرين فيفزع إليهم ويعتز بشدتهم وبصلابتهم؛ لذلك يوضح الله : تنزعوا هذه الفكرة من رءوسكم وليكن اعتصامكم بالله وحده لأنه لا يُجِير أحد على الله ، واجعلوا العزة والمرجع إليه وحده .
والملاحظ أن الذي يتوب ويصلح ويعتصم بالله يكون قد استوفى أركان اليقين الإيماني بالله ، لكن الحق يقول : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } فلماذا أكد على الإخلاص هنا؟ لأن تدبير النفاق كان ينبع من قلوبهم أولا . ونعلم أن القلب قد يذنب ، فذنب الجارحة أن تعتدي ، مثال ذلك العين تذنب حين تعتدي على محارم الآخرين ، واللسان يذنب إن تعرض بالسب أو الشتم للناس . إذن . فكل جارحة لها مجال معصية ، وهنا مجال معصية القلب هو النفاق وهو الأمر المستور . إذن فقوله الحق : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } جاء ليؤكد ضرورة الإخلاص في التوبة عن النفاق ، والإخلاص محله القلب .
فكأن توبة القلوب غير توبة الجوارح ، فتوبة الجوارح تكون بأن تكف الجوارح عن مجال معاصيها . أما توبة القلب فهو أن يكف عن مجال نفاقه بأن يخلص . وبذلك أثبت الحق مزية المؤمنين الذين لم ينغمسوا في النفاق . وجعل التائبين من المنافقين مع المؤمنين ، فكأن الأصل في التنعيم وفي نيل الجزاء العظيم هو الوجود مع المؤمنين . { فأولئك مَعَ المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً } .
ومن هنا نعلم أن الأجر العظيم يكون للمؤمنين . ومن يوجد مع المؤمنين ينال الأجر نفسه . وقد جعل الحق الجزاء من جنس العمل . وكان المنافقون ينافقون ليأخذوا من المؤمنين ظواهر الإسلام كصون المال والدماء وليعتبرهم الجميع ظاهريا وشكليا من المسلمين ، وهم حين نافقوا المسلمين أعطاهم المسلمون ما عندهم . وعندما تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا الدين لله جعلهم الله مع المؤمنين ، ويعطي سبحانه لأهل الإيمان أجراً عظيماً .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَّا يَفْعَلُ الله . . . }
(1/1898)

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
وسبحانه قد أوضح من قبل أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، واستثنى منهم من تاب وأصلح واعتصم بالله وأخلص ، ويتحدث هنا عن فكرة العذاب نفسها ، ليجليها فيقول : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } وهذا استفهام ، والاستفهام أصلاً سؤال من سائل يتطلب جواباً من مجيب . وسبحانه وتعالى يريد أن يعرض قضية موثوقا بها فهو لا يأتي بها خبراً ، فهو القادر على أن يقول : أنا لا أفعل بعذابي لكم ولا أحقق لذاتي من ورائه شيئا ، فلا استجلب به لي نفعا ولا أدفع به عني ضراً .
لكنه هنا لا يأتي بهذه القضية كخبر من عنده ، بل يجعل المنافقين يقولونها . مثال ذلك - ولله المثل الأعلى - يقول واحد لآخر : أنت أهنتني . ومن الجائز أن يرد الآخر : أنا لم أهنك . وأقسم لك أنني ما أهنتك . وقد يضيف : ابغني شاهداً . وهنا نجد مراحل المسألة تبدأ بالإبلاغ عن عدم الإهانة ، ثم القسم بأن الإهانة لم تحدث ، ومن بعد ذلك طلب شاهداً على أن الإهانة المزعومة قد حدثت .
وقد يقول الإنسان رداً على من يتهمه بالإهانة : أنا أترك لك هذه المسألة ، فماذا قلت لك حتى تعتبره إهانة؟ ومن يقول ذلك واثق أن من شعر بالإهانة لو أدار رأسه وفكره فلن يجد كلمة واحدة تحمل في طياتها شبهة الإهانة .
ولو كان الإنسان واثقا من أنه أهان الآخر ، فهو يخاف أن يقيم الآخر دليلا على صحة اتهامه له ، ولكن حين يقول له : وماذا قلت لك حتى تعتبر ذلك إهانة؟ . فعليه أن يبحث ولن يجد . وبذلك يكون الحكم قد صدر منه هو .
وإذا كان الله يقول : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } فهذا خطاب لجماعة كانت ستتعذب . وكانت فيهم محادة لله . ورضي الله شهادتهم ، فكأن هذه لفتة على أن العاصي يستحق العذاب بنص الآية : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } ، ومستعد لهذا العذاب لأنه محاد لله . ولكن الله يقبل منه ومن أمثاله أن يشهدوا . وهذا دليل على أن الإيمان الفطري في النفس البشرية ، فإذا ما حزبها واشتد عليها الأمر لم تجد إلا منطق الإيمان .
ويوضح الحق للمنافقين : ماذا أفعل أنا بعذابكم؟ فلن يجدوا سببا خاصا بالله ليعذبهم ، فكأن الفطرة الطبيعية قد استيقظت فيهم؛ لأنهم سيديرون المسألة في نفوسهم .
وعلى مستوانا نحن البشر نرى أن الذي يدفع الإنسان ليعذب إنسانا آخر إنما يحدث ذلك ليشفي غيظ قلبه ، أو ليثأر منه؛ لأنه قد آلمه فيريد أن يرد هذا الإيلام . أو ليمنع ضرره عنه . والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون في أي موقع من هذه المواقع . فإذا أدار المنافقون هذه المسألة فطريا بدون إيمان فلن يكون جوابهم إلا الآتي : لن يفعل الله بعذابنا شيئا ، إن شكرنا وآمنا .
(1/1899)

ونستخلص من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يريد عرض قضية يثبت فيها الحكم من الخصم نفسه ، يلقيها على هيئة سؤال . وكان من الممكن أن يجري هذه المسألة خبرا ، إلا أن الخبر هو شهادة من الله لنفسه ، أما السؤال فستكون إجابته اقرارا من المقابل . وهذا يعمي أنهم كانوا عاصين ومخالفين . وكأنه سبحانه قد ائتمنهم على هذا الجواب؛ لأن الجواب أمر فطري لا مندوحة عنه . وحين يدير الكافر رأسه ليظن بالله ما لا يليق ، فلن يجد مثل هذا الظن أبدا .
{ مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً } . وإن لم يشكروا ولم يؤمنوا فما الذي يناله الحق من عذابهم؟ ونعلم أن عظمة الحق أنه لا يوجد شي من طاعة يعود إلى الله بنفع ، ولا يوجد شيء من معصية يعود إلى الله بالضرر . ولكنه يعتبر النفع والضرر عائدين على خلق الله لا على الله - سبحانه - .
وسبحانه يريدنا طائعين حتى نحقق السلامة في المجتمع ، سلامة البشر بعضهم من بعض . إذن فالمسألة التي يريدها الحق ، لا يريدها لنفسه ، فهو قبل أن يخلق الخلق موجود وبكل صفات الكمال له ، وبصفات الكمال أوجد الخلق . وإيجاد الخلق لن يزيد معه شيئا ، ولذلك قال في الحديث القدسي :
" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر . . " .
إذن فالطاعة بالنسبة لله والمعصية بالنسبة لله ، إنما لشيء يعود على خلق الله . ولننظر إلى الرحمة من الحق سبحانه وتعالى الذي خلق خلقاً ثم حمى الخلق من الخلق ، واعتبر سبحانه أن من يحسن معاملة المخلوق مثله فهو طائع لله ، ويحبه الله لأنه أحسن إلى صنعة الله .
{ مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } فإن تشكروا وتؤمنوا فلن يفعل الله بعذابكم شيئا . . أي فقد أبعدتم أنفسكم عن استحقاق العذاب .
وسبحانه يريد أن يعدل مزاج المجتمع وتفاعلات أفراده مع بعضهم بعضاً ، وذلك حتى يكون المجتمع ذا بقاء ونماء وتعايش . ونعلم أن لكل إنسان سمة وموهبة ، وهذه الموهبة يريدها المجتمع .
فمن الجائز أن يكون لإنسان ما أرض ويريد أن يقيم عليها بناء ، وصاحب الأرض ليس مفترضا فيه أن يدرس الهندسة أولاً حتى يصمم البناء ورسومه ، وليس مفترضا فيه أن يتقن حرفة البناء ليبني البيت ، وكذلك ليس مفروضا فيه أن يتعلم حرفة الطلاء والكهرباء وغيرهما .
(1/1900)

وكذلك ليس من المفروض فيمن يريد ارتداء جلباب أن يتعلم جز الصوف من الغنم أو غزل القطن وكيف ينسجه وكيف يقوم بتفصيله وحياكته من بعد ذلك ، لا ، لا بد أن يكون لكل إنسان عمل ما ينفع الناس . إذن فلكل إنسان عمل ينفع الناس به حتى يتحقق الاستطراق النفعي ، ولأن كلاًّ منا يحتاج إلى الآخر فلا بد من إطار التعايش السلمي في الحياة . لا أن يكون العراك هو أساس كل شيء؛ لأن العراك يضعف القوة ويذهب بها سدى ، وسبحانه يريد كل قوى المجتمع متساندة لا متعاندة ، ولذلك قال : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } . أما إن لم تشكروا وتؤمنوا ، فعذابكم تأديب لكم ، لا يعود على الله بشيء .
ولماذا وضع الحق الشكر مع الإيمان؟ لنعرف أولاً ما الشكر؟ الشكر : هو إسداء ثناء إلى المنعم ممن نالته نعمتهُ ، فتوجيه الشكر يعني أن تقول لمن أسدى لك معروفا : " كثر خيرك " ، وما الإيمان؟ إنه اليقين بأن الله واحد .
لكن ما الذي يسبق الآخر . الشكر أو الإيمان؟ إن الإيمان بالذات جاء بعد الانتفاع بالنعمة ، فعندما جاء الإنسان إلى الكون وجد الكون منظما ، ولم يقل له أحد أي شيء عن أي دين أو خالق . ألا تهفو نفس هذا الإنسان إلى الاستشراف إلى معرفة من صنع له هذا الكون؟
وعندما يأتي رسول ، فالرسول يقول للإنسان : أنت تبحث عن القوة التي صنعت لك كل هذا الكون الذي يحيط بك ، إن اسمها الله ، ومطلوبها أن تسير على هذا المنهج . هنا يكون الإيمان قد وقع موقعه من النعمة . فالشكر يكون أولاً ، وبعد ذلك يوجد الإيمان ، فالشكر عرفان إجمالي ، والإيمان عرفان تفصيلي . والشكر متعلق بالنعمة . والإيمان متعلق بالذات التي وهبت النعمة .
{ مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً } والحق سبحانه يوضح لنا : أنا الإله واهب النعمة أشكركم . كيف يكون ذلك؟
لنضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت اشتريت لابنك بعضا من اللعب ، ولم تفعل ذلك إلا بعد ان استوفيت ضرورات الحياة ، فلا أحد يأتي باللعب لابنه وهو لم يأت له بطعام أو ملابس .
إذن فأنت تأتي لابنك باللعب بعد الطعام والملبس ليملأ وقت فراغه ، وهذا يعني أن الضرورات قد اكتملت . وحين تقول لابنك : إن هذه اللعبة للعب فقط ، ستأخذها ساعة تحب أن تلعب ، وتضعها في مكانها وقت أن تذاكر ، فكل شيء هنا في هذا المنزل له مهمة يجب أن يؤديها . وهذا يعني إنك كوالد تريد أن تؤدب ابنك حتى يلعب بلعبته وقت اللعب ولا يلعب بأي شيء غيرها في المنزل؛ لأنه لو لعب بكل شيء في المنزل فلا بد من أن يكسر شيئا ، فلا مجال للعب في التليفزيون أو في الساعة أو الثلاجة أو الغسالة حتى لا تتعطل تلك الأجهزة .
(1/1901)

وأنت كوالد تريد أن تفرق بين شيء يلعب به وشيء يُجد به . وأشياء الجد لا توجد إلا عند طلبها فقط؛ فالغسَّالة لا تستخدم إلا ساعة غسل الملابس ، والساعة لا نستخدمها إلا لحظة أن نرغب في معرفة الوقت . والثلاجة لا تفتحها إلا ساعة تريد أن تستخرج شيئا تأكله أو تشربه ، والوالد يأتي للابن بقليل اللعب ليضع له حدا بين الأشياء التي يمكنه أن يلعب بعا وبين الأشياء التي لا يصح أن يلعب بها ، فأشياء المنزل يجب ألا يقرب منها الابن إلا وقت استعمالها . لكن بالنسبة للعبة فالابن يلعب بها عندما يحين وقت اللعب ، لكن عليه أن يحافظ عليها . وعندما يرقب الوالد ابنه ، ويجده منفذا للتعليمات ، ويحافظ على حاجات المنزل ، ويلعب بلعبه محافظا عليها . وإن لم يُعَلّم الأب ابنه ذلك فقد يفسد الابن لعبه .
وحين يقوم الابن بتنفيذ تعليمات أبيه فالأب يرضى عنه ويسعد به . وعندما تخرج لعبة جديدة في السوق فالأب الراضي عن ابنه يشتري له هذه اللعبة الجديدة؛ لأن الولد صار مأمونا؛ لأنه يعرف قواعد اللعب مع المحافظة على أداة اللعب . ويعرف أيضا كيف يحافظ على حاجات المنزل . ويزداد رضاء الأب عن تصرفات الابن . وينشأ عن هذا الرضاء أن يشتري الأب لعبا جديدة . فإذا كان ذلك هو ما يحدث في العلاقة ما بين الأب والابن ، وهما مخلوقان لله ، فما بالنا بالخالق الأعلى سبحانه وتعالى الذي أوجد كل المخلوقات؟
إن الإنسان حين يضع كل المسائل في ضوء منهج الله ، فالله شاكر وعليم؛ لأن الله يرضى عن العبد الذي يسير على منهجه ، وعندما يرضى الرب عن العبد فهو يعطي له زيادة . فالله شاكر بمعنى أن البشر إن أحسنوا استقبال النعمة بوضع كل نعمة في مجالها فلا تتعدى نعمة جادة ، على نعمة هازلة ولا نعمة هازلة على نعمة جادة ، فالله يرضى عن العباد .
ومعنى رضاء الله أن يعطي البشر أشياء ليست من الضرورات فقط ولكن ما فوق ذلك . فسبحانه يعطي الضرورات للكل حتى الكافر . ويعطي سبحانه ما فوق الضرورات وهي أشياء تسعد البشر .
إذن فمعنى أن الله شاكر . . أي أن سبحانه وتعالى راض . ويثيب نتيجة لذلك ويعطي الإنسان من جنس الأشياء ويسمو عطاؤه ، مصداقا لقوله الحق : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ]
فالشكر هنا موجه من العبد للرب ، والزيادة من الرب إلى العبد . وإياك أيها الإنسان أن تصنع الأشياء شكليا ، مثل الطفل الذي يصون لعبته لحظة أن يرى الأب . ومن فور أن يختفي الأب أمام عيني الطفل فهو يفسد اللعبة ، والله ليس كالأب أبداً ، فالأب قدراته محدودة ، ولكن الله هو الخالق الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية أبداً وسبحانه شاكر ، وهو أيضاً عليم .
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر . . . }
(1/1902)

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
إنه سبحانه وتعالى يريد أن يحمي آذان المجتمع الإيماني من " قالات السوء " . . أي من الألفاظ الرديئة؛ لأننا نعلم أن الناس إنما تتكلم بما تسمع ، فاللفظ الذي لا تسمعه الأذن لا تجد لسانا يتكلم به ، ونجد الطفل الذي نشأ في بيت مهذب لا ينطق ألفاظا قبيحة ، وبعد ذلك تجيء على لسانه ألفاظ قبيحة وحينئذ نتساءل : من أين جاءت هذه الألفاظ على لسان هذا الابن؟ ونعرف أنها جاءت من الشارع؛ لأن البيئة الدائمة للطفل ليس بها ألفاظ رديئة ، وعندما يتقصى الإنسان عن مصدر هذه الألفاظ ، يعرف أن الطفل المهذب قضى بعضاً من الوقت في بيئة أخرى تسربت إليه منها بعض الألفاظ الرديئة .
إذن فاللغة هي بنت المحاكاة . وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان . ونعلم أن اللغة ليست جنسا وليست دما ، بمعنى أن الطفل الإنجليزي لو نشأ في بيئة عربية ، فهو يتحدث العربية . ولو أخذنا طفلا عربيا ووضعناه في بيئة إنجليزية فسيتكلم الإنجليزية .
واللغة الواحدة فيها ألفاظ لا يتكلم بها لسان إلا إن سمعها ، وإن لم يسمعها الإنسان فلن ينطق بها . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي المجتمع الإيماني من قالات السوء التي تطرق آذان الناس لأنها ستعطيهم لغة رديئة؛ لأن الناس إن تكلمت بقالات السوء ، فسيكون شكل المجتمع غريبا ، وتتردد فيه قالات سوء في آذان السوء ، فكأن الحق سبحانه يوضح : إياكم أن تنطق ألسنتكم بأشياء لا يحبها الله ، فليست المسألة أن يريد الإنسان نفسه فقط بنطق كلمة ، ولكن نطق هذه الكلمة سيرهق أجيالاً؛ لأن من يسمع الكلمة الرديئة سيرددها ، وسيسمعها غيره فيرددها ، وتتوالى القدوة السيئة . ويتحمل الوزر الإنسان الذي نطق بكلمة السوء أولاً .
وقالات السوء هذه قد تكون بالحق وقد تكون بالباطل ، فإن كانت في الحق مثلا فلن نستطيع أن نقول : إن كل الناس أهل سوء . وقد يبتدئ إنسان آخر بسباب ، ويجوز أن يدعي إنسان على آخر سبابا . إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي الآذان الإيمانية من ألسنة السوء ، لذلك يقول : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول } ومقابلها بالطبع هو : أن الله يحب الجهر بالحسن من القول . وساعة يحبك الحق المجتمع هذه الحبكة الإيمانية ، أيعالج ملكة على حساب ملكة أخرى؟ . لا .
ونعلم أن النفس فيها حب الانتقام وحب الدفاع عن النفس وحب الثأر وما يروح به عن نفسه ويخفف ما يجده من الغيظ . والمثل العربي يقول : " من اسْتُغْضِب ولم يغضب فهو حمار "؛ لأن الذي يُستغضب ولا يغضب يكون ناقص التكوين ، فهل معنى ذلك أن الله يمتع الناس من قول كلمة سوء ينفث بها الإنسان عن صدره ويريح بها نفسه؟ لا ، لكنه - سبحانه - يضع شرطاً لكلمة السوء هو : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } ؛ لأن الظلم هو أخذ حق من إنسان لغيره .
(1/1903)

وكل إنسان حريص على نفسه وعلى حقوقه . فإن وقع ظلم على إنسان فملكات نفسه تغضب وتفور ، فإما أن ينفث بما يقول عن نفسه ، وإما أن يكبت ويكتم ذلك .
فإن قال الله : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول } واكتفى بذلك ، لكان كبتاً للنفس البشرية . وعملية الكبت هذه وإن كانت طاعة لأمر الله لأنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، ولكن قد ينفلت الكبت عند الانفعال ، وينفجر؛ لذلك يضع الحق الشرط وهو وقوع ظلم . فيوضح سبحانه : أنا لأ أحب الجهر بالسوء من القول ، وأسمح به في حدوده المنفثة عن غيظ القلوب؛ لأني لا أحب أن أصلح ملكة على حساب ملكة أخرى . ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس ، وإن كان جالسا فلينم فإن لم يزُل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء " .
أي أن يتحرك الإنسان من فور إحساسه بالغضب؛ فيغير من وضعه أو يقوم إلى الصلاة بعد أن يتوضأ أو يغتسل؛ لأنه بذلك ينفث تنفيثاً حركياً ليخفف من ضغط المواجيد على النفس الفاعلة؛ تماماً كما يفك إنسان صماماً عن آلة بها بخار ليخرج بعض البخار .
إذن فمن وقع عليه ظلم له أن يجهر بالسوء . والجهر له فائدتان : الأولى : أن ينفث الإنسان عن نفسه فلا يكبت ، وثانياً : أنه أشاع وأعلن أن : هذا إنسان ظالم ، وبذلك يحتاط الناس في تعاملهم معه . وحتى لا يخدع إنسان نفسه ويظن بمنجاة عن سيئاته ، فلو ستر كل إنسان الظلم الذي وقع عليه لاستشرى الظلم في عمل السيئات . ولكن إياك أن تتوسع أيها العبد في فهم معنى كلمة " ظلم " هذه؛ لأن الذي ينالك ممن ظلمك إما فعل وإما قول . وعليك أيها المسلم أن تقيس الأمر بمقياس دقيق على قدر ما وقع عليك من ظلم . { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ]
إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يعطينا في الاستثناء إلا على قدر الضرورة . ويوضح : إياكم أن تزيدوا على هذه الضرورة ، فإن كان ظلمكم بقول فأنا السميع . وإنْ كان ظلمكم بفعل فأنا العليم ، فلا يتزيد واحد عن حدود اللياقة .
وبذلك يضع الحق الضوابط الإيمانية والنفسية فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح الإيماني . لقد سمح للعبد أن يجهر إن وقع عليه ظلم . لكن إن امتلك الإنسانُ الطموحَ الإيماني فيمكنه ألا يجهر وأن يعفو . إذن فهناك فارق بين أمر يضعه الحق في يد الإنسان ، وأمر يلزمه به قسراً وإكراها عليه؛ فمن ناحية الجهر ، جعل سبحانه المسألة في يد الإنسان ، ويحب سبحانه أن يعفو الإنسان؛ لأن المبادئ القرآنية يتساند بعضها مع بعض .
(1/1904)

وسبحانه يقول : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ]
فإن أباح الله لك أن تجهر بالسوء من القول إذا ظلمك أحدٌ ، فقد جعل لك ألاّ تجهر بل تعفو عنه ، وغالب الظن أن صاحب السوء يستخزى ويعرف أن هناك أناساً أكرم منه في الخلق ، ولا يتعب إنسانٌ إلا أن يرى إنساناً خيراً منه في شيء . وعندما يرى الظَالمُ أن المظلوم قد عفا فقد تنفجر في نفسه الرغبة أن يكون أفضل منه .
إذن فالمبدأ الإيماني : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } جعله الله مجالاً محبوباً ولم يجعله قسراً؛ لأنك إن أعطيت الإنسان حقه ، ثم جعلت لأريحيته أن يتنازل عن الحق فهذا إرضاء للكل . وهكذا ينمي الحق الأريحية الإيمانية في النفس البشرية؛ لأنه لو جعلها قسراً لأصلح ملكة على حساب ملكة أخرى . ولذلك إذا رأيت إنساناً قد اعتدى على إنسان آخر ، فدفع الإنسان المعتدى عليه بالتي هي أحسن وعفا وأصلح فقد ينصلح حال المعتدي ، وسبحانه القائل : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } .
فإذا تمادى من بعد ذلك فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لا يكذب أبداً ، ولا بد أن الخلل في سلوكك يا من تظن أنك دفعت بالتي هي أحسن .
قد يكون الذي دفع بالتي هي أحسن قد قال بلهجة من التعالي : سأعفو عنك ، ومثل هذا السلوك المتكبر لا يجعل أحداً وليًّا حميمًا . لكن إن دفع حقيقة بالتي هي أحسن تواضعاً وسماحة ، فلا بد أن يصير الأمر إلى ما قاله الله : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } . والتفاعلات النفسية المتقابلة يضعها الله في إطارات واضحة وسبحانه القائل : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ]
وذلك حتى لا يستشرى المعتدي أيضاً ، فهناك إنسان إذا تركناه مرة ومرة . يستشرى ، لكن إذا ما أوقفناه عند حده فهو يسكت ، وبذلك نرحم المجتمع من استشراء الفساد . ويُصعب الحق المسألة في رد الاعتداء .
ويثور سؤال : من القادر على تحقيق المثلية بعدالة؟ . ونجد على سبيل المثال إنسانا ضرب إنساناً آخر صفعة على الوجه ، فبأية قوة دفعٍ قد ضرب؟ وفي أي مكان ضرب؟ ولذلك نجد أن رد العدوان على درجة المثلية المتساوية أمر صعب . ومادام المأمور به أن أعتدى بمثل ما اعتدى به علي؛ ولن أستطيع تحقيق المثلية ، ولربما زاد الأمر على المثلية؛ وبعد أن كنت المعتدَى عليه صرت المعتدِي ، بذلك يكون العفو أقرب وأسلم .
والعمليات الشعورية التي تنتاب الإنسان في التفاعلات المتقابلة يكون لها مواجيد في النفس تدفع إلى النزوع .
(1/1905)

والعملية النزوعية هي رد الفعل لما تدركه ، فإن آذاك إنسان وأتعبك واعتدى عليك فأنت تبذل جهدًا لتكظم الغيظ ، أي أن تحبس الغيظ على شدة . فالغيظ يكون موجوداً ، ولكن المطلوب أن يمنع الإنسان الحركة النزوعية فقط . وعلى المغتاظ أن يمنع نفسه من النزوع ، وإن بقي الغيظ في القلب . { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ]
هذه مرحلة أولى تتبعها مرحلة ثانية هي : { والعافين عَنِ الناس } [ آل عمران : 134 ]
فإذا كان المطلوب في المرحلة الأولى منع العمل النزوعي ، فالأرقى من ذلك أن تعفو ، والعفو هو أن تخرج المسألة التي تغيظك من قلبك . وإن كنت تطلب مرحلة أرقى في كظم الغيظ والعفو فأحسن إليه؛ لأن من يرتكب الأعمال المخالفة هو المريض إيمانياً . وعندما ترى مريضاً في بدنه فأنت تعاونه وتساعده وإن كان عدواً لك . وتتناسى عدواته؛ فما بالنا بالمصاب في قيمه؟ إنه يحتاج منا إلى كظم الغيظ ، أو العفو كدرجة أرقى ، أو الاحسان إليه كمرحلة أكثر علواً في الارتقاء .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يبيح أن تعتدي بالمثل ، ثم يفسح المجال لنكظم الغيظ فلا نعتدي ولكن يظل السبب في القلب ، ثم يرتقي بنا مرحلة أخرى إلى العفو وأن نخرج المسألة من قلوبنا ، ثم يترقى ارتقاء آخر ، فيقول سبحانه : { والله يُحِبُّ المحسنين } ، ومن فينا غير راغب في حب الله؟ وهكذا نرى أن الدين الإسلامي يأمر بأن يحسن المؤمن إلى من أساء إليه .
وقد يتساءل إنسان : كيف تطلب مني أن أحسن إلى من أساء إلي؟ والرد : أنت وهو لستما بمعزل عن القيوم؛ فهو قيوم ولا تأخذه سنة ولا نوم ، وكل شيء مرئي له وكلاكما صنعة الله ، وعندما يرى الله واحداً من صنعته يعتدي عليك أو يسيء إليك فسبحانه يكون معك ويجيرك ، ويقف إلى جانبك لأنك المعتدَى عليه . إذن فالإساءة من الآخر تجعل الحق سبحانه في جانبك ، وتكون تلك الإساءة في جوهرها هدية لك .
وعندما نفلسف كل المسائل نجد أن الذي عفا قد أخذ مما لو كان قد انتقم وثأر لنفسه؛ لأنه إن انتقم سيفعل ذلك بقدرته المحدودة ، وحين يعفو فهو يجعل المسألة لله وقدرته سبحانه غير محدودة ، إن أراد أن يرد عليه ، وبعطاء غير محدود إن أراد أن يرضى المعتدي عليه . هذا هو الحق سبحانه وتعالى عندما يلجأ إليه المظلوم العافي المحسن . وهو السميع العليم بكل شيء . ويقول الحق من بعد ذلك : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً . . . }
(1/1906)

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
لقد عرفنا أن الحق لا يسمح لك بالجهر بالسوء من القول إلا إذا كنت مظلوماً . وهذا يعني أن المسألة تحتمل الجهر وتحتمل الإخفاء ، فقال : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً } أي إن تظهر الخير ، أو تخفي ذلك ، أو تعفو عن السوء . وكل هذه الأمور من ظاهر وخفي من الأغيار البشرية ، لكن شيئاً لا يخفى على الله . ولا يمكن أن يكون للعفو مزية إيمانية إلا إذا كان مصحوبا بقدرة ، فإن كان عاجزاً لما قال : عفوت . وسبحانه يعفو مع القدرة . فإن أردت أن تعفو فلتتخلق بأخلاق منهج الله ، فيكون لك العفو مع القدرة . ولنا أن نعلم أن الحق لا يريد منا أن نستخزي أو نستذل ولكن يريد منا أن نكون قادرين ، ومادمنا قادرين فالعفو يكون عن قدرة وهذه هي المزية الإيمانية؛ لأن عفو العاجز لا يعتبر عفواً .
والناس تنظر إلى العاجز الذي يقول : إنه عفا - وهو على غير قدرة - تراه أنه استخزى . أما من أراد أن يتخلق بأخلاق منهج الله فليأخذ من عطاءات الله في الكون ، ليكون قادراً وعزيزاً بحيث إن ناله سوء ، فهو يعفو عن قدرة { فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } .
وقلنا من قبل : إنك إذا لمحت كلمة " كان " على نسبة لله سبحانه وتعالى كنسبة الغفران له أو الرحمة ، فعلينا أن نقول : كان ولا يزال؛ لأن الفعل مع الله ينحل عن الزمان الماضي وعن الحاضر وعن المستقبل؛ فهو سبحانه مادام قد كان ، وهو لا تناله الأغيار ، فهو يظل إلى الأبد .
ويقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ . . . }
(1/1907)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
وسبحانه يريد أن يجعل من قضية الإيمان قضية كلية واحدة لا أبعاض فيها ، فليس إعلان الإيمان بالله وحده كافياً لأن يكون الإنسان مؤمناً؛ لأن مقتضى أن تؤمن بالله يحتاج إلى رسول يعرفك أن الخالق هو الذي سخر لك قوى الكون واسمه الله . وأنت لا تهتدي إلى معرفة اسم القوة الخالقة لك إلا بوساطة رسول منزل من عند الله .
ونعرف أن عمل العقل في الاستنباط العقدي عاجز عن معرفة اسم خالق الكون؛ لأن الإنسان قد طرأ على كون منظم ، وكان من الواجب عليه أن يلتفت لفتة ليعلم القوة التي سبقت هذا الوجود وخلقته وأن الإنسان قد طرأ على وجود متكامل . وقد يسمع الإنسان من أبيه - مثلاً - أن هذا البيت بناه الأب أو الجد ، وذلك الشيء فعله فلان ابن فلان . لكن لم يسمع أحداً يقول له : " ومن بنى السماء؟ " ولم يسمع أحداً يقول : " ومن خلق الشمس؟ " ، مع أن الناس تدعي ما ليس لها ، فكيف يُترك أعظم ما في كون الله بدون أن نعرف من أوجده؟ .
إننا نجد الناس تؤرخ للشيء التافه أو المهم نسبياً في حياتهم ، نجد دراسات عن تاريخ أحجار ، ودراسات عن تاريخ صناعة الأشياء؛ تاريخ المصباح الكهربي الذي اخترعه اديسون وقام بتوليد الكهرباء من مصادر ضئيلة ويسيره ، باختصار ، نجد أن كل شيء في هذا الوجود له تاريخ ، وهذا التاريخ يرجع بالشيء إلى أصل وجوده . وأنت إن نسبت أي صنعة مهما كانت مهمة أو تافهة نكتشف أن واحداً تلقاها عن واحد ، ولم يبتكرها هو دفعة واحدة .
إن كل مبتكر أخذ ما انتهى إليه سابقه وبدأ عملاً جديداً إلى أن وصلت المخترعات بميلادها ، ومن يصدق أن مصباحاً يُضيء وينطفئ ويحترق يضنعه إنسان ونعرف له تاريخاً ، وبعد ذلك ننظر إلى الشمس التي لم تخفت ولم تضعف ولم تنطفئ ولم تحترق ، والمصباح ينير حيزاً قليلا يسيراً ، والشمس تنير كوناً ووجوداً ، ألا تحتاج الشمس إلى من يفكر في تاريخها؟
لقد سبق لنا أن قلنا : إن الإنسان حينما ينظر إلى الكون نظرة بعيدة عن فكرة الدين وبعيداً عن بلاغ الرسل عن الخالق وكيفية الخلق ومنهج الهداية ، فهو يقول لنفسه : تختلف مقادير الناس باختلاف مراكزها وقوتها فيما يفعلون ، هناك من يجلس على كرسي من شجر الجميز . وآخر على كرسي مصنوع من شجر الورد ، وثالث يجلس على حصيرة .
إن الإنسان يعيش بصناعات غيره من البشر حسب قدره ومكانته؛ فالريفي أو البدوي يشعل النار بصك حديدة بحجر الصوان ويحتفظ بالنار لمدة يستخدمها لأكثر من مرة ، وعندما يرتقي في استخدام النار يستخدم " مسرجة " ، ولمَّا ازداد تحضرا استخدم " مصباح جاز " بزجاج ولها أرقام تدل على قدرتها على الإضاءة .
(1/1908)

فهناك مصباح رقم خمسة ، ورقمها دليل على قوتها الخافتة ، وتتضاعف قوة " المصباح " من بعد ذلك حسب المساحة المطلوب إنارتها . ولمّا ارتقى الإنسان أكثر استخدم " الكلوب " . ولمّا ارتقى أكثر استخدم الكهرباء أو النيون أو الطاقة الشمسية ، فإذا ما أشرقت الشمس فكل إنسان يطفئ الضوء الذي يستخدمه ، فنورها يغني عن أي نور . وفي الليل يحاول الإنسان أن تكون حالة الكهرباء في منزله جيدة خشية أن ينقطع سلك ما فيظلم المكان . فما بالنا بالشمس التي لا يحدث لها مثل ذلك .
إننا نجد الإنسان على مر التاريخ يحاول أن يرقى إلى فهم طلاقة قدرة الحق ، وإن لم يأت رسول ، أما أسماء القدرة الخالقة فلا يعرفها أحد بالعقل بل بوساطة الرسل . فاسم " الله " اسم توقيفي . فكيف يتأتى - إذن - مثل قول هؤلاء : سنؤمن بالله ونكفر برسله؟ كيف عرفوا - إذن - أن القوة التي سيؤمنون بها اسمها الله؟ لا بد أنهم قد عرفوا ذلك من خلال رسول؛ لأن الإيمان بالله إنما يأتي بعد بلاغ عن الله لرسول ليقول اسمه لمن يؤمن به .
وهل الإيمان بالله كقوة خفية قوية مبهمة وعظيمة يكفي؟ أو أن الإنسان لا بد له أن يفكر فيما تطلبه منه هذه القوة؟ وإذا كانت هذه القوة تطلب من الإنسان أن يسير على منهج معين ، فمن الذي يبلغ هذا المنهج؟
لا بد إذن من الرسول يبلغنا اسم القوة الخالقة ومطلوبها من الإنسان للسير على المنهج ، ويشرح لنا كيفية طاعة هذه القوة . فلا أحد - إذن - يستطيع أن يفصل الإيمان بالله عن الرسول ، وإلا كان إيماناً بقوة مبهمة . ولا يجترئ صاحب هذا اللون من الإيمان أن يقول : إن اسم هذه القوة " الله "؛ لأن هذا الاسم يحتاج إلى بلاغ من رسول .
إذن فعندما يسمع أحدنا إنساناً يقول : أنا أؤمن بالله ولكن لا أؤمن بالرسل : علينا أن نقول له : هذا أول الزلل العقلي؛ لأن الإيمان بالله يقتضي الإيمان ببلاغ جاء به رسول؛ لأن الإيمان بالله لا ينفصل عن الإيمان بالرسول .
والحق سبحانه وتعالى خلق آدم بعد أن خلق الكون وبقية المخلوقات ، ولا نجد من يدعي أن آدم هو أول من عمر هذا الوجود .
وما آدم في منطق العقل واحد ... ولكنه عند القياس أوادم
ومن الممكن أن نقول : إن هناك خلقاً كثيراً قد سبقوا آدم في الوجود ، ولكن آدم هو أول الجنس البشري . وعندما خلقه الله علمه الأسماء كلها حتى يستطيع أن يسير في الوجود ، فلو لم يكن قد تعلم الأسماء لما استطاع أن يتحدث مع ولد من أولاده ، ولما استطاع - على سبيل المثال - أن يقول لابن من أبنائه : انظر أاشرقت الشمس أم لا؟
إذن كان لا بد لآدم من معرفة الأسماء كلها من خلال معلم؛ لأن اللغة بنت المحاكاة؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يتكلم كلمة إلا بعد أن يكون قد سمعها .
(1/1909)

والواحد منا سمع من أبيه ، والآباء سمعوا من الأجداد ، وتتوالى المسألة إلى أن تصل إلى آدم ، فممن سمع آدم حتى يتكلم أول كلمة؟ لا بد أنه الله ، وهذه مسألة يجب أن يعترف بها كل إنسان عاقل . إذن قول الحق في قرآنه : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ]
هو كلام منطقي بالإحصاء الاستقرائي ، وهو قول يتميز بمنتهى الصدق .
والإنسان منا عندما يعلم ابنه الكلام يعلمه الأسماء . أما الأفعال فلا أحد يعرف كيف تعلمها . الإنسان يقول لابنه : هذا كوب ، وهذه منضدة ، وذلك طبق ، وهذا طعام ، لكن لا أحد يقول لابنه : " شرب " معناها كذا ، و " أكل " معناها كذا . إذن فالخميرة الأولى للكلام هي الأسماء ، وبعد ذلك تأتي المزاولات والممارسات ليتعلم الإنسان الأفعال .
لقد ترك الحق لنا في كونه أدلة عظيمة تناسب عظمته كخالق لهذا الكون . والرسول هو الذي يأتي بالبلاغ عنه سبحانه ، فيقول لنا اسم القوة : " الله " ، وصفاتها هي " كذا " ، ومن يطعها يدخل الجنة ، ومن يعصها يدخل النار ، ولو لم يوجد رسول نظل تائهين ولا نعرف اسم القوة الخالقة ولا نعرف مطلوبها ، وهذا ما يرد به على الجماعة التي تعبد الشمس أو تعبد القمر أو النجوم ونقول لهم : هل أنتم تعبدون الشمس؟ لعلكم فعلتم ذلك لأنها أكبر قوة في نظركم .
لكن هناك سؤال هو : " ما العبادة "؟ الإجابة هي : العبادة طاعة عابد لمعبود ، فماذا طلبت منكم الشمس أن تفعلوه وماذا نهتكم ومنعتكم الشمس ألا تفعلوه؟ ويعترف عبدة الشمس : لم تطلب الشمس منا شيئا . وعلى ذلك فعبادتهم للشمس لا أساس لها؛ لأنها لم تحدد منهجا لعبادتها ، ولا تستطيع أن تعد شيئا لمن عبدها ، فإله بلا منهج لا قيمة له . وهكذا نرى أن عبادة أي قوة غير الله هي عبادة تحمل تكذيبها ، والإيمان بالله لا ينفصل أبداً عن الإيمان بالقوة المبلغة عن الله إنها الرسل .
ويشرح الرسول لنا كيف يتصل بهذه القوة الإلهية ، وتشرح القوة الألهية لنا كيفية اتصاله بالرسول البشري بوساطة خلق آخر خلقته هذه القوة المطلقة؛ لأن الرسول من البشر ، والبشر لا يستطيع أن يتلقى عن القوة الفاعلة الكبرى . ونحن نفعل مثل هذه الأشياء في صناعتنا . ونعلم أن الإنسان عندما يريد أن ينام لا يرغب في وجود ضوء في أثناء نومه ، فيتخذ الليل سكنا ويتمتع بالظلمة ، لكن إن استيقظ في الليل فهو يخاف أن يسير في منزله بدون ضوء حتى لا يصطدم بشيء ، لذلك يوقد مصباحاً صغيراً في قوة الشمعة الصغيرة ليعطي نفسه الضوء ، ونسميها " الوناسة " .
(1/1910)

ولا نستطيع توصيل هذا المصباح الصغير بالكهرباء مباشرة ، وإنما نقوم بتركيب محول صغير يأخذ من القوة الكهربية العالية ويعطى للمصباح الصغير ، فما بالنا بقوة القوى؟
إن الله جعل خلقاً آخر هم الملائكة ليكونوا واسطة بينه وبين رسله . وهؤلاء الرسل أعدهم سبحانه إعداداً خاصاً لتلقي هذه المهمة . إذن فالذين يريدون أن يؤمنوا بالله ثم يكفروا برسله نقول لهم : لا ، هذا إيمان ناقص . ووضع الحق سبحانه وتعالى الإيمان بالرسل كلهم في صيغة جمع حتى لا تفهم كل أمة أن رسولها فقط هو الرسول المنزل من عند الله ، بل لا بد أن تؤمن كل أمة بالرسل كلهم؛ لأن كل رسول إنما جاء على ميعاده من متطلبات المجتمع الذي يعاصره ، وكلهم جاءوا بعقائد واحدة ، فلم يأت رسول بعقيدة مخالفة لعقيدة الرسول الآخر؛ وإن اختلفوا في الوسائل والمسائل التي تترتب عليها الارتقاءات الحياتية . وقد خلق الحق أولاً سيدنا آدم وخلق منه زوجته حواء ، اثنين فقط ثم قال سبحانه : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ]
كان الاثنان يعيشان معاً وأنجبا عدداً من الأبناء ، وتناسل الأبناء فصار مطلوباً لكل أسرة من الأبناء بيتاً ، وكل بيت فيه أسرة يحتاج إلى رقعة من الأرض ليستخرج منها أفراد الأسرة خيرات تكفي الطعام . وكل فرد يحتاج على الأقل إلى نصف فدان ليستخرج منه حاجته للطعام . وكلما كثر النسل اتسعت رقعة الوجود بالمواصلات البدائية ، فهذا إنسان ضاقت به منطقته فرحل إلى منطقة أخرى فيها مطر أكثر ليستفيد منه أو خير أكثر يستخرجه . وتنتشر الجماعات وتنعزل . وصارت لكل جماعة عادات وتقاليد وأمراض ومعايب غير موجودة في الجماعة الأخرى . ولذلك ينزل الحق سبحانه وتعالى رسولاً إلى كل جماعة ليعالج الداءات في كل بيئة على حدة . وسخر الحق سبحانه وتعالى بعض العقول لاكتشافات الكون ، وبعد ذلك يصبح الكون قطعة واحدة ، فالحدث يحدث في أمريكا لنراه في اللحظة نفسها في مصر . وزادت الارتقاءات . ولذلك كادت العادات السيئة تكون واحدة في المجتمع الإنساني كله ، فتظهر السيئة في أمريكا أو ألمانيا لنجدها في مجتمعنا . إذن فالارتقاءات الطموحية جعلت العالم وحدة واحدة : آفاته واحدة ، وعاداته واحدة . وعندما يأتي الرسول الواحد يشملهم كلهم .
ولذلك كان لا بد أن يأتي الرسول الخاتم الجامع صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العالم لم يعد منعزلاً ، ليخاطب الجمع كله ، وهو خير الرسل ، وأمته خير الأمم إن اتبعت تعاليمه . ومن ضرورة إيمان رسول الله والذين معه أن يؤمنوا بمن سبق من الرسل . والذين يحاولون أن يفرقوا بين الرسل هم قوم لا يفقهون ، . فاليهود آمنوا بموسى عليه السلام وأرهقوه وكفروا بعيسى . وعندما جاء عيسى عليه السلام آمن به بعض ، وعندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم آمن به بعض وكفر به بعض .
(1/1911)

ولذلك سمى الحق كفرهم بالنبي الخاتم : ( ثم ازدادوا كفراً ) . أي أنه كفر في القمة ، فلن يأتي نبي من بعد ذلك . واكتمل به صلى الله عليه وسلم موكب الرسالات .
إذن فالمراد من الآية أن الإيمان فيه إيمان قمة ، تؤمن بقوة لكنك لا تعرف اسم هذه القوة ولا مطلوبات هذه القوة ولا ما ادته القوة من ثواب للمطيع ولا من عقاب للعاصي . ولذلك كان ولا بد أن يوجد رسول؛ لأن العقل يقود إلى ضرورة الإيمان بالله والرسل . وجاء الرسل في موكب واحد لتصفية العقيدة الإيمانية للإله واحد ، فلا يقولن واحد : لقد آمنت بهذا الرسول وكفرت ببقية الرسل . والآية التي نحن بصددها الآن تتعرض لذلك فتقول : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } [ النساء : 150 ]
ونحن نعلم أن " كفر " معناها " ستر " . والستر - كما نعلم - يقتضي شيئا تستره ، والشيء الذي يتم ستره موجود قبل الستر لا بعد الستر . والذي يكفر بوجود الله هو من يستر وجود الله؛ فكأن وجود الله قد سبق الكفر به . إذن فكلمة الكفر بالله دليل على وجود الله . ونقول للكافر : ماذا سترت بكفرك؟ وستكون إجابته هي : " الله " . أي أنه آمن بالله أولاً .
{ إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ } هم الحمقى؛ لأن هذا أمر غير ممكن ، وكل رسول إنما جاء ليصل المرسل إليهم بمن أرسله . ولذلك نجد قوله الحق : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 74 ]
إنه حدث واحد من الله ورسوله . لذلك نجد أن الحمقى هم من يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } لهؤلاء نقول : إن الإيمان قضية كلية ، فموكب الرسالة من الحق سبحانه وتعالى يتضمن عقائد واحدة ثابتة لا تتغير . والحق يقول : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ } [ النساء : 163 ]
وهذا يؤكد أن قضايا العقائد إنما جاءت من نبع واحد لعقيدة واحدة . فماذا - إذن - يريدون بمسألة الإيمان ببعض الرسل والكفر بالبعض الآخر؟ يريدون السلطة الزمنية . وكان القائمون على أمر الدين قديماً هم الذين يتصرفون في كل أمر ، في القضاء وفي الهندسة وفي كل شيء ، لذلك وثق فيهم الناس على أساس أنهم المبلغون عن الله الذين ورثوا النبوات وعرفوا العلم عن الله . ونجد العلوم الارتقائية في الحضارات القديمة كحضارة قدماء المصريين كالتحنيط وغيرها تلك التي مازالت إلى الآن لغزاً ، إنما قام بأمرها الكهنة ، وهم - كما نعلم - المنسوبون إلى الدين . كأن الأصل في كل معلومات الأرض هي من هبة السماء .
(1/1912)

لماذا إذن أخرج البشر وسنُّوا قوانين من وضعهم؟ لقد فعل البشر ذلك لأن السلطة الزمنية استولى عليها رجال الدين .
ما معنى كلمة " سلطة زمنية " . كان الناس يلجأون إلى رجل الدين في كل أمورهم ، ويفاجأ رجل الدين بأنه المقصود من كل البشر ، ويغمره الناس بأفضالهم ويعطونه مثل القرابين التي كانت تعطى للآلهة ، فيعيش في وضع مرفَّه هو وأهله ويزداد سمنة من كثرة الطعام والمتعة . وعندما يأتي إليه أحد في مسألة فهو يحاول أن يقول الرأي الذي يؤكد به سلطته الزمنية ، فإذا ما جاء رسول ليلغي هذه الامتيازات ، يسرع بتكذيبه؛ ليظل - كرجل كهنوت - على قمة السلطة . ولذلك قال فيهم الحق : { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } [ التوبة : 9 ]
أي استبدلوا بآيات الله ثمنا قليلا من متاع الدنيا . فأخذوا الشيء الحقير من متاع الدنيا وتركوا آيات الله دون أن يعملوا بها .
وعندما نبحث في تاريخ القانون . نجد قانوناً إنجليزياً وآخر فرنسياً أو رومانياً ، ونجد أن المصادر الأولى لهذه القوانين هي ما كان يحكم به الكهنة . والذي جعل الناس تنعزل عن الكهنة هو استغلالهم للسلطة الزمنية . والتفت البشر الذين عاصروا هؤلاء الكهنة أن الواحد منهم يقضي في قضية بحكم ، ثم يقضي في مثيلاتها بحكم مخالف ، ويغير من حكمه لقاء ما يأخذ من أجر ، فتشكك فيهم الناس ، وعرفوا أنهم يلوون الأحكام حسب أهوائهم؛ لذلك ترك الناس حكم الكهنة ، ووضعوا هم القوانين المناسبة لهم .
إذن فالسلطة الزمنية هي التي جعلت من أتباع بعض الرسل يتعصبون لرسلهم . فإذا ما جاء رسول آخر ، فإن أصحاب السلطة الزمنية يقاومون الإيمان برسالته حتى لا يأخذ منهم السلطة الزمنية . ولذلك يعادونه؛ لأن الأصل في كل رسول أن يبلغ أتباعه والذين آمنوا به ، أنه إذا جاء رسول من عند الله فعليكم أن تسارعوا أنتم إلى الإيمان به . { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } [ آل عمران : 81 ]
وهكذا أخذ الله الميثاق من النبيين بضرورة البلاغ عن موكب الرسالة حتى النبي الخاتم . { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } [ النساء : 150 ]
أي أنهم يحاولون أن يفرقوا بين الله ورسله بأحكامهم التي كانوا يتبعون فيها أهواءهم للإبقاء على السلطة الزمنية ، من أجل أن يقيموا أمراً هو بين بين ، وليس في الإيمان " بين بين "؛ فإما الإيمان وإما الكفر . والنظرة إلى كل هذه الآية نجدها في معظمها معطوفات ، ولم يتم فيها الكلام وهي في كليتها مبتدأ ، لا بد لها من خبر ، ويأتي الخبر في الآية التالية : { أولئك هُمُ . . . }
(1/1913)

أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
و " الكافرون حقاً " مقصود بها أن حقيقة الكفر موجودة فيهم؛ لأننا قد نجد من يقول : وهل هناك كافر حق ، وكافر غير ذلك؟ نعم . فالذي لا يؤمن بكل رسالات السماء قد يملك بعضاً من العذر ، لأنه لم يجد الرسول الذي يبلغه . أما الذي جاءه رسول وله صلة إيمانية به؛ وهذه الصلة الإيمانية لحمته بالسماء بوساطة الوحي ، فإن كفر هذا الإنسان فكفره فظيع مؤكد . { أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً } .
ونلحظ أن الحق ساعة يتكلم عن الكافرين لا يعزلهم عن الحكم والجزاء الذي ينتظرهم ، بل يوجد الحكم معهم في النص الواحد . ولا يحيل الحق الحكم إلى آية أخرى : { أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } وقد جاء هنا بالجزاء على الكفر ملتصقاً بالكفر ، فسبحانه قد جهز بالفعل العذاب المهين وأعَدّه للكافرين ولم يؤجل أمرهم أو يسوفه . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الجنَّة عرضت عليّ ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت "
لقد أعد الحق الجنة والنار فعلاً وعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو شاء الرسول أن يأتي المؤمنين بقطاف من ثمار الجنة لفعل . فإياكم أن تعتقدوا أن الله سيظل إلى أن تقوم الساعة ، ثم يرى كم واحداً قد كفر فيعد لهم عذاباً على حسب عددهم ، و كم واحداً قد آمن فيعد لهم جنة ونعيماً على قدر عددهم ، بل أعد الحق الجنة على أن كل الناس مؤمنون ولهم مكان في الجنة ، وأعد النار على أن كل الناس كافرون ولهم أماكن في النار . فيأتي المؤمن للآخرة ويأخذ المكان المعد له ، ويأخذ أيضاً بعضاً من الأماكن في الجنة التي سبق إعدادها لمن كفر . مصداقاً لقوله الحق : { أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 10-11 ]
فسبحانه لم ينتظر ولم يؤجل المسألة إلى حد عمل الإحصائية ليسأل من الذي آمن ومن الذي كفر ، ليعد لكل جماعة حسب تعدادها ناراً أو جنة ، بل عامل خلقه على أساس أن كل الذي يأتي إليه من البشر قد يكون مؤمناً ، لذلك أعد لكل منهم مكاناً في الجنة ، أو أن يكون كافراً ، فأعد لكل منهم مكاناً في النار . ونجد السؤال في الآخرة للنار : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ]
فالنار تطلب المزيد للأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخلها أنه آمن بالله . ويرث الذين آمنوا الأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخل الجنة لأنه كفر بالله وبرسله وفرق بين الله ورسله وقال نؤمن ببعض ونكفر ببعض . ويأتي من بعد ذلك المقابل للذين كفروا بالله ورسله وهم المؤمنون ، هذا هو المقابل المنطقي .
والمجيء بالمقابلات أدعى لرسوخها في الذهن . مثال ذلك عندما ينظر مدير المدرسة إلى شابين ، كل منهما في الثانوية العامة ، فيقول : فلان قد نجح لأنه اجتهد ، والثاني قد خاب وفشل . هذه المفارقة تحدث لدى السامع لها المقارنة بين سلوك الاثنين .
وهاهو ذا الحق يأتي بالمقابل للكافرين بالله ورسله : { والذين آمَنُواْ . . . }
(1/1914)

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
ويؤكد الحق هنا على أمر واضح : هو : { وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } وكلمة " أحد " في اللغة تطلق مرة ويراد بها المفرد ، ومرة يراد بها المفردة ، ومرة يراد بها المثنى مذكراً أو المثنى مؤنثاً أو جمع الإناث وجمع التذكير . وهكذا تكون " أحد " في هذه الآية تشمل كل الرسل ، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى : { يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء } [ الأحزاب : 32 ]
فكلمة أحد يستوي فيها المذكر والمؤنث والمثنى والمفرد والجمع . وكما قال الحق عن الذين يكفرون بالله ورسله أو يفرقون بين الرسل : { أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } . يقول الحق في هذه الآية عن الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم : { أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } فكل مقابل قد جاء معه حُكْمُه . ومن بعد ذلك يقول الحق : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب . . . }
(1/1915)

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
هذا خطأ منهم في السؤال ، وكان المفروض أن يكون : يسألك أهل الكتاب أن تسأل الله أن ينزل عليهم كتاباً . وقد حاول المشركون في مكة أن يجدوا في القرآن ثغرة فلم يجدوا وهم أمة فصاحة وبلاغة ولسان ، واعترفوا بأن القرآن عظيم ولكن الآفة بالنسبة إليهم أنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
هم اعترفوا بعظمة القرآن ، واعترافهم بعظمة القرآن مع غيظهم من نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم مضطربين فكرياً ، لقد اعترفوا بعظمة القرآن بعد أن نظروا إليه . . فمرة قالوا : إنه سحر ، ومرة قالوا : إنه من تلقين بعض البشر ، وقالوا : إنه شعر ، وقالوا : إنه من أساطير الأولين . وكل ذلك رهبة أمام عظمة القرآن . ثم أخيرا قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } .
ولكن ألم يكن هو القرآن نفسه الذي نزل؟ إذن . فالآفة - عندهم - أنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك من الحسد : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ]
لأن قولهم لا يتسم أبداً بالموضوعية ، بل كل كلامهم بُعْدٌ عن الحق وتخبط . لقد قالوا مرة عن القرآن : إنه سحر ، وعندما سألهم الناس : لماذا لم يسحركم القرآن إذن؟ فليس للمسحور إرادة مع الساحر . ولم يجدوا إجابة . وقالوا مرة عن القرآن : إنه شعر ، فتعجب منهم القوم لأنهم أمة الشعر ، وقد سبق لهم أن علقوا المعلقات على جدار الكعبة ، لكنه كلام التخبط .
إذن فالمسألة كلها تنحصر في رفضهم الإيمان ، فإذا أمسكتهم الحجة من تلابيبهم في شيء ، انتقلوا إلى شيء آخر .
ويوضح سبحانه : إن كانوا يطلبون كتاباً فالكتاب قد نزل ، تماماً كما نزل كتاب من قبل على موسى . وماداموا قد صدقوا نزول الكتاب على موسى ، فلماذا لا يصدقون نزول الكتاب على محمد؟ ولا بد أن هناك معنى خاصاً وراء قوله الحق : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء } . ونعلم أن الكتاب نزل على موسى مكتوباً جملة واحدة ، وهم كأهل كتاب يطلبون نزول القرآن بالطريقة نفسها ، وعندما ندقق في الآية نجدهم يسألون أن ينزل عليهم الكتاب من السماء؛ وكأنهم يريدون أن يعزلوا رسول الله وأن يكون الكلام مباشرة من الله لهم؛ لذلك يقول الحق في موقع آخر : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ]
الحق - إذن - قسم الأمور في الحياة الدنيا ، فكيف يتدخلون في مسألة الوحي وهو من رحمة الله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء } . وهم قد نسبوا التنزيل إلى رسول الله ، ورسول الله ما قال إني نزَّلْت ، بل قال : " أنزل علي " .
(1/1916)

ويقال في رواية من الروايات أن كعب بن الأشرف والجماعة الذين كانوا حوله أرادوا أن ينزل الوحي على كل واحد منهم بكتاب ، فيقول الوحي لكعب : " يا كعب آمن بمحمد " .
ويًنَزَّلُ إلى كل واحد كتاباً بهذا الشكل الخصوصي . أو أن ينزل الله لهم كتاباً مخصوصاً مع القرآن . وكيف يطلبون ذلك وعندهم التوراة ، ويوضح الله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم : لا تستكثر منهم يا محمد أن يسألوك كتاباً ينزل عليهم لأنهم سألوا موسى أكبر من ذلك ، وطلبهم تنزيل الكتاب ، هو طلب لفعل من الله ، وقد سبق لهم الغلو أكثر من ذلك عندما قالوا لموسى : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } . وهم بمثل هذا القول تعدوا من فعل الله إلى ذات الحق سبحانه وتعالى ، لذلك لا تستكثر عليهم مسألة طلبهم لنزول كتاب إليهم ، فقد سألوا موسى وهو رسولهم رؤية الله جهرة : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ } .
ولحظة أن ترى كلمة " الصاعقة " تفهم أنها شيء يأتي من أعلى ، يبدأ بصوت مزعج . وقلنا من قبل أثناء خواطرنا حول آية في سورة البقرة : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق } [ البقرة : 19 ]
أي أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ، وهذا دليل على أن صوت الصاعقة مزعج قد يخرق طبلة الأذن ، ودليل على أن ازعاج الصاعقة فوق طاقة الانسداد بأصبع واحدة؛ لأن الإنسان ساعة يسد أذنيه يسدها بطرف الأصبع لا بكل الأصابع . وبلغ من شدة ازعاج الصوت أنهم كلما وضعوا أناملهم في آذانهم لم يمتنع الصوت المزعج .
إذن فالصاعفة صوت مزعج يأتي من أعلى ، وبعد ذلك ينزل قضاء الله إما بأمر مهلك وإمّا بنار تحرق وإما بريح تدمر { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ } والظلم هو أن تجعل حقاً لغير صاحبه؛ ولا تجعل حقاً لغير صاحبه إلا أن تكون قد أخذت حقاً من صاحبه . وسؤالهم هذا لون من الظلم؛ لأن الإدراك للأشياء هو إحاطة المُدْرِك بالمُدْرَك .
وحين تدرك شيئاً بعينك فمعنى ذلك أن عينك أحاطت بالشيء المدَرَك وحيَّزته بالتفصيل ، وكذلك اللمس لمعرفة النعومة أو الخشونة ، وكذلك الذوق ليحس الإنسان الطعم . إذن فمعنى الإدراك بوسيلة من الوسائل أن تحيط بالشيء المُدْرَك إحاطة شاملة جامعة .
فإذا كانوا قد طلبوا أن يروا الله جهرة ، فمعنى ذلك أنهم طلبوا أن تكون آلة الإدراك وهي العين محيطة بالله . وحين يحيط المُدْرِك بالمُدْرَك ، يقال قدر عليه . وهل ينقلب القادر الأعلى مقدوراً عليه؟ حاشا لله . وذلك مطلق الظلم ونهايته ، فمن الجائز أن يرى الإنسان إنساناً ، ولكن لا يستقيم أبدا ولا يصح أن ينقل الإنسان هذه المسألة إلى الله ، لماذا؟ لأنه سبحانه القائل :
(1/1917)

{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ]
ومادام الله إلها قادراً فلن ينقلب إلى مقدور .
ونحن إن أعطينا لواحد مسألة ليحلها ، فهذا معناه أن فكرة قد قدر عليها . وأما إذا أعطيناه مسألة ولم يقدر على حلها ففكره لم يقدر عليها . إذن فكل شيء يقع تحت دائرة الإدراك ، يقول لنا : إن الآلة المدرِكة قد قدرت عليه .
والحق سبحانه وتعالى قادر أعلى لا ينقلب مقدوراً لما خلق . { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } . وكان يكفي بعد أن أخذتهم الصاعقة أن يتأدبوا ولا يجترئوا على الله ، ولكنهم اتخذوا العجل من بعد أن جاوز الحق بهم البحر وعَبره بهم تيسيرا عليهم وتأييداً لهم وأراهم معجزة حقيقية ، بعد أن قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ]
فقد كان البحر أمامهم وفرعون من خلفهم ولا مفر من هلاكهم؛ لأن المنطق الطبيعي أن يدركهم فرعون ، وآتى الله سيدنا موسى إلهامات الوحي ، فقال : { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ]
لقد لجأ موسى إلى القانون الأعلى ، قانون الله ، فأمره الله أن يضرب بعصاه البحر ، ويتفرق البحر وتصير كل فرقة كالطود والجبل العظيم ، وبعد أن ساروا في البحر ، وأغرق فرعون أمامهم ، وأنجاهم سبحانه ، لكنهم من بعد ذلك كله يتخذون العجل إلهاً!!
هكذا قابلوا جميل الله بالنكران والكفران . { ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } والسلطان المبين الذي آتاه الله لموسى عليه السلام هو التسلط والاستيلاء الظاهر عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم ، وجاءوا بالسيوف لأن الله قد أعطى سيدنا موسى قوة فلا يخرج أحد عن أمره ، والقوة سلطان قاهر .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور . . . }
(1/1918)

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
إذن اجتراؤهم في البداية كان في طلب رؤية الله جهرة ، ثم العملية الثانية وهي اتخاذهم العجل إلها . ويعالج الله هؤلاء بالأوامر الحسية ، لذللك نتق الجبل فوقهم : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } [ الأعراف : 171 ]
مثل هؤلاء لا يرضخون إلا بالآيات المادية ، لذلك رفع الله فوقهم الجبل ، فإما ان يأخذوا ما آتاهم الله بقوة وينفذوا المطلوب منهم ، وإما أن ينطبق عليهم الجبل ، وهكذا نرى أن كل اقتناعاتهم نتيجة للأمر المادي ، فجاءت كل الأمور إليهم من جهة المادة . { وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً } . أي أن يدخلوا ساجدين ، وهذا إخضاع مادي أيضاً . وكان هذا الباب الذي أمرهم موسى أن يدخلوه ساجدين هو باب قرية أريحا في الشام . { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت } وسبحانه قال عنهم : { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [ الأعراف : 163 ]
وكلمة " السبت " لها اشتقاق لغوي من " سبت " و " يسبت " أي سكن وهدأ . ويقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً } [ الفرقان : 47 ]
أي جعل النوم سكنا لكم وقطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم . { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت } أي نهاهم الله أن يصطادوا في يوم السبت . ويأتي يوم السبت فتأتيهم الحيتان مغرية تخرج أشرعتها من زعانفها وهي تعوم فوق الماء ، أو تظهر على وجه الماء من كل ناحية ، وهذا من الابتلاءات . { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي أن الأيام التي يكون مسموحاً لهم فيها بالصيد لا تأتي لهم الأسماك ، ولذلك يحتالون ويصنعون الحظائر الثابتة من السلك ليدخلها السمك يوم السبت ولا يستطيع الخروج منها .
لقد احتالوا على أمر الله . هكذا يبين الحق سبحانه وتعالى مراوغة بني إسرائيل . وفعل الله بهم كل ذلك ولكنهم احتالوا وتمردوا ورّدوه ، وحين يهادن الحق القوم الذين يدعوهم إلى الإيمان فسبحانه يُقَدر أنه خلقهم ويُقدر الغريزة البشرية التي قد يكون من الصعب أن تلين لأول داع ، فهو يدعوها مرة فلا تستقبل ، فيعفو . ثم يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو ، ثم يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو . وأخذ الله عليهم العهد الوثيق المؤكد بأن يطيعوه ولكنهم عصوا ونقضوا العهد ، وبعد ذلك يقول لنا الخبر لنتعلم أن الله لا يمل حتى تملوا أيها البشر . فسبحانه يقول من بعد ذلك : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ . . . }
(1/1919)

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
لقد نقضوا كل المواثيق والأشياء التي تقدمت . ومعنى الميثاق هو العهد المؤكد الموثق . ونقض الميثاق هو حله ، وهذا ما يستوجب ما يهددهم الله به ، وكفروا بآيات الله التي أنزلها لتؤيد موسى عليه السلام ، وقتلوا أنبياء الله بغير حق . وادعوا - تعليلاً لذلك - أن قلوبهم غلف لا تسمع للدعوى الإيمانية ، أي أن قلوبهم مغلفة مغطاة أي جُعل عليها غلافٌ ، بحيث لا يخرج منها ما فيها ولا يدخل فيها ما هو خارج عنها . وأرادوا بذلك الاستدراك على الله ، فقالوا : قلوبنا لا يخرج منها ضلال ولا يدخل فيها إيمان . وسبق أن تقدم مثل هذا في قول الحق : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 6-7 ]
ونقول : أهي القلوب خُلقت غلفاً . . أي أن القلوب خلقت مختوماً عليها بحيث لا يدخلها هدى ولا يخرج منها ضلال ، أم أنتم الذين فعلتم الختم وأنتم الذين صنعتم الغلاف؟
وسبحانه أوضح في آيتي سورة البقرة أنه جل وعلا الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة . فالختم على القلب حتى لا يتعرفوا إلى الدليل؛ لأن القلب محل الأدلة واليقين والعقائد . والختم على الأسماع والأبصار هو الختم على آلات إدراك الدلائل البينات على وجود الحق الأعلى؛ فمقر العقائد مختوم عليه وهو القلب ، ومضروب على الآذان وعلى البصر غشاوة ، فهل هذا كائن بطبيعة تكوين هؤلاء؟ لا؛ لأنه إذا كان هذا بطبيعة التكوين فلماذا خصَّهم الله بذلك التكوين؟ ولماذا لم يكن الذين اهتدوا مختوماً لا على قلوبهم ولا على أسماعهم ولا على أبصارهم؟
غير أن الواحد منهم يبرر لنفسه وللآخرين انحرافه وإسرافه على نفسه بالقول : " خلقني الله هكذا " وهذا قول مزيف وكاذب؛ لأن صاحبه إنما يكفر أولاً ، فلما كفر وانصرف عن الحق تركه الله على حاله؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن اتخذ مع الله شريكاً فهو للشريك وليس لله . إذن فالختم جاء كنتيجة للكفر .
وقدمت آيات سورة البقرة الحيثية : أن الكفر يحدث أولاً ، ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر نتيجة لذلك . وهنا في آية سورة النساء : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . فالكفر جاء أولاً ، وفي ذلك رد على أي إنسان يقول : " إن الله لا يهديني " . ولا يلتفت إلى أن الله لا يهدي من كفر به ، وكذلك الفاسق أو الظالم ، والمثال الأكبر على ذلك إبليس الذي كفر أولاً . وبعد ذلك تركه الله لنفسه واستغنى عنه .
ولنا هنا وقفة لفظية مع قوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم } لأن الفهم السطحي لأصول الأسلوب قد يتساءل : لماذا جاءت " ما " هنا؟ وبعضهم قال : إن " ما " هنا زائدة .
(1/1920)

ونقول : إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً؛ لأن معنى ذلك أن المعنى يتم بغير وجوده ويكون فضولاً وزائدا على الحاجة ولا فائدة فيه ، ولكن عليك أن تقول : " أنا لا أفهم لماذا جاء هذا الحرف " ، خصوصاً ونحن في هذا العصر نعيش كأمة بلاغتها مصنوعة ، ولا نملك اللسان العربي المطبوع . ولولا أننا تعلمنا العربية لما استطعنا أن نتكلمها . أما العربي الفصيح الذي نزل عليه القرآن فقد كان يتكلم اللغة العربية دون أن يجلس إلى معلم ، ولم يتلق العلم بأن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب بل تكلم اللغة بطبيعته وملكته .
أما نحن فنعيش في زمن مختلف . وطغت علينا العجمة وامتلأت آذاننا باللحن ، وصرنا نُعلّم أنفسنا قواعد اللغة العربية حتى نتكلم بأسلوب صحيح .
وقد جاءت القواعد في النحو من الاستنباط من السليقة العربية الأولى التي كانت بغير تعليم . واستقرأ العلماء الأساليب العربية فوجدوا أن الفاعل مرفوع والمثنى يُرفع بالألف ، وجمع المذكر السالم يُرفع ب " الواو "؛ وهكذا أخذنا القواعد من الذين لا قواعد لهم بل كانوا يتكلمون بالسليقة وبالطبيعة والملكة .
لقد سمع العربي قديماً ساعة نزل القرآن قوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم } ولم ينتبه واحد منهم إلى أن شيئاً قد خرج عن الأسلوب الصحيح ، ونعلم أن بعضاً من العرب كانوا كافرين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يصدقون القرآن ، ولو كانت هناك واحدة تخرج عن المألوف في اللغة لصرخوا بها وأعلنوها . ولكن القرآن جاء بالكلام المعجز على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغهم به ، موضحاً : جئت بالقرآن معجزة تعجزون عن محاكاته؛ مع أنكم عرب وفصحاء .
والمتحدَّى يحاول دائماً أن يتصيد خطأ ما ، ولم يقل واحد من العرب إن في القرآن لحناً ، وهذا دليل على أن الأسلوب القرآني يتفق مع الملكة العربية .
وقوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم } هي في الأصل : بنقضهم الميثاق فعلنا بهم ما صاروا إليه ، و " ما " جاءت هنا لماذا؟ قال بعض العلماء : إنها " ما " زائدة ، وهي زائدة للتأكيد . ونكرر : إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً ، لقد جاءت " ما " هنا لمعنى واضح . والحق في موقع آخر من القرآن يقول : { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ]
وقالوا : إن أصل العبارة " ما جاءنا بشير " ، وإن " مِن " جاءت زائدة حتى يتسق اللفظ . ونقول : لو أن العبارة جاءت كما قالوا لما استقام المعنى ، ولإيضاح ذلك أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - عندما يقول واحد : " ما عندي مال " فهذا نفى أن يكون عند القائل مال ، ولعل لديه قدراً من المال القليل الذي لا يستأهل أن يسميه مالاً .
(1/1921)

ولكن إذا قال واحد : " ما عندي من مال " فالمعنى أنه لا يملك المال على إطلاقه أي أنه مفلس تماماً ، ولا يملك أي شيء من بداية ما يقال إنه مال . إذن " ما جاءنا بشير " ليست مثل قوله : " ما جاءنا من بشير " . فالمعنى أنه لم يأتهم أي رسول بشير أو نذير من بداية ما يقال إنه رسول .
إذن فقوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } أي بسبب نقض الميثاق فعلنا بهم كذا . لماذا إذن أثار العلماء هذه الضجة؟ السبب في ذلك هو وجود ما بعد " الباء " وقبل المصدر ، أي أنهم نقضوا العهد بكل صورة من صوره ، فنقض العهد والميثاق له صور متعددة ف ( ما ) هنا استفهامية جاءت للتعجيب أي على أيَّة صورة من صور نقض ونكث العهد لعناهم؟ لعناهم لكثرة ما نقضوا من العهود والمواثيق . والحق قد قال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ]
ولم يقل : فبما نقضتم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف ، طبع الله على قلوبهم . فوجود " بل " يدلنا على أن هناك أمراً أضربنا عنه . فنحن نقول : جاءني زيد بل عمرو . أي أن القائل قد أخطأ ، فقال : " جاءني زيد " واستدرك لنفسه فقال : " بل عمرو " . وبذلك نفى مجيء زيد وأكد مجيء عمرو .
والحق قال : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . كان المقتضي في الأسلوب العادي أن يقول : " بكفرهم وبقتلهم الأنبياء طبع الله على قلوبهم " . ولكن سبحانه لم يقل ذلك لحكمة بالغة . وحتى نعرف تلك الحكمة فلنبحث عن المقابل ل " طبع الله على قلوبهم " ، المقابل هو " فتح الله على قلوبهم بالهدى " .
وجاء قول الحق معبراً تمام التعبير عن موقفهم : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا } .
وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه .
الحق - إذن - يقدم الأسباب لما صنعه بهم بالحيثيات ، من نقضهم للميثاق ، وكفرهم بآيات الله ، وبقتلهم للأنبياء بغير حق؛ لذلك لم يفتح الله عليهم بالهدى ، بل طبع الله على قلوبهم بالكفر . فوجود " بل " دليل على أن هناك أمراً قد نفي وأمراً قد تأكد . والأمر الذي نفاه الله عنهم أنه لم يفتح عليهم بالهدى والإيمان ، والأمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر .
(1/1922)

وفي آية أخرى قال عنهم : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ]
فقلوبهم ليست غلفاً ، ولكن هي لعنة الله لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم؛ لذلك تركهم لأنفسهم فغلبت عليهم الشهوات . ولماذا ذيل الحق الآية بقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؟ لأن المقصود به عدم إغلاق باب الإيمان على إطلاقه أمام هؤلاء الناس ، وهو - كما عرفنا من قبل - " صيانة الاحتمال " . فقد يعلن واحد من هؤلاء إيمانه الذي خبأه في نفسه ، فكيف يجد الفرصة لذلك إن كان الله قد قال عنهم جميعاً { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } ؟
إن الذي يَرْغَبُ في إعلان الإيمان منهم لا يجد الباب مفتوحاً ، ولكن عندما يجد الحق قد قال : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } فهو يعلم أن باب الإيمان مفتوح للجميع . وبعد ذلك يقول الحق : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ . . . }
(1/1923)

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
ويقول قائل : ألم يقل الحق من قبل إن " كفرهم " هو سبب من أسباب طبع الله على قلوبهم؟ إياك أن تقول إن هناك كلمة في القرآن مكررة لأن الذي يتكلم هو الله سبحانه وتعالى الذي لا ينسى شيئاً ، ولا يكرر من غير داع ، والكفر أيضاً على درجات ، مرة يكون الكفر بالله ، ومرة يكون الكفر بآيات الله ، وثالثة يكون الكفر بالرسل ، ورابعة يكون الكفر ببعض النبيين ، وخامسة يكون الكفر ببعض الكتب السماوية .
إذن فألوان الكفر شتى . والكفر في الآية السابقة كان كفراً بآيات الله ، أما كفرهم في هذه الآية فالحق يشرحه : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } . لقد كفروا بعيسى عليه السلام ، وقالوا البهتان العظيم على مريم ، هذا كفر بآيات الله وبرسول من عند الله .
وقوله الحق : " وبكفرهم " هو عطف على " نقضهم " وعلى " كفرهم بآيات الله " وعلى " قتلهم الأنبياء " وعلى " قولهم قلوبنا غلف " . ونلاحظ هنا أن الحق لم يذكر الباء التي جاءت في أول الآية السابقة حين قال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } .
وهذا يدل على أننا أمام مناط الرحمة من ربنا سبحانه وتعالى . فقد كان يكفي ارتكابهم لأي واحدة من هذه الأعمال المذكورة لكي يطبع الله على قلوبهم ، ولكنهم ارتكبوا كل الأعمال المذكورة مجتمعة ، ولم يرتكبوا فعلاً واحداً منها . وهذا دليل على أن الله لا يتصيد ويحتال ليوقعهم في الكفر ولكن يحنن العباد إلى الإيمان .
لقد ارتكبوا أربعة أفعال جسيمة : نقضوا الميثاق ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا الأنبياء بغير حق ، وادعوا أن الله طبع على قلوبهم .
وحين جعل هذا الأفعال الأربعة جريمة واحدة فهذا فضل ورحمة منه .
وبعد ذلك يذكر لهم جريمة أخرى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } وهنا نجد أنه سبحانه قد ساوى بين قولهم البهتان على مريم وبين كل الأفعال السابقة؛ لأنهم اعترضوا على رسالة ونبوة عيسى عليه السلام وهو نبي من أولي العزم من الرسل بأشياء قد تكون ضمن الأسباب التي فتنت بعض الناس فيه ، لقد خلقه الله خلقاً خاصاً . فسبحانه خلق الناس جميعاً من آدم عليه السلام الذي صوره الله من طين ثم نفخ فيه الروح ، وجاء الخلق من التزاوج .
أما عيسى عليه السلام فقد خلقه الله بطريقة خاصة ، فكيف كفروا به وكيف يتهمون أمه مريم عليها السلام وهي البتول؟ .
ومن الجائز أن تُتهم المرأة وترمى وتوصف بكل شيء : كاذبة ، سارقة ، أو دميمة ، لكن الاتهام في العرض : لا . والحق هنا يحدد موضوعين للكفر : قولهم البهتان على مريم وهو كفر بالله ، وكفرهم بعيسى الذي جاء بميلاد على غير طريقة الميلاد العادية على الرغم من أن هذا تكريم له ولذع لليهود الذين غرقوا في المادية حتى إنهم قالوا : ( أرنا الله جهرة ) .
(1/1924)

بل إن الحق رزقهم برزق غيبي لا يعرفون أسبابه : في التيه رزقهم بالمن والسلوى ، والمن في لون القشدة وطعم العسل الأبيض وهو شيء يقع على أوراق الشجر في بعض البيئات ، والسلوى طائر يشبه السُّماني ، وكانوا يأخذون المن من الأشجار ويجعلونه رزقاً يأتيهم ولا يزرعونه ولا يتعبون فيه . لكنهم قالوا : لا ، نحن نريد أن نزرع نباتاً ينمو من الأرض ولا ننتظر الغيب ، لأن الغيب قد يضن علينا . { فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا } [ البقرة : 61 ]
هم - إذن - لا يثقون بما في يد الله ، ويريدون الأمر المادي ، ولذلك يلفتهم الحق سبحانه وتعالى لفتة قسرية ، ويأتي بأمر يناقض قانون المادة من أساسه؛ وهو ميلاد عيسى عليه السلام بأسلوب غير تقليدي ، والإنسان يأتي إلى الدنيا من أب وأم ، ويأتي الحق بعيسى مخلوقاً من أم دون أب ، فانتقضت المادية ، وهم كماديين غفلوا عن الخلق الأول : { أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ ق : 15 ]
إذن فلماذا الفتنة في عيسى عليه السلام؟ . لقد نقض أمامهم الأساس التقليدي المادي لمجيء الإنسان إلى الدنيا من ذكر وأنثى ، وجاء عيسى عليه السلام من أم دون أب . ليثبت سبحانه طلاقة القدرة وأنه جعل الأسباب للبشر ، فإن أراد البشر مُسَبَّباً فعليهم أن يأخذوا الأسباب ، أما سبحانه وتعالى فهو مسبِّبُ الأسباب وخالقها وهو القادر - وحده - على إيجاد الشيء بتنحية كل الأسباب .
ونعلم أن قضية الخلق دارت على اربعة أنحاء ، إما أن ينشأ الشيء من وجود الشيئين ، هذه هي الصورة الأولى . وإما أن ينشأ الشيء من عدم وجود الشيئين وهذه هي الصورة الثانية . وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الأول وعدم وجود الشيء الثاني ، وهذه هي الصورة الثالثة ، وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الثاني مع عدم وجود الشيء الأول ، وهذه هي الصورة الرابعة .
تلك هي الصور الأربع لوجود شيء ما . ولم يشأ الله أن يجعل الخلق - وهو الإنسان المكرم الذي سخر له الحق كل ما في الكون - على نحو واحد؛ حتى لا يقولن أحد : إن السببية مشروطة للوجود .
بل المسبَّب هو المشروط في الوجود بدليل أنه سبحانه خلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم ، وخلقنا جميعاً نحن من أب وأم ، وخلق عيسى عليه السلام من أم دون أب ، وخلق حواء من أب دون أم .
هذه هي القسمة العقلية الواضحة ، فليست المسألة عنصرية موجودة ، ولكن قيمة واقتدار واجد . وقدرة الحق تتجلى أيضاً أمامنا حينما تكون الأسباب موجودة كالأب والأم . لكن يشاء سبحانه أن يكون الاثنان عقيمين فهو القائل : { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً }
(1/1925)

[ الشورى : 49-50 ]
إذن فليست المسألة مدار أسباب تُوجَد ، بل مسَبِّبِ يريد أن يُوجِد ، وأراد الحق أن يكون مجيء عيسى عليه السلام بهذه الصورة ليلفت بني إسرائيل لعلهم يخرجون من ضلالات المادية ، فأوجده من أم دون أب ، فكان هذا آية على طلاقة قدرته ، ولكن اليهود استقبلوا هذه المسألة استقبالاً على غير مراد الله ، فكذبوا عيسى ، وقد حدث التكذيب من قبل أن يتكلم عيسى بالانجيل . ووقفوا أمام رسالته بعنف ، والذي يدلنا على أنهم قوم كذابون ، هو رغبتهم في استمرار السيطرة الدينية لهم ، وكان عندهم شريعة تقتضي الرجم للزانية ، فلماذا إذن لم يتهموا مريم بالزنا عندما ولدت عيسى؟ ولماذا لم يعاقبوها حسب سريعة التوراة؟ ولماذا انتظروا إلى أن يجيء عيسى عليه السلام بالإنجيل ليقولوا : يا فاعل يا ابن الفاعلة . كان انتظارهم دليلاً على أن ميلاد عيسى عليه السلام كان آية بينة صدعتهم وصدتهم عن ذلك ، فقد نطق عيسى عليه السلام بعد ميلاده ولم تتكلم مريم قطّ؛ لأن ما حدث أمر فوق منطقها ، وجهزها الله لهذا الموقف؟ ، وأمرها بالصمت عندما يسألونها ، وأن تشير إلى المولود الذي في المهد : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً } [ مريم : 29-31 ]
وانبهروا انبهاراً فتت فيهم القوى ، فقوى الخصومة ساعة ترى هذا لا تجد إلا الانهيار ، فألحق أبلج ، والباطل لجلج . إذن كان الأمر بيدهم وفي توراتهم أن من يزن يرجم ، فلماذا لم يرجموا أم عيسى إذن؟ . لا بد أنهم صدموا بقوة جعلت موازين حقدهم تختل ، المعجزة الباهرة هي كلام عيسى ابن مريم في المهد : { إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } وجعلت المفاجأة أقوى الأقوياء فيهم ينهار ، وتخور قواه .
وعندما نقول هذا الكلام فليس الهدف منه تصحيح عقائد أحد ، ولكننا فقط نريد أن يتضح منطق الإيمان في عقول المسلمين ، أما أبناء الديانات الأخرى فهم أحرار فيما يعتقدون ، والمهم بالنسبة لنا أن يكون ديننا وقرآننا متضحاً أمام أعيننا ، ولا يجرؤ أحد أن يميل به .
{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } ونحن كمسلمين نستنكف أن نقول ما قالوه من بهتان على مريم البتول ، والبهتان هو الكذب الشرس . فهناك لون من الكذب قد يكون مقبولاً ، ولون من الكذب غير مقبول : فأن يقول قائل عن رجل ورع : إنه شرب الخمر ، والقائل يعلم أنه كاذب ، فهذا كذب ثقيل شرس ، يتحير ويتعجب من يسمعه؛ وهذا هو البهتان . ولم يستح ويمتنع اليهود حينما رموا مريم - الطاهرة بأمر الله - بالبهتان مع أنهم علموا أن لمريم سابقة خير واستقامة .
(1/1926)

لقد كان ماضي مريم ناصعاً؛ لأنه جرح مريم في عرضها ، ولو رجعوا إلى تاريخهم قبل ميلاد عيسى من مريم لوجدوا أن كل واحدة من بنات بني إسرائيل كانت تستشرف أن يكون النبي المولود بعد موسى من بطنها . وكانوا يعرفون أن النبي القادم من بعد موسى ستلده عذراء ، وأبلغ بنو إسرائيل بناتهم بكيفية مجيء النبي القادم عيسى ابن مريم ، تماماً مثل قضية البشارة برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ]
ومن رحمة الله بمريم نفسها أن الله جعل لها التمهيدات التي تثبت لها أمام نفسها أنها بريئة ، وأن العملية كلها قد تمت ب " كن " من الله ، ولم يجعل الله المسألة سرّاً عن مريم فتحمل بأمر قوله : " كن " دون أن تدري ، لا . بل أراد سبحانه أن تكون عملية مادية . وجاء الملك لمريم ونفخ فيها بالحمل . وعرفت هي السبب مادياً بالملك والنفخ حتى لا تتهم أو تشك بأن شيئاً قد حدث لها وهي نائمة أو غير ذلك .
لقد أراد الله المسألة على تلك الصورة ليجعلها أمراً يقطع الشك لديها ، وهي التي بُشرت به - إيناساً لها - عندما كانت صغيرة قبل البلوغ وجاءها زكريا وهو الكفيل لها والذي يأتيها بالطعام ودخل عليها المحراب فوجد عندها الرزق وسألها : { أنى لَكِ هذا } أجابت : { هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ]
لقد نطقت مريم البتول من قبل : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ومن الحساب أن يكون للمرأة زوج لترزق بالولد ، ولكن الله يرزق من يشاء بغير حساب . ومن العجيب أنها في هذا القول نبهت زكريا إلى قضية كانت في بؤرة شعوره؛ ولذلك يقول الحق : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء * فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين * قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ آل عمران : 38-40 ]
إذن فقد شجعت مريم زكريا على أن يدعو ربه ، وتلك سلسلة تمهيدية ليطمئن إحساس مريم أن ولادتها لعيسى عليه السلام إنما جاءت ب " كن " وجاء لها الحق بفاكهة الصيف في الشتاء ، وعندما قالت لسيدنا زكريا : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تنبه ودخل من هذا الباب ، فدعا ربه على الرغم من علمه أن امرأته عاقر ، وأنه بلغ من الكبر عتياً ، ومفهوم لنا معنى قول الرجل عن نفسه إنه بلغ من الكبر عتيا؛ أي أنه لم يعد يملك القدرة على الإنجاب .
(1/1927)

وهذه القضية تعطينا سبقاً قرآنيا لكثير من قضايا العلم : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ]
هذا القول هو أشبه بمذكرة تفسيرية لبلوغه من الكبر عتيا . ويثبت العلم الحديث أن العظام هي آخر وعاء لتغذية الإنسان ، فإن امتنع الإنسان عن الطعام فالدهون التي في جسده تغذية . وإن امتنع الماء عن الإنسان وهو المكوِّن لتسعين في المائة من وزنه يمتص الإنسان الماء من خلايا الجسم والعضلات واللحم . ولذلك يقال في المثل العربي : سنة اذابت الشحم ، وسنة أفنت اللحم ، وسنة محت العظم .
فكأن البداية تكون التغذية من الشحم ومن بعد ذلك من اللحم ومن بعد الشحم واللحم يأخذ الجسم غذاءه من العظم . وهذه هي التي جاءت على لسان سيدنا زكريا : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } . فآخر مخزن للتغذية لم يعد به ما يمكن أن يستمد منه زكريا طاقة الإنجاب .
وما الذي يغذيه العظم من الجسم؟ إنه يغذي المخ ، وهو السيد الأعلى الذي يدير كل جارحة في الجسم ، وتعمل كل جارحة في خدمته ، ويعيش المخ بطبيعة الحال كل عمره في خدمة الجوارح ، يرتب لها قدرات العمل والتفكير والإحساس والسلوك ، وما دام المخ موجوداً ، فكل شيء يتم تعويضه .
ولذلك يحاولون - الآن - تعريف الموت طبياً ، فيقولون : لا يحدث الموت مادامت خلايا المخ حية؛ فإذا ماتت خلايا المخ فهذا هو الموت . ومن عجيب الأمر أن سيد الإنسان له مكان في أعلى الجسم إنه هو المخ ، داخل الجمجمة ، أما النبات فسيده في الجذور . وإن لم تجد الجذور مياها تذيب بها العناصر في الأرض فالنبات يأخذ غذاءه من الورق ، وبعد أن يذبل الورق يأخذ النبات غذاءه من الفروع الصغيرة . وعندما تذبل تلك القروع وتجف ولا ينقذ النبات إلا مجيء بعض الماء للجذور . وكذلك المخ بالنسبة للإنسان .
فكأن مريم شجعت سيدنا زكريا عندما قالت أمامه : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فدعا سيدنا زكريا الله أن يرزقه بالولد ، فجاءه الولد . وهذه القضية نطقت بها مريم وتمت تجربتها في سيدنا زكريا . وبعد ذلك جاءها البشير بميلاد المسيح عيسى ابن مريم : { إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين * وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَمِنَ الصالحين } [ آل عمران : 45-46 ]
كيف يصوغ القرآن هذه الصياغة ، وكيف تقول هي : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ آل عمران : 47 ]
لقد كانت سيدتنا مريم البتول تحسن الاستقبال عن الله ، فساعة سمعت أن اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، عرفت أن نسبه لها يعني أنه بلا أب . وعرفت أن الحق سبحانه ما نسبه إليها إلا لأنه لا أب له .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح . . . }
(1/1928)

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
ونلاحظ أن الآية تبدأ بواو العطف على ما قبلها ، وهو قوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } [ النساء : 155-156 ]
ويعطف سبحانه على جرائمهم هذه الجريمة الجديدة : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } وأكثر ما يدهش في هذا القول هو كلمة { رَسُولَ الله } ، فهل هي هنا من قولهم؟ إن كانوا قد قالوها فهذا دليل اللجاجة المطلقة ، ولو قالوا : إنهم قتلوه فقط لكان الجرم أقل وطأة ، ولكن إن كانوا قد عرفوا أنه رسول الله وقتلوه فهذا جرم صعب للغاية . أو أن كلمة { رَسُولَ الله } هنا في هذه الآية ليست من مقولهم الحقيقي وإنما من مقولهم التهكمي .
وأضرب المثل لأوضح هذا الأمر . . كأن يأتي شخص ذو قوة هائلة ومشهور بقوته ويأتي له شخص آخر ويضربه ويهزمه ويقول لجماعته : لقد ضربت الفتى القوي فيكم . إذن قد يكون قولهم : { رَسُولَ الله } هو من قبيل التهكم ، أو أن كلمة { رَسُولَ الله } هنا هي من قول الحق سبحانه وتعالى مضافاً إلى قولهم ليبشع عملهم .
" وقولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } فكأن الحق لم يشأ أن يذكر عيسى ابن مريم إلا مرتبطا أو موصوفاً بقوله : { رَسُولَ الله } لنعلم بشاعة ما فعلوه ، فعيسى ابن مريم رسول الله على رغم أنوفهم ، وخاصة أن الكلام في مجال انكارهم وجحودهم لنعم الله ، وكفرهم بآيات الله ، وكأن الحق يسخر منهم؛ لأنه ما كان الله ليرسل رسولاً ليبين منهجه للناس ثم يسلط الناس على قتله قبل أن يؤدي مهمته . وجاء بكلمة { رَسُولَ الله } هنا كمقدمة ليلتفت الذهن إلى أن ما قالوه هو الكذب .
وبعد ذلك يقول لنا سبحانه : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } . وكلمة " وما صلبوه " هنا هي لتوضيح أن مجرد ظنهم أنهم قتلوا المسيح جعلهم يشيعون ذلك ويعلنونه للناس ، وهم قد فعلوا ذلك قبل أن يتوجهوا إلى فكرة الصلب ، فقد قتلوا شخصاً شبهه الله لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه من بعد ذلك ، وبمجرد قتل هذا الشخص طاروا بخبر القتل قبل أن تبدأ فكرة الصلب . ويقطع الله عليهم هذا الأمر ، فيقول : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } .
وقد لفتنا سبحانه من قبل إلى أن عملية ميلاد المسيح تم استقبالها من بني إسرائيل بضجة ، فعلى رغم علمهم خبر مجيء المسيح بالميلاد من غير أب ، وعلى رغم أنهم علموا بناتهم الاستشراف أن يكون لأية واحدة منهن شرف حمل المسيح ، وعلى رغم ذلك قالوا البهتان في مريم التي اصطفاها الله .
(1/1929)

وكذلك كان لمسألة الوفاة ضجة .
واقتران الضجتين : ضجة الميلاد وضجة الوفاة معاً في رسالة السيد المسيح يدلنا على أن العقل يجب أن تكون له وحدة تفسيرية ، فساعة يتكلم العقل عن قضية الميلاد بالنسبة لعيسى ابن مريم لا بد أن يستشعر الإنسان أن الأمر قد جاء على غير سنة موجودة ، وساعة يبلغنا الحق أن بني إسرائيل بيتوا النية لقتل عيسى ابن مريم ، وأن الله رفعه إليه تكون المسألة قد جاءت أيضا بقضية مخالفة ، ولا بد أن نصدق ما بلغنا الله به ، وأن يتذكر العقل أن الميلاد كان مخالفاً ، فلماذا لا تكون النهاية مخالفة أيضاً؟
وكما صدقنا أن عيسى ابن مريم جاء من غير أب ، لا بد أن نصدق أن الحق قد رفعه في النهاية وأخذه ، فلم يكن الميلاد في حدود بلاغ الحق لنا . والميلاد والنهاية بالنسبة لعيسى ابن مريم كل منهما عجيبة . وإن فهمنا العجيبة الأولى في الميلاد فنحن نعتبرها تمهيداً إلى أن عيسى ابن مريم دخل الوجود ودخل الحياة بأمر عجيب ، فلماذا لا يخرج منها بأمر عجيب؟ وإن حدثنا الحق أن عيسى ابن مريم خرج من الحياة بأمر عجيب فنحن لا نستعجب ذلك؛ لأن من بدأ بعجيب لا عجب أن ينتهي بعجيب .
وسبحانه وتعالى حكم وقال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } وكلمة { شُبِّهَ لَهُمْ } هذه هي دليل على هوج المحاولة للقتل ، فقد ألقى شبهه على شخص آخر . وذلك دليل على أن المسألة كانت غير طبيعية ، ليس فيها حزم التبيّن من المتربصين القتلة . ونعلم أن الحواريين وأتباع سيدنا عيسى كانوا يلفون رءوسهم ويدارون سماتهم ، ولذلك قال الحق لنا : { ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } أي أنهم قد شبه لهم أنهم قتلوه .
واختلفت الروايات في كلمة " شبه لهم " ، فمن قائل : إنهم حينما طلبوا عيسى ابن مريم ليقتلوه دخل خوخة ، والخوخة هي باب في باب ، وفي البيوت القديمة كان يوجد للبيت باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة ، وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد ، وفي سقف يسمح بمرور الأفراد ، وفي سقف البيت توجد فتحة وكوَّة اسمها ( روزنة ) أو ( ناروظة ) .
فلما طلبوا عيسى دخل الخوخة ، ودخل خلفه رجل اسمه " تطيانوس " وعندما رأى سيدنا عيسى هذا الأمر ألهمه الله أن ينظر إلى أعلى فوجد شيئاً يرفعه ، فلما استبطأ القومُ " تطيانوس " خرج عليهم فتساءلوا : إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بين " تطيانوس " وعيسى ، وألقى الله شبه عيسى على " تطيانوس " فقتلوه . أو أن عيسى عليه السلام حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال لهم عيسى : أيكم يُلقي عليه شبهي وله الجنة؟ فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟ وقدم عيسى عليه السلام الجائزة الكبرى لأي مؤمن ، وقبل واحد من الحواريين هذه المهمة ، ويقال له " سرخس " .
(1/1930)

فألقى شبه المسيح عيسى عليه ، فقتل اليهود " سرخس " .
وقالوا : إنه حينما عرف بعض الذين ذهبوا لقتل عيسى أنه رُفع ، خافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا برسالة عيسى ، وقد ينتقم الناس من الذين أرادوا قتله . ولذلك جاء القتلة بشخص وقتلوه وألقى على هذا القتيل شبه عيسى وأعلن القتلة أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم . أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا نبي الله عيسى لليهود ، ولما رأى المشهد ووجد المتربصين بعيسى يدخلون على الحواريين وفيهم عيسى وسأل المتربصون الحواريين : أيكم عيسى؟ فتيقظت ملكة التوبة في نفس الذي وشى بعيسى وقادة تأنيب الضمير على خيانة الرسول إلى أن يقول : " أنا عيسى " . ولم يتصور المتربصون أن يجيب إنسان على قولهم : " أيكم عيسى " . إلا وهو عيسى بالفعل؛ لأن مشهد المتربصين يوحي أنهم سيقتلون عيسى . وقتلوا الذي اعترف على نفسه دون تثبت . أو أن واحداً باع عيسى لقاء ثلاثين دينارأً وتشابه عليهم كبيراً بتلك الروايات . فالمهم أنهم قالوا قتلنا عيسى . وصلبناه .
وقرآننا الذي نزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } . وقال الحق لنا : إنه رفع عيسى إليه ، وانتهت المسألة بالنسبة لنا؛ لأننا كمؤمنين لا نأخذ الجزئيات الدينية أولاً فإن صدقناها آمنا ، لا . نحن نؤمن أولاً بمُنَزَّل هذه الجزئيات ونصدق من بعد ذلك كل ما جاء منه سبحانه ، وهو قال ذلك فآمنا به وانتهت المسألة .
إن البحث في هذا الأمر لا يعنينا في شيء ، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } . ويدلنا هذا القول على عدم تثبت القتلة من شخصية القتيل ، وهو أمر متوقع في مسألة مثل هذه ، حيث يمكن أن تختلط الأمور .
إننا نرى ذلك في أية حادثة تحدث مع وجود أعدادا كبيرة من البشر وأعينهم مفتوحة ، وعلى الرغم من ذلك تختلف فيها الروايات . بل وقد تكون الحادثة مصورة ومسجلة ومع ذلك تختلف الروايات ، فما بالنا بوجود حادثة مثل هذه في زمن قديم لا توجد به كل الاحتياطات التي نراها في زماننا؟ إذن فاضطراب الآراء والروايات في تلك الحادثة أمر وارد ، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } .
فعيسى باق؛ لأن الحق لم يأت لنا بخبر موت عيسى . ويبقى الأمر على أصل ما وردت به الآيات من أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى ابن مريم . وكمسلمين لا نستبعد أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد رفعه إلى السماء؛ لأن المبدأ - مبدأ وجود بشر في السماء - قد ثبت لرسولنا صلى الله عليه وسلم ، فقد حدثنا صلى الله عليه وسلم أنه عُرج به إلى السماء ، وأنه صعد وقابل الأنبياء ورأى الكثير من الرؤى ، إذن فمبدأ صعود واحد من البشر من الأرض وهو لا يزال على قيد الحياة البشرية المادية إلى السماء أمر وارد .
(1/1931)

والخلاف يكون في المدة الزمنية ، لكنه خلاف لا ينقض مبدأً ، سواء صعد وبقي في السماء دقائق أو ساعات أو شهوراً . فإن حاول أحد أن يشكك في هذه المسألة نقول له : كل أمر قد يقف العقل فيه يتناوله الحق سبحانه وتعالى تناولاً موسعاً . فسبحانه خالق رحيم لا يورد نصاً بحيث يتوقف العقل أمامه ، فإن قبل العقل النص كان بها ، وإن لم يقبله وجدت له مندوحة ، لأنه أمر لا يتعلق بصلب العقيدة .
فهب أن إنساناً قال إن عيسى لم يرفع بل مات ، فما الذي زاد من العقائد وما الذي نقص؟ ذلك أمر لا يضر ولا ينفع . ومثل ذلك الإسراء ، جاء فيه الحق بالقول القرآني : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } [ الإسراء : 1 ]
ولم يقل الحق أي قول في أمر المعراج ، لأن الإسراء آية أرضية ، انتقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس . ونعلم أن رسول الله لم يذهب إلى بيت المقدس قبل الإسراء ، بدليل أن كفار مكة أرادوا إحراج الرسول فقالوا له : صف لنا بيت المقدس . وهم واثقون من عدم ذهابه إليه من قبل . وكان في الطريق قوافل لهم رآها صلى الله عليه وسلم ، ووصف صلى الله عليه وسلم بيت المقدس وقال لهم عن أخبار قوافلهم . وجاءت القوافل مثبتة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم .
إذن كان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم آية أرضية يمكن أن يقام عليها الدليل . ولذلك جاء بها الحق صريحة فقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } .
لكن المعراج لم يذكره الحق صراحة ، فلم يكن من قريش ولا من أهل الأرض من رأي سدرة المنتهى ، ولم يكن لأحد من أهل الأرض القدرة على أن يصف طريق المعراج .
إذن فالآيات التي يقف فيها العقل يتناولها القرآن تناولاً موسعاً رحمة بالعقول؛ لأن الإنسان إن اعتقد بها فهذا أمر جائز ، وعدم الاعتقاد بها لا يؤثر في أصل العقيدة ، ولأ في أصول التكليفات ، ومدارها التصديق . ومادام الحق سبحانه وتعالى قد فوض رسوله أن يعطينا أحكاماً . إن عملنا بها جزانا الله الثواب ، وإن لم نعمل بها نالنا العقاب { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } ، فكيف لا يفوضه في أن يقول لنا بعضاً من الأخبار؟!
ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وذكره البخاري في صحيحه أنه قال :
(1/1932)

" والذي نفسي بيده ، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها " . ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً " .
هذه أخبار أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذن لا توجد قضية عقدية تقف مستعصية أمام عقول المسلمين خاصة . أن البعض قد يقول : إن الحق سبحانه قد قال : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } [ آل عمران : 55 ]
وقد شرحنا من قبل في خواطرنا عن سورة آل عمران كل الشرح لهذه المسألة . قلنا : إن علينا أن ننتبه إلى " واو العطف " بين " متوفيك " و " رافعك " .
ومن قال إن " واو العطف " تقتضي الترتيب؟ إن " واو العطف " تقتضي الجمع فقط كقولنا : " جاءني زيد وعمرو " ، هذا يعني أن زيداً جاء مع عمرو . أو ان زيداً جاء أولاً ، أو أن عمراً جاء أولاً وتبعه زيد ، ف " الواو " لا تقتضي الترتيب ، وإنما مقتضاها الجمع فقط
لكن إن قلنا " جاءني زيد فعمرو " فزيد هو الذي جاء أولاً وتبعه عمرو؛ لأن " الفاء " تقتضي الترتيب ، أما " الواو " فتأتي لمطلق الجمع ولا تتعلق بكيفية الجمع ، وسبحانه قال : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } هذا الضرب من الجمع لايدل على أن التوفي قد تم قبل الرفع ، ودليلنا أن الحق سبحانه أنزل في القرآن آيات تدل على مثل هذا ، كقوله الحق : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ } [ الأحزاب : 7 ]
فسبحانه أخذ الميثاق من محمد صلى الله عليه وسلم وجمع معه سيدنا نوحاً وإبراهيم ، فهل هذا الجمع كان قائماً على الترتيب؟ لا؛ لأن نوحاً متقدم جداً في الموكب الرسالي وسبق سيدنا رسول الله بسنوات طويلة ويفصل بينهما رسل كثيرون . إذن ف " الواو " لا تقتضي الترتيب في الجمع . ولماذا جاء الحق بأمر الوفاة مع أمر الرفع؟ جاء الحق بذلك ليشعر عيسى أن الوفاة أمر مقطوع به ، لكن الرفع مجرد عملية مرحلية .
أو جاء قوله الحق : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ؛ لأن الإنسان المخلوق لله مكون ومركب من مادة وفي داخلها الروح ، وعندما يريد الحق أن ينهي حياة إنسان ما ، فهو يقبضه بدون سبب وبدون نقض في البينة ، ويموت حتف أنفه ، أما إذا ما ضرب إنسان إنساناً ضربة عنيفة على رأسه فالمضروب أيضاً يموت ، لأن الروح لا تحل في جسم به عطب شديد .
(1/1933)

إذن فالحق أوضح لعيسى : أنا آخذك إليّ وأرفعك متوفياً وليس بجسدك أَيُّ نقض لبنيتك أو هدم لها أو لبعضها ، بل آخذك كاملاً . ف " متوفيك " تعني الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل .
ونحن - كما عرفنا من قبل - نفرق بين القتل والموت . فالموت هو أن تُقبض الروح حتف الأنف ، أما القتل فهو هدم للبنية فتزهق الروح ، والدليل على ذلك أن الحق في كتابه الكريم قال : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ]
إذن فحين قال بنو إسرائيل : إنهم قتلوا عيسى ابن مريم كذبهم الحق وقال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } . ورفعه الله إليه كاملاً ، وسبحانه وتعالى يقول : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } . ويوضح الحق سبحانه وتعالى : لم يتيقنوا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم ، ولكنهم شكوا فيمن قُتل ، فلم يعرف المتربصون لقتله أقتلوا عيسى أو تطيانوس أو سرخس؟
والحق سبحانه جاء هنا بنسبتين متقابلتين ، فبعد أن نفى سبحانه نبأ مقتل عيسى ابن مريم قال : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } . والنسبة الأولى المذكورة هنا هي الشك ، وهو نسبة يتساوى فيها الأمران . والنسبة الثانية هي اتباعهم للظن ، وهو نسبة راجحة . لقد بدأ الأمر بالنسبة إليهم شكاً ثم انقلب ظناً .
وينهي الحق ذلك بعلم يقيني { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } وسبحانه ينفي بذلك انهم قتلوه يقيناً ، واليقين - كما نعلم - هو الأمر الثابت المعقود في الواقع والأعماق بحيث لا يطفو إلى الذهن ليناقش من جديد أو يتغير ، وله مراحل هي : مرحلة العلم ، واسمها علم اليقين ، ومرحلة العين ، واسمها عين اليقين ، ومرحلة الحقيقة ، واسمها حق اليقين .
وعندما يخبرنا واحد من الناس أن جزءا من نيويورك اسمه " مانهاتن " . وأن مانهاتن هذه هي جزيرة يصل تعداد سكانها إلى عشرة ملايين نسمة ، وفيها ناطحات سحاب ، وجاء هذا الخبر ممن لا نعرف عنه الكذب فيسمعه من لم يَر نيويورك ، فيصير مضمون الخبر عنده علماً متيقناً؛ لأن الذي أخبر به موثوق به . وإن جاء آخر ووجه للسامع عن نيويورك دعوة لزيارتها ولبى السامع الدعوة وذهب إلى نيويورك ، هنا تحول الخبر من " علم يقين " إلى " عين اليقين " . وإن جاء ثالث وصحب السامع إلى قلب نيويورك وطاف به في كل شوارعها ومبانيها ، فهذا هو " حق اليقين "
وأسمى أنواع اليقين هو " حق اليقين " ، وقبلها " عين اليقين " ، وقبل " عين اليقين " " علم اليقين " .
(1/1934)

وحينما عرض سبحانه المسألة قال : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } [ التكاثر : 3-7 ]
هو سبحانه يعطينا علم اليقين ، ويصدقه المؤمنون بهذا العلم قبل أن يروه ، وسيرى المؤمنون وهم على الصراط النارَ وذلك عين اليقين . أما مسألة دخول الذين يرون الجحيم إليها فأمر سكت عنه الحق؛ لأن هناك من يدخل الجنة ولا يدخل النار ، وهناك من يدخل النار ولا يدخل الجنة . والكافرون بالله هم الذين سيرون الجحيم حق اليقين . ويأتي " حق اليقين " في موضع آخر من القرآن الكريم : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } [ الواقعة : 92-95 ]
فكل مكذب ضال سينزل إلى الحميم ويصلى الجحيم ويعاني من عذابها حق اليقين . إذن فقوله الحق عن مسألة قتل عيسى ابن مريم : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } يصدقه الذين لم يشاهدوا الحادث ، تصديق علم يقين لأن الله هو القائل . والذين رأوا الحادث عرفوا أنهم لم يقتلوه ولكنهم شكوا في ذلك . وأما من باشر عملية القتل لإنسان غير عيسى عليه السلام فهو الذي عرف حقيقة اليقين . والذي حدث هو ما يلي : { بَل رَّفَعَهُ الله . . . }
(1/1935)

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
لقد رفعه العزيز الذي لا يغلبه أحد على الإطلاق ، فهو القوي الشديد الذي لا ينال منه أحد ، فإذا كانوا قد أرادوا قتل رسوله عيسى ابن مريم ، فالله غالب على أمره ، وهو العزيز بحكمة .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب . . . }
(1/1936)

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
و " إن " هنا هي " إن " النافية ، وهي غير " إن " الشرطية . وإليكم هذا المثال عن " إن " النافية من موضع آخر من القرآن حين قال الحق : { الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ]
يصحح الحق هنا الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الذين يظاهرون من نسائهم بقول الواحد منهم لزوجته : " أنت علي كظهر أمي " ، فيقول سبحانه : { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [ المجادلة : 2 ]
فيوضح سبحانه : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم . و " إن " في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا الآن عنها هي " إن " النافية .
كأن الحق يقول : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمن به قبل موته . وهذا شرح لمعنى " إن النافية " . وقد يقول قائل : ما حكاية الضمائر في هذه الآية؟ فالآية بها أكثر من ضمير ، مثل قوله الحق : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } وعلى من تعود " به ) ؟ وعلى من تعود الهاء في آخر قوله " موته "؟ هل هو موت عيسى أو موت أي واحد من أهل الكتاب ، فالمذكور عيسى ، ومذكور أيضاً أهل الكتاب ، فيصح أن يكون القول كالآتي :
لن يموت واحد من أهل الكتاب إلا بعد أن يؤمن بعيسى ، ويصح أيضاً : لن يموت عيسى إلا بعد أن يؤمن به كل واحد من أهل الكتاب ، ولأن الضمير لا يعرف إلا بمرجعه ، والمرجع يبين الضمير . فإن كانت هناك ألفاظ سبقت . . فكل منها يصح أن يكون مرجعاً ، أو أن يعود الضمير على بعض مرجعه كقول الحق : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } [ فاطر : 11 ]
والمعمَّر هو الإنسان الذي طعن في السن ، ولا ينقص من عمر هذا المعمَّر إلا كما أراد الله ، والهاء في " عمره " تعود إلى بعض من المعمَّر . ذلك أن كلمة " معمَّر " مكونة من عنصرين هما " ذات الرجل " و " عمر الرجل " ، فلما عاد الضمير عاد على الذات دون التعمير ، فيكون المعنى هو : وما يعمَّر من معمَّر ولا ينقص من عمر ذات لم يثبت لها التعمير . وماذا يكون الحال حين يوجد مرجعان؟ مثل قوله الحق : { رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ الرعد : 2 ]
هنا نجد مرجعين : " السماء " و " العمد " فعلى أي منهما تعود الهاء الموجودة في كلمة " ترونها " ، هل تعود " الهاء " إلى المرجع الأول وهو السموات ، أو للمرجع الثاني وهو " العمد "؟ يصح أن تعود " الهاء " إلى السموات .
(1/1937)

. أي خلق السموات مرتفعة قائمة بقدرته لا تستند على شيء وأنتم تنظرون إليها وتشاهدونها بغير دعائم ، ويصح أيضاً أن تعود إلى العمد . أي بغير العمد التي نعرفها ولكن رفعها الحق بقوانين الجاذبية . أو رفع السموات { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي أن العمد مختفية عن رؤية البشر . وهكذا يصح أن يًنسب الضمير ويعود إلى أحد المرجعين .
والآية التي نحن بصددها ، نجد أنه قد تقدم فيها شيئان هما المسيح وأهل الكتاب ، وفيهما ضميران اثنان . فهل يعود الضميران على عيسى ، أو يعودان على أهل الكتاب؟ أو يعود ضمير منهما على عيسى والآخر على أهل الكتاب؟ وأي منهما الذي يرجع على عيسى ، وأي منهما الذي يرجع على أهل الكتاب؟ أو أن هناك مرجعاً ثالثاً لم يُذكر ويعلم من السياق هو محمد صلى الله عليه وسلم ، ونجد أن الضميرين قد يرجعان إلى المرجع الثالث ، أي إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر بمجيئه عيسى ابن مريم ، وتواتر الأحاديث عن أن عيسى يوشك أن ينزل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ولسوف يصلي عيسى ابن مريم خلف واحد من أمة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .
ولماذا التقى النصارى مع اليهود في مسألة القتل والصلب؟ هم معذورون في ذلك؛ لأن الحق لم يأت ببيان فيها آنئذ . وقوله : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } يدل على أنهم معذورون إن قالوا ذلك . ولكن كان الواجب أن يتمردوا على مسألة الصلب هذه ، إن كان فيه ألوهية أو جزء من ألوهية ، وكان من الواجب أن يخفوا مسألة الصلب . ويأتي الإسلام ليبرئ عيسى عليه السلام من هذه المسألة ويعين أتباع عيسى على تبرءته منها .
ولكن لم يلتفت أتباع عيسى إلى قول الإسلام في هذه القضية { ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } وكان يجب لأن يلتفت إليها أتباع المسيح . وحين يقص الحق كل ذلك فهو يحكم من بعد ذلك حكماً إلهياً : { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } النصارى يقولون بالرفع ، ولكن بعد الصلب . ونحن المسلمين نقول بالرفع ولا صلب ، رفعه الله إليه وسينزل . وحكمة ذلك أنه لم يوجد رسول من الرسل السابقين فُتن فيه قومه فجعلوه بعضاً من إله أو إلهاً فلم تسكت السماء عن ذلك ، فرفعه سبحانه وسينزله ليسفه هذه القضية ، وبعد ذلك يجري عليه قدر الله في خلقه وهو الموت .
إن الذين يقفون في هذه المسألة يجب ألا يقفوا ، لأن مسألة سيدنا عيسى عليه السلام بدأها الله بعجيبة خرقت النواميس لأنه وُلد من أم دون أب . فإن كنتم قد صدقتم العجيبة في الميلاد ، فلماذا لا تصدقون العجيبة في مسألة الرفع؟
وإن قال واحد منا : لقد مات عيسى عليه السلام . نقول : ماذا تقولون في نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام؟ أصعد إلى السماء معروجاً به إليها؟ ألم يكن رسول الله حياً بقانون الأحياء؟ نعم كان حياً بقانون الأحياء .
(1/1938)

وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة وجيزة في السماء ثم نزل إلينا ، إذن فالمسألة في أن يذهب خلق من خلق الله بإرادة الحق وقدرته إلى السماء وهو حي ثم ينزل إلى الأرض وهو حيٌّ ليس عجيبة .
والخلاف بين رفع عيسى وصعود محمد صلى الله عليه وسلم بالمعراج خلاف في المدة . وهذا لا ينقض المبدأ؛ فالمهم أنه صعد بحياته ونزل بحياته ، وظل فترة من الزمن بحياته ، إذن فمسألة الصعود إلى السماء والبقاء فيها لمدة أمر وارد في شريعتنا الإسلامية . ولتأكيد هذه المسألة يقول الحق : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِْ } [ النساء : 159 ]
السامع السطحي لهذه الآية قد يقول : إنهم أهل كتاب ولا بد أن يكونوا قد آمنوا به ، وأقول : لا ، لقد آمنوا به إيماناً مراداً لأنفسهم ، وليس الإيمان المراد لله ، آمنوا به إلهاً أو جزءاً من إله وهو ما يسمى لديهم بالثالوث - الآب والابن وروح القدس - ولكن الله يريد أن يؤمنوا به رسولاً وبشراً وعبداً .
وإذ قال الحق : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } فمعنى هذا : ما أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام رسولاً وعبداً وبشراً قبل أن يموت .
والضمير في قوله : { إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } يرجع إلى عيسى . والضمير الآخر الموجود في { قَبْلَ مَوْتِهِ } قد يرجع إلى عيسى أي قبل موت عيسى ولن يموت عليه السلام الموتة الحقيقية التي تنهي أجله في الحياة إلا بعد أن يؤمنوا به عبداً ورسولاً وبشراً ، ولن يتحقق ذلك إلا إذا جاء بشحمه ولحمه ودمه ليقول لهم : أنتم مخطئون في أنكم أنكرتم بشارتي بمحمد الخاتم ، وأنتم مخطئون في اتهامكم لأمي ، والدليل على خطئكم هو أنني جئت مبشراً برسول للناس كافة هو محمد بن عبدالله ، وهأنذا أصلي خلف واحد من أمة ذلك الرسول . فلن يأتي عيسى - عليه السلام - بتشريع جديد بل ليصلي خلف واحد من المؤمنين بمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم .
وحين يصنع عيسى ابن مريم ذلك ، ماذا سيقول الذين فُتِنوا فيه؟ . لاشك أنهم سيعلنون الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو أن كل كتابي من الذين عاشوا في المسافة الزمنية من بعد رفعه وحتى نزوله مرة أخرى سيعلن الإيمان بعيسى كبشر ورسول وعبد قبل أن يموت ولو في غيبوبة النهاية عندما تبلغ الروح الحلقوم وتترد في الحلق عند الموت . فقد يصح أن تكون الآية عامة { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ويعود الضمير فيها إلى كل كتابي قبل أن يموت .
(1/1939)

إن النفس البشرية لها هوى قد يستر عنها الحقائق ويغلق دونها باب اليقين ويدفعها إلى ذلك غرور الحياة ، فإذا ما جاءت سكرة الموت بالحق ، انتهى كل شيء يُبعد الإنسان عن منهج الحق واليقين؛ ولا تبقى إلا القضايا بحقها وصدقها ويقينها ، وتستيقظ النفس البشرية لحظة تظن أنها ستلقى الله فيها ويسقط غرور الحياة ، ويراجع الإنسان منهم نفسه في هذه اللحظة ، ويقول : أنا اتبعت هوى نفسي . ولكن أينفع مثل هذا اللون من الإيمان صاحبَه؟ لا؛ لأن مثله في ذلك مثل إيمان فرعون ، فقد قال حين أدركه الغرق : { حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } [ يونس : 90 ]
فيسمع صوتَ الحق في تلك اللحظة : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين } [ يونس : 91 ]
فلم ينتفع فرعون لحظة الغرق بالإيمان .
ويقول - سبحانه - : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 18 ]
ويذيل الحق الآية : { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } وهذا يؤكد أن عيسى عليه السلام سيشهد على من عاصروا نزوله في الدنيا ، وسوف يشهد يوم القيامة على الذين ادعوا له بالألوهية : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } [ المائدة : 116 ]
ويعاود الحق سبحانه الكلام عن فظائع اليهود فيقول : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين . . . }
(1/1940)

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
هو سبحانه يوضح أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل جاء نتيجة لمواقف يعددها الله ، لقد ارتكبوا ما ارتكبوا من ذنوب كبيرة وظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم ، وصدوا عن دين الله ، بمعنى أنهم لم يدخلوا في الإسلام .
وتستمر الحيثيات للتحريم لبعض الطيبات لتزيد على هذين الموقفين : { وَأَخْذِهِمُ الربا . . . }
(1/1941)

وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
وأي ظلم يتحدث عنه الحق في قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } ؟ . الظلم معناه أن يحكم واحد لغير ذي الحق بحق ، وقمة الظلم أن يحكم واحد بأن الله شريكاً ، ولذلك قال سبحانه : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ]
وحيثيات حكم الله بتحريم أشياء كانت حلالاً لبني إسرائيل متعددة . وحين يحرم الله شيئاً فمن المؤكد أنه محدود بالنسبة للمحلَّل؛ فالمحرم قليل ، وبقية ما لم يذكره الله إنما يدخل في نطاق الحلال .
مثال ذلك قوله الحق : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 151-152 ]
يورد الحق هنا المحرمات وهي أشياء محددة محدودة ، أما النعم كلها فحلال . ومن هذا الأمر نفهم اتساع مدى رحمانية الحق بالخلق ، فقد وهبنا الكثير والكثير من النعم التي لا تعد ولا تحصى ولم يحرم إلا القليل . وتحريم القليل جاء لتبقى كل نعمة في مجالها .
فإذا قال الإنسان : حرم الله هذا الشيء لأنه ضار نقول : ما تقوله جائز ، ولكن ليس الضرر هو سبب الحكم لِكل المحرمات ، فقد يحرم سبحانه أمراً لتأديب قوم ما . - ولله المثل الأعلى - نرى المسئول عن تربية أسرة قد يحرم على ولد فيها لوناً من الطعام أو جزءاً من مصروف اليد ويكون القصد من ذلك هو العقوبة .
ولماذا استحق بنو إسرائيل عقوبة التحريم؟ . لقد جاءوا من خلف منهج الله وأحلوا لأنفسهم ما حرم الله . وماداموا قد زاغوا فأحلوا ما حرم الله فالحق يرد عليهم : لقد اجترأتم على ما حرمت فحللتموه ، ومن حقي أن أحرم عليكم ما أحللت لكم من قبل ذلك ، حتى لا يفهم الإنسان أنه بتحليله لنفسه ما حرم الله قد أخذ شيئاً من وراء الله فلا أحد يمكنه أن يغلب الله . ولذلك يحرم سبحانه عليه شيئاً من حلاله .
والتحريم إما أن يكون تحريم تشريع ، وإما تحريم طبع أو فطرة أو ضرورة . نجد الرجل الذي أسرف على نفسه في تناول محرمات كالخمر - مثلاً - يحرم الله عليه أشياء كانت حلالاً له ، ويقول له الطبيب : تهرأ كبدك وصار من الممنوع عليك أن تأكل صنوفاً كثيرة من الطعام والشراب . وهكذا نرى ظلم الإنسان لنفسه ، وكيف نتج عنه تحريم أشياء كانت حلالاً له .
(1/1942)

ومن أسرف على نفسه في تناول صنف معين من الطعام كالسكر مثلاً فأكَله فوق ما تدعو به الحاجة ، نجد سنة الله الكونية تقول له : لقد أخذت أكثر من حقك . وعطلت في جسدك القدرة على حسن استخدام السكر فصرت مريضاً ، إياك أن تتناول السكريات مرة أخرى . ويشتهي المريض السكر والحلوى ويملك القدرة على شرائهما ، ولكنها محرمة عليه ، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول له : بظلم منك لنفسك حرمت ما أحللته لك .
وآخر يملك الثروات والخدم والمزارع الشاسعة ، ويقوم له الآخرون بطحن الغلال ، ويأمر بأن يصنعوا له الخبز من أنقى أصناف الدقيق الخالي من أية قدر من " النخالة " ، ويصنعون له الخبز الأبيض ، ويأكله بينما الاتباع يصنعون لأنفسهم الخبز من الدقيق الأقل نقاوة ، فتقول له سنة الله : ستأكل الخبز المصنوع من النخالة بأمر الطبيب علاجاً لأمعائك لأنك أسرفت على نفسك في أكل الخبز المصنوع من أنقى أنواع الدقيق وليأكل رعاياك وعمالك الخبز المصنوع من أفخر ألوان الدقيق ، فبظلم منك حرمنا ما أحل لك .
وعندما نَرى إنساناً قد حُرمَ من نعمة من نعم الله التي هي حلال له ، نعلم أنه قد حلل لنفسه شيئاً حرمه الله عليه ، أو أسرف في استعمال حق أحله الله له ، ولا أحد منا يفلت من رقابة الله . إذن فالتحريم قد يكون بالتشريع ، إذا كانت العقوبة التحريم من المشرع ، وقد يكون تحريماً بالطبع والفطرة إن كان في الأمر إسراف من النفس .
ولنقرأ دائماً هذه الآية : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } وكذلك الذين يأخذون مالاً بالربا ، لقد أخذوا الربا ليزيد مالهم ، لماذا تريدون المال؟ . أتريدون المال لذات المال؛ أم لهدف آخر؟ . صحيح أن المال رزق ، لكنه رزق غير مباشر؛ لأنه يَشْتري به الأشياء التي ينتفع بها الإنسان ، وهي الرزق المباشر . وقلنا قديماً : هب أن إنساناً في صحراء ومعه جبل من ذهب لكن الطعام انقطع منه ، وجبل الذهب في مثل هذه الحالة لا ينفع ، بل يصبح رغيف الخبز وكوب الماء في تلك الحالة أغلى من الذهب . والذي يزيد ماله بالربا ، أيريد تلك الزيادة من أجل المتع؟ . سبحانه يمحق ذلك المال ويُذهبه في كوارث .
ومن أراد أن يبقي له ما أحل الله إلى أن يأتي أجله فعليه ألا يبيح لنفسه أي شيء حرمه الله . وبذلك يظل متمتعاً بنعم الله عليه . فالحق هو القائل : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .
الإنسان - إذن - هو الذي يظلم نفسه مصداقاً لقوله الحق : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس : 44 ]
وهكذا ظلم اليهود أنفسهم فحرم الله عليهم طيبات أُحِّلت لهم . ومن الذي نقل الأمر الطيب إلى أمر غير طيب؟ .
(1/1943)

إنه الإنسان . ولكن هل نقل ذات الشيء أو حكم الشيء؟ . لقد نقل حكم الشيء ، فجعل الشيء الحرام شيئاً حلالاً . { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } .
كيف يكون باستطاعتهم الصد عن سبيل الله؟ . لقد ظلموا أنفسهم وأخذوا الربا وتلك أمور تجعلهم في ناحية الضلال وفي جانب الباطل ، وليت الأمر وقف عند هذا . بل أرادوا أيضاً إضلال غيرهم ، وهذا هو مضمون الصد عن سبيل الله . وجعلهم هذا الأمر أصحابَ وزر آخر فوق أوزارهم ، فلم يكتفوا بضلالهم بل تحملوا أوزار إضلال غيرهم . { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ]
وقد يسمع متشكك هذا القول . فيتساءل : كيف يناقض القرآن بعضه فيقول : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ]
ونقول : إن لكل وزر طريقاً وحساباً ، فالإنسان يحمل وزر ضلاله وحده إن لم يضل به أحداً غيره ، ولكن إن حاول إضلال غيره فهو يتحمل وزر هذا الإضلال .
ويقول الحق في تكملة ظلمهم لأنفسهم : { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ، وقد تعرضنا للربا من قبل . وقد أخذوا الرشوة ، وهو أكل لمال الناس بالباطل؛ وكذلك السرقة ، والغش في السلع ، كل ذلك أخذ مال من الناس بغير حق ، وما أخذ بغير الحق فهو باطل ، وأعد سبحانه لهم مسبقاً عذاباً اليماً . ولكل إنسان مقعدان : مقعد من الجنة إن قُدّر إيمانه ، ومقعد من النار إن قُدّر كفره ، ولا مجال للظن بإمكان ازدحام الجنة أو ازدحام النار ، فقد خلق الله مقاعد الجنة على أساس أن كل الناس مؤمنون ، وجعل مقاعد النار على أساس أن كل الناس كافرون .
ولذلك يقول الحق : { الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 11 ]
وحين يتبوأ المؤمن مقعده في الجنة يورثه الله المقعد الآخر الذي أعده للكافر؛ فقد كان للكافر قبل أن يكفر مقعدٌ في الجنة لو اختار الإيمان . وقد أعد الحق العذاب الأليم لهم أي الشديد إيلامه ، وهو مهين أيضا أي أن في قدرته قهر أي إنسان يتجلد للشدة ، فلا أحد يقدر على الجَلَد أمام عذاب الله .
وهل هذا هو كل ما كان من أهل الكتاب؟ . ألم يوجد في أهل الكتاب من كان يدير مسألة برسول الله صلى الله عليه وسلم في عقله ، ويبحث في القضايا والسمات التي جاءت مبشرِّة به صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل؟ . كان من بينهم من فعل ذلك ، ويورد الحق سبحانه وتعالى التاريخ الصادق ، فيستثنى من أهل الكتاب الراسخين في العلم فيقول : { لكن الراسخون . . . }
(1/1944)

لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
إذن لم يعمم الله الحكم على أهل الكتاب ، الذي سبق بكفرهم وظلمهم لأنفسهم وأخذهم الربا وغير ذلك ، بل وضع الاستثناء ، ومثال لذلك " عبدالله بن سلام " الذي أدار مسألة الإيمان برسول الله في رأسه وكان يعلم أن اليهود قوم بُهت .
فقال لرسول الله : إني أومن بك رسولاً ، والله لقد عرفتك حين رأيتك كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد .
ويقول الحق عن مثل هذا الموقف : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } . ولا أحد يتوه عن معرفة ابنه؛ كذلك الراسخون في العلم يعرفون محمداً رسولاً من الله ومبلغاً عنه ، والراسخ في العلم هو الثابت على إيمانه لا يتزحزح عنه ولا تأخذه الأهواء والنزوات . بل هو صاحب ارتقاء صفائي في اليقين لا تشوبه شائبة أو شبهة .
{ لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، وقوله الحق : { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ } هو القرآن ، وهو أصل يُرد إليه كل كتاب سابق عليه ، فحين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا رسول الله ، لابد أن يؤمنوا بما جاء من كتب سابقة .
والملاحظ للنسق الأسلوبي سيجد أن هناك اختلافاً فيما يأتي من قول الحق : { والمقيمين الصلاة } فقد بدأ الحق الآية : { لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمقيمين الصلاة } .
ونحن نعلم أن جمع المذكر السالم يُرفع بالواو وينصب ويُجر بالياء ، ونجد هنا " المقيمين " جاءت بالياء ، على الرغم من أنها معطوفة على مرفوع ، ويسمي علماء اللغة هذا الأمر ب " كسر الإعراب "؛ لأن الإعراب يقتضي حكماً ، وهنا نلتفت لكسر الحكم . والأذن العربية التي نزل فيها القرآن طُبِعَتْ على الفصاحة تنتبه لحظة كسر الإعراب .
لذلك فساعة يسمع العربي لحناً في اللغة فهو يفزع . وكلنا يعرف قصة العربي الذي سمع خليفة من الخلفاء يخطب ، فلحن الخليفة لحنة فصرّ الأعرابي أذنيه ، أي جعل أصابعه خلف أذنيه يديرهما وينصبهما ليسمع جيداً ما يقول الخليفة ، ثم لحن الخليفة لحنة أخرى ، فهب الأعرابي واقفاً ، ثم لحن الثالثة فقال الأعرابي : أشهد أنك وُلِّيت هذا الأمر بقضاء وقدر . وكأنه يريد أن يقول : " أنت لا تستحق أن تكون في هذه المكانة " .
وعندما تأتي آية في الكتاب الذي يتحدى الفصحاء وفيها كسر في الإعراب ، كان على أهل الفصاحة أن يقولوا : كيف يقول محمد إنه يتحدى بالفصاحة ولم يستقم له الإعراب؛ لكن أحداً لم يقلها ، مما يدل على أنهم تنبهوا إلى السرّ في كسر الإعراب الذي يلفت به الحق كل نفس إلى استحضار الوعي بهذه القضية التي يجب أن يقف الذهن عندها : { والمقيمين الصلاة } .
(1/1945)

لماذا؟ لأن الصلاة تضم وتشمل العماد الأساسي في أركان الإسلام؛ لأن كل ركن من الأركان له مدة وله زمن وله مناط تكليف . فالشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكفي أن يقولها المسلم مرة واحدة في العمر ، والصوم شهر في العام وقد لا يصوم الإنسان ويأخذ برخص الإفطار إن كانت له من واقع حياته أسباب للأخذ برخص الإفطار . والزكاة يؤديها المرء كل عام أو كل زراعة إن كان لديه وعاء للزكاة . والحج قد يستطيعه الإنسان وقد لا يستطيعه . وتبقى الصلاة كركن أساسي للدين . ولذلك نجد هذا القول الكريم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } [ المدثر : 42-43 ]
وأركان الإسلام - كما نعلم - خمسة وهي واضحة ، ومن الجائز ألا يستطيع المسلم إقامتها كلها بل يقيم فقط ركنين اثنين ، كالشهادة وإقامة الصلاة . وحين يقول الحق : { والمقيمين الصلاة } . يلفت كل مؤمن إلى استمرارية الودادة مع الله؛ فهم قد يودُّون الله شهراً في السنة بالصيام ، أو يؤدُّون بإيتاء الزكاة كلما جاء لهم عطاء من أرض أو مال ، أو يودون الله فقط إن استطاعوا الذهاب إلى الحج . وبالصلاة يودُّ المؤمن ربَّه كل يوم خمس مرات ، هي - إذن - إعلان دائم للولاء لقد قلنا : إن الصلاة جمعت كل أركان الدين ، ففيها نقول : " أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله " ، ونعلم أننا نزكي بالمال ، والمال فرع العمل ، والعمل يحتاج إلى وقت؛ والإنسان حين يصلي يُزكي بالوقت . والإنسان حين يصلي يصوم عن كل المحللات له؛ ففي الصلاة صيام ، ويستقبل المسلم البيت الحرام في كل صلاة فكأنّه في حج .
إذن فحين يكسر الحق الإعراب عند قوله : { والمقيمين الصلاة } إنما جاء ليلفتنا إلى أهمية هذه العبادة . ولذلك يقولون : هذا كسر إعراب بقصد المدح . - فهي منصوبة على الاختصاص - ويخص به الحق المقيمين الصلاة؛ لأن إقامة الصلاة فيها دوام إعلان الولاء لله . ولا ينقطع هذا الولاء في أي حال من أحوال المسلم ولا في أي زمن من أزمان المسلم مادام فيه عقل .
ويقول الحق من بعد ذلك : { والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر } كأن كل الأعمال العبادية من أجل أن يستديم إعلان الولاء من العبد للإيمان بالله . والإيمان - كما نعلم - بين قوسين : القوس الأول : أن يؤمن الإنسان بقمة الإيمان وهو الإيمان بالله . والقوس الثاني : أن يؤمن الإنسان بالنهاية التي نصير إليها وهي اليوم الآخر . ويقول سبحانه جزاءً لهؤلاء : { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } هو أجر عظيم؛ لأن كل واحد منهم قد شذ عن جماعته من بقية أهل الكتاب ووقف الموقف المتأبي والرافض المتمرد على تدليس غيره ، ولأنه فعل ذلك ليُبيّن صدق القرآن في أن الإعلام بالرسول قد سبق وجاء في التوراة .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ . . . }
(1/1946)

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
ونعلم أن الحق حينما يتكلم ، يأتي بضمير التكلم . وضمير التكلم له ثلاثة أوجه ، فهو يقول مرة : " إنا " ومرة ثانية : " إنني " وثالثة يخاطب خلقه بقوله : " نحن " . وهنا يقول : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ } . ونشاهد في موقع آخر من القرآن الكريم قوله الحق : { إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ } [ طه : 14 ]
وفي موضع ثالث يقول : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
لأن الذكر يحتاج إلى صفات كثيرة ومتنوعة تتكاتف لتنزيل الذكر وحفظه . وحين يخاطب الله خلقه يخاطبهم بما يُجلي مواقع الصفات من الكون الذي نعيش فيه . والكون الذي نعيش فيه يمتلئ بالكائنات التي تخدم الإنسان ، وهذه الكائنات قد احتاجت إلى الكثير لتهيئ للإنسان الكون قبل أن يوجد الإنسان ، وذلك حتى يأتي إلى الكون ليجد نعم الله له؛ فالإنسان هو الذي طرأ على كون الله .
هذا الكون الذي صار إلى إبداع كبير احتاج إلى صفات كثيرة لإعداده ، احتاج إلى علم عن الأشياء ، وإلى حكمة لوضع كل شيء في مكانه ، ولقدرة تبرزه ، وإلى غنى بخزائنه حتى يفيض على هذا الموقع بخير يختلف عن خير الموقع الآخر ، وساعة يكون العمل مُتطلباً لمجالات صفات متعددة من صفات الحق ، يقول سبحانه : " إنَّ " أو " نحن " . وعندما يأتي الحديث عن ذات الحق سبحانه وتعالى يقول : " إني أنا الله " . ولا تأتي في هذه الحالة " إنَّا " ولا تأتي " نحن " .
والحق هنا يقول : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } أي أنه أوحى بمنهج ليصير الإنسان سيداً في الكون ، يصون نفسه والكون معاً ، وصيانة الكائن والكون تقتضي علماً وحكمة وقدرة ورحمة؛ لذلك فالوحي يحتاج إلى صفات كثيرة متآزرة صنعت الكون . ورحمة من الله بخلقه أن جعل لهم مدخلاً فيقول على سبيل المثال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } [ فاطر : 27 ]
هو الذي أنزل من السماء ماء ، وليس لأحد من خلقه أي دخل في هذا؛ لأن الماء إنما يتبخر دون أن يدري الإنسان ، ولم يعرف ذلك إلا منذ قرون قليلة . وعرفنا كيف يتكون السحاب من البخار ، ثم ينزل المطر من بعد ذلك . إذن لا دخل للإنسان بهذا الأمر؛ لذلك يقول الحق : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } . ويأتي من بعد ذلك إنصاف الحق للخلق ، فيقول : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } . ولم يقل : " فأخرجت " . بل أنصف الحق خلقه وهم المتحركون في نعمه بالعقول التي خلقها لهم ، فسبحانه يقدر عمل الخلق من حرث وبذر ورى وذلك حتى يخرج الثمر .
إذن الأسلوب القرآني حين يأتي ب " إني " يشير إلى وحدة الذات ، وحين يأتي ب " إنَّا " يشير إلى تجمع صفات الكمال؛ لأن كل فعل من أفعال الله يقتضي حشداً من الصفات علماً وإرادة وقدرة وحكمة وقبضاً وبسطاً وإعزازاً وإذلالاً وقهاريةً ورحمانيةً؛ لذلك لا بد من ضمير التعظيم الذي يقول فيه النحويون : إن " نحن " و " ن " للمعظم نفسه .
(1/1947)

وقد عظم الحق نفسه؛ لأن الأمر هنا حشد صفات يتطلبها إيجاد الكون والقيام على أمر الكون . ولذلك نجد بعض العارفين الذي لمحوا جلال الله في ذاته وجماله في صفاته يقولون :
فسبحان رب فوق كل مظنة ... تعالى جلالاً أن يُحاط بذاته
إذا قال " إني " ذاك وحدة قدسه ... وإن قال " إنَّا " ذاك حشد صفاته
وعندما ننظر إلى هذه المسألة ، نجد أن الحق سبحانه وتعالى أنصف خلقه لعلهم يعرفونه ، فجعل لهم إيجاد أشياء وخلق أشياء . وحين يتعرض سبحانه لأمر يكون له فيه فعل ويكون لمن أقدره سبحانه من خلقه فيه فعل ، فهو يأتي بنون التعظيم لأنه - سبحانه - هو الذي أمدهم بهذه القدرات .
وحين أوجد الحق خلقه من عدم ، جعل لخلق من خلقه إيجاداً؛ ولكنْ هناك فرق بين إيجاد المادة ، وإيجاد ما يتركب من المادة . فقد خلق سبحانه كل شيء من عدم ، ولكن جعل لخلقه أن يخلقوا أشياء لكن ليست من عدم . وما ضَنَّ سبحانه وتعالى عليهم بأن يذكرهم بلفظ الخلق فقال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ]
فكأنه سبحانه وتعالى جعل من خلقه خالقين ، لكن الخالقين من خلقه لم يخلقوا من عدم محض ، وإنما كوَّنوا مركّباً من موجود في مواده . فأخذوا من مواد خلقها الله فركّبوا وأوجدوا . والإنسان الذي صنع كوب الماء لم ينشئ الكوب من عدم محض وإن كانت " الكلية " في الكوب غير موجودة فجزئيات إيجاد الكوب موجودة ، فالرمل موجود في بيئات متعددة ، وموجود أيضاً ما يصهر الرمل ، والعقل الذي يأخذ تلك العناصر ، والفكر الذي يصنع من الرمل عجينة ، ومصمم الآلات التي تصنع هذا الكوب موجود . إذن فقد أوجد الإنسان كوباً من جزئيات موجودة . فالفارق - إذن - بين خلق الله وخلق خلق الله؛ أن الله خلق من عدم محض ، لذلك وصف ذاته بقوله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } .
فأنتم أيها البشر إنما تخلقون من مخلوقات الله ولم تخلقوا من غير مخلوق لله؛ فهو سبحانه وتعالى أحسن الخالقين . وكما أنصف الحق خلقه بأن نسب لهم خلقاً ، فلا بُدَّ من أن يصف نفسه بأنه أحسن الخالقين . وأيضاً إن خلق الخلق - كما قلنا وأنا لا أزال أكررها لتستقر ثابتة في الأذهان - يجمد الشيء على ما أوجدوه عليه ، فيخلقون الكوب ليظل كوباً في حجمه وشكله ولونه ، ولكنهم لم يخلقوا كوباً ذكراً وكوباً أنثى ليجتمعا معاً وينشئا أكواباً صغيرة تنمو وتكبر ، ولكن الله ينفخ بسرّ الحياة في كل شيء فيوجده ، لذلك هو أحسن الخالقين .
(1/1948)

ولو نظرت إلى كل شيء في الوجود لوجدت فيه سر الذات الفاعلة ، فلو نظرت إلى ذات نفسك ، لوجدت لك وسائل إدراك ، لوجدت لك سمعاً ، ولوجدت لك عيناً ، ولوجدت لك أنفاً ولمساً وذوقاً ولكن لبعض الآلات تحكم في اختيارك ، فأنت حين تفتح عينيك ترى وإن لم يرد أن ترى تغمض عينيك . ولكن إذا أردت الا تسمع ، أتستطيع أن تجعل في أذنك آلة تقول " لا أسمع "؟ وأنت تفتح فمك لتأكل وتتذوق ، ولكن أنت لا تفتح أنفك لتشم . أنت تمد يدك لتلمس . وقل لي بالله أي انفعال لك أن أردت أن تضحك؟ ما الآلة التي في بدنك تحركها لتضحك؟ أنت لا تعرف شيئاً إلا سبباً مثيراً يضحك ، لكنك لا تعرف ما هي الآلات التي تعمل في جسمك لتضحك . وكذلك حينما تبكي ما هي الآلات التي تعمل في ذاتك لتجعلك باكياً؟ أنت لا تعرف . ولذلك جعل الله الإضحاك والإبكاء مع الإيجاد بالحياة ، والعدم بالموت جعل ذلك له سبحانه وتعالى . { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 43-44 ]
جعل الحق في ذاتك الإنسانية أشياء تفعل ولكنك لا تعرف بأي شيء تفعل ولا بأي شيء تنفعل . والأذن ليس لها ما يسدها عن السمع؛ لذلك لا يأمرك الحق بألا تسمع أي شيء ، ولكن الأثر الصالح يأمر : ( لا تتسمّع إلى القيلة ) .
لم يقل الأثر الصالح " لا تسمع إلا قيلة " لأن الإنسان لا يستطيع أن يصم أذنيه عما يدور حوله ، لكنه يستطيع ألا يتسمّع بألاّ يلقي بأذنيه إلى ما يقال . إذن فقد جعل الحق التكليف في مقدور اختيارات المسلم ولذلك قال : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ]
واستخدم هنا كلمة " رأيت " لأن المسلم لا يملك شيئاً يسد به أذنيه حتى لا يسمع حديث الذين يخوضون في آيات الله ، لكن أمر الله الذين يسمعون ذلك أن يسيروا بعيداً معرضين عن هؤلاء الخائضين . وسبحانه يوضح لنا ما خفي عنا ، وكل شيء في الكون وإن كان ظاهره أنه " يفعل " ، لكنه في الحقيقة هو مقهور لما ينفعل لمرادات الله بأمر الله . ولذلك يقول العارفون بالله : من جميل إحسانه إليك أن فعل ونسب إليك .
فسبحانه وتعالى الذي يفعل كل شيء ، وليس على الإنسان إلا توجيه الآلة الفاعلة . ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن الإنسان حين يكون قوياً لا يمكنه أن يعطي قوته لضعيف ، فلا أحد منا يقول لضعيف : خذ قدراً من قوتي لتساعدك على التحمل ، بينما يوضح الله للضعيف عملياً : تعال إلي أعطك من مطلق قدرتي قدراً من القوة لتفعل .
(1/1949)

إذن القوة في المخلوق لا يعطيها أبداً لمثله ، بل يعطي أثرها . مثال ذلك عندما لا يستطيع شخص أن يحمل شيئاً ثقيلاً ، فيأتي آخر قَويّ ليحمله عنه ، والقوي بفعله إنما يعدي أثر قوته للضعيف ، لكنه لا يستطيع أن ينقل قوته إلى ذات الضعيف ليحمل الشيء الثقيل .
والله لا يعدي أثر قوته فحسب ولكنه يمنح ويعطي قوة إلى كل ضعيف يلجأ إليه وإلى كل قوي أيضاً . وسبحانه يتفضل بالغنى والسعة لكل غني وفقير وبرحمته إلى كل رحيم ، وبقدرته لكل قادر ، وبحكمته لكل حكيم . إذن فكل هذه مستمدات من الحق سبحانه وتعالى . هذا هو كلامنا في " إنَّا " .
وحين يتكلم الحق قائلاً : " أوحينا " فهو سبحانه يأتي بصيغة الجمع . وما الوحي؟ قال العلماء الوحي : إعلام بخفاء؛ لأن وسائل الإعلام شتى ، وسائل الإعلام هي التي تنقل قولاً يقوله المبلِّغ فيعلم السامع ، أو هو إشارة يشير بها فيفهم معناها الرائي . وهذه إعلامات ليست بخفاء . بل بوضوح ، وعندما يقول : " أوحينا " فهو يعني أنه قد أعلم ، ولكن بطريق خفي . وحين تطلق كلمة " وحي " يكون لها معانٍ شتى ، فكل إعلام بخفاء وحي . لكن من الذي أوحى في خفاء؟ ومن الذي أُوحي إليه في خفاء؟ وما الذي أُوحي به في خفاء؟ نجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في أجناس الوجود ، وقال عن الأرض وهي الجماد : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 1-5 ]
أي أن الحق قد ضبط الأرض على مسافة زمن قيام القيامة ، فتتحدث عندئذ - ولله المثل الأعلى - نحن نقدر العمر الافتراضي لما نصنع لينتهي في وقت محدد . إذن فقد أوحى الله للجماد وهي الأرض .
ويترك لنا سبحانه في صناعة المخلوقين ما يقرب لنا صنعة الخالق ، فعندما يريد الإنسان أن يستيقظ في الثالثة صباحاً ، وهو وقت لم يعتد فيه هذا الإنسان على الاستيقاظ ، فهو يضبط المنبه ليصدر عنه الجرس في الوقت المحدد ، كأن الإنسان بهذا الفعل قد أوحى للمنبه ، كذلك الحق صنع الأرض وأوحى لها : في الوقت المحدد ستنفجرين بحكم تكويني لك . ويوحي الحق إلى جنس الحيوان : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ]
هذا إعلام بخفاء من الله للنحل . فقد جعل الله في تكوينها الغرزي ما يؤدي إلى ذلك . وهناك فرق بين التكوين الغرزي والتكوين الاختياري؛ فالتكوين الغرزي يسير بنظام آلي لا يعدل عنه ، أما التكوين الاختياري فيصح أن يعدل عنه .
ومثال آخر علىلآلية نجد الحاسب الآلي المسمى العقلي الإلكتروني ويقوم الإنسان بتخزين المعلومات فيه ، وهذا الحاسب الآلي لا يستطيع أن يقول لواضع المعلومات فيه : لا تقل هذه الحقيقة ، ولا يستطيع أن يمتنع عن إعطاء ما فيه لمن يطلب هذه المعلومات إن كان يعرف كيفية استدعائها .
(1/1950)

فلا اختيار للحاسب الآلي .
ويختلف الوضع في العقل البشري الذي يتميز بالقدرة على انتقاء المعلومات ويعرف كيف يدلي بهذه المعلومات حسب المواقف المختلفة ، ويتحكم بوعي فيما يجب أن يُستر وفيما لا يجب ستره ، بل إن العقل البشري قد يكذب ويلون المعلومات . وهو قادر على تغيير الحقائق والتحكم فيها ، بينما الحاسب الآلي المسمى بعقل إليكتروني لا يقدر على ذلك؛ لأنه يدلي بالمعلومات حسب ما تم " برمجته " به وتخزينه ووضعه فيه ، وهكذا يرتقي الإنسان في الفكر .
والحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق ، أعطى لكل كائن الغرائز التكوينية التي تناسبه أعطى الإنسان القدرة على الاختيار بين البديلات ، أما بقية الكائنات فقد أخذت حكم الغريزة . والكائن الذي يسير بحكم الغريزة لا اختيار له ، ولذلك تسير كل أموره مستقيمة بناموس ثابت .
ونرى هذا الأمر بوضوح في حكم قهر السموات والأرض والكواكب التي لا اختيار لها؛ فهي تسير حسب القوانين التي وضعها الله لها ، وكذلك النبات . فالإنسان قد يزرع شجرة فتنمو بالتسخير الغرسي الذي وضعه الله فيها ، وتمتد الشعيرات من الجذور في باطن الأرض؛ لتمتص - بتسخير الله لها - بعض العناصر المحددة في التربة ، وينتفع نبات ما بمادة معينة قد لا تصلح لنبات آخر .
ويأتي علماء النبات ليعملوا في حقل دراسات نمو النباتات ، وقد يكون بعضهم ضعيف الإيمان بالله ، أو أن قدرات الخالق لا توجد في بؤرة شعوره دائماً . فيقول : إن النبات يتغذى حسب خاصية الأنابيب الشعرية . وخاصية الأنابيب الشعرية - كما نعرفها - هي صعود السائل إلى الأنابيب التي تكون الواحدة منها لا يزيد قطرها واتساعها على قطر الشعرة . ويصعد فيها السائل إلى ما فوق سطح الإناء . وكل سائل في أي إناء إنما يأخذ استطراقاَ واحداً . وعندما نضع الأنابيب الشعرية في قلب هذا الإناء ، فالسائل يصعد داخل هذه الأنابيب فوق مستوى الإناء؛ لأن الضغط الجوي داخل الأنابيب يختلف بالنسبة لحجم المياه عنها في داخل الإناء . وظن العلماء أن النبات يتغذى بهذه الطريقة .
ونقول لهؤلاء : كيف هذا والنبات يختار عناصر معينة من السائل؛ بينما الأنابيب الشعرية يصعد فيها الماء بكل العناصر الموجودة في الماء؟ . إنك أيها العالم الذي غاب الله عن بؤرة شعورك قد تدعي أن الطبيعة هي التي تفعل ذلك ، ولا تلتفت إلى حقيقة واضحة وهي أن النبات ينتقي بالتسخير الرباني الخاص بعضاً من العناصر الموجودة في التربة ، لا بخاصية الأنابيب الشعرية .
وصدق القول الحق : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى * الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 1-3 ]
فسبحانه الذي قدر فهدى كل شيء إلى احتياجاته . ويقول الحق أيضاً :
(1/1951)

{ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الرعد : 4 ]
إذن فسبحانه يوحي لكل نبات بخاصية تكوين غريزي تختلف عن النبات الآخر؛ لذلك نجد الفلاح يضع شجرة الفلفل بجانب عود القصب ، بجانب شجرة الرمان ، فنجد الفلفل يخرج وله مذاق حريف ، والقصب له مذاق حلو ، والرمان له مذاق فيه الحلاوة والحموضة ، إنه مختلف عن القصب وعن الفلفل ، وهذا الاختلاف لم يتم بخاصية الأنابيب الشعرية . ويقول آخر : هذا الاختلاف إنما حدث بظاهرة الانتخاب الطبيعي . ونقول : لماذا لا تقول الانتخاب الإلهي وتستريح؟ .
إذن فالوحي هو إعلام بخفاء ، وقد يكون مطموراً في تكوين الشيء بحيث إذا جاء وقته ينفعل ، تماماً مثلما يدق جرس المنبه في الميعاد المحدد . والوحي إلى الحيوان يتحدد في قوله الحق : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ]
ومن العجيب أن العالم الأمريكي الذي رصد حياته لدراسة النحل في أطواره وأصنافه وأجناسه وبيئاته ، قال : أول إنتاج للنحل كان في الجبال وأقدم عسل وجده الإنسان للنحل كان في الخلايا التي عثر عليها من الجبال . وبعد ذلك وجد الإنسان النحل وعسله في الشجر العالي الذي لا يملكه ، ثم استأنس الإنسان النحل وأقام له البساتين والبيوت والخلايا ومما يعرشون . ولم يقرأ هذا العالم القرآن ليعرف المراحل الثلاث التي جاءت به ، لكنه درس بصدق البحث التجريبي ، وخرج بالنتيجة نفسها التي جاء بها القرآن . وفي كل وقت وزمان نجد عالماً من الكافرين يكتشف أشياء تؤيد وتؤكد قضية الإيمان عند المؤمنين . أما الوحي بالنسبة للإنسان فيأخذ أشكالاً أخرى ، يقول الحق : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ]
ولم يأت إلى أم موسى رسول يُوحى إليها . لكن الأمر قد استقر في ذهنها ، وقد تعب العلماء كثيراً ليقربوا معنى الوحي لأذهاننا ، فقالوا عنه : إنه عرفان يجده الإنسان في نفسه ولا يعرف مصدره ، ومع هذا العرفان دليل أنه من الله . ولذلك لا يطلب العقل عليه دليلاً . والذي يصّدق على هذا هو أننا سمعنا قول الحق : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } .
وبالله عليكم ، اجمعوا الدنيا كلها وقولوا لامرأة : إن خفت على ابنك فألقيه في البحر ، هل تصدق الأم ذلك؟! لا يمكن ، لكن أم موسى أخذت هذا الأمر كقضية مسلم بها ، فساعة دخل الإيحاء من الله إلى قلبها ، أو الإعلام بخفاء إلى وجدانها آمنت به ، ومادام الإعلام من الله فلا شيطان يزاحمه ، بل يدخل إلى النفس فتستقبله استقبال اليقين والإيمان بلا مناقشة . وألقت أم موسى بابنها بعد أن أرضعته . وأراد الله أن يطمئنها . فأوضح لها : أَنَا أصدرت الأمر إلى البحر ليلقي الرضيع إلى الساحل . وأصدرت الأوامر ليلتقطه العدو فرعون .
(1/1952)

وأصدرت الأوامر أن يقوم بيت فرعون بتربيته .
وبعد ذلك هناك وحي للحواريين . يقول الله : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ]
وهناك وحي للملائكة كقول الحق : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } [ الأنفال : 12 ]
الوحي ينتظم ويشمل - إذن - كل أجناس الوجود بطريقة خفية عند عالم خفي عنا ، وهم الملائكة ، وعالم ملحوظ لنا ولأمثالنا مثل الحواريين ، ومثل أم موسى .
وساعة يقول : " أوحينا " ينبهنا إلى أن الإعلام بخفاء أمر غير مقصور على الله؛ ذلك أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ]
ويقول أيضاً عن الشياطين : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 112 ]
إذن الوحي هو إعلام بخفاء ، وليس الأمر مقصوراً على الحق سبحانه وتعالى ، بل يصح أن يكون الوحي من الله ، أو من الشياطين ، أو من جنود الشياطين .
وقد يكون الوحي إلى الجماد وإلى الحيوان وإلى الملائكة وإلى الإنسان .
وعندما نحدد معنى الوحي فإننا نقول :
الوحي في اللغة إعلام بخفاء من أيّ - سواء أكان من الله أم من الشياطين - ولأي ما - سواء للأرض أو للحيوان أو للإنسان - وفي أيِّ - سواء في خير أو شر- .
وكلمة " وحي " تصلح لأي معنى من هذه المعاني بحيث إذا أطلقت انصرفت إليه . ولكن هي بالمعنى الشرعي لا تطلق إلاّ على الإعلام بخفاء من الله لرسوله ، ومثل ذلك حدث لمعنى الصلاة ، فالصلاة معناها اللغوي الدعاء ، وهناك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، والصلاة المكتوبة هي الأقوال والأفعال ، وأخذ الشرع معنى الصلاة واصطلح على أن كلمة الصلاة حين يطلقها الفقيه تنصرف إلى الأقوال والأفعال المخصوصة المبتدأة بالتكبير والمختتمة بالتسليم .
وفي هذا المعنى الشامل للصلاة نجد سيدنا عمر - رضي الله عنه - وقد دخل عليه حذيفة فسأله : كيف أصبحت؟ . أجاب حذيفة : أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق وأصلي بغير وضوء ولي في الأرض ما ليس في السماء . وغضب سيدنا عمر ، ولولا دخول سيدنا علي بن أبي طالب لكان لسيدنا عمر شأن آخر مع حذيفة .
وسأل عليٌّ عمر : ما يغضبك يا أمير المؤمنين؟ . قال عمر : سألت حذيفة كيف أصبحت فقال كذا وكذا . فقال علي - كرم الله وجهه - : نعم يا أمير المؤمنين ، أصبح يحب الفتنة ، أي يحب ماله وولده ، فالحق قال : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ، وهو يكره الموت والموت حق من فينا يحبه يا أمير المؤمنين؟ وهو يصلي بغير وضوء على النبي صلى الله عليه وسلم ، وله في الأرض زوجة وله ولد وهو ما ليس لله في السماء .
(1/1953)

إذن فقد أخذ حذيفة الفتنة على معنى مخصوص ، وكذلك الموت ، والصلاة . وضربت هذالمثل لأفرق بين المعاني الشرعية والمعاني اللغوية .
ونوضح الفارق بين معنى الوحي الاصطلاحي والمعنى اللغوي ، المعنى اللغوي للوحي هو : إعلام بخفاء من أيّ لأيّ بأي . والوحي بمعناه الشرعي : إعلام بخفاء من الله لرسوله . وكل الألوان الأخرى من الوحي نأخذها بالمعنى اللغوي .
وقوله الحق هنا في الآية التي نحن بصددها : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ } . و " أوحينا " هنا قد جاءت للإعلام بخفاء من الله لرسول من رسله . ونعلم أن صفات الكمال للحق سبحانه وتعالى هي صفات الكمال المطلق . وكل الخلق مقدورون لقدرته سبحانه . ولا يمكن لأحد أن يتصل اتصالاً مباشراً بالأعلى المطلق . ولا يستطيع أحد أن يتحمل ذلك حتى الرسول . ولذلك يأتي الحق بنورانيَّين من الملائكة ليأخذوا منه ليعطوا للرسول . ويسبق ذلك إعداد الرسول لهذه المهمة .
إذن فالمسألة تمر بمراحل تصفية ، الأعلى يعطى للملائكة ، والملائكة يعطون للمصطفى من الخلق ، والمصطفى مصنوع على عين الله ليتلقى الوحي ، ومن بعد ذلك يعطي الرسول لغيره من البشر . وكل ذلك لتقريب مسافات الالتقاء . وعلى رغم تقريب مسافات الالتقاء تحصل الهزة من آخر مرحلة حين يستقبل من أدنى مرحلة ، فحين يستقبل الرسول الوحي من ملك تحدث له هِزَّة . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن أول لقاء له مع الوحي :
( حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني . فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني . فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني . فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق اقرأ وربّك الأكرم ) .
وكان جبينه يتصفد عرقاً ، ورجف فؤاده ودخل على زوجه خديجة بنت خويلد فقال : " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . وكان ذلك أمراً طبيعياً؛ فهذا الملك جبريل متصل ببشر هو محمد بن عبدالله ولا بد أن يحدث ذلك للرسول ، وذلك حتى يتكيف ليستقبل من المَلَك .
لكن أتظل هذه الرجفة المتعبة؟ . لا ، إن الوحي يَفتر لفترة وتذهب عنه متاعبه فيشتاق الرسول إليه ويصير قادراً على تحمل متاعبه ، مثل تصفد الجبين بالعرق ، ومثل الثقل في الحركة حتى إذا جاءه الوحي وهو على دابة فهي تئط وتئن ، وإن جاءه الوحي وهو جالس وفخذه على فخذ واحد من الصحابة ، فيكاد ثقل الرسول يرض عظام الرجل ويكسرها ، كل ذلك من المتاعب تحدث للرسول في أثناء الوحي؛ لأن تغييراً كيماوياً يحدث في بدنه صلى الله عليه وسلم ليتأكد أن الكلام الذي يتلقاه ليس كلاماً عادياً ، لكنه كلام قد جاء بإعجاز ، وأنه من عند الله .
(1/1954)

لقد كان للوحي صلصلة كصلصلة الجرس . وكأن هذا الصوت إعلان أن زمن وساعة الوحي قد جاءت فاستعد لها يا رسول الله . وعندما تعب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداية ، كان من رحمة الله به أن يجعل الوحي يفتر عنه ، فيشتاق صلى الله عليه وسلم للوحي بسبب حلاوة ما أوحي إليه ، ويجعله هذا الشوق مستشرفاً للمتاعب . وعندما فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خصومه : رب محمد ودعه وجَفاه . ولم يتذكروا أن لمحمد رباً إلاّ في هذه المسألة بعد أن اتهموه بالكذب ولم يمتلكوا الذكاء حتى يعبروا عن هذا الأمر بتعبير لا يتناقض مع موقفهم السابق منه . وحين رأى الحق الإجهاد الحاصل لرسوله جعل الوحي يفتر حتى تبقى حلاوة ما يوحَى به ويذهب التعب ويشتاق رسول الله إلى ما يوحى إليه .
إن الشوق وتلك المحبة يجعلان رسول الله لا يشعر بوطأة الألم المادي البشري ، والإنسان منا حين يذهب إلى حبيب له يسير في الشوك والوحل ولا يبالي . إذن ففتور الوحي كان لتربية الشوق في نفسه صلى الله عليه وسلم ليستقبل الوحي ، ولينتبه كل منا حين يقرأ قول الله سبحانه وتعالى : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } [ الضحى : 4 ]
أي أن ما سيأتي لك من بعد ذلك سيسرك . ويقول الحق بعدها : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 1-4 ]
وحين عرض الحق هذه المسألة بهذه الكيفية أراد أن يبلغنا : لا تظنوا أن رب محمد - كما يقولون - قد جفاه ، لا ، بل يعده ليستقبل أكثر مما جاء من قبل ، فسنن الكون أمامكم ، لكن كفرهم أعمى أبصارهم وبصيرتهم ، ويقول سبحانه : { والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 1-3 ]
وسبحانه يقسم بما شاء على ما شاء . والضحى هو ضحوة النهار وهي محل الحركة والكدح والجهد والتعب ، والليل محل الراحة والسكون .
كأن الحق يوضح : إنكم إن نظرتم في آية الكون لوجدتم أن الله قد جعل الضحى للكدح والليل لنسكن فيه وفتور الوحي هو سكون ليعاود محمد نشاطه في حركة الوحي الجديدة ، هو الحق - سبحانه - يقسم : { والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } أمجيء الليل بعد النهار ضن من الله على الناس بالنهار؟ لا ، إنما الليل عطاء من الله ليسكنوا وليستقبلوا النهار الجديد .
وأنزل سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حينما سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً } .
(1/1955)

فيأمره الحق أن يوضح : أنا قد أوحى الله إليَّ كما أوحى إلى الرسل السابقين ، فهل أنتم شككتم في وحي الله لموسى؟ أشككتم في وحي الله لمن سبق موسى؟ صحيح أنكم شككتم في مسألة عيسى ، لكن لنضع الأمر الذي تكذبون فيه جانباً ولنأخذ ما أنتم مصدقون به ، فيقول سبحانه : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } .
إذن فأنت يا محمد لست بدعاً في هذه المسألة : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } ويمر العلماء على هذه المسألة مروراً سريعاً ، لكننا نقف عندها ونقول : قد يوحي هذا القول أن أول وحي كان لنوح . والحقيقة أن الوحي الأول كان لآدم من قبل ، لكنْ هناك فارق بين الوحي لآدم والوحي للأنبياء من بعده .
ومثال ذلك نوح ، فنوح طرأ على أمته وكانت أمته موجودة ثم جاء هو إلى هذه الأمة مبشراً ونذيراً . أما آدم عليه السلام فقد طرأت عليه أمته؛ لذلك لم يرسله الله بمعجزة ، فهو أب للجميع . والأبناء يقلدون الآباء ، بل حتى أبناء الملاحدة يقلدون آباءهم . وقد أوحى الله لآدم وقال له : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وإرسال الهدى لآدم هو مجيء الوحي إليه .
ولماذا جاء نوح في هذه الآية أولاً؟ لأن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قد طرأ على أمته؛ لذلك احتاج إلى وحي وإلى معجزة . وأرسل الله نوحاً إلى الناس كافة؛ لعموم الموضوع ، فلم يكن هناك من البشر غيرهم . لكنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله الله للناس كافة؛ لأن الإسلام هو الدين الخاتم . وكان قوم محمد موجودين . وكذلك كان غيرهم موجوداً .
{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ } . لماذا قال الحق : { والنبيين مِن بَعْدِهِ } أي من بعد نوح؟ ، ولماذا قال : { وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ } وذكر أسماء الأنبياء من بعد إبراهيم؟
يقول العلماء : هنا عطف خاص على عام لزيادة التنبيه على شرف هؤلاء ، { وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } ، وكأن الحق يقول : حين يسألك اليهود - يا محمد - أن تنزل عليهم كتابا من السماء قل لهم : إن الله أوحى إليَّ كما أوحى إلى ألأنبياء السابقين؛ فلست بدعا من الرسل . وحتى لو أنزل إليهم محمد كتاباً في قرطاس ولمسوه بأيديهم لقالوا : هذا سحر مبين ، كما قال : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ]
فالمنْكِر يريد الإصرار على الإنكار فقط . وليست المسألة جدلاً في حق وإنما هي لَجَاج في باطل .
ويتابع سبحانه وتعالى أسماء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم : { وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } ونلحظ أنه جل وعلا ذكر الوحي عاماً؛ لكنه حينما جاء لداود ذكر اسمَ كتابِه " الزبور " ولم يأت في الآية بأسماء الكتب المنزلة على الرسل السابقين مثل نزول التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى؛ لأن ما جاء به داود في الزبور أمر تُجمع عليه كل الشرائع ، وهو تحميد الله والثناء عليه قلم توجد في الزبور أية أحكام .
(1/1956)

وقد يقول قائل : إن عيسى أيضاً لم تنزل عليه أحكام في الإنجيل . ونقول : لأن الإنجيل يلتحم بالتوراة؛ وجاء بالوجدانيات الدينية وكانت التوراة موجودة قبله وفيها الأحكام . ولذلك فمن عجيب أمر أهل الكتاب من يهود ونصارى ، أنهم على رغم اختلافهم في قمة الأمور وهي مسألة عيسى وأم عيسى ، جاءوا آخر الأمر ليلتقوا ويسموا الكتابين " العهد القديم والعهد الجديد " ويَعْتبروهما كتاباً واحداً يسمونه الكتاب المقدس .
وما معنى " الزبور "؟ المادة كلها مأخوذة من " زَبَرَ البئر " ، فعندما يقوم الناس بحفر بئر ليأخذوا منها الماء ، يخافون أن ينهال التراب من جوانبها عليه فتمطر البئر؛ لذلك يصنعون لجدران البئر بطانة الحجارة ، وفي الريف المصري نجد انهم يصنعون تلك البطانة من الأسمنت .
وكلمة " زَبَرَ البئر " تؤدي معنى كل عملية لإصلاح البئر؛ ثم أخذ الناس هذه الكلمة في معانٍ مختلفة ، فسموا العقل " زَبْراً " لأنه يعقل الأمور . وإذا كان السياج من الحجارة يعقل التراب عن البئر ويمنعه ، فكذلك العقل يحمي الإنسان من الشطط وليضبط الإنسان حريته في إطار مسئوليته ليفكر ، ويعقل الغرائز عن الفكاك بالإنسان إلى الشتات والضلال . ويخطئ الناس في بعض الأحيان في فهم معنى " العقل "؛ ويظنون أن العقل هو إطلاق الحبل على الغارب للأفكار دون انتظام او مسئولية ، ونقول : افهموا أولاً معنى كلمة العقل حتى تعرفوا مهمته .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ . . . }
(1/1957)

وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
والرسل الذين ذكرهم الله في الآية السابقة ليسوا كل الرسل الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا فحسب ، فكما علمونا في الأزهر الشريف يجب أن نؤمن بخمسة وعشرين رسولا وقد نظمهم بعض الشعراء في قوله :
في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو
إدريس ، هود ، شعيب ، صالح ، وكذا ... ذو الكفل ، آدم ، بالمختار قد ختموا
وفي سورة الأنعام نجد قوله الحق : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين * وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين } [ الأنعام : 83-86 ]
وفي هذه الآيات ثمانية عشر رسولاً ، وبالإضافة إلى سبعة هم إدريس وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم ، هم إذن خمسة وعشرون رسولاً ذكرهم الله ، لكن الآية التي تسبق الآية التي نحن بصددها لم يذكر الله كل أسماء الرسل . وذكر أسماء بعض الرسل في سورة الأنعام وبعضهم في سورة هود وبعضهم في سورة الشعراء . ويقول الحق : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ]
أي أن الخمسة والعشرين رسولاً ليسوا كل الرسل الذين أرسلهم الحق إلى الخلق ، فقد قال : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ]
أي أنه قد قص علينا أعلام الرسل الذين كانت أممهم لها كثافة أو حيّز واسع أو لرسلهم معهم عمل كثيف ، ولكن هناك بعض الرسل أرسلهم سبحانه إلى مائة ألف أو يزيدون مثل يونس عليه السلام : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ]
وكان العالم قديماً في انعزالية . ولم يكن يملك من وسائل الالقتاء ما يجعل الأمم تندمج . وكان لكل بيئة داءاتها ، ولكل بيئة طابع مميز في السلوك ، ولذلك أرسل الله رسولاً إلى كل بيئة ليعالج هذه الداءات ، ولا يذكر الداءات الأخرى حتى لا تنتقل من مجتمع إلى مجتمع آخر بالأسوة . وحين علم الحق بعلمه الأزلي أن خلقه بما أقدرهم هو سبحانه على الفكر والإنتاج والبحث في أسرار الكون سيبتكرون وسائل الالتقاء؛ ليصير العالم وحدة واحدة ، وأن الشيء يحدث في الشرق فيعلمه الغرب في اللحظة نفسها ، وأن الداءات ستصبح في العالم كله داءات واحدة؛ لذلك كان ولابد أن يوجد الرسول الذي يعالج الداءات المجتمعة ، فكان صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم والرسول الجامع والرسول المانع . { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ]
ويتكلم الحق سبحانه عن تاريخ النبوات مع قومهم بكلمة " قصصنا " ولذلك حكمة ، فالقصص معناه أنه لا عمل في الأحداث للرسول ، بل تأتي الأحداث في السياق كما وقعت .
(1/1958)

وسبحانه يعلم أزلاً أن خلقه سيبتكرون فناً اسمه " فن القصص " .
ومن العجيب أنهم يسمونه فن القصص ، وينسج المؤلفون حكايات خيالية أو حكايات ليس لها واقع . وعندما يأتون إلى التاريخ الواقع يزيد المؤلف جزءا من الأحداث أو يضيف من خياله أشياء ، ويقولون هذه متطلبات إتقان فن القصص ، ويحرمون أنفسهم من أمانة النقل . ولذلك يأتي الحق ليوضح لنا أن القص الخاص بالرسل وبغيرهم في القرآن قصص واقعي ، حقيقي ، حدث فعلاً .
وكلمة " القصص " مأخوذة من قص الأثر أي أن نسير مع القدم كما تَذهب ، فلا نذهب هنا ولا نذهب هناك . وحكايات الأنبياء في القرآن واقعية . ومن رواية الحق لا من رواية الخلق ، وثمة فارق بين ما يرويه الحق لخلقه ليسيروا على المنهج . وما يرويه الخلق بعضهم لبعض للتسلية أو غير ذلك . ونجد روايات الخلق تزدحم في بعض الأحيان بخيال البشر ، مثل روايات جورجي زيدان عن الإسلام والأنبياء ، وعندما سألوه لماذا أضاف من عنده إلى الواقع ، أجاب الإجابة التقليدية : فعلت ذلك من أجل الحبكة القصصية .
ويجب أن نميز ونفرق بين روايات الخلق وقصص الحق ونضعه في بؤرة الشعور حتى لا يُدخل أحد من خياله على قصص القرآن ما ليس فيه ، وحتى لا يأتي واحد ذات يوم ويقول : إن كل القصص واحد . فنحن في القرآن لسنا أمام مؤلف ، بل أمام الخالق الأعلى الذي يروي لنا ما يعلمنا . وسبحانه علم أزلاً ما سيدور في كونه ، لذلك قال : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } [ يوسف : 3 ]
وسبحانه قد قص على الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن أحسن القصص؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعالج أجناس العالم التي توزعت على جميع الرسل من إخوانه ، ومادام عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون مع كل الأجناس البشرية الذين تفرقوا من قبل على الرسل من إخوانه ، فلا بد أن يوضح سبحانه للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده : أنّه حدث مع الرسول فلان كذا ، وكان مبعوثاً إلى قوم كان موقفهم منه كذا ، وكانت داءات ذلك المجتمع هي كذا وكذا . ومحمد صلى الله عليه وسلم - كما نعلم - موْكولٌ إليه علاج كل أجناس البشر وكذلك أمته من بعده ، ولابد أن يعرفوا أخبار كُلِّ المجتمعات والرسل : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } .
إذن فكلمة " قصص " تدل على أنها حكايات لحركة العقيدة التي كانت مع كل الرسل . والتاريخ - كما نعلم - هو ربط الأحداث بأزمانها ، فمرة نجعل الحدث هو المؤرَّخ له ، ثم نأتي بأشخاص كثيرين يدورون حول الحدث .
(1/1959)

ومرة نجعل الشخص هو الأصل والأحداث تدور حوله ، فإذا قلنا كلمة " سيرة " فنعني أننا جعلنا الشخص هو محور الكلام؛ ثم تدور الأحداث حوله . وإن أرخنا للحدث ، نجعل الحدث هو الأصل ، والأشخاص تدور حوله .
مثال ذلك : عندما نأتي لنتكلم عن حدث الهجرة؛ نجعل هذا الحدث هو المحور ، ونروي كيف هاجر رسول الله ومعه أبو بكر/ وكيف هاجر عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة ، وبذلك تكون الهجرة هي المحور وكيف دار الأشخاص حول هذا الحدث الجليل .
ومثال آخر : عندما نروي سيرة من السير ، مثل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، نجعل النبي صلى الله عليه وسلم محور الحديث والتاريخ ، ونروي كيف دارت الأحداث في حياته .
إذن فأخبار وقصص الرسل تكون هي المحور ونلتقط الأحداث التي مرت عليهم؛ لأن الرسالات حين تأتي الناسَ بمنهج السماء؛ تنقسم إلى قسمين : قسم نظري يريد الحق أن يعلمه لخلقه بواسطة الرسول ، وهو القسم العلمي ، فتلك قضايا يجب أن يعلموها . وقسم عملي؛ لأن الحق يريد من خلقه أن يعلموا ويريد منهم - أيضا - بعد أن يعلموا أن يطوعوا حركة حياتهم على ضوء ما عملوا . فليست المسألة رفاهية علم ، ولكنها مسئولية تطبيق ما علموا في محور " افعل " و " لا تفعل " . ولو كانت المسألة أن يعلم الخلق فقط ، لكان من الممكن أن نقول : ما أيسرها من رحلة .
لقد وجدنا كفار قريش عندما طلب الرسول منهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، قاوموا ذلك . ولو كانوا يعلمون أنها مجرد كلمة تقال لقالوها . لكنهم عرفوا مطلوب الكلمة ، وعرفوا أنه لن توجد سيادة ولا عبودية ولا أوامر لأحد غير الله ، ومعنى ذلك المساواة المطلقة بين العباد .
إذن فكل تكليف من السماء إنما نزل ، والقصد من العلم به هو العمل به أي توظيف العلم تطبيقاً ، فلا قيمة لعلم دون عمل . وعندما يبلغ الرسول القوم : هذا هو الحكم ، ومطلوب من كل واحد منهم أن يطوِّع حركة حياته على ضوء هذا الحكم . وتجيء الأحكام دائماً في طاقة البشر .
وهناك أناس قد علموا وعملوا وهذه هي قصصهم ، هذه قصة فلان وقصة فلان . فالقصص يعطينا الجانب العملي المطلوب للمنهج ، ولذلك قصَّ لنا الحق قصص الرسل في القرآن . ويبلغنا الحق بالنسب الإيماني ، ويعلمنا النسب المعترف به عند الأنبياء ، فيحكي قصة نوح عليه السلام ، عندما أوْحى إليه بضرورة أن يصنع السفينة ، وسَخِر قومُه منه ، وبعد أن صنعها جاء الأمر الإلهي بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين . ويقول الحق : { وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }
(1/1960)

[ هود : 38-40 ]
قوله الحق { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } كان يجب ألا تمر على فطنة نوح؛ ذلك لأنها تتضمن أن هناك أناساً من أهله لن يؤمنوا ، فيقول لابنه : { ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } [ هود : 42 ]
وكان الرد : { قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء } [ هود : 43 ]
فقال نوح : { قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ]
وبعد أن غرق ابن نوح وابتلعت الأرض ماءها ، نادى نوح ربه فقال : { رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } [ هود : 45 ]
نحن - إذن - أمام لقطة قصصية في قصة نوح . يلفتنا بها الحق إلى مسألة بنوة الرسالات ، فالبنوة هنا منهجية . ومن يتبع النبي هو الذي يكون من نسبه . ومن لا يتبع النبي فليس من نسبة ، لذلك قال الحق : { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } . فأهل النبوة هم الذين اتبعوا منهج النبي . ويشرحها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال عن سلمان الفارسي :
" سلمان منا أهل البيت "
ولم يقل : إن سلمان عربي ، أو إنّه من المسلمين ، لكنه قال : إنه من أهل البيت . وقد أوضح الحق ذلك في قصة ابن نوح : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } .
وخاض في معنى { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } بعض الخائضين باللغو وقالوا : إن أم ابن نوح قد فعلت السوء ، ولهؤلاء نقول : استغفروا ربكم وانظروا إلى حيثية الحكم : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ هود : 46 ]
إذن فنسبة الأبناء للآباء من الأنبياء نسبة عمل لا نسبة دم ولا نسبة عن زواج أو إنجاب ، أما الذين قالوا السوء في امرأة نوح فعليهم أن يستغفروا الله ، فالحق سبحانه منزه عن التدليس على رسوله . وهب أن أم الولد قد فعلت ذلك - معاذ الله - فما ذنب الولد تصير أمه إلى هذا؟ لا دخل للولد بذلك ، لكن قول الله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } يدل على أن ثبوت النبوة الإيمانية يكون بالعمل فقط .
ولننظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله وعشيرته . . فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : " لما نزلت ( وأنذر عشيرتك الأقربين ، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بطون قريش بطنا بطنا : يا بني فلان أنقذوا أنفسكم من النار حتى انتهى إلى فاطمة فقال : يا فاطمة ابنة محمد انقذي نفسك من النار لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها بِبِلالها "
(1/1961)

ويضرب الله المثل في الزوجات؛ فيقول : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } [ التحريم : 10 ]
وليس المقصود بالخيانة هنا الخيانة الجنسية؛ لكن لنستدل على أن الرسول وإن كان رسولاً ليس له من القدرة على أن يقهر زوجه وامرأته على عقيدة؛ فهي تملك حرية الاعتقاد؛ فلا ولاية هنا للرجل على المرأة في العقيدة حتى إن ادعى الألوهية؛ كفرعون مثلاً يقول الحق عن امرأته : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ]
هذه اللقطات تدلنا على أن قضية الإيمان لا ينفع فيها النسب أو الزواج . فالابن هو العمل الصالح ، والحيثية في ذلك قول الحق عن ابن نوح : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } فلم يذكر ذات الابن ولكنه ذكر العمل .
ولكل نبي قصة يذكرها الحق ليتضح المنهج في أذهان الناس . ويأتي الله بالمثل في المصطفَيْنَ الأخيار الذين اصطفاهم الله لهداية الناس مثل قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام . الذي يبتليه - سبحانه - في أول حياته بالإحراق في النار . كان إبراهيم شاباً يمتلئ بالأمل في الحياة ، فماذا كان من إبراهيم؟
أراد الحق نجاة إبراهيم من النار . وتركهم يتمكنون منه ويضعونه في قلب النار . ولم تمطر السماء لتطفئ النار ، وكل ذلك لتكون حجة الحق واضحة ، وحتى يكون كيد الله كاملاً لهؤلاء الكافرين . إن إبراهيم عليه السلام لم يهرب منهم ، ولم تمطر السماء ، بل ظلت النار ناراً ويعطل سبحانه ناموس النار حين دخول إبراهيم إليها .
" روي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك . قال : ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال : يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا . فقال جبريل فاسأل ربك . فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . فقال الله : يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم "
وفي هذا غيظ ودحض لمكر الذين مكروا بإبراهيم . إذن يعطينا الحق في القصص القرآني المثل لنجمع من حياة كل رسول العبر ونستفيد منها ، لنكون بحق خير أمة أخرجت للناس؛ لأننا أخذنا تجارب كل رسول وجعلناها منهجاً لنا في حياتنا .
وقد ابتلى الحق إبراهيم في أول حياته في نفسه ، وابتلاه في أخريات حياته في ابنه ، ونجح إبراهيم في الابتلاء الأول حين كانت حياته أهم بالنسبة إليه من كل شيء ، وحين يتقدم في السن ، فمن المفروض أن تكون كل حياته لمن بعده من الأبناء فيبتليه الله في ابنه .
(1/1962)

لم يقل له : إن ابنك سيموت وعليك بالصبر . ولم يقل له : إن واحداً سيقتل ابنك وعليك بالصبر؛ بل يأمره بذبح ابنه ، تلك قمة الابتلاء . لأنه لم يأت بوحي مباشر كالنفث في القلب أو الكلام من وراء حجاب أو يرسل له الله ملكا يبلغه ما يريد ، بل برؤيا منامية : { قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ } . ويقول إبراهيم لابنه المسألة كما رآها في المنام . والرؤيا عند الأنبياء حق .
وقد يقول قائل : ولماذا لم يرد إسماعيل على أبيه بأن هذه المسألة هي مجرد رؤيا؟ ولماذا لم يأخذ إبراهيم ولده على غرة دون أن يقول له؟ .
ونقول : إن إبراهيم من فرط وشدة حنانه وحبه لابنه آثر أن ينال الابن الثواب العظيم والجزاء الجليل بأن يقتل ويقدم حياته امتثالا لأمر الله ، فقال إبراهيم : { يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } [ الصافات : 102 ]
وها هوذا قول إسماعيل : { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ]
ولم يقل إسماعيل لأبيه : " افعل الذبح " ولكنه قال : { افعل مَا تُؤمَرُ } أي أن إسماعيل لم يأخذ الكلام على أنه كلام من أبيه ، بل أخذه كأمر من الله . ولو أخذه أبوه على غرة قد يتحرك قلب الابن غيظاً على أبيه وحقداً عليه فيعتدي على الأب ، وهنا نجد حنان الأب على الابن جعله يخبره بالأمر الآتي من السماء؛ والشأن في حنان الأب على الابن أن ييسر له كل أمور حياته . أما حنان الحنان فهو تيسير كل خير بعد مماته؛ لذلك لم يشأ إبراهيم أن يحرم إسماعيل من الامتثال لأمر الله؛ فينال الاثنان معاً شرف الامتثال لله . وأعطاه كل الحنان في الزمان الأبقى والزمان الأخلد في الدار الآخرة؛ حتى نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد منا إلا الامتثال لقضائه وقدره ، ويقول الحق : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ]
هذا شرف الامتثال في التسليم لله . . ففي البداية أسلم إبراهيم أمره لله ، وعندما عرض الأمر على ابنه سلم الابن أمره لله ، فنال الاثنان منزلة الشرف في التسليم لأمر الله . ونجح الاثنان في الاختبار ، فقال الحق : { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } [ الصافات : 104-105 ]
لقد أنقذ الحق إبراهيم وابنه من مسألة الذبح ، ولهذا نقول دائماً : لا يُرفع قضاء من الله على خلقه إلا أن يستسلم الخلق للقضاء ، والذين يطيلون أمد القضاء على نفوسهم هم الذين لا يرضون به . وأتحدى أي إنسان أن يكون الله قد أجرى عليه قضاء مرض فيرضى به ويعتبر أن ذلك صحة اليقين ، ولا يرفع الله عنه المرض . فالإنسان بالصحة يكون مع نعمة الله ، ولكنه بالمرض يكون مع الله .
(1/1963)

فقد حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا بن آدم مرضت فلم تعدني . قال : يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده!! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ "
من إذن يجرؤ على الزهد في معية الله؟ وعندما يعرف المريض أنه في مرضه الذي يتأوه منه هو في معية الله لاستحى أن يقول : " آه " ، ولكننا لا نطلب من المريض ألا يقول " آه " ، ولكن نطلب منه أن يتوجه إلى الله ويقول : " ولكن عافيتك أوسع لي " .
وقول الحق : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } هذا القول يدلنا على أن القضاء لا يُرفع إلا بالرضا به ، فإن رأينا واحداً قد استمر معه القضاء فلنعلم أنه لم تحن ولن تأت عليه لحظة لرضي فيها بالقضاء . ولم يرفع الله القضاء فقط عن إبراهيم ، ولم يُفْد إسماعيل فقط بذبح عظيم ، بل بشر الله إبراهيم بولد آخر اسمه إسحاق : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } [ الصافات : 112 ]
وها هي ذي لقطة أخرى نأخذها من القصص القرآني مع سيدنا موسى؛ لنتبين ماذا يصنع المنهج الإيماني فيمن اقتنع به ، وحدثت هذه القصة في وقت تهيئة سيدنا موسى للرسالة ، حدثت هذه الواقعة وهو ذاهب إلى شعيب ، ولم يكن رسولاً بعد ، مما يدل على أن فطرية الإيمان كانت موجودة عنده ، وأن الله قد صنعه على عينه ، لقد ورد ماء مدين ووجد الفتاتين تذودان وتطردان الماشية عن الماء ، فماذا دار بينه وبينهما من حوار؟ . وكيف كانت رؤيته لهما أولاً : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 23 ]
وفي قول المرأتين : { لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } قدر من المبادئ فخروجهما من البيت سببه أن الأب شيخ كبير ، ومع أنهما في ضرورة وخرجتا للعمل فلم تنس واحدة منهما أنها أنثى يجب أن تُحترم أنوثتها فقالتا : { لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء } أي أنهما ستسقيان من بعد أن يذهب الزحام من الرجال حول البئر . إذن فقد أخذت بنتا شعيب الضرورة في حجمها ولم تتخذ إحداهما من الضرورة حجة لإهدار الأنوثة والتزاحم للوصول إلى البئر . فماذا حدث من موسى؟ . { فسقى لَهُمَا } .
تلك الهمة الإيمانية التي وُجدت في موسى قبل أن يصير رسولاً ، وذلك ما يوضحه لنا الحق حتى لا يقول إنسان : كيف أكون مثل رسول من عند الله؟ .
كأن الهمة الإيمانية التي وصَفتها تلك اللقطة القصصية توقظ مسئولية كل مؤمن ليسلك مثل هذه السلوك . فعندما يرى امرأةً قد خرجت عن محيط بيتها لأي عمل ، فعليه أن يقضي لها حاجتها حتى ترجع إلى بيتها وذلك دون أن يتخذ من ذلك ذريعة ووسيلة إلى أمر ينزل بهمته وينال من مروءته .
(1/1964)

ولو انتشرت بيننا تلك الهمة الإيمانية لما وجدنا امرأة في الطريق إلا للضرورة . لقد أوضحت لنا تلك اللقطة القصصية حرص المرأة على موضعها وموقعها من الستر ، فتقول واحدة من المرأتين لأبيها شعيب بعد أن استقدمه ليجزيه أجر ما سقى لهما : { ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } [ القصص : 26 ]
كأن المرأة لا يحل لها أن تتحرك في الكون هذا اللون من الحركة الواسعة ، ويسمع شعيب وهو الرجل العاقل لابنته فكيف يستأجر رجلاً وعنده ابنتان ، فيفكر شعيب ويعثر على الحل الصحيح بفطنة إيمانية ، فيستدعي موسى ويقول له : { قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } [ القصص : 27 ]
وفي مثل هذه الحالة سيكون موسى متزوجاً بواحدة ومُحَرَّماً على الأخرى .
وهذه اللقطات القصصية نلتفت إليها لنتعلم منها الفطنة الإيمانية . وها نحن أولاء مع موسى وقد ناداه الحق ليجعله رسولاً ، ولنر صفاء النفس الإيمانية وهي تتلقى مهمة الرسالة؛ إن موسى يرغب في أن يكون أداؤه للرسالة كاملاً؛ لذلك يطلب من الحق أن يرسل معه أخاه هارون : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 34 ]
هو يرشح معه هارون للرسالة لأنه حريص على النجاح في دعوته لأن لسانه ثقيل لرتَّة ولُثغة وتردد في النطق من أثر الجمرة التي أصاب بها لسانَه وهو صغيير ، والرسالة تحتاج إلى بيان وبلاغة فيطلب مساعدة أخيه ولم يستنكف ذلك . فما بالنا بما هو حادث وحاصل في أيامنا ، حين يختار الحاكم رئيساً للوزراء فلا يطلب معاونة الأكْفَاء ، بل قد يخشى أن يكون له نائب له كفاية عالية فوق كفاءته .
واللقطات القصصية في القرآن تعلمنا الكثير ، وأراد الحق أن يثبت بها للأمة المحمدية دقة المنهج الإيماني ، فمادام قد أرسل لنا منهجاً لنعلمه ، فهو يطلب منا أن نطبق هذا المنهج ونوظفه في حياتنا . وليس ذلك بدعا ، بل هو موجود في قصص الرسل الذين عَلِموا المنهج فطبقوه في ذواتهم أولاً؛ لأن الآفة أن نعلم العلم ولا نطبقه .
وفي زماننا يقال ويشاع : إن التعليم الديني في المدارس لا يأتي بثمار طيبة في سلوك الطلاب . ونقول لمن يرددون ذلك : أنتم لا تفهمون طبيعة التعليم الديني؛ فتعليم الدين لا يمكن أن يتساوى مع تعليم الجغرافيا أو الهندسة وغيرهما من العلوم؛ لأننا عندما نعلم طالباً الهندسة فهو يستطيع أن يكون عالماً متفوقاً فيها ويأخذ المعطيات والنظريات ويتفوق في المجال الهندسي ، ولكن لم تطلب منه أية نظرية هندسية أن يعدل سلوكه في الحياة بأن ترشده في السلوك اليومي : افعل كذا ولا تفعل كذا .
(1/1965)

فالنظريات الهندسية لا تتدخل في حياة الطلاب ، لكن الطالب عندما يتعلم الدين إنما يتعلم أن يفعل الأمر الديني ، ولا يفعل الأشياء المنهي عنها . والصعب في التعليم الديني هو التطبيق العملي . عندما لا يرى التلميذ التطبيق العملي من الذين يعلمونه الدين أو من الأسرة ، فإنه لا يتعلم الدين ، فيقال للطالب : الدين ينهى عن الكذب ، لكن الطالب يجد الكذب سلعة رائجة في المجتمع . ويقول الدين له : الصلاة عماد الدين وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولا يجد الطالب من يصلي أمامه أو يجد من يصلي ولا يقيم عمارة الدين باتباع ما تأمر به الصلاة من نهي عن المنكر ، إذن ففشل التعليم الديني لا يأتي من ناحية غياب المعلم ولكن من عدم وجود التطبيق العملي للسلوك الديني .
ونعود للقص القرآني . جاء القصص ليوضح لنا التطبيق للجانب النظري من الدين ، وطبَّقهُ الرسل على أنفسهم . وأنتم يا أمة الإسلام لستم أقل من أحد ، بل أنتم خير أمة أخرجت للناس ، وعليكم أن تأخذوا الخير الذي حدث في موكب الرسالات كلها وتطبقوه في ذواتكم .
هذا هو معنى قوله الحق : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } . وقد جاء لنا القرآن بعيون القصص حتى نأخذ منها لقطات العبرة . ويقول قائل : ومن هو الرسول؟
يقول العلماء : هناك رسول وهناك نبي . وأقام بعضهم مشكلة حول هذا الأمر ، فقال بعضهم : كل رسول نبي ولا عكس . ونقول لأصحاب هذا الرأي : لو نظرنا إلى المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لأرحنا أنفسنا جميعاً ، فالقرآن يقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } [ الحج : 52 ]
إذن فالنبي أيضاً مرسل من الله ، وعلى ذلك فكلاهما - النبي والرسول - مرسل من عند الله ، لكنْ يوجد فرق بين أن يرسل الحق تشريعاً مع رسول ، ويكون هذا التشريع مستوعباً لأشياء وأحكام لم تكن موجودة في الرسالة السابقة عليه ، وبين أن يأتي إنسان مصطفى من الله ليطبق فقط ما جاء في الرسالات السابقة ، فالأنبياء قد أرسلهم الله ليكونوا نموذجاً تطبيقياً للشرع السابق عليهم ولم يَأتوا بشرع جديد ، لكن الرسول هو من أرسله الله بشرع جديد ليعمل به وأمره الحق بتطبيقه . هذا هو الزائد في مهمة الرسول .
إن الحق أرسل الرسل بالشرع والتبليغ والتطبيق ، وأرسل الحق الأنبياء ليكونوا الأسوة السلوكية فيطبقوا ما أرسل به الرسل السابقون عليهم ، وهذا أمر لا يأتي إلا في الأمم التي لها سجل في المكابرة مع الرسل .
ولذلك نجد أن اللجاجة دفعت بني إسرائيل إلى التفاخر بأنهم أكثر الأمم أنبياء ، صحيح أنهم أكثر الأمم أنبياء . لكن علينا أن نعرف أن النبوات والرسالات إنما تأتي لتشفي الناس مما بهم من داءات؛ فعندما نقول عن إنسان إنّه أكثر الناس تردداً على الأطباء ، فمعنى ذلك أن أمراضه كثيرة ، وكذلك بنو إسرائيل كانت داءاتهم كثيرة .
(1/1966)

وكثرة الرسل إليهم لا ترفع من منزلتهم . بل تدل على كثرة أمراضهم .
إذن فالرسول والنبي كلاهما مرسل . والفارق أن الرسول معه تشريع سماوي ليبلغه ويطبقه ، والنبي مرسل للتطبيق ، فإن جئنا لمعنى الرسول اصطلاحياً؛ فهو الموحى إليه بشرع يعمل به وأمره الله بتبليغه . ويذيل الحق الآية : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } ؟ .
ونقول : الوحي الذي يوحي الله به لأنبيائه هو الوحي الاصطلاحي الشرعي الذي نتكلم عنه دون الوحي اللغوي الذي سبق أن أفضنا فيه . والحق سبحانه وتعالى قد بين الطريقة التي يخاطب بها أنبياءه المصطفين لأداء رسالتهم إلى خلقه ، فقال : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ]
إذن ، فطريقة التقاء الحق بالأنبياء؛ إما أن تكون بالوحي ، وإما أن تكون من وراء حجاب ، وإما أن تكون بإرسال رسول كجبريل عليه السلام . فإذا ما نظرنا إلى الآية وجدنا أن الوحي ينقسم إلى ثلاثة أقسام : وحي خاص ، وكلام من وراء حجاب ، وإرسال رسول ، وكل هذه الأقسام الثلاثة تدخل في إطار الوحي { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً } .
أي ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا إلهاماً وقذفا في القلب ، أو يكلمهُ { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } وهو كلام من الله يسمعه الرسول ، لكنه لا يرى المتكلم وهو الله . أما الوحي بواسطة الرسول ، فهو نزول جبريل إلى الرسول بما أوحى به الله .
فإذا ما نظرنا إلى قوله الحق : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } فكأنه سبحانه قد خصه بهذه العبارة ليدل على أنه أوحى لموسى بطريقتين ، أولاً : بالطريق الذي أوحى به إلى غيره من الأنبياء ، ثانياً : بالطريق الخاص وهو كلام الله الذي بدأ به موسى بالوادي المقدس .
وقوله الحق : " تكليماً " يدفعنا إلى التساؤل : لماذا جاء الحق بالمصدر هنا؟ . لأن مطلق الوحي بأي وسيلة سماه الله كلاماً . إذن فالنفخ في الرُّوع كلام ، والكلام من وراء حجاب كلام ، وإرسال الرسول بالوحي كلام . والكلام هو ما يدل على مراد المتكلم من المخاطب ، بدليل أن الله سمى الوحي في صوره الثلاث كلاماً { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } .
والخفاء في الوحي إما أن يكون خفاء في الأسلوب ، أي لا يسمعه أحد غير الرسول ، وقد لا يسمعه الرسول ويكون بقذف الكلام في رُوع الرسول وقلبه وهو يؤدي مؤدي الكلام أي الدلالة على ما في نفس المتكلم الذي يريد نقله للمخاطب .
أما أن يقول الحق : إنه " تكلم " مع موسى ، فهذا نقل من الخفاء إلى العلن ، أو يرسل الحق رسولاً بالكلام الموحى به . وحين قال سبحانه : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } إنما ينبهنا إلى أن الوحي لموسى ليس من الكلام الذي قسمه الحق في قوله : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } ؛ لأن الله قال في كلامه لموسى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } .
(1/1967)

ووقف العلماء هنا وقفة عقلية وقالوا : كيف يتكلم الله إذن؟ . ونقول : إن كل وصف لله ويوجد مثله لخلقه إنما نأخذه بالنسبة لله في إطار : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فإن قلت : إن لله وجوداً وللإنسان وجوداً ، فوجود الإنسان ليس كوجود الله ، وإن قلنا : إن لله علماً ، وللإنسان علماً ، فعلم الإنسان ليس كعلم الله ، وإن قلنا : إن لله قدرة ، وللإنسان قدرة ، فقدرة الإنسان ليست كقدرة الله ، وإن قلنا : إن لله استواء على العرش وللإنسان استواء على الكرسي ، فاستواء الله ليس كاستواء الإنسان . إذن فلا بد أن تؤخذ كل صفة من صفات الله التي يوجد مثلها في البشر في إطار قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ]
وبذلك ينتهي الخلاف كله في كل ما يتعلق بصفات الحق .
فالحق له يدان وله وجه ، ولكن لا يمكن للإنسان أن يصور يد الله كيد البشر ، بل نأخذها في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وكذلك وجه الله . ومادمنا نأخذ صفات الله في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فلا داعي للمعركة الطاحنة بين العلماء في الصفات وفي تأويل الصفات ، ولا داعي أن ينقسم العلماء إلى عالم يؤوّل الصفات وعالم لا يؤول؛ لاداعي أن يقول عالم : إن يد الله هي قدرته فيؤول ، وعالم آخر لا يؤول ويقول : لا . إن لله يداً ويسكت . ونقول للعالم الذي لا يؤول : قل : إن لله يداً وهي تناسب قوله " { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وإذا كنا نحن قد عرفنا في عالمنا أن الأشياء تختلف مواجيدها في الناس باختلاف الناس ، فلا بد من أن نعرف أن الله لا مثيل له .
وعلى سبيل المثال : يتلقى الإنسان دعوة لمائدة عمدة قرية ما ، فيقدم له ألوان طعام تناسب مقام القرية ومنصب القيادة فيها ، ويتلقى الإنسان دعوة لمائدة محافظ مدينة فيقدم له طعاماً يناسب مقام المدينة ومنصب القيادة فيها . ويتلقى الإنسان دعوة رئيس الدولة فيقدم له طعاماً يناسب مقام الدولة وهيبة منصب القيادة فيها ، إذن لا تتساوى مائدة طعام العمدة في قرية مع مائدة طعام المحافظ مع مائدة طعام رئيس الدولة ، فإذا كان البشر يوجد الشيء الواحد وهو ملون بألوان مقامات المخلوقين فكيف لنا بمقامات الخالق؟! { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
فإذا كان الحق قد أخبرنا أنه كلم موسى تكليماً في قصة الوادي عندما آنس موسى ناراً وذهب إلى النار . فقال الحق : { إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى * وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى * إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري * إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ فتردى }
(1/1968)

[ طه : 12-16 ]
قال له الحق كل ذلك ، وبدأه سبحانه بالكلام . وبعد ذلك جاء لموسى الوحي على طريقة مجيء الوحي للأنبياء .
والحق سبحانه وتعالى أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم على شتى ألوان الوحي . فقد جاء الوحي لرسول الله إلهاماً ، وجاء الوحي لرسول الله من وراء حجاب ، وجاء الوحي لرسول الله من خلال رسول .
ومثال الوحي إلهاماً هو الحديث القدسي ، وكذلك التشريع النبوي الذي تركه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومثال الوحي من وراء حجاب هو التكليف بالصلاة ، فلم تفرض الصلاة بواسطة جبريل ، بل فرضت من الله مباشرة .
ولا أدخل في نقاش لا جدوى منه حول : أحين فرض الحق على رسوله الصلاة كلمه وسمع منه رسول الله ، أم أن رسول الله قد رأى الله وهو يتكلم معه . لا داعي للخوض في أمر لم يخبرنا الله عن كيفيته ، والأدب مع الله يقتضي ذلك . قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
وإن القرآن لم يثبت بأية طريقة من طرق الوحي إلا بإرسال رسول ، فكل وحي القرآن جاء بواسطة جبريل ، فلم تأت آية بالنفخ في الرُّوع . إنما جاء بالنفخ في الروع الحديث القدسي؛ لأن النفخ في الروع قد يتصور واحد أنه خاطر من الجن أو أمثال ذلك . وجاءت كل الآيات القرآنية بواسطة جبريل؛ بمقدمات بدنية ، ويحدث تغير كيماوي في نفس رسول الله فلا يشك أبداً في أنه جبريل . وأراد الحق أن يكون الوحي بالقرآن بطريقة لا شك فيها .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع صوتاً كصلصلة الجرس؛ وبعد ذلك يتفصد جبين الرسول عرقاً ، ويثقل جسم رسول الله حتى إن كان على دابة فهي تئط وتئن ويثقل عليها وتكاد أن يمس بطنُها الأرض . وإن كان رسول الله يلاصق فخذه فخذ أحد الصحابة ، فيكاد أن يرض فخذ الصحابي ، وتلك علامات مادية كونية ، لا يمكن أن يحدث فيها لبس .
ولقد قالوا من قبل استنادا إلى ظاهر قوله : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ]
لو لم يرسل الحق الرسول لكان لهم حجة . ونقول للعلماء : لنفهم هذه المسألة حتى نوضح لكم أنكم تختلفون في أمر كان يجب عليكم ألا تختلفوا فيه . أبالعقل يعلم الإنسان مطلوب الله منه؟ أم أن العقل يهديني إلى وجود قوة أعلى خلقت هذا الكون وتدبره؟ . وما اسم هذه القوة؟ . وما مطلوب هذه القوة؟ . أيعرف العقل ثواب من يتبع المنهج وعقاب من يخرج عن المنهج؟ . كل هذه أمور لا يعرفها العقل ، فالعقل حجة في الإيمان بقوة عُليا فوق ذلك الكون وهي التي خلقته وتدبره وتديره ، أما الرسول فهو مبلغ بمطلوبات المنهج واسم القوة التي أرسلت والشرائع التي يجب أن يسير على هداها الإنسان ، إذن فليس هناك خلاف بين الرأيين .
(1/1969)

واسأل : من الذي اكتشف الكهرباء؟ . إنه العقل البشري الباحث وراء أسرار الله في الكون ، ولا أحد يجهل هذه المسألة . وكذلك أسأل : من أول من تكلم في النسبية؟ إنه أينشتين . وإن سألنا : من أول من تكلم في الجاذبية الأرضية؟ . إسحاق نيوتن ، وكل واحد اكتشف شيئاً في الكون صرنا نعرفه . والذي صمم توليد الكهرباء التي تنير وتضيء وندير بها المصانع ، وجعل من سوق الكهرباء صناعة رائجة تعمل فيها القدرات المالية ليشتري الإنسان مصابيح تنير حيزاً محدوداً ، ومصانع تعمل في خدمة الإنسان .
أبالله عليكم تعرفون اسم مصمم مولدات الكهرباء ومصصم ومكتشف المصباح الكهربائي ، ولا تدرون اسم من خلق الشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم . ولم يَدَّع أحد لنفسه صناعة الشمس ، ولا يوجد ابتكار في الكون إلا ومعلوم مَن أبدع هذا الابتكار . فالذي صنع المصباح إنما ينير به حيزاً محدوداً مهما كبر ضوء المصباح ، وبعد محيط دائري معلوم يتلاشى الضوء ويصير الأمر إلى ظلمة ، فما بالنا بالشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية كل نصف نهار .
إن خلق الشمس يحتاج إلى قدرة تناسب خلقها ، وتحتاج إلى حكمة تناسبها ، وليس لهذه الشمس محيط من الزجاج ينكسر ونغيره مثلما نفعل مع المصابيح . كان لابد للعقل البشري أن يفهم أن هذه الكائنات التي في الكون لها صانع يناسبها . ولا يمكن أن يكون صانعها من الخلق ويسكت عن حقه في صناعة هذه المعجزات ، ونحن نرى بعضاً من الناس في بعض الأحيان تدعي ملكية ما ليس لها ، فإذا ما جاء الخالق وأبلغنا بواسطة الرسل بصناعته للكون ولم يوجد له مُعارض ، فهل هذه الأشياء والكائنات من خلقه أو لا؟ . إنها من خلقه إلى أن يوجد له معارض؟
هذه هي مهمة العقل أي أنّه يهتدي إلى القوة التي تخلق وتدبر أمر هذا الكون ولا يغني العقل عن الرسل ، ولكن العقل يؤمن في القمة الإيمانية بأن هناك قوة مبهمة عالية تناسب عظمة هذا الكون الذي طرأ عليه الإنسان ، ولا يعرف اسم القوة ولا يعرف مطلوب القوة في " افعل " ، و " لا تفعل " ، ولا يعرف العقل ماذا ادخرت القوة من ثواب للمحسن وعقاب للمسيء . لذلك لابد من وجود رسول .
إن الحجة - إذن - تكون من شقين : الشق الأول الخاص بالعقل هو في الإيمان بالقوة العليا المبهمة ، والشق الثاني الخاص بالرسل هو الإيمان بالبلاغ عن الله اسما وصفة ومطلوباً وجزاء ، وهكذا نرى فاتفقوا أيها العلماء ولا ضرورة للخلاف .
أقول ذلك حتى لا يتمادى الذي يتصيدون لدين الله وأضيف : اتفقوا أيها العلماء على أشياء محددة لأنكم تشتتون الناس بهذه الخلافات؛ فالرسول هو الحجة في الأشياء التي لا دخل للعقل فيها .
(1/1970)

ونعرف تاريخياً أن آفة الفلسفة أنها تضع وتتخذ عدداً ضيقاً من المجالات لتبحث فيها ، وكانت الفلسفة قديماً هي أمُّ العلوم مجتمعة ، فالهندسة كانت فرعاً منها ، وكذلك كل الرياضيات ، وأيضاً المواد العلمية كالكيمياء والفيزياء وكذلك أصول اللغات .
لكن عندما رأى العلماء أصحاب التجارب المعملية أن الفلاسفة يدخلون في متاهات نظرية ولا يدخلون إلى مجال التجارب العلمية التطبيقية ، تركوا الفلاسفة وأسسوا العلوم التجريبية منفصلة عن الفلسفة . وأنتج العلم التجريبي لنا كل هذه الاختراعات والاكتشافات المعاصرة التي تسهل علينا الحياة ونستفيد منها .
لقد ظل الفلاسفة على حالهم يبحثون في النظريات بعيدين عن مجال التجارب العلمية التطبيقية . ولا تلتقي مدرسة فلسفية بمدرسة أخرى؛ لأنهم يختلفون حيث الجهل طبيعة مسيطرة على الغيب الذي يبحثون عنه ولا يمكن الاهتداء أبداً إلى أسرار الغيب ، إنما الغيب يبلغ به الرسل .
والمثال الذي أضربه دائماً واكرره حتى يستقر في الأذهان : لنفترض أننا نجلس في حجرة ثم دق الجرس ، هنا تستوي عقولنا جميعاً في أن طارقاً بالباب ، ولا نختلف في هذا الأمر . لكن عندما ندخل في تصور من الطارق؟ يقول واحد : " الطارق رجل " وثانٍ يقول : " الطارق امرأة " وثالث يقول : " الطارق رجل شرطة " ورابع يقول : " صديق لنا " وخامس يقول : " بشير " وسادس يقول : " نذير " ، يحدث ذلك لأننا دخلنا إلى متاهات التصور . وأقول : هذه الأمور لا تُترك للعقل ، فلو أردتم راحة أنفسكم لآمنتم بالتعقل ، تعقل أن هناك طارقاً بالباب ، ثم تتركون للطارق أن يعلن عن نفسه ويقول لكم : أنا فلان وأسمي كذا وصفتي كذا وجئت إليكم من أجل كذا ، وبذلك نتفق جميعاً .
لكن الفلاسفة أدخلوا التصور في التعقل . ولا يمكننا أن نعرف اسم الخالق بالعقل أبداً ولا مطلوبه . بل لأ بد أن يبلغ عن نفسه ، فإذا انشغل العقل بأن هذا الكون العظيم لا بد له من قوة خالقة ، فلماذا لا تبلغنا عن نفسها؟ . وإذا ما جاء رسول من أجل أن يحل اللغز الوجودي الذي يعيشه البشر فيبلغنا أن القوة الخالقة اسمها الله . هنا أراح الحق النفس البشرية بما كانت تتمنى أن تعرفه ، ومن عقل العاقل أن يفرح بمجيء الرسول ويستشرف إلى السماع عنه؛ لأن الرسول إنما جاء يحل اللغز الشاغل للنفس البشرية من تفسير مَن خلق الكون بهذه الدقة ، وما هي مطلوبات هذه القوة؟
ويحسم الرسول الخلاف عندهم ويحل اللغز الشاغل للبال . ولذلك نرى الإمام عليا - كرم الله وجهه - أمام سؤال من أحدهم :
- أعرفت محمداً بربك؟ أم عرفت ربك بمحمد؟ .
(1/1971)

فأجاب الإمام عليّ وكان باب العلم : لو عرفت ربي بمحمد لكان محمد أوثق عندي من ربي ، ولو عرفت محمداً بربي لما احتجت إلى رسول ، ولكني عرفت ربي بربي وجاء محمد فيبلغني مراد ربي مني .
هكذا حدد لنا سيدنا عليّ المسألة . . فالعقل الفطري يؤمن بقوة مبهمة وراء هذا الكون هي التي خلقت وهي التي رزقت وهي التي أمدت بقيوميتها وقدرتها ، وبعد ذلك تجيء الرسل من أجل تعريفنا باسم القوة ومطلوبها منا .
والذين يختلفون حول دور العقل في الحجة ودور الرسول في الحجة ، عليهم ألا يتوهوا في متاهات نحن في غنى عنها؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون الحجة بمفرده ، والرسول إنما هو مبلغ عن القوة ، وقد يقول قائل : إذن لابد لكل رسول من رسول ، وقد يبلغ التفلسف الطريق المسدود .
لكن عندما نعلم أن الحق قد صنع كل رسول على عينه معصوماً ليبلغ ، وعلى سبيل المثال نجد سيدنا محمد بن عبدالله استطاع أن يصنع أمة في ثلاث وعشرين سنة ليمتد خيرها إلى يوم القيامة ، فعل صلى الله عليه وسلم ذلك مبلغاً عن الله ليهدي أمته إلى كيفية عمل الطيب والابتعاد عن العمل الخبيث . وخلق الله محمداً على خُلق عظيم . وهكذا نعرف أن الحق قد أراح العقل من ضرورة البحث عن اسم القوة الخالقة ومطلوبها فأرسل الرسل .
ويقول الحق من بعد ذلك : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ . . . }
(1/1972)

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد . والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد . والعزيز سبحانه لا يُغلب . والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه ، لماذا؟ . لأن الرسل يبشرون وينذرون بأن هناك جنة وناراً وحساباً ، فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن يصنع شيئاً لنفسه؛ والله عزيز وغنيُّ عن خلقه جميعاً .
ونعلم أن الحق لا يجرم سلوكاً إلا بنص ، وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي لا يصح الخروج عنها . وحين يقول الحق : { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف منهجه . ويقول الحق من بعد ذلك : { لكن الله يَشْهَدُ . . . }
(1/1973)

لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
وساعة نسمع " لكن " فمعنى ذلك أن هناك استدراكاً . وقوله الحق : { لكن الله يَشْهَدُ } نأخذ منها بلاغاً من الحق . خصومك يا محمد لا يشهدون أنك أهل لهذه الرسالة ، ويستدرك الله عليهم ويوضح لهم أنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بقانون صيانته . ومنهج الله إلى البشر بواسطة الرسل هو قانون صيانة ذلك الإنسان .
وإذا كان أهل الكتاب لا يشهدون بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينكرون ما في كتبهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم كرسول خاتم ، فإن الله يشهد وكفى بالله شهيداً .
لقد أنزل القرآن بعلمه ، وهو الذي لا تخفى عليه خافية ، وهو الذي خلق كل الخلق ويعلم - وهو العليم - ما يصلح للبشر من قوانين . وفي أعرافنا البشرية نجد أن الذي يصنع الصنعة يضع قانون صيانتها لتؤدي مهمتها كما ينبغي ، كذلك الله الذي خلق الإنسان ، هو سبحانه الذي وضع له قانون صيانته ب " افعل " و " لا تفعل " . ولذلك يقول الحق : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ]
ونجد الإنسان منا يذهب بساعته إلى عامل إصلاح الساعات فيكشف عليها ويقرر ما فيها من فساد ، فما بالنا بخالق الإنسان . إنّ العبث الذي يوجد في العالم سببه أن الناس قد استقبلوا خلق الله لهم ، ولم يدع أحد أنه خلق نفسه أو خلق غيره ، ومع ذلك يحاولون أن يقننوا قوانين صيانة للإنسان خارجة عن منهج الله .
ونقول : دعوا خالق الإنسان ، يضع لكم قانون صيانة الإنسان ب " افعل " ولا " تفعل " وإن أردتم أن تشرِّعوا ، فلتشرعوا في ضوء منهج الله ، وإن حدث أي عطب في الإنسان فلنرده إلى قانون صيانة الصانع الأول وهو القرآن؛ لأن المتاعب إنما تنبع من أن الإنسان يتناسى في بعض الأحيان أنه من صنعة الله ، ويحاول أن يصنع لنفسه قانون صيانة بعيداً عن منهج الله ، والذي يزيل متاعب الإنسانية هو أن تعود إلى قانون صيانتها الذي وضعه الخالق تبارك وتعالى .
{ لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ } والملائكة تشهد لأنها نالت شرف أن يكون المبلغ لرسول الله منهم وهو جبريل عليه السلام ، وهم أيضاً الذين يحسبون حسابات العمل الصالح أو الفاسد للإنسان ويكتبونها في صحيفته ، وهم كذلك الذين حملوا ما في اللوح المحفوظ وبلغوا ما أمروا بتبليغه وهم يعرفون الكثير { وكفى بالله شَهِيداً } لماذا لم يقل الله هنا وكفى بالله وبالملائكة شهوداً؟ . لأن الحق سبحانه وتعالى لا يأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادته .
ونحن لا نأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادة الله وإلا كانت الملائكة أوثق عندنا من الله . وسبحانه يؤرخ شهادة الناس وشهادة الملائكة ، لكنك يا رسول الله تكفيك شهادة الله .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . }
(1/1974)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
إنّ كُفر الكافر إنما يعود عليه ، وهو يملك الاختيار بين الكُفر والإيمان ، لكن أن يصد الكافر غيره عن الإيمان فهذا ضلال متعدّ؛ لقد ضل في نفسه ، وهو يحاول أن يضل غيره؛ لذلك لا يحمل وزره فقط ولكن يحمل أوزار من يضلّهم .
وكيف يكون الصدّ عن سبيل الله؟ . بمحاولة أهل الضلال أن يمنعوا آيات الهُدى من أن تصل إلى آذان الناس ، فيقولوا ما رواه الحق عنهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ]
ولو فهموا معنى هذه الآية لما قالوا ما جاء فيها ، فقولهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } أي اصنعوا ضجة تشوّش على سماع القرآن ، وهم قد علموا أن هذا القرآن عندما يصل إلى الأسماع فإنه يبلغ الهداية ، ولو كان القرآن غير مؤثر لما قالوا ذلك ، إذن هم يعترفون بأنهم يُغلَبُون عندما يصل صوت القرآن إلى آذان البشر المدعوين إلى الهداية .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً } . كان يكفي أن يقول الحق { قَدْ ضَلُّواْ } ، لكنه جاء بالمصدر التأكيدي { قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً } أي إنه الضلال بعينه ، وهو فوق ذلك ضلال بعيد .
وعندما ننظر في كلمة " بعيد " ، نعرف أن الشيء البعيد هو الذي بينه وبين مصدره مسافة زمنية طويلة . والذي يضل قصارى ضلاله أن ينتهي بانتهاء حياته ، لكن الذي يعمل على إضلال غيره فهو يجعل الضلال يمتد ، أي أن الضلال سيأخذ في هذه الحالة زمناً أكبر من حياة المُضل ، ويتوالى الضلال عن المضلين أجيالاً ، وهكذا يصبح الضلال ممتداً .
والضلال المعروف في الماديات البشرية هو - على سبيل المثال - أن يسير الإنسان إلى طريق فيضل إلى طريق آخر . وقصارى ما يضل فيه هو أن يذهب إلى مفازه - أي صحراء - ولا يجد ماء ولا طعاماً فيموت . لكن الضال المضل يجعل ضلاله يأخذ زمن الدنيا والآخرة وبذلك يكون ضلاله ممتداً .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . }
(1/1975)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
والحديث هنا يبدأ عن الكفر والظلم { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ } . والكفر هو ستر الوجود الأعلى ، والظلم معناه أنهم عاشوا بمنهج بشري لا يؤدي لهم متاعاً ولا سعادة في حياتهم الدنيا ، وبذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم . ومن بعد ذلك يقودهم هذا المنهج إلى عذاب الآخرة . والذي كفر ستر وجود الله وحرم نفسه بستر الوجود الأعلى من المنهج الذي يأتي به الله إنه بذلك قد ضل ضلالاً بعيداً . وسبحانه القائل : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ طه : 123 ]
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ]
والذي يأخذ بهوى نفسه وبمنهج البشر فإن له معيشة ضنكا ضيقة شديدة . ولا يظنن ظان أن الذي يأخذ ويتناول الأمور بهواه قد أخذ انطلاقاً بلا حدود وراحة لا نهاية لها ، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك قد يرتاح مرة لكنه يقابل التعب ويعيش فيه ولا ينفك عنه من بعد ذلك ، وهكذا يظلم نفسه .
وقد يقول قائل : لقد ظلموا أنفسهم ، ومعنى ذلك أنه لا بد من وجود ظالم ومظلوم . فمن هو الظالم ومن هو المظلوم؟ . كل واحد منهم الظالم . وكل واحد منهم المظلوم؛ لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة ، ملكة شهوات تريد أن تنطلق إلى الشهوات ، وملكة قيم تريد أن يحفظ الإنسان نفسه ويسير على صراط القيم المستقيم .
وفي حالة من يكفر ولا يتبع منهج الله إنما يترك الفرصة لملكة الشهوات أن تظلم ملكة القيم . والإسلام إنما جاء ليوازي بين الملكات لتتساند في النفس البشرية ، فلا يطغى سيال ملكة على سيال ملكة أخرى . { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } [ النساء : 168-169 ]
هذا هو حكم الحق في الذين يكفرون ويظلمون أنفسهم ، لن ينالوا مغفرة الله وليس أمامهم إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً . ويقول الحق بعد ذلك : { ياأيها الناس . . . }
(1/1976)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
فبعد أن وصف لنا - بإيجاز محكم - سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة ، ومرة أخرى بينه وبين المشركين ، وها هوذا سبحانه يخاطب الناس جميعاً ، ليصفي مركز منهج الله في الأرض ، فيقول منبهاً كل الناس : لقد جاءت رسالة محمد عليه الصلاة والسلام تصفية لكل الرسالات التي سبقت ، وعلى الناس جميعاً أن يميزوا ، ليختاروا الحياة الإيمانية الجديدة؛ لأن الرسول قد جاء بالنور والبرهان ، الذي يرجح ما هو عليه صلى الله عليه وسلم على ما هم عليه ، والنور الذي يهديهم سواء السبيل .
لقد كان الناس قبل رسول الله على مِلَلٍ وعلى أديان ونحل شتى ، فجاء البرهان بأن الإسلام قد جاء ناسخاً وخاتماً . والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته ، فلا حجة لأحد أن يتمسك بشيء مما كان عليه . وجاء محمد بالنور الذي يهدي الإنسان إلى سواء السبيل ، وهذه تصفية عقدية شاملة ، أو كما نقول بالعامية " أوكازيون إيماني " تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها ، ولتبدأ مرحلة جديدة .
{ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ } والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت عليه الظروف؛ لأن الحق صدق له لون واحد ، فإذا ما رأيتم جميعاً حادثة واحدة ، ثم جاء كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لآخر . أما إن سولت نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية الألوان ، وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه .
إذن فالذي لا يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعاً الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا ملايين الناس ، لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لاختلفت الرواية؛ لأن الكذب مشاع أوهام ولا حقيقة له . والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت الظروف والأحوال ، ومهما جئتم إليه من أي لون ، سواء في العقديات أو في العباديات أو في الأخلاق أو في السلوك . وستجدون كل شيء ثابتاً لأنّه الحق .
ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلاً في هذا الحق : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } [ الرعد : 17 ]
كل وادٍ يأخذ ماء على قدر حجمه ، وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش والأشياء التي لا لزوم لها ، وهو ما نسميه " الريم " وهو الزَّبَد الرابي . وكذلك الحديد أو النحاس أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع ، وعندما نضع هذه المعادن في النار ، نجد الزِّبَد يفور على سطح هذه المعادن عندما تنصهر ، وتسمى هذه الأشياء الخبث .
(1/1977)

ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل . { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض } [ الرعد : 17 ]
ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينحيها عنه . فإن علا الباطل يوماً على الحق فلنعلم أنه علو الزَّبَد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا ، وسيظل الحق هو الحق . وسبحانه يقول : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } . والإيمان هو اعتناق العقيدة بوجود الإله الأعلى ، والبلاغ عنه بواسطة الرسل ، وأن للحق ملائكة ، وأن هناك بعثاً بعد الموت ، وحساباً . ويقتضي الإيمان أن نعمل العمل وَفق مقتضياته وذلك هو اختيار الخير ، ولنعلم جيداً أن الإيمان لا ينفصل عن العمل .
وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس؟ ها هوذا الحق يقول : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } وسبحانه غني ، وسيظل كَونُه الثابتُ - بنظرية القهر والتسخير - هو كونه ، ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين ، سوى سخط الكون عليهم لأنه مسخر لهم؛ لأن الكون ملك لله ، ولن تتغير السماء ولا النجوم ولا القمر ولا المطر ولا أي شيء .
ونقول لك : لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئاً مما فعلته وأحدثته يد الإنسان على غير منهج الله ، أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد الإنسان فهو لا يفسد ، ولم نر يوماً الشمس وقد عصيت عن الشروق أو الغروب ، وكذلك القمر لم تختل حركته ، وكذلك النجوم في الأفلاك ، وتسير الرياح بأمر خالقها ، وكل شيء في الكون منتظم الحركة ، اللهم إلا الأشياء التي يتدخل فيها الإنسان ، فإذا كان قد دخلها بمواصفات منهج الله فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون ، وإن دخلها بغير مواصفات منهج الله فلن تستقيم ، بل تفسد .
ولذلك قال الحق : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ]
إن الأمر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج الله ، ولذلك نقول : أشَكى الناس أزمة ضوء؟ . لا؛ لأن الشمس ليست في متناولنا ، وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء ، لكنهم يشكون أزمة طعام؛ لأن الطعام ينبت من الأرض ، فإما أن يكسل الإنسان مثلاً فلا يعمل ، وإما أن يعمل ويخرج ثمراً فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ولا يعطوه لغيرهم ، وهذا سبب من أسباب الفساد الناشئ في الكون .
وجاء الحق لهم بما يمكن أن يكون فتحاً يدخلون فيه بالإيمان بمنهج الرسول الخاتم ، ويكفرون عن أخطائهم مع أنبيائهم ومع محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول سبحانه : { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ . . . }
(1/1978)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
يبدأ الحق بأمر موجه لأهل الكتاب : { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } والغلو هو الخروج عن حد الاعتدال في الحكم ، لأن كل شيء له وسط وله طرفان ، وعندما يمسك شخص طرفاً نطلب منه ألا يكون هناك إفراط أو تفريط . وقد وقع أهل الكتاب في هذا المأزق ، فلم يأخذوا الأمر بالاعتدال دون إفراط أو تفريط ، لقد كفر اليهود بعيسى واتهموا مريم بالزنا ، وهذا غلو في الكُرْه ، وغالى النصارى في الحب لعيسى فقالوا : إنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة؛ وهذا غلو ، ويطلب الحق منهم أن يقفوا من أمر الدين موقف الاعتدال : { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } .
إن أمر المنهج لا يحتاج إلى غلو ، ولذلك جاء محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله بالدين الوسط الذي يضع كل أمر في نصابه . وشرح لنا بإخبارات النبوة وإلهامها ما سوف يحدث للإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وقد حدث ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالخوارج كفَّروا علياً ، والمسرفون بالتشيع قالوا : إنه نبي ، وبعضهم زاد الإسراف فجعله إلهاً .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ - كرم الله وجهه - :
" إن فيك من عيسى مثلا . أبغضته اليهود حتى بهتوا أُمَّهُ ، وأحبته النصارى حتى انزلوه المنزل الذي ليس له " .
وكما قال سيدنا علي - كرم الله وجهه - : " ألا وإنه يهلك فيّ اثنان : محبٌ يقرظني بما ليس فيّ ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني ، ألا إني لست بنبيّ ولا يوحى إليّ ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما استطعت ، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم " .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليّاً أن المحب الذي يغالي في حبه ليس مع عليّ وكذلك الكاره المبغض؛ فالذي يحب عليا بغلو جعل منه إلهاً أو رسولاً ، والذي أبغض علياً جعله كافراً . وكذلك النصارى من أهل الكتاب جاءوا إلى عيسى فأحبوه بغلو وجعلوه إلهاً أو ابن إله أو ثالث ثلاثة ، فيقول لهم الحق : { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله } . وقوله الحق : { عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله } رد على غلو اليهود الذين رفضوا الإيمان بعيسى ، وقالوا في عيسى وأمه البهتان العظيم .
وقوله الحق عن عيسى ابن مريم : { رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } رد على غلو النصارى الذين نصبوه إلهاً أو جعلوه ابناً لله أو ثالث ثلاثة ، فعيسى عليه السلام هو ابن مريم وعندما بشرها به الحق وقالت :
(1/1979)

{ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ آل عمران : 47 ]
قالت ذلك بفطنة الصديقية التي جعلتها تنبه إلى أنها لم يمسسها بشر ، ومادام الحق قد نسبه إليها فليس له أب ، سيولد عيسى دون أن يمسسها بشر ، ويوضح سبحانه ذلك عندما يقول : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } . فعيسى روح من الحق؛ لأنه سبحانه قال : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ]
وما معنى " كلمته "؟ . هذا القول يدل على أن الروح نفخت ثم جاءت كلمة " كن " التي قال عنها سبحانه : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ]
لقد احتاج وجود عيسى إلى أمرين : " روح " و " كن " . والشبهة عند النصارى مردها إلى أن عنصر الذكورة لم يلمس مريم؛ وقالوا : مادام الله قد قال : إن عيسى روح منه فهو جزء من الله ، ونسوا أن كل شيء من الله ، وسبحانه القائل : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ]
فهل هذا يعني أن " الأرض " قطعة من الله وكذلك الشمس؟ . لا . فإذا كانت الشبهة قد جاءت من غياب عنصر الذكورة مع وجود عنصر الأنوثة لكان من الواجب منطقياً أن تكون الشبهة في آدم قبل أن تكون الشبهة في عيسى؛ لأن آدم جاء من غير ذكورة ولا أنوثة؛ فلا أب ولا أم له؛ لقد قال القرآن بمنتهى البساطة ومنتهى الوسع : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ]
ولا يملك أحد القيد على فضل الله ووسعه ، ومسألة آدم كانت أدق ، لكن الله بتفضله يساوي بين خلق عيسى وخلق آدم ، وهذا هو التلطف في الجدل . وأخبرنا سبحانه عن عيسى أنه جاء بأمر منه ، وقال في آدم : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ]
إذن فآدم قد احتاج إلى الأمرين نفسيهما : " كن " ، و " النفخ فيه من الروح " ، وعندما ننظر إلى هذه المسألة نجد أننا لا بد أن نتعرض لقضية خلق آدم ، حتى نعرف كيف تسلسلت مسألة الخلق ، سواء أكان الخلق ملائكة أم خلق آدم أم خلق حواء أو غيرهم من الخلق ، كذلك خلق عيسى . لقد كان خلق آدم غيباً عن آدم ، وليس لآدم نفسه ولا لمن جاء بعده أن يتكلم كيف خُلق؛ لأن هذه المسألة لا دخل لأحد بها ، ويقول لنا الخلق محذرا من أن نستمع إلى قوم يقولون بغير ذلك عن الخلق فقال : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ]
ولا يمكن - إذن - أن نستمع إلى هؤلاء الذين افترضوا أن أصل الإنسان قرد أو غير ذلك؛ لأن الذي يتكلم عن الخلق بغير علم من عند الله ، فهو يتكلم في أمر لم يشهده .
(1/1980)

والخلق الأول أمر لا يمكن أن يدخل المعمل التجريبي؛ لأن المعمل التجريبي إنما يحلل مواد موجودة بالفعل . إذن فالحكم على أمور بغَير ما أخبرنا بها الله أمر باطل . ولم يكن هناك أحد مع الله ساعة خلق الخلق ليقول لنا كيف تم ذلك . وعَلِمْنا هذه المسائل بإخبار الخالق لنا فهو الأعلم بنا ، والخالق أخبرنا أنه خلقنا من ماء وتراب وطين وحمأ مسنون وصلصال كالفخار ، وحدثنا بذلك في آيات متعددة . والذين يريدون أن يكذبوا القرآن يقولون : إن القرآن لم يأت بخبر واحد عن خلق الخلق ، فمرة يقول إن الخلق كان من ماء ومرة كان من تراب ، ومرة كان من طين ، ومرة كان من صلصال .
ونقول : أحين يتكلم الحق عن مراحل الخلق فهل في هذا تضاد؟ . اصل الخلق ماء ، خلطه الحق بتراب ، وبعد وضع الماء على التراب صار الإثنان طيناً ، ثم إذا تركنا الطين إلى أن يختمر ، يصير حمأ مسنوناً ، وبعد ذلك يصير صلصالاً ، ومن بعد ذلك خلق منه الحق آدم . إذن فكل شيء تكلم عنه سبحانه في خلق آدم إنما يتفق مع كل الآيات التي جاءت عن هذا الخلق . وهو القائل عن آدم : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ]
وبعد صنع الله القالب الذي يشبه التمثال الذي نراه ، ولكن تنقصه الحركة ولحياة ، فيأتي النفخ في الروح بكلمة " كن " . إذن نحن نحتاج إلى روح وإلى كلمة . والروح عنصر وجودي . وعندما تختلط بالقالب تحدث الحياة ، ولا بد من بعد ذلك من الإرادة بكلمة " كن " . ولذلك نجد الإنسان قد يصنع نفس خلطة الإنسان الكيماوية لكنها لا تصير إنساناً؛ لأن الأمر ينقص الإذْن بميلاد الإنسان .
وساعة يتكلم الحق عن خلق آدم وهو أمر لم نشهده ، فذلك من رحمته بنا ، ويترك لنا سبحانه في الكون دليلاً على صدقه عن خلق آدم ، فإذا كنا لم نشهد خلق الحياة فنحن نشهد نقيض الحياة وهو الموت ، الذي يحدث فيه أولاً خروج الروح ، ومن بعد ذلك ينتفخ الجسم كأنه الحمأ المسنون ، ثم يتبخر الماء ، وبعد ذلك يتحلل إلى تراب . هذه هي مراحل الموت التي تبدأ من خروج الروح ويتصلب الجسم إلى أن يَرِم ثم يتبخر الماء ، وتبقى العناصر في الأرض .
وإذا كنا لم نعرف كيف بدأت الحياة ، فنحن نعرف كيف انتهت الحياة أمامنا بالأمر المشهدي ، وجعل سبحانه أمر انتهاء الحياة أمامنا دليلاً على صدقة في إخبارنا بالحياة وكيف بدأت؛ لأن نقض الحياة يكون بالموت ، ونقض أي شيء إنما يتم على عكس طريقة بنائه . وآخر أمر دخل في الإنسان هو الروح ، ولذلك فهي أول ما يخرج من الإنسان عند الموت .
(1/1981)

وبعد ذلك يتصلب الجسم ، وبعد ذلك يصير رمة وهي الحمأ المسنون . وبعد ذلك يتبخر الماء ويبقى أخيراً التراب .
وقد حللوا الإنسان حديثاً . فوجدوا فيه عناصر كثيرة ، ثم حللوا طينة الأرض الخصبة التي يخرج منها الزرع الذي يقتات منه الإنسان ، فوجدوا هذه الطينة مكونة من هذه العناصر .
ومن العجيب أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها المكونة لطين التربة الخصبة ، مما يدل على تأكيد الصدق في أن الله خلقنا من طين ، وجعل استبقاء حياتنا مما يخرج من هذا الطين بعناصره المختلفة ، جتى يمد كل عنصر من الطين كل عنصر من الوجود الإنساني . ولما قاموا بتحليل الإنسان مقارناً بتحليل التربة وجدوا أن أضخم عنصر في تكوين الإنسان هو الأوكسجين ونسبته على ما أذكر سبع وستون بالمائة ، وبعده عنصر الكربون ، ونسبته على ما أذكر تسع عشرة بالمائة ، إلى أن تنتهي العناصر المكونة للإنسان والتربة إلى المنجنيز ونسبته تقل عن واحدة بالمائة ، وأهم هذه العناصر هو :
الأوكسجين ، الكربون ، الهيدروجين ، النتروجين ، الكلور ، الكبريت ، الكالسيوم ، والفوسفور ، والبوتاسيوم ، الصوديوم ، الحديد ، اليود ، والسيلوز ، والمنجنيز . هذه هي أهم وأكثر العناصر المكونة لتركيب الإنسان وهي العناصر نفسها الموجودة في تركيبة الطين وبعضها عناصر مكونة للمركبات العضوية وبعضها عناصر غير عضوية وبعضها عناصر وظائفها ثابتة ومعروفة ، ويسأل أهل الذكر في تفاصيل ذلك .
وبطبيعة الحال فالذين قاموا بتحليل التربة وعناصر الإنسان لم يكونوا علماء دين ، ولم يكن في بالهم إقامة الدليل على صدق الله في القرآن ، ذلك أن بعضهم يجهل مسألة القرآن كلها ، ولكن الحق سبحانه وتعالى أجرى على لسان رسوله حديثاً يشرح لنا حقيقة إثبات صحة كل ما فيه ولو جاء على لسان رجل فاجر ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر "
فسبحانه - إذن - أراد أن ينصر الدين بالكافرين ، وجعل بعضاً منهم يصلون إلى أشياء لو أنهم علموا أنها ستخدم قضايا الهدى لما أعلنوها . ومن حكمة الله أن جعل الكافرين غير قادرين على إغفال نصرة الدين ، وجعل سبحانه بعضاً منهم يخدمون الدين على رغم أنوفهم . ونريد أن نأخذ من هذه المسألة فهماً عميقاً ، يتسم باللطف والسماحة ، فإذا كان الله قد خلق الإنسان الأول من طين ، وهناك آية أخرى قال عنها الحق : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ]
وآية ثالثة قال فيها سبحانه : { كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ]
إذن فخلق آدم احتاج إلى أمرين : النفخ من روح الحق ، والأمر " كن " ، وهما الأمران أنفسهما في مسألة خلق عيسى ، روح من الحق ، وكلمته التي ألقاها إلى مريم ، وهذه دليل صدق لقوله الحق : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ } [ آل عمران : 59 ]
والحق قد قص لنا أنه خلق آدم من طين وصنع القالب وسواه بيديه :
(1/1982)

{ قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 75-76 ]
فإذا كان الهيكل الذي خلقه الله ونفخ فيه الروح ، ودبت فيه الحياة ثم تناسل النسل من آدم إلى أن تقوم الساعة ، فهل مجيء عيسى على الصورة التي جاء بها يكون أمراً عسيراً على الله؟ . لا . وساعة أنجب آدم أول ذرية له؛ ألم يخرج لحظتها حيوان منوي من آدم إلى البويضة في رحم حواء؛ وأراد به الله ميلاد أول نسل من آدم وهو جزء من آدم ، وهذا الحيوان المنوي له مادة وله حياة ، ومادته معروفة ، وحياة هذا الحيوان المنوي هي التي تسمح له بالحركة لتلقيح البويضة ، هذه المادة مخلوقة من آدم ، والحياة التي فيه من روح آدم ، وآدم نفسه خلقه الله بيديه ، وهذا إثبات أن الحيوان المنوي هو جزء مما خلقه الله بيديه وهو آدم ، وفي الحيوان المنوي حياة مما نفخه الله من روحه ، وانتقل إلى رحم حواء وأخصب البويضة وولدته حواء ، واستمر ميلاد حيوانات منوية حية تخصب بويضات حية ليستمر الخصب والنسل والأحفاد .
إننا إذا سلسلنا نسل آدم إلى أن تقوم الساعة ، فكل ذرة من ذرات من يوجد آخر الدنيا مكونة من شيء به خلق من خلق الله في القالب ، وفيه شيء من نفخ الله في الروح؛ ولم يطرأ عليه موت أبداً؛ فلو طرأ عليه موت أو فناء لما صلح أن ينجب مثله . وهكذا نعلم أن كل واحد فينا به جزء من القالب الذي صنعه الله بيديه ، وفيه جزء من نفخ الروح .
وأكرر المثل الذي أضر به دائماً ليستقر في أذهان الناشئة؛ لو جئنا بسنتيمتر مكعب من سائل ملون مركز ، وأضفناه إلى لتر من الماء ، ثم أخذنا قطرة من لتر الماء سنجد بها جزءا ضئيلاً من السنتيمتر المكعب الملون . وإذا أخذنا هذه القطرة وأضفناها إلى برميل من المياه فيصير في البرميل جزء من السنتيمتر المكعب الملون . وإذا أخذنا من البرميل قطرة من المياه ، وأضفناها إلى البحر فإن جزءا من السنتيمتر الملون يصير بالبحر . إذن فكل نسل آدم - إلى أن تقوم الساعة - فيه جُزَيْء - من آدم عليه السلام .
ونلحظ أن كثيراً من المفكرين والمثقفين في الغرب صاروا يبتعدون عن فكرة بنوة عيسى لله . وعندما يدخلون في نقاش حول هذه المسألة يقولون : إنها بنوة حب . وإذا كانت المسألة بنوة حب ، فالله يحب جميع عباده ونصير نحن مثل المسيح ويصير المسيح مثلنا . فالخلق كلهم عيال الله ، والحديث القدسي يقول :
" الناس كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم بعياله "
ولو أخذنا هذا القول بالدقة التجريبية المعملية نجد أن هذا القول صدق وحق؛ لأننا جميعاً قد صدرنا عن قدرة الله وإرادته وكل منا فيه شيء من صنع الله منذ بداية خلق آدم ، إذن هو بشر مثلنا ويتميز عنا بأن السماء اختارته رسولاً .
(1/1983)

أما القول بالثالوث . فبعضهم يقول : نقصد بالثالوث ثالوث الصفات . وهل ثالوث الصفات تأتي فيه إضافيات؟ . كالقول " بالأب والابن والروح القدس "؟ لن يوجد أب إلا إذا وُجد ابن ، ولن يوجد ابن إلا إذا وجد أب .
إننا نعلم أن هناك حقائق ثابتة وهناك حقائق إضافية؛ فالإنسان يكون ابناً وأباً ، فهو ابن بالنسبة لوالده ، وهو أب بالنسبة لابنه ، وكل هذه صفات إضافية ، وصفات الحق يُفترض فيها أنها تجتمع لا أن تكون إضافية ، وعندما يقال : " الأب والابن والروح القدس " فهذا القول لا يحمل صفات إلهية ، بل صفات إضافية ، وحاول بعضهم أن يقول : " إن فاتحة الكتاب يوجد فيها التثليث؛ لأنكم تقولون بسم الله الرحمن الرحيم ، أنتم تفتتحون القرآن بثلاث صفات هي الله والرحمن والرحيم " وقلت لهم : نحن نقول " بسم الله الرحمن الرحيم " ولا نقول " بسم الله والرحمن والرحيم " .
وما الذي يجعل الحق يُنجب ابناً منذ أكثر من ألف وتسعمائة سنة؟ . ثم يترك سبحانه الأزمان السابقة على ميلاد المسيح محرومة من ميلاد ابن له؟ . لماذا يترك الله الأزمان كلها بدون ابن لله ، ويختص البشرية بابن له منذ حوالي عشرين قرناً فقط؟ . ثم ما المدة الزمنية التي شرفها الله بابنه بأن أوجده فيها؟
أتكفي ثلاثة وثلاثون عاماً فقط - وهي عمر المسيح - لتشريف البشرية بوجود ابن الله؟ . ولماذا يحرم الله - إذن - بقية الأزمان من بدء الخليقة إلى يوم القيامة من هذا الشرف؟ .
ونسأل أيضاً لماذا يريد أي كائن إنجاب ابن؟ . إنه يرغب ذلك ليضمن استبقاء الحياة؛ لأن الإنسان يعرف أنه سيموت ، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الموت والحياة وهو الباقي أبدا ، وليس في حاجة لاستبقاء حياته في أحد من البشر ويؤكد لنا ذلك في سورة الإخلاص . { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1-4 ]
وهم يقولون : " إله واحد " ، ومرة أخرى يقولون : " إله أحد " . وواحد لا تساوي " أحد " والدارسون للغة والمنطق يعرفون أن هناك شيئاً اسمه " الكل " وشيئاً اسمه " الجزء " وشيئاً اسمه " الكلي " وشيئاً اسمه " الجزئي " .
" فالكلي " يطلق على ماله أفراد مثل الإنسان : كخالد ومحمد وعليّ ، و " الكل " يُطلق على ماله أجزاء ، مثال ذلك الكرسي نجده مكوناً من أشياء؛ كالخشب والغراء والمسامير وغير ذلك من مواد .
(1/1984)

فالكرسي - إذن - " كُلٌّ " لأنه مصنوع من مواد كثيرة . وحقيقة الخشب تختلف عن حقيقة المسمار؛ لذلك فالكرسي " كُلٌّ " لأنه مكون من أشياء كثيرة مختلفة الحقائق . ولا يصح أن نطلق على أي شيء من مكونات الكرسي اسم " كُل " . فلا نقول : " المسمار كرسي " أو " الخشب كرسي "؛ لأن الكرسي يُطلق على مجموع الخشب والمسامير والغراء والطلاء في شكل وترتيب معين .
ومثال آخر ، كلمة " إنسان " وهي كلمة تطلق على كثيرين ، ولأن الحقائق متفقة نطلق على الإنسان كلمة " كُلّي " .
ويصح أن نطلق على أي كائن يتمتع بالصفات المتفق عليها للإنسان لقب إنسان ، فنقول محمد إنسان وزيد إنسان ، وعليٌّ إنسان . " فالكل " له أجزاء ، ولل " كلي " جزئيات ، ويكون الكل شيئا واحداً ولكنه ذو أجزاء ، فقد يكون عندنا كرسي واحد . ولكن لهذا الكرسي أجزاء .
وهل نقول على الحق سبحانه وتعالى : انه " كل " أو " كلي "؟ . لا نقول على اسم الحق " كل " أو " كلي "؛ لأنه اسم لا يطلق على كثيرين فليس كليا لأنه واحدٌ ، وليس له أجزاء؛ لأنه أحد ، وليس له أفراد لأنه واحد . فلا يقال لله سبحانه وتعالى " كل " أو " جزء " أو " كلي " أو " جزئي " ، فلو كان كُلٍّياً لكان - كما قلنا - له أفراد ولو كان " كُلاًّ " لكان له أجزاء ، ولكن الله واحد لا أفراد له ، وأحد لا أجزاء له .
ولذلك يَرُدُّ القرآن على أي قائل بغير هذا ، فيقول : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ]
ويقول أيضاً : { وإلهكم إله وَاحِدٌ } [ البقرة : 163 ]
وقد قلت كل ذلك لنفهم قوله الحق : { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً } [ النساء : 171 ]
وقوله الحق : " انتهوا " أي اقضوا على كلمات الباطل ، و " خيراً لكم " أي تمسكوا بكلمات الحق ، وفي قوله : " انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } تخلية وإبعاد لكلمات الباطل ، نأخذ ذلك من قوله : ( انتهوا ) وتحلية لكلمات الحق ونأخذها من قوله - سبحانه - : { خَيْراً لَّكُمْ } .
ويقول الحق : { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } أي أنه سبحانه لا أفراد له ، ويضيف : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } ، وساعة نسمع كلمة " سبحانه " فلنفهم أنها تنزيه للذات الخالقة .
ولذلك نجد كلمة " سبحانه " تأتي في الأمور العجيبة التي يقف فيها العقل ، وعلى الرغم من وجود كفار في هذا الوجود ، وعلى الرغم من وجود مجترئين على الله في هذا العالم ، وعلى الرغم من وجود من ينعتون البشر بألفاظ الألوهية ، إلاأن إنساناً واحداً لم يجترئ على أن يقول لمخلوق كلمة : " سبحانك " ، ولذلك نقول لله عز وجل " سبحانك أيضاً في سبحانك " .
(1/1985)

كذلك لم نجد أحداً من أي ملة أو عقيدة أو دين قد سمى نفسه باسم " الله " ، وهو سبحانه يتحدى به حتى الكفرة والملاحدة أن يسمى هذا الاسم لمسمى أي مسمى . وبالله هل يوجد واحد من المتبجحين الكافرين يسمي ابناً له " الله "؟ .
حتى هذه لم توجد؛ لأن هذا الكافر غير واثق أنه على حق . ومن الجائز أن يفعل ذلك فتحدث له كارثة . ولو كان هناك كافر واحد مؤمن بما يقول بأنه لا إله لهذا الكون لسمّى ابناً له " الله " . لكن أحداً لا يجترئ على هذه : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ]
وكان هذا التحدي موجوداً من قبل أن تنزل هذه الآية . فماذا عن الذي جاء بعدها بزمن؟ وهل اجترأ أحد على أن يسمي ابناً له " الله "؟ لم يجترئ أحد على هذه أيضاً على الرغم من أنهم يسمون بكل شيء؛ وكان عندنا في القرية واحد أطلق على ابنته اسماً طويلاً عجيباً . لقد سمّاها " ورد انتشي في دندشة روح الفؤاد والملك وفا " وهو حرّ في ذلك ، لكن لم يجرؤ أحد على الإطلاق أن يسمي ابنه " الله " ، وهذا دليل على أن الملاحدة والكفار على باطل . ويخاف أي منهم أن يجترئ على هذه المسألة ، ويتحدى الحق بسبحانك ويتحدى بالذات " الله " ، ولذلك فليقل كل واحد " سبحانك " وهو مطمئن ، " ولا تقال إلا لك " ، واستقرئوا وتتبعوا المدائح التي قيلت للناس جميعاً ، أقال واحد من البشر لواحد من البشر " سبحانك "؟
ما قالها أحد قط . وهكذا يتحكم الله في أمر للإنسان اختيار فيه ، ولا يجرؤ إنسان على إطلاق هذه الأسماء على أحد من البشر . { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } و " الولد " كما نعلم يكون مما في السموات أو مما في الأرض؛ فكيف يكون له وملكه ، وهو ابنه؟ إن هذا الادعاء لا يستقيم أبداً ، ولذلك يذيل الحق الآية : { وكفى بالله وَكِيلاً } .
ويقول الحق بعد ذلك : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح . . . }
(1/1986)

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
مصدر الشرف للإنسان أن يحس ويشعر بتجلي الله عليه بعبوديته له ، وسبحانه عندما أراد أن يتجلى على نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم ويسري به إلى المسجد الأقصى؛ قال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ]
ولم يقل : " سبحان الذي أسرى برسوله " ولكنه قال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } ؛ لأن " العبودية " عطاء علوي من الله ، فكأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم عندما تناهى في العبودية لله نال تناهي الخير ، فمن إذن يستنكف أن يكون عبداً لله؟ لا يستنكف المسيح ذلك ، وكذلك الملائكة لا تستنكف أن تكون عبيداً لله . { وَلاَ الملائكة المقربون } ويسمون ذلك ارتقاء في النفي ، مثلما يقول فلاح : لا يستطيع شيخ الخفر أن يقف أمامي ولا العمدة .
إذن فالملائكة في الخلق أحسن من البشر . ولذلك قال الحق : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون } وقال بعض العلماء : إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة ، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر والأصل في اللغات أن توضع الألفاظ أولأً لمحسّات ، ثم تنتقل من المحسّات إلى المعنويات؛ لأن إلف الإنسان في أول تكوين المدركات له إنما يكون بالحسّ ، كما قال الحق : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ]
إذن مادام سبحانه قد قال : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } فالذي يأتي من بعدها إنما يأتي كوسيلة للعلم ، وهي حواس السمع والإبصار والقدرة على تكوين الخبرة . ومثال ذلك عندما ندرس في الفقه موضوع الغصب . والغصب هو أن يأخذ أحد حق غيره قهراً وعلانية ، وهو غير السرقة التي يأخذها السارق خفية . وغير الخطف؛ لأن الخطف هو أن تمتد يد لتشد شيئاً من أمام صاحبه ويجري الخاطف بعيداً ، أما الغصب فهو الأخذ عنوة .
وكلها - الغصب ، والسرقة ، والخطف - هي أخذ لغير الحق ، والغصب مأخوذ من امر حسيّ هو سلخ الجلد عن الشاة . وسُمِّيَ أخذ الحق من صاحبه غصباً ، كأنه أخذ للجلد . ونُقل المعنى من المُحسّات إلى المعنويات . وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون } . و " يستنكف " مثلها مثل " يستفهم " ، ومثل " يستخرج " .
إذن فهناك مادة اسمها " نكف " ، و " النَّكْف " عملية حسّية تتمثل في أن يزيل الإنسان دمعة العين بأصبعه . ولنفرض أن إنساناً يعلم أن له كرامة في البيت وجاء له ظرف نفسي جعله يبكي ، فدخل عليه ابنه أو زوجته ، فهو يحاول إزالة الدمع بأصبعه . " واستنكف " معناها أزال " النَّكْف " .
(1/1987)

والنكف معناه أن يزيل الدمع بأصبعه . وإزالة الدمع بالأصبع تعني أن صاحب الدمع يستكبر أن يراه أحد باكياً لأنه مقهور على أمر قد كان ، وهذه العملية لا تحدث إلا عندما يريد الإنسان أن يستر بكاءه عن أحد .
وانتقلت هذه الكلمة من المعنى الحسيّ إلى أي مجال فيه استعلاء ، مثلما يستنكف إنسان أن يسير في طريق إنسان آخر ، أو أن يجلس مع آخر ، أو يجلس في مقعد أقل من مقعد آخر .
ويشرح ذلك المعنى الدارج بأن المسيح لا يجد غضاضة أن كان عبداً لله ، ولا يستكبر على ذلك بل هو يُشرف به . والملائكة المقربون أيضاً تشرف بهذا الأمر ، والملائكة المقربون هم الذين لا يعلمون شيئاً عن هذا العالم وليس لهم عمل إلا التسبيح لله؛ لأنهم عرفوا العبودية لله . وهي عبودية ليست لمن يَسْتَذِل ، لكنها لمن يُعزّ ، وليست عبودية للذي يأخذ ولكنها للذي يعطي . والذي يستنكف من ذلك لا يعرف قيمة العبودية لله؛ لذلك لا يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ، ولا الملائكة المقربون .
ويضيف الحق : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } المستنكفون؛ أو الذين على طريقة الاستنكاف ، ومن يشجعهم على ذلك ، كل هؤلاء يصيرون إلى جهنم .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ . . . }
(1/1988)

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
لماذا لم يأت الله بشرط الآية الثاني الذي يتحدث عن المستنكفين والمستكبرين مقدماً على شطر الآية الأول؟ . ولماذا لم يواصل الحديث عن الذين استنكفوا واستكبروا ليستكمل ما جاء بشأنهم في الآية السابقة ويبينْ كيف أن مصيرهم إلى العذاب حيث لا يجدون من دون الله ولياً ولا نصيراً ، ثم بعد ذلك يحدثنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟ .
ذلك أن الحق ساعة يتكلم عن جماعة خرجت عن المنهج فهو لا يمنحهم ثواب هؤلاء الذين لم يخرجوا عن المنهج ، فيأتي أوّلاً بثواب الطائعين ليستشرف إليه الخارجون عن طاعة الله ، ثم يحرمهم من هذا الثواب لتكون حسرة الخارجين عن المنهج أشد . " والضد يظهر حسنه الضد " .
لقد قال الحق : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } ونعلك أن الأجر على العمل . لماذا الفضل إذن؟ . لقد عرفنا من قبل أن العمل جاء فيه حديث شريف :
" لن يُدخل أحداً عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : لا ، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة ، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت ، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا ، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب "
والحق قد قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ]
وفطن الناس إلى ذلك فقالوا : " اللهم بالفضل لا بالعدل "؛ لأن الفضل هو الذي يعطينا المنازل المتميزة ، وقد يضيعنا العدل .
ويقول الحق مرة أخرى عن هؤلاء الذين استنكفوا واستكبروا : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي أنهم لن يجدوا من يشفع لهم عند الله ، ولا من ينصرهم ولا أحد بقادر أن يرد عنهم العذاب .
وبعد ذلك يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الناس . . . }
(1/1989)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
والبرهان هو الإعجاز الدال على صدق المبلغ الأخير عن الله ، وهو الحجة الدامغة .
وقد يقول قائل : ما هو البرهان وما هو النور؟ . ونعلم أن كل رسول يأتي بمعجزة تثبت صدق بلاغه عن ربه قد تكون المعجزة بعيدة عن المنهج ، ثم يعطيهم الرسول المنهج ببلاغ من الله؛ مثال ذلك أن معجزة سيدنا موسى كانت العصا لكن منهجه هو التوراة . إذن فالمعجزة هي البرهان على صدق الرسول فيما بلغ عن ربه ، وقد لا يكون للمعجزة صلة بالمنهج ، فعيسى عليه السلام كانت معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل .
اما رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم فقد تجلت معجزته في أنها عين منهجه ، إنّها القرآن ولم تنفصل المعجزة عن المنهج؛ لأنه رسول عام إلى الناس كافة وإلى أن تقوم الساعة . هذا هو البرهان . أما " النور " فقد جاء أيضاً من أمر حسيّ؛ لأن النور يمنع الإنسان من أن يتعثر في مشيته أو أن يخطئ الطرق أو أن يصطدم بالأشياء فيؤذيها أو تؤذيه . إذن النور الموجود في القرآن هو حقائق القيم ، أما نور الله في الماديات فهو أمر معروف للكافة .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ . . . }
(1/1990)

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
لقد آمنوا بالله واعتصموا به ، ما معنى الاعتصام؟ . قديماً كان الرجل عندما يقع في هوة يصرخ ليحذبه إنسان خارج الهوة بيده ، وهذا هو الأصل في الاعتصام ، أي يستمسك الإنسان بمن ينقذه من هاوية أو كارثة ، والحق يعطي الأسباب ، فإذا جاءت الشمس وسار فيها إنسان فقد أعطاه الله الشجرة ليستظل بها . وإذا ما نزل المطر فيمكن أن نستتر منه بمظلة ، وإذا عطش إنسان فالله يعطيه سبباً ليأخذ كوب ماء ، والعاقل هو الذي يذكر عند كل سبب من أوجد السبب .
فإياك أيها المؤمن أن تغتر بالأسباب؛ لأن عدم الاغترار بالأسباب يحمي الإنسان . فعندما تأتيه أمور في ظاهرها شر ، فمادام مجريها هو الله فهي خير بالتأكيد ، لكنك لا تعلم .
وما أضل علم الإنسان في كثير من المسائل؛ فالإنسان قد يحسب أمرا أنّه هو الحسن ، فيظهر له بعد حين أنه السوء ، وقد يعتبر إنسان أمرا هو السيئ ، فيظهر له بعد حين أنه الحسن ، ولا يوجد واحد منا إلا وفي حياته أشياء كان يظنها خيرا؛ فإذا بها شر ، أو كان يظنها شراً فإذا بها خير . والشر هو ما يأتيه الإنسان لنفسه بعمله ، أما الأمور التي تقع على الإنسان فحكمتها تمشي على مقتضى علم الله لا على مقتضى هوى البشر .
إننا نجد من يقول : إنني أدعو الله بكذا ولا يستجيب لي . ونقول : أنك تدعو بأشياء تظنها الخير لك؛ لكن الله يعلم أن هذه الأشياء ليست هي الخير؛ لذلك لا يعطيها لك ، فإن كنت مؤمناً بالله ومعتصماً به فأنت تهمس لنفسك : أَلِيَ في هذا الأمر مدخل أم لا مدخل لي فيه؟ . فإذا كان لك فيه مدخل فاللوم على نفسك . وإن كان الأمر قد أجراه عليك فهو خير لك ولله حكمة في ذلك .
وحَظِّي من الدنيا سواء لأنني ... رضيت بحكم الله في العسر واليسر
فإن أقبلت كان الجزاء على النجا ... وإن أدبرت كان الجزاء على الصبر
{ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } . وماداموا قد آمنوا بالله واعتصموا بالله واعتصموا به فسيهديهم صراطه المستقيم ، وعاقبة الهداية وثمرتها فسرها وبيّنها قوله الحق : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ]
وقال لنا الرسول صلى الله عليه وسلم :
" من عمل بما عَلِم ورّثه الله عِلْمَ ما لم يعلم "
أي يصير مأموناً على العلم؛ لأن العلم الذي أخذه عن الله وظَّفه في خدمة غيره ، ولم يدخره أو يعطله . ويختتم الحق سبحانه وتعالى سورة النساء بقوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ . . . }
(1/1991)

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
والاستفتاء هو طلب الفتيا . ومعناها إرادة معرفة حكم شرعي لله في أمر لا يجد السائل علماً له فيه . وكان الصحابة يستفتون رسول الله ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم :
" ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه "
وجاء القرآن في كثير من الآيات ب " يسألونك " . كأن الحق يعلمنا أن الصحابة أرادوا أن يثبتوا أنهم أحبوا منهج الله فأرادوا أن يبنوا حياتهم كلها على منهج الله ، ولو كانوا قد كرهوا منهج الله لما سألوا ، لقد وجدوا أن الإسلام قد جاء ، ووجد أشياء الجاهلية وأقرها ، ووجد أشياء قام بتغييرها؛ ولم يرد الصحابة أن يصنعوا الأشياء على أنّها امتداد لصنع الجاهلية ، بل أرادوا أن يصنعوها على أنها حكم للإسلام؛ لذلك جاءت أسئلتهم الكثيرة . والفتوى تكون في حكم . والسؤال يكون في حكم وفي غير حكم . وهم يطلبون الفتوى في الكلالة ، ودقة القرآن في إيجاز السؤال : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } وقد تقدم من قبل الحديث عن الكلالة : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } [ النساء : 12 ]
إلا أن الذي تقدم هناك كان عن الصلة من ناحية الأم ، وسؤال جابر بن عبدالله كان عن الصلة من ناحية الأب .
فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال :
( مرضت مرضا فأتاني النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وهما ماشيان فوجداني أغمي عليّ ، فتوضا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثم صبّ وَضوءه عليّ فأفقت فإذا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث " .
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة ، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض . وبعض العلماء قال : إن كلمة " كلالة " مأخوذة من كلال التعب؛ لأن الكلالة في الشرع هو من ليس له ولد ولا والد ، والإنسان بين حياتين؛ حياة يعولها والد ، وعندما يكبر ويضعف تصير حياته يعولها ولد؛ لذلك فالذي ليس له والد ولا ولد يعيش مرهقاً؛ فليس له والد سبق بالرعاية ، وليس له ولد يحمله في الكبر؛ لذا سمي بالكلالة .
وبعضهم قال : إنها من الإكليل؛ أي التاج . وهو محيط بالرأس من جوانبه والمقصود به الأقارب المحيطون بالإنسان وليس لهم به صلة أعلى أي من الآباء ، أو من أدنى أي من الأبناء .
{ إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } أي أن الكلالة هي أن يموت أحد وله أخت شقيقة أو أخت من أب فهي ترث النصف؛ وإذا ماتت هذه الأخت فالأخ يرثها سواء أكان شقيقاً أم أخاً لأب .
(1/1992)

وإن ترك الرجل الكلال أختين أو أكثر فلهما الثلثان مما ترك ذلك الأخ . وإن كان له إخوة من رجال ونساء ، فها هوذا قول الحق : { وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } . أي أن للذكر من الأخوة مثل حظ الأنثيين .
ويختم الحق الآية : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
أي أنه الحق يبين أحكامه خشية أن يصيب القوم الضلال . وقد علم سبحانه أزلاً بكل سلوك ، وكل خافية ، وهو العليم أبداً بما ينفع الناس جميعاً . وبذلك انتهينا بعون الله من خواطرنا في سورة النساء .
(1/1993)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
البداية - إذن - عن ضرورة الوفاء بالعقود وتحليل تناول بهيمة الأنعام كطعام . وسورة المائدة - كما نعلم - جاءت في الترتيب المصحفي بعد سورة النساء التي تتضمن الكثير من العقود الإيمانية؛ فقد تضمنت سورة النساء عقود الإنكاح والصداق والوصية والدَّين والميراث ، وكلها أحكام لعقود ، فكأن الحق سبحانه وتعالى من بعد سورة النساء يقول لنا : لقد عرفتم ما في سورة النساء من عقود ، فحافظوا عليها وأوفوا بها .
ونلحظ أن سورة البقرة جاءت بعدها سورة آل عمران ، وفي كلتيهما حديث عن الماديين من اليهود ، وسورة النساء والمائدة تواجه أيضاً المجتمع المدني بالمدينة بعد أن كان القرآن بمكة يواجه مسألة تربية وغرس العقيدة الإلهية الواحدة والنبوات . وقد خدمت سورة البقرة وسورة آل عمران مسألة العقيدة المنهجية والأنبياء ، وسورة النساء تتضمن حسم العقيدة الحكمية .
وها نحن أولاء أمام سورة المائدة التي يقول فيها الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } والحق يخاطب المؤمنين بالاسم الموصول ، ولم يقل : يا أيها المؤمنون " ، وهذا يدل على أن الإيمان ليس أمراً عابراً يمر بالإنسان فترة من الزمن؛ ولكن الإيمان يتجدد بتجدد الفعل حتى ينفذ المؤمن الأحكام التي جاء بها العقد الإيماني . وحين يتوجه الحق بخطابه للذين آمنوا ، إنما يؤكد لنا أنه لا يقتحم على أحد حياته ليكلفه ، وإن كان سبحانه كرب للعالمين قد خلق الخلق وأوجد الوجود وسخّره للخلق .
الله - سبحانه وتعالى - لم يستخدم هذا الحق ليأمر البشر بالإيمان ، بل دعا الناس جميعاً أولاً إلى الإيمان ، فمن آمن ينزل إليه التشريف بالتكليف ويكون القول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } أي يا من آمنتم بالله إلهاً . والإله لابد له من صفات تناسب الألوهية ، كطلاقة القدرة والجاه والحكمة والقهر . وسبحانه لا يكلف مَن لم يؤمن به ، بل يدعو من لم يؤمن إلى الإيمان ، ولذلك نجد أن كل آيات الأحكام تبدأ بالقول الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ } ؛ لأن لكل إيمان تبعة .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } ونعرف أن اللغة بها أسرة ألفاظ؛ ف " أوفوا " على سبيل المثال فيها " وفى " . والمصارع هو " يفي " ، وفي أفعالها " أوفى " و " وَفَّى " ، حسب المراحل المختلفة قوة وضعفاً وكثرة وقلة ، مثال ذلك قوله الحق : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ]
وقد قام سيدنا إبراهيم عليه السلام بالكثير من الإنجاز : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ]
ولا بد أن يكون قوله الحق : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } شرحاً لما قام به إبراهيم من مواجهة الابتلاء ، فالتوفية هي الإتمام . والحق يقول : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } أي عليكم يا من آمنتم بالله أن تتموا العقود .
(1/1994)

والتمام إما أن ينطلق إلى الأفراد ويشملها فلا ينقص فرد ، وإما أن يلتفت إلى الكيفيات فلا تختل كيفية ، هذا هو التمام . وقد يأتي إنسان بكل فصول الكتاب ويقرأها ، فيكون قد وفى قراءة كل الأجزاء ، ولكن الحق يريد أن يتقن الإنسان تنفيذ كل جزئية في كتاب التكليف . وسبحانه طلب منا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأن نصوم رمضان وأن نحج البيت إن استطعنا إلى ذلك سبيلا ، وقد يؤدي شخص كل هذه الأعمال وبذلك يكون قد قام بآداء التكليف ، لكن هناك إنسان آخر يؤدي كل جزئية بتمامها فلا يختصر شيئاً منها بل إنّه يوفيها بلا تدليس .
والحق هنا يخاطب المؤمنين : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } أي أننا أمام " إيمان " و " عقد " . وشرحنا معنى الإيمان ، أما العقد فهو العلاقة الموثقة بين طرفين ، وعلى كل طرف أن يلتزم بما عليه وأن يأخذ ما له . وسمي العقد عقداً؛ لأن العقد هو الربط ، أي شيء لا ينحل من بعد ذلك . ولذلك نسمي ما يستقر في مواجيد الناس ونفوسهم " عقيدة " . لأنها الأمر المعقود ، وليس الأمر الطارئ الذي يأتي اليوم وينتهي غداً . والشيء المعقود في نظر الفقه هو الأمر الذي لا يطفو إلى العقل ليُبحث من جديد ، بل إنه مستقر وثابت في القلب . ويأمر سبحانه بالوفاء بالعقود . والعقود - كما نعلم - هي جمع ل " عقد " وبالإسلام عقود كثيرة ، تبدأ بالعقد الأول وهو عقد الذر : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ]
ويريد سبحانه الوفاء بهذا العهد الأول فلا يأتي الإنسان ساعة التطبيق ويفر منها ، ثم نأتي إلى عهد الاستخلاف في الأرض وبه استخلف فيها آدم وذريته من بعده ، وإياك أن تظن أنك الأصيل في الكون حين تدوم لك الأسباب وتدين لك بعض الوقت . لا تظن أن الأشياء قد دانت لك بمهارتك أنت فقط ، وحين تبذر البذور في الأرض وتروي الأرض فاعلم أن الزرع ينبت بتسخير الله أَرْضَه لك .
وإياك من الظن لحظة تركب المهر أنك الخيال الفارس الذي روّض المهر ، لا ، إنه تسخير الحق للفرس . ونجد الفرس في بعض الأحايين يجمح ليقع الفارس من فوق ظهره ، لعلنا ننتبه إلى الجزئية التي لا يصح أن تغيب عنا ، فلو لم يذلل الله الخيل لنا لما استطعنا أن نركبها . { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71-72 ]
وعلى المؤمن أن يتذكر أيضاً أن الحق سبحانه ذلل الجمل لصاحبه ، وجعل الطفل الصغير يأمر الجمل فيرقد على الأرض؛ ليضع عليه الأحمال الثقيلة ، ويأمره فيقوم .
(1/1995)

أما إن واجه الثعبان أو الحية فهو لا يجرؤ على تذليلهما ، وهذا لفت من الحق للخلق لقدرته المطلقة؛ فقد ذلل لهم الكبير ، وأفزعهم أضعاف ذلك من الثعبان ذي الجسم الصغير . { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ]
ومن التذليل يأتي رضوخ بقية الكائنات للإنسان؛ فالحمار عند الفلاح يحمل السماد للأرض من بقايا فضلات الإنسان والحيوان ، ولا ينطق الحمار معترضاً ، ويأتي الفلاح ليرتقي في حياته ويصير شيخاً للخفر ، فيأمر أن يستحم الحمار ، ويشتري له السرج ليركبه وهو ذاهب للقاء المأمور في المركز ، ولم يعص الحمار في الحالتين . إنه التذليل .
إياك أن تظن أن مهارتك وحدها أيها الإنسان هي التي ذللت لك الكائنات ، فلو اعتمد الأمر على المهارة وحدها ، لذلل الإنسان البرغوث الصغير الذي يهاجمه في أي وقت ، وقد يفزعك ذلك البرغوث الصغير طوال الليل . وقد تسهر أسرة بأكملها من أجل قتل برغوث واحد . { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ]
ولذلك أمرنا الحق أن نقول قبل البدء في أي عمل " بسم الله الرحمن الرحيم " . وإياك أن تقبل على العمل بقوتك وحدها . فالعمل إنما ينفعل لك لأنه سبحانه قد أخضعه لك . وأنت تبدأ العمل باسم الله لأنه سبحانه الذي استخلفك وأخضع لك الكائنات المذللة .
ثم هناك ذلك العهد الذي قال فيه الحق لآدم : { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ طه : 123 ]
والعهد الذي قال فيه الحق : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ]
وهذا عهد لكل البشر ، والمسلمون عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة بأن ينصروه ويمنعوا عنه ما يمنعون عن أنفسهم . وعاهدوا الرسول في الحديبية .
إن الحق سبحانه يأمر بالوفاء بكل العقود ، وكل ما نتج عن قمة العقائد وهو الإيمان بالله؛ فما جاء من الله الذي آمنت به يُعتبر عقداً أنت شريك فيه ، لأن العقد يكون دائماً بين طرفين ، ولم يرغم الله أحداً على الإيمان به ، ولكن الإنسان يؤمن بالله اختياراً . ومادام المؤمن قد آمن بالله من طوع اختياره ، فلا بد أن يتبع منهجه .
ومن آمن هو الذي يذهب إلى الحق قائلاً : يارب إن ما تأمر به سأفعله . وهذا اعتراف بالعقد . وكتابة أي عقد إيماني هو تنفيذ لهذا العقد والتوقيع مع الله ، وبذلك يشترك العبد مع الله في هذا التعاقد؛ لأن إيمان العبد بالله يجعله طرفاً في العقد . والإله يشرع له ، وينفذ العبد التشريع ليلتقي الجزاء الأوفى .
العقد إذن قد يكون بين العبد وربِّه ، أو بين العبد وخلق الله المساوين له ، أو بين العبد ونفسه ، لكنهم أطلقوا على العقد الذي بين الإنسان ونفسه اسماً هو " العهد " وهو النذر ، كأن ينذر العبد الصيام أو الصلاة ، ويجب على العبد تنفيذ ما نذر به مادام عاهد الله على ذلك .
(1/1996)

والعقد الذي بين العبد وغيره من البشر وكذلك العقد بينه وبين نفسه إنما ينبعان من العقد الأساسي وهو العقد الأول . . إنّه الإيمان بالله .
إذن فقول الحق : { أَوْفُواْ بالعقود } أي نفذوا ما أمر الله به حلالاً ، وامتنعوا عن الشيء الذي جعله الحق حراماً . ولا داعي - إذن - للاختلاف في معنى " العقود " والتساؤل : هل هي العقود التي بين العبد وربه ، أو بين العبد والناس ، أو بين العبد ونفسه ، فكل ما نبع من العقد القمة هو عقد على المؤمن وإلزام عليه أن يوفي به .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } سبحانه يستهل السورة بالوفاء بالعقود ، ثم إعلان تحليل بهيمة الأنعام . ونعرف أن الإنسان قد طرأ على الكون ، وأنه سبحانه قد خلق الكون أولاً . ثم خلق الإنسان فيه ، وهذا من رحمة الله بالإنسان فلم يخلق الإنسان أولاً ، بل خلق له الشمس وأعد الكون قبل أن يخلق الإنسان ، وحين طرأ الإنسان على الكون وجد فيه قوام الحياة من الجماد ومن النبات ومن الحيوان .
وقمة المسخرات للإنسان هي الحيوان؛ لأن الجماد والنبات يخدمان الحيوان ، ويشترك الحيوان مع الإنسان في أنّ له حياة ودماء وجوارح . وجاء الحق عنا بالإعلان عن أعلى المنزلة في خدمة الإنسان وهو بهيمة الأنعام { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } ويأمرنا بأن نوفي بالعقود ، وله سبحانه وتعالى كل الحق فقد قدم لنا الثمن بخلق الكون مسخراً لنا وقمة المخلوقات المسخرة هي الأنعام . كأن { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } حيثية مقدمة من الحق . ونلحظ أنه جاء هنا بصيغة المبنى للمجهول في " أحلت "؛ لأن الإيمان جعلنا طرفاً في أن تكون بهيمة الأنعام حِلاً لنا .
ووقف العلماء عند " بهيمة الأنعام " . وفي اللغة العربية نجد صيغة " فعيل " التي تأتي بمعنى " فاعل " وتأتي بمعنى " مفعول " ، مثلما نقول " الله رحيم " أي أنه راحم؛ هو " فاعل " ، ونقول " فلان قتيل " أي مقتول أي مفعول به . و " بهيمة الأنعام " هنا تأتي بأي معنى ، أهي بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول؟ ، و " بهيمة " إن نظرنا إلى أنّها مبهمة؛ لأن أمورها مجهولة يصعب إدراكها علينا ولا نعرف حركتها أو إشارتها أو لغاتها التي تتفاهم بها فتكون فعيلة بمعنى مفعولة . وتصلح أن تكون فعيلة بمعنى فاعل؛ لأنها لا تفهم ، ونحن المبهمون عليها . ونقول : هي محكومة بالتسخير .
ولم يصنف الإنسان طعامها وهو العلف إلا بعد أن رآها وهي سائبة حرة تتجه إلى العلف لتأكله ، إذن فهي التي علمت الإنسان صنف علومها . فلا يقولن إنسان : إنها بهيمة لا تفهم ، وليعرف أنها لم تخلق لتفهم مسائل الإنسان ، لأنها مسخرة له وقد يتعلم هو منها .
(1/1997)

ودليلنا أن الله امتن على بعض المصطفين من خلقه بأن علمهم منطق الطير ، فقد حزّ في نفس الهدهد أن رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، وهو الطائر فقد فهم أن السجود لا يكون إلاّ لله الواحد القهار لا للشمس ، وهكذا نرى الإنسان يتعلم الكثير من أخلاق الحيوانات وعاداتها؛ ولذلك نجد هواة تربية الحيوانات يتعرفون على طعام هذه الحيوانات بعد أن يتتبعوها ويعرفوا ماذا تأكل ، وعن أي شي تبتعد ، والفلاح يقدم البرسيم للجاموس ولا يقدم له النعناع؛ لأنه رأى الجاموس وهو حرّ لا يأكل النعناع بل يأكل البرسيم ، وقال الحق على لسان النمل : { ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } [ النمل : 18 ]
نحن إذن الذين لا نفهم لغة النمل ، ونجد البهيمة محكومة بالغريزة ، لكن الإنسان يملك العقل ، لكنه يغطي عقله بالهوى .
وقول الله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ } دليل على أن الذي أحلها ، جعل التحليل لها في التسخير بدليل أن الحبل إن التف حول رقبة جاموسة أو رقبة خروف وقبل أن يختنق نجد الحيوان يمد رقبته ، فيقول الناس : لقد طلب الحلال ، فنادوا الجزار . وكأنه - وهو الحيوان - يطلب الذبح لينتفع الناس به ، وكأنه يحس بالخسارة إن ضاع لحمه بلا فائدة ، وهذا دليل على أنه مذلل ، أما الحيوان غير المحلل فمن العجيب أنه لو حدث معه ذلك لما مد رقبته .
والأنعام هي المذكورة في قوله الحق : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } [ الأنعام : 143 ]
وكذلك قول الرحمن : { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } [ الأنعام : 144 ]
إنها ثمانية أزواج؛ ثم ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم الظباء وحمر الوحش ، ولم يحرم إلا كل ذي ذنب كالسباع وكل ذي مخلب من الطير ، ولو لم يقيد الله هذا التحليل لانصرف بدون قيد ، ولأسأنا إلى أنفسنا بأكل الميتة والموقوذة والمتردية ، ولكن الحق أنقذنا من ذلك وحرم علينا تلك الأشياء الضارة .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } إذن فمن حق الله عليكم أيها المؤمنون أن توفوا بالعقود؛ لأنه قدم لكم الكون بكل أجناسه وكل عناصره لخدمتكم . وأحلّ أقرب الأجناس إلى الإنسان لما فيه من حياة وحس وحركة ، فيقول : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } ولو لم يضع الحق ذلك التشريع لأكَل الإنسان - وهو مُحْرِمٌ - بهيمة الأنعام ، وقد حرم سبحانه الصيد في اثناء الإحرام ، وكذلك في حمى الحرم . والحَرَم - كما نعلم - مركزه الكعبة ، وحول الكعبة المسجد .
وتختلف مناطق الإحرام وتسمى الميقات المكاني ، فالميقات المكاني للحج والعمرة لمن كان خارج الحرم ( ذو الحليفة ) وذلك للمتوجه من المدينة وهي ( آبار علي ) ، والجحفة وهي الآن ( رابغ ) للمتوجه من مصر والشام المغرب ، و ( يَلَمْلَم ) للمتوجه من تهامة ، و ( قَرْن المنازل ) للمتوجه من نجد اليمن ونجد الحجاز ، و ( ذات عرق ) للمتوجه من المشرق والعراق وغيره .
(1/1998)

أما الميقات المكاني للحج لمن بمكة فهو مكة نفسها ، أما ميقات العمرة المكاني لمن بالحرم فهو الخروج لأدنى الحل وهي الجعرانة ثم التنعيم ( مسجد عائشة ) ثم الحديبية .
والميقات الزماني للحج شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة ، أما ميقات العمرة الزماني فهو جميع السنة إلاّ إذا كان محرما بحج أو بعمرة أخرى أو كان ذلك قبل النفر لانشغاله بالرمي والمبيت فيمتنع الإحرام بها . والتنعيم والجعرانة والحديبية ، تلك هي حدود الحرم . والصيد في حدود الحرم حرم ، وفي كل زمان وعلى كل إنسان ، أما في غير الحرم ، فالصيد حرام لمن كان محرماً فقط ، وغير المحرم من حقه الصيد .
وبذلك يؤدب الحق سبحانه وتعالى خلقه ويجعلهم على ذكر دائم للمنهج فيأتي لهم في مكان ويقول لهم : الصيد محرم في هذا المكان ، والطعام والشراب محرم في هذا الزمان؛ كصوم رمضان . وعدة الشهور عندنا كمسلمين اثنا عشر شهرا . أربعة منها حُرُم . ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب .
وفي الميقات يحرم الصيد على الحاج فقط ، وهذا انضباط إيماني . وعندما يأتي الإنسان إلى الميقات فهو يحرم ، أي يغير وضعه ويلبس لباساً خاصا بالحج ، يلبسه كل الناس ليكون الكل سواسية؛ لأن الناس إنما يميزون بهندامهم وهيئاتهم ، فيأمر سبحانه أن يطرح الإنسان هذا التمايز من فور الإحرام . وما كان من الحلال أن يفعله المسلم قبل الميقات وقد منعه الإسلام منه لا يجرؤ على أن يفعله بعد الميقات والإحرام .
ويستطيع المسلم قبل الميقات أن يحلق ويتطيب ويصطاد ويقطع من النبات؛ لكنه ما إن يبدأ الإحرام يمتنع عن ذلك حتى يستعد لما يشحن أعماقه بالوجود مع المنعم لا مع النعمة ، هذا هو التهيؤ للدخول إلى بيت المنعم ، ولذلك يضع المسلم النعمة على جانب ليبقى مع المنعم . ويمنع الإنسان أن يصيد في الحرم محرماً كان أو غير محرم ليشعر الكل أن الحرم لله فقط . وتستعد كل النفوس للقاء المهابة . ويمتنع الإنسان من أول الميقات عن أشياء كثيرة بداية من الصيد والاستمتاع بالحقوق الزوجية؛ ثم يدخل منطقة يحرم فيها الصيد على كل الناس كرمز للمهابة .
ويحج المسلم في حياته مرة واحدة كأداء الفريضة؛ وفي كل مرة تحج وتقصد بيت ربّك يوضح الله لك فيها : لا تنشغل بالنعم لأنك ذاهب إلى المنعم ، ويمحو سبحانه بالحج كل الذنوب . { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فإن أردناها محرمين فهي صحيحة ، وإن أردناها للحرم فهي صحيحة؛ لأن الصيد محرم في منطقة الحرم للحاج أو لغيره .
ويذيل الحق الآية : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } وسبحانه بدأ الاية بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } هكذا نرى أن التذييل منطقي يتفق فيه آخر الآية مع صدرها؛ لأن الله حين يخاطب المؤمنين الذين آمنوا به ، فمن لوازم الإيمان أن ينفذوا حكم الله الذي آمنوا به ومادام المؤمن قد آمن بالله إلهاً فليتجه إلى ما يريده الله من أحكام ليفعلها لكن عمومية الآية قد تجعل واحداً يعزل الآية عن صدرها ، رغبة في التشكيك في الإسلام ، فيقول : إن الله يقول إنه يحكم ما يريد ، وقد أراد من الناس من يؤمن ومن لا يؤمن ، فكيف يقول : { يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } ، بينما لا يؤمن الكل؟ .
(1/1999)

ونقول : لا تعزل الآية عن صدرها؛ لأن الله إنما يخاطب في هذه الآية من آمن به رباً ، ومن آمن بالإله يعمد ويقصد ويتجه إلى ما يريده الله من حكم ليطبقه . ولا يعتقدَنَّ أحد أنّ الكافرين خارجون عن إرادته سبحانه في قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } فالذي تمرد على حكم الله يقتضيه المنطق أن يظل متمرداً على حكم الإله .
لكن المتمرد على حكم الله التكليفي الشرعي لا يجرؤ ولا يملك أن يكون منطقياً مع نفسه ، فإن حكم الله عليه بالضعف . فليقل للضعف : لا ، أنا لن أضعف وأنا قوي . لا أحد يملك من مثل هذا الأمر شيئاً . المتمرد يأخذه ملك الموت وهو غير مريض ، فماذا إذن يصنع تمرد المتمرد إزاء الموت؟
إذن هناك أمور يخضع فيها الإنسان - كل إنسان - لحكم الله . وخضوع الإنسان لحكم الله في بعض الأمور أقوى من خضوع المؤمن لها؛ لأن المؤمن حين آمن بالله يستقبل الموت - على سبيل المثال - كحكم من الله ، أما المتمرد الذي لا يصلي ولا يؤدي أي أمر تكليفي ، ويتعرض للأغيار بما فيها الموت ، فهو يعاني من كل ذلك مشقَّة وَحِدّة تفوق حدة استقبال المؤمن للأغيار أو الموت .
إذن فقوله الحق : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } هو قضية عامة؛ لأن الذي تمرد على حكمه سبحانه فيما له فيه اختيار ، كان من الواجب أن يكون منطقياً مع نفسه ، فيتمرد على حكم يجريه الله عليه ، وذلك بعكس كثير من الاحكام الوضعية فإنها لا تقوى على هذا التمرد ، ويكون هنا حكم الله أقوى؛ لأن المتمرد لن يجرؤ على الرد على أمر الله . فلا يظنن ظان أن الله جعل للاختيار في العبد طلاقة ، لكنه جعل للاختيار في العبد تقييداً ، وللقدرة القادرة طلاقة ، فإن تمرد متمرد على الإيمان؛ فلن يجرؤ على التمرد في أشياء أخرى . إذن فالله يحكم ما يريد .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . }
(1/2000)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
بداية هذه الآية تقول : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } وهي تأتي بعد آية اَحَلّت أشياءَ ، كأن الحق يقول للعبد : مادمت قد أعطيت فأنا أمنع عنك؛ أعطيتك أشياء وأمنعك أشياء . وسبحانه حين يخطر على الإنسان شيئاً ويمنعه منه؛ فهو يعطي هذا الشيء لأخ مؤمن ، ومادام الأمر كذلك فلا يستطيع ولا يصح أن تنظر إلى الشيء المسلوب منك فقط بل انظر إلى المسلوب من غيرك بالنسبة لك .
وعلى سبيل المثال حين يأمرك الحق : " لا تسرق " ، فأنت شخص واحد ، ويقيد سبحانه حريتك بهذا الأمر ، وقيد في الوقت نفسه حرية كل الناس بالنسبة إليك . وعندما تقارن الأمر بالنسبة لنفسك تجد أنك المستفيد أساساً؛ لأن كل الناس ستطبق حكم الله بألا يسرقوا منك شيئاً ، وفي هذا خدمة لكل عبد . وهب أن واحداً سرق ، إنه لن يستطيع أن يسرق من كل الناس . ولو سرق ألف من الناس شخصاً واحداً فما الذي يبقى له؟!
وحين يأمر الحق العبد ألا ينظر إلى محارم غيره ، فظاهر الأمر أنّه تقييد لحركة العبد ، لكن الواقع أنه سبحانه قيد حركة الناس كلها من أجل هذا العبد ، وأمرهم ألا ينظروا إلى محارم غيرهم .
إذن ساعة ترى أيها المسلم نهياً أمر به الله ، فلا تصب النهي عليك . ولكن صب النهي أيضا على كل الناس بالنسبة لك . وساعة يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } أي لا تجعلوا شعائر الله حلالاً . والشعائر هي معالم الدين كلها . ونقول " هذه الدولة شعارها النسر " معنى ذلك أننا إذا رأينا الشعار نعرف البلد . وكذلك أعلام الدول ، فهذا علم لمصر ، وذاك علم لانجلترا ، وثالث علم لفرنسا ، وكل محافظة في مصر - على سبيل المثال - تضع لنفسها شعاراً وعلماً ، إذن فالشعار هو المَعْلَم الذي يدل على الشيء . وشعائر الله هي معالم دين الله المتركزة في " افعل " و " لا تفعل " زماناً ومكاناً ، عقائد وأحكاماً .
لكن الشعائر غلبت على ما نسميه مناسك الحج ، وأول عملية في مناسك الحج هي الإحرام ، أي لا نهمل الإحرام . ومن شعائر الحج الطواف ، فلا تحل شعائر الله ، ووجب عليك أن تطوف حول البيت ، وكذلك السعي بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفات ، ورمي الجمار ، كل هذه شعائر الله التي أمر ألا يحلها المؤمنون ، أي أمر - سبحانه - ألا يتهاونوا فيها؛ لأن هذه الشعائر هي الضابط الإيماني . وأن ننظر إلى أن أمر الله لكل حاج أو معتمر بالإحرام هو أمر بالعزلة لبعض الوقت عن النعمة؛ لأن الإنسان يذهب للحج في رحلة إلى المنعم . وأن الإنسان يغير ملابسه بملابس موحدة ولا يتفاضل فيها أحد على أحد؛ لأن الناس في الحياة اليومية تتفاضل بهندامهم ، وتدل الملابس على مواقعهم الاجتماعية .
(1/2001)

وعندما يخلعون جميعاً ملابسهم ويرتدون لباساً جديداً موحداً ، تكون السمة المميزة هي إعلان الولاء لله .
وكذلك عندما يأتي الأمر بألا يقص الإنسان شعرة منه سواء أكان عظيماً في مجتمعه أم فقيراً ويتراءى الناس جميعاً وينظر بعضهم إلى بعض فيجدون أنهم على سواء على الرغم من اختلاف منازلهم وأقدارهم وتكون ذلة الكبير مساوية لذلة الصغير . وذلك انضباط إيماني لا بين الإنسان والمساوي له ، ولكنه الانضباط مع الكون كله ، بكل أجناسه . فالشجرة بجانب الحرم محرم على كل إنسان أن يقطعها أو يقطع جزءا منها . وبذلك يأمن النبات في الحرم ، وكذلك الحمام والحيوانات وأيضاً يأمن لإنسان؛ لأن الجميع في حَرمِ رب الجميع ، وتلك مسألة تصنع رعشة ورهبة إيمانية في النفس البشرية . وتكون فترة الحج هي فترة الانضباط الإيماني . وتتوافق فيها كل أجناس الوجود . فالإنسان يتساوى مع الإنسان ولا يلمس الحيوانَ كذلك النباتَ ، ويبقى الجماد وهو خادم الجميع من أجناس الكون؛ لأن الحيوان يخدم الإنسان ، والنبات يخدم الحيوان ، والجماد يخدم الكل ، وهو خادم غير مخدوم . ويصنع الحق حماية للجماد في الكعبة نفسها ، فيأمر الناس باستلام الحجر الأسود أو بتقبيله إذا تيسر ذلك أو بالإشارة إليه .
فهذا السيد العالي - الإنسان - على النبات والحيوان يأتي إلى جماد فيعظمه ويوقره ، فالذي لا يستطيع تقبيل الحجر الأسود عليه تحيته بأن يشير إليه بيده ، حتى يكون الحج مقبولاً منه؛ لذلك يتزاحم الناس للذهاب إلى الحجر الأسود ، وهكذا يكون الجماد مصوناً في بيت الله الحرام . ويعوضه الله بأن جعله منسكاً ، وجعله شعيرة وجعل الناس تزدحم عليه وتقبله بينما لا يقبل الإنسان الحيوان أو النبات ، لكنه يقبّل الجماد أدنى الأجناس . وهذه قمة التوازن الوجودي . فالإنسان المختار المتعالي على الأجناس يذهب صاغراً لتقبيل أو استلام الحجر الأسود بأمر الله .
ويرجم الإنسان حجراً آخر هو رمز إبليس ، وذلك حتى يعرف الإنسان أن الحجرية ليست قيمة في حد ذاتها ، ولكنها أوامر الآمر الأعلى ، حتى لا يستقر في ذهن الإنسان تعظيم الحجر ، فالحاج يقبل حجراً ويرجم ويرمي حجراً آخر .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } ؛ لأن الله جعل الشعائر لتحقق الانضباط الإيماني ، وبقاء ذكر الاستخلاف لله فلا يدعي أحد أنه أصيل في الكون ، بل الكل عبيد لله . والوجود كله هو سلسلة من الخدمة؛ فالإنسان يخدم الإنسان ، والحيوان يخدم الإنسان ، والنبات يخدم الإنسان والحيوان ، والجماد يخدم الكل؛ لكن لا أحد أفضل من أحد ، بل الجماد نفسه مسبح بحمد الله ، وقد لا يسبح الإنسان . { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ]
وهذا الأمر بعدم الحل لشعائر الله جعل كل عشيرة تأخذ حقا من التقدير والاحترام ، ولا يظنن ظان أن شعيرة من الشعائر ستأخذ لذاتها تقديساً ذاتياً ، بل كله تقديس موهوب من الله ويسلبه الله .
(1/2002)

{ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام } أي لا تحلوا الشهر الحرام ، أي عليكم أن تحرموا هذا الشهر الحرام ، فقد جعله الله شهراً حراماً لمصلحة الإنسان ، ويحمي به سبحانه عزة وذلة الإنسان أمام عدوه ، يحمي انكسار نفس الضعيف أمام القوي . فالقويّ القادر على القتال قد تهفو نفسه إلى أن يتوقف عن الحرب فترة يلتقط فيها الأنفاس ، ولو فعل ذلك لكان إعلاناً للتخاذل أمام الخصم ، ولذلك يأتي الحق بزمان يقول فيه : أنا حرمت الحرب في الأشهر الحرم . هنا يقول المقاتل : لقد حرم الله القتال في الأشهر الحرم ، وتلك حماية للإنسان ، وليذوق لذة الأمن والسلام والطمأنينة؛ فقد يعشق الإنسان القوي السلامَ من بعد ذلك .
لماذا إذن جاء الحق هنا بالشهر الحرام بينما نحن نعرف أن الأشهر الحرم أربعة؟ إن نظرنا إلى الأشهر الحرم كجنس فهي تطلق على كل شهر من الشهور الأربعة ، وإذا اعتبرنا الشهر الحرام أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة ، فالمعنى صحيح ونعرف أن الأشهر الحرم أربعة ، ثلاثة متصلة ، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد منفصل هو رجب ، وسبحانه وتعالى يعلم أن كل فعل من الأفعال لابد له من زمان ولابد له من مكان . فحبن لا يوجد حدث ، لا يوجد زمان ولامكان ، ولم يأت الزمان والمكان إلا بعد أن أحدث الله في كونه شيئاً . ولا يقولن واحد : متى كان الله ولا أين كان الله؛ لأن " متى " و " أين " من مخلوقات الله . وجعل سبحانه لكل حدث زماناً ومكاناً . ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليحمي عزة الناس وليجعل لهم من تشريعه الرحيم ستاراً يستتر فيه ضعيفهم ، ويراجع فيه قويُّهم لعله يرعوي ويرجع عن غيّه وظلمه فأوجد أماكن محرمة ، وأزمنة محرمة ، والأماكن المحرمة هي التي عند الحرم : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ]
حيث يُؤَمَّن الإنسان أخاه الإنسان إذا ما دخل الحرم . وكذلك في الزمان جعل سبحانه الأشهر الحرم .
لقد أخذ الحق الحدث للزمان والمكان . وكان القوي قديماً يحارب ويقترب من النصر . وعندما يهل الشهر الحرام يستمر في الحرب ، ثم يعلن أن الشهر الحرام هو الذي سيأتي بعد الحرب ، ولذلك يأمر سبحانه بعدم تغيير زمان الشهر الحرام؛ لأن الله يريد بالشهر الحرام أن ينهي سعار الحرب .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَلاَ الهدي } والهدي هو ما يهدي إلى الحرم؛ وهو جمع هدية ، وهناك من يقدم للكعبة هدية ، ومجموع الهدايا تسمى هدياً . وهدي الحرم إنما جعله الله للحرم؛ فالحرم قديماً كان بوادٍ غير ذي زرع ، ولم تكن به حيوانات كثيرة .
(1/2003)

وكانوا يأتون بالهدي معهم عندما يحجون ، لذلك حرم الله الاقتراب من الهدي لأنها هدايا إلى الحرم . والحجيج أفواج كثيرة ، وعندما يأتي أناس كثيرون في واد غير ذي زرع يحتاجون إلى الطعام ، ولا يصح أن يجعل المؤمن الهدي لغير ما أهدي إليه ، فقد يشتاق إنسان صحب معه الهدي إلى أكل اللحم وهو في الطريق إلى الكعبة فيذبحه ليأكل منه؛ وهذا الفعل حرام؛ لأن الهدي إنما جاء إلى الحرم ويجب أن يُهدى ويقدم إلى الحرم . وعلى الإنسان أن يصون هدي غيره أيضاً .
{ وَلاَ القلائد } وهي جمع " قلادة " والقلادة هي ما تعلق بالرقبة . وقديماً كان الذاهب إلى الحج يخاف على الهدي أن يشرد منه؛ لذلك كانوا يضعون حول عنق الهدي قلادة حتى يعرف من يراه أنه " هدي " ذاهب إلى الحرم . والهدي الأول هو الهدي العام الذي لا قلائد حول عنقه ، والقلائد تعبر عن الهدي الذي توجد حول رقابه قلائد وتدل عليه وتكون علامة على أنه مهدي إلى الحرم ، وقد يكون النهي هنا حتى عن استحلال القلادة التي حول رقبة الهدي حتى لا تضيع الحكمة . والحق سبحانه وتعالى حين يعبر بعبارة ما فهو يعبر بعبارة تؤدي المعنى ببلاغة .
وكانوا قديماً عندما لا يجدون قلادة يأخذون لحاء الشجر وقشره ويقطعون منه قطعة ويربطونها حول رقبة الهدي ، وذلك حتى يعرف الناس أن هذا هدي ذاهب إلى الحرم . ويضمن سبحانه اقتيات الوافد إليه . لا من القوت العادي ولكن يطعمه من اللحم أيضاً ، ويجعل ذلك من ضمن المناسك . أليس هو من دعا هؤلاء الناس إلى الحج؟ أليس هؤلاء هم ضيوف الرحمن؟!
إن الإنسان منا يقوم بذبح الذبائح لضيوفه ، فما بالنا بالحق الأعلى سبحانه وتعالى؟ لذلك جعل الهدي طعاماً لضيوفه . وتزدحم الناس في منى وعرفات بكثرة لا حدود لها ، ولابد أن يكرمهم الله بألذ وأطيب الطعام ، والفقير يذهب إلى المذبح ويأخذ من اللحم أطيبه ويقوم بتجفيفه في الهواء والشمس ويخزنه ليطعم منه طويلا وهو ما يعرف ويسمى بالقديد . والحق سبحانه وتعالى يأتي بالحكم بطريقة لها منتهى البلاغة ، فهو يحرم حتى قلادة الهدي أن يلمسها أحد .
ويقول سبحانه : { وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } أي لا تمنعوا أناساً ذاهبين إلى بيت الله الحرام ولا تصدوهم عن السبيل ، فهم وفد الله . وقد جاء هذا القول قبل أن يُنَزَّل الحق قوله : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ]
وكان غير المسلمين يحجون بيت الله الحرام من قبل نزول هذه الآية ، فلم يكن الحكم قد صدر . ونتساءل : هل الكافرون بالله يبتغون فضلاً من الله؟ . نعم ففضل الله يغمر الجميع حتى الكافر ، لكن رضوان الله لا يكون على الكافر .
(1/2004)

والفضل من التجارة التي كانوا يتاجرون بها ، وفضل الله موجود حتى في أيامنا هذه على الكفار أيضاً .
لكن كيف يتأتى رضوان الله على الكافر؟ . إنه رضوان الله المتوهم في معتقدهم . فهم يعتقدون أنهم يفعلون ذلك إرضاءً لله . وتتجلى دقة القرآن حين يقول : { فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } ، فلم يقل : فضلاً من الله ورضواناً؛ لأن العبد المؤمن هو من يختص بتنفيذ التكاليف الإيمانية .
ولله عطاءان : عطاء الربوبية ، فهو المربي الذي استدعى إلى الكون المؤمن والكافر - وسبحانه - سخر الأسباب للكل؛ هذا هو عطاء الربوبية ، فالشمس تشرق على المؤمن والكافر ، والأسباب قد تعطي المؤمن والكافر ، أما عطاء الألوهية فيتمثل في " افعل " و " لا تفعل " . ويقول الحق هنا : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ } . إذن فجناحا المنهج الإيماني - افعل ولا تفعل - ليست في بالهم . ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } أي إذا انتهى الإحرام ، وبعد أن يخرج الحاج من الحرم ويتحلل من إحرامه فمن حقه أن يصطاد .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } وقبل أن ينزل تحريم زيارة المشركين للبيت الحرام كان من حسن المعاملة ألا يأخذ المؤمنون الكفار الذين يزورون البيت الحرام فيعتدوا عليهم انتقاماً لما فعله الكفار من قبل؛ لذلك أمر الحق المؤمنين ألا يقولوا : ها هم أولاء قد جاءوا لنا فلنرد لهم الصاع صاعين مثلما فعلوا معنا في صلح الحديبية عندما منعونا من البيت الحرام . لأنكم أيها المؤمنون قد أخذتم من الله القوامة على منهجه في الأرض ، والقائم على منهج الله في الأرض يجب ألا تكون له ذاتية ولا عصبية أسرية ، ولا عصبية قبلية؛ لأنه جاء ليهيمن على الدنيا كلها ، ومن الصَّغار أن ينتقم المؤمن من الكافر عندما يأتي إلى بيت الله . ولا يليق ذلك بمهمة القوامة على منهج الله .
ولذلك قال الحق لرسوله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ]
وحينما أمر الحق رسوله أن يحكم بين الناس فذلك الحكم يقتضي عدم تمييز المؤمن على الكافر؛ لأن المسلمين هم القُوَّام ، وهم خير أمة أخرجها الله للناس كافة . ولو فهم الناس أن خير الأمة الإسلامية عائد عليهم لما حاربوها .
فنحن - المسلمين - لسنا خيراً لأنفسنا فقط ، ولكننا أمة لخير الناس جميعاً . ولذلك قال الحق : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } أي لا يصح أن يحملكم الغضب على قوم أن تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية . وعندما يسمع الكافر أن الله سبحانه وتعالى يوصي من آمن به على من كفر به ماذا يكون موقفه؟ إنّه يلمس رحمة الرب . وفي ذلك لذع للكافر لأنه لم يؤمن ، لكن لو اعتدى المؤمن على الكافر رداً على العدوان السابق ، لقال الكافر لنفسه : لقد رد العدوان .
(1/2005)

أما حين يرى الكافر أن المؤمن لم يعتد امتثالاً لأمر الله بذلك ، عندئذ يرى أن الإسلام أعاد صياغة أهله بما يحقق لهم السمو النفسي الذي يتعالى عن الضغن والحقد والعصبية ، ويعبر الأداء القرآني عن ذلك بدقة ، فلم يأت الدين ليكبت عواطف أو غرائز ولا يجعل الإنسان أفلاطونياً كما يدعون . ولم يقل : اكتموا بغضكم ، ولكنه أوضح لنا أي : لا يحملكم كرههم وبغضهم على أن تعتدوا عليهم . فسبحانه لا يمنع الشنآن ، وهو البغض ، لأنه مسألة عاطفية .
فسبحانه يعلم أن منع ذلك إنما يكبت المؤمنين وكأنه يطلب منهم الأمر المحال . لذلك فالبغض من حرية الإنسان . ولكن إياك أن يحملك البغض أو الكره على أن تعتدي عليهم .
ونرى سيدنا عمر يمر عليه قاتل أخيه زيد بن الخطاب ، يقول له أحدهم : هذا قاتل زيد ، فيقول عمر : وماذا أصنع به وقد هداه الله إلى الإسلام ، فإذا كان الإسلام جبّ الكفر ألا يجب دم أخٍ لعمر؟ ولكن عمر - رضي الله عنه - يقول لقاتل أخيه :
عندما تراني نحّ وجهك عني . قال ذلك لأنه يعرف دور العاطفة ويعرف أنه لا يحب قاتل أخيه ، فقال قاتل أخي عمر : وهل عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ فقال غمر : لا . بل تأخذ حقوقك كلها . فقال قاتل أخي عمر : لا ضير؛ إنما يبكي على الحب النساء . فالإيمان هو الذي منع عمر من أن ينتقم من قاتل أخيه .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } اي أنه سبحانه لا يمنع مواجيد المؤمنين ووجدانهم وضمائرهم وقلوبهم التي تنفعل بالبغض والكره؛ لأنه يعلم أن ذلك لا يطيقه الإنسان؛ لأنها أمور عاطفية . والعواطف لا يقنن لها بتشريع . ولكن اعلموا أن هذه العواطف لا تبيح لكم الاعتداء .
وهكذا يتدخل الإسلام في الحركة الإنسانية ليفعل الإنسان أمراً أو يتجنب فعل أمر ما؛ فالإسلام لا يتدخل إلا في النزوع وهي تعبير عن مرحلة لاحقة للإدراك الذي يسبب للإنسان العاطفة محبة أو كراهية ، ثم يعبر الإنسان عن هذه العاطفة بالنزوع؛ لأن مظاهر الشعور ثلاثة : إدراك ، ووجدان ، ونزوع ، فحين يمشي إنسان في بستان فيه أزهار ويرى الوردة فهذا إدراك ، ولا يمنع الإسلام هذا الإدراك . وعندما يعجب الإنسان بالوردة ويحبها فهذه حرية ، لكن أن تمتد اليد لتقطف الوردة فهذا ممنوع .
إن التشريع لا يتدخل في العملية النزوعية فقط إلا في مجال واحد وهو ما يتعلق بالمرأة . إن الإسلام يتدخل من أولى المراحل من مرحلة الإدراك . فالرجل حين يرى امرأة جميلة فهذا إدراك ، وعندما ينشغل قلبه بحبها فهذا وجدان ، لكن أن يقترب منها الإنسان فهذا نزوع .
لقد رأف الحق بالرجل ان أمره أن يغض البصر من البداية؛ لأن الإنسان لن يستطيع مطلقاً أن يفصل بين الإدراك والوجدان والنزوع .
(1/2006)

فكل من الإدراك والوجدان يصنعان تفاعلاً في التركيب الكيماوي للرجل . فإما أن يعف الإنسان نفسه ويكبت أحاسيسه ، وإما ألا يعف فيلغ في أعراض الناس؛ لذلك يخدم الشرع الإنسان من أول الأمر حين يأمره بغض البصر : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } [ النور : 30-31 ]
هنا يتدخل الشرع من أول مرحلة الإدراك ، فبعدها لا يمكن فصل النزوع عن المواجيد؛ لأن رؤية المرأة تحدث تفاعلاً كيماوياً في نفس الرجل ، وكذلك الرجل يحدث تفاعلاً كيماوياً في نفس المرأة . أما الوردة فلا تحدث مثل هذا التفاعل . ويستطيع الإنسان اقتناء زهرية للورود .
إذن فالمراد أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع المؤمن أن تجيش عواطفه البشرية بالبغض وبالكره؛ لأن ذلك انفعال مطلوب للإيمان . وبعض من أعداء الإسلام يقول : آيات القرآن تتعارض؛ لأنه يقول : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ } [ المجادلة : 22 ]
والنسب الإيماني يمنع ذلك .
ويقول القرآن في موضع آخر { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ]
والذي يتعمق جيداً يعرف أن المعروف يصنعه الإنسان مع من يحب ومن لا يحب . أما الودّ فهو عمل القلب ، وهذا ما نهى عنه الله بالنسبة للمشركين به ، أما المعروف فالمسلم مطالب أن يفعله حتى بالنسبة لمن يكرهه .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } إذن فالحق لم يمنع البغض . ولكنه منع النزوع المترتب على الشنآن ولو وُجد سبب من الأسباب كما حدث في صلح الحديبية . وبعد ذلك يأمر : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } .
وهذه الآية هي التي تجعل مسألة الإيمان قضية عالمية ، وكلمة " تعاون " على وزن " تفاعل " ، والتفاعل يأتي من اثنين؛ مثلما نقول " تشارك "؛ فهي تقتضي اثنين؛ كأن نقول : تشارك زيد وعمرو أو : شارك زيد عمراً أو شارك عمرو زيداً . وكلاهما متساو . . اللهم إلا تغليب واحد بأن يأتي فاعلا مرة ومفعولا مرة ثانية ، والفاعل في هذه الحالة فاعل ومفعول في آن واحد ، والمفعول أيضاً فاعل في الوقت نفسه .
ومثال ذلك قولنا " قاتل فلان فلاناً " أي أن الاثنين اشتبكا في قتال أي مفاعلة . وساعة يأتي اثنان في فعل واحد ، فهناك فاعل ومفعول . وهناك فرق بين أن تقول : أعن فلاناً ، فالمطلوب هنا أمر لواحد بالمعاونة لآخر .
وهذا يختلف عن القول : تعاون مع فلان ، أي أن تتشاركا معاً في المعاونة . ومسائل الحياة أكثر من أن تستوعبها موهبة واحدة . فأنت حين تبني بيتاً تحتاج إلى من يحفر الأساس ويبني الجدران .
(1/2007)

ومن يصنع الطوب ومن يصنع الأسمنت ومن يصنع الحديد ، ولا يستطيع إنسان واحد أن يتعلم كل هذه الحرف ليبني بيتاً . لكن التعاون خصص لكل إنسان عملا يقوم به ، فهناك متخصص في كل جزئية يحتاج إليها الإنسان في حياكة الملابس ، والطب ، والصيدلة وغيرها من أوجه احتياجات الحياة ، والحق يأمر : " وتعاونوا " ليسير دولاب الحياة ويستفيد الإنسان من كل المواهب لقاء إخلاصه في أداء عمله ، و " تعاونوا " هي أن تأتي بشيء فيه تفاعل ما ، ومعنى الشيء الذي فيه تفاعل أنه يوجد " مُعين " و " مُعان " .
ولكن المعين لا يظل دائماً معينا ، بل سينقلب في يوم ما إلى أن يكون مُعانا ، والمعان لا يظل مُعانا ، بل سيأتي وقت يصير فيه مُعينا ، وهذا هو التفاعل الذي تحتاج إليه أقضية الحياة التي شاءها الله للإنسان الخليفة في الأرض والمطالب أن يعبد الله الذي لا شريك له ، وأن يعمر هذه الأرض . ولا تتأتى عمارة الأرض إلا بالحركة فيها ، والحركة في الأرض أوسع من أن تتحملها الطاقة النفسية لفرد واحد ، بل لا بد أن تتكاتف الطاقات كلها لإنشاء هذه العمارة .
إننا حين نبني عمارة واحدة نستخدم أجهزة كثيرة لطاقات كثيرة بداية من المهندس الذي يرفع مساحة القطعة من الأرض ويرسمها ، وإن شاء الترقي في صنعته يصنع نموذجا مجسدا لما يرغب في بنائه ، وبعد ذلك يأتي الحافر ليحفر في الأرض ثم من يضع الأساس ، ومن يضع الحديد . ومن يصنع " الخرسانة " المسلحة .
ثم يأتي من يرفع البناء ، ومن يقوم بالأعمال الصحية من توصيلات للمياه والمجاري ، ثم يأتي من يصمم التوصيلات الكهربائية ، وهكذا تتعاون طاقات كثيرة لبناء واحد ، ولا تتحمله طاقة إنسان واحد .
إذن فالتعاون أمر ضروري للاستخلاف في الحياة . ومادام الإستخلاف في الحياة بقتضي من الإنسان عمارة هذه الحياة ، وعمارة الحياة تقتضي ألا نفسد الشيء الصالح بل نزيده صلاحا ، وحين يقول الحق : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } أي انه يريد كوناً عامراً لا كوناً خرباً . والشيء الصالح في ذاته يبقيه على صلاحه . إذن فعمارة الحياة تتطلب منا أن نتعاون على الخير لا على الإثم .
والبر ، ما هو؟ البر هو ما اطمأنت إليه نفسك؛ والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه أحد ، فساعة يأتي إليك أمر تريد أن تفعله وتخاف أن يراك غيرك وأنت ترتكبه فهذا هو الإثم؛ لأنه لو لم يكن إثما لأحببت أن يراك الناس وأنت تفعل ذلك . إذن قوله الحق : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } هو أمر لكل جماعة أن تتعاون على الخير ، وهذه مناسبة لأقول لكل جماعة :
تعاونوا معاً بشرط ألا تجعلوا لجمعياتكم نشاطاً يُنسب إلى غير دينكم .
(1/2008)

مثال ذلك الجمعيات المسماة ب " الروتاري " أو " الماسونية " ويقال : إن نشاطها خيري . ونقول : كل جمعية خيرية على العين والرأس ولكن لماذا تكونونها وأنتم تقلدون فيها الغرب؟ لماذا لا تصنعون الخير باسم دينكم فيعرف العالم أن هذا خير قادم من بلاد مسلمة . والخير كل الخير ألا نأخذ هذه الأسماء الأجنبية ونطلقها على جمعياتنا حتى لا يظنن ظان أن الخير يصنعه غيرنا . وإن كان للواحد منا طاقة على العمل الخيري؛ فليعمل من خلال الدين الإسلامي . وليعلم كل إنسان أن الدين طلب منا أن تكون كل حياتنا للخير . وهذا ما يجب أن يستقر في الأذهان حتى لا يأخذ الظن الخاطئ كل من يصيبه خير من هذه الجمعيات بأن الخير قادم من غير دين الإسلام .
إننا مكلفون بنسبة الخير الذي يقوم به إلى ديننا؛ لأن ديننا أمرنا به وحثنا عليه ، وليعلم كل مسلم أنه ليس فقيراً إلى القيم حتى يتسولها من الخارج ، بل في دين الإسلام ما يغنينا جميعاً عن كل هؤلاء . وإذا كنا نفعل الخير ونقدم الخدمة الاجتماعية للناس فلماذا نسميها هذا الاسم وننسبها إلى قوم آخرين ، ولنقرأ جميعاً قول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين } [ فصلت : 33 ]
فعلى الإنسان منا أن يعمل الخير وهو يعلن أن الإسلام يأمره بذلك ، ولا ينسب عمل الخير إلى " الروتاري " أو غير ذلك من الجمعيات . فنسبة الخير من المسلم إلى جمعيات خارجة عن الإسلام حرام على المسلم؛ لأنه تعاون ليس لله ، والحق يقول : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } هو يريد منا أن نبني الخير وأن نمنع الهدم ، وعلى كل منا أن يعرف أنه لا يستطيع وحده أن يقيم كل أبنية الخير .
وقد نسأل الفقير صاحب الثوب الواحد من أين أتى برغيف الخبز ، فيشير إلى بقال أعطاه هذا الرغيف . ونلتفت إلى أن الله قد سخر هذا البقال أن يأتي بالخبز ليشتري منه كل الناس ، ويتصدق ببعضه على الفقير . وهذا تيسير أراده الله . وعندما نذهب إلى المخبز ، نجد أن الدقيق جاء إلى المخبز من المطحن ، وفي المطحن نجد عشرات العمال والمهندسين يعملون من أجل طحن الدقيق الذاهب للمخبز ليعجنه واحد ، ويخبزه آخر ، ويبيعه ثالث .
ويجب أن نلتفت هنا إلى قدرة الله الذي سخر بعضا من الممولين الذين فكروا في خير أنفسهم واشتروا هذه الآلات الضخمة للطحين وإنضاج الخبز ، وهي آلات لا يستطيع الفرد أن يشتريها بمفرده ، لارتفاع ثمنها وتأتي من الدول الأجنبية ، وتلك الدول فيها من المعامل والعلماء الذين يدرسون الحركة والطاقة من أجل تصميم هذه الأجهزة ، ليأكل الإنسان رغيفاً واحداً .
(1/2009)

هذه هي مشيئة الحق من أجل أن تنتظم كل حركة الحياة؛ فالرغيف يعرضه البقال ، وعمل فيه الخباز ومن قبله الطحان ، والعجان ومن استورد الآلة؛ ومن صممها ، وشاركت فيه المدرسة التي علمت المهندس الذي صمم الآلة؛ كل ذلك عمل فيه تعاون من أجل خدمة رغيف الخبز ، على الرغم من أن الإنسان منا لا يفكر في رغيف الخبز إلا ساعة أن يجوع .
إذن فحركة الحياة كلها تم بناؤها على التعاون . لكن ماذا إن تعاون الناس على الإثم؟ إنهم إن فعلوا ذلك يهدمون الخير؛ لأن التعاون على الإثم إنما يبدأ من كل من يعين على أمر يخالف أمر الله ، وأوامر الله تنحصر في " افعل " و " لا تفعل " ، ما ليس فيه " افعل " و " لا تفعل " فهو مباح ، إن شئت فعلته وإن شئت لا تفعله . والذي يأمر بتطبيق " افعل " ويحزم الأمر مع " لا تفعل " وينهى عنه ويجرِّم من يفعله هو متعاون على البر والتقوى .
ومن يعمل ضد ذلك؛ يتعاون على الإثم والعدوان؛ لأنه ينقل الأفعال من دائرة " افعل " إلى دائرة " لا تفعل " . وينقل النواهي من " لا تفعل " إلى دائرة " افعل "؛ هذا هو التعاون على الإثم .
وقوله الحق : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } ضَمِن عمارة الكون وضَمِن منع الفساد في الكون . فالذي يرتشي والذي يسهل عملية الرشوة ، وهو الوسيط والسفير بين الراشي والمرتشي ويُسمَّى الرائش والذي يحمل الخمر والذي يدلس ، كل هؤلاء متعاونون على الإثم والعدوان ، حتى البواب الذي يجلس على باب عمارة ويعلم أن بها شقة تدار لأعمال مشبوهة ويأخذ ثمن ذلك هو متعاون على الإثم .
نقول لكل هؤلاء : إياكم أن تفتنوا بما يدره عليكم فعل الإثم؛ لكن لننظر مصير كل منكم فلن يترك الله أمثالكم دون أن ينهي الواحد منكم حياته بمأساة ، حتى المرأة التي استنزفت الناس بجمالها ، تنتهي حياتها بالضنك من العيش ثم لا تجد مأوى إلا القلوب الرحيمة التي لم تفتتن بهذا الجمال ولم تتمتع به في الحرام؛ لأن الرجل إن نظر إلى امرأة أعانته على أفثم سيتذكر كل المصائب التي جاءته منها فيكرهها .
لقد أراد الحق بهذا عدالة في الكون ليستقيم ، وكل من يأخذ شيئا من إثم يكتوي بنار هذا الإثم في الحياة ، وكل فرد فيكم مطالب بعمل حصر وإحصاء للمال الذي جاءه من عرقه وحلاله ويكتبه ، والقرش الذي جاءه من حرام . وبعد ذلك يقوم بعمل حصر وإحصاء للكوارث التي أصابته . وكم كلفته من مصاريف .
إنه لو فعل ذلك لوجد أن الكوارث تأخذ كل الحرام وتجوز على المال الذي كسبه من حلال . ولا تختلف هذه المسألة أبداً ولا يتركها الله للآخرة؛ فسبحانه يريد أن يعدل نظام الكون ، وإلا كيف يشهد من لا يؤمن بيوم الحساب قدرة الله على إجراء التوازن في كونه؟ إن الحق أراد الحساب في الدنيا حتى لا يعربد من لا يؤمن بيوم الحساب في كون الله .
(1/2010)

إن كل معربد سوف يرى مصير معربد سبقه . كذلك الذين يتمتعون بثمرات الإثم في هذه الدنيا يجب أن يفطنوا إلى نفوسهم قبل أن يفوتهم الأوان ، المعذور فقط هم الأطفال الذين لا نضج لهم ولا دراية؛ لأنهم يعيشون من أموال الإثم . لكن ما إن يبلغ الولد الرشد وكذلك البنت ثم ترى مالا يتدفق عليها من مصادر غير حل ، عليها أن تستحي من شراء " فستان " من هذا المال أو أن تأكل منه لقمة خبز ، وليفطن الإنسان أن الله قد أباح للإنسان أن يسأل عن مصدر المال حتى لا يأخذ لنفسه من المال الموبوء الخبيث . وأن يسأل الإنسان الصدقة خير من أن يصرف على نفسه مالاً موبوءا . ولن يترك الحق مثل هذا الإنسان سائلا أبداً .
وليكتب كل واحد منكم هذا القول الكريم أمامه : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } . وليجعلها ميزاناً يزن بها صور الذين يراهم في الكون؛ حتى ولو كانت صورة سائق التاكسي الذي يدلس على رجل وامرأة في طريق مظلم ويأخذ أجراً على هذا ، ليحسب هذا الرجل النقود التي ستأتي من هذا الباب ، وليحسب النقود التي ستخرج على ألم فيه ، أو ألم فيمن يرعى من ولد أو بنت .
{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } وصور العدوان شتى يعاني منها المجتمع وتهزه بعنف ، عدوان على الوقت لأن الإنسان يأخذ أجراً على العمل ولا يقوم به ، وعدوان يضرُّ به إنسانا بأن يأخذ حقه أو أن يرتشي ، كل ذلك عدوان . وحتى يصير المجتمع مجتمعا إيمانيا سليما لا بد أن يحافظ على قضية الاستخلاف في الأرض ، وأن يعلم أن هذا يقتضي عمارة الكون وعدم الإفساد فيه .
{ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } فكأن هذه المخالفات السابقة التي تحدث هي نتيجة عدم التعاون على البر ، ونتيجة التعاون على الإثم والعدوان ، ولهذه المخالفة عقاب شديد ، أما التقوى فمعناها أن نفعل ما أمر به الله أن نفعله ، وأن ننتهي عما نهى الله عنه ، فلا ننقل فعلاً من دائرة " لا تفعل " إلى دائرة " افعل " وكذلك العكس . وبذلك نجعل بيننا وبين الجبار وقاية .
وبعض السطحيين قد ينظر إلى بعض من آيات القرآن ويقول : إن بها تناقضاً؛ فيقولون : بعض من آيات القرآن تقول : { اتقوا النار } ، وبعض الآيات تقول : { اتقوا الله } فهل للنار وقاية؟ وهل لله وقاية؟ وهؤلاء لا يفهمون أن " اتقوا " تعني : اجعل وقاية بينك وبين ما يؤذيك ويتعبك ، ف { اتقوا الله } تعني اجعل بينك وبين عقاب الله وقاية وهي الدرع التي يقيمها الإنسان بتنفيذ أوامر الله ب " افعل " والامتثال لنواهي الله ب " لا تفعل " .
(1/2011)

وعندما تجعل بينك وبين الله وقاية ، فأنت تجعل بينك وبين غضب الله وقاية ، وهكذا تتساوى " تقوى الله " مع " اتقاء النار " .
ويذيل الحق الآية { إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } . إنّ ما يجعل الناس تتهاون في التعاون على البر ويجترئون على الإثم أنهم لا يجدون من مجتمعاتهم رادعاً ، ولو وجدوا الردع من المجتمع لحمى المجتمع أفراده من الإثم . وإن صار للمجتمع وعي إيماني لقاطع المخالفين وأشعرهم بأنهم منبوذون ، وساعة يرى أمثال هؤلاء الناس أنهم منبوذون من المجتمع الإيماني فهم يرجعون إلى المنهج الحق .
فما يغري الناس على الجرائم الكبيرة إلاّ تهاون المجتمع في الجرائم الصغيرة . ولذلك يلفتنا الحق أنه لن يترك الأمر كما تركه بعض من خلقه؛ لأن الخلق قد يجاملون وقد لا يقفون أمام ما يفعله بعضهم من آثام ، لكن الله شديد العقاب ، سيأتي العقاب في وقت ليس للفرد فيه جاه من مال أو حسب أو نسب يحميه من الله ، فإن أطمعك ضعف المجتمع في أن تتعاون على الإثم فعليك أن تخاف الله؛ لأن عقابه شديد .
وكيف يأتي العقاب إلى المذنب؟ لا نعرف؛ لأننا لسنا آلهة ، ونجد العقاب يتسلل إلى المذنب في نفسه كمرض مؤلم لا يصرف المذنب فيه ما عنده من مال فقط ، لكنه قد يسأل الناس ليعالج نفسه ، أو يعالج من يحب . وجنود عقاب الله قد لا تتأخر للآخرة بل تتسلل إلى حياة المذنب دون أن يعرفها وهذه هي شدة العقاب .
وبعد ذلك يأتي الحق بأمر تحريم أشياء بعد أن حلل الله أشياء في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } . لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين تخصيصا لما أحل من الأنعام . . فقد حلل الله من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين . وألحق الرسول بها الظباء وبقر الوحش ، وكل ذات أربع من حيوان البحر ، وكان قول الله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } مؤذنا بأن هناك تحريماً قادماً سيأتي ، ويبين الحق بالقرآن ما يحرمه الله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة . . . }
(1/2012)

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
الآية تبدأ بقوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } ونلحظ أن البداية فعل مبني للمجهول . على الرغم من أن الفاعل في التحريم واضح وهو الله . ولم يقتحم سبحانه على أحد ، فالإنسان نفسه اشترك في العقد الإيماني مع ربِّه فألزمه - سبحانه - والعبد من جانبه التزم؛ لذلك يقول الحق : " حرمت " ، حرمها سبحانه كإله وشاركه في ذلك العبد الذي آمن بالله إلها .
والميتة هي التي ذهبت منها الحياة أو خرجت منها الروح بدون نقض للبنية ، أي ماتت حتف أنفها ، فذهاب الحياة له طريقان : طريق هو الموت أي بدون نقض بنية ، وطريق بنقض البنية؛ فعندما يخنق الإنسان كائنا آخر يمنع عنه النفس وفي هذا إزهاق للروح بنقض شيء في البنية؛ لأن التنفس أمر ضروري ، وقد يزهق الإنسان روحا آخر يضربه بالرصاص؛ لأن الروح لا تحل إلا في جسد له مواصفات خاصة .
لكَن هناك جوارح يمكن أن تبقى الروح في الجسم دونها ، والمثال على ذلك اليد إن قطعت ، أما إن توقف قلب الإنسان فقد يشقون صدره ويدلكون هذا القلب فينبض مرة أخرى بشرط أن يكون المخ مازال حيا ، وأقصى مدة لحياة المخ دون هواء سبع دقائق في حالات نادرة . فما أن يصاب المخ بالعطب حتى يحدث الموت . ولذلك عرف الأطباء الموت الإكلينيكي بأنه توقف المخ . إذن فهناك موت ، وهناك قتل ، وفي كليهما ذهاب للروح .
وفي الموت تذهب الروح أولاً ، وفي القتل تذهب الروح بسبب نقض البنية . والميتة هي التي ذهبت منها الحياة بدون نقض البنية ، ومن رحمة الله أن حرم الميتة؛ لأنها ماتت بسبب لا نراه في عضو من أعضائها ، حتى لا نأكلها بدائها .
وكذلك حرم الدم ، وهو السائل الذي يجري في الأوردة والشرايين ويعطي الجسم الدفء والحرارة وينقل الغذاء ، وللدم مجالان في الجريان؛ فهو يحمل الفضلات من الكلى والرئة ، وهناك دم نقي يحمل الغذاء ، والأوعية الدموية بها لونان من الدم : دم فاسد ودم صالح . وعندما نأخذ هذا الدم قد يكون فيه النوع الصالح ويكون فيه أيضاً النوع الذي لم تخرج منه الشوائب التي في الكلى والرئة ، ولذلك يسمونه الدم المسفوح ، أي الجاري؛ وكانوا يأخذونه قديما ويملأون به أمعاء الذبائح ويقومون بشيه ويأكلونه .
وهناك دم غير فاسد ، مثال ذلك الكبد ، فهو قطعة متوحدة ، وكذلك الطحال ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال :
" أحلت لكم ميتتان ودمان ، فأما الميتتان : فالسمك والجراد ، وأما الدمان : فالكبد والطحال "
إذن فالكبد والطحال مستثنيان من الدم ، لكن إذا جئنا للدم المسفوح فهو حرام . والحكمة في تحليل السمك والجراد هي عدم وجود نفس سائلة بهما ، فليس في لحمها دم سائل ، وعندما نقطع سمكة كبيرة لا ينزل منها دم .
(1/2013)

بل يوجد فقط عند الأغشية التي في الرأس ولا يوجد في شعيراته . وعندما يموت السمك ويؤكل فلا خطر منه ، وكذلك الجراد .
ويأتي بعد ذلك في سلسلة المحرمات { وَلَحْمُ الخنزير } . ولا يقولن مؤمن : لماذا حرم الله لحم الخنزير؟ لقد ذهب العلم إلى كل مبحث ليعرف لماذا حرم الله الميتة وكذلك الدم حتى عرف العلماء أن الله لا يريد أن ينقل داء من حيوان ميت إلى الإنسان ، وكذلك حرم الله الدم لأن به فضلات سامة " كالبولينا " وغيرها .
ولكل تحريم حكمة قد تكون ظاهرة ، وقد تكون خافية . والقرآن قد نزل على رسول أمي في أمة أمية لا تعرف المسائل العلمية الشديدة التعقيد ، وطبق المؤمنون الأوائل تعاليم القرآن لأن الله الذي آمنا به إلها حكيما هو قائلها ، وهو يريد صيانة صنعته؛ وكل صانع من البشر يضع قواعد صيانة ما صنع . ولم نجد صانع أثاث - مثلا - يحطم دولاب ملابس ، بل نجده باذلا الجهد ليجمل الصنعة ، ومادام الله هو الذي خلقنا وآمنا به إلها؛ فلا بد لنا أن ننفذ ما يأمرنا به ، وأن نتجنب ما نهانا عنه ، ولا يمنع ذلك أن نتلمس أسباب العلم ، رغبة في ازدياد أسباب الإيمان بالله ومن أجل أن نرد على أي فضولي مجادل ، على الرغم من أنه ليس من حق أحد أن يجادل في دين الله؛ لأن الذي يرغب في الجدال فليجادل في القمة أولاً؛ وهي وجود الله ، وفي البلاغ عن الله بواسطة الرسول؛ فإن اقتنع ، فعليه أن يطبق ما قاله الله . فالدين لا يمكن أن نبحثه من أذنابه ، ولكن يبحث الدين من قمته . ونحن ننفذ أوامر الله . ولذلك نجد أول حكم يأتي لم يقل الحق فيه : يا أيها الناس كتب عليكم كذا ، ولكن سبحانه يقول : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } أي يا من آمنت بي خذ الحكم مني .
وأكرر المثل الذي ضربته سابقاً : أثمن ما عند الإنسان صحته ، فإذا تعرضت صحته للاختلال فهو يدرس الأسباب؛ إن كان يرهقه الطعام يختار طبيبا على درجة علم عالية في الجهاز الهضمي ، ويكتب الطبيب الدواء ، ولا يقول المريض للطبيب : أنا لن أتناول هذا الدواء إلا إذا قلت لي لماذا وماذا سيفعل هذا الدواء .
إذن فالعقل مهمته أن ينتهي إلى الطبيب الذي اقتنع به ، وما كتبه الطبيب من تعاليم فعليك تنفيذها ، وكذلك الإيمان بالله ، فمادام الإنسان قد آمن بالله إلها فعليه أن ينفذ الأوامر في حركة الحياة ب " افعل " و " لا تفعل " ، والمريض لا يناقش طبيبا ، فكيف يناقش أي إنسان ربه : " لم كتبت علي هذا "؟
والطبيب من البشر قد يخطئ؛ وقد يتسبب في موت مريض ، وعندما نشك في قدرة طبيب ما نستدعي عدداً من الأطباء لاستشارة كبيرة .
(1/2014)

وننفذ أوامر الأطباء ، ولا يجرؤ أحد أن يناقش الله سبحانه وتعالى بل نقول : كل أوامرك مطاعة .
إننا ننفذ أوامر الأطباء فكيف لا ننفذ أوامر الله؟ إن الإنسان يضع ثثقته في البشر الخطائين ، ولا يمكن - إذن - أن تعلو على الثقة في رب السماء؛ لذلك فالعاقلون هم الذين أخذوا أوامر الله وطبقوها جون من مناقشة؛ لأن العقل كالمطية يوصل الإنسان إلى عتبة السلطان ، ولكن لا يدخل معك عليه ، وحين تسمع من الله فأنت تنفذ ما أمر به .
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير } وقد أثبتت التحليلات أن بلحم الخنزير دودة شريطية ودودة حلزونية وعددا آخر من الديدان التي لا يقهرها علاج .
والمحرمات من بعد ذلك { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } أي رفع الصوت به لغير الله كقولهم : باسم اللات والعزى عند ذبحه ، ولا يقال عند ذبحه : " الله أكبر بسم الله "؛ لأن الإنسان منتفع في الكون الذي يعيش فيه بالأجناس التي طرأ عليها ، لقد وجد الإنسان هذه الأجناس في انتظاره لتخدمه لأنه خليفة الله في الأرض ، والحيوان له روح ولكنه يقل عن الإنسان بالتفكير ، والنبات تحت الحيوان ، والجماد أقل من النبات . وساعة يأخذ الإنسان خدمة هذه المسخرات ، فعليه أن يذكر الخالق المنعم ، وعندما يذبح الإنسان حيوانا ، فهو يذبحه بإذن الأكبر من الإنسان والحيوان والكون كله ، يذبحه باسم الخالق .
إن هناك من ينظر إلى اللحم قائلاً : أنا لا آكل لحم الحيوانات لأني لا أحب الذبح للحيوان شفقة ورحمة ، لكن آكل النبات . ونقول : لو أدركت ما في النبات من حياة أكنت تمتنع عن أكله؟ لقد ثبت في عصرنا أن للنبات حياة ، بل وللجماد حياة أيضاً؛ لأنك عندما تفتت حصوة من الصوان أو أي نوع من الأحجار ، فأنت تعاند بدقات المطرقة ما في تلك الحصوة من تعانق الجزيئات المتماسكة ، وقد تفعل ذلك وأنت لا تدري أن فيها حياة . { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ]
والصالحون من عباد الله يعرفون ذلك ويديرون لأعمالهم وتعاملهم مع ما سواهم من المخلوقات جميعا - حيوان أو جماد - على أنها مسبّحة لذلك لا يمتهنون الأشياء ولا يحتقرونها مهما دقت وحقرت وإنما يتلطفون معها حتى لو ذبحوا حيوانا فإنهم يرحمون ذلك الحيوان فلا يشحذون ولا يسنون السكين أمامه ولا يذبحون حيوانا أمام حيوان آخر فضلا على أنهم يطعمون ويسقون ما يرديون ذبحه لأنهم يعلمون أنه مسبح ولكنهم فعلوا فيه ما فعلوا لأن الله أباح لهم ذلك ليستديموا حياتهم بأكله فهم أهل تكليف من الله ، أما ما عداهم فهم أهل تسخير .
{ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } تشرح لنا أن الحق هو الذي حلل لنا أن نأكل من الذي له حس وحركة ، كالحيوان الذي يتطامن للإنسان فيذبحه ، ولا بد للإنسان أن يعرف الشكر لواهب النعمة ، ف " بسم الله الله أكبر " تؤكد أنك لم تذبحه إلا باسم من أحله لك .
(1/2015)

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71-72 ]
إذن فالأكل من ضمن التذليل ، وعندما تذبح الحيوان لا بد أن تذكر من ذلل لك ذلك . ويحرم الحق أكل المنخنقة ، أي الحيوان الذي مات خنقاً؛ لأن قوام الحياة ثلاثة؛ طعام ، شراب ، هواء ، وهذا من حكمة الخالق الذي خلق الصنعة ورتب الأمر حسب الأهم والمهم ، فالإنسان قد يصبر على الجوع إلى ثلاثين يوماً؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قدر لك - أيها الإنسان - ظروف الأغيار ، فجعل في جسمك مخزونا لزمن قد تجوع فيه ، وجعل للإنسان شهوة إلى الطعام ، وغالبا لا يأكل الإنسان ليسد الرمق فقط ، ولكن بشهوة في الأكل .
إن ربنا يوضح لنا : أنا أحترم شهوتك للطعام ، ولتأخذ حركتُك الضروريَّ لها من الطاقة ، والزائد سيُخزن في الجسم كدهون ولحم ، فإن جاء يوم لا تجد فيه طعاماً أخذت من الدهون المخزونة طاقة لك . وهذه من دقة الصنعة ، وإن قارنتها بسيارة صنعها الإنسان إذا ما فرغ منها الوقود فإنها تقف ولا تسير ، أما صنعة الخالق فهي لا تقف إن توقف الطعام بل تستمر إلى ثلاثين يوماً ، وربما حن على الإنسان قلب إنسان آخر فأحضر له الطعام ، وربما احتال الإنسان ليخرج من مأزق عدم وجود الطعام .
إن المرأة العربية وصفت الشدة والعوز فقالت : " سنة أذابت الشحم ، وسنة أذهبت اللحم ، وسنة محت العظم " أي أن الأمر درجات ، فالإنسان يتغذى من دهنه ثم من لحمه ثم من عظامه ، ويصبر الإنسان على الماء مدة تترواح ما بين ثلاثة ، وعشرة أيام ، حسب كمية المياه المخزونة في الجسم . أما الهواء فلا يصبر عنه الإنسان إلا بمقدار الشهيق والزفير ، فإن حُبس الهواء عن الإنسان مات . فالنَفَس هو أهم ضرورة للحياة ، ولذلك نجد من حكمة الحق سبحانه أنه لم يملّك الهواء لأحد؛ لأن أحداً لو امتلك الهواء بالنسبة لإنسان آخر فقد يمنع عنه الهواء لحظة غضب فتنتهي منه الحياة .
واللغة العربية فيها من السعة ومن دقة الأداء ما يدل على أن هناك أسرارا للمعاني ، تلتقي عند شيء ما ، فمثلاً إذا قلت : نَفْس ، أو نفيس ، أو نفَس ، نجد أنها ثلاث كلمات مكونة من مادة واحدة هي " النون والفاء والسين " ، النفْس هي اتصال الروح بالمادة فتنشأ الحياة بها ، ويلهم ربنا النفس فجورها وتقواها ، والنَّفَس : وهو الريح تدخل وتخرج من فم وأنف الحي ذي الرئة حال التنفس ولا تدوم الحياة إلا به ، ومادام أساس الحياة هو النفَس فيجب ألا تكون حياتك إلا من أجل نفيس ، ويجب أن تحترم خلق الله لك وألا يكون سعيك في الدنيا إلا من أجل نفيس ، ولا نفيس إلا الإيمان .
(1/2016)

وفي اللغة العربية أمثلة كثيرة لما يسمى بالجناس ، فنحن نسمي الأكل في الميعاد " وجبة " ، ونسمي المسئولية " واجبا " ونسمي دقة القلب " الوجيب " . ولذلك عندما أراد الشعراء أن يتفننوا جاء واحد منهم بلفظين متماثلين ولكل منهما معنى مختلف فقال :
رحلت عن الديار لكم أسير ... وقلبي في محبتكم أسير
فأسير في الشطر الأول يمعنى أمشي ، وأسير في الشطر الثاني من البيت بمعنى مأسور ومقيد .
فالمنخنقة إذن هي التي منع عنها النفس ، ومادام مَنْع النفس أوصلها إلى الخنق فهي إلى الموت ، فلماذا جاء ذكرها مرة أخرى بعد الميتة؟ لقد جاء ذكر المنخنقة لأن الإنسان قد يلحقها بالذبح ، فإن سال منها دم ، وطرفت فيها عين أو تحرك الذيل فهي حلال . أما إن لم يلحقها الإنسان وذبحها ولم يسل منها دم فهي حرام ، ويحرم الحق الموقوذة ، وهي البهيمة التي يتم ضربها بأي شيء إلى أن تصل للموت ، فهي قد ماتت ، بنقض بنية وكذلك المتردية التي وقعت من ارتفاع حتى ماتت ، وكذلك { والنطيحة } أي التي نطحها حيوان آخر إلى أن ماتت . { وَمَآ أَكَلَ السبع } وهو ما يبقى من أكل السبع من لحم ما افترسه من حيوان مأكول ، { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } ، والذكاة هي الذبح الذي يسيل منه الدم وتأتي بعده حركة من المذبوح . والمقصود بقوله { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } هو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، فإن أدركها الإنسان وذبحها وسال منها دم وصدرت منها حركة فهي حلال .
هذا هو رأي علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهو مفتي الإيمان . وابن عباس - رضي الله عنه - وهو حَبْر الأمة قال - أيضا - في قوله الحق : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } هو استثناء لغير الميتة والدم ولحم الخنزير ومقصود به المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وهذا يوضح لنا أن هناك حيوانات شرسة قد لا يقوى الإنسان عليها . وأحياناً قد يقدر الإنسان عليها فيقوم بتكتيفها بالحبال ، وأحيانا يضربها بآلة لتختل وتضعف قليلا ويتملكها الجزار ليذبحها .
ونلاحظ أن الحق لم يحدد الحيز من الجسم الذي أصيبت فيه الموقوذة سواء أكان البطن أم الرأس أم الظهر ، فالحيوان المضروب رميا بالحجارة قد تأتي الأحجار في الرأس أو البطن أو الظهر ، فمن الجائز أن يضرب الإنسان الحيوان الشرس ليستطيع أن يذبحه .
والحجة عندنا في التحليل أو التحريم هي : أيسيل منها الدم ساعة الذبح أم لا؟ وهل يصدر عن جسمها حركة ولو طرفة عين؟ فإن توافر ذلك في الذبيحة فهي حلال ، وهكذا نعرف أن قوله الحق : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } هو استثناء لغير الثلاثة الأول وهي : الميتة والدم ولحم الخنزير ومعها ما أهل لغير الله به لأنه محرم بطبيعة الإيمان العقدي .
(1/2017)

{ وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } ويحرم الحق ما أكله السبع إلا إذا كان الحيوان الذي أكله السبع لم يمت واستطاع واحد أن يذبحه الذبح الشرعي . وسبحانه يحريم ما لم يذبح بالأسلوب الشرعي ، فلا يحل ذَبْح بعظم أو بِسِنّ والذي ذبح على النصب ، أي المذبوح على الأحجار المنصوبة كالأصنام فهو حرام ، والكلام هنا عقدي ، والتحريم هنا بعارض عقدي .
و " النُّصُب " من الألفاظ التي وردت مفرداً ووردت جمعاً . ف " نصُب " هي جمع ، مثلما نجمع كلمة " حمار " ونقول " حُمُر " ، وفي هذه الحالة يكون مفردها " نِصاب " ، ومرة تكون " نصب " مفرداً ، مثلها مثل " طُنُب " وهو الحبل وجمعها " أطناب " أي حبال ، وفي هذه الحالة يكون جمع " نُصُب " هو " أنْصَاب " .
والنُّصُب هي حجارة كانت منصوبة حول الكعبة يذبح عليها المشركون الذبائح تقرباً للآلهة . والتحريم هنا بسبب عقدي مثله مثل تحريم ما أهل لغير الله به ، فما أهل لغير الله فيه شرك بالله فافتقد ذكر الله الذي ذلل للإنسان هذا الحيوان القريب من الإنسان في الحس والحركة وغير ذلك . وكذلك أيضاً ما ذبح على النصب محرم؛ لأن النصب غير واهب ولا معط ، والواجب أن نتقرب إلى الواجد الواهب .
{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } واستسقم أي طلب القسمة ، وكانت القسمة في بعض الأحيان عملية محرجة فيريدون إلصاقها بعيرهم ، وهنا يقال : " إن الأزلام هي التي أمرتني " . والأزلام هي قداح من الخشب مكتوب على بعضها : " أمرني ربي " ومكتوب على البعض الآخر : " نهاني ربي " وبعض من هذه القداح غفل بغير كتابة . وكان المشرك إذا أراد السفر فهو يذهب إلى سادن الكعبة أو الكاهن ، ويخرج السادن أو الكاهن الأزلام من الكيس ، ويحرك القداح ويختار المشرك قِدْحاً ، فإن قرأ عليه " أمرني ربي " يسافر إلى المهمة التي يريدها ، وإن لم يقرأ عليه ووجده غفلا فهو يعيد الكَرَّةَ؛ فإن وجد " نهاني ربي " لا يسافر .
ونسأل : من هو الرب الذي أمر؟ هل هو الرب الأعلى ، أو الرب الذي كانوا يعبدونه؟ أي إله كانوا يقصدون؟ إن كان المقصود به الإله الأعلى ، فمن أدراهم أن الله أمر بهذا السفر أو نهى عن ذلك السفر؟ إن ذلك كذب على الله . وإن كان الذي أمر هو الرب الذي يعبدونه ، فهذا أمر باطل من أساسه ، إذن ف " استقسم " أي أنّه طلب حظه وقسمته بواسطة القداح . وكان الاستقسام يتم في مسائل الزواج أو عدم الزواج ، والكلام هنا في هذه الآية عن الأكل؛ فالسياق عن تحليل ألوان الطعام فلماذا هذا الاستقسام؟
من هذا نعرف أنهم كانوا في الجاهلية يخضعون للون من الاستقسام بالأزلام ، كانت عندهم عشرة قداح وكان مكتوبا عليها أسماء ، فواحد على سبيل المثال مكتوب عليه " الفذ " وعليه علامة واحدة .
(1/2018)

أي أن الذي يسحب هذا القدح يأخذ نصيبا واحداً؛ أما المكتوب عليه " التوأم " فيأخذ نصيبين ، والمكتوب عليه " الرقيب " يأخذ ثلاثة أنصباء ، والمكتوب عليه " الحِلس " يأخذ أربعة أنصباء ، والمكتوب عليه " النافر " يأخذ خمسة أنصباء؛ والمكتوب عليه " المُسْبل " يأخذ ستة أنصبة ، ووالمكتوب عليه " المُعلّي " يأخذ سبعة أنصبة ، والباقي ثلاثة أنواع مكتوب على كل واحد منها إما " المنيح " وإمّا " السفيح " وإمّا " الوغد " .
وعندما يقومون بذبح الجمل كانوا يقسمونه إلى ثمانية وعشرين نصيباً بعدد الأنصبة التي ينالها الأشخاص السبعة الأوائل ، أما من خرج لهم " المنيح " أو " السفيح " أو " الوغد " فلا نصيب لهم ويدفعون ثمن الذبيحة .
إذن فقوله الحق : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } أي أن مسألة طلب القسمة بواسطة الأزلام هو أسلوب مجحف وحرام ، وهو لون من الميسر ، والاستقسام بالأزلام خلاف القرعة ، فالقرعة تكون بين اثنين متساويين ولا يريد أحدهما أن يظلم الآخر ، فيخرجا الهوى من الاختيار .
مثال ذلك : اثنان من البشر يملكان بيتاً ، وتحري كل منهما العدل في القسمة ويلجآن إلى القرعة بأن يكتب كل منهما اسمه في ورقة ثم يضعا الورقتين في إناء ضيق ويحضر طفل صغير لا يعرف المسألة ويغمض عينيه ويشد ورقة من الاثنتين ، فيأخذ كل واحد النصيب الذي حددته القرعة .
ومثال آخر : الرجل المتزوج بأكثر من واحدة ، عليه أن يقرع بين النساء إن أراد صحبة إحداهن في سفر ، والقرعة هنا حتى لا تغضب واحدة من الزوجات ، وحتى لا يكون الهوى هو الحكم ، وبذلك يخرج من دائرة لوم مَن لا تخرج قرعتها .
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة ، فعندما أراد صلى الله عليه وسلم ألا يكسر خاطر أي واحد من الأنصار عندما هاجر إلى المدينة ، وتطلع كل واحد من الأنصار إلى أن ينزل رسول الله في بيته ، وحاول كل واحد أن يمسك بزمام الناقة وأن يجعلها تقف أمام بيته ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" خلوا سبيلها فإنها مأمورة "
فعندما تميل الناقة وتقف عند أي بيت لن يقول أحد : إن النبي آثر فلاناً على فلان . جعلها الرسول في يد من لا يقدر أحد على ان يخالفه عليه ، وكذلك فالاستخارة غير الاستقسام . إذن فالاستقسام بالأزلام هو المحرم شرعاً؛ لأنها عملية غير مناسبة وهي ظالمة ، ووردت هنا في سياق ألوان الطعام .
(1/2019)

ويقول سبحانه عن كل تلك الألوان من المحرمات؛ إنَّ ارتكابها فسق . { ذلكم فِسْقٌ } والفسق هو الخروج عن الطاعة . والمعاني - كما علمنا من قبل - مأخوذة من المحسّات؛ لأن إلف الإنسان في أول إدراكاته بالمحسات ، فهو يرى ويسمع ويشم ، وبعد ذلك تأتي الأمور العقلية .
وأصل الفسق هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلحة عندما تترطب تنكمش الثمرة داخل القشرة وتخرج منها عندئذ يقال : " فسقت الرطبة " أي خرجت من قشرتها ، وكذلك من يخرج عن منهج الله يسمونه فاسقاً؛ تماماً مثل الرطبة ، وفي هذا رمزية تدل على أن شرع الله سياج يحيط بالإنسان؛ فالذي يخرج عن منهج الله يكون فاسقاً . وإياك أيها المسلم أن تخرج عن شرع الله؛ لأن الرطبة عندما تخرج عن القشرة فالذباب يحوم حولها ويصيبها التراب وتعافها النفس ، فَكَان دين الله كإطار يحمي الإنسان بالإيمان .
وهذه الأحكام كلها تبني قضية الدين ، قضية عقدية في الألوهية ، قضية البلاغ عن الألوهية بواسطة الرسالة . وأحكام تنظم حركة المجتمع بالعقود والأمانات والأنكحة وغيرها ، كل هذه الأحكام تصنع هيكل الدين العام . وقد مر هيكل الدين العام بمرحلتين : المرحلة المكية وكان كل هدفها التركيز على العقيدة والإيمان بوحدانية الله والنبوات والبلاغ عن الله ، وبعد ذلك في المرحلة المدنية جاءت سورة النساء وسورة المائدة لتتكلما عن الأحكام .
وبالعقيدة وبالبلاغ عن الله وبالأحكام يكتمل الدين؛ لذلك يقول الحق : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } كأن الكافرين كان لهم أمل في أن يحبطوا هذا الدين وأن يبطلوه وأن ينقضوه ، وكذلك المؤمنون بأديان سابقة أو بكتب سابقة كانوا يحبون أن يطرأ على القرآن الأفعال التي مارسوها مع كتابهم من النسيان والترك والتحريف ، وسبحانه هو القائل عن أصحاب الكتب السابقة : { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 13 ]
إذن فقد أرادوا أن ينسى المسلمون - أيضاً - حظاً من القرآن ، لكن الحق يخبر بأنهم يئسوا أن ينسى المسلمون حظا مما ذكروا به؛ لأن الصحابة حفظوا القرآن في الصدور وكتبوه في السطور ومن لسان الرسول مباشرة . ولم يحدث مثلما حدث مع الرسل السابقين . فقد تم تسجيل هذه الكتب المنزلة عليهم بعد ثلاثة أو أربعة قرون ، بل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن من فور نزول كل نجم من الآيات ، وكان يأمر بوضع الآيات بترتيب معين .
إن على الذين كفروا أن ييأسوا من أن ينسى المسلمون حظاً مما ذكروا به . وهؤلاء القوم من أهل الكتاب لم ينسوا حظاً مما ذكروا به فقط ، لا أيضاً حرفوا الكتاب عن مواضعه وكتموا ما أنزل الله : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار } [ البقرة : 174 ]
وهم يئسوا من أن يكتم المسلمون ما أنزل الله ، بدليل أن رسول الله صلى اله عليه وسلم كان يأتي بحكم في شيء ، ثم يغير الله ذلك الحكم ، فلا يستحي رسول الله أن يبلغ : أن الحكم الذي قلته لكم قد غيره الله لي .
(1/2020)

وهل يستنكف أن يعدل الله له؟ وهذا دليل على أمانة البلاغ عن الله؛ لذلك يئس الكافرون بألوانهم المختلفة من أن ينسى المؤمنون حظا مما ذكروا به؛ لأن تسجيل القرآن كان أمينا بصورة لا نهاية لها ، وظل القرآن مكتوباً في السطور ومحفوظاً في الصدور .
والحق يعلن عن يأس الكفار من مشركين وأهل كتاب بقوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } يئسوا لأن المراحل التي مرت بالكتب السابقة لن تمر بهذا الدين . وقد توهم أهل الكتاب أن الإسلام سيمر بما طرأ عليهم ، وظن بعضهم أن المسلمين سيصيرون إلى ما صار إليه أهل الكتاب من ترك لدينهم وإهدار له . وكذلك ظن بعض كفار قريش أن المسلمين سيصيرون إلى ما صار إليه أهل الكتاب ، فقد كانت عندهم التوراة وهم مع ذلك لا يتبعون كتابهم ، فيرد الحق على كل هؤلاء : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } .
وقوله : " اليوم " يعني الزمان الذي مضى والزمان المستبقل ، فقد أتم الله دين الإسلام ورضيه لنا وفتحت مكة للمسلمين ودخل الناس في دين الله أفواجا . وصار القرآن مكتوباً ومحفوظاً . وبذلك تأكد يأس الكافرين والمشركين أن يُنسى القرآن أو أن يُكتم القرآن؛ لأن من أنزل عليه الكتاب ، كان إذا جاء أمر يتعلق به فهو يقوله . وعندما مال قلب المسلمين ذات مرة إلى تبرئة المسلم الذي سرق وأن تلصق التهمة باليهودي البريء ، هنا نزل من القرآن قوله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ]
لقد أمر الحق أن يكون النبي هو الحكم العدل حتى ولو كان حكماً ضد مسلم ويأمر الحق رسوله أن يستغفر الله إن كان قد ألم به خاطر أن ينصر المسلم الخائن على اليهودي الذي لم يسرق ، إنها سماحة دين الإسلام .
{ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } . ولقد تم دين الله . ودخل الناس إلى الإسلام أفواجا . ولن يُنسى القرآن . ولن يكتم القرآن أحد . ولن يحرف القرآن أحد . ولن يحدث للقرآن ما حدث للكتب السابقة من نسيان وكتمان وتحريف ، أو الإتيان بأشياء أخرى والقول والزعم بأنها من عند الله ، وهي ليست من عند الله . إذن فقد يئس الذين كفروا من أن يتزيد المسلمون في دينهم . ولن توجد بين المسلمين تلك المثالب والعيوب التي ظهرت في الأقوام السابقة .
{ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْْ } لقد يئسوا من أن يُغلب الإسلام ، بل إن الإسلام سَيَغْلب . وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره .
(1/2021)

{ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } وقد حكم سبحانه ألا يأتي أمر يحقق لأعداء الإسلام الشماتة به ، أو أن تتحقق لهم الفرصة في انكسار الإسلام ، فلا تخشوهم أيها المسلمون لأنكم منصورون عليهم ، ولن تدخلوا في أسباب الخيبة التي دخلوا فيها . وعليكم أيها المؤمنون بخشية الله .
ولو أراد أحد تغيير شيء من منهجه سبحانه سيلقى العقاب ، وسبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فكتاب الله معكم وترك فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجه ، فإن خالفتم المنهج فستتلقون العقاب ، كما هزم الله المسلمين في أحُد أمام المشركين لأنهم خالفوا المنهج . فما نفعهم أنهم كانوا مسلمين منسوبين للإسلام بينما هم يخالفون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذن فلا خشية من المسلمين لأعدائهم . ولكن الخشية تكون لله ، فإن خفتم فخافوا الله وحافظوا على تنفيذ منهج الله . ومادام سبحانه هو الآمر : لا تخش أعداء الله لأنه زرع في قلوبهم اليأس من أن ينسى المسلمون المنهج ، او أن يتزايدوا في الدين ، أو يكتموا الدين ، فهم لا يحرفونه ولا يزيدون فيه . إذن فالعيب كل العيب ألا تطبقوا منهج الله .
{ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والإكمال هو أن يأتي الشيء على كماله ، وكمال الشيء باستيفاء أجزائه ، واستيفاء كل جزء للمراد منه . وقد أتم الله استمرار النعمة بتمام المنهج .
لقد رضي الحق الإسلام ديناً للمسلمين . ومادام رضي سبحانه الإسلام منهجاً ، فإياكم أن يرتفع رأس ليقول : لنستدرك على الله؛ لأن الله قال : " أكملت " فلا نقص . وقال : " أتممت " فلا زيادة . وعندما يأتي من يقول : إن التشريع الإسلامي لا يناسب العصر . نرد : إن الإسلام يناسب كل عصر ، وإياك أن تستدرك على الله؛ لأنك بمثل هذا القول تريد أن تقول : إن الله قد غفل عن كذا وأريد أو أصوب لله ، وسبحانه قال : " أكملت " فلا تزيد ، وقال : " أتممت " فلا استدراك ، وقال : " ورضيت " فمن خالف ذلك فقد غَلَّب رضاه على رضا ربه .
إن الخالق سبحانه هو أعلم بخلقه تمام العلم ، ويعلم جل وعلا أن الخلق ذو أغيار ، وقد تطرأ عليهم ظروف تجعل تطبيق المنهج بحذافيره عسيراً عليهم أو معتذراً فلا يترك لهم أن يترخصوا هم ، بل هو الذي يرخص ، فلا يقولن أحد : إن هذه مسألة ليست في طاقتنا . فساعة علم الحق أن هناك أمراً ليس في طاقة المسلم فقد خففه من البداية . وما دمنا ذوي أغيار ، وصاحب الأغيار ينتقل مرة من قوة إلى ضعف ، ومن وجود إلى عدم ، ومن عزة إلى ذلة؛ لذلك قدر سبحانه أن يكون من المؤمنين بهذا المنهج الكامل من لا يستطيع القيام لمرض أو مخمصة ، فرخص لنا سبحانه وتعالى : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
(1/2022)

إذن فالحق قد ذكر أن شيئاً من الأغيار قد يطرأ على النفس البشرية ، وما دام استبقاء الحياة يتطلب القوت ، والإنسان قد يمر بمخمصة وهي المجاعة التي تسبب الضمور في البطن ، هنا يرخص الحق للجائع في مخمصة أن يأكل الميتة أو ما في حكمها بشرط الاضطرار لاستبقاء الحياة ، فلا يقول واحد على سبيل المثال :
أنا مضطر أن أتعامل مع البنك بالربا لأني أريد أن أتاجر في مائة ألف جنيه وليس معي إلا ألف جنيه . وهذا ما هو حادث في كل الناس . هنا أقول : لا . عليك بالتجارة في الألف التي تملكها ولا تقل أنا مضطر للتعامل في الربا . فالمضطر هو الذي يعيش في مجاعة وإن لم يفعل ذلك يموت أو يموت من يعول . وقد رخص الشرع للإنسان الذي لا يملك مالاً أن يقترض من المرابي إن لم يجد من يقرضه ليشتري دواء أو طعاماً أو شيئا يضطر إليه لنفسه أو لمن يعول . والإثم هنا يكون على المرابي ، لا على المقترض لأنه مضطر .
ولذلك قال الحق : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } ، أي أنه كاره للإثم وإن ذهب إليه . ولذلك يباح للمضطر على قدر الضرورة . لدرجة أن رجال الشريعة قالوا : إن على الإنسان المضطر ألا يأكل من الميتة أو ما في حكمها بالقدر الذي يشبع ، بل يأخذ أقل الطعام الذي يمسك عليه رمقه ويبقى حياته فقط . فإذا كان يسير في الصحراء فعليه ألا يأخذ من الميتة أو ما في حكمها إلاَّ قدراً يسيراً لأنه لا يجد شيئاً يتقوت به .
إذن فمعنى اضطر في مخمصة شرط أن يكون غير متجانف لإثم ، أي لا يكون مائلاً إلى الإثم فرحا به ، فعليه ألا يأخذ إلا على قدر الضرورة . ومادام على قدر الضرورة فهو لن يحمل معه من هذه الأشياء المحرمة إلا ما يقيم أوده ويمسك روحه . والمضطر هو من فقد الأسباب البشرية . وسبحانه وتعالى قد بسط أسبابه في الكون ومد بها يديه إلى خلقه ، وأمر الأسباب : استجيبي لهم مؤمنين كانوا أو كافرين ، فالذي يزرع ويحسن الزراعة والري والبذر والحرث فالله يعطيه ، والذي يتقن عمله كتاجر تتسع تجارته وتزيد أرباحه . { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ]
إن عطاء الأسباب هو عطاء الربوبية . والمضطر هو من فقد أسبابه . ولذلك فالحق يجيب المضطر إذا دعاه . وقد يقول قائل : إنني أدعو الله ولا يجيبني . ونقول : إنك غير مضطر لأنك تدعو - على سبيل المثال - بأن تسكن في قصر بدلاً من الشقة التي تسكنها ، وأنت تدعو بأن يعطيك الله سيارة فارهة وأنت تملك وسيلة مواصلات عادية .
(1/2023)

فالمضطر - إذن - هو الذي فقد الأسباب ومقومات الحياة . { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء } [ النمل : 62 ]
وقد ضربنا من قبل المثل - ولله المثل الأعلى - بتاجر يستورد بضائع تصله من الخارج في صناديق ثقيلة . تحملها السيارات الضخمة ، ويقوم أحد العمال أمامه بحمل صندوق ضخم ، فغلب الصندوقُ العامل . وهنا يقفز التاجر ليسند العامل .
وهذه هي المساندة في المجال البشري ، إذن فلا يَردّ واحد أسبابَ الله من يده ويقول من بعد ذلك : يارب أعني؛ لأن الله في تلك اللحظة يوضح للعبد : إنّ عندك أسبابي ومادامت أسبابي موجودة ، فلا تطلب من ذاتي إلا بعد أن تنفذ أسبابي من عندك؛ لذلك يباح للمضطر أن يأخذ القدر الذي يردّ به السوء عن نفسه .
{ فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ومادام سبحانه قد رخص لنا ذلك ، فما الداعي أن يذيل الآية بمغفرته ورحمته؟ ولنفهم أن الإنسان يأخذ الغفر مرة على أنه ستر العقاب عنه ، وقد يكون الغفر سترَ الذنب عن العبد لأن الله رحيم . وهذا ما يشرح لنا ما قاله الحق لرسوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } [ الفتح : 2 ]
فسبحانه يغفر بستر العقاب ، ويقدم الغفر لستر الذنب فلا يفارقه الإنسان ويقول الحق بعد ذلك : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ . . . }
(1/2024)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
فبعد أن بين الحق ما حرم وما أحل ، نجد أن المحَلَّلَ غير محصور ، بل المحصور هو المحرم؛ لأن الحق حرم عشرة أشياء ، فإن هذه الأشياء العشرة ليست هي كل الموجودات في الكون ، فالموجودات في الكون كثيرة . وسبحانه وتعالى حين خلق آدم وجعله يتناسل ويتكاثر للخلافة في الأرض؛ قدر في هذه الأرض مقومات استبقاء الحياة لذلك النوع .
والاستبقاء نوعان : استبقاء حياة الذات للإنسان ، واستبقاء حياة نوع الإنسان ، واستبقاء حياة الذات تكون بالتنَفس والشراب والطعام ، واستبقاء حياة النوع تكون بالإنكاح والتناسل .
إذن يوجد بقاءان لاستمرار الخلافة : البقاء الأول : أن تبقى الحياة وذلك بمقوماتها ، والبقاء الثاني : أن يبقى نوع الحي وذلك بالتكاثر . وحتى تبقى الحياة ويتكاثر الإنسان لا بد من وجود أشياء وأجناس تخدم الإنسان وتعطيه الطاقة .
وطمأننا سبحانه وتعالى على الرزق حينما قال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 9-11 ]
وهو بذلك يخبرنا بأنه قدر في الأرض أقواتها ، وقدر هذه الأقوات للإنسان الخليفة في الأرض ، لتقيت الإنسان لهذه الحياة ، ويُبقي الإنسان نوعه بالإنكاح . وحين يعد العبد النعم التي وفرها له الحق يجدها لا تحصى . ولم يحاول الإنسان على طول تاريخه أن يحسب ويحصي نعم الله في الأرض؛ لأن الإقبال على الإحصاء يكون نتيجة المظنة بالقدرة على الإحاطة بالنعم . وقد عرف الإنسان بداية أنه لا يقدر على الإحاطة بنعم الله؛ فلم يجرؤ أحد على أن يعدها . ولذلك قال الحق سبحانه : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ]
وقد استخدم " إن " وهي للأمر المشكوك فيه . إذن فهي نعم كثيرة لا نقدر على إحصائها . ونسأل : أيقول الحق لنا النعم المحللة أو الأشياء المحرمة؟ وبما أن المحلل كثير لا نهاية له ، وبما أن المحرم محصور؛ لذلك يورد لنا الأشياء المحرمة . وقد بين لنا الحق عشرة أشياء محرمة من النعم . ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن عدم قدرة الإنسان على إحصاء نعمه سبحانه وتعالى قال في آية : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ]
وقال في آية أخرى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ]
وظاهر كلام الناس يقول : إنها عبارات تقال وتتكرر ، ولكننا نقول : يجب أن ننتبه إلى أن النعمة تحتاج إلى من يعطيها وهو المُنعِم ، ومن تعطى له وهو المنعم عليه . إذن فنحن أمام ثلاثة عناصر : نعمة ، ومُنعِم ، ومُنْعَمِ عليه .
(1/2025)

أما من جهة النعمة وأفرادها فلن يقدر البشر على إحصائها لأنها فوق الحصر . ومن جهة المنعم فهو غفور رحيم . ومن جهة المنعم عليه فهو ظلوم كفار . لماذا يأتي الله لنا بمثل هذه الحقائق؟
إنه سبحانه لو عاملنا بكفرنا وجحودنا وظلمنا لمنع النعمة ، ولكن استدامة نعمة الله علينا فضل منه ورحمة لأنها تشملنا حتى ولو كنا ظالمين وكنا كفارا؛ لذلك كان من اللازم أن يأتي بهاتين الآيتين ، فمن ناحية النعمة لن نقدر على حصرها . ومن ناحية المنعم فهو غفور رحيم . ومن ناحية المنعم عليه فهو ظلوم كفار . ولذلك فعندما يرتكب الإنسان ذنبا فإن أهل الإيمان يقولون له : لا تيأس؛ فربك هو ، هو ، إنه غفور رحيم . ولذلك لا تستحي أيها العبد أن تطلب من ربك شيئا على الرغم من معصيتك ، فالله غفور رحيم . وعندما ننظر إلى مقومات الأشياء ، فإننا نعرف المقوم الأساسي .
لكن هناك مقومات تخدم المقوم الأساسي . ومثال ذلك نحن نأخذ القمح وندرسه ، ونصنع من حبوب القمح دقيقا لنصنع منه خبزاً . ويحتاج القمح إلى مقومات كثيرة حتى يخرج من الأرض - وهو مقوم أساسي - إن القمح يحتاج إلى ري منتظم وحرث وخلاف ذلك ، إذن فالذي خلقنا قدر لنا هذه الأشياء ، ومادام قد قدر لنا كل هذه الأشياء ، فعلينا أن نسمع تعاليمه . وهو قد أوضح : إياك أن تظن أن كل ما خلقت من خلق فأنا مُحِلّه لك؛ لأني قد أخلق خلقاً ليس من طبيعته أن تتناوله ، وليس من طبيعتك أن تتناوله ، ولكن لهذا المخلوق عمل فيما تتناوله كالحرث والري والتسميد للقمح ، إنها وسائل وأسباب للحصول عليه . فإذا ما قال قائل : مادام هو سبحانه قد خلق هذه المحركات فلماذا حرمها؟
ونقول : هذه الأشياء ليس لها عمل مباشر فيك ولكن لها عمل آخر في الكون . وإذا كنا نحن البشر نصنع آلة ما ، ويقول المخترع لنا : قد صممت هذه الآلة - على سبيل المثال - لتدار بالديزل ، وآلة أخرى تدار البنزين ، والبنزين أنواع ، ولو جئنا للآلة التي تدار ببنزين ووضعنا لها سولارا ، ما الذي يحدث لها؟ إنها تفسد ، هذا في المجال البشري فما بالنا بخالق البشر؟
لقد صنع الحق صنعته وهي الإنسان ووضع المواصفات التي تسير هذه الآلة ، وعلينا أن نخضع لتعاليمه حتى لا تفسد حياتنا فلا نخرج عن تلك التعاليم؛ لأنك عندما تخالف وتخرج عما وصفته لصنعتك من نظام ، فالآلة التي من صناعتك تفسد .
وفي حياتنا آلاف الأمثلة . . فالذي صنع الكهرباء ووضع العلامات للأسلاك السالبة والأسلاك الموجبة ، لنأخذ الضوء أو الحركة . وإذا ما حدث خطأ في هذه التوصيلات الكهربية؛ نفاجأ بحدوث قطع في الكهرباء ، وقد تحدث حرائق نتيجة شرارة من الاتصال الخاطئ .
إذن فكل تكاثر وإنجاب من كل سالب وموجب أي ذكر وأنثى لا بد أن يكون على مواصفات من صنعه وإلا يحدث قطع ودمار ، فإن تزوجنا بشرع الله ورسوله ، استقامت الحياة ، وإن حدث شيء على غير شرع الله ، تشتعل الحرائق في الكون .
(1/2026)

ولذلك تجد العجب أمامك عندما تشهد عقد قران ، تجد ولي الزوجة وهو مبتسم منشرح يوجه الدعوات للناس لأن شابا جاء يتزوج ابنته ويقدم الحلوى ، لكن لو كانت هذه العروس تجلس في المنزل وحاول شاب أن يتلصص لرؤيتها ، فما الذي يحدث في قلب والدها؟ إنه يغلي من الضيق والغضب والتوتر ومن الذي يتلصص لأنه ذهب إلى الفتاة بغير ما أحل الخالق . لكن عندما يدق الباب ويخطبها من أبيها؛ فالأب يفرح ، فقد جاء في الأثر : ( جدع الحلال أنف الغيرة ) .
ونجد الأب ينتقل من موقف الغيرة إلى موقف الفرح يوم زفاف ابنته ، وتذهب الأم صباح اليوم التالي للزفاف لترى حالة ابنتها ولتطمئن ، هل الابنة سعيدة أو لا؟ إذن . فلا يقولن أحد : إن الله خلق أشياء فلماذا حرمها؟ ، لأن الله خلق تلك الأشياء ولها عمل فيما أحل ، ومادام سبحانه قد جعل لهذه الأشياء عملاً فيما أحل . فليس لك دخل إلا بالحلال .
ولذلك يقول الحق رداً على تساؤل المؤمنين : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } أي أن كل طيب قد حلله الله ، وكل خبيث حرمه الله ، فلا تقولن : هذا طيب فيجب أن يكون حلالاً ، وهذا خبيث فيجب أن يكون حراما ، ولكن قل : هذا خلال فيجب أن يكون طيبا ، وهذا حرام فيجب أن يكون خبيثا . وإياك أن تحكم أولا بأن هذا طيب وهذا خبيث ثم تبنى على ذلك التحريم والتحليل ، فأنت لا تعرف مثلما يعرف خالقك عن كيفية وجدوى ترتيب الأشياء بالنسبة لك ، حتى لا تقع في دائرة الذين يستطيبون المسائل الضارة؛ كهؤلاء الذين يتناولون المخدرات والسموم والخمور ، بل يجب أن تحرص على فهم ما أحل الله فستراه طيبا ، وترفض ما حرم الله لأنه خبيث ، فلا تظن أبداً أن كل طيب ظاهريا محلل لك؛ لأن هذا الشيء الطيب في ظاهره قد يكون خبيثا .
وعليك أن تترك تحديد الطيب والخبيث لخالقك ، فهو أدرى بك وبالمناسب لك . امّا أنت فتعرف الشيء الطيب من تحليل الله له . وتعرف الخبيث من تحريم الله له . والحكم هنا يكون للتكليف ، فالله هو الذي خلق ، والله هو الذي يعلم الصالح للإنسان . فالمسألة إذن ليست العناصر؛ ولكنها إرادة الخالق لتلك العناصر ، فهو الذي قدر فهدى .
الخلاصة إذن في هذا الموضوع هي : أن الحق أحل للمؤمنين الطيبات وكل شيء أحله الله يكون طيباً ، وكل شيء حرمه الله يكون خبيثاً ، فلا تنظر أنت إلى الآراء البشرية التي يقول بعضها على شيء إنه طيب فيكون حلالاً ، وإن ذلك الشيء خبيث فيكون حراماً ، فأنت وغيرك من البشر لا يعرفون ترتيب الأشياء ولا فائدتها ولا مضرتها بالنسبة لك .
(1/2027)

والدليل : أن البشر يتدخلون في بعض الأحيان في تحريم أشياء بالنسبة لبعضهم البعض ، فنجد الطبيب يقول للمريض : أنت مريض بالسكر فلا يصح أن تتناول النشويات والسكريات .
فإذا كنا نسمع كلام الطبيب وهو من البشر ، أفلا يجدر بنا أن نستحي ونستمع لأمر الخالق؟! بل نتجاسر ونسأل : لماذا حرمت علينا يا رب الشيء الفلاني؟ وقد يخطئ الطبيب لكن الله لا يمكن أن يخطئ . فهو ربنا المأمون علينا ، فما أحله الله يكون الطيب وما حرمه يكون الخبيث ، وهذه قضية يتعرض لها أناس كثيرون ، فعلى سبيل المثال نسمع من يستشهد الاستشهاد الخاطئ وفي غير موضوعه بقول الحق : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ]
ويقول : إن عملي يأخذ كل وقتي . ولا فسحة عندي لإقامة الصلاة ، والله لم يكلفنا إلا ما في الوسع . ونقول : وهل أنت تقدر الوسع وتبني التكليف عليه؟ لا . عليك أن تسأل نفسك : أكلفك الله بالصلاة أم لا؟ . فإذا كان الحق قد كلفك بالصلاة ، وغيرها من أركان الإسلام فهو الذي علم وسع الإنسان في العمل . ويجب أن تقدم التكليف أولاً لتعرف طاقة الوسع من بعد ذلك . وكذلك أسأل نفسك عما حلله الله واعرف أنه طيب وما حرمه الله فهو خبيث .
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } وإذا سألنا ما تلك الطيبات؟ عرفنا أنها غير ما حرم الله ، فكل غير محرم طيب ، أو أنهم سألوا عن أشياء سيكون الجواب السابق هو الإجابة الطبيعية لها ، وقدم الله الإجمال الذي سبق أن شرحناه . وبعد ذلك يكون المسئول عنه في مسألة الصيد بالكلاب ، فجاء لهم بالبيان في مسألة الصيد بالكلاب ، وكانت تلك مسألة مشهورة عند العرب بالجاهلية ، وكذلك صيد الطيور . فقال : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح } فقد وضع الحق القضية العامة أولاً ، ثم خصص بعد ذلك .
لقد كانت مسألة صيد الجوارح موضوع سؤال من عدي بن حاتم - رضي الله عنه - عن الصيد بالكلاب وبالطيور . وعلينا أن نحسن الفهم عن القرآن بحسن الفهم عن النص ، فالحق يقول هنا : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح } فهل الكلاب والفهود والنمور التي تصطاد بواسطتها هي المحللة لنا لأننا علمناها الصيد؟ لا . { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } هي قضية منتهية . وبعد ذلك فهنا كلام جديد هو : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
إذن فالذي أُحل هو ما أمسكت ما علمت من الجوارح ، وليست الجوارح التي يعلمها الإنسان ، اي أن الحق أحل لنا الطيبات وأكل ما أمسكت علينا الكلاب التي علمناها الصيد . و " الجوارح " مفردها " جارح " ومعناها " كاسب " ، ولذلك تسمى أيدينا جوارح ، وعيوننا جوارح ، وآذاننا جوارح؛ لأننا نكسب بها المدركات .
(1/2028)

فالعين جارحة تكسب المرئي ، والأذن جارحة تكسب المسموع . والأنف جارحة تكسب المشموم . واللمس جارحة لأننا نكسب بها الملموس . ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ]
و " ما جرحتم " أي ما كسبتم ، إذن فالجارحة هي الكاسبة . وقوله الحق : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح } مقصود به الحيوانات التي نعلمها كيف تصطاد لنا ، وسميت جوارح ، لأنها كاسبة لأصحابها الصيد ، فالإنسان يطلقها لتكسب له الصيد ، أو أنها في الغالب تجرح ما اصطادته . وكلا المعنيين يصح ويعبِّر .
والأصل في ما عَلّم الإنسان من الجوارح هو الكلاب ، وألحق بالكلاب غيرها مثل الفهود والنمور والصقور . والحق قال : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } أي ما بذلتم من جهد في تدريب هذه الجوارح للصيد ، فالإنسان لا يطلق الكلب أو الصقر ليصطاد ، لكنه يقوم - أولاً - بتدريب الحيوان على ذلك .
ومثال ذلك : عندما يقوم مدرب القرود بتدريب كل قرد عل الألعاب المختلفة ، وكذلك مدرب " السيرك " الذي يقوم بتدريب الأسود والفيلة ، فهذا الفيل الضخم يقف بأربعة أرجل على اسطوانة قطرها متر واحد ، وذلك كله ممكن بالتدريب بما علمكم الله وألهمكم أيها البشر وبما أعطاكم من طول البال وسعة الحيلة .
وننتبه هنا إلى نقطة هامة : إن الإنسان يقوم بتدريب الحيوان على ألعاب ومهام مختلفة ولكن الفيل - على سبيل المثال - لا يقدر على تدريب ابنه الفيل الصغير على الألعاب نفسها . وهذا هو الفارق بين الإنسان والفيل ، فابن الإنسان يتعلم من والده وقد يتفوق عليه ، لكن تدريب الحيوان مقصور على الحيوان نفسه ولا يتعداه إلى غيره من الحيوانات من الجنس نفسه أو الذرية فلا يستطيع الحيوان الذي درّبته ورَّوضته وعلمته أن ينقل ذلك إلى ذريته ونسله فلا يستطيع أن يعلم ابنه .
وكلمة " مكلب " تعني الإنسان الذي يعلم الكلاب ويدربها على عملية الصيد . وقال البعض : إن " مكلب " أي الرجل الذي يقتني الكلاب؛ لكنا نقول : إن الإنسان قد يقتني الكلاب لكنه لا يقوم بتدريبها ، إذن المكلب هو الذي يحترف تدريب الكلاب ، ومثله مثل سائس الخيل الذي يدرب الخيل؛ فالحصان يحتاج إلى تدريب قبل أن يمتطيه الإنسان أو قبل أن يستخدمه في جر العربات .
ولماذا ذكر الله " المكلبين " ولم يذكر مدربي الفهود؟ . لأن الغالب أن الكلب شبه مستأنس ، أما استئناس الفهد فأمر صعب بعض الشيء . و " مكلبين " تعني المنقطعين لتعليم الكلاب عملية الصيد . ويعرف معلم الكلاب أن الكلب قد تعلم الصيد بأنه إذا ما أغراه بالصيد فإن الكلب يذهب إليه . وإذا ما زجره المدرب فهو يرجع من الطريق . وإذا ما ذهب الكلب إلى الصيد بعد تعليمه وتدريبه وأمره المدرب أن يحمل الصيد ويأتي؛ فالكلب يطيع الأمر .
(1/2029)

ويأتي بالصيد سليماً ولا يأكل منه . فهذه أمارة وعلامة على أن الكلب تعلم الصيد ويمكن تلخيصها في هذه الخطوات : إذا أرسلته للصيد ذهب ، وإذا زجرته انزجر ، وإذا استدعيته جاء ويأتي بالصيد سليماً لا يأكل منه . فإن أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم؛ لأنه أمسك الصيد على نفسه ، ولم يمسكه على صاحبه . ولذلك حدد الحق عملية الصيد بقوله عن الحيوانات التي تؤدي هذه المهمة : { مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
ومن ضمن عملية التدريب هناك إطار إيماني ، فالتدريب العضلي هو عملية يعلمها المكلِّب للكلب أما الإطار الإيماني فهو ذكر اسم الله على الصيد : { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } وذلك حتى يكون الصيد حلالاً ، ولا يقع في دائرة { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } . وإذا ما هجم الكلب على الصيد وقتله ، يكون الصيد حلالاً ، إن كان صاحب الكلب قد قال : " بسم الله والله أكبر " قبل أن يرسل الكلب إلى الصيد . وإن لم يذكر اسم الله فعليه أن ينتظر إلى أن يعود الكلب بالصيد ، فإن كان في الصيد الحياة فليذكِّه أي يذبحه ، ويذكر اسم الله ، وإن مات الصيد قبل ذلك فلا يأكل منه . وكذلك إذا اصطاد الإنسان بالبندقية . . إن ذكر اسم الله أولاً وقبل أن يطلق الرصاصة فليأكل من الصيد .
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } هذه هي القضية العامة ، ومن بعد ذلك يحدد لنا الحق ألا نأكل الكلاب ، ولكن هذه الكلاب التي نعلمها الصيد وتصطاد لنا ما نأكله بشرط أن تذكر اسم الله على الصيد قبل إطلاق الكلب للصيد ، أو بعد أن تذبح الصيد الذي اصطاده الكلب ، فذكر اسم الله مسألة أساسية في تناول النعم ، لأننا نذكر المذلل والمسخر ، ولا يصح أن نأخذ النعمة من وراء صاحبها دون أن نتذكره بكلمة .
ويذيل الحق الآية بقوله : { واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } وتقوى الله في هذا المجال تعني ألا يؤدي الإنسان هذه الأمور شكلياً ، وعلى المؤمن أن يتقي الله في تنفيذ أوامره بنية خالصة ودقة سلوك؛ لأنه سبحانه سريع الحساب بأكثر من معنى ، فمهما طالت دنياك فهي منتهية . ومادام الموت هو نهاية الحياة فالحياة قصيرة بالنسبة للفرد . وإياك أن تستطيل عمر الدنيا؛ لأن عمر الدنيا لك ولغيرك فلا تحسب الأمر بالنسبة إليك على أساس عمر غيرك الذي قد يطول عن عمرك . إذن مدة الحياة محدودة ، ومادام الموت قد جاء ، فعلى المؤمن أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته " .
والإنسان منا يعرف من خبر القرآن أن الموت مثل النوم . لا يعرف الإنسان منا كم ساعة قد نامها ، ونعرف من خبر أهل الكهف أنهم تساءلوا فيما بينهم :
(1/2030)

{ وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [ الكهف : 19 ]
إذن هم لم يتبينوا أنهم ناموا ثلاثمائة عام وتسعة أعوام إلا بعد أن سألوا ، وكذلك من يموت فهو لن يدري كم مات إلا يوم البعث . أو أنه سبحانه سريع الحساب أي أن له حساباً قبل حساب الآخرة ، وهو حساب الدنيا . فعندما يرتكب العبد المخالفات التي نهى عنها الله ، ويأكل غير ما حلل الله ، فهو سبحانه قادر على أن يجازي العبد في الدنيا في نفسه بالأمراض أو التعب أو المرض النفسي ، ويقف الأطباء أمام حالته حائرين . وقوله الحق : { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } يصح ان تكون السرعة في الحساب في الدنيا ويصح أن تكون في الآخرة .
أو أنه سبحانه سريع الحساب بمعنى أنه يحاسب الجميع في أقل من لمح البصر ، فالبعض يظن ظناً خاطئاً أنهم سيقفون يوم القيامة في طابور طويل ليتلقى كل واحد حسابه . لا ، هو سبحانه يحاسب الجميع بسرعة تناسب طلاقة قدرته . ولذلك عندما سئل الإمام علي - كرم الله وجهه - : كيف سيحاسب الله كل الناس في وقت واحد ويقال إن مقداره كنصف يوم من أيام البشر؟ . فقال الإمام علي : فكما يرزقهم جميعاً في وقت واحد هو قادر على حسابهم في وقت واحد .
فسبحانه لم يجعل البشر تقف طابورا في الرزق ، بل كل واحد يتنفس وكل واحد يأكل ، وكل إنسان يسعى في أرض الله لينال من فضله . ولا أحد بقادر على أن يحسب الزمن على الله؛ لأن الزمن إنما يُحسب على الذي يحدث الحدث وقدرته عاجزة ، لذلك يحتاج إلى زمن .
إننا عندما ننقل حجراً متوسط الحجم من مكانه فإن ذلك لا يكلف الرجل القوي إلا بعضاً من قُوَّته ، لكن هذا العمل بالنسبة لطفل صغير يحتاج إلى وقت طويل ، فما بالنا بخالق الإنسان والكون؟ وما بالنا بالفاعل الذي هو قوة القوى؟ هو لا يحتاج إلى زمن ، وهو سريع الحساب بكل المعاني .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات . . . }
(1/2031)

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
سبحانه يبدأ الآية بتكرار الأمر السابق : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } . وأعادها حتى يؤكد على أن الإنسان لا يصح أن ينظر إلى الأمر الطيب إلا من زاوية أنه محلل من الله .
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللات ، وأسلوب التعامل مع الصيد . نأتي هنا لوقفة ، فسبحانه يقول : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } فهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا؟ إن بعضهم يأكل الخنزير . لا ، بل الحلال من طعام أهل الكتاب هو الطعام الذي يكون من جنس ما حلل الله لكم ، ولا يستقيم أن يستنكف الإنسان من أنه طعام أهل كتاب؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من الإنسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين ، ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم لله ، يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من الاتصال لأنهم ارتبطوا جميعا بالسماء ، ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الأرض بالسماء .
إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب لا ، ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل في الإسلام فهو حلال . ولا يصح أن تمنع واحداً من أهل الكتاب من طعامك؛ لأن الله يريد أن ينشئ شيئا من الألفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالإله وإن اختلفوا في تصوره .
وضرب لنا - سبحانه - المثل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي أول مجيء الدعوة الإسلامية ، واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار ، ولا يؤمن بالإله وهو معسكر فارس؛ ومعسكراً يؤمن بالإله وهو معسكر الروم؛ كانت هناك قوتان في العالم : قوة شرقية وقوة غربية . وعندما يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق الله ، فلا بد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين معه مع الذين آمنوا بإله وبنمهج ورسالة ، ولا يكون قلبه مع الملاحدة الذين يعبدون غير الله .
ولنر العظمة الإيمانية في الرسول عليه الصلاة والسلام . نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون به كرسول أولى عنده ممن يكفرون بالله . ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة أولا لفارس . وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم؛ لأنهم أقرب إلى معسكر الإيمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بالله ، وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث ، ولذلك يضربها الحق مثلا في القرآن ليعطينا عدة لقطات ، وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين في جانب من عنده رائحة الإيمان ، فيقول سبحانه : { الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم }
(1/2032)

[ الروم : 1-5 ]
وتبدأ هذه الآيات بخبر عن هزيمة الروم ، ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين . ويوم نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر الله . وتنظر القوة الإسلامية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا جامعا مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمتين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري ، هذه القوة الإسلامية تتعاطف مع الروم وتحزن - القوة الإسلامية - لأن الفرس قد غَلَبت . فيأتي الحق بالخبر اليقين وهو سَتَغْلِبُ الروم .
وبالله من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظيمتين؟ إنه حكم لا يستغرق يوما ، حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر ، إنه حكم يستغرق بضع سنين . فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين؟ لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجازف بهذا الحكم ، وهو لا يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها ، لكن الأمر يأتي كخبر موثق من الله : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ } [ الروم : 3-4 ]
وهذا كلام موثق ، لأنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبداً . وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه الآية ، قال لقد أقمت رهاناً بأن الروم ستنتصر بعد ثلاث سنين ، وطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمد مدة الرهان لأن الله قال : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } والبضع ما بين الثلاث إلى التسع ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر - رضي الله عنه - فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلت مائة قلوص ( ناقة ) إلى تسع سنين . كأن هذا الأمر قد لقي الوثوق الكامل من المؤمنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر .
لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مع الذين يؤمنون بكتاب وبرسول . ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب حتى تكون هناك صلة بيننا وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } .
وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون } [ الممتحنة : 8-9 ]
فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فلا نساوي بين ملحد مشرك ومؤمن بصلة السماء بالأرض وإن كفر برسول الله . وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل الإنساني . فالذي يحل للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلالا في منهج الإسلام . ويجب أن ينتبه المسلم إلى أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه الامتناع عن كل ما هو محرم في ديننا ولياكل من طعامهم ما هو حلال لدينا .
(1/2033)

فلا يشرب المسلم خمراً ، ولا يأكل المؤمن لحم الخنزير .
والطعام كما نعلم وسيلة لاستبقاء الحياة . وها هوذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل؛ فقد أحل الله لنا أن نتزوج من بناتهم { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } .
والمحصنة لها معنيان : وهي إما أن تكون الحرة في مقابل الأمة ، وإما أن تكون المتزوجة؛ لأن الإحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلاطا غير شريف . وكانت الحرة قديما لا تفعل الفعل القبيح . وكان البغاء مقصورا على الإماء؛ لأن الأمة لا أب لها ولا أخ ولا عائل ، وهي مُهْدَرة الكرامة . ولذلك نجد أن هنداً زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلت : يا رسول الله أَوَ تزني الحرة؟! كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية؛ لأن الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها .
والمحصنة أيضاً هي المتزوجة . ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل الكتاب ، والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن . وبعض العلماء يقول : عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر ، لأن الدين الواحد يعطي الأمان العهدي ، أما الزواج من كتابية فيجب أن يحدد الإنسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك . فالإيتاء هو أن يسمي الإنسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود . ويستطيع أن يجعل الإنسان المهر كله مؤخراً . والشرط أن يكون الرجل محصناً أي متعففاً .
ويحدد الحق : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } أي صدائق لهم دون زواج ، والسفح هو الصب . والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل ، والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج ، والخدن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على الأنثى . وإياك أن تفكر في أمر إقامة علاقة زواج متعة ، بل لا بد أن يكون الإقبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي لا الزواج الاستمتاعي .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } ؛ لأن فائدة الإيمان أن يستقبل المؤمن الأحكام ممن آمن به إلها وينفذها . فإن سترت شيئا من أحكام الله التي آمنت بها فقد كفرت بالإيمان . والحق لا يضره أن يكفر الناس جميعاً؛ لأنه هو الذي خلق الخلق بداية وهو متصف بكل صفات القدرة والكمال .
إذن فالعالم كله لا يضيف إلى الله شيئا ، فقبل أن يخلق الله الإنسان كانت كل صفات الكمال موجودة لله . وكل ثمار الطاعة والعبادة والإيمان إنما تعود على الإنسان . فإن جاء الإنسان إلى الأحكام التي شرعها الله له ، وستر حكما منها فكأنه كفر بقضية الإيمان . وإن أنكر جزئية من جزئيات الإيمان ، فهذا لون من الكفر ، ويا ليت من يفعل ذلك أن يقول : " إن هذه الجزئية صحيحة ولكن لا أقدر على نفسي " .
(1/2034)

ففي هذه الحالة يكون الإنسان مؤمنا عاصيا يستغفر الله أو يتوب ، أما الكفر فلا : والكفر بالإيمان يؤدي إلى حبط العمل . وهذا دليل على أن الحق يخاطب إنسانا يلتزم في بعض الأشياء ولا يلتزم في البعض الآخر . وهنا يوضح الحق للإنسان : إن ما أديت من خير في أعمالك سيذهب بثوابه ويحبط جزاءه ما منعت تنفيذه من أحكام الله ، وجاء الحق بكلمة " حبط " التي تدل على أن العمل بطل وذهب ذهابا لا يعود . فالماشية حين تأكل طعاما لم ينضج بعد وإن كان من جنس ما تطعم مثل البرسيم في بدايته ويسمى " الرِّبة " ، هذا اللون من الطعام عندما ترعى فيه البهائم يحدث لها انتفاخ في البطن وتموت .
والعرب تسمي هذا الداء الحُباط . فالحَبَط إذن هو انتفاخ البطن في الماشية التي تأكل أكلا غير مناسب لها . ويظن صاحبها أنها قد سمنت بينما هي تموت في الواقع . وكذلك يكون العمل على غير ما شرع الله . والحق بدأ قضايا الإيمان في هذه السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ]
فكل عقد إيماني يتعلق بالوحدانية لله وبالبلاغ عن الله ، وكل عقد عُقد بين المؤمنين بعضهم بعضا ، وكل عقد عقده الإنسان بينه وبين نفسه؛ هذه العقود مطلوب الوفاء بها ، ومن يكفر بهذه الأشياء فقد حبط عمله . وحبط العمل يأتي نتيجة أن الإنسان أنهى عمله وختمه بهذا اللون من الكفر وظن أنه عمل عملا صالحا . لكن العمل يحبط تماما كما تذهب البهيمة لترعى شيئا لا يتناسب معها فينتفخ بطنها . فيخيل للرائي أن ذلك شبع وأن ذلك عافية ، ثم لا تلبث أن تنفق وتموت . كذلك عمل الذي يكفر بالإيمان ، يظن أنه عمل شيئا ولكن ذلك الشيء متلف له . والآيات القرآنية تكلمت عن هذا المعنى كثيرا؛ فالحق يقول عن الكافرين بالله : { أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [ النور : 39 ]
ونعلم أن السراب هو شيء من انعكاسات الضوء يخدع الرائي السائر في الصحراء فيظن أنه ماء ، ويسير إليه الإنسان فلا يجده ماء ، هكذا يكون عمل الذي يكفر بآيات الله . إنها أعمال تبدو متوهمة النفع . وقول الحق سبحانه : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } أي أن مثل هذا الإنسان يفاجأ بوجود الله ، كأن مسألة وجود الإله لم تكن بخياله من قبل ، والإنسان لا يأخذ أجره إلا لمن عمل به . فهل عمل الواحد من هؤلاء لله حتى يأخذ منه أجراً؟ . لا . لم يعمل لله ، ولذلك نجد أن بعض السطحيين في الفهم يقولون : كيف لا يجزي الله الجزاء الحسن هؤلاء العلماء الذين اخترعوا العلاجات للأمراض ، والعلماء الذين ابتكروا الأشياء التي تنفع الناس؟ كيف لا يحسن الله جزاءهم في الآخرة؟
ونقول : لقد فعلوا ذلك ولم يكن الله في بالهم ، كان في بالهم الإنسانية ، وقد أعطتهم الخلود في الذكرى وأقامت لهم التماثيل ومنحتهم أوسمة ووضعت فيهم المؤلفات لتمدحهم .
(1/2035)

هم قد عملوا للناس فأعطاهم الناس . وهؤلاء الكافرون بتقدمهم في العلوم؛ مسخرون للإنسان المؤمن؛ فالمؤمن يستفيد من الكهرباء ، وينتفع بها المسلمون ليقرأوا القرآن والعلم والذكر . ويستفيد المسلم من الطائرات فيذهب بها إلى الحج وزيارة المدينة المنورة ، وينتفع بها كذلك في شئون دنياه ، وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب حتى لا يكونوا أذلة وعالة على غيرهم . والحق يسخر علم الكفار للمؤمنين ، ولا يثاب الكفار على هذا العمل من الله . ولذلك يقول الحق عن أعمالهم مرة : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ]
ومرة أخرى يقول الحق : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد } [ إبراهيم : 18 ]
وها هوذا سبحانه وتعالى يقول : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 103-105 ]
إذن فالإنسان الذي يستر الإيمان بعضه أو كله ، هو إنسان حابط العمل ، وهو في الآخرة من الخاسرين؛ لأن النجاح في الآخرة نتيجة لعمل الدنيا . ومادام قد عمل لغير الله في الدنيا فلا بد أن يكون من الخاسرين في الآخرة .
وقوله الحق : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } يوضح لنا ضرورة ألا نخدع ويغرر بنا لأن بعضاً من الكافرين يكسب بعضاً من الشهرة والجاه والثروة نتيجة اختراعاتهم؛ فكل ذلك أمور فانية ، وهم مستسلمون لسنة الله ، فإما أن يفوتهم النعيم وإما أن يفوتوا النعيم . والحساب الختامي يكون في الآخرة ، فالكافر وإن أخذ شيئاً من الكسب في ظاهر هذه الحياة الدنيا فهو خاسر في الآخرة .
وبعد ذلك ينتقل الحق ليربط لنا كل قضايا الدنيا رباطاً وافياً . فبعد أن يتكلم عن مقومات الحياة وعن مقومات النوع بالإنكاح وغيره ، يوضح : كل هذه نعم أعطيتها لكم وأريد أن آخذ بأيديكم بعد أن بينت لكم فضل هذه النعم عليكم؛ لتلتقوا بصاحب كل هذه النعم . هو سبحانه يريد أن يأخذنا من مشاغل الدنيا لنلقى المنعم . وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم - سبحانه - فلا بد أن تعد نفسك لهذا اللقاء؛ لأنها ليست مسألة طارئة؛ فلا بد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني .
إن الإعداد البدني يكون بالطهارة . والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة . والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة .
(1/2036)

وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم . ولذلك نقول : إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم؛ فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم . وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم؛ ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه . وإذا ما أراد الإنسان أن يلقى الله في الأوقات التي بين الصلوات؛ وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله؛ لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة :
[ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ] .
مثال ذلك أن الإنسان حين يصلي فهو يحتاج إلى قوة . والقوة تتولد في الجسم نتيجة تناول الطعام . إذن عملية صناعة الطعام أمر واجب وكل ما يترتب على ذلك عملية واجبة . ولذلك عندما يأتي واحد ويقول : أريد أن أنقطع للعبادة وأعتزل حركة الحياة . لنقل له : افعل ذلك بشرط واحد هو ألا تنتفع بحركة متحرك واحد في الحياة ، ولا تتناول أي طعام ، ذلك أن الرغيف الذي يقدمه لك إنسان هو من عمل بشر كثيرين لم ينقطعوا عن الحياة . ولنقل أيضاً : لماذا ترتدي هذا الجلباب؟ . إنه نتيجة حركة حياة بشر آخرين ، فهناك من زرع القطن وآخر حلج هذا القطن وثالث حوله إلى غزل ورابع نسجه وخامس قام بتفصيل هذا الجلباب . ولتنظر إلى ما خَلْف كل واحد من آلات . وإياك أن تنتفع بحركة واحد مشغول بالأسباب مادمت قد قررت الانقطاع عن حركة الحياة .
إن الشغل بالأسباب عبادة؛ لأن العبادة لا تتم إلا به . وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . ولذلك فَتَعَلُّم المهارات المفيدة للحياة هو فرض كفاية؛ والفرض الواجب على الإنسان : احد اثنين : إما فرض عين وهو الأمر المكلف به الفرد ولابد أن يؤديه ولا يجوز أن يؤديه أحدٌ نيابة عنه؛ كالصلاة ، وإنا فرض كفاية : وهو ما لا يتم الواجب إلا به لذلك كان واجباً ، فكل منا يريد الطعام .
لذلك لا بد من تقسيم العمل ، فهذا يزرع وهذا يصنع ، فلا بد من زراعة القمح ولا بد من إقامة المطاحن ولا بد من إقامة الأفران . ولا بد من مهندسين يصممون هذه الآلات . وكل ذلك أمور تسهل للإنسان أن يمتلك القوة لأداء الصلاة؛ وأن يقف بين يدي الحق ليؤدي الصلاة . إذن فكل ذلك أمر واجب ، وهو فرض كفاية . أي أنه فرض إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وإن لم يقم به بعضنا يكون الإثم على الجميع .
ومثال آخر هو الصلاة على الميت هي فرض كفاية ، فمن يصلي على الميت فهو يؤدي عنا ، وإن لم يصل أحد على الميت يكون الإثم على كل مسلم ، هكذا تتسع رقعة الإثم .
(1/2037)

وكل الأعمال التي لا يتم الواجب إلا لها فهي واجب ، ولذلك فهي فرض كفاية ، إن قام به البعض سقط الطلب عن الباقين ، وإن لم يقم به البعض فالإثم على الجميع .
وما موقف ولي الأمر في هذا؟ . على ولي الأمر أن يفرض القيام بفرض الكفاية على أحد الناس ، وإلا تعطلت الواجبات التي نقول عنها : إنها واجبات دينية . فحين يذهب المسلم إلى السوق فلا يجد خبزاً؛ يضعف ولا يملك الفكاك من المجاعة؛ ولن يقدر على الصلاة أو العمل لينتج أو يجد ادخاراً يكفيه أن يحج إذن : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما حثنا على أداء الصلاة في يوم الجمعة يقول : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ]
هو سبحانه يخرجنا من العمل إلى الصلاة ، ولم يخرجنا إلى الصلاة من فراغ ، لنلتفت إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق : { وَذَرُواْ البيع } وحين يذر الإنسان البيع ، فهو يذر الشراء من باب أولى؛ لأن البيع والشراء وجهان لعملية واحدة . والخلاف فقط أن المشتري قد يشتري السلعة وهو كاره لأن يشتري؛ لأنه يستهلك نقوده فيما يشتريه ، أما البائع فيريد أن يحصل على ثمن البيع فوراً ، وغالبا ما يحصل على ربح من وراء ذلك ، وتلك هي قمة الكسب . فكسب الزارع - على سبيل المثال - يأتيه بعد شهور من الزراعة . وكسب الموظف يأتيه أول الشهر . لكن البائع يحصل على الكسسب فوراً . ولذلك يأمرنا الحق أن نذر البيع إذا سمعنا نداء الصلاة يوم الجمعة ، وماذا بعد انتهاء الصلاة؟ .
ها هوذا الحق يقول : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ]
إذن فلا يقولن أحد أنا منقطع طوال حياتي للصلاة . فلن يستطيع أحد أن يذهب إلى الصلاة ما لم يكن يملك مقومات حياته . ومقومات الحياة تقتضي أن يضرب الإنسان في الأرض . ولا بد أن يبتغي الإنسان من فضل الله . إذن ، فالسعي في الأرض هو عبادة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . ويريد الحق سبحانه وتعالى ألا يعزل قضية تتعلق بمقومات الحياة طعاماً وإنكاحاً عن الصلاة . فيأتي الحق سبحانه وتعالى بشروط الوضوء استعداداً للصلاة بعد أن يتحدث عن أحكام تحليل الأطعمة وتحريم بعضها ، وبعض من أحكام النكاح ، وذلك لنعرف أن مسئوليات الإيمان كلها مترابطة ، فلا يصح أن نعزل عملاً ونقول : هذا عمل تعبدي وذاك عمل غير تعبدي .
والمؤلفون عندما يضعون الكتب في الفقه ويخصصون أقساماً في هذه الكتب للعبادات وأقساماً للمعاملات ، فهذا التقسيم تقسيم تصنيفي تأليفي ، لكن كل ما يطلبه الكون لينصلح فهو عبادة لخالق هذا الكون ، بدليل أنه قال : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } وهذا أمر .
(1/2038)

ويتلوه أمر آخر : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } .
إن الإنسان لا ينفذ أمراً ويهمل أمراً آخر ، ولكن عليه بمقتضى الإيمان أن ينفذ الأمرين معاً ، فإن تأخر الإنسان في أي من الأمرين فهو مذنب؛ لذلك يخبرنا سبحانه - من بعد الحديث عن النعم التي أنعم بها علينا - بما أحل لنا من بهيمة الأنعام ، وبما قص علينا من الزواج من المحصنات؛ ها هوذا يدخلنا إلى رحابه بالاستعداد للصلاة لأنه واهب كل النعم . ويأمرنا بالاستعداد للصلاة وأن يعد كل واحد منا نفسه لها .
وهذا الإعداد يؤهل المسلم ليلقى الحق فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . }
(1/2039)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
سبحانه يأمرنا بوضوح محدد : إذا أردتم القيام إلى الصلاة فلا بد لكم من تنفيذ عملية الوضوء .
وتتعرض الآية إلى الأركان الأساسية في الوضوء . وقد يلتبس الأمر على بعض الناس ولا يستطيع أن يميز بين سنن الوضوء وأركان الوضوء؛ لأن السنن تقتضي أن يغسل الإنسان يديه ثم يتمضمض ، ثم يستنشق الماء وهكذا . هذه هي السنن التي تمتزج بالأركان الأساسية للوضوء .
ويبدأ الحق أركان الوضوء الأساسية بقوله : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } والغسل يتطلب إسالة الماء على العضو وأن يقطر منه الماء بعد ذلك . والمسح هو اللمس بالماء ليصيب العضو ولا يتقطر منه الماء؛ إنه مجرد بلولة بالماء . والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في هذه الآية عن الوضوء ، تكلم عن أشياء تُغسل وعن شيء يُمسح . فالأمر بالغسل يشمل الوجه واليدين إلى المرافق والرجلين إلى الكعبين . والأمر بالمسح يشمل بعض الرأس . والغسل قد يكفي مرة أو اثنتين أو ثلاثا ليتأكد الإنسان تماما من الغسل ، ولكن إذا كانت المياه قليلة فيكفي أن يغسل الأجزاء المطلوبة مرة وأن يتأكد أنه قد غسل المساحات المطلوبة .
إن الزيادة على المرة الواحدة إلا ثلاث مرات أمر مسنون لا واجب وغسل الوجه معروف تماما للجميع ، فالوجه هو ما به المواجهة . والمواجهة تكون من منبت الشعر إلى الذقن ، وتحت منتهى لحييه وهما العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفلى ، هذا في الطول ، وفي العرض يشمل الوجه ما بين شحمتي الأذنين . ولا أحد يختلف في تحديد الوجه ، ولذلك أطلق الحق الوجه ولم يعينه بغاية ، فلم يقل : اغسل وجهك من كذا إلى كذا؛ ولكنه أمر بغسل الوجه ، فلا اختلاف في مدلول الوجه لدى الجميع . والكل متفق عليه ، هذا إذا ما بدأنا بالفروض الأساسية . لكن إذا ما بدأنا بالسنن فنحن نغسل الكفين إلى الرسغين أولا ثم نتمضمض ونستنشق .
وبعض العارفين بالله يقول عن هذه المقدمات التي هي من السنن : إنها لم تأت اعتباطا؛ لأن تعريف الماء هو : السائل الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، وإن تغير أي وصف من هذه الأوصاف يكون السائل قد خرج عن المائية . فساعة تأخذ الماء بيديك ستطمئن على لون الماء ، وتعرف أنه لا لون له ، وعندما تتمضمض فأنت تطمئن إلى أنه لا طعم له؛ وعندما تستنشق فأنت تطمئن على أن الماء لا رائحة له ، وبذلك تطمئن إلى أن الماء الذي تستعمله في الوضوء يكون قد استوفى الأوصاف قبل أن تبدأ في عمل المطلوب من أركان الوضوء التي يطلبها الله ، والسنة تقدمت هنا على الأركان لحكمة هي أن توفر للإنسان الثقة في الماء الذي يتوضأ منه . وبعد ذلك يغسل الإنسان الوجه من منابت شعر الرأس وتحت منتهى لحييه وذلك طولا وما بين شحمتي الأذنين عرضًا .
(1/2040)

وبعد غسل الوجه قال الحق : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } وميز الحق هنا الأيدي بتحديد المساحة المطلوب غسلها بأنها إلى المرافق ، أي أنه زاد غاية لم توجد في الوجه ، ولكن جاء الأمر بغسل اليدين إلى المرافق؛ لأن اليد تطلق في اللغة ويراد بها الكف ، مثال ذلك في حكم الحق على السارق والسارقة : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ]
وتطلق اليد أيضا ويراد بها الكف والساعد إلى المرفق . وتطلق اليد أيضا ويراد بها إلى الكتف . فلليد ثلاث إطلاقات . ولو أن الحق قد أمر بغسل اليد ولم يحدد الغسل ب " إلى المرافق " لغسل البعض كفيه فقط ، وغسل البعض يديه إلى المرافق ، ولغسل البعض يديه إلى الكتفين؛ ولأن الحق يريد غسل اليد على وجه واحد محدد؛ لذلك قال : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } .
إذن فساعة يريد الحق شيئا محددا ، فهو يأتي بالأسلوب الذي يحدده تحديدا يقطع الاجتهاد في هذا الشيء . وكلمة " إلى " تحدد لنا الغاية ، كما أن " مِن " تحدد الابتداء ، ولكن هل تدخل الغاية هنا أم لا؟ هل تدخل المرافق في الغسل أم لا؟ إن " إلى " قد تدخل الغاية ومرة أخرى لا تدخل الغاية .
فمثال إدخالها الغاية قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ]
هل أسرى الحق برسوله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ولم يدخله؟ لا أحد يعقل ذلك . إن " إلى " هنا تقتضي أن تدخل الغاية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ذهب إلى المسجد الأقصى بمراد الإسراء إليه والدخول والصلاة فيه . ويقول سبحانه : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ]
فهل يدخل الليل في الصيام؟ لا ، لأننا لو أدخلنا الليل في الصوم لصار في الصيام وصالٌ أي نصل الليل بالنهار صائمين . إذن فمع " إلى " تجد الغاية تدخل مرة ، وتجدها لا تدخل مرة أخرى . واختلف بعض العلماء حول المرفق هل يدخل في الغسل أو لا؟ وصار في عموم الاتفاق أن يدخل المرفق في الغسل احتياطيا؛ لأن أحداً لا يستطيع تحديد المرفق من أين وإلى أين . ونعرف أن هناك احتياطات للتعقل ، فمرة نحتاط بالاتساع ومرة نحتاط بالتضييق .
مثال ذلك عندما نصلي في البيت الحرام . ونحن نعرف أن الكعبة بناء واضح الجدران ، وبجانب جدار من جدران الكعبة يوجد الحطيم وهو حجر إسماعيل وهو جزء من الكعبة يحيطه قوس . وعندما يصلي إنسان حول الكعبة ، هل يتجه إلى الحطيم أم إلى بناء الكعبة؛ لأنه مقطوع بكعبيته ، والاحتياط هنا احتياط بالنقص ، فنتوجه إلى الكعبة وهي البناء العالي فقط ، ولكن عند الطواف . فإننا نطوف حول الكعبة والحطيم ، أي أن الاحتياط هنا يكون بالزيادة؛ لأننا إذا ما طفنا حتى من وراء المسجد فهو طواف حول البيت الحرام .
(1/2041)

إذن فالاحتياط يكون مرة بالنقص ومرة يكون بالزيادة . وفي مجال الوضوء يكون غسل المرافق هو احتياط بالزيادة؛ ذلك أن " إلى " تكون الغاية بها مرة داخلة ، ومرة تكون الغاية بها غير داخلة .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } الأسلوب هنا يختلف؛ فالمطلوب هو المسح . كان المطلوب أولاً هو الغسل للوجه على اطلاقه؛ لأنه لا خلاف على الوجه ، ثم غسل اليدين إلى المرافق ، وتم تحديد الغاية لأن الحق يريد الغسل لليدين على لون يقطع الجدل والاجتهاد فيه . ولو قال الحق : " امسحوا رءوسكم " مثلما قال : " اغسلوا وجوهكم " لما كان هناك خلاف . لكن لو قال : " امسحوا بعض رؤوسكم " فهل يوجد خلاف؟ نعم فذلك البعض لم يحدد . ولو قال : " امسحوا ربع رءوسكم " فهل يوجد خلاف؟ نعم قد يوجد خلاف لأن تحديد الربع عسير وشاق .
لماذا إذن اختار الحق هنا هذا الأسلوب { امسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } مع أن في الآية أساليب كثيرة ، منها أسلوب مجرد عن الغاية ، وأسلوب موجود به الغاية ، وهذا الأسلوب لا هو مجرد ولا هو موجود به الغاية؟ وقال الحق : { امسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } ولنا أن نبحث عن كيفية استعمال حرف ( الباء ) التي تسبق " رءوسكم " .
إن " الباء " في اللغة تأتي بمعان كثيرة . قال ابن مالك في الألفية :
بالباء استعن وعد عوض الصق ... ومثل " مع " و " من " و " عن " بها انطق
ومقصود بها أن تعطي الحرية للمشرع؛ لأن الباء تأتي لمعان كثيرة ، للاستعانة مثل : كتبت بالقلم ، ولتعدية الفعل اللازم نحو : ذهبت بالمريض إلى الطبيب ، وللتعويض مثل : اشتريت القلم بعشرين جنيها ، والالتصاق نحو : مررت بخالد ، وتأتي بمعنى " مع " مثل : بعتك البيت بأثاثه أي مع أثاثه ، وبمعنى " من " مثل : شرب بماء النيل أي من ماء النيل ، وبمعنى " عن " مثل قوله تعالى { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ، وتأتي أيضا للظرفية نحو : ذهبت إلى فلان بالليل أي في الليل ، وتكون السببية نحو : باجتهاد محمد منح الجائزة أي بسبب اجتهاده ، إلى غير ذلك من المصاحبة نحو : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي سبح مصاحبا حمد ربك .
إن الذي يقول : امسحوا بعض رءوسكم ولو شعرة ، فهذا أمر يصلح ويكفي وتسعفه الباء لغة ، والمسح يقتضي الإلصاق ، والآلة الماسحة هي اليد . وهناك من يقول : نأخذ على قدر الأداة الماسحة وهي اليد أي مسح مقدار ربع الرأس .
إذن كل حكم من هذه الأحكام يصلح لتمام تنفيذ حكم مسح الرأس ، ولو أن الله يريدها على لون واحد لأوضح ما أراد ، فإن أراد كل الرأس لقال : " امسحوا رءوسكم " كما قال : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } ، وإن كان يريد غاية محددة ، لحدد كما حدد غسل اليدين إلى المرفقين .
(1/2042)

ومادام سبحانه قد جاء بالباء ، والباء في اللغة تحتمل معاني كثيرة؛ لذلك فمن ذهب إلى واحدة منها تكفي ، لأن أي غاية محتملة بالباء أمر صحيح .
والأمر هنا أن يتفهم كل منفذ لحكم محتمل ألا يُخَطِّئَ الحكم الآخر . بل عليه أن يقول : هذا هو مقدار فهمي لحكم الله . والله ترك لنا أن نفهم بمدلول الباء كما أرادها في اللغة . وقد خلقك الحق أيها الإنسان مقهورا لأشياء لا قدرة لك فيها؛ كحركة الجوارح ، وكالأشياء التي تصيب الإنسان كالموت .
إن هناك أشياء أنت مخير فيها ، ولذلك كان تكليف الحق لك مبنيا على هذا؛ ففي أشياء يقول لك : " افعل كذا " أو " لا تفعل كذا " وفي أشياء أخرى يترك لك حرية التصرف في أدائها . وذلك حتى يتسق التكليف مع طبيعة التكوين الإنساني . فلم يَصُب الله الإنسان في قالب حديدي . ولنا في سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة؛ هذا الرسول الذي أوكل إليه الحق إيضاح كل ما غمض من أمور الدين؛ فقال له الحق : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ]
وحينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين في غزوة الأحزاب التي قال عنها الحق : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 11 ]
هذه المعركة كانت قاسية ، حرك الحق فيها الريح وتفرق فيها أعداء الإسلام ، وصرف الحق الأحزاب ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . وكان من المفروض أن يرتاح المؤمنون المقاتلون . لكن قبل أن يخلعوا ملابس الحرب جاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : أَوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال : نعم : فقال جبريل : فما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم ، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم . ف ( أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنا فأذن في الناس : " لا يصلين أحدٌ العصرَ إلا في بني قُريظة فأدرك بَعْضِهُّم العصرُ في الطريق ، فقال بعضهم لا نصلي العصرَ حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يُردْ منا ذلك فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعَنِّف أحدًا منهم " .
هي مسألة كبرى إذن . والتزاما بأمر النبوة خرج الصحابة إلى مواقع بني قريظة . وكادت الشمس تغرب وهم في الطريق؛ وانقسموا إلى قسمين؛ قسم قال : ستغيب الشمس ولم نصل العصر فلنصله قبل أن تغيب الشمس . وقال القسم الثاني : لقد أمرنا النبي ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة ، ولن نصليه إلا هناك وإن غابت الشمس . وصلى القسم الأول ولم يصل القسم الثاني .
(1/2043)

وعندما ذهبوا إلى المشرع وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا له الأمر لم يعب على أي جانب منهم شيئا ، وأقر هذا وأقر ذاك . وتلك فطنة النبوة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن كل حدث من الأحداث يتطلب زمانا ويتطلب مكانا ، والذين صلوا نظروا إلى عنصرية الزمن ، وخافوا أن تغيب الشمس قبل ذلك . والذين لم يصلوا نظروا إلى عنصرية المكان فلم يصلوا العصر إلا في مواقع بني قريظة . وأقر رسول الله الأمرين معا .
إن هذا يدلنا على أن هناك أشياء يتركها الحق قصدا دون تحديد قاطع لأنه يحبها على أي لون ، مثال ذلك أن فعل من يمسح ربع رأسه في الوضوء جائز ، وفعل من يمسح رأسه كلها جائز ، وجاء الحق بالباء الصالحة لأي وجه من وجوه مسح الرأس ، وكذلك شأن الخلافات في الأمور الاجتهادية . وإذا كانت القاعدة الشرعية تقول : " لا اجتهاد مع النص " فهذا لا يكون إلا مع النص الذي لا يحتمل الاجتهاد .
وليس كل التشريع هكذا؛ لأنه سبحانه أوضح ما لا يحتمل الاجتهاد ، وأوضح ما يحتمل الاجتهاد؛ وحينما كلف الله عبده الإنسان بتكليفات ، إنما كلفه بما يتناسب وتكوينه ، وكما أن تكوين الإنسان فيه أشياء هو مقهور عليها . فهناك الأحكام التي لا اختيار له فيها ، وهناك أمور اختيارية ، وما وصل إليه المجتهد هو حق وصواب يحتمل الخطأ ، وما وصل إليه غيره خطأ يحتمل الحق والصواب . وكل ما وصل إليه طرف من الاجتهاد حق لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوّب من صلى العصر قبل أن يصل إلى أرض بني قريظة ، وصوب كذلك من صلى العصر بعد أن وصل إلى مواقع بني قريظة . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتبر فعل كل فريق منهما صوابا .
ويقول الحق من بعد الأمر بمسح الرأس : " وأرجلكم " . وكان سياق النص يقتضي كسر اللام في " أرجلكم " ولكن الحق جاء بالأرجل معطوفة على غسل الوجه واليدين . وغير معطوفة على " برءوسكم " وهذا يعني أن الرجلين لا تدخلان في حيز المسح؛ إنما تدخلان في حيز الغسل .
ونبه الحق بالحركة الإعرابية على أنها ليست معطوفة على الجزء المصرح بمسحه ، ولكنَّها معطوفة على الأعضاء المطلوب غسلها . ولم يأت الحق بالممسوح في جانب والمغسول في جانب ليدل على أن الترتيب في هذه الأركان أمر تعبدي وإلا لجاء بالمغسول معا والممسوح معا ، ويحدد الحق أيضا غسل الرجلين إلى الكعبين : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين } . والرجل تطلق على القدم ، وتطلق على القدم والساق إلى أصل الفخذ . ويريد سبحانه غسل الرجلين محدودا إلى الكعبين .
وحتى نعلم أن هذه مسائل تعبدية؛ عرفنا أن اليد تطلق على الكف ، ومن أطراف الأصابع إلى الكتف يطلق عليه " يد " أيضا ، والمرفق في اليد هو الحد الوسط ، و " الكعبين " هو الحد الأول في الساق؛ لأن الوسط بعد الساق هو الركبة .
(1/2044)

إذن . ترتيب المسألة في اليدين كف وساعد وعضد؛ والمرفق في وسط اليد ، وفي الرجلين يقف الأمر عند الحد الأول وهو الكعبان . هي - إذن - مسألة تعبدية وليست مسألة قياسية .
ويبين الحق لنا أنه إذا أراد أمراً بدقة فهو يحدده بلا تدخل أو خلاف . أما إذا جاء بأمر غير واضح فهو إِذْنٌ منه سبحانه أن نجتهد فيه لنشعر أن لنا بعض الاختيار في بعض ما تعبدنا الله به ، وكله داخل في مرادات الله؛ لأن إيراد النص - شاملا - لكل المفهومات هو إِذْنٌ بهذا المفهوم وإِذْنٌ بذلك المفهوم .
{ فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } . إنّ الوضوء شرع لغير الجنب . أي أنه لمن يُحْدِثُ حدثا أصغر . وهناك فرق بين إخراج ما ينقض الوضوء وهو ما يؤذي ، وبين إخراج ما يُمتع ، فإنزال المني أو حدوث الجماع يقتضي الطهارة بالاغتسال . ونعلم أن الإنسان حين يستمتع بطعام؛ أو يستمتع برائحة ، أو بأي شيء هو محدود بوسيلة الاستمتاع به ، أما الاستمتاع بالجماع فلا يعرف أحد بأي عضو أدرك لذته . وهي مسألة معقدة إلى الآن . ولا يعرف أحد كيف تحدث ، مما يدل على أن جميع ذرات التكوين الإنساني مشتركة فيها . ومادام الأمر كذلك فالطهور يقتضي أن يغسل الإنسان كل جسمه :
{ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } .
وقد يقول قائل : أليست " لامستم النساء " كالجنابة؟
ونقول : إن الذي يجيء هنا هو حكم ثان يوضح لنا ما ينوب عن المياه ، لأن الحق يرتب لِعبادة لا تسقط عن المكلف أبداً؛ لذلك لن يكلفه بشيء قد لا يجده ، فقد لا يجد الإنسان المياه ، وعليه إذن بالتيمم؛ لأن الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن المكلف حتى في حالة مرضه الذي لا يستطيع أن يحرك معه أي عضو من جسمه ، هنا يسمح سبحانه للمريض أن يصلي جالسا ، أو مستلقيا أو يصلي بالإيماء برأسه ، أو يصلِّي بأهداب عينيه ، وحتى مريض الشلل عليه إجراء خواطر الصلاة وأركانها على قلبه؛ لأن فرض الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن الإنسان مادام فيه عقل .
إننا نعرف أن الصلاة هي الركن الوحيد من أركان الإسلام الذي يتطلب الاستدامة ، فيكفي المرء أن يقول الشهادة مرة واحدة في العمر ، ويسقط الصوم عن الإنسان إن كان مريضا ، ويطعم غيره ، أو يؤديه في أوقات أخرى إن كان مريضا مرضا مؤقتا أو على سفر . وقد لا يؤدي الإنسان الزكاة لأنه فقير ، وكذلك الحج لا يجب على من لم يملك الاستطاعة من مال أو عافية ، ولا تبقى من أركان الإسلام غير الصلاة فإنها لا تسقط أبداً .
(1/2045)

إن عظمة الصلاة توضحها كيفية تشريعها؛ لأن تشريعات أركان الإسلام كانت بالوحي ، أما تشريع الصلاة فقد جاء وحده بالمباشرة ولم يقل الله لجبريل : " قل للنبي التكليف بالصلاة " . بل استدعى الله النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكلفه بالصلاة .
وقلنا من قبل - ولله المثل الأعلى - حين يريد الإنسان أن يقدم أمراً لمرءوسيه ، فالموضوع قد يأخذ دوره في الأوراق اليومية التي تنزل منه إليهم . أما إذا كان الموضوع مُهمَّا فهو يتصل بالقائد التنفيذي للمرءوسين ويوضح مدى أهمية الموضوع ، أما إذا كان الموضوع غاية في الأهمية فالرئيس يستدعي القائد التنفيذي للمرءوسين ويبلغه أهمية الموضوع . إذن فكيفية إنزال التكليف تكون على قدر أهمية الموضوعات فما بالنا - إذن - بركن استدعى الله فيه محمداً إلى السماء ليكلفه به؟
وقد رأينا أن بعض التكليفات تجيء إلى رسول الله بالإلهام أن يفعله ، وبعضها جاء بالوحي من جبريل أن يفعله ، أما الصلاة فقد فرضها الله عندما استدعى محمداً إلى السماء إلى الرفيق الأعلى وفرض الله عليه الصلاة بالمباشرة ، وعلى أمة محمد أن تؤدي هذا الفرض خمس مرات في اليوم ، ولا تسقط أبداً . ولذلك جعلها الحق فارقة بين المسلم والكافر ، إن المسلم ساعة أذان الصلاة يقوم إلى الصلاة ، وهي استدعاء من الخالق لمن خلقه ليحضر في حضرته كل يوم خمس مرات . وأنت حر بعد ذلك ألا تبرح لقاء ربك؛ ولا يمل الله حتى يمل العبد .
وإياكم أن تجعلوا للزمان مع الله تخطيطاً؛ فتقولوا : هذا للعمل والضرب في الأرض ، وذلك لذكر الله؛ فمع ضربكم في الأرض لتبتغوا من فضل الله ، إياكم أن تنسوا الله؛ لأن ذكر الله أمر دائم في كل حركة يقصدها الإنسان لعمارة هذا الوجود ، وقد أراد الحق منا بوجودنا أن نعبده وحده لا شريك له : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ هود : 61 ]
إذن فكل ما يؤدي إلى عمارة الكون والارتقاء به هو أمر عبادي ، والحق سبحانه وتعالى يربط " العبادة " الاصطلاحية في الفقه بحركة الحياة كلها . ونجد مثالا لذلك حيما تكلمنا في سورة البقرة عن الأسرة كما جاء في قوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
(1/2046)

[ البقرة : 236-237 ]
ذلك أمر الدنيا ومصالح الأسرة ، وهو كلام في شئون تنظيم الأسرة ، ثم ينقلنا من بعد الكلام في تنظيم الأسرة إلى أمر نقول عنه إنه العبادة وهو قوله الحق : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 238-239 ]
ثم يعود بعد ذلك إلى شئون تنظيم الأسرة فيقول سبحانه : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [ البقرة : 240 ]
إذن فقد أخرجنا من كلام في نظام الأسرة إلى الصلاة ، ثم عاد بنا مرة أخرى إلى نظام الأسرة حتى تتداخل كل الأمور لتكون عبادة متماسكة متحدة فلا تقول : " هذه عبادة وتلك ليست عبادة " ، وأيضا؛ لأن الكلام في الصلاة وسط كلامه عن أمور الأسرة ينبهنا : إذا ذهبت إلى الصلاة فربما هدَّأت الصلاة من شِرة غضبك وحماسك ونزلت عليك سكينة تعينك ألا تنسى الفضل بينك وبين زوجك .
في هذه السورة - سورة المائدة - صنع الحق معنا مثلما صنع في سورة البقرة؛ فبعد أن تكلم في أشياء وقص علينا أمر النعمة ، ها هوذا يدخل بنا إلى رحاب المنعم ، إلا إنه سبحانه لم يدخلنا على المنعم إلا بتهيئة طهورية . طهارة أبعاض؛ كالوضوء بأن نغسل الوجه ونغسل اليدين إلى المرفقين ونمسح على الرأس ونغسل الرجلين إلى الكعبين . وأحكم في أشياء وترك للاجتهاد مدخلا في أشياء ، أحكمها في ثلاثة؛ غسل الوجه ، وغسل اليدين إلى المرفقين ، وغسل الرجلين إلى الكعبين ، لكنه حينما تكلم عن الرءوس لم يقل : " امسحوا رءوسكم " ولا : " امسحوا ربع رءوسكم " ، ولا " امسحوا بعض رءوسكم " مما يدل على أن للمجتهد أن يفهم في " الباء " ما تُتيحهُ اللغة من " الباء " . إذن أعطانا الحق أشياء محكمة وأشياء للاجتهاد . وبعد طهارة الأبعاض يذكرنا بطهارة البدن من الجنابة .
ونلتفت إلى الكلام الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة الأنعام من طعام وشراب ، ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الاستمتاع ودائرة الإنسال بأن أباح لنا أن نتزوج الكتابيات ، وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات .
ولما كان الطعام الذي أحله الله ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط ، والنكاح الذي أحله الله يغير كيماوية الجسد؛ لذلك جعل الله الوضوء لشيء ، والجنابة لها شيء آخر؛ فعن الطعام ينشأ الأخبثان ، وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الأكبر؛ فكان ولا بد بعد أن يتكلم عن طهارة الأبعاض في الحدث الأصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الأكبر؛ فقال : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } .
(1/2047)

الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن نستديم اتصالاتنا به ولم يشأ أن يجعل الوسيلة للصلاة بأمر الماء فقط؛ لأننا قد نفقد الماء وقد يوجد الماء ولا نقدر على استعماله؛ فلم يشأ الحق أن يقطع الصلة بأن يجعل الوسيلة الوحيدة للتطهر هي الماء ، فأوجد وسيلة أخرى . فإن فقدت الماء أيها الإنسان فلا بد ان تدخل إلى لقاء الله بينة تطهير آخر وهو التيمم . هذا أمر لا يفقده من عاش على الأرض . إذن فعندنا تَطَهُّر بالماء وعندنا تَطَهُّر بالتراب . لذلك يقول سبحانه :
{ وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } فإن كان الإنسان مريضاً لا يقدر على استعمال الماء ، أو كان على سفر ولا يجد الماء؛ أو جاء أحد من الغائط ، أي من قضاء الحاجة في مكان غويط وهو الوطئ المنخفض من الأرض ، وكانت العرب قديماً تفعل ذلك حتى لا يراهم أحد ويكونوا في ستر ، رجالاً أو نساءً ، وحتى بعد ملامسة النساء . إن لم يجد الإنسان بعدها ماء فالتيمم هو البديل ، وإياكم أن تقولوا إن الماء هو الوسيلة الوحيدة للتطهر ، فقد جعل للماء أيضاً خليفة وهو التراب . والتراب أوسع دائرة من الماء . فكأنه سبحانه وتعالى يريد أن يديم علينا نعمة البقاء به . ولكي يديم علينا نعمة اللقاء به جعل للماء - الذي يكون محصوراً - خليفة وهو التراب وهو غير محصور .
ولا نريد أن ندخل في متاهات الخلاف عن الطهارة من ملامسة النساء ، بين اللمس والملامسة؛ فاللمس لا يقتضي المفاعلة ، أما الملامسة فتقتضي المفاعلة . واقتضاء المفاعلة ينقل المسألة من مجرد اللمس إلى معنى آخر هو الجماع .
وفي حالة الجنابة وعدم وجود الماء فالتيمم هو البديل { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً } و " الصعيد " هو ما صعد على وجه الأرض من جنس الأرض بحيث لا تدخله صناعة الإنسان كالتراب والحجر ، لكن الطوب الأحمر ( الآجُرّ ) الذي نصنعه نحن فليس من الصعيد الصالح للتيمم؛ لأن صنعة الإنسان قد دخلته .
والأركان المفروضة في طهارة الأبعاض أربعة ، أما طهارة الجسم فهي طهارة واحدة تشمل كل الجسم . وفي حالة التيمم جعل الحق الطهارة استعداداً للصلاة عوضاً عن الوضوء بمسح الوجه واليدين ، وكذلك في الطهارة من الجنابة . ونلحظ أنه سبحانه جاء بالمسح في الوضوء على بعض من الرأس كإيناس متقدم ، وذلك حتى يكون لنا إلف بالمسح حينما نتيمم .
{ فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } وجعل الحق الطهارة بالماء أو التراب إزالة للحرج؛ فالإنسان الذي لن يجد ماء سيقع في الحرج بالتأكيد؛ لأنه يريد أن يصلي ولا يجد وسيلة للطهارة . وإذا كان عنده القليل من الماء ليشرب فهل يتوضأ أو يستديم الحياة ويُبقي على نفسه بشرب الماء؟ .
(1/2048)

ولا يريد الله أن يُعْنت خلقه ولا أن يوقعهم في الحرج ، بل خفف عليهم وجعل عنصر التراب يكفي كبديل للماء . { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } .
وإياك أن تفهم أن الطهارة هي للتنظيف؛ لأن معنى الطهارة لو اقتصر على التنظيف لكانت الطهارة بالماء فقط ، فلماذا إذن نمسح وجوهنا بالتراب؟ إن هذا يوضح أن الطهارة غير النظافة ، فلو قال قائل : سأنظف نفسي ب " الكولونيا " . نقول له : لا . ليس هذا هو المطلوب . والله لا يطلب نظافة بهذا المعنى ، ولكن يطلب التطهير . والتطهير يكون بشرط من تدخل عليه - وهو الله سبحانه - وقد وضع الحق لذلك أمرين : إما بالماء وإما بالتيمم بالتراب . فالطهارة تجعل المرء صالحاً ليستقبل ربه على ضوء ما شرع به . والذي يضع الشرط لذلك هو الله وليس أنت أيها العبد . وسبحانه قد أوضح أو العبد يكون طاهراً بالماء أو بالتراب ، وبهذه الطهارة يكون صالحاً لاستقبال الله له . وأعاد الله الإنسان في قربه منه إلى أصل إيجاده وهو الماء والتراب .
{ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } والإنسان مغمور بنعم كثيرة . فهب أن إنساناً غاب عنه أبوه لكن خير الأب يصله كل يوم من مال وطعام وشراب ووسائل ترفيه ، وبذلك يأخذ الإنسان نعمة الغاية من وجود أب له . ومع ذلك يشتاق هذا الإنسان المستمتع بنعمة والده الغائب إلى أن يكون مع والده ، هذا هو تمام النعمة بين الأب والابن وكلاهما مخلوق لله ، فما بالنا بتمام النعمة من الخالق لعباده؟
إن العبد الصالح يتمنى أن يرى مَن أنعم عليه؛ لذلك وضع الحق شرط الطهارة للقائه . وعندما يحضر الإنسان لحضرة ربه بالصلاة ويكبر : " الله أكبر " فهو منذ تلك اللحظة يوجد في حضرة الله . وإذا كانت الفيوضات تتجلى على الإنسان من نعمة مخلوق مثله سواء أكان أخاً أم أباً أم قريباً وهي نعمة مادية يراها الإنسان سواء أكانت طعاماً أم شراباً أم لباساً . فما بالنا بفيوضات المنعم الخالق الذي أنعم على الإنسان ، إنها فيوضات من غيب؛ فكرمه لك غيب كالاعتدال في المزاج والعافية ورضا النفس وسمو الفكر .
إذن فقوله الحق : { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي أنكم عشتم قبل ذلك مع نعمة المنعم ، وسبحانه يدعوكم إلى لقاء المنعم ، ذلك تمام النعمة . وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إننا نجد الابن ينظر إلى هدايا الأب الغائب ويقول : أنا لا أريد هذه الأشياء ولكني أريد أبي .
إن تمام النعمة - في المستوى البشري - أن يرى الإنسانُ المنعِمَ عليه وهو إنسان مثله ، أما تمام النعمة على المخلوق من الخالق فيستدعي أن يتطهر الإنسان بما حدده له الله وأن يصلي فيلقى الله .
{ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ساعة نسمع : أنا فعلت ذلك وذلك لعلك تشكر ، فهذا يعني أنك إن فعلت ما آمرك به فستجد أمراً عظيماً .
(1/2049)

والأمر الطبيعي يقتضي أن تَشْكُر عليه كأن ما فعله الله للإنسان يوجب عند الإنسان نعمة أخرى لا يمكن أن يستقبلها إلا بالشكر ، مثلما قال الله : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ]
إنّ السمع والأبصار والأفئدة هي منافذ الإدراك . ومادام الحق قد خلقنا ولا نعلم شيئاً ، وجعل لنا أدوات الإدراك . وأوضح : أنا خلقت لك هذه الأدوات للإدراك لعلك تشكر ، أي تلمح آثارها في نفسك مما يربي عندك ملكة الإدراك للمدركات .
ويقول الحق بعد ذلك : { واذكروا نِعْمَةَ . . . }
(1/2050)

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
وللإنسان أن يسأل : وما هو الذكر؟ . الذكر هو حفظ الشيء أو استحضاره ، فإذا كان حفظ الشيء فهو حفظ لذاته ، لكن الاستحضار يكون لمعنى الشيء . إذن فهناك فرق بين حفظ الشيء واستحضار الشيء ، هذا هو معنى الذكر . وقد يكون الذكر بمعنى القول؛ لأنك لا تقول الشيء إلا بعد أن تستحضره . ولذلك نجد في تكوين الجهاز العصبي الأعلى ذاكرة ، وحافظة ، ومخيلة .
ومن عجيب أمر التكوين الخلقي أن تمر أحداث على الإنسان في زمن مضى ولا يذكرها الإنسان لمدة طويلة تصل إلى سنوات ، ثم يأتي للإننسان ظرف من تداعي المعاني فيذكر الإنسان هذا الشيء الذي حدث منذ عشرين عاماً .
إذن فالشيء الذي أدركه الإنسان منذ عشرين سنة على سبيل المثال لم يذهب ، ولو ذهب ما ذكره الإنسان ، لكنه غاب فقط عن الذهن عشرين عاماً أو أكثر؛ فلما تداعت المعاني تذكره الإنسان . ومعنى ذلك أن هذا الشيء كان محفوظاً عند الإنسان وإن توارى عنه مدة طويلة .
فالذاكرة - إذن - معناها أن يستدعي الإنسان المحفوظ ليصير في بؤرة شعوره . مثال ذلك : حادث وقع بين إنسان وآخر منذ أكثر من عشرين عاماً . ونسي الإنسان هذا الحادث . فلما التقى بصديقه ، وجلسا يتذاكران الماضي تذكر الصديق الحادث الذي حدث له منذ أكثر من عشرين عاماً .
إذن فالحادثة لم تذهب من الذاكرة ، ولكنها محفوظة موجودة في حواشي الشعور البعيدة ، وكلما بعد الإنسان في الزمن يبدو وكأنه نسي الحادثة ، لكن عندما يأتي تداعي المعاني فالحادثة تأتي في بؤرة الشعور . فإذا ما جاءت في بؤرة الشعور من حواشي الشعور حيث مخزن الحافظة ، يتذكرها الإنسان . وهذه هي قوة الخالق جل وعلا .
وقد يسجل أحدنا على شريط تسجيل بعضاً من الكلام . ومن بعد ذلك يجب أن يسجل كلاماً آخر على الشريط نفسه فيمسح الكلام الذي سجله أولاً ، ولكن ذاكرة الإنسان تختلف ، فساعة تأتي المسائل في بؤرة شعوره فالإنسان يتذكرها . وإذا ما جاءت مسألة أخرى بعدها فلا بد أن تتزحزح المسألة الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور؛ لأن بؤرة الشعور لا تستقبل إلا خاطراً واحداً ، فإن شغلت بؤرة الشعور بخاطر آخر فهي تحفظ الخاطر الأول في حواشي الحافظة . ولا يمسح خاطر خاطراً آخر . فإن أراد الإنسان أن يستدعي الخاطر القديم ، كان ذلك في مقدوره ، وهذا هو الفارق بين تسجيل الخالق وتسجيل المخلوق .
وبعد ذلك نجد ان التذكر يكون للمعاني ، فالذي يخزن في ذاكرة الإنسان ليس أَجْرَاماً ، فلو كانت أجراماً لما وسعها المخ . ولهذا فالمعاني لا تتزاحم فيه ، بل تتراكم بحيث إذا ما جاء تداعي المعاني فالإنسان يتذكر ما يريد أن يذكره ، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان المخ من صنع الخالق الأعلى .
(1/2051)

ومادامت المعاني ليس لها حيز فالإنسان يقدر على حفظها في الذاكرة .
الإنسان قد يجلس ليتذكر أسماء الجبال في العالم فيقول : من جبال العالم قمة " إفريست " ، وجبال " الهمالايا " ، وجبل " أحد " وجبل " ثور " . وساعة يتذكر هذه الأسماء فهو يتصور معانيها ، فالموجود في ذهن الإنسان معاني هذا الكلمات وليس أجرام هذه الكائنات؛ لذلك فلا تزاحم أبداً في المعاني بل تظل موجودة ومختزنة في الذاكرة وحاشية الشعور .
وإياكم أن تفهموا أن إنساناً يملك من الذكاء ما يحفظ به الشيء من مرة واحدة : وآخرَ أقل ذكاء يحفظ بعد قراءة الشيء مرتين ، وثالثاً يحفظ عن ثلاث مرات لا ، لأن الإنسان يملك ذهناً كآلة التصوير يلتقط من مرة واحدة ، لكن لو أخذ الإنسان صورة لمكان وجاء شيء يضبب عدسة الصورة فهو يعيد التصوير ، وكذلك الذهن إن أراد الإنسان أن يأخذ لقطة لشيء ما لتستقر في بؤرة الشعور وفي بؤرة الشعر شيء آخر ، فالشيء لا يستقر في الذهن ، بل لا بد من قراءة مضمون اللقطة مرة ثانية ليؤكد الإنسان المعلومات لتنطبع في بؤرة الشعور .
ومثال ذلك الطالب الذي يدخل ساحة المدرسة التي يُعقد بها الامتحان . وقبل أن يدق جرس الامتحان بخمس دقائق يأتي له واحد من زملائه ويقول له : ها ذاكرت الموضوع الفلاني . فيقول الطالب : لا لم استذكره . فيقول الصاحب : هذا الموضوع سيأتي منه سؤال في الامتحان . فيخطف الطالب كتابا ويقرأ فيه هذا الموضوع لمرة واحدة . هذا الطالب في هذه اللحظة لا يتذكر ماذا سيأكل على الغداء هذا اليوم ، أو من سيقابل . بل يعرف أنه بصدد أمر فرصته ضيقة ، ويركز كل ذهنه ليستقبل ما يقرأه . وفي لحظة واحدة يحفظ هذا الموضوع . وإذا جاء الامتحان ووجد السؤال فهو يجيب عليه بأدق التفاصيل . وقد نجد طالبا آخر جلس لأيام يحاول استذكار هذا الدرس بلا طائل .
إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة ، شريطة ألا يستقبل الإنسان ما يقرأه أو يسمعه من معلومات والذهن مشغول بأشياء أخرى . والدليل على ذلك : أن الإنسان قد يسمع القصيدة مرة واحدة أو يسمع الخطبة مرة واحدة فيحفظ من القصيدة أكثر من بيت ، أو يحفظ من الخطبة أكثر من مقطع؛ لأن ذهن الإنسان في تلك اللحظة كان خياليا فالتقط الأبيات التي حفظها ، وكذلك الخطبة ، أما بقية أجزاء القصيدة أو الخطبة فقد يكون الذهن شرد إلى أشياء أخرى . ولذلك يحاول الإنسان أن يكرر الاستماع والإصغاء والقراءة أكثر من مرة ليهيئ ويعد بؤرة الشعور ، فيحفظ الإنسان ما يريد .
إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة ، أما الذاكرة فهي تتذكر أي تستحضر المعاني التي قد تختفي في الحافظة ، ولا شيء يضيع في الحافظة أبدا ، بحيث إذا جاء الاستدعاء طفت المعاني على السطح .
(1/2052)

كأن انطباعات الإنسان في نعم الله لا تُنسى أبدا . وهي موجودة عند الإنسان ، ولكنها تريد من الإنسان أن يستدعيها من الحافظة ويطلبها .
ولنر دقة الأداء القرآني : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } سبحانه يقول هنا " نعمة " مع ان نعم الله كثيرة ، ولكن الله قد آثر أن يأتي بالمفرد ولم يأت بالجمع . وذلك ليبين للإنسان أن أية نعمة في أية زاوية من حياة الإنسان تستحق أن يذكرها الإنسان؛ فنعم الله كثيرة ، ولكن ليتذكر الإنسان ولو نعمة واحدة هي نعمة الإيجاد من عدم ، أو نعمة البصر ، أو السمع . وكل نعمة من هذه النعم تستحق من الإنسان أن يتذكرها دائما ، ولا تطرد نعمة نعمة أخرى ، فما بالنا إذا كانت النعم كثيرة؟ ولو تمعن الإنسان في كل نعمة لاحتاجت إلى أن يتذكرها دائما ، أو أن النعمة اسم للجنس كله؛ لأن المفرد يطلق على كل الجنس ، مثل الإنسان فإنها تطلق على كل فرد من أفراده مثل محمد وعلي وخالد .
وكلمة " النعمة " قد تُنسب إلى سببها كنعمة سببها مروءة واحد من البشر ، وهي محدودة بمقدار الأثر الذي أحدثته . لكن نحن هنا أمام نعمة المسبب وهو الله ، ولا بد أن تناسب نعمة الله جلال وجمال عظمته وعطائه .
{ واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ } و " واثق " تقتضي امرين : فالإنسان طرف الاحتياج والفقر والأخذ ، والرب صاحب الفضل والعطاء والغنى ، إنه هو الربوبية وأنت العبودية ، وهو الحق القائل : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ]
إذن ف " واثقكم " تعني التأكيد من طرفين؛ لأن " واثق " على وزن " فاعَلَ " ، ولا بد في " فاعَلَ " أن تكون من اثنين . ومثال ذلك " شارك " تقولها لاثنين أو أكثر؛ فنقول : " شارك زيد عمراً "؛ وكذلك " قاتل زيد عمراً " . وحين يقول الحق : إنه " واثق عباده " أي أنه شاركهم في هذا الميثاق وقبله منهم . لكن أي ميثاق هذا؟
ونحن نعرف الميثاق الأول الذي هو ميثاق الذر : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ]
وهو ميثاق الفطرة قبل أن توجد النفس وشهواتها . وبعد ذلك هناك ميثاق العقل الذي نظر به الإنسان إلى الوجود واستطاع أن يخرج من تلك الرؤية بأن الوجود محكم ومنظم وواسع ، ولا بد لهذا الوجود من واجد وهو الله . وبعد ذلك ميثاق الإيمان بالله ، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما عرض منهج الإسلام آمن به بعض الناس ، أي أخذ منهم عهداً على أن ينفذوا مطلوبات الله ، ألم يأخذ الرسول عهداً في العقبة حين قالوا له :
خذ لنفسك ولربّك ما أحببت .
(1/2053)

فتكلم - رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام ثم قال : " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أُزُرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أبناء الحرب وأهل الحلقة ( السلاح ) ورثناها كابرا عن كابر .
وحدث هذا - أيضا - عند بيعة الرضوان تخت الشجرة . إذن فمعنى " واثقكم به " إما أن يكون العهد العام الإيماني في عالم الذر ، وإما أن يكون العهد الإيماني الذي جاء بواسطة الرسل .
{ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وحين يؤمن الإنسان يقول : سمعت وأطعت ، وهكذا تنتهي مسألة التعاقد . ويتبع الحق ذلك بقوله : { واتقوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } . واتقوا أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال من الله وقاية ، فالمطلوب منا أن نلتحم بمنهج الله إلتحاما كاملا ، وعلينا كذلك أن نجعل بيننا وبين صفات غضب الله وقاية . وعرفنا أن قوله الحق : " اتقوا الله " متساوٍ مع قوله : " اتقوا النار " ، وقد يقول قائل : وهل للنار أوامر ونواه؟
ونقول : أحسن الفهم عن ربك واجعل بينك وبين غضب الله وقاية ، فالنار جند من جنود الله . وسبحانه يوضح : اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية؛ لأن الحق له صفات جلال هي الجبروت والانتقام والقهر ، وللحق صفات جمال فهو الغفور الرحيم المغني ، الحكيم إلى غير ذلك من صفات الجمال ، إذن فلنجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية تقينا من جنود صفات الجلال ومنها النار .
وقلنا من قبل : إن الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغنا أنه في الليلة الأخيرة من رمضان يتجلى الجبار بالمغفرة . والنظرة السطحية تتساءل : ولماذا لم يقل : يتجلى الغفار بالمغفرة؟ ذلك أن ( الجبار ) صفة من صفات الجلال التي تقتضي معاقبة المذنب ، والذنب متعلق بصفات الجلال لا بصفات الجمال ، إذن فالمنطق يقتضي أن يقف المذنب أمام شديد الانتقام؛ لأن المقام يناسب صفات الجلال ، ولكن علينا أن نتذكر جيدا أن الله يرخي العِنان للمذنب لعله يتوب ، وأن الله يفرح بتوبة عبده وأن رحمته تَغْلب غضبه .
ويذيل الحق الآية : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } والتقوى - كما نعلم - لا تنشأ من الأفعال المحسة المدركة فقط ، بل تنشأ أيضا في الأحوال الدخيلة المضمرة . ومثال ذلك نية سيئة ونية حسنة . فالحقد ، الحسد ، التبييت ، المكر ، كل ذلك صفات سيئة؛ فإياكم أن تقولوا إن التقوى للمدركات فقط؛ بل للمحسات أيضا . وعمل القلوب له دخل في تقوى الله . ومن بعد ذلك يقول الحق : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ . . . }
(1/2054)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
إنّ الحق - كما علمنا - حين ينادي المؤمنين بقوله : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ } إنه سبحانه لم يقتحم على الناس تصرفاتهم الاختيارية لمنهجه ، بل يلزم ويأمر من آمن به ويوجب عليه؛ فيوضح : يا من آمنت بي إلها حكيما قادرا خذ منهجي . ولكن الحق يقول : { يا أيها الناس } حين يريد أن يلفت كل الخلق إلى الاعتقاد بوجوده ، أما من يؤمن به فهو يدخل في دائرة قوله الحق : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ } وهذا النداء يقتضي بأن يسمع المؤمن التكليف ممن آمن بوجوده .
ونعلم أننا جميعا عبيد الله ، لكن لسنا جميعا عباد الله . وهناك فرق بين " عبيد " و " عباد " . فالعبيد هم المرغمون على القهر في أي لون من ألوان حياتهم ، ولا يستطيعون أن يدخلوا اختيارهم فيه . قد نجد متمرداً يقول : " أنا لا أؤمن بإله " ولكن هل يستطيع أن يتمرد على ما يقضيه الله فيما يجريه الله عليه قهرا؟ فإذا مرض وادعى أنه غير مريض فما الذي يحدث له؟ أيجرؤ واحد من هؤلاء المتمردين على ألا يموت؟!! لا أحد يقدر على ذلك .
إذن فكل عبد مقهور لله ، وكلنا عبيد الله يستدعينا وقتما يريد ويجري علينا ما يريد بما فوق الاختيارات . أما " العباد " فهم الذين يأتون إلى ما فيه اختيار لهم ويقولون لله : لقد نزعنا من أنفسنا صفة الاختيار هذه ورضينا بما تقوله لنا " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " . إذن فالعبيد مقهورون بما يجريه عليهم الحق بما يريد ، والعباد هم الذين يرضون ويكون اختيارهم وفق ما يحبه الله ويرضاه؛ إنهم أسلموا الوجه لله . فهم مقهورون بالاختيار ، أمّا العبيد فمقهورون بالإجبار .
{ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } . و " قوام " صفة مبالغة والأصل فيها قائم ، فإن أكثر القيام نطلق عليه " قوام " . ومثال ذلك رجل لا يحترف النجارة وجاء بقطعة من الخشب وأراد أن يسد بها ثقبا في باب بيته؛ هذا الرجل يقال له : " ناجر " ولا يقال له : " نجار " ، ذلك أن تخصصه في الحياة ليس في النجارة . وكذلك الهاوي الذي يخرج بالسنارة إلى البحر؛ واصطاد سمكتين؛ يقال له : " صائد " لكنه ليس صياداً؛ لأن الصيد ليس حرفته .
إن الحق يطلب من كل مؤمن ألا يكون قائما لله فقط ، ولكن يطلب من كل مؤمن أن يكون قواما؛ أي مبالغ في القيام بأمر الله . والقيام يقابله القعود . وبعد القعود الاضطجاع وهو وضع الجنب على الأرض ثم الاستلقاء ، وبعد ذلك ينام الإنسان . ونحن أمام أكثر من مرحلة : قائم وقاعد ومستلق ، ونائم .
(1/2055)

والنائم ليس عليه تكليف . والمستلقي هو المستريح على ظهره والحق يقول : { فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ]
أي اجعلوا الله دائما على بالكم؛ فالإنسان يملك في حالته الطبيعية نشاطا يمكنه أن يقوم ويقعد؛ فإن قيل : " قال فلان بأمر القوم " أي أنه بذل كل جهد لإدارة أمور الناس ، والقيام في حركات الناس أصعب شيء . وسبحانه لا يريد منا أن نكون قائمين فقط؛ بل يريد أن نكون قوامين . ومادمنا قوامين فلن تخلو لحظة من قيامنا أن نكون لله؛ لله توجها . لا نفعا؛ لأن أية حركة من أي عبد لا تفيد الله في شيء؛ فالله خلق خلقه بمجموع صفات الكمال فيه ، ولم ينشئ خلقه له صفة جمال أو كمال جديدة . وعندما يؤدي الإنسان أي عمل لله فهو يؤديه طاعة وتقربا لله . وإذا أراد الله من المؤمنين أن يكونوا قوامين لله ، عندئذ تكون كل حركات المجتمع الإيماني حركات ربانية متساندة متصاعدة . وإذا كانت حركات المجموع الإيماني متساندة فسوف تكون النتيجة لهذه الحركة سعادة البشرية؛ فالإنسان إذا ما كان قواما فهو قوام لنفسه وللآخرين .
والمراد أن نكون مداومين على قيامنا في كل أمر لله . ولا تعتقد أيها المؤمن أنك تعامل خلق الله ، إنما تعامل الله الذي شرع لك ليضمن لك ويضمن منك ، فأنت إن طولبت بالأمانة ، فقد طولب كل الناس بالأمانة فيما هو خاص بك لا بغيرك ، وحين ينهاك الله عن الخيانة فقد أمر الحق الناس جميعاً بالانتهاء عن الخيانة لك .
إذن إن نظرت إلى تكليفات الله لوجدتها لصالحك أنت فلا يظنن ظان أن الدين إنما جاء ليقف أمام نفسه هو ، فالدين وقف أمام النفس لدى الناس جميعاً ، فحين يأمرك : ألاّ تمد يدك إلى مال غيرك فأنت واحد من الناس ، وفي هذا القول أمر موجه لكل الناس : لا تمدوا أيديكم إلى مال فلان لتسرقوه . فانظر إلى أن الحق حين شرع عليك شرع لك . ولذلك يجب أن يكون كل قيامك لله سبحانه . ولذلك يظهر الحق سبحانه وتعالى في بعض خلقه أشياء وأحداثاً تُفهم الناس أن الذي يعمل لخلق الله مسلوب النعيم ، والذي يعمل لله يكون موصول النعيم؛ فنجد الواحد من الناس يقول : " لقد صنعت لفلان كذا وكذا وكذا وأنكرني " . نقول له : أنت تستحق لأنك صنعت له ، ولكنك لو صنعت لله لكفاك الله كل أمر . ولذلك يقول الحق عن هؤلاء الذين صنعوا لله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ]
إذن فالمؤمن يجب أن يوضح حركة قيامه وينميها ، بمعنى أن يجعل كل حركته لله؛ فإن كانت كل حركته لله ، فالله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا . والخاسرون هم الذين يعملون للناس؛ لأن الناس لا يملكون لهم نفعاً وربما تخلوا عنهم وربما أضمرت وحملت قلوبهم الضغن والحقد لمن أحسن إليهم ، وربما تحولوا إلى أعداء لهم ، فالمصنوع له الجميل قد يعطيه الله بعضاً من الجاه ، وحين يلقى صانع الجميل بعد ذلك قد تتخاذل نفسه وتذل ، ونرى في بعض الأحيان واحداً يجلس بين الناس وقد أخذته العزة ، ثم يدخل عليه إنسان كان له فضل عليه ، وساعة يراه يكره وجوده في مجلسه ، ويتمنى ألا يحدث هذا اللقاء؛ وإذا ما لقيه بعد ذلك في طريق فهو يشيح بوجهه؛ لأن الذي صنع الجميل يسبب حرجاً له ، ويجعل نفسه تتضعضع ، وهو يريد أن يستكبر على الناس .
(1/2056)

إذن فالله يوضح : اعملوا لله؛ لإنه لا يضيع عنده شيء . واعلموا أن الله رقيب عليكم ولن يضيع عملٌ عنده .
وعندما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان قال : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
أتستطيع أنت أيها الإنسان أن تصنع في إنسان آخر ما يسوؤه أمامه؟ . أنت تسيء إلى ألاخر من وراء ظهره . فلماذا إذن يُسيء الواحد منكم إلى الله بالعصيان ، وهو الناظر إليكم جميعاً؟
إذن حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن تحسن معاملة نفسك وغيرك فعليك أن تحتسب كل عمل لك عند الله . فقد سخر لنا الحق كل الوجود وأعطانا كل مقومات الحياة ويوضح لكل واحد منا : يا عبدي اجعل كل قيامك لله؛ ولا تكن قائماً فقط ولكن كن قوّاماً . . بمعنى أنه مادامت فيك بقية من العافية للعمل فاعمل ، ولا تعمل على قدر حاجتك فقط ، ولكن اعمل على قدر طاقتك؛ لأنك لو عملت على قدر حاجتك فإن الذي لا يقدر على العمل لن يجد ما يعيش به .
إذن فاعمل على قدر طاقتك لتتسع حركتك للناس جميعاً . ويكون الفائض من عملك لغيرك . وحين يقول سبحانه : { كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط } يعلمنا ألا نضيع مجهودنا هباء ، بل نوجه المجهود للعمل ونقوم به لوجه الله ، لأنه سبحانه لا ينسى أبداً جزاء عبده ، وهو الذي يرد كل جميل . إنه - سبحانه - يقول : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } .
ويقول أيضا : { إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } [ التوبة : 120 ]
وحين يكون الواحد منا قوّاماً لله يكون قد استغل حركة وجوده لخير خلق الله ، وهذا العمل مطلوب منك . ولا يكفي أن تكون حركتك محصورة في ذلك ، بل يجب أن تمتد أيضاً حركة حياتك لتكون شاهداً بالعدل . وكذلك توجه للعدل من تحدثه نفسه أن ينحرف . وحين تكون قوّاماً لله فهذا أمر حسن ، وعليك أن تحاول إقناع غيرك بأن يكون قيامه لله بأن تكون شاهداً بالقسط والعدل . وحين تكون شاهداً بالقسط والعدل لا يتمادى ظالم في ظلمه . فالذي يجعل الظالم يشتد ويستشري ظلمه ويتفاقم شره هو أنه يجد من يدلسون على العدالة ويسترون ويخفون العيوب ويخادعون الناس .
(1/2057)

لكن لو وُجِد الإنسان الذي ينير الطريق أمام العدالة لما وجد ظلم . لكن الظالم يحب من يدلس عليه؛ فيقول لنفسه : إن فلاناً ارتكب جريمة مثل جريمتي ونال البراءة . وتدليس الشهادة يقود إلى خراب المجتمعات . ولو أن المجتمع حينما يرى أن شهادة أفراده هي شهادة بالقسط وشهادة بالعدل ، فإن كل فرد في المجتمع إذا هَمَّ بظلم يرتدع قبل أن يفعل الظلم ، ولكان الظالم ينال عقابه ويصير مثالاً لارتداع غيره . والمؤمن مطالب بالقيام لله بإصلاح ذاته ، ومطالب ثانياً أن يشهد بالقسط والعدل لإصلاح غيره .
وكلمة " القسط " تأتي منها اشتقاقات كثيرة ، وهي من الألفاظ التي قد تدل على العدل وقد تدل على الجور ، وهي من الألفاظ التي تستعمل في المر وفي نقيضه . وهذا من محاسن اللغة . ويتطلب ذلك أن يمحص السامع الكلمة ويتعرف على معناها بما يتطلبه السياق .
" وقَسَطَ " معناها " عدل " . والفعل المضارع لها هو يقسط . والمصدر " قِسطا " ، ومرة يكون المصدر " قُسوطا " . والمصدر هو الذي قد يحول المعنى من العدل إلى الجور . فالقِِسط بمعنى العدل . وقَسَطَ يَقْسِطُ قُسُوطاً . أي جار وظلم . هنا نجد الفعل يأتي بالمعنى وضده؛ حتى يمتلك السامع اليقظة والفطنة التي تجعله يعرف التمييز بين معنى العدل ومعنى الجور .
وحين نقول " أقسط " فإنها بمعنى عدل ، وهنا ننتبه إلى ما يلي : أن هناك فرقاً بين عَدْلٍ يأتي من أول الأمر وذلك هو القِسط ، وهناك حكم ظالم يحتاج إلى حكمٍ آخر يزيل الظلم . وذلك الذي نستعمل له " أقسط " أي أزال الظلم . فكأن جوراً كان موجوداً وأزاله الحكم . فالقِسط - إذن - هو العدل الابتدائي . ولذلك نسمع قول الحق سبحانه وتعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ]
والقاسطون هنا هم الظالمون ، فالقسط هنا من قسط يقسط قُسوطا .
وفي الاية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق : { شُهَدَآءَ بالقسط } أي شهداء بالعدل . واللباقة في السامع هي التي توجه اللفظ إلى معناه المراد من خلال السياق ، فالسامع للقرآن يُفْترض فيه الأريحية اللغوية بحيث يستطيع أن يفرق بين الشيء والمشابه له من شيء آخر . إذن فهناك قسط وأقسط ، قسط بمعنى عدل ، وأقسط بمعنى أقام القسط بإزالة الجور . والقسوط معناه الجور .
والحق يقول : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } و " المقسطين " هي جمع " مُقسط "؛ من : أقسط أي أزال الظلم والجور إذن فالذي يرجح المعنى هنا سياق الكلمة ومصدرها . وقد يراد بالكلمة المعنى المصدري . والمعنى المصدري لا يختلف باختلاف منطوقه ، فيقال : " رجل عدل " ويقال : " امرأة عدل " . ويقال : " رجلان عدل " ، ويقال : " امرأتان عدل " ، و " رجال عدل " ، و " نساء عدل " .
(1/2058)

إذن فإن أردنا بالكلمة المصدر فهي لا تتغير في المفرد والمثنى وجمع المذكر وجمع المؤنث . والقرآن الكريم يقول : { وَنَضَعُ الموازين القسط } [ الأنبياء : 47 ]
وهنا قول آخر : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } [ الشعراء : 182 ]
وفي الريف المصري نجد أن التاجر يصنع لنفسه الموازين من الأحجار ، فيعاير قطعة من الحجر بوزن الكيلو جرام ، ويعاير قطعاً أخرى لأجزاء الكيلو جرام؛ ومن كثرة الاستعمال وملامسة الحجر يعرف التاجر أن الحجر يتآكل ، لذلك يعيد وزن الأحجار التي يستعملها في الميزان كل فترة متقاربة من الزمن . ويقال : إنه يعاير الأوزان . وسمي القسطاس؛ فالقسطاس هو الذي تعاير به الموازين ، فإذا صنع الإنسان شيئاً للميزان مما يتآكل أو يتأثر باللمس فيجب عليه أن يعايره كل فترة حتى لا يظلم أحداً ولو بمقدار اللمسة الواحدة . ولذلك يقول الحق : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله } " أقسط " هنا معناها " أعدل " . فموازين الله غير موازين البشر ، فموازين البشر قد يحدث فيها اختلاف . ونرى بعض التجار ينقضون الميزان بأن يضعوا شيئاً تحت كفة الميزان أو غير ذلك من الخدع ، لكن الحق هو العادل الحق . وهو صاحب الميزان الأعدل وهو القائل : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله } .
جاءت هذه الآية لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدر حكماً؛ وهو حكم صحيح وعادل بقواعد البشر ، فأوضح الحق له الحكم الأقسط ، صحيح أن عدلك يا رسول الله لا يدخله هوى ولا يميل به غرض أو شهوة . ولكن العدل عند الله أكثر دقة وله مطلق الدقة . وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحكم بمنطق القسط البشري في أمر زيد بن حارثة وكان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان عبداً لخديجة - رضي الله عنها - وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد فترة علم أهل زيد بخبر اختطافه وبيعه كعبد وكيف آل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء أهل زيد إلى رسول الله وطالبوا بابنهم . ورفض زيد أن يعود معهم وأراد أن يبقى مع رسول الله ، وأراد رسول الله أن يكرم زيداً الذي فضله على أبيه وأهله مصداقاً لقول الله : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ]
لذلك كان لا بد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقدر زيد بن حارثة؛ فأعتقه ودعاه " زيد بن محمد " تكريماً له ، على عادة العرب في تلك الأيام . لكن الله يريد أن يلغي مسألة التبنّي : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } [ الأحزاب : 4 ]
وأجرى الله الأحداث ليصحح مسألة التبني لكل العرب ، وكان بداية تطبيق ذلك على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينزل القول الحق : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله }
(1/2059)

[ الأحزاب : 5 ]
لم ينف الله القسط عن محمد ، ولكن الأقسط يأتي من عند الله . ويطيب الله خاطر زيد بعد أن عاد إليه اسمه الفعلي منسوباً لأبيه لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكافئ الله زيداً بأن يجعل اسمه هو الاسم الوحيد في الإسلام الذي يذكر في القرآن ويتعبد المؤمنون بتلاوته إلى أن تقوم الساعة : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ]
لقد صار اسمه في القرآن يتلوه المسلمون إلى قيام الساعة . وفي ذلك كل السلوى . إذن ف " { أَقْسَطُ عِندَ الله } جاءت في محلها ، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا أن يكون قيامنا مبالغاً فيه؛ أي ألا نترك فرصة لعمل الخير وأن نبالغ في الدقة في أداء العمل ، وأن نَعْدل في المجتمع بأن نكون شهداء بالقسط . وبذلك يأخذ كل إنسان حقه فلا يقدر قوي أن يظلم ضعيفاً؛ لأن الضعيف سيجد أناساً يشهدون معه بالحق .
وإياكم أن تأخذوا الهوى في مقاييس العدل . وهب أن المسألة تتعلق بعدوكم أو بخصومكم فالعدل هنا أكثر أهمية وأكثر وجوبا .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ } . أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا فتعتدوا عليهم ، فمن له حق يجب أن يأخذه . ونعرف القصة التي حدثت ، عندما سرق مسلم درع مسلم آخر وأراد السارق وأهله أن يلصقوا التهمة بيهودي وأن يبرئ نفسه ، ولكن الله أنزل قرآناً : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ]
أي لا تكن يا محمد لصالح الخائنين مخاصما للبرآء . وقوله الحق هنا : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ } أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا ، وإلا سيكون البغض لصالح عدوكم ، وبغض المؤمن إذا حمله على اتباع هواه سيكون لصالح العدو؛ لأن الله سيعاقب المؤمن لو أدخل الهوى والبغض في إقامة الميزان العادل . فتحكيم البغض والعِداء والهوى يكون لصالح الخصوم؛ لذلك لا يحملنكم أيها المؤمنون شنآن - أي بغض - قوم على ألا تعدلوا .
ويضيف الحق : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } والعدالة حين تُطلب مع الخصم هي تقريع لذلك الخصم لأنه خالف الإيمان . ومن المؤكد أن الخصم يقول لنفسه : إن عدالة هذا المسلم لم تمنعه من أن يقول الحق ولا بد أن عقيدته تجعل منه إنساناً قوياً ، وأن دينه الذي أمره بذلك هو نعم الدين .
إذن ساعة تحكم أيها المؤمن بالعدل لخصمك فأنت تقرعه لأنه ليس مؤمنا ، لكن لو رأى خصمك أنك قد جُرت ولم تذهب إلى الحق ، فأنت بذلك تشجعه على أن يبقى كافراً؛ لأنه سيعرف أنك تتبع الهوى . أما إذا رآك وأنت تقف موقفاً يرضي الله مع أنه خصم لك ، فهو يستدل من ذلك على أن العقيدة التي آمنت بها هي الحق ، وأنك تقيم الحق حتى في أعدائك .
(1/2060)

وهكذا يقرع الخصمُ العقدي نفسَه ، وقد يلفته ذلك إلى الإيمان .
{ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } أقرب إلى أي تقوى؟ أأقرب إلى تقوى المؤمن؟ أم أن الخصم يكون أقرب إلى التقوى حين يرى المؤمن مقيماً للعدل والحق ، فلعله يرتدع نفسه ويقول : إن الإيمان قد جعل هذا المسلم يتغلب على البغض وحكم بالحق على الرغم من أنه يعلم أنني عدو له .
ولنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة ، فقد جاءه رجل غريب يسأله طعاماً أو مبيتاً ، فسأله إبراهيم عن دينه . فوجده كافراً ، فلم يجب مسألته . وسار الرجل بعيداً ، فأنزل الله سبحانه على إبراهيم وحياً : أنا قبلته كافراً بي ومع ذلك ما قبضت نعمتي عنه . وسألك الرجل لقمة أو مبيتَ ليلةٍ فلم تجبه . وجرى سيدنا إبراهيم خلف الرجل واستوقفه ، فسأل الرجل سيدنا إبراهيم؛ ما الذي حدث لتغير موقفك ، فقال سيدنا إبراهيم : إن ربي عاتبني في ذلك . فقال الرجل : نعم الرب إله يعاتب أحبابه في أعدائه ، وآمن الرجل .
وهذا يوضح لنا معنى { أَقْرَبُ للتقوى } فقد صار الرجل الكافر أقرب للتقوى . إذن : فالمعنى النفسي الذي يصيب خصمك أو من يغضبك أو من بينك وبينه شنآن ، حين يراك آثرت الحق على بغضك له ، يجعله يلتفت إلى الإيمان الذي جعل الحق يعلو الهوى ويغلبه ويقهره ، ويصير أقرب للتقوى . وأيضاًَ من يشهد بالقسط هو أقرب للتقوى .
ويذيل الحق الآية بقوله : { واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فهو - سبحانه - الخبير بما نعمل . وإياك أيها المؤمن أن تصنع ذلك لشهرة أن يُقال عنك إنك رجل حكمت على نفسك . ولكن اعمل من أجل الله حتى وإن كان الموقف يستحق منك الفخر .
إن كثيرا من الناس يحكمون بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل ، كيف؟ لنفرض أنه قد عُرضت عليك قضية هي خصومة بين ابنك وابن جارك؛ الشجاعة الأولى تفرض أن تحكم لابن جارك وهو غير محق على ابنك ، لكن الشجاعة الأقوى أن يكون الحق لابنك وتحكم له ، أما إن حكمت لابن جارك - وهو غير محق - في هذه الحالة تكون قد حكمت بالظلم لتشتهر بين الناس بالعدل!
يجب أن يكون الحق أعز عليك من ابنك وابن جارك ، وإياكم أن تعملوا أعمالاً ظاهرها عدل وباطنها رياء؛ لأننا نعلم أن لكل جارحة من الجوارح مجالاً تؤدي فيه وظيفتها؛ فاللسان أداؤه ووظيفته القول ، والأذن فعلها أن تسمع ، والأنف أداؤه أن يشم ، ويجمع الجميع العمل . فالعمل إما أن يكون قولاً وإما أن يكون فعلا .
قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2-3 ]
إذن فالقول محله اللسان ، والفعل محله بقية الجوارح ، والاثنان يجمعهما العمل .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ . . . }
(1/2061)

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
وعندما نتأمل كلمة " وعد " نجدها تأتي ، وتأتي أيضاً كلمة " أوعد " و " وعد " وكذلك أوعد إذا لم تقترن بالموعود به ، تكون وَعَد للخير ، و " أَوْعَد " للشر . ولكن لو حدث غير ذلك وجئت بالموعود به ، فالاثنان متساويان ، فيصح أن تقول " وعدته بالخير " ويصح أيضاً أن تقول : " وعدته بالشر " . لكن إن لم تذكر المتعلق ، فإن " وعد " تستعمل في الخير . و " أوعد " تستعمل في الشر . والشاعر يقول :
وإنِّي إنْ أوعدته أو وعدته ... لُمخْلِفُ إِبعادي ومُنْجِزُ موعدي
وحين يقول : " وعد الله " فهذا وعد مطلق لا إخلال به؛ لأن الذي يخل بالوعد هو الإنسان الذي تعتريه الأغيار؛ فقد يأتي ميعاد الوفاء بالوعد ويجد الإنسان نفسه في موقف العاجر أو موقف المتغير قلبياً ، لكن ساعة يكون الله هو الذي وعد فسبحانه الذي لا تداخله الأغيار ، بل هو الذي يُجري الأغيار ، لذلك يكون وعده هو الوعد الخالص الذي لا توجد قوة أخرى تحول دون أن ينفذ الله وعده . أما وعد البشر فقد تأتي قوة أخرى تعطل الوعد .
{ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ } سبحانه وتعالى يوضح أن مغفرته لكل عباده ولا يختص فقط الصالحين الورعين بل إنه يوجد حديثه إلى هؤلاء الذين ارتكبوا المعاصي فإن تابوا ، فلهم مغفرة؛ لأن ردء المفسدة مقدم على جلب المصلحة؛ فأنت قد تكون جالسا ويأتي واحد جهة اليمين ليقدم لك تفاحة ، وفي اللحظة نفسها التي تمتد يدك لتأخذ التفاحة تلتفت لتجد إنساناً آخر يريد أن يصفعك ، أي اتجاهات سلوكك تغلب؟ . لا بد أنك سترد على من يضربك أولا . والحق يزيل الذنوب أولاً بالمغفرة . ونجده سبحانه وتعالى يأتي بأشياء تلفت القلب فهو يقول : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ]
فالخطوة الأولى للفوز هي الزحزحة عن النار ، والخطوة التالية بعد ذلك هي دخول الجنة . فسبحانه يمنع المفسدة ويقدم دفعها ودرأها على جلب المنفعة؛ لذلك يقول الحق بداية : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } . والإنسان منا ساعة تأتي له الخواطر يفكر في أشياء يطمح إليها ، وهناك أشياء يخاف منها . وينشغل الذهن أولاً بما يخاف منه ، يخاف من المفسدة ، يخاف من عدم تحقيق الآمال . إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
{ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } . وكل أجر على عمل يأخذ عمره بقدر حيزه الزمني ، فأجر الإنسان على عمله في الدنيا يذهب ويزول؛ لأن الإنسان نفسه يذهب إلى الموت ، أما أجر الآخرة فهو الباقي أبداً ، وهو أجر لا يفوت الإنسان ولا يفوته الإنسان ، ذلك هو الأجر العظيم .
وحين يتكلم الحق عن معنى من المعاني يتعلق بالإيمان والعمل الصالح تكون النفس مستعدة؛ لأن هناك تأميلا في الخير وترهيباً من الشر؛ لذلك يتبع الحق هذه الآية بآية أخرى فيقول : { والذين كَفَرُواْ . . . }
(1/2062)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
وحين نسمع قوله : { أَصْحَابُ الجحيم } تتزلزل النفوس رهبة من تلك الصحبة التي نبرأ منها ، فالصحبة تدل على التلازم وتعني الارتباط معاً ، وألا يترك أحدهما الآخر؛ كأن الجحيم لا تتركهم ، وهم لا يتركون الجحيم ، بل تكون الجحيم نفسها في اشتياق لهم . وللجحيم يوم القيامة عملان؛ العمل الأول : الصحبة التي لا يقدر الكافر على الفكاك منها ، والثاني : لا تترك الجحيم فرصة للكافر ليفك منها . ويقول الحق عن النار : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ]
ويقول الحق بعد ذلك : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ . . . . }
(1/2063)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
والذكر - كما عرفنا - يعني استحضار الشيء إلى الذهن؛ لأن الغفلة تطرأ على الإنسان وعليه الا يستمر فيها . وبعض أهل الإشراق والشطح يتلاعبون بالمواجيد النفسية فيقول واحد منهم : يعلم الله أني لست أذكره . وحين يسمع الإنسان مثل هذا القول قد يوجه لصاحبه التأنيب والنقد العنيف ، لكن القائل يحلل الأمر التحليل العرفاني فيكمل بيت الشعر بالشطر الثاني :
" إذْ كيف أذكره إذْ لست أنساه " . ... وهنا ترتاح النفس ، ويقول الحق هنا أيضاً : { نِعْمَتَ الله } ولم يقل : " نعم "؛ لأن كل نعمة على انفراد تستحق أن نشكر الله عليها؛ فكل نعمة مفردة في عظم وضخامة تستحق الشكر عليها ، أو أن نعمة الله هي كل فيضه على خلقه ، فأفضل النعمة أنه ربنا ، وسبحانه يقول : { اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } . ومادام قد جاء ب " إذ " فالمراد نعمة بخصوصها؛ لأن " إذ " تعني " حين " فالحق يوضح : اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت الذي حدثت فيه هذه المسألة؛ لأنه جاء بزمن ويطلب أن نذكر نعمته في هذا الموقف ، إنه يذكرنا بالنعمة التي حدثت عندما همّ قوم ببسط أيديهم إليكم .
وهناك " قبض " لليد و " بسط " لليد . والبسط المنظور أن ترى النعمة . وفي الآية تكون النعمة هي كف أيدي الكافرين ، ذلك أن أيديهم كانت ممدودة بالسوء والشر . ولو وقفنا عند بسط اليد؛ لظننا أنه سبحانه قد جعل من أسباب خلقه معبراً للنعم علينا أي أن نعم الله تعبر وتصل إلينا عن طريقهم وبأيديهم ، لكن هذا ليس مراد من النص الكريم؛ لأننا حين نتابع قراءة الآية ، نعرف أن كف أيديهم هو النعمة ، فهؤلاء القوم أرادوا أن يبسطوا أيديهم بالإيذاء . ويقولون عن بذاءة اللسان : " بسط لسانه " ويقولون أيضاً : " بسط يده بالإيذاء " .
ونعرف أن الحق جاء ب " إليكم " أو " عنكم " وكلاهما فيه ضمير يعود على المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمؤمنون ملتحمون بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا همّ قوم أن يبسطوا أيديهم إلى رسول الله ، ففي ذلك إساءة للمؤمنين برسول الله؛ لأن كل شيء يصيب رسول الله ، يصيب المؤمنين أيضاً . وكانت هناك واقعة حال في زمن مقطوع وسابق ، فهل يعني الحق سبحانه وتعالى بحادثة بني النضير ، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني النضير معاهدة ألا يعينوا عليه خصوم الإسلام وإذا حدث قتل من جهة المسلمين فعلى بني النضير المعاونة في الدية ، وكان النبي قد أرسل مسلماً في سرية فقتل اثنين من المعاهدين خطأ ، فطالبوا بدية للقتيلين .
(1/2064)

ولم يكن عند النبي؛ مالٌ فذهب إلى بني النضير كي يساعدوه بدية القتيلين ، فقالوا له : " مرحبا " نطعمك ونسقيك وبعد ذلك نعطيك ما تريد ، ثم سلطوا واحداً ليرمي الرسول بحجر . فصعد الرجل ليلقي على الرسول صخرة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد إلى جانب جدار من بيوتهم فأخبر الحق رسوله فقام خارجاً ، ولم ينتظر شيئا .
{ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } لقد أخبر الحق نبيه بما يبيتون قبل أن يتمكنوا من الفعل . و " الهمّ " هو حديث النفس ، فإذا ما خرج إلى أول خطا النزوع فذلك هو القصد ، و " الهم " هو الشيء الذي يغلب على فكر الإنسان في نفسه ويكون مصحوباً بغم .
وفي اللغة الدارجة نسمع من يقول : " أنا في هم وغم "؛ لأن " الهم " هو الأمر الذي لا يبارح النفس حديثاً ويسبب الغم . فالهم هو العدو الذي لا يقدر أن يقهره أحد؛ لأنه يتسرب إلى القلب ، أما أي عدو آخر فالإنسان قد يدفعه ، ونعرف عن سيدنا الإمام علي - رضوان الله عليه وكرم الله وجهه - أنه كان مشهوراً بأنه المفتي؛ فهو يُستفتى في الشيء فيجيب عليه ، لدرجة أن سيدنا عمر نفسه يقول : " قضية ولا أبا حسن لها " أي أنها تكون قضية معضلة إذ لم يوجد أبو حسن لها فيحلها ، وكان سيدنا عمر يستعيذ من أن يوجد في مكان لا يوجد به سيدنا علي . وعندما عرف الناس عنه ذلك تساءلوا : من أين يأتي بهذا الكلام؟ . فجاءوا بلغز وانتظروا كيف يخرج منه . فقالوا : إن الكون متسع وفيه أشياء أقوى من كل الأشياء ، وقوى تتسلط على قوى ، وحاولوا الاتفاق على شيء اقوى من كل الأشياء؛ فقال واحد : الجبل هو أقوى الأشياء . وقال الآخر : لكنا نقطع منه الأحجار بالحديد . وبينما هم يسلسلون هذه السلسلة جاء سيدنا علي فقالوا له : يا أبا الحسن ما أشد جنود الله؟ .
فأجاب سيدنا علي - كرم الله وجهه - كأنه يقرأ من كتاب بدليل أنه عرف جنود الله وعرف الأقوى وحصر عددهم ، وقال سيدنا علي : أشد جنود الله عشرة .
وكأنه انشغل بهذه المسألة من قبل ، ودرسها .
قال : الجبال الرواسي والحديد يقطع الجبال ، والنار تذيب الحديد ، والماء يطفئ النار ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء ، والريح يقطع السحاب ، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته؛ والسُّكْر يغلب ابن آدم ، والنوم يغلب السكر ، والهم يغلب النوم ، فأشد جنود الله الهم . ولا يمكننا أن نمر على كلمة " الهم " في القرآن إلا أن نستعرض مواقعها في كتاب الله .
(1/2065)

وأهم موقع من مواقعها تتعرض له من أسئلة الكثيرين في رسائلهم وفي لقاءاتنا معهم هو مسألة يوسف عليه السلام حينما قال الحق سبحانه وتعالى بخصوص مراودة امرأة العزيز له : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ]
ولنحقق هذه المسألة ، فالذين يستبعدون على سيدنا يوسف عليه السلام هذا الأمر ، يستبعدون على صاحب العصمة أن يُفكر في نفسه ، وإن كان التفكير في النفس لم يبلغ العمل النزوعي فهو محتمل . بل قد يكون التفكير في الشيء ثم عدول النفس عنه أقوى من عدم التفكير فيه؛ لأن شغل النفس بهذا الأمر ثم الكف يعني مقاومة النفس مقاومة شديدة . ولكنهم يُجِلّون ويعظمون - أيضاً - سيدنا يوسف عن أن يكون قد مر بخاطره هذا الأمر فضلاً على أن يوسف - عليه السلام - لم يكن قد أرسل إليه ، أي أنه لم يكن رسولا آنذاك .
الآية تقول : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } [ يوسف : 24 ]
أي أن امرأة العزيز هي التي بدأت المراودة ليوسف عليه السلام فهل تم نزوع إلى العمل؟ . لا ، لأن النزوع إلى العمل يقتضي أن يشارك فيه سيدنا يوسف . إذن ف " همت به " أي صارت تحب أن تصنع العملية النزوعية وجاء المانع من سيدنا يوسف . وبالنسبة للمُرَاوَدِ وهو سيدنا يوسف ، قال الحق : { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ]
ونصرب لذلك مثلاً حتى نفهم هذا؛ إذ قال لك قائل : أزورك لولا وجود فلان عندك ، هذا يعني أن القائل لم يزرك ، وبالقياس نجد أن يوسف عليه السلام رأى البرهان فلم يهم . فمن أراد أن ينزه يوسف حتى عن حديث نفسه نقول : الأمر بالنسبة لها أنها همت به ، وحتى يتحقق الفعل كان لا بد من قبول لهذا الأمر ، وصار الامتناع لكنّه ليس من جهتها بل جاء الامتناع من جهته . وهو قد همّ بها لولا أن رأى برهان ربه .
لماذا جاء الحق : بأنه همَّ بها لو أن رأى برهان ربه؟ جاء الحق بتلك الحكاية ليدلنا على احكمة في امتناع يوسف عن موافقته على المراودة ، فلم يكن ذلك عن وجود نقص طبعي جسدي فيه ، ولولا برهان ربه لكان من الممكن أن يحدث بينهما كل شيء . وأراد الحق أن يخبرنا أن رجولته كاملة وفحولته غير ناقصة واستعداده الجنسي موجود تماماً ، والذي منعه من الإتيان لها هو برهان ربه ، إنه امتناع ديني . لا امتناع طبيعي . وبذلك يكون إشكال الفهم لمسألة الهم عند امرأة العزيز ويوسف قد وضح تماماً .
ونعود إلى الآية التي نحن بصددها : { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ } وكلمة " قوم " إذا سمعتها ففيها معنى القيام ، والقيام هو أنشط حالات الإنسان . وكما أوضحنا من قبل نجد أن الإنسان إما أن يكون قائما وإما أن يكون قاعدا وإما مضطجعا وإما مستلقيا وإما نائما .
(1/2066)

ونجد أن الراحات على مقدار هذه المسألة ، فالقائم هو الذي يتعب أكثر من الآخرين؛ لأن ثقل جسمه كله على قدميه الصغيرتين ، وعندما يقعد فإن الثقل يتوزع على المقعدة . وإذا اضطجع فرقعة الاحتمال تتسع . ولذلك يطلقونها على الرجال فقط؛ لأن من طبيعة الرجل أن يكون قواماً ، ومن طبيعة المرأة أن تكون هادئة وديعة ساكنة مكنونة . فالقوم هم الرجال . ومقابل القوم هنا " النساء " . إذن فالنساء ليس من طبيعتهن القيام .
والشاعر يقول :
وما أدري ولست إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وحين يقول الحق : { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك نساء قد فكرن في أن يؤذين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونجد هنا أيضاً أن البسط مجال تساؤل ، هل البسط يعني الأذى أو الكرم؟ .
والحق يقول : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } [ الشورى : 27 ]
هذا ( في مجال العطاء ) أما في مجال الأذى فالحق يقول على لسان ابن آدم لأخيه : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } [ المائدة : 28 ]
والأيدي لاتطلق إلا إذا أردنا حركة نزوعية تترجم معنى النفس سبق أَن مرّ على العقل من قبل ، فمد الأيدي يقتضي التبييت بالفكر ، وهكذا نعرف أن القوم قد بسطوا أيديهم إلى رسول الله والمؤمنين .
وعندما ننظر في التاريخ المحمدي مع أعدائه ، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ]
أي أنهم قعدوا للتبييت . ونحن لا نعرف ذلك التبييت إلا إذا امتدت الأيدي للعمل ، فقد مكروا وبيتوا للشر وأرادوا أن يثبتوا رسول الله أي أرادوا تحديد إقامته بحبسه أو تقييده أو إثخانه بالجراح حتى يوهنوه ويعجزوه فلا يستطيع النهوض والقيام أو يقتلوه أو يخرجوه من بلده . بإثباته ومنعه فلا يبرح ، أو يخرجوه من المكان كله أو يقتلوه ، فماذا كان الموقف؟
لقد هموا أن يبسطوا إليه أيديهم . وبسط اليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذي المؤمنين كلهم ، لأنه لا يستقيم أمر المؤمنين إلا برسول الله ، فلو بسط الكفار أيديهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لكان معنى ذلك بسط أيديهم على الكل . ويأتي التاريخ المحمدي بأمور يبسط فيها الكافرون أيديهم بالأذى إلى رسول الله وإلى المؤمنين ويكف الله أيديهم ويمكر بهم أي يجازيهم على ذلك بالعقاب .
والمكر - كما نعلم - هو الشجر الملتف بعضه على بعضه الآخر حيث لا نعرف أي ورقة تنمو من أي جذع أو فرع . والمكر في المعاني هو التبييت في خفاء . وهو دليل ضعف لا دليل قوة . فالأقوياء يواجهون ولا يبيتون؛ ولذلك يقال : إن الذي يكيد لغيره إنما هو الضعيف؛ لأن الإنسان الواضح الصريح القادر على المواجهة هو القوي .
(1/2067)

ونجد البعض يجعل ضعف النساء دافعا لهن على قوة المكر استنادا لقول الحق : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ]
وإلى قول الحق : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ]
فلا يكيد إلا الضعيف . ومن لا يقدر على المواجهة فهو يبيت ، ولو كان قادراً على المواجهة لما احتاج إلى ذلك . وقد يمكر البشر ويبيتون بخفاء عن غيرهم . لكنهم لا يقدرون على التبييت بخفاء عن الله ، لأنه عليم بخفايا الصدور . وأمر الحق في التبييت أقوى من أمر الخلق؛ لذلك نجد قوله سبحانه : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ]
ولنلحظ أن تبييت الله خير . وقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُعلم أعداء الإسلام أنه بعد هذا التبييت لن تنالوا من رسولي ، لن تنالوا منه بكل وسائلكم سواء أكانت تعذيباً لقومه أم تبييتا له . وعلى الرغم من أنهم بيتوا كثيراً إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته في مكة إلى المدينة وهم نائمون : { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ]
ونجد العجب في كف أيدي الكافرين عن رسول الله . فكل أجناس الوجود قد اشتركت في عملية كف أيدي الكافرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء أكانت تلك الأجناس جماداً أم نباتاً أم حيواناً أم إنساناً ، نثر رسول الله التراب وهو جماد فأغشي به الكافرين ، وصار التراب من جنود الله .
وها هي ذي أسماء بنت أبي بكر تحمل الطعام لهم في الغار وهي ترعى الغنم ، والأغنام تجد الحشائش فترعاها وتزيل الأثر الذي أحدثه ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد اشترك النبات في كف أيدي الكافرين عن رسول الله ، وكذلك الأغنام وهي من الحيوان ، وكذلك فرس سراقة التي ساخت وغاصت قوائمها في الأرض ، ثم الحمامة التي بنت عشها على الغار ، وكذلك العنكبوت الذي بنى بيته على الغار ، ورضخت كل جنود الله لأمر الله فشاركت في عملية كف أيدي الكافرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأعجب من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد كف أيدي الكافرين بالكافرين ، فالرسول الذي جاء ليهدي الخلق ويسير بهم إلى النور من الظلمات ، نجد الذي يهديه في طريقه إلى المدينة هو أحد الكفار . وهكذا نرى أن هداية المعاني تستخدم هداية المادة ، والرسول هو الحامل لهداية المعاني يستخدم هداية المادة ممثلة في ذلك الكافر . ونعرف أن من جنود الإسلام في دار الهجرة كان اليهود - برغم أنوفهم - ألم يقولوا للأوس والخزرج : سيأتي من بينكم نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم؟ فلما سمع الأوس والخزرج أن نبياً ظهر في مكة ، قالوا : هذا هو النبي الذي توعدتنا به اليهود ، فلا يسبقنكم إليه ، فسبقوا إليه وأسلموا وبايعوه ، فقد ورد أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه .
(1/2068)

فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم .
ثم كانت المدينة داراً للهجرة .
هكذا نرى الباطل يخدم الحق ، والكفر يخدم الإيمان ، فها هوذا عبدالله بن أريقط - وكان كافراً - يضع نفسه كدليل للرسول وصاحبه أثناء الهجرة ولا ينظر إلى الجُعْل الذي رصدته قريش لمن يأتيها بمحمد . هكذا نجد أن كف الأيدي كانت له صور كثيرة .
وقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشياء ومواقف رآها الصحابة ، ونشأت له خوارق من الحق سبحانه وتعالى تؤيد صدقه ، وشاهد تلك الخوارق بعض الصحابة ولا نقول عنها معجزات؛ لأن معجزة الإسلام إلى قيام الساعة هي القرآن . ولكن رسول الله لم تخل حياته من بعض المعجزات الكونية مثل التي حدثت لغيره من الرسل . وأرادها الحق لا للمسلمين عموماً ولكن شاهدها بعضهم كما شاهدها بعض الكفار؛ لأن رسول الله كان في حاجة إلى أن يؤكد له الله أنه رسول الله . فها هوذا سيدنا جابر بن عبدالله يقول :
" كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجذ منها شيئا ، فجعلت استنظره إلى قابل فيأبى فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه : امشوا نستنظر لجابر من اليهودي ، فجاءوني في نخلي فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يكلم اليهودي فيقول : أبا القاسم لا أُنظره ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى؛ فقمت فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكل ثم قال : أين عريشك يا جابر ، فأخبرته فقال : افرش لي فيه ففرشته ، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه ، فقام في الرطاب في النحل الثانية ثم قال : يا جابر ، جذ واقض؛ فوقف في الجذاذ فجذذت منها ما قضيته وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته فقال : أشهد أني رسول الله " .
مثال آخر : كان الماء قليلاً عند قوم من الصحابة فيغمس رسول الله يده في الماء ويشرب كل الناس . وهل يجرؤ أحد من الذين رأوا تلك المعجزة أن يجادل فيها؟ طبعاً لا ، لكن هل هذه المعجزة لنا؟ إن وثقنا فيمن أخبر فلن نستكثر على الله أن يكثر الماء لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن نحن نعلم أن الله قد تكفل بحفظ القرآن ليكون هو المعجزة الباقية فقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقال : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } .
(1/2069)

وقد ثبت أن رسول الله جمع قليلا من الزاد ودعا ما شاء الله أن يدعو وأطعم به جيشا . والذي عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يصدق تلك المعجزات أو لا يصدقها ، ولكن على المؤمن الذي علم مقام ومكانة الرسول عند ربه ، أن يصدق تلك الخوارق متى ثبت ذلك بطريق يقيني قطعي ، ولذلك لا ضرورة لإقامة الجدل مع هؤلاء الذين ينكرون المعجزات الكونية . ونقول لهم : ليس أحدكم مسئولا بهذه المعجزات ، أنت مسئول بمعجزة القرآن فقط . والخوارق التي وقعت إما أن تكون بغرض تثبيت رسول الله مصداقا لقوله الحق : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ]
وإما أن تكون لتثبيت أصحاب رسول الله؛ فقد كانت الأهوال تمر عليهم وتزلزلهم : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 11 ]
وكان لا بد أن ترسل السماء لهم أيات لتثبت أقدامهم في الإيمان .
والخلاصة أن كل الخوارق الكونية التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المقصود بها عامة المسلمين ، ولكن المقصود بها من وقعت له أو وقعت أمامه ، ونفض بذلك أي نزاع حول تلك الخوارق؛ لأن المعجزة الملزمة للجميع هي كتاب الله سبحانه وتعالى .
وقد همّ بالأذى كثير من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم . ألم ترد امرأة من اليهود أن تسمّه وكف الله يديها؟ وحكاية بني النضير الذين أرادوا أن يلقوا عليه الحجر ، فقام قبل أن يلقى مندوب بني النضير الحجر عليه صلى الله عليه وسلم .
" وها هوذا صفوان بن أمية له ثأر عند رسول الله من غزوة بدر يستأجر عمير ابن وهب الجمحي ويقول له : اذهب إلى المدينة واقتل محمداً وعليّ دينك ، أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا .
ويذهب عمير إلى المدينة ويدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما جاء بك يا عمير؟ قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه - وكان له ابن أسير لدى المسلمين - قال : فما بال السيف في عنقك؟ فقال : قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا؟ قال : أصدقني ما الذي جئت له؟ قال : ما جئت إلا لذلك . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له ، والله حائل بينك وبيني فقال عمير . أشهد أنك رسول الله . قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي .
وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إني لأعلم ما آتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام " .
(1/2070)

ومثال آخر : ما رواه سيدنا جابر - رضي الله عنه - في غزوة ذات الرقاع . " قال : جاء رجل يقال له غورث بن الحارث فقام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال : من يمنعك مني؟ قال : الله . فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال : ( ومن يمنعك مني ) ؟ فقال : كن خير آخذ . قال : تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال : لا ، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال : جئتكم من عند خير الناس " .
وعندما سمع الرجل لأول مرة أن الله هو الذي يمنع الرسول منه وقع السيف من يده ، ذلك أن ذرات الكفر في الرجل تزلزلت وعاد إلى إيمان الفطرة ، وعندما أمسك النبي بالسيف وسأل الرجل : من يمنعك مني؟ لم يقل الرجل : " هبل " أو " اللات " أو " العزى " فالرجل يعلم أن مسألة الأصنام كذب في كذب ، ولو كان مؤمناً بآلهته لقال أحد أسمائها . وعندما تزلزلت ذرات الكفر في كيانه عاد إلى الفطرة الأولى التي لا تكذب أبداً . وإن كذب الإنسان على الناس جميعاً لا يكذب على نفسه . وكلمة " الله " هي التي زلزلت كفر الرجل وأعادته إلى الحق .
وفي معركة بدر نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما ابنه عبد الرحمن كان مع الكفار ، وبعد أن أسلم ابنه بفترة جلس الولد مع أبيه يتسامران ، فقال الابن : لقد رأيتك يوم أحد فصدفت عنك فقال أبو بكر : لكني لو رأيتك ما صدفت عنك . فقد رأى ابن أبي بكر والده ولم يقتله ، ولاشك أن مقارنة نفسية باطنية فكرية قد حدثت بين معزة أبيه وبين مكانة هبل أو تلك الحجارة ، وعرف ابن أبي بكر أن والده أفضل بكثير من تلك الأحجار . ولكن أبا بكر حينما يقول : ولو كنت رأيتك لقتلتك ، فالمقارنة النفسية هنا تكون بين الإيمان بالله وبين الابن ، ومن المؤكد أن الإيمان يغلب في نفس أبي بكر . وكل من أبي بكر وابنه كان منطقيا مع نفسه .
ومثال آخر : " عن جابر بن عبدالله أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم - قفل معه فأدركتهم القائلة - شدة الحر في وسط النهار - في وادٍ كثير العضاة - شجر عظيم له شوك - فنزل رسول الله ، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بالشجر ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سَمُرَة فعلق بها سيفه ، قال جابر : فنمنا نومة فإذا رسول الله يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال لي : من يمنعك مني؟ فقلت له : الله . فها هوذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- " .
(1/2071)

ولماذا حدث ذلك؟ لأن الفطرة المستلهمة بدون تدخل من أحد تنضح بالإيمان . وها نحن أولاء نرى الصحابة في العهد الأول حينما اضطهدوا في مكة وهاجروا هحرتهم الأولى إلى الحبشة؛ هل ذهبوا إليها خبط عشواء؟ أو ذهبوا بتخطيط نبوي كريم؟ لقد درس النبي أولاً الأرض التي تصلح لاستقبالهم ويقبلهم فيها أهلها كمهاجرين . ودرس النبي أوضاع الجزيرة العربية ووجد أن قريشا تتمكن من كل قبيلة في الجزيرة العربية عندما يأتي موسم الحج؛ لذلك لن توجد القبيلة التي تحمي المهاجرين فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه " .
وبالفعل ذهب المسلمون إلى الحبشة مهاجرين . وحاولت قريش أن تسترد المسلمين من أرض النجاشي . وأرسلت قريش بعثة لاستردادهم ورفض النجاشي . وسمع النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه النبي الذي بشر به الإنجيل . ولاشك أن النجاشي قد أسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي عندما مات . وكان إسلام النجاشي مكافأة له من الله؛ لأنه حمى المؤمنين بالله وبرسوله عنده . وما أعظم المكافأة التي نالها النجاشي أن يموت على الإسلام وأن يصلي عليه سيدنا رسول الله صلاة الغائب .
إن كل هذا من كف أيدي الكافرين عن المؤمنين وعن رسول الله ، ومن أجل أن يثبت الحق للجميع أن المؤمنين على حق وأن الله لن يخذلهم ، فلا يخطر ببال المؤمنين أن عدوهم أقوى منهم؛ فالله أقوى من خلقه : { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين لأنه - سبحانه - يعد المؤمنين ليكونوا حملة منهجه إلى الخلق . ولذلك يجب أن يداوم المؤمنون على تكاليف الإيمان وتقوى الله ليكف الله أيدي الكافرين عنهم ، فلا يتغلب كافر على مؤمن في لحظة من اللحظات إلا إذا كان المؤمن قد تخلى عن شيء في منهج الله؛ لأن الحق لا يقول قضية قرآنية ثم يترك القضايا الكونية التي تحدث في الحياة لتنسخ هذه القضية القرآنية .
(1/2072)

لقد قال : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ]
إذن فعندما ترى جنداً من المسلمين قد انهزموا فلتعلم أنهم قد تخلوا عن منهج الله فتخلى الله عنهم ، بدليل أن بعضاً من المسلمين ساعة لم ينفذوا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم غلبهم الكفار ، فالله لا يغير سنته من أجل أناس نُسبوا إليه ولم ينفذوا تعاليم منهجه . والحق يقول : { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ]
ويقول سبحانه : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ]
إنك إن انتسبت إلى الإسلام فيجب أن تنتسب إلى الإسلام بحق ، وإن رأيت المؤمنين قد دخلوا معركة وانهزموا فلتبحث مصادر تخليهم عن منهج الحق ، فسبحانه يقول : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين * فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 146-148 ]
لقد أصاب المقاتلين مع النبي شيء ، فلم يضعفوا ولكنهم صبروا وطلبوا من الحق أن يغفر لهم ذنوبهم ، لقد عرفوا مصادر ضعفهم واستعانوا بالله على هذا الضعف ، فماذا فعل الله لهم؟ . نصرهم سبحانه بأن آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين . وكل ذلك السلوك الإيماني الذي يقي من الهزيمة وكيد العدو ، هو من تقوى الله ، حتى يظل المؤمنون في معية الله . وعندما يكون المسلم في معية الله لا يجرؤ خلق من خلق الله أن ينال منه . وننظر إلى الهجرة كمثال لذلك؛ لنجد أن سيدنا أبا بكر كان حريصاً على حماية النبي صلى الله عليه وسلم . فعن أنس بن مالك قال : " لما كان ليلة الغار ، قال أبو بكر : يا رسول الله دعني فَلا دخُل قبلك فإن كانت حيّة أو شيء كانت لي قبْلك . قال : ادخل : فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه فكلما رأى جُحراً جاء بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع ، قال : فبقي جحر فوضع عقبه عليه ثم أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأين ثوبك يا أبا بكر؟ " فأخبره بالذي صَنع فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال : " اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة " فأوحى الله تعالى إليه " إن الله قد استجاب لك " .
ويرى أبو بكر الكفار وهم يمرون أمام الغار فيقول لرسول الله : " لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما " .
(1/2073)

وفي ذلك رد كامل؛ لأن الاثنين في معية الله ، ومادام المؤمن في معية من لا تدركه الأبصار فلن تدركه الأبصار ، كيف؟ . نحن لا نعرف كل أسرار الله ولكنه القادر الأعلى .
وفي حياة البشر نجد الطفل الصغير قد يخرج بمفرده فيصيبه غيره من الأطفال بالضرر؛ ولكن إذا خرج الطفل مع عائله ، مع أبيه مثلاً أو مع أخيه الأكبر ، فالأطفال لا يقتربون منه؛ فما بالنا ونحن جميعاً عيال الله؛ وماذا يحدث عندما نتشبث بمعية الله؟ . إذن فتقوى الله هي التي تجعل المؤمن في معية ربه طَوال الوقت . ومن يُرِدِ المؤمن بسوء فإن جنود الله تحمي المؤمن . ويذيل الحق الآية : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } . وإياكم أن تقولوا : إننا بلا عَدَد أو عُدَّة . إنك مسئول أن تعد ما تقدر عليه وتستطيعه وأترك الباقي لله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل } [ الأنفال : 60 ]
ويقول التاريخ الإيماني لنا إنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . وقد يقول قائل : هذه المسألة مادية تحتاج إلى عدد وعُدد . ونرد : إن الحق قد طالب بأن نعد ما نستطيعه لا فوق ما نستطيعه . وهو سبحانه عنده من الجند اللطيف الخفيّ الدقيق الذي لا يُرى : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } [ الأنفال : 12 ]
ومادام الله قد ألقى الرعب في قلوب الأعداء فالمسألة تنتهي ولا تفلح عُدد أو عَدَد . ويكون التوكل على الله بعد أن يعد الإنسان ما يستطيعه وهو الاستكمال الفَعَّال للنصر ، ولنعلم أن التوكل غير التواكل . إن المتوكل على الله يقتضي أن يعلم الإنسان أن لكل جارحة في الإنسان مهمة إيمانية ، أن تطبق ما شرع الله؛ فالأذن تسمع ، فإن سمعت أمراً من الحق فأنت تنفذه ، وإن سمعت الذين يلحدون في آيات الله فأنت تعرض عنهم . واللسان يتكلم ، لذلك لا تقل به إلا الكلمة الطيبة؛ فلكل جارحة عمل ، وعمل جارحة القلب هو اليقين والتوكل ، ولنتذكر أن السعي للقدم ، والعمل لليد والتوكل للقلب ، فلا تنقل عمل القلب إلى القدم أو اليد؛ لأن التوكل الحقيقي أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب ، وكم من عاملٍ بلا توكل فتكون نتيجة عمله إحباطاً .
إننا نجد الزارع الذي لا يتوكل على الله ينمو زرعه بشكل جيد ومتميز ثم تهب عليه عاصفة أو يتغير الجو فيصيبه الهلاك وتكون النتيجة الإحباط . واحذر إهمال الأسباب؛ أو أن تفتنك الأسباب؛ لأنك إن أهملت الأسباب فأنت غير متوكل بل متواكل . تنقل عمل القلب إلى الجوارح . وإذا قال لك واحد : أنا لا أعمل بل أتوكل على الله ، قل له : هيا نر كيف يكون التوكل . وأحضر له طبق طعام يحبه . وعندما يمد يده إلى الطعام ، قل له : اترك الطعام يقفز من الطبق إلى فمك .
ويجعل الحق سبحانه وتعالى من قصص الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتاً للإيمان وتربية للأسوة وإنماء لها ، حتى لا يضيق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يفعله اليهود أو المشركون ، فإن كان قد حدث معك - يا محمد - شيء من هذا الإنكار والإيلام ، فقد حدث الكثير من تلك الأحداث مع الرسل من قبلك ، فيقول سبحانه : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله . . . }
(1/2074)

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
يُذَكِّر الحق هنا رسوله بالميثاق الذي أخذه من بني إسرائيل . وقد يكون المقصود هو ميثاق الذر أو يكون المراد بالميثاق ما جاء في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } [ آل عمران : 81 ]
أو أن يكون المراد بالميثاق هو ما بينه بقوله سبحانه : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } [ البقرة : 63 ]
ويقول سبحانه : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } ولنر " التكتيك " الديني الذي أراده الحق ، فهو لا يجمع أجناس الخلق المختلفة على واحد من نوع منها؛ لأن ذلك قد يعرض الدعوة لعصبية؛ فاختار سبحانه اثني عشر نقيباً على عدد الأسباط حتى لا يقولن سبط : كيف لا يكون لي نقيب؟ . وحسم الله الأمر ، ولم يجعله محلاً للنزاع؛ فجعل لكل سبط نقيباً منهم . والنقيب هو الذي يدير حركتهم العقدية والدينية . وساعة نسمع كلمة " نقيب " نعرف أنها من مادة " النون والقاف والباء " ، " والنقب " هو إحداث فجوة لها عمق في أي جسم صلب .
إن إختيار الحق لكلمة نقيب ، يَدل على أن النقيب الصادق ينبغي أن يكون صاحب عينين في منتهى اليقظة حتى يختار لكل فرد المهمة التي تناسبه ويركز على كل فرد بما يجعله يؤدي عمله بما ينفع الحركة الكاملة . وبذلك يكون كل فرد في البسط له عمله ومكانه المناسب . ولا يتأتى ذلك إلا بالتنقيب ، أي معرفة حالة كل واحد وميوله فيضعه في المكان المناسب .
إذن فالنقيب هو المنقب الذي لا يكتفي بظواهر الأمور بل ينقبها ليعرف ظروف وأسباب كل واحد . واختار الحق من كل سبط نقيباً ، ولم يجعل لسبط نقيباً من سبط آخر حتى يمنع السيطرة من سبط على سبط ، ويمنع أن يكون النقيب على جهالة بمن يريد حركتهم من الأسباط الآخرين .
ونحن نسمع في حياتنا اليومية وصفاً لإنسان : فلان له مناقب كثيرة ، أي أن له فضائل يذكرها الناس ، كأنّ على صاحب الفضائل ألا يتباهى بها بنفسه بل عليه أن يترك الناس لينقبوا عن فضائله ، ولذلك كانت كنوز الأرض وكنوز الحضارات مدفونة ننقب عليها ، أما ما يظهر على سطح الأرض فتذروه الرياح وعواملُ التعرية ولا يبقى منه شيء .
إذن فكلمة " نقيب " في كل مادتها تدور حول الدخول إلى العمق ، لذلك تصف الرجل الفاضل : فلان له مناقب أي أن نقبت وجدت له فضائل تذكر ، وقد أعطاه الله موهبة الخير ولا يتعالم بها ، بل يدع الناس هم الذين يحكمون ويذكرون هذه الصفات . ومن نفس المادة " النقاب " أي أن تغطي المرأة وجهها .
وقوله الحق : { إِنِّي مَعَكُمْ } يعطيهم خصلة إيمانية ، فلا يظنن أحد أنه يواجه أعداء منهج الله بذاته الخاصة بل بمعونة الله فلا يضعف أحد أو يهن مادام مؤمناً ، وكما قال الحق :
(1/2075)

{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ]
وبعد أن يعد المؤمنون ما استطاعوا فليتركوا الباقي على الله . وجاء أيضاً قوله : { وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ } أي أن كل نقيب على سبط ليس له مطلق التصرف ، ولكن الله يوضح : " أنا معكم وسأنظر كيف يدير كل نقيب هذه المسائل " أي أنه سبحانه وتعالى مطلع على واقعكم ، فليس معنى الولاية أن يكون للوالي مطلق التصرف في جماعته؛ لا؛ لأن الله رقيب . وقوله الحق : { إِنِّي مَعَكُمْ } تدل على أن من ولي أمراً فلا بد أن يتابعه ويراه .
وبعد ذلك قال : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . و " لئن " تضم شرطاً وقسماً ، كأن الحق يقول : وعزتي لئن أقمتم الصلاة وفعلتم كذا وكذا ليكونن الجزاء أن أكفر عنكم السيئات . ودلت " اللام " على القسم ، ودلت " إن " على الشرط فيه " إن " الشرطية .
والقسم - كما نعلم - يحتاج إلى جواب ، والشرط يحتاج إلى جواب أيضاً ، فالواحد منا يقول للطالب : إن تذاكر تنجح . والواحد منا يقول : " والله لأفعلن كذا " ، و " الله " هي القسم . و " لأفعلن " جواب القسم المؤكد باللام . وحين يأتي القسم في جملة بمفرده فجوابه يأتي ، وحين يأتي الشرط بمفرده في جملة فجوابه يأتي أيضاً . ولكن ماذا عندما يأتي القسم مع الشرط؟ هل يأتي جوابان : جواب للشرط وجواب للقسم؟ . عندما تجد هذه الحالة فانظر إلى المقدم منهما ، هل هو القسم أو الشرط؟؛ لأن المقدم منهما هو الأهم؛ فيأتي جوابه ، ويغني عن جواب الثاني . والمتقدم هنا هو القسم ، تماماً مثل قولنا :
- لئن قام زيد لأقومن ، وهنا يكون الجواب جواب القسم ، أما إن قلنا : إن قام زيد والله أُكرمْه ، فالجواب جواب الشرط؛ فقدم الشرط على القسم . هذا إن لم يكن قد تقدم ما يحتاج إلى خبر كالمبتدأ أو ما في حكمه ، فإن جاء والخبر أي المحتاج إلى الخبر فالشرط هو الراجح ، أي فالراجح أن نأتي بجواب الشرط ونحذف جواب القسم؛ لأن الشرط تأسيس والقسم توكيد . وابن مالك في الألفية يوضح هذه القاعدة :
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخّرت فهو مُلْتَزَمْ
وإن تواليا وقَبْلُ ذو خبر ... فالشرط رَجَّحْ مطلقا بلا حَذَرْ
والقسم قد تقدم في هذا الآية ، لذا نجد الجواب هنا جواب القسم ، وهو { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } .
وقوله الحق : { أَقَمْتُمُ الصلاة } يوضح أن الإقامة تحتاج إلى أمرين؛ فروض تؤدى ، وكل فرض فيها يأخذ حقه في القيام به . وبعد ذلك { وَآتَيْتُمُ الزكاة } وفي كتب الفقه نضع الصلاة ، والزكاة في باب العبادات . وجاء التقسيم الفقهي لتسهيل إيضاح الواجبات ، لكن كل مأمور به من الله عبادة؛ لأن العبادة هي أن تطيع مَن تعبد في كل أمر به ، وأن تجتنب ما نهى عنه ، فكل أمر إلهي هو عبادة .
(1/2076)

وقلنا من قبل : إن الحق سبحانه قال : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } [ الجمعة : 9 ]
وقوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ]
هنا نجد أمراً تعبدياً أن نترك البيع إلى الصلاة ، وأمراً تعبدياً ثانياً أن ننتشر في الأرض ابتغاء لفضل الله بعد انقضاء الصلاة ، وأي إخلال بالأمرين ، إخلال بأمر تعبدي؛ فأنت مأمور أن تتحرك في الأرض على قدر قوتك حركةً تكفيك وتفيض عن حاجتك ليعم هذا الفائض على غيرك .
وقوله الحق : { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي أن ينعقد الإيمان في القلب فلا يطفو الأمر بعدذ لك لمناقشته ، وأن تعزروا الرسل ، أي وقرتموهم ونصرتموهم ، والعَزْر في اللغة معناه المنع ، ولكن المنع هنا مراد به أن يمنع الناس عن رسول الله من يريده بسوء؛ فإن أراد أحد من الأعداء السوء برسول من الله فليمنع المؤمنون هذا العدو عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأنت في حياتك إن كان لك حبيب أراده إنسان بسوء ، وكنت لا تدركه لأنه بعيد عنك فأنت تتمنى أن تأخذ صاحبك وتحميه من أن يناله العدو . لكن إن كان العدو أمامك فأنت تصده عن حبيبك . فالعزر هو المنع ، اي أن تمنعه من عدوه وتحول بينه وبينه ، أو تمنع عدوه من أن يناله بشر . والرسول بالنسبة للمؤمنين به تكون حياته أغلى من حياتهم ، ففي أثناء المنع قد يصاب أحد المؤمنين ، وفي ذلك تعظيم للرسول ونصرة له وتوقير .
نقول ذلك حتى نرد على الذين يتصيدون ويقولون : إن " عزرتموهم " معناها " نصرتموهم " ، ومرة أخرى يقولون : إن " عزرتموهم " معناها " منعتموهم " . ونقول : كل المعاني هنا ملتقية ، فالعزر هو الرد والمنع ، إما بمنع العدو عن الرسول ، وإمّا أن يمنع الناس الرسول من أن يناله العدو ، أو الاثنان معاً ، ويجوز أيضا أن يكون معنى " عزرتموهم " هو نصرتموهم . وكذلك يجوز أن يكون معناها " وقرتموهم "؛ لأن التعظيم والتوقير هما السبب في نصرة الإنسان للرسول .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } . ويدبر الحق لنا سياسة المال ، سواء للواجد أو لغير القادر ، فالواجد يوضح له الحق : لا تجعل حركة حياتك على قدر حاجتك ، بل اجعل حركة حياتك على قدر طاقتك ، وخذ منها ما يكفيك ويكفي مَن تعول ، والباقي رُدّه على مَن لم يقدر . ولو جعل كل إنسان حركة حياته على قدر حاجته ، فلن يجد من لا يقدر على الحركة ما يعيش به . ولنذكر جيداً أن الحق سبحانه وتعالى قد قال :
(1/2077)

{ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ * والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 1-4 ]
وحين قال سبحانه : والذين هم للزكاة فاعلون ، ليس معناها مجرد أداء زكاة ، بل تعني أن يتحركوا في الحياة بغرض أن يتحقق لهم فائض يخرجون منه الزكاة ، وإلا فما الفارق بين المؤمن والكافر؟ الكافر يعمل ليقوت نفسه ويقوت من يعول وليس في باله الله ، أما مزية المؤمن فهو يعمل ليقوت نفسه ، ويقوت من يعول ويبقى لديه فائض يعطيه للضعيف؛ فكأن إعطاء الضعيف كان في باله ساعة الفعل . وهذا هو المقصود بقوله الحق : { والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 4 ]
أي أن كل فعل للمؤمن يُقصد منه أن يكفيه ويكفي أن يزكي منه . وهناك حق آخر في المال غير الزكاة؛ بأن يسد به ولي الأمر ما يحتاج إليه المجتمع الإيماني بشرط أن يقيم ولي الأمر كل شرع الله .
والزكاة هي إخراج المال على نحو مخصوص ، أما الصدقة فهي غير محسوبة من الزكاة لكنها فوق الزكاة . وهناك القرض ، وهو المال الذي تتعلق به النفس ، لأن الإنسان يقدمه لغيره شريطة أن يرده ، ولذلك قيل إن القرض أحسن من الصدقة ، ذلك أن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة ، أما الذي تتصدق عليه فقد يكون غير محتاج ، ويسأل دون حاجة ، وأيضاً لأن نفس المتصدق تخرج من الشيء المتصدق به ولا تتعلق به ، أما الذي يقدم القرض فنفسه متعلقة بالقرض وكلما صبر عليه نال حسنة ، وكلما قدم نَظِرَةً إلى ميسرة فهذا له أجر كبير ، هكذا يكون القرض أحسن من الصدقة .
فالحق يريد أن تفيض حركة الحياة بالكثير . وكيف يقول سبحانه : { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } وهو الواهب لكل النعم وهو الولي لكل النعم؟ وكيف يهب الحق للإنسان النعم ، ثم يقول له : أقرضني؟
هو سبحانه وتعالى يحترم حركة الإنسان وعرقه مادام قد ضرب في الأرض وسعى فيها ، فالمال مال الإنسان ، ولكن أخا الإنسان قد يحتاج إليه ، ولذلك فليقرضه ويعتبر سبحانه هذا قرضاً من الإنسان لله . ونحن نجد عائل الأسرة يقول لأحد أبنائه : بما أنك تدخر من مصروف يدك فأعط أخاك ما يحتاج إليه واعتبر ذلك قرضا عندي ، صحيح أن العائل هو الذي أعطى المال لكل من يعول ، فما بالنا بالذي أوجدنا جميعا ، وهو الحق سبحانه وتعالى؟ لقد وهب كلاً منا ثمرة عمله واعتبر تلك الثمرة ملكاً لصاحبها . ويعتبر فوق ذلك إقراض المحتاج إقراضاً له .
ويصف الحق القرض بأنه حسن حتى لا يكون فيه مَنُّ ، أو منفعة تعود على المقرض وإلا صار في القرض ربا . ولنا الأسوة الحسنة في أبي حنيفة عندما يجلس في ظل بيتِ صاحبٍ له . واقترض صاحب هذا البيت من أبي حنيفة بعض المال . وجاء اليوم التالي للقرض وجلس ابو حنيفة بعيداً عن ظل البيت ، فسأله صاحب البيت لماذا؟ أجاب أبو حنيفة : خفت أن يكون ذلك لونا من الربا .
(1/2078)

فقال صاحب البيت : لكنك كنت تقعد قبل أن تقرضني . فقال أبو حنيفة : كنت أقعد وأنت المتفضل علي بظل بيتك فأخاف أن أقعد وأنا المتفضل عليك بالمال .
والقرض الحسن هو الذي لا يشوبه مَنٌّ أو اذًى أو منفعة؛ ولأن القرض دَيْنٌ ، وضع الحق القواعد : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } [ البقرة : 282 ]
فالحق يحمي المقترض من نفسه؛ لأنه إذا علم أن الدين مكتوب ، يحاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليسد هذا الدين ، ويستفيد المجتمع من حركته أيضاً .
وعندما يُكتب القرض فهذا أمرٌ دافع للسداد وَحّاثٌّ عليه . لكن إن لم يكتب القرض فقد يأتي ظرف من الظروف ويتناسى القرض؟ولو حدث ذلك من شخص فلن تمتد له يد من بعد ذلك بالمعاونة في أي أزمة ، فيريد الحق أن يديم الأسباب التي تتداول فيها الحركة ، ولذلك يقال في الأمثلة العامية : من يأخذ ويعطي يصير المال ماله . ويكون مال الدنيا كلها معه ، ولذلك يقول الحق : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ } [ البقرة : 282 ]
وفي ذلك حماية للنفس من الأغيار ، ولم يمنع الحق الأريحية الإيمانية فقال : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ]
وهكذا يحمي الله الحركة الاقتصادية . ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم بالمؤمنين ، وقد بلغه أن واحداً قد مات وعليه دين ، فقال للصحابة : صلوا على أخيكم . لكنه لم يصل على الميت . وتساءل الناس لماذا لم يصل رسول الله على هذا الميت وما ذنبه؟ كأن رسول الله أراد أن يعلم المؤمنين عن دين المدين فلم يمنع الصلاة ، ولكنه لم يصل عليه حفزا للناس ودَفْعاً لهم إلى أن يبرئوا ذمتهم بسداد وأداء ما عليهم من دين . وقال :
" من أخذ أموال الناس يريد أداءها ، أدى الله عنه . ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " .
فمادام قد مات وهو مدين وليس عنده ما يسد الدين؛ فربما كان لا ينوي رد الدين ، وأن نفسه قد حدثته بألا يرد الدين .
وفي فلسفة هذا الأمر نفسياً نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا لا يستطيع أن يتجاهله أو ينساه ، ثم لا يمر بذهن الذي أقرض أن فلاناً مدين ، بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض ألا يمر على المقترض يريد أن يسدد القرض . أما إن تحرك قلب الدائن على المدين ، وجلس يفكر في قيمة الدين ، فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين ، أي أن المدين عنده القدرة على الوفاء بالدَّيْن أو ببعضه ، ذلك أن الله لا يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه .
{ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } . وقد يقول قائل : كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول : " أقرضتم الله إقراضا "؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لأن الإقراض هو العملية الحادثة بين الطالب للقرض والذي يقرض .
(1/2079)

وسبحانه يضع القرض الحسن في يده ، ولنا أن نتصور ما في يد الله من قدرة على العطاء . ومثل ذلك قوله الحق : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ]
و " أنبتكم " تعبر عن عملية الإنبات ، والأرض تخرج نباتا لا إنباتا . فمرة يأتي الله بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنه يريد به الاسم . و " أنبت " يدل على معنى وينشئ الله لكم منها نباتا .
وهكذا قال الله عن القرض : { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وفي ذلك جواب للقسم ، ومن بعد ذلك يقول سبحانه : { وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وقد تكلمنا من قبل كثيرا عن الجنات . ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله : { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟ بلى ، إنه قد ضل فعلا ، ولكن الذي ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلال أكثر . وكلمة " سواء " نقرأها في القرآن ونراها في الاستعمالات اللغوية؛ كمثل قوله الحق : { لَيْسُواْ سَوَآءً } [ آل عمران : 113 ]
وسواء معناها وسط ، ومتساوون . والمعاني ملتقية؛ لأنه عندما يكون هناك وسط فمعنى ذلك أن هناك طرفين . ومادام الشيء في الوسط فالطرفان متساويان ، وعندما نقول : وسط ، فهذا يقتضي أن نجعل المسافة بينه وبين كل طرف متساوية . ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن كثيراً من الألفاظ تستعمل في شيء وفي شيء آخر ، وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي . . أي اللفظ واحد والمعنى متعدد ، مثال ذلك قوله الحق : { فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ]
والشطر هو الجهة . والشطر هو النصف . النصف هو الجهة بمعنى أن توجه إنسان ما إلى الكعبة يقتضي أن يكون الإنسان واقفاً في نقطة هي مركز بالنسبة لدائرة الأفق . وهذه النقطة بالنسبة لمحيط الأفق تقطع كل قطر من أقطارها في المنتصف تماماً . إذن . فعندما يقول : الجهة ، نقول : صدقت ، وعندما يقول النصف . نقول : صدقت .
{ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } والقرآن قد نزل على أمة تعيش في البادية وطرقها بين الجبال ، وقد يكون الطريق معبّداً من ناحية ، وقد يكون الطريق بين هاويتين . وقد يكون الطريق بين جبلين ، ومن يأخذ بالأحوط فهو يمسي في الوسط . ولذلك قال الإمام علي - كرم الله وجهه - : اليمين والشمال مضلة وخير الأمور الوسط؛ لأن الإنسان قد يتجه يميناً فيقع . أو يتجه شمالاً فيقع؛ أو تقع عليه صخرة . ونجد الوالد ينصح ابنه فيقول له : امش ولا تلتفت يميناً أو يساراً واتجه إلى مقصدك . ونجد الحق يصف الطريق الذي يمشي عليه المؤمن يوم القيامة : { فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ]
وسواء الجحيم هو نقطة المنتصف في النار؛ أي أنه لا يستطيع الذهاب يميناً أو شمالاً . ويقول الحق من بعد ذلك : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ . . . }
(1/2080)

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
وساعة يقول الحق : " ميثاقاً " فالميثاق يتطلب الوفاء . فهل وفوا بهذا الميثاق؟ . لا ، لقد نقضوا المواثيق فلعنهم الله . واللعن هو الطرد والإبعاد ، والحق في ذلك يقول : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } أي بسبب نقضهم الميثاق لعنهم الله . لقد أثار وجود " ما " هنا بعض التفسيرات ، فهناك من العلماء من قال : إنها زائدة ، وهناك آخرون قالوا : إنها " صلة " . ولكن الزيادة تكون عند البشر لا عند الله . ولا يمكن أن يكون بالقرآن شيء زائد؛ لأن كل كلمة في القرآن جاءت لمقتضى حال يحتم أن تكون في هذا الموضع . فها هوذا الحق يخبرنا بما وصى به لقمان ابنه : { واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } [ لقمان : 17 ]
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ]
في الآية الأولى لم يورد " اللام " لتسبق " مِن " ، وفي الآية الثانية أورد " اللام " لتسبق " مِن " ، وليس ذلك من قبيل التفنن في العبارات ، فقوله : { واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } دعوة للصبر على مصيبة ليس للإنسان غريم فيها ، كالمرض ، أو موت أحد الأقارب ، وهذه الدعوة للصبر تأتي هنا كعزاء وتسلية ، أما قوله الحق : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } فالدعوة للصبر هنا مع الغفران تقتضي وجود غريم يسبب للإنسان كارثة .
هنا يطلب الله من المؤمن أن يغفر لمن أصابه وأن يصبر . ومادام هناك غريم؛ فالنفس تكون متعلقة بالانتقام ، وهذا موقف يحتاج إلى جرعة تأكيدية أكثر من الولى؛ فليس في الموقف الأول غريم واضح يُطلب منه الانتقام ، أما وجود غريم فهو يحرك في النفس شهوة الانتقام ، ولذلك يؤكدها الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } . ويقول سبحانه في موقع آخر : { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ } [ المائدة : 19 ]
وعندما يقوم النحاة بإعراب " بشير " فهم يقولون : " إنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخرة منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد . إنه التفاف طويل ، ولا يوجد حرف زائد ، فالإنسان يقول : ما عندي مال . وهذا القائل قد يقصد أنه لا يملك إلا القليل من المال لا يعتد به . وعندما يقول الإنسان " ما عندي من مال " ف " من " هنا تعني أنه لا يملك أي مالٍ من بداية ما يقال له مال . ولذلك ف " مِن " هنا ليست زائدة ، ولكنها جاءت تعني لمعنى . إذن " ما جاءنا من بشير " أي لم يأت لنا بداية من يقال له بشير .
وها هوذا قول الحق : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ]
وقد يحسب البعض أن " ما " هنا حرف زائد ، ولكنا نقول : ما الأصل في الاشتقاق؟ .
(1/2081)

إن الأصل الذي نشتق منه هو المصدر . ومرة يأتي المصدر ويراد به الفعل ، كقول القائل : " ضرباً زيداً " أي " اضرب زيدا " . ومجيء المصدر هنا قول مقصود به الفعل ، وكذلك قوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } .
مادام النقض مصدراً فمن الممكن أن يقوم مقام الفعل . ومادام المصدر قد قام مقام الفعل فمن الجائز أن يأتي فعل آخر ، فيصبح معنى القول : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } . إذن " ما " تدل هنا على أن المصدر قد جاء نيابة عن فعل . وبقيت " ما " لتدل على أن المصدر من الفعل المحذوف ، أو أن " ما " جاءت استفهامية للتعجيب . . أي فبأي نقض من ألوان وصور نقضهم للعهد لعناهم؟ وذلك لكثرة ما نقضوا من العهود على صور وألوان شتى من النقض للعهد .
وقوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } . والنقض هو ضد الإبرام؛ لأن الإبرام هو إحكام الحكم بالأدلة . والنقض هو حل عناصر القضية ، كأن العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم قد نقضوه . ونحن نسمي العقيدة الإيمانية عقيدة ، لماذا؟؛ لأنها مأخوذة من عقد الشيء بحيث لا يطفو ليناقش من جديد في الذهن . كذلك الميثاق إنه عهد مثبت ومؤكد . وعندما ينقضونه فهم يقومون بحله ، أي أنهم أخرجوا أنفسهم عن متطلبات ذلك العقد . وجاء اللعن لأنهم نقضوا الميثاق .
{ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } وهم عندما نقضوا المواثيق ، طبع الله على قلوبهم؛ لأنه لم يطبع على قلوبهم بداية؛ فقد كفروا أولاً ، وبعدذ لك تركهم الله في غيهم وضلالهم وطبع على القلوب فَمَا فيها من كفر لايخرج ، والخارج عنها لا يدخل إليها . و " قاسية " تعني صُلبة . وفيها شدة . والصلابة مذمومة في القلوب وليست مذمومة في الدفاع عن الحق؛ لأننا نقيس كل موجود على مهمته . فعندما يكون كل موجود على مهمته يكون كل الكون جميلاً . مثال ذلك؛ نحن لا نقول عن الخُطاف ذمَّاً فيه إنه أعوج . فالخُطَّاف لا بد له من العوج؛ لأن ذلك العوج مناسب لمهمته ، إذن فعوج الخطاف استقامة له . وكذلك القسوة غير مذمومة شريطة أن تكون في محلها ، أما إن جاءت في غير محلها فهي مذمومة . إن القلوب القاسية مذمومة؛ لأن الحق يريد للقلوب أن تكون لينة : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } [ الزمر : 23 ]
والقسوة مأخوذة من القَسيِّ وهو الصلب الشديد ، ونعرف أن الدنانير كانت تضرب من الذهب والدراهم تضرب من الفضة . وعندما يفحصها الصيرفي قد يُخرج واحداً منها ويقول : هذا زيف أو زائف لأنه قد سمع رنينها ، أهي صلبة في الواقع أم لا؟ . وعندما تكون صلبة يقال لها : دراهم قاسية .
إنّ الذهب لين . والفضة لينة .
(1/2082)

فعندما نقول : إن هذا ذهب عيار أربعة وعشرين أي ذَهَبٌ ليس به نسبة من المواد الأخرى التي تجعله قابلاً للتشكيل؛ لأنه عندما يكون ذهباً صافياً على إطلاقه فلن يستطيع الصائغ أن يصوغ منه الحلي؛ لذلك يخلطه الصائغ بمعدن صُلب ، حتى يعطيه المعدن درجة الصلابة التي تتيح له تشكيل الحلي منه . وتختلف نسبة الصلابة من عيار إلى عيار في الذهب وكذلك الفضة . والمصوغات المصنوعة من عيار مرتفع من الذهب ليست عرضة للتداول ، كالسبائك الذهبية .
وإذا ما دخل المعدن الصلب إلى الذهب أو الفضة جعلها قاسية؛ أي صلبة . الصلابة - إذن - فيما يناسبها محمودة . وفيما لا يناسبها مذمومة كصلابة القلوب وقسوتها .
ويقول الحق : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } مثل ذلك نقلهم أمر الله الذي طلب منهم أن يقولوا : " حطة " فقالوا : " حنطة " { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } وكانت وسائل النسخ في الكتب التي سبقت القرآن هي نسيان حظٍّ مما ذكروا به ، والنسيان قد يكون عدم قدرة على الاستيعاب ، لكنه أيضاً دليل على أن المنهج لم يكن على بالهم . فلو كانت كتب المنهج على بالهم لظلوا على ذكر منه ، كما أنهم كتموا ما لم ينسوه ، والذي لم ينسوه ولم يكتموه حرّفوه ولووا ألسنتهم به . وياليت الأمر اقتصر على ذلك ، ولكنهم جاءوا بأشياء وأقاويل وقالوا إنها من عند الله وهي ليست من عند الله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة : 79 ]
هي أربعة ألوان من التغيير ، النسيان ، والكتم ، والتحريف ، ودسّ أشياء على أنها من عند الله وهي ليست من عند الله .
ولنا أن نتأمل جمال القول الحكيم : { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } فهم على قدر كبير من السوء بدرجة أنستهم الشيء الذي يأتي لهم بالحظ الكبير ، مثل نسيانهم البشارات بمحمد عليه الصلاة والسلام وكتمانها ، ولو كانوا قد آمنوا بها ، لكان حظهم كبيراً؛ ذلك أنهم نسوا أمراً كان يعطيهم جزاء حسناً ، إذن فقد جنوا على أنفسهم؛ لأن الإسلام لن يستفيد لو كانوا مهتدين أو مؤمنين والخسار عليهم هم ، ولم يدعهم الله ويتركهم على نسيانهم ليكون لهم بذلك حجة ، بل أراد أن يذكرهم بما نسوه . وكان مقتضى ذلك أن ينصفوا أنفسهم بأن يعودوا إلى الإيمان؛ لأن الحق ذكرهم بما نسوا ليحققوا لأنفسهم الحظ الجميل . وقد يراد أنّهم تركوا ذلك عامدين معرضين عنه مُغْفِلين له عن قصد .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } [ المائدة : 13 ]
أي أن خيانتهم لك يا رسول الله ولأتباعك ولمنهج الله الحق في الأرض ستتوالى ، ولاأدل على ذلك مما حدث منهم ضد رسلهم أنفسهم مع أنهم من بني جلدتهم ومن عشيرتهم ، إنهم من بني إسرائيل مثلهم ، فما بالك بنبي جاء من جنس آخر ليقتحم عليهم سلطتهم الزمنية؟
إذن فخيانتهم لله متصورة .
(1/2083)

و " خائنة " بمعنى " خيانة " مثلها مثل " قائلة " وهي القيلولة أي المسافة الزمنية بعد الظهر ، وفعلها : قال يقيل أي نام وسط النهار أو " خائنة " أي " نفس خائنة " . أو " خائنة " مثل امرأة خائنة " أو " خائنة " مبالغة كما نقول " راوٍ " و " راوية " ونحن نعني رجلاً ، أو نقول " جماعة خائنة " .
إذن فالكلمة الواحدة هنا مستوعبة لكل مصادر الخيانة منهم ، رجل أو امرأة أو جماعة أو كل هؤلاء . والذي يتكلم هنا هو رب العالمين ، ويتكلم للعرب وهم أهل فصاحة ، إنه أداء لغوي عال .
ومن فرط دقة القرآن وصدقه يأتي الحق بقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } طبقا لقانون صيانة الاحتمال . فحين يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين له موقف اليهود منه ، ألا يُحتمل أن يُوجد قوم من اليهود يغلبهم الفهم العميق فيفكروا في أن يؤمنوا بهذا الرسول ، ويهدئوا من شراسة ظنهم به؟ وقد فكر بعضهم وأعلن الإسلام .
وهؤلاء القوم عندما يسمعون أحكام الله على اليهود أجمعين ، ألا يقولون : وما لنا ندخل في هذه الزمرة؛ ونفكر في أن ننطق بالإيمان؟ فكأن قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } صان قانون الاحتمال أن يكون إنسان منهم فكر في الإيمان . ومن فكر في الإيمان فسوف يجد قوله الحق : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وسيرى هذا الإنسان في نفسه أن القرآن دليل نزل على نور . وقد كان وأعلن قليل منهم إسلامه ، وماذا يكون موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن يخبره الحق : بأنك ستتعرض مستقبلا لخيانتهم؟ ألا يحرك ذلك نفسية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عليهم ، فإذا فعل اليهود خائنة فلا بد أن ينتقموا منهم ، وتطبيقا للقاعدة الأساسية في رد العدوان بأن من يعتدي عليك فاعتد عليه .
لم يشأ - سبحانه - أن يترك الموقف لعواطف البشر مع البشر بل قال : { فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } والعفو هو كما نقول : فلان عفَّى على آثاري ، أي أن آثارك تكون واضحة على الأرض وتأتي الريح لتمسحها فتعفي على الأثر . والأمر بالعفو أي امسح الأثر لذنب فعلوه . والخطيئة التي ارتكبوها عليك أن تعتبرها كأنها لم تحدث ، ولكن أيظل أثرها باقيا عند رسول الله؟ لا ، فالأمر بالصفح يأتي وهناك فرق بين أن تمحو الخطيئة وتبقى أثرها في نفسك وتظل في حالة من الغيظ والحقد .
والحق هنا يأمر بالعفو أي إزالة أثرها ويأمر بالصفح أي أن تُخْرِجَ أثر الخطيئة من بالك؛ لأن الإنسان منا له مراحل؛ المرحلة الأولى بعد أن يرتكب أحدهم ذنبا في حقه ، فلا يقابل العدوان بمثله ، وهذا هو العفو ، والمرحلة الثانية : ألا يترك أثر هذا الذنب يعمل في قلبه بل يأتي الصفح حتى لا ينشغل قلب المؤمن بشيء قد عفا عنه ، والمرحلة الثالثة : فرصة مفتوحة لمن يريد أن يتمادى في مرتبة الإحسان وترقي اليقين والإيمان بأن يحسن الإنسانُ إلى من أساء إليه .
(1/2084)

وهذه المراحل الثلاث يوضحها قوله الحق : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ]
وعملية الإحسان مع المسيء أو المعتدي : أهي عملية منطقية مع النفس الإنسانية؟ قد تكون غير منطقية مع النفس الإنسانية ، ولكنك أيها الإنسان لا تشرع لنفسك ، إنما الذي يشرع لك هو الأعلى من النفس الإنسانية . والخالق يقول لك : لو علمت ما قدَّمه لك من أساء إليك لأحسنت إليه . لأنك إن أسأت إلى خلق من خلق الله فالذي يثأر ويأخذ الحق لمن أسيء إليه هو رب هذا المخلوق . ويأتي الله في صف الذي تحمل الإساءة .
إذن فإساءة العدو لك جعلت الله في صفك وفي جانبك ، ألا يستحق ذلك المسيء أن نشكره؟ ألا تقول لنفسك القول المأثور : ألا تحسن إلى من جعل الله في جانبك . إذن هذا هو التشريع : { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } والإحسان هنا خرج بالترقي الإيماني عن مرحلة : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ]
والإحسان أن تفعل شيئا فوق ما افترضه الله ، ولكن من جنس ما افترضه الله؛ والمحسن الذي يدخل في مقام الإحسان هو من يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يرى كل خلقه . ونعرف قول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 15-16 ]
ما الذي جاء بالإحسان هنا؟ وتكون الإجابة : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ]
وهل يكلف الله خلقه ألا يهجعوا إلا قليلا من الليل؟ لا . فقد كلف الله المسلم بالصلاةن وأعلمه بأنه حر بعد صلاة العشاء ، وله الحق أن ينام إلى الفجر ، فإن سمع أذان الفجر فليقم إلى صلاة الفجر . لكن المحسن يريد الارتقاء بإيمانه فيزيد من صلواته في الليل . ويضيف الحق مذكرا لنا بصفات المحسنين : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 18 ]
أكلف الله الخلق بأن يستغفروا بالأسحار؟ لا . بل إن الرسول يجيب على رجل سأله عن الفروض الأساسية المطلوبة منه ، فذكر له أركان الإسلام ومن بينها الصلوات الخمس المكتوبة ، فقال الرجل : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أفلح إن صدق " .
ويضيف الحق في استكمال صفات المحسنين : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 19 ]
ونلحظ أن الحق هنا لم يقل : " حق معلوم " إنما قال : { حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } فالحق المعلوم هو الزكاة ، أما المحسن فللسائل والمحروم في ماله حق غير معلوم ، وذلك ليفسح سبحانه المجال للطموحات الإيمانية ، فمن يزد في العطاء فله رصيد عند الله .
(1/2085)

والحق يقول : { فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } ؛ لأن الإحسان إليهم يهيج فيهم غريزة العرفان بالجميل ، فيستل ذلك الإحسان الحقد من قلوبهم ، ويفتحون آذانهم وقلوبهم لكلمة الحق : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ]
لأن العداوة لا تشتد إلا إذا وُجد مُؤجج لها من عداوة في المقابل . فعندما تعامل عدوك بالحسنى ولا ترد على عدائه بالعدوان فكم من الزمن يصير عدواً لك؟ إنه اعتدى مرة وسَكّتَّ أنت عليه ، واعتدى ثانية وسكت أنت عليه . لا بد أنه يهدِّئ من نفسه .
إذن فالعداوة لا تتأجج إلا إذا قابلتها عداوة أخرى . ولذلك نرى ما حدث في المعركة التي قامت بين فرعون وسيدنا موسى عليه السلام حين أراد الله أن يجعل العداوة لا من جهة واحدة ولكن من جهتين اثنتين لتكون معركة حامية؛ لأن العداوة لو كانت من جهة واحدة لهذا الطرف المعتدي : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ]
فهل هم التقطوه ليكون عدواً؟ لا . لقد التقطوه ليكون قرة عين . ولكن قدر الله سبق . كان الأمل في أن يصير موسى قرة عين آل فرعون ، ولكن الله أراد أن يقوموا بتربيته ، ثم يصير من بعد ذلك عدواً لهم . وهكذا يتضح لنا أن تدبير السماء فوق تدبير الأرض . وموسى السامري مثلاً ربته السماء بواسطة جبريل ، وولدته أمه منقطعا في الصحراء ، فكان جبريل ينزل عليه بما يطعمه إلى أن كبر ، وموسى ابن عمران ذهب إلى فرعون ليربيه ، لكن موسى السامري - الذي رباه جبريل - صار كافراً ، وموسى بن عمران الذي رباه فرعون أصبح رسولاً إلى بني إسرائيل . وكلا القدرين أرادهما الله ، ولذلك يقول الشاعر :
إذا لم تصادف في بريق عناية ... فقد كذب الراجي وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل
كأن آل فرعون قد قاموا بتربية موسى بن عمران ليكون عدواً لهم لا قرة عين . والعداوة تكون من جهة موسى لفرعون ، وتجيء العداوة من فرعون لموسى ، فيقول الحق : { فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 39 ]
هكذا صارت العداوة من طرفين . والحق سبحانه وتعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصفح عن الخيانات التي تحدث منهم ، لعل الوعي الإيماني يستيقظ فيهم ، ويقولون : لم يعاملنا بمثل ما عاملناه به ، ويعترفون به نبياً رحيماً رءوفاً كريماً ، ولا يقفون في وجه دعوته . لكن أيظل العفو والصفح هما كل التعليمات الصادرة من الحق إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لا . فقد مر الأمر الإلهي بمرحليات متعددة؛ فالرسول يستقطب النفس الإنسانية بأن يستعبدها بالإحسان ، فإن لم يستعبدها الإحسان فلا بد أن يشمر النبي عن الساعد ويفعل ما يأمره به الله ، ولنقرأ قوله الحق :
(1/2086)

{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } [ لبقرة : 109 ]
إذن فهناك أمر خفي هو : { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ]
وسبحانه قد أمر بأن يتركهم الرسول مع الصفح والعفو لمرحلة قادمة يأتي فيها الأمر بتأديبهم . وهذه عملية إنسانية فطرية عرفها العربي الجاهلي وخَبَرها قبل أن يأتي الإسلام؛ فقد كان العربي يحسن إلى عدوه مرة وثانية وثالثة ، وعندما يجد أن الإحسان لم يثمر ثمرته؛ يقاتل العدو ، وكما قال الشاعر :
أناة فإن لم تغن قدم بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه
من الحلم أن تستعمل الحزم دونه ... إذا لم يسع بالحلم ما أنت عازمه
وقال الشاعر :
صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجع ... ن قوماً كالذي كانوا
فلما صَرَّحَ الشر ... وأضحى وهو عريان
مشينا مشية الليث ... غَدَا والليث غضبان
بضرب فيه تأييم ... وتفجيع وإرنان
وطعن كفم الزق ... غَدَا والزق ملآن
وفي الشر نجاة حي ... ن لا ينجيك إحسان
وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان
ومثل ما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود ، حدث مع النصارى واورد الحق سبحانه وتعالى هذا فقال : { وَمِنَ الذين قَالُواْ . . . }
(1/2087)

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
لقد قالوا إنهم نصارى . وأخذ الحق الميثاق منهم ، إما ميثاق الذر وإما ميثاقهم لنبيهم عيسى ابن مريم ، فنسوا حظاً مما ذكروا به وتركوا ما أمرهم به الإنجيل ونقضوا الميثاق ، فتفرقوا في عداء ملحوظ فِرَقاً شتى ، وجاء أمر الله كما وعد : { يَا أَهْلَ الكتاب . . . }
(1/2088)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
كأن الحق سبحانه وتعالى يعطيهم الفرصة والعذر حتى لا يقولن واحد منهم : لم يبلغني عن رسولي شيء . وهناك فترة لم يأت فيها رسول . وها هوذا رسول من الله يأتي حاملاً لمنهج متكامل . ومجيء الرسول يمنحهم ويعطيهم فرصة لتجديد ميثاق الإيمان . وهم قد أخفوا من كتبهم بعض الأحكام . مثل الرجم والربا ، وقال بعض من بني إسرائيل في الربا ما ذكره القرآن عنهم : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ]
أي أنهم أقروا الإقراض بالربا لمن هم على غير دينهم ، ولكن لا ربا في تعاملهم مع أبناء دينهم . وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلم الشمل وأن يجمع أيديهم مع يده؛ لأنه نبي انتظروه ولهم في كتبهم البشارة به . وأن يقف الجمع المؤمن أمام موجة الإلحاد في الأرض حتى يسيطر نظام السماء على حركة الأرض؛ لذلك قال الحق : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌْ } . ومعنى ذلك ان كتمانهم لبعض منهج الله قد صنع ظلمة في الكون . ومادامت قد حدثت ظلمانية في الكون ، وخاصة ظلمانية القيم ، إذن فالكون صار في حاجة إلى من ينير له الطريق . ونعرف أن النور هو ما نتبين به الأشياء .
وحين يعرض الحق لنا قضية النور الحسي يريد أن يأخذ بيدنا من النور الحسي إلى النور المعنوي؛ فالنور الحسي يبدد ظلام الطريق حتى لا نصطدم بالأشياء أو نقع في هوة أو نكسر شيئاً ، لكن عندما يحمل الإنسان نوراً فهو يمشي على بينة من أمره . والنور الحسي يمنع من تصادم الحركات في المخلوقات ، حتى لا تبدد الطاقة ، فتبديد الطاقة يرهق الكون ولا يتم إنجاز ما .
إن الشمس في أثناء النهار تضيء الكون ، ثم يأتي القمر من بعد الشمس ليلقي بعضاً من الضوء ، وكذلك النجوم بمواقعها تهدي الناس في ظلمات البر والبحر . وجعل الله هذه الكائنات من أجل ألا تتصادم الحركة المادية للموجودات ، فإذا كان الله قد صنع نوراً مادياً حتى لا يصطدم مخلوق بمخلوق ، فهو القادر على ألا يترك القيم والمعاني والموازين بدون نور ، لذلك خلق الحق نور القيم ليهدي الإنسان سواء السبيل ، فإذا كان الكافر أو الملحد يتساوى مع المؤمن في الاستفادة بالنور المادي لحماية الحركة المادية في الأرض ، ولم نجد أحداً يقول : أنا في غير حاجة للانتفاع بالنور المادي ، ونقول للكافرين والملاحدة : مادمتم قد انتفعتم بهذا النور فكان يجب أن تقولوا : إن لله نوراً في القيم يجب أن نتبعه . ويلخص المنهج هذا النور ب " افعل ولا تفعل " .
فالمنهج - إذن - نور من الله . ولنقرأ : { الله نُورُ السماوات والأرض } [ النور : 35 ]
إنه يأخذ بيدنا في الطريق بالنور المادي الذي يستفيد منه الكل ، سواء من كان مؤمنا أو غير ذلك ، ويضرب سبحانه لنا مثل النور .
(1/2089)

{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } [ النور : 35 ]
والمشكاة هي الطاقة التي توجد في الجدار وهي غير النافذة ، إنّها كوة في الجدار يوضع فيها المصباح الزيتي أو " الكيروسيني " وتوجد في المباني البدائية قبل أن يخترع الإنسان المصابيح الكهربية والثريات . ولا تتجاوز مساحة الكوة ثلاثين سنتيمترا ، وطولها أربعون سنتيمتراً ولا يزيد عمقها على خمسة عشر سنتيمتراً؛ أما الحجرة فمساحتها تزيد أحياناً على ثلاثة أمتار في الطول والعرض والارتفاع .
ويتحدث الحق عن الكوة فقط ولا يتحدث عن الحجرة . وأي مصباح في الكوة قادر على إنارة الحجرة . ولننتبه إلى أن هذا المصباح غير عادي ، فهو مصباح في زجاجة . ونعرف أن المصباح الذي في زجاجة هو من الارتقاءات الفكرية للبشر . فالمصابيح قديماً كانت بدون زجاجة وكان يخرج منها ألسنة من السَّناج " الهباب " الذي يُسوّد ما حولها ، فالسَّناج أثر دخان السراج في الحائط وغيره . وقد ينطفئ المصباح لأن الهواء يهب من كل ناحية ، ثم وضع الإنسان حول شعلة المصباح زجاجة تحمي النار وتركز النور وتعكس الأشعة ويأخذ المصباح من الهواء من خلال الزجاجة على قدر احتياج الاشتعال . { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ } [ النور : 35 ]
أي أن النور من هذا المصباح أشد قوة؛ لأن الزجاجة تعكس أشعة المصباح وتنشر الضوء في كل المكان . والزجاجة التي يوجد فيها هذا المصباح ليست عادية : { الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } [ النور : 35 ]
والكوكب نفسه مضيء ، وتكون الزجاجة كأنها هذا الكوكب الدري في ضيائه ولمعانه . والمصباح يوقد من ماذا؟ . { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ]
وهذا ارتقاء في إضاءة المصباح من زيت شجرة زيتون ، والشجرة غير عادية : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } [ النور : 35 ]
فهي شجرة يتوافر لها أدق أنواع الاعتدال : { نُّورٌ على نُورٍ } [ النور : 35 ]
ذلك هو من قدرة الله في نور الكونيات المادية ، ولذلك فليس من المعقول أن يترك القيم والمعنويات بدون نور . فكما اهتدى الإنسان في الماديات فينبغي أن يفطن إلى قدرة الحق في هداية المعنويات ، بدليل أن الله قال : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ]
يهدي الله بنور القيم والمنهج والمعاني من يريد . وقد يهتدي الملحد بنور الشمس المادي إلى الماديات ولكن بصره أعمى عن رؤية نور المنهج والقيم؛ لذلك يوضح سبحانه أن هناك نوراً إلهياً هو المنهج . وضرب هذا المثل ليوضح المعاني الغيبية المعنوية بالمعاني الحسية . ونحن على مقاديرنا نستضيء ، فالفقير أو البدائي يستضيء بمصباح غازي صغير ، والذي في سعة من العيش قد يشتري مولداً كهربياً . وكل إنسان يستضيء بحسب قدرته . ولكن عندما تشرق الشمس في الصباح ما الذي يحدث؟ .
يطفئ الإنسان تلك المصابيح ، فالشمس هي نور أهداه الله لكل بني الإنسان ، ولكل الكون . كذلك إذا فكرنا بعقولنا فيما ينير حياتنا فكل منا يفكر بقدرة عقله .
(1/2090)

ولكن إذا ما نزل من عند الله نور فهو يغني عن كل نور أخر . وكما نفعل في الماديات نفعل في المعنويات : { نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ } [ النور : 35 ]
والذي يدلنا على أن النور الثاني هو نور القيم الذي يكشف لنا بضوء " افعل ولا تفعل " أن الله قال بعد ذلك : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } [ النور : 36 ]
ولوبحثت عن متعلق الجار والمجرور لم تجده إلا في قوله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) كأن النور على النور يأتي من مطالع الهدى في مساجده . فهي بيوت الله نقبل عليها ليفيض منها نور الحق على الخلق . { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } [ النور : 36-37 ]
وكلمة { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ } لا تعني تحريم التجارة ، فالإنسان الصادق لا تلهيه التجارة عن ذكر الله . وليكن الله على بال المؤمن دائما ، فعندما يكون الإنسان على ذكر لله فالله يعطيه من مدده .
إذن يا أهل الكتاب قد جاءكم النور ، وبين لكم الرسول كثيراً مما تختلفون فيه . وتسامح عن كثير من خطاياكم ، ويريد أن يجري معكم تصفية شاملة . فعليكم أن تلتفتوا وتنتبهوا وتُعَدِّلوا من موقفكم من هذا الدين الجديد . ولتبحثوا ماذا يريد الله بهذا المنهج . والله قد ضرب المثل بالنور ، وهذا النور يهدي إلى " افعل ولا تفعل " . ومن الذي يقول لنا إن هذا النور قادم من الله؟ إنه الرسول ، ومن الذي يدلنا على أن الرسول صادق في البلاغ عن الله؟ الذي يدل على صدقه هو قول الله : { يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [ النساء : 174 ]
فالذي جاء أولا من ربكم هو البرهان على أن رسول الله صادق في البلاغ عن الله ، وليبلغنا أن الكتاب قد جاء بالمنهج . والقرآن يتميز بأنه البرهان على صدق النبي وهو المنهج النوراني؛ لأن البرهان هو الحجة على صدق الرسول في البلاغ عن الله .
ونعرف البرهان في حياتنا التعليمية أثناء دراسة مادة الهندسة عندما نقابل تمرينا هندسيا فنأخذ المعطيات وبعد ذلك ننظر إلى المطلوب إثباته . ونعيد النظر في المعطيات لنأخذ منها قوة للبرهنة على إثبات المطلوب . وإن كانت المعطيات لا تعطي ذلك فإننا نتجه إلى خطوة أخرى هي العمل على إثبات المطلوب . وهذا الكون فيه معطيات ، وهو كون محكم ، ونلمس إحكامه فيما لا دخل لحركتنا فيه : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } [ يس : 40 ]
كون موزون بالسماء والأرض وحركة الرياح وغير ذلك ، وتلك الأمور التي لا دخل للإنسان فيها نجد القوانين فيها مستقيمة تمام الاستقامة وكمالها . فإن أراد الإنسان أن يأخذ المعطيات من الكون ، فليأخذ في اعتباره النظر إلى الأمور التي للإنسان دخل فيها ولسوف يجدها تتعرض للفساد؛ لأن الهوى في البشر له مدخل على هذه الأشياء .
(1/2091)

لكن الخالق الأعلى لا تطوله ولا تتناوله أمور الهوى . ولذلك يقول سبحانه : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } [ الرحمن : 7 ]
فلا السماء تنطبق على الأرض ، ولا كوكب يزاحم كوكبا آخر . ويبين لنا الحق كيفية السير بنظام الكون : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان } [ الرحمن : 8 ]
فإن أردتم أن تكون حركتكم منتظمة فانظروا إلى ما لأيديكم دخل فيه واصنعوه كصنع الله فيما ليس لأيديكم مدخل فيه . { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 9 ]
فإن كنتم معجبين باتزان الكون الأعلى فذلك لأنه مصنوع بنظام دقيق . وإذا كان الحق قد وضع لنا نظاما دقيقا هو المنهج ب " افعل كذا ولا تفعل كذا " فذلك حتى لا تفسد حركتك الاختيارية إن اتبعت المنهج ، وتصرفت في حياتك بمنهج الله ويكون الميزان معتدلاً . إذن فقد أعطانا الحق معطيات عندما ينظر الإنسان فيها نظرا فطريا بدون هوى فإنها تأخذ بيده إلى الإيمان . وهذه الكائنات الموزونة لا بد لها من خالق؛ لأن الإنسان طرأ عليها ولم تأت هي من بعد خلق الإنسان . ولا أحد من البشر يدعي أنه صنع هذا الكون .
إذن لا بد من البحث عمن صنع هذا الكون الدقيق ، والدعوى حين تسلم من الضعف ، أتكون صادقة أم غير صادقة؟ تكون صادقة تماما . والله هو الذي قال إنه خلق السماء والأرض والكون . ولم يأت مدعٍ آخر يقول لنا : إنه الذي خلق . إذن يثبت الأمر لله إلى أن يوجد مدعٍ . ومع توالي الأزمنة وتطاولها لم يدع ذلك أحد .
وكان لا بد أن تكون مهمة العقل البشري أن يفكر ويقدح الذهن ليتعرف على صانع هذا الكون ، وكان لا بد أن يتوجه بالشكر لمن جاء ليحل له هذا اللغز .
وقد جاءت الرسل لتحل هذا اللغز ولتدلنا على مطلوب عقلي فطري ، ولو أننا سلسلنا الوجود لوجدنا أن الإنسان هو سيد هذا الوجود؛ لأن كل الكائنات تعمل وتجهد في خدمته . وأجناس الوجود كما نعرفها التي تخدم الإنسان هي الحيوان ويتميز عنه الإنسان بالعقل ، وهناك جنس تحت الحيوان هو النبات فيه النمو ، وهناك جنس أدنى وهو الجماد . وكل هذه الأجناس مهمتها خدمة الإنسان . والجماد ليس هو الشيء الجامد ، بل الهواء جماد والشمس جماد والتربة جماد ، وكل ذلك يمارس مهمته في الوجود لخدمة الأجناس الأعلى منها ويستفيد الإنسان منها جميعا والحيوان يستفيد من الجماد وكذلك النبات يستفيد من الجماد ، والحيوان يستفيد من النبات والجماد ، والمحصلة النهائية لخدمة الإنسان .
أليس من اللائق والواجب - إذن - أن يسأل الإنسان نفسه من الذي وهبه هذه المكانة؟ فإذا جاء الرسول ليحل هذا اللغز ويبلغنا أن الذي خلق الكون هو الله وهذه صفاته ، ويبلغنا أن هذا المنهج جاء من الله ويحمل معه معجزةً هي دليل صدقِ البلاغِ عن الله ، وهي معجزة لا يقدر عليها البشر ، ويتحدى الرسول البشر أن يأتوا بمثل معجزته .
(1/2092)

إذن فلا بد أن يؤمن كل البشر لو صَدَقُوا الفهم وأخلصوا النية .
ما هو البرهان إذن؟ البرهان هو المعجزة الدالة على صدق الرسول في البلاغ عن الله . هذا البلاغ عن الله الذي بحث عنه العقل الفطري وآمن أنه لا بد أن يكون موجودا ، لكنه لم يتعرف على أنه " الله " . إن الرسول هو الذي يبلغنا عن اسم الخالق ، وهو الذي يقدم لنا المنهج .
إذن فمجيء الرسل أمر منطقي تحتمه الفطرة ويحتمه العقل . ولذلك أنزل الحق النور العقدي ، أنزل - سبحانه - المنهج ليحمي المجتمع من الاضطراب ، ولذلك يقول الحق : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض } [ المؤمنون : 71 ]
إذن فالدين جاء من الله ليتدخل في الأمور التي تختلف فيها الأهواء ، فحسم الله النزاع بين الأهواء بأن انفرد سبحانه أن يشرع لنا تشريعا تلتقي فيه أهواؤنا ، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
أي أن تتحد الأهواء تحت مظلة تشريع واحد؛ لأن كل إنسان إن انفرد بهواه ، لا بد أن نصطدم ، ولا نزال نكرر ونقول : إن خلافات البشر سواء أكانت على مستوى الأسرة أم الجماعة أم الأمة أم العالم ، جاءت من اختلاف الأهواء ، ولكن الأشياء التي لا دخل للأهواء فيها فالعالم متفق فيها تماما ، بدليل أننا قلنا : إن المعسكر الشرقي السابق والمعسكر الغربي الحالي اختلفا بسياستين نظريتين ، هذا يقول : " شيوعية "؛ وهذا يقول : " رأس مالية " .
إنه لا يوجد معمل مادي كي ندخل فيه الشيوعية أو الرأسمالية ونرى ما ينفعنا . أنَّها أهواء ، لذلك تصادما في أكثر من موقع ، وانهزمت الشيوعية وبقيت آثارها تدل عليها . لكن الأمور المادية المعملية . لم يختلفوا فيها . ونقول الكلمة المشهورة : " لا توجد كهرباء روسي ولا كهرباء أمريكاني " . " ولا توجد كيمياء روسي ولا كيمياء أمريكاني "؛ فكل الأمور الخاضعة للتجربة والمعمل فيها اتفاق ، والخلاف فقط فيما تختلف وتصطدم فيه الأهواء .
فكأن الله ترك لنا ما في الأرض لنتفاعل معه بعقولنا المخلوقة له ، وطاقاتنا وجوارحنا المخلوقة له ، ويوضح : إن التجرية المعملية المادية لن تفرقكم بل ستجتمعون عليها . وسيحاول كل فريق منكم أن يأخذ ما انتهى إليه الفريق الآخر من التجارب المادية ولو تلصصها ، ولو سرقها ، أما الذي يضركم ويضر مجتمعكم فهو الاختلاف في الأهواء . وليت الأمر اقتصر على الاتفاق في الماديات والاختلاف في الأهواء ، لا ، بل جعلوا مما اتفقوا عليه من التجارب المادية والاختراعات والابتكارات وسيلة قهرية لفرض النظرية التي خضعت لأهوائهم .
(1/2093)

فكأننا أفسدنا المسألة . . أخذنا ما اتفقنا فيه لنفرض ما اختلفنا عليه .
إن الحق سبحانه وتعالى أعطانا كل هذه المسائل كي تستقيم الحياة ، ولا تستقيم الحياة إلا إن كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يحسم في مسائل الهوى ، ولذلك حتى في الريف يقولون : " من يقطع إصبعه الشرع لن يسيل منه دم "؛ لأن الذي يقول ذلك مؤمن ، أي أن الحكم حين يأتي من أعلى فلا غضاضة في أن نكون محكومين بمن خلقنا وخلق لنا الكون ، وتدخلت السماء في مسألة الأهواء بالمنهج : افعل هذا ولا تفعل هذا ، لكن ما ليس فيه أهواء أوضح سبحانه : أنتم ستتفقون فيها غصباً عنكم ، بل ستسرقونها من بعضكم ، إذن فلا خطر منها .
إن الخطر في أهوائكم . ولذلك اذكروا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمهات المسائل التي يترتب عليها حسن نظام المجتمع كما يريده الله كان - عليه الصلاة والسلام - يتحمل هو التجربة في نفسه ، ولا يجعل واحداً من المؤمنين به يتحمل التجربة ، فمسألة التبني حين أراد ربنا أن ينهيها حتى لا يدعي واحد آخر أنه ابنه وهو ليس أباه ، أنهاها الله في رسوله صلى الله عليه وسلم : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } [ الأحزاب : 37 ]
وفي مسألة الماديات والأهواء يقول أنس بن مالك رضي الله عنه : إن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال : " لو لم تفعلوا لصلح " قال : فخرج شيصا ، فمر عليهم فقال : " ما لنخلكم " قالوا : قلت كذا وكذا قال : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " إنه - صلى الله عليه وسلم - تركهم لتجربتهم .
السماء - إذن - لا تتدخل في المسائل التجريبية؛ لأنه سبحانه وهب العقل ووهب المادة ووهب التجربة ، ورأينا رسول الله يتراجع عما اجتهد فيه بعد أن رأى غيره خيرا منه كي يثبت قضية هامة هي أن المسائل المادية المعملية الخاضعة للتجربة ليس للدين شأن بها فلا ندخلها في شئوننا ، فلا نقول مثلاً : الأرض ليست كروية ، أو أن الأرض لا تدور . فما لهذا بهذا؛ لأن الدين ليس له شأن بها أبداً ، وهذه مسائل خاضعة للتجربة وللمعمل وللبرهان وللنظرية ، بل دخل الدين ليحمينا من اختلاف أهوائنا؛ فالأمر الذي نختلف فيه يقول فيه : افعل كذا ولا تفعل كذا بحسم ، والأمر الذي لم يتدخل فيه ب " افعل ولا تفعل " أوضح لك : سواء فعلته أم لم تفعله لا يترتب عليه فساد في الكون ، وخذوا راحتكم فيما لم يرد فيه " افعل ولا تفعل " ، وأريحوا أنفسكم واختلفوا فيه؛ لأن الخلاف البشري مسألة في الفطرة والجبلّة والخلقة .
وهنا يقول : " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " و " النور " أهو الكتاب أم غيره؟ .
(1/2094)

وفي آية أخرى يقول : { يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [ النساء : 174 ]
وهذا القول يدل على أن النور هنا هو " القرآن " وجمع بين أمرين؛ برهان . . أي معجزة ، ونور ينير لنا سبيلنا .
{ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا } والإيمان بالله مسألة تطبيقية مرحلية . " الله " هو قمة الإيمان و " رسوله " هو المبلغ عن الله؛ لأنه جاء لنا بالنور . إلا أن أهل الشطح يقولون : النور مقصود به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ونقول : نحن لا نمانع أنه نور ، وإن كان النص يحتمل أن يكون عطف تفسير ، وحتى لا ندخل في متاهة مع بعض من يقولون : لا ليس الرسول نوراً؛ لأنه مأخوذ من المادة وسنجد من يرد عليهم بحديث جابر : ما أول ما خلق الله يا رسول الله؟ قال له : نور نبيك يا جابر .
فعن جابر بن عبدالله قال : قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء . قال : " يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنّة ولا نار ولا مَلَك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي " .
وحتى لا ندخل في مسألة غيبية لا تستوي الأذهان في استقبالها ونفتن بعضنا . ويقول فلان كذا ويقول علان كذا . هنا نقول : من تجلى له أن يقنع بها أحداً كي لا ندخل في متاهة ، وعندما يتعرض أحد لحديث جابر - رضي الله عنه - نسأل : أهو قال : أول خلق الله نبيك يا جابر أم نور نبيك يا جابر؟ . قال الحديث : نور نبيك ولم يقل النبي نفسه الذي هو من لحم ودم ، فمحمد صلى الله عليه وسلم من آدم وآدم من تراب؛ لذلك ليس علينا أن نتناول المسائل التي لا يصل إليها إلا أهل الرياضيات المتفوقة ، حتى لا تكون فتنة؛ لأن من يقول لك : أنت تقول : النور هو رسول الله ، ونقول : على العين والرأس ، فرسول الله نور ولاشك؛ لأن النور يعني ألا نصطدم ، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج كي ينير لنا الطريق ، والقرآن منهج نظامي ، والرسول منهج تطبيقي ، فإن أخذت النور كي لا نصطدم ، فالحق يقول : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ]
إذن فسنأخذ بالمنهج النظري الذي هو القرآن ، ونأخذ بالمنهج التطبيقي . { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } و " مبين " أي محيط بكل أمر وكل شيء مصداقاً لقوله الحق : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ }
(1/2095)

[ الأنعام : 38 ]
أي مما تختلف فيه أهواؤكم . وسُئل الإمام محمد عبده ، وهو في باريس : أنتم تقولون { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } فكم رغيفاً في أردب الدقيق؟ . فقال : انتظروا : واستدعى خبازاً وسأله : كم رغيفا في أردب القمح؟ . فقال له : كذا رغيف . فقالوا له : أنت تقول إنه في الكتاب . فقال لهم : الكتاب هو الذي قال لي : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ]
إن قوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } أي مما تختلف فيه الأهواء أو تفسد فيه حركة الحياة في الأرض . فربنا هو - سبحانه - جعل أناساً تتخصص في الموضوعات المختلفة .
{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } يعني : يا أهل الكتاب انتبهوا إلى أن هذه فرصتكم لنصفي مسألة العقيدة في الأرض وننهي الخلاف الذي بين الدينين السابقين ونرجع إلى دين عام للناس جميعاً ، ولا تبقى في الأرض هذه العصبية حتى تتساند الحركات الإنسانية ولا تتعاند ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ]
انظر كيف يجمع الإسلام بين أمرين متناقضين : فلم يجيء الإسلام كي يطبع الإنسان ليكون شديداً؛ لأن هناك مواقف شتى تتطلب الرحمة ، ولم يطبعه على الرحمة المطلقة لأن هناك مواقف تتطلب الشدة ، فلم يطبع الإنسان في قالب ، ولكنه جعل المؤمن ينفعل للحدث .
ويقول الحق : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ]
أي لا تقل إنّه طبع المؤمن على أن يكون ذليلاً ولا طبعه ليكون عزيزاً ، بل طبعه ليكيّف نفسه التكييف الذي يتطلبه المقام ، فيكون مرة ذليلاً للمؤمن وعزيزاً على الكافر . وقال الإسلام لنا : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ]
أي لا بد أن تعرف الطرفين أولاً ، ثم تحدد ، لأن الوسط لا يعرف إلا بتحديد الطرفين؛ فاليهودية بالغت في المادية ، والنصرانية بالغت في الروحانية والبرهانية : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } [ الحديد : 27 ]
وعندما سئل سيدنا عيسى عن مسألة ميراث قال : " أنا لم أبعث مورثاً "؛ لأنه جاء ليجدد الشحنة للطاقة الدينية ، وبرغم الخلاف العميق بين اليهودية والنصرانية جاء أهل الفكر عندهم ليضعوا العهد القديم والعهد الجديد في كتاب واحد ، ومع ذلك فقد جاء من اعتبر الإسلام خصماً عنيفاً عليهم على رغم أن الإسلام ليس خصماً إنما جاء ليمنح الناس حرية الاختيار ، وعندما ننظر إلى المنهج المادي والمنهج الروحاني تجد أن اليهود أسرفوا في المادية وقالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ]
لقد أسرفوا في المادية لدرجة أن المسألة المتعلقة بقُوتِهم حينما كانوا في التيه وأنزل ربنا عليهم المن والسلوى ، و " المن " كما نعرف طعام مثل كرات بيضاء ينزل من السماء على شجر أو حجر ينعقد ويجف جفاف الصمغ وهو حلو يؤكل وطعمه يقرب من عسل النحل ، وجاء لهم بالسلوى وهو طائر يشبه الدجاج وهو السُّماني فقالوا :
(1/2096)

{ لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ]
إننا نريد مما تخرجه الأرض من بقلها ، والذي دعاهم إلى غلوهم في الأمر المادي أنهم قالوا : قد لا يأتي المن ، وقد لانستطيع صيد الطير ، نحن نريد أن نضمن الطعام . إذن فالغيبيات بعيدة عنهم فهم قد أسرفوا في هذه المادية وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعدل هذا النظام المادي المتطرف فأنزل منهجية روحانية متمثلة في منهج عيسى عليه السلام ، وشحنهم بمواجيد دينية ليس فيها حكم مادي ، كي تلتحم هذه بتلك ويصير المنهج مستقيماً ، لكن الخلاف دب بينهم ، فكان ولا بد أن يأتي دين جديد يجمع المادية المتعلقة الرزينة المتأنية ، والروحانية المقسطة التي لا تفريط فيها ولا إفراط ، إنها الروحانية المتلقاة من السماء دون ابتداع دين يأتي بالاثنتين في صلب دين واحد . فقال لنا : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } [ الفتح : 29 ]
وهذه كلها قيم تعبدية . فيكون هؤلاء ماديين وروحانيين في آن واحد . ويتابع الحق : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة } [ الفتح : 29 ]
كأن الله ضرب في التوراة مثلاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم : يا من أسرفتم في المادية سيأتي رسول ليعدل ميزان العقائد والتشريع ، فتكون أمته مخالفة لكم تماماً . فأنتم ماديون وقوم محمد ركع سجد ، يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود . أي : ما فقدتموه أنتم في منهجكم سيوجد في أمة محمد . ويقول الحق : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } [ الفتح : 29 ]
فمثلهم في التوراة ما فُقد عند اليهود؛ ومثلهم في الإنجيل ما فُقد عند النصارى . إذن فدين محمد صلى الله عليه وسلم جمع بين القيم المادية والقيم الروحية فكان ديناً وسطاً بين الاثنين . فقال : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } أي انتهزوا الفرصة لتصححوا أخطاءكم ولتستأنفوا حياة صافية تربطكم بالسماء رباطاً يجمع بين دين قيمي يتطلب حركة الدنيا ويتطلب حركة الآخرة .
ويقول الحق بعد ذلك : { يَهْدِي بِهِ الله . . . }
(1/2097)

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
ومادام الله هو الذي يهدي فسبحانه منزه عن الأهواء المتعلقة بهم ، وهكذا نضمن أن الإسلام ليس له هوى . لأن آفة من يشرع أن يذكر نفسه أو ما يحب في ما يشرع ، فالمشرع يُشترط فيه ألا ينتفع بما يشرع ، ولا يوجد هذا الوصف إلا في الله لأنه يشرع للجميع وهو فوق الجميع .
{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ } إنَّ من اتبع رضوانه يهديه الله لسبل السلام ، إذن ففيه رضوان متبع ، وفيه سبل سلام كمكافأة . وهل السلام طرق وسبل؟ . نعم؛ لأن هناك سلام نفس مع نفسها ، وهناك سلام نفس مع أسرتها ، هناك سلام نفس مع جماعتها ، هناك سلا نفس مع أمتها وهناك سلام نفس مع العالم ، وسلام نفس مع الكون كله ، وهناك سلام نفس مع الله ، كل هذا يجمع السلام . إذن فسُبل السلام متعددة ، والسلام مع الله بأن تنزه ربك أيها العبد فلا تعبد معه إلهاً آخر ، ولا تلصق به أحدا آخر . . أي لا تشرك به شيئا ، أو لا تقل : لايوجد إله .
ولذلك نجد الإسلام جاء بالوسط حتى في العقيدة؛ جاء بين ناس تقول : لا يوجد إله ، وهذا نفي؛ وناس تقول : آلهة متعدة؛ الشَّر له إله ، والخير له إله ، والظلمة لها إله ، والنور له إله ، والهواء له إله ، والأرض لها إله!!
إن الذين قالوا بالآلهة المتعددة : استندوا على الحس المادي ونسي كل منهم أن الإنسان مكون من مادة وروح ، وحين تخرج الروح يصبح الجثمان رمّة؛ ولم يسأل أحدهم : نفسه ويقول : أين روحك التي تدير نفسك وجسمك كله هل تراها؟ ، وأين هي؟ . أهي في أنفك أم في أذنك أو في بطنك أين هي؟ ، وما شكلها؟ . وما لونها؟ . وما طعمها؟ . أنت لم تدركها وهي موجودة . إذن فمخلوق لله فيك لا تدركه فهل في إمكانك أن تدرك خالقه؟ . إن هذا هو الضلال . فلو أُدْرِك إِلهٌ لما صار إلهاً؛ لأنك إن أدركت شيئاً قدرت على تحديده ببصرك ، ومادام قد قدرت على تحديده يكون بصرك قد قدر عليه ، ولا ينقلب القادر الأعلى مقدوراً للأدنى أبداً .
وحينما أراد الله أن يذلل على هذه الحكاية قال : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ]
انظر في نفسك تجد روحك التي تدير جسدك لا تراها ولا تسمعها ومع ذلك فهي موجودة فيك ، فإن تخلت عنك صرت رمة وجيفة ، فمخلوق لله فيك لا تقدر أن تدركه ، أبعد ذلك تريد أن تدرك مَنْ خَلَقَ؟ إن هذا كلام ليس له طعم! والاتجاه الآخر يقول بآلهة متعددة؛ لأن هذالكون واسع ، وكل شيء فيه يحتاج إلى إله بمفرده ، فيأتي الإسلام بالأمر الحق ويقول : هناك إله واحد؛ لأنه إن كان هناك آلهة متعددة كما تقولون ، فيكون هناك مثلا .
(1/2098)

إله للشمس وإله للسماء وإله للأرض وإله للماء وإله للهواء ، حينئذ يكون كل إله من هذه الآلهة عاجزا عن أن يدير ويقوم على أمر آخر غير ما هو إله وقائم عليه ولنشأ بينهم خلاف وشقاق يوضح ذلك قوله تعالى : { لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ]
فإله الشمس قد يفصلها عن الكون ، وإله الماء قد يمنعه عن بقية الكائنات ، ويحسم الحق الأمر فيقول : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ]
ويقول سبحانه : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) .
إذن فالنواميس التي تراها أيضاً محكومة بالإله الواحد ، ويأتي الرسول ليقول لك : هناك إله واحد ، ويبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إله إلا الله ، و " لا إله " نفت أنه لا آلهة أبداً . وبعدها قال : إلا الله ، وهذه من مصلحة الإنسان حتى لا يكون ذليلاً وخاضعاً وعبداً لإله الشمس أو لإله الهواء أو لإله الماء . وقال الحق : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [ الزمر : 29 ]
فربنا يريد أن يريحنا من " الخيْلة " ، والوهم والاضطراب والتردد . . إنه إله واحد ، وعندما يحكم الله حكماً فلا أحد يناقضه ، وسبحانه يهدينا بما يشرعه لنا؛ لأنه سبحانه ليس له هوى فيما يشرع؛ لأن معنى الهوى أن تجعل الحركة التي تريدها خادمة لك في شيء ، والله لا يحتاج إلى أحد لأنه خلق الوجود مله قبل أن يخلق الخلق ، وليس لأحد ممن خلق - مهما أوتي من العلم ورجاجة العقل أن تكون له قدرة أو أي دخل في عملية الخلق أو تنظيمه .
{ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ } ، مادام قد اتبع رضوانه فيهديه إلى سبل السلام ، إذن فإن هناك هدايتين اثنتين : يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، وقال في آية أخرى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ]
فإياك أن تظن أن التقوى لن تنال ثوابها وجزاءها إلا في الآخرة؛ لأنه كلما فعلت أمراً وتلتفت وجدت آثاره في نفسك ، تصلي تجد أمورك خَفَّت عن نفسك ، فلا ترتكب السيئة في غفلة من الناس ، قلبك لا يكون مشغولاً بأي شيء ، ويحيا المؤمن في سلام مع نفسه أبداً . إذن فسبل السلام متعددة : سبل السلام مع الله ، سبل السلام مع الكون كله ، سبل السلام مع مجتمعه ، سبل السلام مع أسرته ، سبل السلام مع نفسه .
ويقول الحق : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ]
إذن فهناك سبل سلام وسبل ضلال .
وفي هذه الآية يقول الحق : { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، والظلمات هي محل الاصطدام ، وعندما يخرجهم من الظلمات إلى النور يرون الطريق الصحيح الموصل إلى الخير ، والطريق الموصل إلى غير الخير . وبعدما يخرجون من الظلمات إلى النور تكون حركاتهم متساندة وليست متعاندة ، ولا يوجد صدام ولا شيء يورثهم بغضاء وشحناء ، أو المراد أنّه يهديهم إلى الصراط المستقيم وهو الجنة .
ويقول الحق من بعد ذلك : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين . . . }
(1/2099)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وقال سبحانه من قبل : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة } [ المائدة : 14 ]
فمن اتبعوا اليعقوبية قالوا شيئاً ، والنصرانية قالت شيئاً ، والملكانية قالت شيئاً ثالثاً؛ فجاء بالقمة : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } .
ويأتي قوله سبحانه : " قل " ، رداً عليهم : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } أي من يمنع قدر الله أن ينزل بمن جعلتموه إلهاً { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } .
لقد زعموا أن الله هو المسيح عيسى ابن مريم وفي هذا اجتراء على مقام الألوهية المنزهة عن التشبيه وعن الحلول في أي شيء . وفي هذا القول الكريم بلاغ لهؤلاء أن أحداً لا يستطيع أن يمنع إهلاك الله لعيسى وأمه وجميع من في الأرض . فهو الحق الملك الخالق للسموات والأرض . وما بينهما يخلق ما يشاء كما يريد . فإن كان قد خلق المسيح دون أب؛ فقد جاءنا البلاغ من قبل بأنه سبحانه خلق آدم بدون أب ولا أم ، وخلق حواء دون أم ، جلت عظمته وقدرته لا يعجزه شيء . إن عيسى عليه السلام من البشر قابل للفناء ككل البشر .
{ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جاء الحق هنا بالسماء كنوع علوي والأرض كنوع سفلي ، وقوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } يرد على الشبهة بإيجاز دقيق : { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ؛ لأن الفتنة جاءت من ناحية أن عيسى عليه السلام مُيّز في طريقة خلقه بشيء لم يكن في عامة الناس؛ فأوضح الحق : لا تظنوا أن الخلق الذي أخلقه يشترط عليّ أن تكون هناك ذكورة وأنوثة ولقاح ، هذا في العرف العام الذي يفترض وجود ذكورة وأنوثة ، وإلا لكان يجب أن تكون الفتنة قبل عيسى في آدم؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم . إذن فالذي يريد أن يفتتن بأنه من أم دون أب ، كان يجب أن يفتتن في آدم لأنه لا أب ولا أم . ويوضح لهم : الله يخلق ما يشاء فلا يتحتم أو يلزم أن يكون من زوجين أو من ذكر فقط أو من أنثى فقط .
إن ربنا سبحانه وتعالى له طلاقة القدرة في أن يخلق ما يشاء ، وقد أراد خلقه على القسمة العقلية المنطقية الأربعة : إما أن يكون من أب وأم مثلنا جميعاً ، وإما أن يكون بعدمهما مثل آدم ، وإما أن يكون بالذكر دون الأنثى كحواء ، وإما أن يكون بالأنثى دون الذكر كعيسى عليه السلام ، فأدار الله الخلق على القواعد المنطقية الأربعة كي لا تفهم أن ربنا يريد مواصفات خاصة كي يخلق بل هو يخلق ما يشاء . والدليل على ذلك أن الزوجين يكونان موجودين مع بعضهما ومع ذلك لا يُنْجَبُ منهما ، فهل هناك اكتمال أكثر من هذا؟! { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } [ الشورى : 49-50 ]
إذن فالمسألة ألا يُفرض على ربنا عناصر تكوين ، لا ، بل هي إرادة مُكَوِّن لا عنصرية مَكَوَّن . إنه { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ، ومشيئته مطلقة وقدرته عامة . ولذلك لا بد أن يأتي القول : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَقَالَتِ اليهود والنصارى . . . }
(1/2100)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
وهل كل اليهود قالوا : نحن أبناء الله؟ هل كل النصارى قالوا : نحن أبناء الله؟ لا . فبعض من اليهود قال : إن عزيراً ابن الله وبعض النصارى قالوا : إن عيسى ابن الله ، وجاء مسيلمة الكذاب وادّعى النبوة ، وكان كل أهل مسيلمة يقولون : نحن الأنبياء ، أي منا الأنبياء حتى أنصار سيدنا عبد الله بن الزبير أبي خبيب ، قال أنصاره : نحن الخبيبيون أي نحن أتباع ابن الزبير الذي هو أبو خبيب ، فكانوا ينسبون لأنفسهم ما لغيرهم . فمعنى { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله } يعني : نحن أشياع العزير ، الذي هو ابن الله؛ ونحن أشياع عيسى الذي هو ابن الله . هذه نأخذ لها دليلاً من القرآن ، نعرف قصة مؤمن آل فرعون : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض } [ غافر : 28-29 ]
والقوم جماعة . بالله أكان القوم كلهم ملوكا؟ . لا ، فالذي كان ملكاً هو فرعون فقط . لكن مادام فرعون هو الملك ، فيكون كل الذين كانوا أتباعا وأنصارا له ومن شيعته ملوكا لأنهم يعيشون في كنف ورعاية الملك . وأيضاً قال اليهود : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } ، ولذلك عندما أرادوا أن يحددوا معنى " ملك " قالوا : إن " الملك " هو الرجل الذي عنده دار واسعة وفيها ماء يجري ، وواحد آخر قال : " الملك " هو الذي يكون عنده حياة رتيبة وعنده من يخدمه ولا ينشغل بخدمة نفسه في بيته ، وفي الخارج يخدم نفسه . وقال آخر : من عنده مال لا يحوجه للعمل الشاق ، فهو ملك ، ولذلك قال سيدنا الشيخ عبد الجليل عيسى في هذه المسألة : لا تستعجبوا ذلك فالأميون ينطقون وبلسانهم يقولون : هذا ملك زمانه ، أي رجل مرتاح لا يعمل أعمالا شاقة وعنده النقود يصرفها كما يريد . إذن فأبناء الله يعني ليس كلهم أبناءه ، ولذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : " قل " رداً عليهم : { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } ، وستدخلون في مشيئة المغفرة .
{ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } ، ولن تخرجوا عن المشيئة الغافرة أو المشيئة المعذبة ، { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير } .
ويقول الحق تصفية للمسألة العقدية في الأرض : { يَا أَهْلَ الكتاب . . . }
(1/2101)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
ورسولنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ويبين لكم - يا أهل الكتاب - ما اختلفتم فيه أولاً وما يجب أن تلتقوا عليه ثانياً ، وما زاده الإسلام من منهج فإنّما جاء به ليناسب أقضية الحياة التي يواجهها إلى أن تقوم الساعة . وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ، ومعنى الفترة : الانقطاع . وفترة من الرسل أي على زمن انقطعت فيه الرسالات ، وهي الفترة التي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أخيه عيسى عليه السلام ، وقام الناس بحسابها فقال بعضهم : إنها ستمائة سنة وقال البعض : خمسمائة وستون سنة عاماً . ولا يهمنا عدد السنين ، إنما الذي يهمنا هو وجود فترة انقطعت فيها الرسل ، اللهم إلا ما كان من قول الحق سبحانه : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [ يس : 13-16 ]
هؤلاء المرسلون أهم مرسلون من قبل الله بين عيسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ . أم هم مرسلون من قبل عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكية؟ . وقد كفر الناس أولاً بهذين الرسولين ، فعززهم الحق بثالث .
وقال الناس لهم : { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } [ يس : 15 ]
وهنا قال الرسل : { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [ يس : 16 ]
فما الفرق بين { إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } وبين { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } ؟ . إن الأَخْبار دائماً تُلقى من المتكلم للسامع لتعطيه خبراً ، فإن كان السامع خالي الذهن من الخبر ، أُلقي إليه الكلام بدون تأكيد . وأما إن كان عنده شبه إنكار ، ألقى إليه الكلام بتأكيد على قدر إنكاره . فإن زاد في لجاج الإنكار يزيد له التأكيد . فأصحاب القرية أرسل الله إليهم اثنين فكذبوهما ، فعززهما بثالث ، وهذا تعزيز رسالي ، فبعد أن كانا رسولين زادهما الله ثالثاً ، وقال الثلاثة : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } [ يس : 14 ]
صحيح ثمة تأكيد هنا . لأن الجملة إسمية ، وسبقتها " إنّ " المؤكذة؛ فلما كذبوهم وقالوا لهم : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ } وكان هذا لجاجاً منهم من الإنكار فماذا يكون موقف الرسل؟ أيقولون : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } كما قيل أولاً؟ . لا . إن الإنكار هنا ممعن في اللجاجة والشدة ، فيأتي الحق بتأكيد أقوى على ألسنة الرسل :
{ رَبُّنَا يَعْلَمُ } .
وذلك القول في حكم القسم؛ هذا هو التأكيد الأول ، والتأكيد الثاني :
{ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } .
وكما نعلم ف " إن " هنا مؤكِدّة ، واللام التي في أول قوله : " لمرسلون " لزيادة التأكيد .
(1/2102)

وحين تأتي كلمة تدور على معانٍ متعددة ، فالمعنى الجامع هو المعنى الأصلي ، وكذلك كلمة " فترة " ، فالفترة هي الانقطاع . فإن قلت مثلاً : ماء فاتر ، أي ماء انقطعت برودته ، فالماء مشروط فيه البرودة حتى يروي العطش . وعندما يقال : ماء فاتر أي ماء فتر عن برودته ، ولذلك يكون قولنا : " ماء فاتر " أي ماء دافئ قليلاً؛ أي ماء انقطعت عنه البرودة المرغبة فيه .
ويقال أيضاً في وصف المرأة : في جفنها فتور أي أنها تغض الطرف ولا تحملق بعينيها باجتراء . بل منخفضة النظرة . إذن فالفترة هي الانقطاع . ولقد انقطعت مدة من الزمن وَخَلَتْ من الوحي ومن الرسل . وكان مقتضى هذا أن يطول عهد الغفلة ، ويطول عهد انطماس المنهج ، ويعيش أهل الخير في ظمأ وشوق لمجيء منهج جديد ، فكان من الواجب - مادام قد جاء رسول - أن يرهف الناس آذانهم لما جاء به ، فيوضح الحق أنه أرسل رسولاً جاء على فترة ، فإن كنتم أهل خير فمن الواجب أن تلتمسوا ما جاء به من منهج ، وأن ترهفوا آذانكم إلى ما يجيء به الرسول صلى الله عليه وسلم لسماع مهمته ورسالته .
وقد أرسل الله إليهم الرسول على فترة حتى يقطع عنهم الحجة والعذر فلا يقولوا : { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } فقد جاءهم - إذن - بشير وجاءهم نذير . والبشير هو المعلم أو المخبر بخير يأتي زمانه بعد الإخبار . ومادام القادم بشيراً فهو يشجع الناس على أن يرغبوا في منهج الله ليأخذوا الخير . ولا بد من وجود فترة زمنية يمارس فيها الناس المنهج ، ولا بد أيضاً أن توجد فترة ليمارس من لم يأخذ المنهج كل ما هو خارج عن المنهج ليأتي لهم الشر .
مثال ذلك قول الأستاذ : بَشِّرْ الذي يذاكر بأنه ينجح . وعند ذلك يذاكر من الطلاب من يرغب في النجاح ، أي لابد من وجود فترة حتى يحقق ما يوصله إلى ما يبشر به . وكذلك النذارة لا بد لها من فترة حتى يتجنب الإنسان ما يأتي بالشر .
{ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } . ومجيء " أن تقولوا " إيضاح بأنه لا توجد فرصة للتعلل بقول " { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } .
ويقول الحق : { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وسبحانه وتعالى القدير أبداً . فقد جعل الخلق يطرأون على كون منظم بحكمة وبكل وسائل الخير والحياة على أحسن نظام قبل أن يطرأ هؤلاء الخلق على هذا الكون ، فإذا ما طرأ الخلق على هذا الخير ، أيتركهم الخالق بدون هداية؟ . لا . فسبحانه قد قدر على أن يُوجد خلقه كلهم ، ويعطي لهم ما يحفظ لهم حياتهم ويحفظ لهم نوعهم .
ألا يعطي الحق الخلق إذن ما يحفظ لهم قيمهم؟ .
إنه قادر على أن يعطي رزق القوت ورزق المبادئ والقيم وأن يوفي خلقه رزقهم في كل عطاء . وإرسال الرسل من جملة عطاءات الحق لعلاج القيم . ثم يرجع ثانية إلى قوم موسى ولكنه في هذه المرة يجعل المتكلم رسولهم : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ . . . }
(1/2103)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
وساعة تسمع " إذ " فاعلم أنها ظرفية تعني " حين " كأن الحق يقول : اذكر حين قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم . ويقول الحق لرسوله ذلك لأن هذا اللون من الذكر يعين الرسول صلى الله عليه وسلم على تحمل ما يتعرض له في أمر الدعوة والرسالة سواء من ملاحدة أو من أهل كتاب .
إن الحق حينما قال : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } أي اذكر يا محمد ، أو أذكر يا من تتبع محمداً ، أو اذكر يا من تقرأ القرآن إذ قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . ولا يقول موسى لقومه : { يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } إلا إذا كان قد رأى منهم عملاً لا يتناسب مع النعم التي أنعم الله يها عليهم ، وذلك - ولله المثل الأعلى - كما يقول الواحد منا لولد عاق : اذكر ما فعله والدك معك . ولا يقولن الواحد منا ذلك إلا وقد بدرت من الابن بوادر لا تتناسب مع مقدمات النعم ومقدمات الفضل عليه . فكأن قوم موسى قد أرهقوه وتحمل منهم الكثير؛ لدرجة أنه قال لهم على سبيل الزجر ما قد يجعلهم يفيقون وينتبهون ويفطنون إلى ذكر نعمة الله عليهم ، ومعنى ذكر النعمة هو الاستماع إلى منهج الله وتنفيذ أوامر الحق واجتناب النواهي .
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وعرفنا أن " النعمة " يقصد بها الجنس والمراد بها النعم كلها ، أو كأن كل نعمة على انفرادها خليقة وجديرة أن تُذكر وتُشكر ، والدليل على أن النعمة يراد بها كل النعم أن الله قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ]
ومادام عدّ النعمة لا نستطيع معه أن نعرف إحصاءها؛ فهي نعم متعددة . إذن فالمراد بالنعمة كل النعم لأنها اسم جنس .
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وذكر النعمة يؤدي إلى شكر المنعم ويؤدي أيضاً إلى الاستحياء من أن نعصي من أنعم ، ويجعلنا نستحي أن نأخذ نعمته لتكون معينا لنا على معصيته . { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وهي نعم كثيرة تمتعوا بها ، ألم يفلق الحقُ لهم البحرَ : { اضرب بِّعَصَاكَ البحر } [ الشعراء : 63 ]
وبعد أن ضرب الماء بالعصا : { فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ]
فقد صار الماء السائل جبالاً . وضرب لهم الحجر؛ بأمر الله فانفجرت منه المياه : { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } [ البقرة : 60 ]
إنها عجائب كثيرة تتجلى فيها قدرة الخالق الأعظم ، وتبين القدرة مجالات تصرفها ، فقد ضرب موسى البحر فصار كل فرق كالطود العظيم ، وكأن الماء صار صخراً . وضرب موسى الصخر فتفجرت المياه . إنها عجائب القدرة . ألم يظللكم بالغمام؟ ألم ينزل عليكم في التيه المن والسلوى؟ وكل هذه النعم ألا تستحق الذكر لله والشكر لله والاستحياء من أن تعصوه أو أن ترهقوا الرسول الذي جاء لهدايتكم؟
إن كل هذه النعم تستحق الشكر ، والشكر ذكر .
(1/2104)

{ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } وكلما أدركتهم غفلة فإن الحق يرسل لهم نبياً كأسوة سلوكية . ولم يغضب عليهم ولم يقل : أرسلت لهم رسولا واثنين وثلاثة وأربعة . ولم يهتدوا ، بل كلما عصوا الله واستعصت داءاتهم أرسل لهم رسولا ، مثلهم في ذلك كمثل المريض الذي لا يضن عليه عائله بطبيب أو بطبيبين أو ثلاثة أو أربعة ، بل كلما لاحظ عائله شيئا فإنه يرسل له طبيباً . وفي ذلك امتنان؛ لأن الله أرسل إليهم كثيراً من الرسل . وكان عليهم أن يعلموا أن داءاتهم قد كثرت وصار مرضهم مستعصيا؛ لأنه لو لم يكن المرض مستعصيا؛ لما كانوا في حاجة إلى هذه الكثرة من الأطباء والأنبياء ، ومع ذلك رحمهم الله وكلما زاد داؤهم أرسل لهم نبيا .
ولم يكتف الحق بأن جعل فيهم أنبياء؛ بل قال : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } وليس معنى ذلك أنهم كلهم صاروا ملوكاً؛ ولكن كان منهم الملوك . " والملك " كلمة أخذت اصطلاحاً سياسياً ، فكل إنسان مالك ما في حوزته؛ مالك لثوبه ، أو مالك اللقمة التي أكلها ، أو مالك البيت الذي ينام فيه ، لكن المَلِك هو الذي يملك وَيمْلِك مَن مَلك .
إذن فكل واحد عنده القدرة أن يملك شيئاً ويملك مَن مَلَك يكون مَلِكاً ، فرجل عنده رُعيان يقومون برعي القطعان من الماشية التي يملكها ، وعنده أناس يخدمون في المنزل وأناس يعملون في المزرعة ، وعنده أكثر من سائق ، وعنده أناس كثيرون يأتمرون بأمره ولا يدخلون عليه إلا بإذنه ولا يتكلف في لقائهم أي حرج أو مشقة ، هذا الرجل لا بد أن يكون ملكاً . إذن فقد أعطاهم الحق نعمة وفيرة .
والنبي صلى الله عليه وسلم يحدد الملكية الواسعة التي تحدد الفرد تحديداً إيمانياً فقال : " من أصبح منكم آمنا في سربه معافىً في جسده ، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " .
ومادام قد حيزت له الدنيا بحذافيرها بهذه الأشياء فهو ملك . وقد أعطاهم هذه المسائل أي جعلهم ملوكاً . { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } أي أنه سبحانه أعطاهم ما لم يعده لأحد مِمَّن حولهم؛ ووالى عليهم ذلك العطاء ، ألم يعط - سبحانه - نبي الله سيدنا سليمان وهو من بني إسرائيل مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟ تلك الواقعة لم يقلها موسى عليه السلام لأنها حدثت من بعد موسى بأحد عشر جيلاً .
ويقول الحق بعد ذلك : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ . . . }
(1/2105)

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
وهذا بلاغ من موسى بما أوحى الله به إليه ، ومتى حدث ذلك؟ نعرف أن صلة بني إسرائيل بمصر كانت منذ أيام يوسف عليه السلام ، وعندما جاء يوسف بأبيه وإخوته وعاشوا بمصر وكونوا شيعة بني إسرائيل ، ومكن الله ليوسف في الأرض وعاشوا في تلك الفترة . والعجيب أن المس القرآني للأحداث التاريخية فيه دقة متناهية ، ولم نعرف نحن تلك الأحداث إلا بعد مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر . فعندما جاءت تلك الحملة صحبت معها بعثة علمية . وكانت تلك البعثة تنقب عن المعلومات الأثرية ليتعرفوا على سر حضارة المصريين ، وسر تقدم العرب القديم ، الذي سبق أوربا بقرون ، وأخذت منه أوربا العلوم والفنون ، في حين صار هذا العالم العربي إلى غفلة .
إن العرب المسلمين هم الذين اخترعوا أشياء ذهل لها العالم الغربي ، ويحكي لنا التاريخ عن هدية من أحد ملوك العرب إلى شارلمان ملك فرنسا وكانت الساعة دقاقة ، وظن الناس من أهل فرنسا أن بهذه الساعة الدقاقة شيطانا . وفكرة تلك الساعة أن العالم الذي صممها وضع فيها إناء من الماء به ثقب صغير تنزل منه القطرة بثقلها على شيء يشبه عقرب الساعة ، فتتحرك الساعة دقيقة واحدة من الزمن . وكانت الساعة تسير بنقطة الماء . وكان ضبطها في منتهى الدقة . وحين رآها الناس في بلاط شارلمان ملك فرنسا ظنوا أن بداخلها شياطين . وهذا نموذج من نماذج كثيرة لا حصر لها ولا عدد تدخل في نطاق قوله الحق : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ]
وحينما جاء الفرنسيون إلى القاهرة كان معهم تلك البعثة العلمية ومعهم مطبعة ، وعرض هؤلاء العلماء الفانوس السحري ، وجعلوا الناس البسطاء يذهلون من تقدمهم العلمي . واستترت تلك الحملة بعروض أقرب إلى " الأكروبات " . وكان عمل العلماء هو البحث عن سر حضارة المصريين والمسلمين؛ لأنهم يعلمون أن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى مصر بالإضافة إلى حضارة المصريين القدماء .
لقد كانوا يعرضون ألعابهم السحرية العلمية بدرب الجماميز ، وذلك حتى ينبهر الناس بالحضارة الفرنسية . وكان علماؤهم في الوقت نفسه يكتشفون ما نقش على حجر رشيد ، وهو الحجر الذي اكتشفه ضابط فرنسي شاب اسمه شامبليون ، وعلى هذا الحجر كتبت الكلمات الهيروغليفية . واستطاع شامبليون أن يفصل أسماء الأعلام الهيروغليفية ومن خلال ذلك استطاع أن يصل إلىأبجدية تلك اللغة . وكأن الله أراد أن يسخر الكافرين بمنهج الله ليؤيدوا منهج الله .
إن في كل لغة شيئا اسمه " منطق الأعلامَ " ومثال ذلك أن يوجد اسم رجل أو أمير أو إنسان ، فهذا الاسم مكون من حروف لا تتغير ، مثال ذلك نأخذه من اللغة الإنجليزية؛ كان اسم رئيس وزراء انجلترا في وقت من الأوقات هو " تشرشل " هي كلمة إذا ترجمناها ترجمة حرفية لم تدل على صاحبها ولم تعرفنا به لأننا عندما نترجمها نكتفي بكتابة الاسم بالحروف العربية بدلاً من اللاتينية .
(1/2106)

إذن فالأعْلاَم لا يتغير نطقها .
وكشف شامبليون عن الحروف التي لم تتغير . واهتدى إلى فك طلاسم حروف اللغة الهيروغليفية؛ فعرف كيف يقرأ المكتوب على حجر رشيد ، واستطاع أن يقدم لنا بدايات اكتشاف تاريخ مصر القديمة . واستطاع أن يقرأ اللغة المرسومة على ذلك الحجر .
ولنا أن نرى عظمة القرآن حينما تعرض للأقدمين . . تعرّض لعادٍ وتعرَّض لثمود وتعرض لفرعون . تعرض لتلك الحضارات كلها في سورة الفجر ، فقال سبحانه وتعالى : { والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر * والليل إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد } [ الفجر : 1-7 ]
وإرم ذات العماد هي التي في الأحقاف - في الجزيرة العربية - ولم نكتشفها بعد ، ولم نعرف عنها حتى الآن شيئاً ، وهي التي يقول عنها الحق : { التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 8 ]
ثم يتكلم بعدها عن فرعون : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 10 ]
والأهرام أقيمت بالفعل على أوتاد ، وكذلك المسلات المصرية القديمة والمعابد . وغيرها من العجائب التي بهرت الناس في مختلف العصور . { التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 8 ]
ثم جاء بحضارة ثمود . { وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد } [ الفجر : 9 ]
وقد رأينا هذه الحضارة التي كان الناس أثناءها ينحتون البيوت في الصخر ، كما رأينا حضارة مصر . وحضارة عاد هي التي لم نرها حتى الآن؛ ولا بد أن تكون مطمورة تحت الأرض . ونعرف أن الهبة الرملية الواحدة عندما تهب في تلك المناطق تطمر القافلة كلها ، فما بالنا بالقرون الطويلة التي مرت وهبت فيها آلاف العواصف الرملية ، إذن لا بد أن ننقب كثيراً لنكتشف حضارة عاد . والحق تكلم عن موسى عليه السلام ، تكلم _ أيضاً - عن المعاصرين له وكان أحد هؤلاء الفراعنة ، فقال سبحانه لموسى ولأخيه هارون عليهما السلام : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } [ طه : 43 ]
ويذهب موسى إلى فرعون حتى يخلص بني إسرائيل من ظلم فرعون . ولماذا ظلمهم فرعون؟ نحن نعرف أن كل سياسة تعقب سياسة سابقة عليها تحاول أن تطمس السياسة الأولى ، وتعذب من نصروا السياسة الأولى ، وتلك قضية واضحة في الكون . وهذا ما يتضح لنا من سيرة سيدنا يوسف الذي صار وزيراً للعزيز ودعا أباه وأمه وشيعته إلى مصر ، ولن تأت سيرة فرعون في سورة يوسف .
وعندما تكلم القرآن على رأس الدولة في أيام يوسف قال : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ } [ يوسف : 54 ]
لم يقل الحق : " فرعون " على الرغم من أنه قال قبل ذلك عنه إنه : " فرعون " وأيام موسى ذكر فرعون ، لكن في أيام يوسف لم يأت بسيرة فرعون إنما جاء بسيرة مَلِك .
(1/2107)

وعندما جاء اكتشاف حجر رشيد ، ظهر لنا أن فترة وجود يوسف عليه السلام في مصر هي فترة ملوك الرعاة أي الهكسوس الذين غَزَوْا مصر وأخذوا الْمُلْكَ من المصريين وحكموهم وصاروا ملوكاً ، وسمي عصرهم بعصر الملوك .
وقال القرآن : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ } . ولم يأت بذكر لفرعون . وعندما استرد الفراعنة ملكهم وطردوا الرعاة ، استبد الفراعنة بمن كانوا يخدمون الملوك وهم بنو إسرائيل . وهكذا تتأكد دقة القرآن عندما ذكر فرعون لأنه كان الحاكم أيام موسى ، لكن في زمن يوسف سمي حاكم مصر باسم الملك . وتلك أمور لم نعرفها إلا حديثاً . ولكن القرآن عرفنا ذلك . وكانت تحتاج إلى استنباط . وهي تدخل ضمن الآيات التي لا حصر لها في قوله الحق : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ]
فسبحانه وتعالى بعد أن أيد موسى بالآيات وأغرق فرعون ، هنا قال لهم موسى : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ]
فقد انتهت المهمة بتخليص بني إسرائيل من فرعون ، وخلصوا أهل مصر من فرعون . وكانت الدعوة لدخول الأرض المقدسة . وكلمة الأرض إذا أطلقت صارت علماً على الكرة الجامعة . ووردت كلمة " الأرض " في قصة بني إسرائيل في مواضع متعددة لمواقع متعددة .
فها هوذا قول الله في آخر سورة الإسراء : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض } [ الإسراء : 104 ]
فهل هناك سكن إلا الأرض؟ إن أحداً لا يقول : اسكن كذا إلا إذا حدد مكاناً من الأرض؛ لأن السكن بالقطع سيكون في الأرض ، فكيف يأتي القول : { اسكنوا الأرض } ؟ والشائع أن يقال : اسكن المكان الفلاني من المدن ، مثل : المنصورة أو أريحا ، أو القدس . وقوله الحق : { اسكنوا الأرض } هو لفتة قرآنية ، ومادام الحق لم يحدد من الأرض مسكوناً خاصاً ، فكأنه قال : ذوبوا في الأرض فليس لكم وطن ، وانساحوا في الأرض فليس لكم وطن ، أي لا توطن لكم أبداً ، وستسيحون في الأرض مقطعين ، وقال سبحانه : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً } [ الأعراف : 168 ]
وحين يأتي القرآن بقضية قرآنية فلنبحث أايدتها القضايا الكونية أم عارضتها؟ القضية القرآنية هنا هي تقطيع بني إسرائيل في الأرض أمما ، أي تفريقهم وتشتيتهم ولم يقل القرآن : " أذبناهم " بل قال : " قطعناهم " وتفيد أنه جعل بينهم أوصالاً ولكنهم مفرقون في البلاد . وعندما نراهم في أي بلد نزلوا فيها نجد أن لهم حيا مخصوصا ، ولا يذوبون في المواطنين أبداً ، ويكون لهم كل ما يخصهم من حاجات يستلقون بها ، فكأنهم شائعون في الأرض وهم مقطعون في الأرض ولكنهم أمم ، فهناك " حارات " وأماكن خاصة لليهود في كل بلد .
حدث ذلك من بعد موسى عليه السلام ، لكن ماذا كان الأمر في أيام موسى؟ قال لهم الحق : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي بعد رحلتكم مع فرعون اذهبوا إلى الأرض التي كتبها الله لكم .
(1/2108)

ونلحظ هنا أن كلمة " الأرض المقدسة " فيها تحييز وتحديد للأرض .
ولكن ما معنى " مقدسة "؟ المادة كلها تدل على الطهر والتطهير . ف " قَدَّس " أي طهّر ونزّه ، ومقدسة يعني مطهرة . والألفاظ حين تأتي تتوارد جميع المادة على معانٍ متلاقية . ففي الريف المصري نجد ما نسميه " القَدَس " أو " القادوس " وهو الإناء الذي يرفع به الماء من الساقية ، وكانوا يستعملونه للتطهير ، فالقادوس في الريف المصري هو وعاء الماء النظيف . وعندما يقال : " مقدسة " أي مطهرة .
إن من أسماء الحق " القُدُّوس " ، ويقال : " قُدِّس الله " أي نزه " ، فالله ذات وليست كذات الإنسان ، وله سبحانه صفات منزهة أن تكون كصفاتك ، وهو سبحانه له أفعال ، ولكن قدسه وطهره منزهة أن تكون كأفعالك . فذات الحق واجبة الوجود وذات الإنسان ممكنة الوجود؛ لأن ذات الإنسان طرأ عليها عدم أول ، ويطرأ عليها عدم ثانٍ ، وهو سبحانه واجب الوجود لذاته ، والإنسان واجب لغيره وهو قادر سبحانه أن ينهي وجود العبد . ولله حياة وللإنسان حياة ، لكن أحياتك أيها الإنسان كحياة الله؟ لا .
إن حياته سبحانه منزهة وذاته ليست كذاتك ، وصفاته ليست كصفاتك ، فأنت قادر قدرة محدودة وله سبحانه طلاقة القدرة ، وهو سبحانه سميع والعبد سميع؛ لكن سمع البشر محدود وسمعه سبحانه لا حدود له .
إذن فصفاته مقدسة ، ولذلك فعندما تسمع أنه سبحانه سميع عليم فليس سمعه كسمعنا ، وله فعل غير فعلنا . وعندما يقول الحق : إنه فعل ، ففعله منزه عن التشبيه بفعل البشر؛ لأن البشر من خلق الله ، وفعل البشر معالجة ، ويكون للفعل بداية ووسط ونهاية ويفرغ من الأحداث على قدر الزمن . ونحن نحمل الأشياء في أزمان متعددة ويحتاج من يحمل الأشياء إلى قوة . ولكن فعل الحق مختلف ، إنه فعل ب " كن " لذلك قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ]
أي أنه سبحانه وتعالى منزه عن التعب ، فهو يقول : { كُنْ فَيَكُونُ } ولذلك قلنا في مسألة الإسراء : إننا يجب أن ننسب الحدث إلى الله لا إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى نعرف أن الذين عارضوا رسول الله في مسألة الإسراء كانوا على خطأ فقد قالوا : أنضرب لها أكباد الإبل شهراً وتدعي أنك أتيتها في ليلة؟!
إن رسول الله لم يدع لنفسه هذا الأمر ، لأنه لم يقل : سريت من مكة إلى بيت المقدس " حتى تقولوا : أنضرب لها أكباد الإبل شهراً وتدعي أنك أتيتها في ليلة " .
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : أُسْرِيَ بي . أي أنه صلى الله عليه وسلم ليس له فعل في الحدث .
(1/2109)

والفعل إذن لله . ومادام هو من فعل الله فهو لا يحتاج إلى زمن؛ لذلك كان يجب أن يفهموا على أي شيء يعترضون . ولكنا نعرف أن الله سبحانه وتعالى أراد لهم أن يفهموا على تلك الطريقة؛ لأنه سيأتي أناس من المتحذلقين المعاصرين ويقولون : " إن الإسراء كان بالروح " نقول لهم : بالله لو قال محمد للعرب : أنا سريت بروحي أكانوا يكذبونه؟ تماما مثلما يقول لنا قائل : " أنا كنت في نيويورك الليلة ورأيتها في المنام " فهل سيكذبه أحد؟ لا . إذن لقد كذب العرب لأنهم فهموا أنه أُسْرِيَ به بمعنى كامل . . أي كان الإسراء بالجسد والروح معا ، بدليل أنهم قارنوا فعلاً بفعل ، وحدثاً بحدث ، ونقلة بنقلة ، وقالوا قولهم السابق . لقد جاءت هذه المسألة لتخدم الإسلام .
إذن ف " قدوس " يعني مطهر ومنزه . وساعة ترى شيئاً مخالفاً لقضية العقل اقرنه بفعل الله ، ولا تقرنه بفعلك أنت أيها العبد؛ لأن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل طرداً أو عكسا . فإن كان الفاعل صاحب قدرة قوية . فزمنه أقل . مثال ذلك : نقل أردب من القمح من مكان إلى مكان ، فإن كان الذي يحمل الأردب طفلاً فلن ينقل الأردب إلا قدحا بقدح؛ وإن كان رجلا ناضجا سينقل الأردب " كيلة بكيلة " . وإن كان صاحب قوة كبيرة قد ينقل الأردب كله مرة واحدة . إذن فالزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا . فإن كثرت القوة قل الزمن . وهات أي فعل بقدرة الله فلن يستغرق أي زمن .
إذن قدس الله في كل شيء . والأرض المقدسة هي المطهرة ، وذلك بإرادة الحق سبحانه ، تماما كما أراد سبحانه أن تكون بقعة من الأرض هي الحرم ، لا يتم فيها الاعتداء على صيد أو نبات أو اعتداء بعضكم على بعض ، وهل ذلك كلام كوني أو كلام تشريعي؟ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ]
لو كانت المسألة إرادة كونية ، فكان لا بد ألا يحدث خلل أبداً وألا يعتدي أحد على أحد . وما الفرق بين الكوني والتشريعي؟ إن الكوني يقع لأنه لا معارض في الأمور القهرية ، فالحق يريد أن يكون عبداً طويل القامة ، فتلك إرادة كونية تحدث ولا دخل للعبد بها . ولكن إن أراد الحق أن تكون طائعا مصليا ، فتلك إرادة تشريعية . والإرادة تكون تشريعية فيما إذا كان للمريد اختيار ، يصح أن يفعلها ويصح ألا يفعلها؛ لكن الإرادة الكونية هي فيما لا إرادة للإنسان فيه وواقع على رغم أنف الإنسان .
والله سبحانه وتعالى يريد الحرم آمنا . وتلك إرادة تشريعية لأنه حدث أن أهيج فيه أناس ولم يأمنوا . ولو كانت إرادة كونية لما حدثت أبداً . لذلك فهي إرادة تشريعية ، فإن أطعنا ربنا جعلنا الحرم آمنا ، وإن لم نطعه فالذي لا يطيع يهيج فيه الناس ويفزعهم ويخيفهم .
(1/2110)

فمراد الله عز ومطلوبه شرعا " أن يكون الحرم آمنا " .
{ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فهل هذه الأرض المقدسة كتبها الله لهم كتابة كونية أو كتابة تشريعية؟ إن كانت كتابة كونية لكان من اللازم أن يدخلوها ولكنه قال : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 26 ]
إذن هي إرادة تشريعية وليست إرادة كونية . فإن أطاعوا أمر الله وتشجعوا ودخلوا الأرض المقدسة فإنهم يأخذونها ، وإن لم يطيعوه فهي محرمة عليهم . إذن فلا تناقض بين أن يقول سبحانه : إنه كتبها لهم ، ثم قوله من بعد ذلك : إنها محرمة عليهم ، لقد كتبها سبحانه كتابة تشريعية . فإن دخلوها بشجاعة ولم يخافوا ممن فيها واستبسلوا ووثقوا أن وراءهم إلهاً قوياً سيساندهم؛ فإنهم سيدخلونها ، أما إن لم يفعلوا ذلك فهي محرمة عليهم . { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ]
وجاءت الأرض هنا أكثر من مرة : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض } [ الإسراء : 104 ]
وعرفنا مراد ذلك القول . ولادقة هنا أنه سبحانه جاء بأمر السكن في الأرض لبني إسرائيل أي في الأرض عموما ومحكوم عليهم أن يكونوا قطعا ومشردين . { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ]
أي أنه سبحانه يجمعهم من كل بلد ويجيء بعد ذلك وعد الآخرة الذي جاء في أول سورة الإسراء : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 4 ]
لأن الحق حينما قال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ]
أي أنه سبحانه وتعالى يدخل بهذه الآية المسجد الأقصى في مقدسات الإسلام . وأوضح الحق لهم : يا أيها اليهود أنتم ستعيشون في مكان بعهد من رسولي ، ولكنكم ستفسدون في المكان الذي تعيشون فيه وسيتحملكم القوم مرة أو اثنيتن وبعد ذلك يسلط الله عباداً له يجوسون خلال دياركم ويشردونكم من هذه البلاد .
والحق يبلغنا : نحن أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم ما سيحدث لهم مع الإسلام : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 4-5 ]
وبعض الناس يقولون : إن هذا كان أيام بختنصر؛ ونقول لهم : افهموا قول الحق : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } وكلمة " وعد " لا تأتي لشيء يسبق الكلام بل الشيء يأتي من بعد ذلك . إذن فلم يكن ذلك في زمان بختنصر . ف " إذا " الموجودة أولاً هي ظرف لما يُستقبل من الزمان ، أي بعد أن جاء هذا الكلام . ثم هل كان بختنصر يدخل ضمن عباد الله؟ . إن قوله الحق : { عِبَاداً لَّنَآ } مقصود به الجنود الإيمانيون ، وبختنصر هذا كان فارسيا مجوسيا .
وهذا القول الحكيم يشير إلى الفساد الأول مع رسول الله بعد العهد الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أجلاهم .
(1/2111)

وهل هي تقتصر على هذه؟ يقول سبحانه : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 5 ]
ولنا أن نسأل : وهل لم يفسد بنو إسرائيل في الأرض إلا مرتين؟ . لا ، لولا أنهم لم يفسدوا في الأرض سوى مرتين ، لكان ذلك بالقياس إلى مافعلوه أمراً طيباً؛ فقد أفسدوا أكثر من ذلك بكثير . ولابد أن يكون إفسادهم في الأرض المقصودة هو الفساد الذي صنعوه بالأرض التي كانت في حضانة الإسلام ، وسبحانه قد قال : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } فمادام يوجد " عباد الله خالصوا الإيمان وأعدوا العدة فلا بد أن يتحقق وعد الله ، لكن إذا ما تخلى الناس عن هذا الوصف؛ فعلى الناس الذين يعانون من إفساد بني إسرائيل أن يتلقوا ما قاله الله : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } [ الإسراء : 6 ]
فكأن الكّرَّة لا ترد إلا إذا كان القوم المؤمنون على غير مطلوب الإيمان . فإذا ما تساءل بعض المؤمنين : ولماذا تجعل يا الله الكّرَّة لبني إسرائيل؟ . تكون الإجابة : لأنكم أيها الناس قد تخلفتم عن مطلوب العبودية الخالصة لله . ومادمنا قد تخلفنا عن مفهوم " عباد الله " فلا بد أن تحدث لنا تلك السلسلة الطويلة التي نعرفها من عدوان بني إسرائيل . ونحن الآن في مواجهة اليهود في مرحلة قوله الحق : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } [ الإسراء : 6 ]
فإذا كنا عباداً لله فلن يتمكنوا منا . والله سبحانه وتعالى حينما يتكلم بقضية قرآنية فلا بد أن تأتي القضية الكونية مصدقة لها .
ولو استمر الأمر دون كرّة من اليهود علينا ، بينما نحن قد ابتعدنا عن منهجنا وأصبح كل يتبع هواه ، لكانت القضية القرآنية غير ثابتة . ولكن لا بد من أن تأتي أحداث الكون مطابقة للقضية القرآنية . ولذلك رأينا أن بعض العارفين الذين نعتقد قربهم من الله حينما جاء أحدهم خبر دخول اليهود بيت المقدس سجد لله .
فقلنا : " أتسجد لله على دخول اليهود بيت المقدس " . فقال : نعم . صدق ربنا لأنه قد قال : { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هكذا قال الحق ، وهل يكون دخول لثاني مرة إلا إذا كان هناك خروج من أول مرة؟ . لقد حمد ذلك العارف بالله ربنا لأن قضايا القرآن تتأكد بالكونيات ، فإذا ما قال الحق : { رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة } [ الإسراء : 6 ]
فليست المسألة أنهم لكونهم يهوداً لا يعطيهم الله الكّرَّةَ . ولكن القضية هي أننا عندما نكون عباداً لله حقيقة . . اعتقادا وسلوكا . . قولا وعملا ننتصر عليهم . { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 6 ]
وهم أغنياء لأنهم يديرون معظم حركة المال في العالم المعاصر .
(1/2112)

ولأنهم جميعاً في الجيش المدافع عن دولتهم . وذلك معنى بنين وأكثر نفيرا . النفير هو ما يستنفره الإنسان لنجدته؛ لأن قوة ذاته قاصرة عن الفعل . واليهود ليسوا قوة ذاتية بمفرد دولتهم ، ولكن وراءهم أهم قوى في العالم المعاصر .
إذن فقوله الحق : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ } [ الإسراء : 6 ]
قول صدق وحق .
وقوله الحق : { وَبَنِينَ } [ الإسراء : 6 ]
قول صدق وحق .
وقوله الحق : { وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 6 ]
قول صدق وحق .
ثم بعد ذلك يحسم الله قضيته ويقول لليهود : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ]
وهل تستمر الكرَّة يا رب؟ .
لا . فها هوذا الحق سبحانه يقول : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإسراء : 7 ]
كأن الحق يعطينا البشارة بأننا سننتصر؛ ويكون الانتصار مرهونا بتنفيذ القاعدة التي شرعها الله بأن نكون عباداً لله حقا ، عندئذ سَيَكِلُ الله لنا تنفيذ وعده لليهود : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإسراء : 7 ]
وأشرف ما في الإنسان هو الوجه ، وعندما نكون عباداً لله سنسوء وجوههم ، وفوق ذلك : { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ]
ولم يأت الحق بذكر المسجد من قبل ، فها هوذا قوله الكريم : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 4-5 ]
إذن فالحق هنا لم يأت بذكر المسجد في أول مرة . فكيف يكون دخولنا المسجد إذن؟ . لقد دخلنا المسجد الأقصى أول مرة في الامتداد الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه . والمسجد الأقصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن في نطاق بني إسرائيل ، ولكن كان في نطاق الدولة الرومانية ، فدخولنا المسجد أول مرة لم يكن نكاية فيهم . ولكن الحق جاء بالمرة الثانية هنا والمسجد في نطاق سيطرة بني إسرائيل . { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الإسراء : 7 ]
سنكون نحن إذن عباداً لَلَّهِ ذوي البأس الشديد الذين سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة ، وجاء الحق سبحانه بالمسجد هنا؛ لأن دخول المسجد أول مرة لم يكن إذلالاً لليهود ، فقد كانت السلطة السياسية في ذلك الزمن تتبع - كما قلنا - الدولة الرومانية .
ويضيف الحق من بعد ذلك : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ]
وحتى نتبر ما يُعْلُونه - أي نجعله خرابا - لابد أن تمر مدة ليعلوا في البينان .
وعلينا أن نعد أنفسنا لتكون عباداً لله لنعيش وعد الآخرة وقد جعلها الله وعدا تشريعياً ، فإذا عدنا عباداً لله فسندخل المسجد ونتبر ما علوا تتبيرا ، والحق سبحانه وتعالى في آيات سورة المائدة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بلقطة عن بلاغه لسيدنا موسى بعد خروجه مع قومه من مصر ، فقال : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ]
وقلنا إن الكتابة هنا تشريعية وليست كونية ، فلو كان الأمر كونياً لدخلوا الأرض المقدسة بدون عقبات وبدون صراع وبدون قتال .
(1/2113)

والدليل على أن الكتابة تشريعية هو قوله الحق : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أي أنكم إن ارتددتم على أدباركم انقلبتم خاسرين . فإن أطعتم الله ودخلتم الأرض دون إدبار ، فستدخلون الأرض ، وإن لم تفعلوا فلن تدخلوها . إذن ليست كتابة الأرض هنا كونية ، ولكنها تشريعية .
وقوله الحق : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } يشرح لنا طبيعة مواجهة الخصم؛ فالإنسان حين يواجه خصمه فهو يواجهه بوجهه . فإن فرّ الخصم من أمامه فهو يولي أدباره . والتولي على الأدبار يكون على لونين : لون هو الإدبار من أجل أن ينحرف الإنسان إلى جماعة وفئة لتشتد قوتهم ويقووا على هزيمة العدو أو يصنع مكيدة؛ ليعيد مواجهة الخصم ، ولون آخر وهو الفرار وذلك مذموم ، ومن المعاصي الموبقات المهلكات . وفي ذلك يقول الحق سبحانه : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ الأنفال : 16 ]
فالارتداد على الأدبار ليس مذموماً إن كان من أجل حيلة أو صنع كمين للعدو . وفي هذه الحالة لا بأس أن يرتد الإنسان ، أما خلاف ذلك فهو مذموم . وهل الارتداد على الأدبار رجوع بالظهر إلى الوراء مع الاحتفاظ بالوجه في مواجهة الخصم؟ . أو هو التفات بالوجه ناحية الدبر وفرار من العدو؟ . كلا الأمرين يصح . وقد جاء الأمر إلى بني إسرائيلَ بعدم الفِرار ليدخلوا الأرض فماذا كان موقفهم مادامت الكتابة لهذا الأمر تشريعية؟ .
(1/2114)

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
كيف إذن يعلنون هذا التمرد على امر الحق؟ . وكيف علموا أن فيها قوماً جبارين؟ . ولنا أن ننتبه إلى أن الحق قد قال من قبل : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } [ المائدة : 12 ]
فقد ذهب النقباء أولاً وتجسسوا ونقبوا وعرفوا قصة هذه الأرض المقدسة ، وأن فيها جماعة من العمالقة الكنعانيين . وساعة رأوا هؤلاء القوم ، قالوا لأنفسهم : هل سنستطيع أن نقاوم هؤلاء الناس؟ إن ذلك أمر لا يصدق؛ لذلك لن ندخلها ما داموا فيها . إذن فقد تخاذلوا وارتدوا على أدبارهم . { قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } .
وساعة أن تسمع كلمة " جَبَّار " تجدها أمراً معنوياً أُخذ من المحسات؛ فالجبارة هي النخلة التي لا تطولها يد الإنسان إذا أراد أن يجني ثمارها . وعندما تكون ثمار النخلة في متناول يد الإنسان حين يجني ثمارها فهي دانية القطوف ، أما التي لا تطولها يد الإنسان لحظة الجني للثمار فهي جَبَّارة؛ لذلك أخذ هذا المعنى ليعبر عن الذي لا يقهر فسمي جباراً ، وقد يكون الجبار مُكرِهاً ولكن على الإصلاح ، وفي بلادنا نطلق على من يصلح كسور العظام " المجبراتي " .
أي أنه يجبر العظام على أن تعود إلى مكانها الطبيعي . وقد يتألم الإنسان من ذلك ، ولكن في هذا إصلاح لحياة الإنسان . و " الجَبَّار " اسم من أسماء الله؛ لأنه سبحانه يَقْهَر ولا يُقهَر . وقد يُكرهنا سبحانه وتعالى حتى يصلحنا . ويخنبرنا بالابتلاءات حتى يمحصنا وتستوي حياتنا .
إذن ف " الجبار " صفة كمال في الحق لأنه يستعمل جبروته في الخير ويقهر الظالمين والمعاندين والمكابرين ، وذلك لمصلحة الأخيار الطيبين . وهو سبحانه وتعالى لا يُقهَر . فعندما يكون في صف جماعة فإن أحداً لا يغلبهم ، أما الجبار كصفة في الخلق فعي مذمومة؛ لأن التجبر هنا بدون أصالة كالبناء الأجوف . فالمتجبر قد يصيبه قليل من الصداع فيرقد متوجعاً .
إننا نرى أمثلة لذلك في حياتنا ، نجد المتجبر يصاب بأزمة قلبية فيحمل على نقالة إلى المستشفى ، ونجد جباراً آخر يصاب بقليل من المغص ، فيجري وهو ممسك ببطنه فيضحك عليه الأطفال . ويقولون له ما معناه : العب بعيداً فلست جباراً ولا فتوة ولا أي شيء . والجبار إن أراد أن يكون كذلك فعليه أن يكون صاحب رصيد مستمر ، فلا تراه يوماً غير جبار . ولا يكون التجبر صفة ذاتية إلا لله سبحانه وتعالى .
ويقول الحق : { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا } وساعة نسمع " لن " تسبق الفعل فلنعرف أنها للنفي . والنفي قد يأخذ زمناً طويلاً ، وقد يأخذ زمناً تأبيدياً . والفرق بين الدخول فقط والدخول التأبيدي ، أن الدخول الأول له زمن ينهيه ، والدخول الثاني لا زمن له لينهيه كدخول المؤمنين الجنة .
وإذا عين الدخول بغاية كقولهم : { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا } أي أن النفي التأبيدي مرتبط بغاية وهي خروج القوم الجبارين . والتأبيد هنا إضافي لأنهم قالوا : إنهم لن يدخلوا الأرض في مدة وجود الجبارين .
{ فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } ونقول : وهل الأمم التي تخطو إلى الشر وتمارسه يمتنع فيها وجود عناصر الخير؟ . لا؛ لأن الحق يبقي بعضاً من عناصر الخير حتى لا ينطمس الخير ، وهذا ما يوضحه الحق في بني إسرائيل عندما قالوا لموسى هذا القول ، فقد خالفهم رجلان منهم : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين . . . }
(1/2115)

قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
وهما رجلان يخالفان النكوص عن أمر الله ، بينما بنو إسرائيل - كمجموع - لم يفهموا عن الله حق الفهم؛ لأنهم لو نفذوا أمر الله لهم بالدخول إلى الأرض المقدسة ولم ينكصوا لمكنهم الله من ذلك . لكن لم يفهم عن الله فيها إلا رجلان . وهما كالب ، ويوشع بن نون ، أحدهما من سبط يهوذا والآخر من سبط افرايم ، وهما ابنا يوسف عليه السلام ، فقد قالا : مادام الله قد كتب لكم الدخول ، فهو لا يطلب منا إلا قليلاً من الجهاد .
فحين يأمر الله الإنسان بعمل من الأعمال ، فيكفيه أن يتوجه إلى العمل اتجاهاً والمعونة من الله . وسبحانه يقول للعبد : " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني . فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأٍ ، ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " .
فإذا كان الشأن في المشي أن يتعب الذاهب والسائر ، فالله لا يرد أن يرهق بالمشي من يقصده ويطلبه؛ لذلك يُهرول فضله ورحمته - سبحانه - إلى العبد . فالرغبة الأولى أن يكون العمل لك أنت أيها العبد . ومن عظائم فضل الله أنه فعل ونسب إليك . وسبحانه يسعد بالعبد الساعي إليه . وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - لنفترض أنك أردت أن تمسك سيفاً ، لماذا لا تحلل المسألة؟ . السيف الذي تمسكه ، صنعته من الحديد ، والحديد استخرجته من الأرض .
والحق قال : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ]
إن الحق هو الذي أنزل الحديد ، وهو الذي علمنا كيف نصقل الحديد ونشكله بالنار : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } [ الأنبياء : 80 ]
وأنا أريد من علماء وظائف الأعضاء أن يحددوا لنا ساعة أن يمسك الإنسان بشيء وليكن السيف . فبأي عضلة يمسك الإنسان السيف؟ . وكيف يأمرها الإنسان بذلك؟ . وكم عضلة وكم خلية عصبية تحركت من أجل أداء هذا الفعل؟ . على الرغم من أن الإنسان بمجرد إرادته أن يمسك شيئاً . فهو يمسك به . والإنسان إذا ما مشى خطوة واحدة ، فبأي العضلات بدأ المشي .
إن الإنسان عندما يحرك ذراعاً آلياً في جهاز آلي؛ يصمم عشرات الوصلات والأدوات والدورات الكهربية من أجل تحريك ذراع آلي ، فكم إذن من عضلات في الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة؟ إن الكثير جداً من أجهزة الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة . إن الكثير جداً من أجهزة الإنسان تتحرك لمجرد الإرادة منه!! . فإذا كانت إرادة الإنسان تفعل لمجرد أن يريد سواء أكانت هذه الإرادة هي الإمساك بالسيف أم حتى المشي لخطوة واحدة ، أم حتى الإمساك بالقلم بين الأصابع للكتابة .
(1/2116)

فليعلم الإنسان أن الإرادة عطاء من الله والإنسان لا يستطيع تحديد مواقع إرادته من جسده فما بالنا بالحق حين يريد أمراً؟
ولنعد إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ]
لقد أنعم الله على هذين الرجلين بحسن الفهم عن الله ، فقالا لبني إسرائيل : ساعدوا أنفسكم بدخول هذه الأرض وسينصركم الله . ومثل الرجلين كمثل الأم التي طلب منها ابنها أن تدعو له بالنجاح ، فقالت الأم لابنها : سأدعو لك ولكن عليك فقط أن تساعد الدعاء بالإقبال على الاستذكار . وكأن الخوف من مخالفة أمر الله نعمة على هذين الرجلين ، وكأن الفهم عن الله لعباراته نعمة .
{ ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } كأنهم بمجرد الدخول سيغلبون هؤلاء العمالقة . فلم يطلب منهم قتال هؤلاء العمالقة . بل ساعة يراهم القوم الجبارون يدخلون عليهم فجأة فسوف يذهلهم الرعب .
وهم عندما نسجوا الأساطير حول هذه القصة قالوا : إن أحد هؤلاء العمالقة واسمه عوج بن عناق خرج إلى بستان خارج المدينة ليقطف بعض الثمار لرئيسه؛ فخطف اثنين من هؤلاء الناس وخبأهما في كمّه ، وألقاهما أمام رئيسه وهو يقدم الفاكهة إليه وقال الرجل العملاق لرئيسه : هذان من الجماعة التي تريد أن تدخل مدينتنا . هذه هي المبالغة التي صنعها خوفهم من هؤلاء العمالقة ، برغم أن رجلين منهما أحسنا الفهم عن اللَّه بقولهما : { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب } ؛ لأن هذا هو مراد الله ، وهو الذي يحقق لهم النصر .
وبعض المفسرين قالوا في شرح هذه الآية : إن الرجلين اللذين قالا ذلك ليسا من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء المفسرين فهموا القول الحكيم : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ } قالوا هما رجلان من الذين يخاف منهم بنو إسرائيل ، وقالا لبني إسرائيل : لا يُخيفكم ولا يُرهبكم عظم أجسام هؤلاء فإن جنود الله ستنصركم : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ]
ويختتم الحق الآية بهذا التذييل : { وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي لا تتوقفوا عند حساب العدد في مواجهة العدد ، والعُدة في مواجهة العُدة ، ولكن احسبوا الأمر إيمانياً لأن اللَّه معكم { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } .
وهو سبحانه القائل : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ]
وعلى المؤمن باللَّه أن يضع هذا الإيمان في كف قوته . فإن كان هؤلاء الناس من بني إسرائيل المأمورين بدخول تلك الأرض مؤمنين بحق فليتوكلوا على اللَّه .
فماذا قال هؤلاء القوم : { قَالُواْ ياموسى . . . }
(1/2117)

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
كأن خلاصة قولهم لموسى عليه السلام : لا ترهق نفسك معنا ووفّر عليك جهدك فنحن لن ندخل هذه الأرض ، مادام هؤلاء العمالقة فيها . وإن كانت مصرّاً على دخولنا هذه الأرض فاذهب أنت وربك فقاتلا ونحن بانتظاركما هنا قاعدون . هكذا بلغ بهم الخوف أن سخروا من موسى وربّ موسى . وهكذا وصل بهم الاستهزاء إلى تلك الدرجة المُزرية . ولم يكن ذلك بالأمر الجديد عليهم فقد قالوا من قبل : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ]
ومن قبل ذلك أيضاً عبدوا العجل . فماذا يقول موسى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا . . . }
(1/2118)

قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
وكان هارون أخاً لموسى عليه السلام ومُرسلاً مثله؛ فكأن موسى عليه السلام قد أعلن عدم ثقته في هؤلاء القوم الذين أرسله اللَّه إليهم؛ حتى ولا يوشع بن نون ولا كالب ، وهما الرجلان اللذان قالا لبني إسرائيل : إنه يكفي دخول الباب لتهزموا هؤلاء الناس العمالقة . لكن أكانت نفس أخيه مملوكة له؟ أم أنه قال ما فحواه : إني لا أملك إلا نفسي وكذلك أخي لا يملك إلا نفسه ، أما بقية القوم فقد سمعت منهم يارب أنهم لم يدخلوا هذه الأرض مادام بها هؤلاء العمالقة . إذن فأنا وأخي في طرف وبقية القوم في طرف آخر؛ لذلك افصل بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين .
والحق سبحانه وتعالى في هذا التعبير القرآني يأتي بهذه الكلمات على لسان سيدنا موسى والتي تحتمل أن يرقّ لها قلب واحد من أتباع موسى عليه السلام فيقول لموسى : إنني معك . ولذلك جاء قول موسى : { فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } . ومعنى الفاسقين - كما عرفنا - هم من خرجوا عن الإيمان ، كما تفسق الرطبة؛ فالبلحة عندما ترطّب فإن قشرتها تتسع عن حجمها؛ فتخرج الرطبة من قشرتها؛ ويقال فسقت الرطبة؛ فكأن الإيمان كالجلد والجلد كالقشرة . وهو كغلاف يحيط بالإنسان . وعندما يفسق الإنسان عن الإيمان فهو يخرج عن قانون الصيانة ، وكذلك كان فسق بني إسرائيل؛ لذلك قال الحق : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ . . . }
(1/2119)

قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
فهل كان التحريم مدته أربعون عاما؟ أو أنه قال : " إنها مُحرّمة عليهم " وانتهى الأمر لأنهم تَأَبّوا على أن يدخلوها؟ . ولذلك فكل الذين قالوا : " لن ندخلها أبداً ماداموا فيها " لم يعش منهم أحد ليدخل هذه الأرض . وبعد ذلك صدر الحكم الآتي : { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } فهل هذا القول هو استئناف للقول السابق فيكون ظرفاً ل " مُحرّمة " . أو هو حكم منفصل؟ .
تصح هذه ، وتصح تلك . والتيه هو كما نقول : فلان تاه أي سار على غير هدى ولا يعرف لنفسه مدخلاً ولا مخرجاً ، والواحد عندما يدخل في مجال متشعب المسالك ومتعرج الطرقات ، فهو لا يعرف كيفية الخروج منه ، هذا هو التيه . ولكن كم فرسخاً هي مساحة التيه؟ . حدّدها العلماء بستة فراسخ [ والفرسخ قدر ثلاثة أميال ] . كيف يتيهون في تلك المساحة الضيقة من الأرض؟
لقد أراد الله ذلك؛ لأنهم ساعة يمشون ويرهقون فينامون ويأتي عليهم الصباح ليجدوا أنفسهم عند النقطة التي بدأوا منها ، وكانوا يضعون العلامات لإيضاح الطريق ، لكنهم كل صباح كانوا يجدون العلامات قد انتقلت من مكانها . وظلّوا على هذا الوضع وفي هذا التيه إلى الأمد والوقت الذي حدده الله وهو أربعون سنة يتيهون في الأرض . وحين يؤدبّ الله عاصياً يحفظ له من القوت والرزق ما يبقى به حياته ولو كان كافراً؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود ، ولهذا لم يضنّ عليهم في التيه بما لم يضنّ به على الكافرين به سبحانه .
إذن حفظ الحياة أمر ضروري . وعنما يرتكب إنسانٌ مَا ذنباً كبيراً في حق المجتمع فإننا نضعه في السجن ، ولكننا نطعمه ونسقيه ، وعندما يرتقي المجتمع الإنساني ، فهو يوفّر للسّجين عملاً يتناسب مع مواهبه ويحبس عنه حُرية الحركة في المجتمع ، والسجين المذنب يظل في السجن ، ولكنه يأكل ويشرب وينام ويعمل ، فقط تختلف المسألة في النقطة المهمة في الحياة وهي أن يتحرك المتحرك وفق حريته ، فما بالنا بالحق الأعظم عندما سجنهم في التيه؟ . لقد أطعمهم الله وسقاهم وأنزل عليهم المَنّ والسَّلوى .
وقد يقول قائل : إن الله قد أنزل عليهم المَنّ والسَّلوى ليعيشوا كُسَالى وغّرقى في التَكبر والغرور . ونقول : لا . فذلك الإجراء الإلهي من ضمن حكمه البالغة أن يطيل عليهم الوقت . فلو أنه سبحانه وتعالى قد جعلهم يزرعون ويحرثون لانشغلوا بأمور الحياة اليومية ، لكن الحق أراد أن يُطيل عليهم الإحساس بالزمن . فالمسألة ليست طعاماً وشراباً . ولكن هناك كرامة فوق الطعام وفوق الشراب .
إننا نرى ذلك عندما نسمع عن اعتقالات لبعض الأفراد الذين أساءوا للمجتمع . وتسمح لهم السلطات بالطعام الذي يأتيهم من منازلهم . ولكنَّ هؤلاء المعتقلين يشعرون بالضيق من تقييد الحركة .
(1/2120)

إذن أراد الحق لهم عقاباً صارماً في فترة التيه . ولذلك نجد بعضهم يحسب المسألة والزمن في فترة التيه ، فيقول الواحد منهم ما ذكره الحق : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي } [ الأعراف : 142 ]
وبعد أن رحل موسى عن القوم عبدوا العجل الذي صنعه لهم موسى السامريّ ، وعاد إليهم موسى وعاتب أخاه هارون العتاب القاسي ، وعاقبهم ربهم على كفرهم أربعين سنة . كأن كل يوم من عبادة العجل صار سنة من العقاب في التيه . ولأنه رَبُّ ورحيم لم يتركهم دون أن يحفظ لهم حياتهم بالقوت ، فكان القوت هو المَنّ والسَّلوى . هل كان موسى عليه السلام معهم في التيه أم لا؟ وهل مات معهم في التيه أم لا . ؟ تلك أسئلة لا تهمنا الإجابة عنها بالرغم من أن بعض العلماء قد شغلوا أنفسهم بها؛ فتلك أمور لا تنفع ولا تضر . المهم أن بني إسرائيل لم يدخلوا أريحا إلا على يد يوشع بن نون بعد الأربعين سنة : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } [ المائدة : 25-26 ]
ولنا أن نقرأ هذا القول الحكيم كما يلي : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } . وهذا الوقف يعطينا الفهم بأن الأرض المقدسة صارت مُحَّرمة عليهم إلى الأبد . وبعد ذلك يأتي أمر الله بعقابهم في التيه أربعين سنة : { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } . أما لو قرأنا هذا القول الحكيم كما يلي : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } فهذه القراءة تتيح لنا الفهم بأن مدة العقوبة لهؤلاء القوم الفاسقين أربعون سنة في التيه . ودخلوا بعدها مدينة أريحا .
ويأمر الحق موسى ألاَّ يحزن على هؤلاء القوم الفاسقين ، ذلك أن موسى عليه السلام عندما دعا الله بقوله : { فافرق بَيْنَنَا } انتابه قدرٌ من الضّيق من هذا الدُّعاء وقال لنفسه : لماذا لم أدعُ لهم بالهداية بدلاً من أن أدعو بالفراق؟ ، ولذلك قال له الحق : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } أي فلا تحزن عليهم لأنهم أَّوْلَى بالعذاب لفسقهم ومخالفاتهم .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ . . . }
(1/2121)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
وساعة يتلو الإنسان - أي يقرأ - فهو يتكلم بترتيب ما رآه من صُور؛ ذلك أن الإنسان عندما يرى أمراً أو حادثة فهو يرى المجموع مرة واحدة ، أو يرى كل صورة مكّونة للحدث منفصلة عن غيرها . وعندما يتكلم الإنسان فهو يرتّب الكلمات ، كلمة من بعد كلمة ، وحرفاً من بعد حرف؛ إذن فالمتابعة والتلاوة أمر خاص بالكلام . { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق } والنبأ هو الخبر المهم ، فنحن لا نطلق النبأ على مطلق الخبر . ولكن النبأ هو الخبر اللافت للنظر . مثال ذلك قوله الحق : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } [ النبأ : 1-2 ]
إذن فكلمة " نبأ " هي الخبر المهم الشديد الذي وقع وأثر عظيم .
{ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق } وساعة نسمع قوله الحق : " بالحق " فلنعلم أن ذلك أمر نزل من الحق فلا تغيير فيه ولا تبديل . ولذلك قال سبحانه : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } [ الإسراء : 105 ]
أي أن ما أُنزل من عند الله لم يلتبس بغيره من الكلام ، وبالحق الجامع لكل أوامر الخير والنواهي عن الشّر نزل . وعندما يقول سبحانه : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق } فسبحانه يحكي قصة قرآنية تحكي واقعة كونية . ومادام الله هو الذي يقصّ فهو سيأتي بها على النموذج الكامل من الصدق والفائدة . ولذلك يسمّيه سبحانه " القصص الحق " : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } [ آل عمران : 62 ]
ويُسمّيه سبحانه : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ]
وسبحانه يقول : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } ونعرف أن آدم هو أول الخلق البشري ، وأن ابني آدم هما هابيل وقابيل ، كما قال المفسرون . وقد قرّب كل منهما قرباناً . والقُربان هو ما يتقرب به العبد إلى الله ، و " قربان " على وزن " فعلان " . فيقال : " كَفَر كُفراناً " و " غَفَر غُفرانا " . وهي صيغة مبالغة في الحدث . وهل قدّم الاثنان قرباناً واحداً؛ أم أن كلا منهما قدّم قرباناً خاصّاً به؟ مادام الحق قد قبل من واحد منهما ولم يتقبّل من الآخر فمعنى ذلك أن كلاًّ منهما قدّم قرباناً منفصلاً عن الآخر؛ لأن الله قبل قربان واحد منهما ولم يتقبل قربان الآخر .
و " القربان : مصدر . والمصادر في التثنية وفي الجمع وفي التذكير والتأنيث لا يتغير نطقها أو كتابتها . فنحن نصف الرجل بقولنا : " رجل عدل " وكذلك " امرأة عدل " و " رجلان عدل " و " امرأتان عدل " و " رجال عدل " و " نساء عدل " . إذن فالمصدر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث .
(1/2122)

ونعلم أن آدم هو أول الخلق الآدمي ، وجاءت له حواء؛ وذلك من أجل اكتمال زوجية التكاثر؛ لأن التكاثر لا يأتي إلا من ذكر وأنثى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ]
فكل موجود أراد له الحق التكاثر فهو يخلق منه زوجين . { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } [ يس : 36 ]
ونرى ذلك حين نقوم بتلقيح النخلة من طلع ذكر النخل . وهناك بعض الكائنات لا نعرف لها ذكراً وأنثى؛ إما لأن الذكر غير موجود تحت أعيننا ، ولكن يوجد على بعد والريح هي التي تحمل حبوب التلقيح : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً } [ الحجر : 22 ]
فتأتي الريح بحبوب التلقيح من أي مكان لتخصب النبات ، وإما أن الذكورة والأنوثة يوجدان معاً في شيء واحد أو حيز واحد ، مثال ذلك عُود الذّرة؛ حيث نجد ذكروته وأنوثته في شيء واحد؛ فقمّة العود فيها الذكورة ويخرج من كل " كوز " ذرة قدراً من الخيوط الرفيعة التي نسمّيها " الشّوشة " . وهذه هي حبال الأنوثة . وينقل الهواء طلع الذكورة من سنبلة الذرة إلى " الشوشة " ، وكل شعرة تأخذ من حبوب اللقاح كفايتها لتنضج الحبوب ، وعندما تلتصق أوراق كوز الذرة ولا تسمح بخروج الخيوط الرفيعة لحبال الأنوثة ، ولا تصلها حبوب اللقاح ، فيخرج كوز الذرة بلا نضج وبلا حبوب ذرة . وعندما نمسك بكوز الذرة ونفتحه قد نجد بعضا من حبوبه ميتة وهي تلك التي لم تصلها حبوب اللقاح؛ لأنها لم تملك خيطا من الحبال الرفيعة لتلتقط به حبوب اللقاح . وحبّة الذّرة التي لم يخرج لها خيط رفيع لالتقاط حبوب اللقاح لا تنضج . إذن فكل شيء فيه الذكورة والأنوثة . { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا } [ يس : 36 ]
وكذلك قوله : وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } .
وكل ما يقال له شيء لا بد له من ذكر وأنثى ، حتى المطر لا بد أن يلقح فلو لم يتم تلقيح المطر بالذرات لما نزل المطر ، وحتى الحصى فيه ذرات موجبة وذرات سالبة . وعندما اخترعنا الكهرباء واكتشفنا الموجب والسالب ارتحنا . إذن فعندما يقول الحق : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ]
وقوله سبحانه : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ]
وهذا أول علم للعرب ، فلم يكونوا من قبل القرآن أمّة علم .
وقد أوصل القرآن كل العلم للعرب حتى فاقوا غيرهم ، عندما أحذوا بأسباب الله ، لكن عندما تراخوا وواصل غيرهم الأخذ بالأسباب تقدمت الاكتشافات ، وهذه الاكتشافات نجدها مطمورة في القرآن : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ]
إذن فكل ما يجدُّ ويحدث ويكتشف من شيء فيه موجب وسالب أي ذكورة وأنوثة؛ يدخل في نطاق : { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ]
والإنسان سيد الوجود لا بد له من زوجين ذكر وأنثى للتكاثر لا للإيجاد ، أما الإيجاد فهو لله سبحانه وتعالى الذي أوجد كل شيء مَِن لا شيء .
(1/2123)

وعندما جاء آدم وحواء وبدأ اللقاح والتكاثر أخذ عدد سكان الأرض في النمو . ولو أننا رجعنا بالأنسال في العالم كله رجعة متأخرة نجد العدد يقل إلى أن يصل إلى آدم وحواء . مثال ذلك لو عدنا إلى الوراء مائة عام لوجدنا تعداد مصر لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة على الأكثر ، ولو عدنا إلى الوراء قروناً أكثر فإن التعداد يقل ، إلى أن نصل إلى الخلق الأول الذي خلقه الله وهو آدم وخلق له حواء . فالإنسان بمفرده لا يأتي بنسل .
إذن عندما نجري عملية الإحصاء الإنسالي في العالم ونرجع بها إلى الوراء ، نعود إلى الخلق الأول . وكذلك كل شيء متكاثر سواء أكان حيواناً أم نباتاً . وعندما نسير بالإحصاء إلى الأمام سنجد الأعداد تتزايد ، وتكون القفزة كبيرة . وعندما يبلغنا الحق أنه خلقنا من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهُما رجالاً كثيراً ونساء ، فإن عِلم الإحصاء إنما يؤكد ذلك . والتكاثر إنا يأتي بالتزاوج . والتزاوج جاء من آدم وحواء . وأراد الحق أن يرزق آدم بتوائم ليتزوج كل توأم بالتوأم المخالف له في النوع من الحمل المختلف . أي يتزوج الذكر من الأنثى التي لم تولد معه في بطن واحدة .
وجاء ربّنا لنا بهذه القصة كي يبين لنا أصل التكاثر بياناً رمزياً . أوضح سبحانه : أن التباعد الزوجي كان موجوداً ، ولكنه التباعد الإضافي ، صحيح سيكون هذا الولد أخا للبنت هذه ، وهذه البنت أخته؛ لكن حين تكون مولودة مع هذا ، وتأتي بطن ثانٍ فيها ذكر وأنثى ، فسيكون فيها بُعد إضافي ، فتتزوج البنت لهذا البطن بالذكر في البطن الثاني . والذكر للبطن الثاني للبنت في البطن الآخر ، وهذا هو البُعد الإضافي الذي كان مُتاحاً في ذلك الوقت؛ لأن العالم كان لا يزال في بداية طفولته الواهية .
ونلحظ مثل هذا الأمر في الريف ، حين يقول فلاح آخر : " الذرة بتاعك خايب " ، يقول الفلاح الثاني : إني آخذ من الأرض التي أخذت منها الذرة وأعطيها تقاوى منها ، فأنا قد زرعت فداناً من ذرة ، وأحجز كيلتين أو ثلاثا أستخدمها تقاوى لأزرعها ، فتخرج الذرة ضعيفة ، فيقول الفلاح الناضج : يا شيخ هات من ذرة جارك . فيكون ذرة جاري فيه شيء من البُعد . وبعد ذلك تصير النوعية واحدة ، فيقول الفلاح الناضج : هات من بلد أخرى . وبعد ذلك من بلد ثالثة ، ولذلك فالتهجين والتكاثر كيف نشأ؟ من أين نأتي بالتقاوى؟ كلما جئنا بها من الخارج يكون الناتج قوياً .
كذلك التزاوج ليكون في هذه الزوجية مواهب ، ولذلك فطن العربي قديماً لها ، ومن العجيب أن هذا العربي البدوي الذي لم يشتغل بثقافة ولم نعرف له تعليما ولا علماً ، يهتدي إلى مثل هذه الحقيقة اهتداءً يجعلها قضية عامة فطرية .
(1/2124)

ويريد أن يمدح رجلاً بالفتوة ، فيقول عنه :
فتى لم تلده بنتُ عمٍ فيضوي ... وقد يضوي سليل الأقارب
كيف اهتدى هذا الشاعر لهذه؟! وبعد ذلك يقول :
تجاوزت بنت العّمِ وهي حبيبة إليّ ... مخافة أن يضوي على سليلها
أي هو يحبها ، لكنه تجتوزها ، حتى لا يضوي سليلها .
ولذلك يقول الشاعر في هذه القضية :
أنصح من كان بعيد الهم ... تزويج أولاد بنات العم
فليس ينجو من ضوى وسقم ... الشاعر العربي الذي ليس في أمة مثقفة ولا تعرف التهجين ولا تعرف هذه الأشياء ، انتبه إلى هذه المسألة ، كيف؟ إما أن يكون قد اهتدى إليها في واقع الكون فوجد أن زواج القريبات يُنشئ ملاً ضعيفاً ، وإما أن يكون ذلك من رواسب الديانات السابقة القديمة والعظات الأولى التي ظل الإنسان محتفظاً بها ، فإذا أراد الله أن يبدأ تكاثر فلا بد أن يتزوج أخ بأخته ، ولكن سبحانه يريد أن نتباعد ، نعم أخ وأخت لكن نتباعد فنأخذ البطن المختلف ، ولذلك حينما جاءوا لينسبوا قصة ابني آدم قابيل وهابيل ، صحيح اختلفوا . مثلا " سِفْر التكوين " تكلم ، ونحن نأخذ من " سفر التكوين " لأن التغيير فيه لا يهمهم . فقد كان التغيير في المسائل التي تهمهم ، كمسألة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، إنما المسائل الأخرى لا تهم ، ومع ذلك ففيها أيضا الكثير .
إنهم يقولون : إن هابيل هو أول قتيل في الإنسانية وقتله " قابيل " وبعض القصص تقول : لم يكن يعرف كيف يُميته أو يقتله ، فالشيطان مَثَّل له بأنه جاء بطير ووضع رأسه على حجر ثم أخذ حجرا آخر فضرب به رأسه حتى قتله ، فعلّمه كيف يقتل ، مثلما سيأتي الغراب ويعلّمه كيف يدفن ، أما مسألة كيف يقتل هذه لم تأت عندنا ، إنما كيف يدفن فقد جاءت عندنا . { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } [ المائدة : 31 ]
فهذا هو أول من توفّى وقتل ، لكن كيف تقولون : إنه لم يكن يعرف القتل حتى جاءه الشيطان وعلّمه كيف يقتل أخاه؟ نقول : أنتم لم تنتبهوا . فالحق قال : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ . . . }
(1/2125)

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
فقابيل -إذن- فاهم للقتل ، فلا تقل إنه تعلم القتل ، صحيح مسألة الدفن هذه جديدة ، والقصة جاءت لتثبت لنا كيف بدأ التكاثر ، ليجمع الله فيه بين الزوجين البُعد الإضافي؛ لأن البُعد غير الإضافي غير مُمكن في هذا الوقت فتكون هذه بالنسبة لهذا أجنبية ، وهذا بالنسبة لهذه أجنبي إلى أن يتوسع الأمر ، وبعد ذلك يُعاد التشريع بأن الأخت من أي بطن محرّمة على أخيها تحريماً أبديًّا ، وبعد ذلك نتوسع في الأمر وننقله إلى المحرمات الأخريات من النسب والرضاع فلا بد أن لهذه القصة أصلا . هم قالوا نقرب قرباناً . . لماذا؟ " إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " .
لماذا يريدان أن يُقرِّبا قُرباناً؟ قالوا : إن أخت قابيل التي كانت في بطن معه كانت حلوة وجميلة ، وأخت هابيل لم تكن جميلة ، فطبقا لقواعد التباعُد في الزوجية كان على هابيل أن يأخذ أخت قابيل ، وقابيل يأخذ أخت هابيل ، فَحَسد قابيل أخاه وقال : كيف يأخذ الحلوة ، أنا أولى بأختي هذه . وكان سيدنا آدم مازال قريب العهد بالوحي ، فقال : قربوا قرباناً وانظروا . لأنه يعلم جيداً أن القربان سيكون في صف التباعد . { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } . وبعض المفسرين يقول : والله نحن لم نعرف طريقة التقبّل هذه . نقول له : فلنبحث عن " قُربان " في القرأن . ننظر ما هو القُربان؟ قد وردت هذه الكلمة في القرآن في أكثر من موضع . قال : { الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } [ آل عمران : 183 ]
والحق يقول لهم ردًّا عليهم : { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ } [ " آل عمران : 183 ]
{ وبالذي قُلْتُمْ } ما هو؟ إنه القُربان الذي تأكله النار . إذن كان القُربان معروفاً والاحتكام إلى قربان وتأكله النار علامة التقبّل من السماء ويكون صاحبه هو المُقرَّب ، والقُربان في مسألة هابيل وقابيل لكي يعرف كل منهما من يتزوج الحلوة ومن يتزوج الأخرى ، وتقبل الله قربان هابيل . لكن أرضِي المهزوم؟ لا ، بل حَسَده ، وهذا أول تأب على مُرادات الحق في تكليفه . { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } . وقالت لنا القصص : إن هابيل كان صاحب ضرع أي ماشية وبذلك يكون عنده زبْد ولبن وجبن ، وحيوانات للحم ، والثاني صاحب زرع وقالوا : إن قابيل قدّم شِرار زرعه ، وهابيل قدّم خيار ماشيته . { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } . { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } وسبحانه قال : { أَحَدِهِمَا } ولم يقل قابيل أو هابيل ، { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } . فقوله : { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } من الذي قال؟ الذي قال هو من لم يتقبل قربانه؛ لأنه لم يحقق مُراده وغرضه .
(1/2126)

{ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } . وهل هذا الرّد مُناسب لقوله : " لأقتلنك "؟ نعم؛ لأن " لأقتلنك " بسبب أن قربانك قُبِل وقرباني لم يُقبَل . قال : فما دخلي أنا بهذه العملية؟ الدخل في العملية للقابل للقربان ، فأنا ليس لي دخل فيها ، وربّنا لم يتقبله لأن الله لا يتقبل إلا من المتقين . وهو يعلم أنك لست بمتقٍ؛ فلن يتقبل منك لأنك تأبيت عن حكاية الزواج بابنة البطن المخالف ، وهذا أول تمرُّد على منهج الله وعلى أمره لذلك قال هابيل : لا تلُمني فأنا لا دخل لي في القربان المتقبل؛ لأن هذا من عند الله . والله لم يظلمك؛ لأن ربنا يتقبل من المتقين . وأنت لست بمتقٍ؛ لأنك لم تَرْضَ بالحكم الأول في أن تبتعد البطون { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } . { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } [ المائدة : 28 ]
وكلمة " البسط " ضد " القبض " ، وهناك : " بسط له " ، و " بسط إليه " .
وتجد " بسط له كأن البسط لصالح المبسوط له . { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ } [ الشورى : 27 ]
ولم يقل : " إلى عباده " بل قال : " لعباده " ، إذن فالبسط لصالح المبسوط له ولذلك لا يكون بإلى إلاّ في الشر ، وشرحنا من قبل هذه المسألة وفي قوله الحق : { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } [ المائدة : 11 ]
إذن فالذي يبسط لك يعطيك نفعا والذي يبسط إليك يكون النفع له هو .
{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } . وبيّنت " لتقتلني " مدلول " إليّ " . والعلة لا عجز عن مقابلة قوّتك بقوة ، لا ، وإنما لأنني أخاف الله ، فليس في هذا تقصير في الدفاع عن نفسي لأنني أريد أن أُحَنّنِك تَحنيناً يرجعك إلى صَوابك . وساعة يأتي واحد يريد أن يقتل واحداً يقول له : والله لن أقاتلك لأنني أخاف ربنا .
إذن فبيَّن له أن خَوفه من الله مسألة مُستقرة في الذهن حتى ولو كانت ضد استبقاء الحياة ، وقد يعرفها في نفسه لأن أخاه كان يستطيع أن يقدّم دفاعاً قويا ، لقد ردّ الأمر إلى الحقّ الأعلى . فلا تقل كان هابيل سَلبيّا لا . إنه صعّد الأمر إلى الأقوى
ويقول الحق : { إني أُرِيدُ . . . }
(1/2127)

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
و " تبوء " أي ترجع من صفقة قتلى بأن تحمل إثم تلك الفعلة وتنال عقوبتها و " إثمك " وكذلك الإثم الذي كان من أجله أنك أردت أن تقتلني؛ لأنك تأبيت على المنهج ، حين لم يتقبل ربنا قربانك . فقد أثمت في عدم قبولك التباعُد المطلوب في الزوجية . إذن فأنت عندك إثمان : الإثم الأول : وهو رفضك وعدم قبولك حكم الله ومنهجه وهو الذي من أجله لم يَقبل الله قربانك ، والإثم الثاني : هو قتلي وأنا لا دخل لي في هذه المسألة؛ لأن الظالم لا بد أن يأخذ جزاءه .
إن هابيل يقول : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } لم يتمن أن يكون أخوه عاصياً . بل قال : إن كان يعصي بهذه يبوء بإثمي ويأخذ جزاءه؛ فيكون قد تمنى وأراد له أن يعود إلى العقاب ويناله إن فعل وهو لا يريده أن يفعل .
{ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين } وجزاء الظالمين تربية عاجلة للوقوف أمام سُعارات الظلم من الظالمين؛ لأن الحق لو تركها للآخرة لاستشرى الظُلم ، والذي لا يؤمن بالآخرة يصبح مُحترفاً للظُلم ، ولذلك قلنا من قبل : إن الحق سبحانه وتعالى ضرب لنا ذلك المثل في سورة " الكهف " حينما ذكر لنا قصة ذي القرنين : الذي آتاه الله من كل شيء سببا فأتبع سببا ، وبعد ذلك بين لنا مُهمة من أوتي الأسباب واتبع الأسباب ، وجعل قضيته في الأرض لعمارة الكون وصلاحه ، وتأمين المجتمع . ماذا قال : { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } [ الكهف : 86 ]
هذا في رأي العين ، فحين تكون راكباً البحر . ترى الشمس تغرب في الماء ، هي لا تغرب في الماء؛ لأن الماء هو نهاية امتداد أُفقك . { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ]
إذن فقد خيره : إمأ ان تعمل هذا وإما أن تعمل ذاك . { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } [ الكهف : 87 ]
ذلك هو القانون الذي يجب أن يسير في المجتمع . جتى لا أترك لمن لا يؤمن بإله ولا يؤمن بآخرة أن يستشري في الظلم . فَلْيأخذ عقابه في الدنيا . { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } [ الطور : 47 ]
أي قبل الآخرة لهم عذاب . ولذلك حين يرى الناس مصرع الظالم ، أو ترى الخيبة التي حدثت لهم فهم يأخذون من ذلك العظة ، وجيلنا نحن عاصر ظالمين كثيرين نكل بعضهم ببعض؛ ولو مُكِّن المظلومون منهم ما فعلوا بهم ما فعله بعضهم ببعض ، وأراد الحق أن يجري عذابهم أمامنا لتتضح المسألة . { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } [ الكهف : 87 ]
ولا ينتهي أمره بذلك ، وبعد ذلك يُردّ لمن؟ يُردّ لله : { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } [ الكهف : 87 ]
يعني عذاب الدنيا؛ إن عذابها سيكون محتملا لأنه عذاب منوط بقدرة العاجزين ، إنما العذاب في الآخرة فهو بقوة القادر الأعلى : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 88 ]
تلك هي مهمة الله القوي المتين : إنّ الذي يظلم يضربه على يده ، والذي يحسن عمله يعطيه الحوافز .
والحق يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ . . . }
(1/2128)

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
ولا يقال : طوعت الشيء إلا إذا كان الشيء متأبيا على الفعل ، فلا تقل : أنا طوّعت الماء ، وإنما تقول : طوّعت الحديد ، وقوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فهل نفسه هي التي ستقتل وهي نفسه التي طوَّعَت؟
ولننتبه هنا أن الإنسان فيه ملَكتان اثنتان؛ ملكة فطرية تُحبّ الحق وتُحبّ الهير ، وَملَكَة أهوائية خاضعة للهوى ، فالملكتان تتصارعان .
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } كأن النفس الشريرة الأهوائية تغلبت على الخيّرة ، فكأن هناك تجاذبا وتصارعاً وتدافعاً؛ لأن الإنسان لا يحب الظلم إن وقع عليه . لكن ساعة يتصور أنه هو الذي يظلم غيره فقد يقبل على ذلك .
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } إنه لا يزال فيه بقيّة من آثار النُّبوة؛ لأنه قريب من آدم ، ولاتزال المسألة تتأرجح معه ، والشر من الأخيار ينحدر ، والشر في الأشرار يصعد . فقد تأتي لرجل طيب وتثير أعصابه فيقول : إن رأيته لأضربنه رصاصة أو أصفعه صفعتين ، أو أوبِّخه ، والشرِّير يقول : والله إن قابلته أبصق في وجهه ، أو أضربه صفعتين ، أو أضربه رصاصة . إذن فالشر عند الشرِّير يتصاعد ، ويجد العملية لا تكفي للغضب عنده فيصعدها . إنما نفس الخير تُنفِّس عن غضبها وبعد ذلك ينزل عنها بكلمة ، ولذلك نلاحظ في سورة سيدنا " يوسف " : { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ]
والعجيب أنهم جاءوا بالتعليل الذي ضدّهم؛ كي يعرفك أن الهوى والغضب والحسد والحقد تقلب الموازين ، { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } هذه تدل على أنهم أقوياء . وهي التي جعلت أباه يعقوب يعطف على الضمير . أنتم تقولون : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا } نعم؛ لأنه صغير ، وسألوا العربي : مالك تُحب الولد الصغير ، قال : لأن أيامه أقصر الأيام معي ، البكر مكث معي طويلاً ، فأنا أعوض للصغير الأيام التي فاتته ببعض الحب وأعطيه بعض الحنان ، قولهم : { نَحْنُ عُصْبَةٌ } هذه ضدهم ، مما يدل على أن الرجل ساعة تختلط عليه موازين القيم ، يأتي بالحُجّة التي ضده ويظن أنها معه! وبعد ذلك يقولون : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يوسف : 8 ]
واتفقوا . فبدأوا بقولهم : { اقتلوا يُوسُفَ } [ يوسف : 9 ]
وقالوا : { أَوِ اطرحوه أَرْضاً } [ يوسف : 9 ]
ولأنهم أسباط وأولاد يعقوب تنازلوا عن القتل والطرح في الأرض وقال قائل منهم : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ]
وهل يرتب أحد النجاة لمن يكرهه؟
كأن النفس مازال فيها خير ، فأولا قالوا : { اقتلوا يُوسُفَ } هذه شدة الغضب . أو { اطرحوه أَرْضاً } يطرحونه أرضاً فقد يأكله حيوان مفترس ، فقال واحد : نلقيه في غيابة الجب ويلتقطه بعض السيارة ، إذن فالأخيار تتنازل .
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } . ونعرف الخسران قضية التجارة؛ أن هناك مكسباً وهناك خسارة ، و " مكسب " أي جاء رأس المال بزيادة عليه ، و " الخسارة " أي أن رأس المال قد قلَّ ، فلماذا قتل أخاه وكان أخوه الوحيد وكان يأنس به في الدنيا؟ إن هذا حدث من حكاية البنت . فقد أراد أن يأخذ أخته الحلوة ويترك الأخرى ، ولما قدّما القربان ولم يقبل منه تصاعد الخلاف وقتل أخاه ، إذن فَفَقد رأس المال ، بينما كان يريد أن يكسب { فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً . . . }
(1/2129)

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
ونعرف السوءة وهي ما تَتَكرّهه النفس . وهي من " ساء ، يسوء ، سوءا " أي يتكره ، وسمينا " العَورة " سَوْءَة؛ لأنها تتكره .
{ فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض } . هل بعث الله حتى يُرِي قابيل كيف يواري سوءة هابيل ، أم أن الغراب هو الذي سيقول له؟ كلا الأمرين متساوٍ؛ لأن ربنا هو الذي بعث ، فإن كنت ستنظر للوسيلة القريبة فيكون الغُراب ، وإن كنت ستنظر لوسيلة الباعث يكون هو الله؛ فالمسألة كلها واصلة لله ، وأنت حين تنسب الأسباب تجدها كلها من الله .
{ قَالَ يَاوَيْلَتَا } . ساعة تسمع كلمة " يا ويلتي " يكون لها معنيان في الاستعمال : المعنى الأول للويل : هو الهلاك ، وإن أردنا المبالغة في الهلاك نأتي بتاء التأنيث ونقول : ويلة ، ولذلك عندما نحب أن نبالغ في وصف عالم نقول : فلان عالم وفلان علاّم وفلان عَلاَّمة ، وتأتي التاء هنا لتؤكد المعنى ، إذن فالويل : الهلاك ، و " ويلة " تعني أيضا الهلاك ، وماذا تعني " يا ويلتي "؟
إننا نعرف أن النداء يكون ب " يا " فكيف نُنادي الويل والهلاك؟ وهل يُنادي غير العاقل؟ نعم ، يُنادي؛ لأنه مادام " الويل " و " الويلة " : الهلاك . كأنك تقول : أنا لم أعد أطيق ما أنا فيه من الهم والغم ، ولا يُخلصني فيه إلا الهلاك ، يا هلاكي تعال فهذا وقتك! إذن فقوله : " يا ويلتي " يعني يا هلاك تعال ، والمتنبي فطن لهذه المسألة وقال :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
فأي داء هذا الذي تقول فيه : يارب أرحني بالموت!! إذن فالذي يراه من ينادي الهلاك هو أكثر من الموت . المعنى الأول : أنك تنادي الهلاك أن يحضر؛ ولذلك يقول الحق : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ]
إنهم يتمنّون الموت؛ وكذلك قال قابيل " يا ويلتي " .
وهل تأتيه الويلة عندما يطلبها؟ لا ، فقد انتهت المسألة وصار قاتلاً لأخيه .
والمعنى الثاني : أن تأتي " يا ويلتنا " بمعنى التعجب من أمر لا تعطيه الأسباب ، وهناك فرق بين عطاء الأسباب وبين عطاء المُسبّب . فلو ظل عطاء الأسباب هو المُتحكّم في نواميس الكون ، لكان معنى هذا أن الحق سبحانه قد زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة ، وكأنه خلق الأسباب والنواميس وتركها تتحكم ونقول : لا . فبطلاقة القدرة خلقت الأسباب ، وهي تأتي لتثبيت ذاتية القدرة وقيّوميّتها ، فيقول الحق حينما يشاء : توقفي يا أسباب .
إذن فهناك أسباب وهناك مُسبّب . والأمر العجيب لا تعطيه الأسباب . وحين لا يعطى السبب يتعجب الإنسان ، ولذلك يَرُدّ الأمر إلى الأصل الذي لا يتعجب منه .
(1/2130)

وها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما جاءه الضيوف وقدم لهم الطعام ورأى أيديهم لا تصل إليه نكرهَم ونفر منهم ولم يأنس إليهم وأوجس منهم خِيفة . ويقول الحق عن هذا الموقف : { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الذاريات : 28-29 ]
وقال الحق أيضاً في هذا الموقف : { وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ]
وهنا قالت امرأة سيدنا إبراهيم : { ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ]
أي أن الأسباب لا تعطى ، ورُدّت إلى المُسبّب . ( أتعجبين من أمر الله ) ؟ كان لك أن تتعجبي من الأسباب لأنها تعطلت ، أما حين تصل الأسباب إلى الله ، فلا عجب .
وقال سيدنا زكريا عليه السلام مثل قولها؛ فحين رأى السيدة مريم وهو الذي كَفلها ، وكان يجيء لها بمطلوبات مقومات حياتها ، وفُوجئ بأن عندها رزقا من طعامٍ وفاكهة . فسألها : { يامريم أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 37 ]
كيف يقول لها ذلك؟ لا بد أنه رأى شيئا عندها لم يأتِ هُو به ، وهنا ردَّت عجبه لتنبهه بالحقيقة الخالدة : { هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ]
وبشاء الحق أن تقولها سيدتنا مريم وهي صغيرة السن ، وكأنها تقول ذلك كتمهيد؛ لأنها - كما قلنا سابقا - ستتعرض لمسألة لا يمكن أن يحلها إلا المُسبِّب ، فسوف تلدِ بدون رُجولة ، وهي مسألة عجيبة ، لذلك كان لا بد أن تفهم هي وأن تنطق : { هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ]
وكأن الحق ينبئها ضمناً بأن عليها أن تتذكّر أنها هي التي قالت هذه الكلمة؛ لأن المستقبل سوف يأتي بك بأحداث تحتاج إلى تذكُر هذا القول . وهي التي تُذكِرّ سيدنا زكريا عليه السلام بهذه الحقيقية . ولنر دِقّة إشارة القرآن إلى الموقع الذي ذكرت له مريم فيه تلك الحقيقة : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ]
كأن ساعة سمع هذه المسألة قرّر أن يدعو الله بأمنيته في المحراب نفسه . وهل كان سيدنا زكريا لا يعرف تلك الحقيقة؟ كان يعرفها ، ولكن هناك فرق بين حكم يكون في حاشية الشعور ، وبين حكم يكون في بؤرة الشعور .
وقول مريم لزكريا : { هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } جعل القضية تنتقل من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور . { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ]
لماذا لم يدعُ ربَّه من البداية؟ . كان سيدنا زكريا سائراً مع الأسباب ورتابة الأسباب قد تذهل وتُشغل عن المُسبِّب ، وعندما سمع من مريم : { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أراد أن يدخل من هذا الباب ، فدعا ربه؛ وبشّره الحق بأنه سيأتي له بذريّة ، وتعجّب زكريا مرّة أخرى من هذا الأمر شارحاً حالته :
(1/2131)

{ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ]
ومادمت يا زكريا قد دعوت الله أن يهبك الذّرّية وقفزت قضية رزق الله لمن يشاء من حاشية شعورك إلى بؤرة شعورك . فقد جاء أمر الله : { كذلك قَالَ رَبُّكَ } [ مريم : 9 ]
إذن فلا بحث في الأسباب والمسببات . فهي إرادة الله . ويوضح الحق حيثيّات { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ويأتيك بالولد؛ فيقول سبحانه : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ]
وكل هذه مقدمات من مريم ومن سيدنا زكريا الكفيل لها؛ ذلك أن سيدنا زكريا سوف يكون عنصراً شاهداً عندما يأتيها الولد من غير أب وتلد ، وهو كفيل لها ، وهو الذي سيتعرض لهذا الأمر .
ولماذا كل هذا التمهيد؟؛ لأن خرق الأسباب وخرق النواميس وخرق السُنن إنما حدث في أمور أخرى غير العِرْض ، لكن عند مريم سيكون ذلك في العِرض وهو أقدس شيء بالنسبة للمرأة ، لذلك لابد من كل هذه التمهيدات . إذن ، هو أمر عجيب لكنه ليس بعجيب على الله .
وها هوذا قابيل يقول : { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب } كأن عملية الغراب أظهرت لقابيل أنه لم يعرف شيئاً يفعله الطائر الذي أمامه ، فها هي ذي مسألة يفعلها غراب ولا تفعلها أنت يا قابيل ، لقد امتلكت قدرة لتقتل بها أخاك ، لكنك عاجز أن تفعل مثل هذا الغراب . فقابيل لا يقولها - إذن - إلا بعد أن مرّ بمعنى نفسيّ شديد قاسٍ على وجدانه .
لقد قدر على أخيه وقتله وهو لم يعرف كيف يواريه ، بينما عرف الغراب كيف يواري جثة غراب آخر . وهكذا أصبح قابيل من النادمين { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } .
إن علينا أن ننتبه إلى الفارق بين " نَدِمٍ " و " نَدَمٍ " . وعلى سبيل المثال : هناك إنسان قد جرؤ على حدود الله وشرب الخمر بالنقود التي كان عليه أن يشتري بها طعام الأسرة . وعندما عاد إلى منزله ووجد أهله في انتظار الطعام ، ندم لأنه شرب الخمر ، فهل كان ندم الرجل على أنه عصى الله ، أو ندم لأنه لم يشتر الطعام لأهله؟ . لقد ندم على عدم شراء الطعام وذلك ندم مرفوض ، ليس من التوبة .
وقد يكون هذا الشارب للخمر قد ارتدى أفخر ثيابه وخرج فشرب الخمر ووقع على الأرض ، وهنا ندم لأن شُرب الخمر أوصله إلى هذا الحال؛ فهل ندم لأنه عصى ربه؟ . أو ندم لأنه صار هُزْأة بين الناس؟ . وكذلك كان ندم قابيل ، لقد ندم على خيبته؛ لأنه لم يعرف ما عرفه الغراب .
ويقول الحق بعد ذلك : { مِنْ أَجْلِ ذلك . . . }
(1/2132)

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
نجد الحق قال : إنه قد كتب على بني إسرائيل ما جاء بهذه الآية من قانون واضح؛ لأن معنى كلمة " من أجل " هو " بسبب "؛ و " أًجْل " مِن أَجَل شرا عليهم يَأْجُلُه ، أي جنى جناية؛ أي من جريرة ذلك .
أو من هذه الجناية شرعنا هذا التشريع : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } . إذن فساعة تسمع " من أجل " فاعرف أنها تعني " بسبب ذلك " أو " بوقوع ذلك " أو " بجريرة ذلك " أو " بهذه الجناية كان ذلك " .
ولكن هل هذا الكَتْب خاص ببني إسرائيل؟ . بعض العلماء قال : إن ابني آدم ليس ابني آدم مباشرة؛ ولكنهما من ذُرّية آدم وهما من بني إسرائيل . ونَردّ : من هو إسرائيل أولاً الذي نُسب إليه أبناء إسرائيل؟ . إنه يعقوب بن إسحاق؛ بن إبراهيم ، وإبراهيم يصل إلى نوح بأحد عشر أباً ويصل نوح إلى شيث ، وبعد ذلك إلى آدم؛ فهل كانت كل هذه السلسلة لا تعرف كيف تدفن الميت إلى أن جاء بنو إسرائيل؟
طبعاً لا؛ ومادام الحق أوضح أنه سبحانه قد بعث غُراباً يبحث في الأرض ليُرِيَه كيف يُواري سَوْءَة أخيه ، فهذا دليل على أن هابيل هو أول إنسان تَمَّ دفنه ، ومن غير المقبول - إذن - أن نقول : إن الإنسان لم يعرف كيف يواري جثمان الميّت إلى أن وصلت البشرِّية إلى زمن بني إسرائيل ، وأنهم هم الذين علموا البشرية ذلك!
ولماذا جاء الحق هنا ببني إسرائيل؟ . سبب ذك أن بني إسرائيل اجترأوا لا على قتل النفس فقط بل اجترأوا على قتل النفس الهادية ، وهي النفس التي تحمل رسالة النّبوة ، ولذلك كان التخصيص ، فقد قتلوا أنبيائهم الذين حملوا لهم المنهج التطبيقي؛ لأن الأنبياء يأتون كنماذج تطبيقية للمناهج حتى يلفِتوا الناس إلى حقيقة تطبيق منهج الله . الأنبياء - إذن - لا يأتون بشرع جديد ، ولكنهم يسيرون على شرع من قبلهم . فلماذا قتل بنو إسرائيل بعضاً من الأنبياء؟ لقد تولّدت لدى بني إسرائيل حفيظة ضد هؤلاء الأنبياء .
ونعلم أن الإنسان الخيّر حين يصنع الخير ويراه الشرّير الذي لا يقدر على صناعة الخير فتتولد في نفس الشرّير حفيظة وحقد وغضب على فاعل الخير . ففاعل الخير كلما فعل خيراً إنما يلدغ الشرّير ، ولذلك يحاول الشرّير أن يُزيح فاعل الخير من أمامه . وكان الأنبياء هم القدوة السلوكية ، وقد قال الحق عن بني إسرائيل : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ } [ البقرة : 91 ]
وجاء الحق هنا ب " من قبل " هذه لحكمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عداءٍ مع اليهود ، وقد تَهبّ عليهم الخواطر الشرّيرة فيحاولون قتل النّبي .
(1/2133)

وقد حاولوا ذلك . مثلما أرادوا أن يلقوا عليه حجراً ، ودسُّوا له السّم ، ولذلك قال الله : " من قبل " أي إن قدرتكم على قتل الأنبياء كانت في الماضي؛ أما مع محمد المصطفى فلن تُمكَّنُوا منه .
ويقول سبحانه : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } . وهذا توضيح لإرادة الحق في تأسيس الوحدة الإيمانية ليجعل من المجتمع الإيماني رابطة يوضحها قول رسول الله فيما رواه أبو موسى الأشعري عنه :
" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً "
وإياك أن تنظر إلى مجترئ على غيرك ، بالباطل ، وتقف مكتوف اليدين؛ لأن الوحدة الإيمانية تجعل المؤمنين جميعاً كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحُمى . فإن قَتل إنسان إنساناً آخر ووقف المجتمع الإيماني موقف العاجز . فهذا إفسادٌ في الأرض ، ولذلك يجب أن يقابل المجتمع مثل هذا الفعل لا على أساس أنه قتل نفسا واحدة ، بل كأنه قتلٌ للناس جميعاً ما لم يكن قتل النفس لقصاص أو إفساد في الأرض .
ويكمل الحق سبحانه الشق الثاني من تلك القضية الإيمانية : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } ، وهذه هي الوحدة الإيمانية ، فمن يعتدي على نفس واحدة بريئة ، كمن يعتدي على كل الناس ، والذي يسعف إنساناً في مهلكه كأنه أنقذ الناس جميعاً .
وفي التوقيع التكليفي يكون التطبيق العملي لتلك القاعدة ، فالذي يقتل بريئاً عليه لعنة الله وغضبه ويعذبه الله ، وكأنه قتل الناس أجمعين ، وإن نظرنا إليها من ناحية الجزاء فالجزاء واحد .
{ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } . وسبحانه وتعالى يريد ألا يستقبل المجتمع الإيماني مجترئاً بباطل على حق إلا أن يقف كل المجتمع أمامه ، فلا يقف المعتدَى عليه بمفرده؛ لأن الذي يُجرِّئ أصحاب الشرّ هو أن يقول بعض الناس كلمة " وأنا مَالِي " .
و " الأنا مالية " هي التي تُجرِّئ أصحاب الشرور ، ولذلك اقرأوا قصة الثيران الثلاثة : الثور الأسود والثور الأحمر والثور الأبيض ، فقد احتال أسد على الثورين الأحمر والأسود ، فسمحا له بأكل الثور الأبيض . واحتال على الثور الأسود فسمح الثور الأسود للأسد بأكل الثور الأحمر؛ وجاء الدور على الثور الأسود؛ فقال للأسد :
- أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض . كأن الثور التفت إلى أن " أنا ماليته " جعلته ينال مصرعه . لكن لو كان الثيران الثلاثة اجتمعوا على الأسد لقتلوه .
وهاهوذا الحديث النبوي الشريف الذي يمثل القائم على حدود الله والواقع فيها :
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا . فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجوا جميعاً "
(1/2134)

كذلك مثل القائم على حدود الله ومثل الواقع فيها ، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول لنا : لا تنظر إلى أن نفساً قتلت نفساً بغير حق ، ولكن انظر إليها كأن القاتل قتل الناس جميعاً؛ لأن الناس جميعاً متساوون في حق الحياة . ومادام القاتل قد اجترأ على واحد فمن الممكن أن يَجترئ على الباقين .
أو أن يكون فعله أُسْوَة لغيره ، ومادام قد اسْتَن مثل هذه السُّنة ، سنجد كل من يغضب من آخر يقتله ، وتظل السلسلة من القتلة والقتلى تتوالى .
والحديث النبوي يقول :
" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " .
إنه الاحتياط والدقة والقيد : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض } . فكأن من قتل نفساً بنفس أو بفساد في الأرض ، لا يقال عليه : إنه قتل الناس جميعاً ، بل أحيا الناس جميعاً؛ لأن التجريم لأي فعل يعني مجيء النص الموضح أن هذا الفعل جريمة ، وبعد ذلك نضع لهذه الجريمة عقوبة . ولا يمكن أن تأتي لواحد ارتكب فعلاً وتقول له : أنا أؤاخذك به وأُعاقبك عليه بغير أن يوجَد نص بتجريم هذا الفعل .
وهناك توجد قاعدة شرعية قانونية تقول : " لا تجريم إلاّ بنص ولا عُقوبة إلاّ بتجريم " . أي أننا نُرتّب العقوبة على الجريمة ، أو ساعة يُجرّم فعل يُذكر بجانب التجريم العقوبة ، فعل القصد هو عقاب مُرتكب الجُرم . لا إنما القصد هو تفظيع العقاب حتى يراه كل إنسان قبل أن يرتكب الجريمة ، والهدف هو منع الجريمة ، ولذلك تجد الحكمة البشرية القائلة : " القتل أنفى للقتل " ، وبطبيعة الحال لا يمكن أن ترقى تلك الحكمة إلى قول الحق : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب } [ البقرة : 179 ]
لأننا يمكن أن نتساءل : أيّ قتل أنفى للقتل؟ . وسنجد أن المقصود بالحكمة ليس القتل الابتدائي ولكن قتل الاقتصاص . وهكذا نجد الأسلوب البشري قد فاتته اللمحة الفعَّالة في منع القتل الموجودة في قوله الحق : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } . وكلمة " أحياها " لها أكثر من معنى . وبالتحديد لها معنيان : المعنى الأول : أنه أبقى فيها الروح التي تحرك المادة ، والمعنى الثاني : إحياء الروح الإيمانية ، مصداقاً لقول الحق :
(1/2135)

{ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ]
ولنا أن نلتفت إلى أن الحق وضع الفساد في الأرض مُستحقاً لعقوبة القتل . والفساد هو إخراج الصالح عن صلاحيته ، والمطلوب منا إيمانياً أن الأمر الصالح في ذاته علينا أن نُبقبه صالحاً ، فإن استطعنا أن نزيده صلاحاً فلنفعل وإن لم نستطع فلنتركه على صلاحه .
ولماذا جاء الحق بعقابٍ للفساد في الأرض؟ . مدلول الأرض : أنها المنطقة التي استخلف الحق فيها البشر ، وساعة يقول الحق : { أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض } فمعنى ذلك أن كل فساد عائد على كل مظروف في الأرض . وأول مظروف في الأرض أو السيد لها هو الإنسان . وعندما نفسد في الإنسان ، فهذا معناه قتل الإنسان .
إذن لا بد أن يكون الفساد في أشياء أخرى : هي الأكوان أو الأجناس الأخرى؛ الحيوانات والنباتات والجمادات . والفساد في هذه الكائنات بكون بإخراجها عن مستحوزها ملكيةً ، كأن تسطو جماعة على بضاعة إنسان آخر ، أو أن يأخذ واحد ثمار زرع لأحد ، أو أن يأخذ بعضاً من إنتاج منجم منجنيز أو حديد أو خلافه .
إن الفساد نوعان : فساد في الأرض وهو متعلف بالمظروف في الأرض ، والمظروف في الأرض سيد وهو الإنسان ، والفساد فيه قتله أو أن تُسبب له اختلالاً في أمنه النفسي كالقلق والاضطراب والخوف . ونلحظ أن الحق سبحانه قد امْتَنّ على قريش بأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
إذن فمن الفساد تفزيع الناس وترويعهم وهو قسمان : قسم تُفَزِّع فيه مَن لك عنده ثأر أو بينك وبينه ضغينة أو بُغض ، أو أن تُفَزِّع قوماً لا علاقة بينك وبينهم ولم يصنعوا معك شيئاً . فمن يعتدي على إنسان بينه وبينه مشكله أو عداوة أو بغضاء ، لا نُسمّيه خارجاً على الشريعة؛ بأخذ حقه ، ولكنه لا يستوفي في حقه بيده بل لا بد من حاكم يقوم بذلك كي ينضبط الأمر ويستقيم ، إنه يخرج على الشريعة فقط في حالة العُدوان .
أما الذي يذهب للاعتداء على الناس ولم يكن بينه وبينهم عداء؛ فهذه هي الحرابة . كأن يخرج ليقطع الطريق على الناس ويخيف كل من يلقاه ويُسبِّب له القلق والرّعب والخوف عللى نفسه وماله ، والمال قد يكون من جنس الحيوان أو جنس النبات أو جنس الجماد . وذلك ما يسميه الشرع حرابة وستأتي لها آية مخصوصة .
إذن . فالفساد في الأرض معناه إخراج صالح عن صلاحه مظروف في الأرض ، والمظروف في الأرض سيده الإنسان ، والإفساد فيه إما بقتله أو إهاجته وإشاعة الرّعب فيه ، وإما بشيء مملوك له من الأشياء التي دونه في الجنسية مثل الزروع أو النباتات أو الحيوانات . فكأن الفساد في الأرض - أيضاً - يؤهل لقتل النفس :
{ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } .
(1/2136)

أي أن القتل بغير إفساد في الأرض؛ هو القتل الذي يستحق العقاب . أما القتل بإفساد في الأرض فذلك أمر آخر؛ لأن هناك فارقاً بين أن يُقتل قِصاصاً أو أن يقتل حدَّاً من المُشرِّع؛ وحتى عفو صاحب الدم عن القاتل في الحرابة وقطع الطريق لا يشفع في ذلك ولا يسقط الحد عن الذي فعل ذلك؛ لأنها جريمة ضد المجتمع كله .
ويتابع سبحانه : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ } والمُسرف هو المُتجاوز للحَد ، وهو من لا يأخذ قدر تكوينه وموقعه في الوجود ، بل يحاول أن يخرج عن قدر إمكاناته في الوجود .
مثال ذلك : رجل حاول أن يسطو على حق غيره في الوجود؛ متخطياً منزلة الاعتدال فلا يأخذ حقه فقط . مثل قطاع الطريق أو النهابين يأخذون عرق غيرهم وتعودوا أن يعيشوا كذلك وبراحة . والمصيبة لا تكون في قاطع الطريق وحده ، ولكن تتعداه إلى المجتمع . فيقال : إن فلاناً يجلس في منزله براحة وتكفيه ساعة بالليل ليسرق الناس .
إن الأمر لا يقف عند حدود ذلك الإنسان إنما يتعدّاه إلى غيره . ويحيا من يملك مالاً في رُعب ، وعندما يُفجَع في زائد ماله ، يفقد الرغبة في أن يتحرك في الحياة حركة زائدة تُنتج فائضاً لأنه لا يشعر بالأمن والأمان . وعندئذ يفقد العاجز عن الحركة في المجتمع السند والعون من الذي كان يتحرك حركةً أوسع . إذن من رحمة الله أنه فتح أمام البشر أبواب الآمال في التملُّك ، مادام السعي إلى ذلك يتم بطرق مشروعة .
ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - : الرجل المُرابي الذي يُقرض مُحتاجاً مائة جنيه ، كيف يطلب المرابي زيادة مِمّن لا يجد شيئا يقيم به حياته؟ إنه بذلك يكون قد أعطى مَن وجد أزيد مما أخذ منه مع فقره وعجْزه . إن ذلك هو الإسراف عينه .
ويقول الحق من بعد ذلك : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين . . . }
(1/2137)

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
أول شيء في الحرب هو الاستيلاء؛ فمعنى أن يحارب قوم قوماً غيرهم أي يرغبون في الاستيلاء على خيرات أو ممتلكات الطرف الآخر . فكيف يحارب قومٌ اللَّهَ وهو غيب؟ . وأول حرب للَّه هي محاولة الاستيلاء على سلطانه ، وهو تشريعه . فإن حاولت أيها الإنسان أن تشرع أنت على غير منهج الله فأنت تريد أن تستولي على حق الله في التشريع . وهذه أول حرب لله .
والذين يحاربون الله أَهُمُ الذين يريدون أن يستولوا على ملك الله؟ لا؛ لأن يد الله في مُلكه أزلا ، وستبقى أبدًا وسبحانه لن يسلّمه لأحد من عباده . فعلى ماذا - إذن - يريدون الاستيلاء؟ . إنهم يريدون تزييف تشريعات الله ، بينما سبحانه هو المُشرّع وحده . والتشريع - كما قلنا - هو قانون صيانة للصّنعة . إذن لماذا لا نترك خالق الإنسان ليضع القواعد التي تصون البشر؛ لذلك فأول افتيات يفعله الناس أنهم يُشرّعون لأنفسهم؛ لأن قانون صيانة الإنسان يضعه خالق الإنسان ، فإذا ما جاء شخص وأراد أن يضع للإنسان - الذي هو منه - قانون صيانة نقول له : إنك تستولي على حق الله .
وكيف يحاربون الرسول؟ .
نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم له وضعان؛ فالله غيب؛ لكن الرسول كان مشهداً من مشاهدنا في يوم من الأيام ، وقد حورب بالسيف ، وعندما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى أصبحت حربه كحرب الله ، فنأخذ سلطته في التشريع ، وهي السلطة الثانية ونقول لها : نحن سنشرع لأنفسنا ولا ضرورة لهذا الرسول ، أو أن يقول نظام ما : سنأخذ من كلام الله فقط وذلك ما ينتشر في بعض البلدان . ونقول لكل واحد من هؤلاء : أتؤدي الصلاة؟ . فيقول : نعم . نسأله : كم ركعة صليت المغرب؟ . فيجيب ثلاث ركعات . نسأله : من أين أتيت بذلك؟ . ومن أين عرفت أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وهي لم تذكر في القرآن الكريم؟ . هنا سيصمت .
ونسأله : كيف تخرج الزكاة وبأي حساب تحسبها؟ فيقول : اخرج الزكاة بقدر اثنين ونصف بالمائة في النقدين والتجارة مثلا .
نقول له : كيف - إذن - عرفت ذلك؟ . وأيضا كيف عرفت الحج؟ . إذن فللرسول صلى الله عليه وسلم مهمة ، وحرب النبي تكون في ترك قول أو فعل أو تقرير له عليه الصلاة والسلام .
ومثال ذلك هؤلاء الذين يقولون : إن أحاديث رسول الله كثيرة . ونقول لهم : كانت مدة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عاماً وكل كلامه حديث ، فكل كلمة خرجت من فمه حديث شريف ، ولو كنا سنحسب الكلام فقط لكان مجلدات لا يمكن حصرها ، وكل كلام سمعهُ وأَقرّه من غيره حديث ، وكل فعل فعله غيره أمامه وأقرّه ولم يعترض عليه حديث ، فكم تكون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
(1/2138)

وكيف يستكثر بعض الناس قدراً من الأحاديث التي وصلتنا بعد قدر هائل من التنقية البالغة؟؛ لأنهم قالوا : لأن نبعد عن رسول الله ما قاله خير من أن ندخل على رسول الله ما لم يفعله . إنهم يدعون أن هذا حفظ للإسلام ولكن فاتهم أن الله حافظ دينه ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع القواعد لغربلة الأحاديث فقال :
" من كذب على مُتعمداً فليتبوّأ مقعده من النار " .
وها هوذا البخاري ينقل عن المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذين قابلوه ، وسيدنا مُسلم يعتبر المعاصرة كافية لأنّها مظنَّة المقابلة وتحري كل منهما الدقة الفائقة . وأي شخص كان به خدشة سلوكية لا يؤخذ بقوله ، ولذلك عندما حاول البعض أن ينال من الأحاديث وقال أحدهم : " أنا يكفيني أو أقول لا إله إلا الله " ، تساءلت : كيف لا يذكر أن محمداً رسول الله؟ وكيف يمكن أن يؤدي الأذان للصلاة؟ وكيف يؤدي الصلاة " وكيف يمكن أن يفهم قول الحق : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ]
وهذا تفويض من الله في أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريع .
وكذلك الاجتراءات على الأئمة ، هم يجترئون أولاً على النبي ثم يزحفون على الدين كله . وجاء فيهم قول الحق : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } أي يخرجون الصالح بذاته عن صلاحه ليكون فاسداً . الجزاء أن يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبُوا ، وهذا التفعيل في قوله : { أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا } جاء للشدة والتقوية؛ حتى يقف منهم المجتمع الإيماني العام موقف القائم على هذا الأمر ، والسلطة الشرعية قامت عن الجميع في هذا الأمر ، كما يقال : إن النائب العام نائب عن الشعب في أن يرفع الدعوى ، حتى لا ينتشر التقتيل بين الناس ، دون أن يفهموا حكمة كل أمر .
{ أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } . وهل " أو " هنا تخييرية ، أو أنّ هنا - كما يقال - " لف ونشر "؟ واللف هو الطي . والنشر هو أن تبسط الشيء وتفرقه .
فما اللف ، وما النشر - إذن -؟ مثل ذلك ما يقوله الشاعر :
قلبي وجفني واللسان وخالقي . . ... لقد ذُكر مُتَعدّد ولكن الأحكام غير مذكورة ، هذا هو اللف؛ فجمع المبتداءت دون أن يذكر لكل واحد منها خبره؛ ثم جاء بالأحكام على وفق المحكوم عليه . فأكمل بيت الشعر بقوله :
راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفور ... ولنقرأ البيت كاملاً :
قلبي وجفني واللسان وخالقي ... راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُ
والحق يقول : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ]
فقوله : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } راجع إلى الليل ، وقوله : { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } راجع إلى النهار . وهنا جاء باللف . ثم جاء بالنشر .
والفساد - كما نعلم - له صُور متعددة ، فالفساد في الإنسان قد يعني قتله .
(1/2139)

أو قتله وأخذ ماله . أو الاستيلاء على ماله دون قتله . أو إثارة الرعب في نفس الإنسان دون أخذ ماله أو قتله . فكأن كلمة الفساد طوي فيها ألوان الفساد ، نفس القتل ، أو نفس تقتل مع مال يُسلب ويؤخذ ، أو مال يُؤخذ دون نفس تقتل ، أو تخويف وتفزيع .
ويقول الحق : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } ، والنفي معناه الطرد والإبعاد ، والطرد لا يتأتى إلا لثابت مُستقر ، والإبعاد لا يتأتى إلا لمُتمكن . إذن ، فقبل أن يُنفى لا بد أن يكون له ثبًوت وتمكُّن في موضع ما ، وهو ما نسميه اصطلاحاً السكن ، أو الوطن ، أو المكان الذي يقيم به الإنسان لأنه ثابت فيه . ومعنى ثابت فيه . أي له حركة في دائرته ، إلا أنه يأوي إلى مكانٍ مُستقر ثابت ، ولذلك سُمي سكناً؛ أي يسكن فيه من بعد تحركه في مجالاته المختلفة . ومعنى النفي على هذا هو إخراجه من مسكنه ومن وطنه الذي اتخذه موطناً له وكان مجالاً للإفساد فيه . ولكن إلى أي مكان نُخرج إليه هذا الذي نحكم عليه بالنفي؟ قد يقول قائل : أنت إن أخرجته من مكان أفسد فيه وذهبت به إلى مكان آخر فقد تشيع فساده!
لا؛ لأن النفي لا يتيح له ذلك الإفساد ، ذلك أن التوطن الأول يجعل له إلفاً بجغرافية المكان ، إلفاً بمن يخيفهم؛ فهو يعرف سلوك جيرانه ويعرف كيف يخيف فلانا وكيف يغتصب بضاعة آخر وهكذا . ولكنه إن خرج إلى مكان غير مستوطن فيه فسوف يحتاج إلى وقت طويل حتى يتعرف إلى جغرافية المكان ومواقع الناس فيه ، ومواطن الضعف فيهم . وعلى ذلك يكون النفي هو منعٌ لإفساد الفاسد .
وحين يقول سبحانه : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } نعرف أن كلمة " الأرض " لها مدلول ونسمي الأرض الآن : الكرة الأرضية . وكانوا قديماً يفهمونها على أنها اليابسة وما فيها من مياه ، وبعد أن عرفنا أن جَوَّ الأرض منها صار جو الأرض جزءا من الأرض . ولذلك قلنا في المقدسات المكانية : إن كل جو يأخذ التقديس من مكانه؛ فجو الكعبة كعبة؛ بدليل أن الذي يصلي في الدور الثالث من الحرم؛ ويتجه إلى الكعبة . يصلي متجها إلى جو الكعبة . ومن يستقل طائرة ويرغب في إقامة الصلاة يتجه إلى جو الكعبة ، وعندما ازدحم الحجيج وصار المسعى لا يتسع لكل الحجيج أقاموا دوراً ثانياً حتى يسعى الناس فيه . إذن فالمسعى ليس هو المكان المحدد فقط ، ولكن جوه أيضا له قدسية؛ فإن بنينا كذا طابقا فهي تصلح أيضا كمسعى .
إذن فجو الأرض ينطبق عليه ما ينطبق على الأرض . ولذلك كانوا يُحرمون - قبل أن يوجد طيارون مسلمون - أن يُحَوِّم في جو الحرم طيار غير مسلم؛ لأن الطيار غير المسلم مُحرم عليه أن يدخل الكعبة والحرم .
(1/2140)

ومادام هناك إنسان ممنوع من دخول الكعبة فهو أيضا ممنوع من الطيران في جَوّ الكعبة .
أن جَوّ المكان يأخذ قُدسية المكان أو حكمه؛ فالجَوّ من الأرض ، ونعرف أن الغلاف الجوي يدور مع الأرض . ومن هذا نعرف العطاءات القرآنية من القائل لكلامه وهو سبحانه الخالق لكونه . ومادام القائل للقرآن هو الخالق للكون ، إذن لا يوجد تضارب بين حقيقة كونية وحقيقة قرآنية . وإنما يوجد التضارب من أحد أمرين : إما أن نعتبر الأمر الذي لا يزال في طور النظرية حقيقة في حين أنها لم تصبح حقيقة بعد؛ وإما أن نفهم أن هذا حقيقة قرآنية ، على الرغم من أنه ليس كذلك ، فإذا كان الأمر هو حقيقة كونية بحق وحقيقة قرآنية بحق ، فلا تضارب على الإطلاق . ودليل ذلك على سبيل المثال قول الحق سبحانه : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام } [ لقمان : 34 ]
ويأتي العلم الحديث بالبحث والتحليل ، ويقول بعض السطحيين :
لا ، إن العلم يعرف ما في الرّحم من ذكر أو أنثى . ونقول : نحن لا نناقش ذلك؛ لأنها حقيقة كونية وهي لا تتصادم مع الفهم الصحيح للحقيقة القرآنية؛ لكننا نسأل : متى يعرف العلماء ذلك؟ هم لا يعرفون هذا الأمر إلا بعد مُضي مُدة زمنية ، ولكن الحق يعلمه قبل مرور أية مدة زمنية . ثم مَن قال : إن الحق يقصد ب { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام } ذكراً أو أنثى فحسب؟ وهل لمدلولها وجه واحد؟ لا ، بل له وجوه متعددة فلن يعرف أحد أن ما في الرحم سيكون من بعد إنساناً طويلاً أو قصيراً؛ ذكيا أو غبيّاً؛ شقيّاً أو سعيداً؛ طويل العمر أو قصير العمر؛ حليماً أو غضوباً . فلماذا نحصر " ما " في مسألة الذكر والأنثى فقط؟
إنه هو سبحانه يعلم المستقبل أزلاً قبل أن يعلم أي عالم وقبل أن يحصل العالم على أية عينة . ثم هل تذهب كل حامل إلى الطبيب ليفحص معملياً ما الذي تحمله في بطنها؟ طبعاً لا ، ونحن لا نعلم ماذا في بطنها ولكن الخالق الأعظم يعلم . ثم هل تذهب كل النساء الحوامل في العالم لطبيب واحد؟ بالطبع لا ، ولكن الخالق الأعظم يعلم ما في كل الأرحام .
إذن فالحقيقة القرآنية لم تصطدم بأية حقيقة كونية ، لكن الصدام يحدث عندما نفهم فهما خطأ أن الحقيقة القرآنية في قوله الحق : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام } مقصود به العلم بالذكر والأنثى فقط .
ومثال آخر ، يقول الحق : { والأرض مَدَدْنَاهَا } [ الحجر : 19 ]
ويُخطئ البعض الفهم عن الله فيظن أن المقصود بذلك أن الأرض بساط أمام الإنسان . وقد ثبتت للبشر حقيقة كونية هي ان الأرض كروية بالأدلة خلال رحلة ماجلان ثم بالقواعد الخاصة بوضع الأعمدة؛ وظهور أعالي الأشياء قبل أسافلها وغير ذلك ، ثم صارت في عصرنا مُشاهدة من الأقمار الصناعية . إذن هذه الحقيقة الكونية لا كلام فيها ، وكان الخطأ هو فهم مدلول الحقيقة القرآنية والفهم الصواب في مدلول الحقيقة القرآنية الخاصة بقوله تعالى : { والأرض مَدَدْنَاهَا } ؛إننا كلما وقفنا في مكان نجد أرضا ، أي أن الأرض لا نهاية لها وليس لها حافة .
(1/2141)

إذن فسبحانه قد مَد الأرض أمام الإنسان بحيث إذا سار الإنسان في أي اتجاه؛ يجد أرضاً . ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية . لهذا كان الخطأ في فهم مدلول الحقيقة القرآنية؛ لأن التضارب إنما ينشأ من فهم أنها حقيقة كونية وهي ليست كذلك ، أو من فهم أنها حقيقة كونية وهي ليست كذلك ، أو من فهم أنها حقيقة قرآنية على نحو خاطئ ، إنهما لا تتعارضان ، فالقائل هو الخالق عينه . ولهذا عرفنا متأخراً أن الجو من الأرض وأن الغلاف الجوي يدور مع الأرض ، وكنا نقول : سرنا على الأرض لكنه سبحانه قال وهو العليم : { سِيرُواْ فِي الأرض } [ الأنعام : 11 ]
وهو سبحانه علم أزلاً أن الجو جزء من الأرض . فمهما سار الإنسان على اليابسة ففوقه الغلاف الجوي . إذن فالإنسان إنما يمشي في الأرض وليس على الأرض . أما إن سار الإنسان فوق الغلاف الجوي فهو يسير فوق الأرض .
ونعود إلى قوله الحق : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } وقد عرفنا أن النفي هو الطرد والإبعاد ، فأي أرض ينفون منها وإلى أي أرض؟ ولا يكون الطرد إلا لمستقر ولا الإبعاد إلا لثابت . وحتى في اللغة نعرف ما يسمى النفي والإثبات . وكل ذلك مأخوذ من شيء حِسي؛ فعندما نأخذ الماء من البئر نُنزل إلى قاع البئر دلواً ، وكل دلو ينزل إلى البئر له " رِشاء " وهو الحبل الذي نُنزل بواسطته الدلو .
إننا ساعة نُخرج الدلو من البئر ، يكون قد أخذ من الماء على قدر سعته وحجمه . فهل لدينا حركة ثابتة نستطيع بها المحافظة على استطراق الماء إلى تمام حافة الدلو؟ طبعاً هذا أمر غير ممكن؛ بل نجد قليلا من الماء يتساقط من حوافي الدلو ، وهذا الماء المتساقط يُسمى " النَّفِي "؛ لأننا لا نستطيع استخراج الدلو وهو ملآن لآخره بحركة ثابتة مستقرة بحيث تحافظ على استطراق الماء .
إن الماء - كما نعلم - له استطراق دقيق إلى الدرجة التي جعلت البشر يصنعون منه ميزاناً للاستواء . ومن " النَفْي " تؤخذ معان كثيرة ، فهناك " النفاية " وهي الشيء الزائد . إذن كيف يكون النفي من الأرض؟ وهل نأخذ الأرض بمفهومها العام أو بمعناها الخاص؟ أي الأرض التي حدث فيها قطع الطريق؟
إن أخذناها بالمعنى الخاص فالنفي يكون لأي أرض أخرى . وإن أخذنا الأرض بالمعنى العام فكيف يكون النفي؟ ونرى أن الحق سبحانه قد قال في موضع آخر من القرآن : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض } [ الإسراء : 104 ]
هم بلا جدال يسكنون في الأرض .
(1/2142)

وجاء هذا القول لمعنى مقصود ونعرف أننا لا نذكر السكن إلا ويكون المقصود تحييز مكان في الأرض ، كأن يقول قائل : " اسكن ميت غمر " أو " اسكن الدقهلية " أو " اسكن طنطا " ، وهذا تحديد لموقع من الأرض للاستقرار ، والمعنى المقصود إذن أن الحق يبلغنا أنه سيقطعهم في الأرض تقطيعاً بحيث لا يستقرون في مكان أبدا . وذلك مصداقا لقول الله : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً } [ الأعراف : 168 ]
فليس لهم وطن خاص . وتمت بًعْثَرَتُهم في كل الأرض ، وهذا هو الواقع الذي حدث في الكون . أَوُجِدَ لبني إسرائيل استقرار في أي وطن؟ . لا . وحتى الوطن الذي أقاموه بسبب وعد بلفور لم يترك الحق أمره . بل أعطى وعده للمؤمنين بأن يدخلوا المسجد إذا ما أحسنوا العمل لاسترداده . ومازال اليهود بطبيعتهم شتاتاً في أنحاء الأرض . ولهم في كل وطن حيّ خاص بهم . وتحتفظ كل جماعة منهم في أي بلد بذاتيتهم ولا يذوبون في غيرهم : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ]
وحين يأتي بهن الحق في الجولة الآخرة سيأتون لفيفاً أي مجتمعين؛ لأن الأُمّة المؤمنة حين يقوّيها الله لتضرب على هؤلاء القوم ضربة لا بد أن يكونوا مُجتمعين . وكأن الله قد أراد أن يكون هذا " الوطن القومي " حتى يتجمعوا فيه وبعد ذلك يرسل الضربة عليهم لأنه جاء بهم لفيفاً؛ لذلك لا نحزن لأنه قد صار لهم وطن ، فقد جاء بهم لفيفاً .
ونعود إلى الآية التي نحن بصددها . كيف يكون النفي من الأرض؟ حين يرد الله تَحييز مكان فهو يقول على سبيل المثال : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } [ المائدة : 21 ]
إذن فقد نفى غيرها . وهو يقول أيضاً : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } [ الأعراف : 110 ]
وكان المقصود بها مصر .
فإذا أخذنا الأرض بالمعنى العام فحكمها حُكم " اسكنوا الأرض " . والنفي هو صورة من صور العقوبات للإفساد ، والإفساد في الأرض ينقسم إلى أربعة أقسام؛ قتل ، قتل وأخذ مال ، أخذ مال فقط ، ترويع . وقد زاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئاً وفعله في سيرته ، فقد جاء بنا بأمر جديد في أمر الإفساد . وكان على العلماء أن ينتبهوا له ، فأول نفي حصل في الإسلام كان نفي رسول الله الحَكَم بن أبي العاص من المدينة إلى الطائف؛ لأن الحكم - والعياذ بالله - كان يُقلّد مِشّيَة النبيّ باستهزاء ، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما يَتَحدَّر من صَبَبٍ . فقد كانت مشية النبي مشية خاصة . وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحَكَمَ يقلد مِشيته في استهزاء والتفت النبي - ذات مرة - فجأة ، فوجد الحكم يقلده في مِشيته فنفاه من المدينة إلى الطائف ، وظل الحكم في الطائف طوال حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم .
(1/2143)

فلما جاءت خلافة أبي بكر الصديق ، ذهب أهل الحَكَم إلى أبي بكر ، فقال :
- ما كنت لأحلّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذهبوا إلى عمر بن الخطاب فلم يوافق . وعندما جاءت خلافة عثمان وكان رضي الله عنه حَيياً وخجولاً فقال : لقد أخذت كلمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحمل شبهة الإفراج عنه . ويفرج عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وأثناء حياة الحَكَم في الطائف كان يربي بعض شُويهات وبعض غُنيمات وكان يرعاها عند جبيلات الطائف . وكان لهذه المسألة آثار من بعد ذلك . فأنتم تعلمون أن معاوية رضي الله عنه أنجب يزيد الذي تولّى الخلافة من بعده . وانتقلت الخلافة بعد يزيد لآل مروان بن الحَكَم .
وكان خالد بن يزيد الذي ترك الخلافة لمروان عالماً كبيراً في الكيمياء وله أخ اسمه عبد الله ، وكان لعبد الله جياد يتسابق بها . وكان لولد من أولاد عبد الملك بن مروان جياد أيضاً ، وجرت جياد عبد الله مع جياد ابن عبد الملك في مضمار سباق ، فلما جاءت خيل عبد الله لتسبق . . حدث خلاف بين عبد الله وابن عبد الملك؛ فنهر ابن عبد الملك عبد الله ، فذهب عبد الله واشتكى لأخيه خالد . وهنا ذهب خالد لعبد الملك بن مروان ، وقال له :
- لقد حدث من ابنك لأخي كذا وكذا . وكان عبد الملك فصيحاً في العرب وما جربوا عليه لحناً أبداً . وربّى أولاده على ألا يلحنوا في اللغة . وكان له ولد اسمه الوليد غير قادر على استيعاب النطق الصحيح للغة دون لحن .
فلما دخل خالد إلى عبد الملك أراد أن يجد فيه شيئاً يعيبه به ، قال عبد الملك لخالد : أتكلمني في عبد الله وقد دخل عليّ آنفاً فلم يخل لسانه من اللحن؟
وقال خالد - معرضا بالوليد - : والله يا عبد الملك لقد أعجبتني فصاحة الوليد . فقال عبد الملك : إن يكن الوليد يلحن فإن أخاه سليمان لا يلحن . فقال خالد : وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالداً لا يلحن .
فقال عبد الملك : اسكت يا هذا فلست في العيرٍ ولا في النفير .
وأظن أن قصة العير والنفير معروفة . فالعير هي التي كانت مع أبي سفيان وعليها البضائع من الشام وتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نجا بها أبو سفبان . والنفير هم الجماعة التي استنفزها أبو سفيان من مكة لأنه خاف من المسلمين وكانت زعامتهم لعتبة . فالعير كانت زعامته لأبي سفيان والنفير كانت زعامته لعتبة بن ربيعة ، وكان عتبة هو جدّ خالد لأمه ، وأبو سفيان هو جدّه لأبيه . فقال خالد : ومن أولى بالعير وبالنفير مني ، جدّي أبو سفيان صاحب العير ، وجدي عُتّبة صاحب النفير ، ولكن لو قلت غنيمات وشويهات وجبيلات وذكرت الطائف ورحم الله عثمان لكان أولى .
(1/2144)

وأسكته .
إذن . فالنفي كان أول عقاب أنزله الرسول صلّى الله عليه وسلم ، فهل ما فعله " الحَكَم " يُعتبر فساداً؟ . ونقول : إن كل فساد غنما يترتب على الفساد الذي يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان الحَكَم يستهزئ بمِشية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد يقول مُشرّع ما : إن السجن يقوم مقام النفي ونقول : لا ، إن السجن الآن فيه الكثير من الرفاهية . فقد كان السجن قديماً أكثر قسوة . والهدف من السجن الإبعاد لتخفيف شرور المُفسِد وإن كان لا يبعده عن مستقره ووطنه . وذلك أمر متروك للحاكم يفعله كيف يشاء وخاصة إذا لم يكن هناك أرض إسلامية متعددة . بحيث يستطيع أن ينفيه من أرض إلى أرض أخرى .
ويتبع الحق هذا بقوله : { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا القول لاحق لعقاب محدد للمفسدين في الأرض المحاربين لله ورسوله وهو : { أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } . وهذه العقوبات خزي لهم .
إن كلمة " خزي " ترد في اللغة بمعنيين؛ مرة بمعنى الفضيحة ، " خَزِيَ ، يَخْزِي ، خِزياً " ، أي انفضح ، ومرة ثانية هي " خَزِي ، يَخْزَي ، خَزاية وَخَزِّي " بمعنى استحى . والمعنيان يلتقيان ، فمادام قد افتضح أمر عبدٍ فهو يستحي مما فعل . وتلك الأفعال خزي ، كالذي قطع طريقاً على أناس آمنين ، ونقول لمثل صاحب هذا الفعل : إن قوّتك ليست ذاتية بل قوّة اختلاسية؛ فلو كانت قُوّتك ذاتية لاستطعت أن تتأبّى لحظة أن يأخذوك ليقتلوك أو يصلبوك أو يقطعوا يدك ورجلك . فقد اجترأت على العُزَّل الذين ليست لهم استطاعة الدفاع عن أنفسهم ، وفي هذا خزي لك . خصوصاً وأنت ترى من كانوا يخافونك وأنت تنال العقاب . وخزيك الآن هو مقدمة لعذاب آخر في الآخرة ، فسوف تنال عذاباً عظيماً .
{ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وكل جزاء في الدنيا إنما يأتي على قدر طاقات البشر في العقاب ، ولكن ماذا إذا وكُلُّوُا إلى طاقة الطاقات؟ . ها هي ذي عدالة الحق تتجلّى فهو سبحانه وتعالى يفسح المجال للمُسرفين على أنفسهم؛ أولاً بالتوبة؛ لأن الله الرّحيم بعباده لو أخذ كل إنسان بجريرة فعلها أو عاقب كل صاحب ذنب بذنبه لاستشرى في الأرض فساد كل من ارتكب ذنباً لنه يئس من رحمة الله فتشتد ضرواته وقسوته . وسبحانه فتح باب التوبة لكل من الذين فعلوا ذلك استيقظ ضميره ، فإن تاب قبل أن تقدروا عليه فهناك حُكْم ، أما إن تاب بعد أن يقدر عليه المجتمع فلا توبة له .
ويقول الحق : { إِلاَّ الذين تَابُواْ . . . }
(1/2145)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
ومادام الإنسان قد تاب وقام بتسليم نفسه دون أن يقدر عليه المجتمع فقبول التوبة حَقٌّ له ، ويجب أن نأخذ { أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في نطاق ما جعله الله لنفسه ، أما ما جعله الله لأولياء المُعتدى عليهم فلا بد من العقاب للمعتدي إن طلبه أصحابه .
{ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والقرآن يجعل من المنهج الإيماني عجينة واحدة . لذلك يُقسّم المسائل إلى فصول كالتقنيات البشرية التي تُبوّب؛ لذلك نجد القرآن يعامل الأقضية وكأنها فُرص استيقاظ للنفس؛ لذلك يأخذ النفس إلى أمرٍ توجيهي بالطاعة .
وضربنا من قبل المثل حينما تكلم القرآن عن مسائل الأسرة في سورة البقرة : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 237 ]
ومن بعد ذلك يأتي إلى أمر الصلاة : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 238 - 239 ]
وضع الله - إذن - الصلاة بين أمرين من أمور الأسرة ، حيث قال من بعد أمره بالحفاظ على الصلاة حتى أثناء القتال : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 240 ]
وجاء بأمر الحفاظ على الصلاة بين المشكلات الأسرية ، وذلك ليجعل الدين لبنة واحدة ، وأيضاً لأن النفس المشحونة بالبغضاء وزِحام أمور الزواج والوصيّة والطلاق؛ هذه النفس عندما تقوم إلى الصلاة لله فهي تهدأ . ولنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُسوةٌ حسنة . فقد كان إذا حَزَبَه أمرٌ واشتد عليه قام إلى الصلاة .
إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يأتي بأمور الدين كأبواب منفصلة ، باب الصلاة ، وآخر للصوم ، وثالث للزكاة ، لا . بل يمزج كل ذلك في عجينة واحدة . ولذلك فعندما أنزل بالمفسدين المحاربين لله عقاب التقتيل والتصليب والتقطيع والنفي . كان ذلك لتربية مهابة الرُّعب في النفس البشرية . وساعة يستيقظ الرُّعب في النفس البشرية يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . }
(1/2146)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
لقد أخرجنا من جَوٍّ صارمٍ وحديث في عقوبات إلى تقوى الله . والتقوى - كما نعرف - أن يجعل الإنسان بينه وبين ما يؤذيه وقاية .
وعرفنا أن الحق سبحانه الذي يقول { اتقوا الله } هو بعينه الذي يقول " اتقوا النار " ، وعرفنا كيف نفهم تقوى الله . بأن نجعل بيننا وبين الله وقاية . وإن قال قائل :
إن الحق سبحانه يطلب منا أن نلتحم بمنهجه وأن نكون دائماً في معيَّته . فلنجعل الوقاية بيننا وبين عقابه . ومن عقابه النار .
إذن فقوله الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله } أي أن نتقي صفات الجلال ، والنار من خلق الله وجنده . وقوله سبحانه : { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } أي نبحث عن الوُصْلة التي تُوصّلنا إلى طاعته ورضوانه وإلى محبّته . وها هناك وسيلة إلا ما شرَّعه الله سبحانه وتعالى؟ وهل يتقرَّب إنسان إلى أي كائن إلا بما يعلم أنه يُحبّه؟ .
وعلى المستوى البشري نحن نجد من يتساءل : ماذا يُحب فلان؟ . فيقال له : فلان يُحب ربطات العنق؛ فيُهديه عدداً من ربطات العُنق . ويقال أيضاً : فلان يحب المسبحة الجيدة ، فيحضر له مسبحة رائعة . إذن كل إنسان يتقرّب إلى أي كائن بما يُحب ، فما بالنا بالتقرب إلى الله؟ . وما يُحبه سبحانه أوضحه لنا في حديثه القدسي :
" من عادى لي وليَّاً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أَحبّ إليَّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه "
فالحق سبحانه وتعالى يفسح الطريق أمام العبد ، فيقول سبحانه في الحديث القدسي :
" ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل "
أي أن العبد يتقرب إلى الله بالأمور التي لم يلزمه الحق بها ولكنها من جنس ما افترضه سبحانه ، فلا ابتكار في العبادات . إذن فابتغاء الوسيلة من الله هي طاعته والقيام على المنهج في " افعل " و " لاتفعل " .
والوسيلة عندنا أيضاً هي منزلة من منازل الجنة . والرسول صلّى الله عليه وسلم طلب منا أن نسأل الله له الوسيلة فقال :
" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة "
ولا نريد أن ندخل هنا في مجال التوسل بالنبي أو الأولياء؛ لأنها مسألة لا يصح أن تكون مثار خلاف من أحد .
(1/2147)

فبعضهم يحكم بكفر هؤلاء .
ونقول لمن يكفر المتوسلين بالنبي أو الولي : هذِّبوا هذا القول قليلاً؛ إنّ حدوث مثل هذا القول هو نتيجة عدم الفهم ، فالذي يتوسل إلى النبي أو الولي هو يعتقد أن له منزلة عند الله . وهل يعتقد أحد أن الوليّ يجامله ليعطيه ما ليس له عند الله؟ . طبعا لا . وهناك من قال : إن الوسيلة بالأحياء مُمكنة ، وأن الوسيلة بالأموات ممنوعة . ونقول له : أنت تضيق أمراً مُتسعاً؛ لأن حياة الحي لا مدخل لها بالتوسل ، فإن جاء التوسل بحضرته صلّى الله عليه وسلم إلى الله ، فإنك قد جعلت التوسل بحبك لمن علمت أنه أقرب منك إلى الله؛ فحُبك له هو الذي يشفع . وإياك أن تظن أنه سيأتي لك بما لا تستحق .
والجماعة التي تقول : لا يصح أن نتوسل بالنبي؛ لأن النبي انتقل إلى الرفيق الأعلى ، نقول لهم : انتظروا قليلاً وانتبهوا إلى ما قال سيدنا عُمر - رضوان الله عليه -؛ قال : كنا في عهد رسول الله إذا امتنع المطر نتوسل برسول الله ونستسقي به . ولما انتقل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، توسل بعمه العباس . وقالوا : لو كان التوسل برسول الله جائزاً بعد انتقاله لما عدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن التوسل بالنبي بعد انتقاله ، وذهب إلى التوسل بعم النبي . ونسأل : أقال عمر " كنا نتوسَّل بنبيك والآن نتوسَّل إليك بالعباس؟ أم قال : والآن نتوسل إليك بعم نبيك "؟ .
ولذلك فالذين يمنعون ذلك يوسعون الشقة على أنفسهم؛ لأن التوسُّل لا يكون بالنبي فقط ولكن التوسل أيضاً بمن يمت بصلة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم . فساعة يتوسل واحد إلى غيره يعني أنه يعتقد أن الذي توسل به لا يقدر على شيء ، إنني أتوسل به إلى الغير لأني أعرف أنه لا يستطيع أن ينفذ لي مطلوبي . إذن فلنبعد مسألة الشرك بالله عن هذا المجال ، ونقول : نحن نتوسل به إلى غيره لأننا نعلم أن المتوسل إليه هو القادر وأن المتوسل به عاجز . وهذا هو منتهى اليقين ومنتهى الإيمان .
ولكن المتوسِّل به قد ينتفع وقد لا ينتفع ، وعندما توسَّل سيدنا عمر بالعباس عَمّ النبي كان يفعل ذلك من أجل المطر . والمطر في هذه الحالة لا ينتفع به رسول الله لذلك جاء بواحدٍ من آل البيت وكأنه قال : " يا ربُّ عمُّ نبيك عطشان فمن أجله نريد المطر " .
إذن فتوسُّل عمر بن الخطاب بعم النبي دليل ضد الذين يمنعون التوسل بالنبي بعد الانتقال إلى الرفيق الأعلى . وحتى نخرج من الخلاف . نقول : إن العمل الصالح المتمثل في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " هو الوسيلة الخالصة .
(1/2148)

وبذلك نخلص من الخلاف ولا ندخل في متاهات .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ولنر الإيثار الإيماني الذي يريد الحق أن يُربّيه في النفس المؤمنة بتقوى الله التي تتمثل في الابتعاد عن مَحارِمه ، وابتغاء الوسيلة إلى الله في اتباع أوامرِه .
إن الدِّين لم يأتِكَ من أَجل نفسك فحسب ، ولكن إيمانك لن يصبح كاملاً إلا أن تُحب لأخيك ما تحبه لنفسك ، فإن كنت قد أحببت لنفسك أن تكون على المنهج فاحرص جيداً على أن يكون ذلك لإخوانك أيضاً . وإخوانك المؤمنون ليسوا هم فقط الذين يعيشون معك ، ولكن هم المقدر لهم أن يوجدوا من بعد ذلك . ولذلك عليك أن تجاهد في سبيل الله لتعلو كلمة الله . وهكذا تتّسع الهِمَّةُ الإيمانية ، فلا تنحصر في النفس أو المعاصرين للإنسان المؤمن . ولذلك يضع لنا الحق الطريق المستقيم ويوضحه ويبيّنه لنا .
وكانت بداية الطريق أن المؤمن بالله حينما وثق بان لله نعيماً وجزاءً في الآخرة هو خير مما يعيشه قدَّم دمه واستشهد؛ لذلك قال صحابي جليل : أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فإما أن أقتلهم وإما أن يقتلوني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم .
وألقى الصحابي تمرات كان يأكلها ودخل المعركة .
لا بد إذن أنه قد عرف أن الحياة التي تنتظره خير من الحياة التي يعيشها؛ ومع ذلك لم يضع الله الجهاد كوسيلة في أول الأمر ، بل طل يأمرهم بالانتظار والصبر حتى يُرَبِّيَ من يحملون الدعوة . فلن يجعلها سبحانه عملية انتحارية .
وبعد ذلك نرى أثناء رحلة الدعوة للإسلام أن صحابياً يحزن لأنه في أثناء القتال قد أفلت منه عمرو بن العاص ، وأن خالد بن الوليد قد هرب . وتثبت الأيام أن البشر لا يعرفون أن علم الله قد ادّخر خالداً وأنجاه من سيف ذلك الصحابي من أجل أن ينصر الإسلام بخالد . وكذلك عمرو بن العاص قد ادَّخره الله إلى نصرٍ آخر للإسلام .
إذن فالجهاد في سبيل الله ضمانٌ للمؤمن أن يظل المنهج الذي آمن به موصولاً إلى أن تقوم الساعة ، وذلك لا يتأَتّى إلا بإشاعة المنهج في العالم كله . والنفس المؤمنة إذا وقفت نفسها على أن تجاهد في سبيل الله كان عندها شيء من الإيثار الإيماني . وتعرف أنها أخذت خير الإيمان وتُحب أن توصّله إلى غيرها ، ولا تقبل أن تأخذ خير الإيمان وتحرم منه المعاصرين لها في غير ديار الإسلام ، وتحرص على أن يكون العالم كله مؤمناً ، وإذا نظرنا إلى هذه المسألة نجدها تمثل الفهم العميق لمعنى الحياة ، فالناس إذا كانوا أخياراً استفاد الإنسان من خيرهم كله ، وإذا كانوا أشراراً يناله من شرِّهم شيء .
إذن فمن مصلحة الخيِّر أن يشيع خيره في الناس؛ لأنه إن أشاع خيره فهو يتوقع أن ينتفع بجدوى هذا الخير وأن يعود عليه خيره؛ لأن الناس تأمن جانب الرجل الطيب ولا ينالهم منه شر .
(1/2149)

لأنه يحب أن يكون كل الناس طيبين وعلى ميزان الإيمان؛ لأنهم إن كانوا على ميزان الإيمان فالطيب يستفيد من خيرهم . أما إن بقي الناس على شرِّهم وبقي الإنسان الطيب على خيره ، فسيظل خير الطيب مبذولاً لهم ويظل شرُّهم مبذولاً للطيب .
إذن من حكمة الإيمان أن " يعدّي " الإنسان الخير للغير . وإن دعوة المؤمن إلى سبيل الله ، ومن أجل انتشار منهج الله لا بد من الإعداد لذلك قبل اللقاء في ساحات المعارك؛ فقبل اللقاء مع الخصم في ساحة المعركة لا بد من حُسْنِ الإعداد . وعندما يعدّ المؤمن نفسه يجد أن حركة الحياة كلها تكون معه؛ لأن الدعوة إلى الله تقتضي سُلوكاً طيباً ، والسُلوك الطيب ينتشر بين البشر ، وهنا يقوى معسكر الإيمان ، فيرتقي سلوكاً وعملاً ، وعندما يقوى معسكر الإيمان يمكنه أن يستخرج كنوز الأرض ويحمي أرض الإيمان بالتقدم الصناعي والعلمي والعسكري . والحق يقول : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ]
سبحانه أنزل القرآن وأنزل الحديد ، ويتبع ذلك : { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب } [ الحديد : 25 ]
وجاء معنى البأس من أجل ذلك ، وهذا هو السبب الثاني الذي أوصانا به الحق :
إياكم أن تأخذوا منهج الله فقط الذي ينحصر في " افعل ولا تفعل " ولكن خذوا منهج الله بما يحمي منهج الله وهو التقدم العلمي باستخراج كنوز الأرض وتصنيعها كالحديد مثلاً ، فسبحانه كما أنزل القرآن يحمل المنهج ، فقد أنزل الحديد وعلى الإنسان مهمة استنباط الحديد والمواد الخام التي تُسَهّل لنا صناعة الأجهزة العلمية ونقيم المصانع التي تنتج لنا من الحديد فولاذاً ، ونحوِّل الفولاذ إلى دروع ، ونصنع أدق الأجهزة التي تُهِّيئ للمقاتل فُرصة النصر . وكذلك نَدّخر المواد الغذائية لتكفي في أيام الحرب .
إذن حركة الحياة كلها جهاد ، وإياك أن تقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة ، ولكن أعدّ نفسك للمعركة؛ أنك إن أعددت نفسك جيّداً وعلم خصمك أنك أعددت له ، ربما امتنع عن أن يحاربك . والذي يمنع العالم الآن من معركة ساخنة تدمره هو الخوف من قِبَل الكتل المتوازنة لأن كل دولة تُعدّ نفسها للحرب . ولو أن قوة واحدة في الكون لهدمت الدنيا .
وقول الحق : { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ } نأخذه على أنه جهاد في سبيل منهج الله؛ وندرس هذا المنهج ونفهمه وبعد ذلك نجاهد فيه باللسان وبالسِّنان ، ونجاهد فيه بالكتاب ونجاهد فيه بالكتيبة .
إذن فقوله الحق : { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ } يصنع أمة إيمانية مُتحضرة ، حتى لا تترك الفرصة للكافر بالله ليأخذ أسباب الله وأسراره في الكون . فمن يعبد الإله الواحد أولى بسرّ الله في الوجود ، ولو فرضنا أنه لن تقوم حرب ، لكننا نملك المصانع التي تنتج ، وعندنا الزراعة التي تكفي حاجات الناس ، عندئذ سنحقق الكفاية . وما لا تستعمله في الحرب سيعود على السلام . ويجب أن تفهموا أن كل اختراعات الحياة التقدمية تنشأ أولأً لقصد الحرب ، وبعد ذلك تهدأ النفوس وتأخذ البشرية هذه الإنجازات لصالح السلام .
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . }
(1/2150)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
الحق سبحانه تحدث من قبل عن العقوبات والقصاص والتقتيل والتقطيع ، ثم ينقلنا من هذا الجو إلى أن نتقي الله ونبتغي إليه الوسيلة ونجاهد في سبيله حتى نفلح ، وكان لا بد أن يأتي لنا الحق بالمقابل ، فالعقاب الذي جاء من قبل كقصاص وقتل هو عقاب دنيوي . ولكن ما سيأتي في الآخرة أدهى وأمرّ . { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ]
ولنا أن نتصور الجماعة الكافرة التي تتكبر في الدنيا ويعتلون ويرتفعون بالجبروت ، فماذا عن موقفهم يوم القيامة؟ . لقد اقمتم الجبروت بقوَّتكم على غيركم ، وها هي ذي القُوّة تضيع وتفلت . لقد كانت القوة تعيش معكم في الدنيا بالأسباب الممنوحة من الله لكم . ولم تَضنّ عليكم سُننْ الله أن ترتقوا ، وسبحانه قد خلق السُنَن ومن يبحث في أسباب الله ، ينلْ نتيجة ما بذل من جهد ، لكن ها هوذا يوم القيامة ، وها أنتم أولاء تعرفون أن الأسباب ليست ذاتية . وأن قوَّتكم لم تكن إلا عطاءٌ من الله . ها أنتم أولاء أمام المشهد الحيّ ، فلو أن ما في الدنيا جميعاً معكم وحتى ولو كان ضعف ما في الدنيا وتريدون أن تقدِّموه فِدْيَةً لكم من عذاب جهنم فالله لا يتقبله ، وتلك قِمِّة الخِزْي ، ولن يستطيعوا تخليص أنفسهم من عذاب جهنم .
وهذا المشهد يجعل النفس تستشعر أن المسألة ليست لعباً ولا هزلاً ، ولكن هي جِدّ في منتهى الجِدّ . وعلى الإنسان أن يقدِّر العقوبة قبل أن يستلذّ بالجريمة . والذي يجعل النس تستَشري في الإسراف على أنفسهم ، أن الواحد منهم يعزل الجريمة عن عقوبة الجريمة . ولو قارن الإنسان قبل أن يسرف على نفسه العقوبة بالجريمة لما ارتكبها . وكذلك الذي يكسل عن الطاعة؛ لو يقارن الطاعة بجزائها لأسرع إليها .
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نفترض أن إنساناً في صحراء نظر إلى أعلى الجيل ورأى شجرة تفاح ، واسْتَدَلّ على التفاح بأن رأى تُفاحة عَطبة واقعة على الأرض ، وقال الرجل لنفسه : هأنذا أرى مصارع الناس؛ فهذا يصعد إلى الجبل فيقع من على حافته . وذلك تهاجمه الذئاب . وثالث يتوه عن الطريق . كل ذلك على أمل أن في الشجرة ثماراً . ولا بد لي من أن أختار الطريق السليم إلى الثمار . والطريق إلى ثمار الدنيا الطاعة لمنهج الله ، وهو الطريق إلى ثمار الآخرة .
وأيضاً : الطالب المجتهد الذي يتغلب على النعاس ويتوضأ ويًصلّي ويخرج إلى مدرسته في برد الشتاء ليحصل الدروس . ويعود إلى المنزل لتقدّم له أمه الطعام ، ولكنه مشغول بالدرس . إن هذا الشاب يستحضر نتيجة هذا الجُهد؛ لذلك فكل تعب في سبيل التعلُّم صار سهلاً عليه ، ولو أهمل ونام ولم يقم مبكراً إلى المدرسة ، وإن استيقظ وخرج من المنزل ليتسكع في الطرقات مع أمثاله؛ يكون في مثل هذه الحالة غير مُقدِّر للنتيجة التي تقوده إليها الصَّعْلَكة .
(1/2151)

والعيب في البشر أنهم يعزلون العمل عن نتيجته ، ويفصلون بين الجريمة وعقوبته ، والطاعة عن ثوابها . إنّنا لو وضعنا النتيجة مقابل العمل لما ارتكب أحد معصية ولا أهمل أحد في طاعة .
ولنا أن نتصور مشهد الجبارين في الدنيا وهم في نار الآخرة ، عم بطشوا في الدنيا ونهبوا ، ولنفترض أن الواحد منهم قد امتلك كل ما في الدنيا - على الرغم من أنّ هذا مستحيل - وفوق ذلك أخذ مثل ما في الدنيا معه ويريد أن يقدمه افتداء لنفسه من عذاب جهنم فيرفضه الحق منه { مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وتلك هي قمة الخزي التي يجب أن يبتعد عنها الإنسان .
وبعد ذلك يقول الحق : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ . . . }
(1/2152)

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
وكلما مَسَّهم لفحُ النار يريدون أن يخرجوا منها ، لكن كيف تأتي لهم إرادة الخروج من النار . لا بد - إذن - أن لحظة لفحها عليهم وتقبلهم هنا وهناك تدفعهم ألسنة اللهب إلى القرب من الخارج فيظنون أن العذاب قد انتهى . ألم يقل الحق سبحانه من أجل أن يضع أمامنا التجسيد الكامل لبشاعة الجحيم : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ } [ الكهف : 29 ]
هذا القول يُوحى أولاً بأن رحمةً ما ستصل إليهم ، ولكن ما يأتي بعد هذا القول يرسم الهول الكامل ويجسده : { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه } [ الكهف : 29 ]
وهذه قمة الهول . وهناك فرق بين الابتداء المُطمع والانتهاء المُوئِس .
مثال ذلك السجين العطشان الذي يطلب كوب ماء . ويستطيع السجّأن أن يقول له : لا . ليس هناك ماء . أما إذا أراد السجان تعذيبه بأكثر من ذلك فهو يقول له : سآتي لك بالماء ويحضر له كوباً من ماء زلال ، ويمد السجين يده لكوب الماء ، لكن السجان يسكب كوب الماء أرضاً . هذا هو الابتداء المُطْمع والانتهاء المُوئِس . وكذلك رغبتهم في الخروج من النار؛ فلا إرادة لَهم في الخروج إلا إذا كانت هناك مظنة أن يخرجوا نتيجة تقليب ألسنة اللهب لهم ، ولذلك يقول الحق أيضاً عن هؤلاء : { فَبَشِّرْهُم } [ آل عمران : 21 ]
وتثير البُشرى في النفس الأمل في العفو ، فيفرحون ولكن تكون النتيجة هي : { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ]
وهكذا يريد لهم الحق صدمة الألم الموئس بعد الرجاء المطمع . { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ المائدة : 37 ]
وبعد ذلك ينقلنا الحق إلى قوله سبحانه : { والسارق والسارقة . . . }
(1/2153)

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
جاء الحق من قبل بعقاب قطاع الطريق والمفسدين في الأرض ، وهنا يأتي بقضية أخرى يريد أن يصون بها ثمرة حركة المؤمن في مجتمعه؛ لأن الإيمان يحب من المؤمن أن يتحرك ، وحتى يتحرك الإنسان لا بد أن يضمن الإنسان ثمرة حركته . أما إن تحرك الإنسان وجاءت الثمرة ثم جاء من يأخذها فلا بد أن يزهذ المتحرك في الحركة ، وحين يزهد الإنسان في الحركة يتوقف تقدم الوجود؛ لذلك من حظنا أن تستمر حركة الحياة ، ولا تستمر حركة الحياة إلا إذا أمن الإنسان على حركته ، وأن تكون حركته فيما شرع الله .
وحين يتحرك الإنسان فيما شرع الله ويكسب من حلال؛ فليس لأحد دخل؛ لأن حركة هذا الإنسان تفيد المجتمع سواء أكان ذلك في باله أم لم يكن .
وقلنا من قبل : إن الرجل الذي يملك مالاً يكتنزه يجد الحق يأمره بأن يستثمر هذا المال؛ لأنه سبحانه أمر بفتح أبواب الخير لمن يجد المال ، فيدفع بخاطر بناء عمارة شاهقة في قلب صاحب المال ، فيقول الرجل لنفسه : إن المال عندي مكتنز فلأبني لنفسي عمارة ، ويزين له الحق هذا الأمر . ويفكر الرجل في أن يبني عمارة من عشرة طوابق وفي كل طابق أربع شقق ، وليكن إيجار كل شقة مائة جنيه . وهو حصيلة شهرية لا بأس بها .
لقد حسب الرجل المسألة وهو لا يدري أن الله سبحانه وتعالى يقذف في باله الخواطر ، فيُسرع ليشتري قطعة الأرض . وبعد ذلك يأتي بمن يُصمّم بنيان العمارة ومن يقوم بالبناء ، وتخرج النقود المكتنزة . وهكذا نرى أن الثرى قبل أن ينتفع بعمارته كان غيره قد انتفع بماله حتى أكثر طبقات المجتمع فقرا . ويحدث كل ذلك بمجرد الخاطر . ولكل إنسان خواطره ، فالبخيل له من يسرف في ماله ، والكريم له من يكتنز من ماله . وإياك أن تظن أن هناك حركة في الوجود خارجة عن إرادة الله . فالحق يقول : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ } [ آل عمران : 89 ]
وهم يفعلون ذلك لأن الذنوب تطاردهم ، فيعوضون ذلك بإصلاح أعمالهم . ولذلك نجد أن الخير إنما يأتي من المسرفين على أنفسهم فيريدون إصلاح أمورهم وليس هناك من يستطيع أن يأخذ شيئاً من وراء الله . { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ]
كأن الحق سبحانه وتعالى بمجرد الخواطر يدفع الناس إلى ما يريد . نعم . فهو غيب قيّوم؛ ولذلك يكون تدبيره في الكون غيباً . وفي قرانا يخصّصون يوماً للسّوق ونرى ساحته في اليوم المُخصص ونتأملها فنتعجب من إبداع مُحرّك الكون؛ ففي الصباح يسير رجال إلى السوق ومعهم عصيّهم ولا يحملون شيئاً . وهؤلاء ذاهبون لشراء ما يحتاجون إليه ، وآخرون يسوقون أمامهم العجول أو الحمير ، وهؤلاء يذهبون لبيع بضائعهم . ونرى نساء تحمل كل واحدة منهُن صنفاً من الخضار فنعرف أنهن يذهبن للبيع في السوق .
(1/2154)

ونرى أخريات يحملن سِلالاً فارغة ، ونعرف أن كلاً منهن ذاهبة للشراء . وفي آخر النهار نرى المسألة معكوسة ، من كان يحمل في الصباح شيئاً حمله غيره ، فمن الذي هيّج الخواطر ليذهب من يرغب في البيع إلى السوق ليبيع؟
من الذي حرّك الشاري للشراء؟ هو الحق سبحانه يحقق للرّاغب في البيع أن يوجد المشتري ، ويحقق للراغب في الشراء أن يوجد البائع . إنه ترتيب الحيّ القيّوم . ونسمع من يقول : لقد أنزلنا في السوق اليوم عشرين طناً من الطماطم وأربعين طناً من الكوسة . وغيرها من الأطنان . ونجد آخر النهار أن كل شيء قد بيع . إنها خواطر الله المتوازنة في الناس والتي توازن المجتمع .
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المُتحرّك . ويُريد أيضاً ألاّ يقتات الإنسان أو يتمتّع بغير مجهود؛ لأن من يسرق إنما يأخذ مجهود غيره . وهذا الفعل يُزَهِّدُ الغير في العمل .
إن في الإسلام قاعدة هي : عندما تكثر البطالة يقال لك لا تتصدق على الناس بنقود من ملكك ، ولكن افتح أي مشروع ولو لم تكن في حاجة إليه كأن تحفز بئراً وتردمها بعد ذلك وأعط الأجير أجره حتى لا يتعوّد الإنسان على الكسل ، بل يجب تعويده على العمل ، ومن لا يقدر على العمل فلا بد له من ضمان . فضمان الإنسان لقوته يكون من عمله أولاً ، فإن لم يكن قادراً على العمل ، فضمانه من أسرته وقرابته ، فإن لم توجد له أسرة أو قرابة ، فأهل محلّته مسئولون عنه ، وإن لم يستطع أهل القرية أو المحلّة أن يوفّروا له ذلك ، فبيت المال عليه أن يتكفّل بالفقراء .
إذن فالأرضية الإيمانية تَحثُّنا على أن نضمن للإنسان العمل ، أو نعوله ونقوم بما يحتاج إليه إن كان عاجزاً . ولكن الآفة أن بعضاً من الناس يحبُّون عملاً بذاته ، فهذا يرغب في التوظّف في وظيفة لا عمل فيها ، ونقول له :
في العالم المعاصر أزمة عمالة زائدة فتعلّم أي مهارة؛ فما ضنت الحياة أبداً على طالب قوت من عمل .
ولنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأُسْوَة حين أقام أول مزادٍ في الإسلام . عندما جاء له رجلٌ من الأنصار يسأله ، فقال له :
" أما في بيتك شيء . قال الرجل : بلى ، حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقَعْبٌ - أي قدح - نشرب فيه من الماء . قال : إيتني بهما . فأتاه بهما . فأخذهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده وقال : من يشتري هذين؟ قال رجل : أنا آخذهما بدرهم . قال : من يزيد على درهم؟ - مرتين أو ثلاثا - ثال رجل : أنا آخذهما بدرهمين . فأعطاهما إياه ، وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري وقال : اشتر بأحدهما طعاماً فنبذه - أي أَلْقِهِ - إلى أهلك ، واشتر بالآخر قَدُوماً فائتني به "
(1/2155)

إذن أشار النبي صلّى الله عليه وسلم على الرجل وأمره بأن يحضر الحِلْس الذي ينام عليه والقدح الذي يشرب فيه ، حتى يعرف الرجل أنه تَاجَر في شيء يملكه ، لا في عطاء من أحد . وجاء الرجل إلى حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ووجد أن النبي قد سوّى له يداً لقدوم وقال للرجل :
" اذهب فاحتطب وبعْ ، ولا أرينَّك خمسة عشر يوماً "
وذهب الرجل يحتطب ويبيع امتثالاً لأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وجاء بعد خمسة عشر يوماً وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً .
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم :
" هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة "
هذه هي التربية .
إذن فالغرض الأساسي أن يحمي الإسلام أفراد المجحتمع ، فالذي لا يجد قُوتَه نساعده بالرأي وبالعلم والقدرة والقوة . والخير أن نعلّمهم أن يعملوا لأنفسهم . ولذلك جاء الحق لنا بقصة ذي القرنين المليئة بالعِبَر : { حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [ الكهف : 93 ]
أي أنه لا توجد صلة للتفاهم . ولكنهم قالوا : { قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } [ الكهف : 94 ]
وها هو ذو القرنين يعلن أنه في غير حاجة إليهم ، ولكن يكلفهم بعمل حتى يحقق لهم مُرادهم : { آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ]
ومن العجيب أن القرآن عندما يحكي أمراً فهو لا يحكيه إلا لهدف ، هم طلبوا من ذي القرنين أن يبني سدّاً ، لكنه اقترح أن يجعل لهم رَدماً ، ما الفرق؟ لقد تبين من العلم الحديث أن السَدّ قد تحدث له هزّة من أي جانب فينهدم كله ، أما الرّدْم فإن حدثت له هزّة يزددْ تماسكاً . ولم يعمل ذو القرنين لهم ، ولكن علّمهم كيف يصنعون الرَّدْم ، وذلك حتى لا يعيشوا مع الإحساس بالعجز . وهكذا يُعلّمنا القرآن أن الإنسان لا بد له من عمل . لكن ماذا إن سَرَق؟ .
أولاً ما هي السَّرقة؟ إنها أَخذُ مالٍ مقوّم خفية . فإن لم يكن الأخذ خفية فهو اغتصاب ، ومرة أخرى يكون خطفاً ، ومرة رابعة يكون اختلاساً .
فالأَخْذُ له أنواع مُتعددة؛ فالتاجر الذي يقف في دكانه ليبيع أي شيء ، وجاء طفلٌ صغير وخطف قطعةً من الحلوى وجرى ولا يستطيع التاجر أن يطول الطفل أو أن يقدر على الإمساك به ، هذا خَطْف . أما الذي يغتصب فهو الذي قهر صاحب الشيء على أن يتركه له . أما الاختلاس فهو أن يكون هناك إنسان أمين على مال فيأخذ منه ، أما السرقة فهي أخذ لمال مقوَّم خفية وأن يكون في حرز مثله؛ أي يكون في مكان لا يمكن لغير المالك أن يدخله أو يتصرف فيه إلا بإذنه .
(1/2156)

أما الذي يترك بابه مفتوحاً أو يترك بضاعته في الشارع فهو المُقصّر ، فكما يأمرنا الشرع بألا يسرق أحد أحداً ، كذلك يأمر بعد الإهمال ، بل لابد للإنسان أن يعقل أشياءه ويتوكَّل . وسبحانه هو المُشرّع العَدْل الذي يُقيم اليقظة علىلجانبين . حدّد الشّرع السرقة بما قيمته ربع دينار . وربع الدينار في ذلك الزمن كان كفي لأن يأكل إنسان هو وعياله ويزيد ، بل إن الدرهم كان يكفي أن يقيم أود أسرة في ذلك الوقت .
وكيف نقوِّم ربع الدينار في زماننا؟ . لإن كان لا يكفي لمعيشة ، فيجب أن ترفع النصاب إلى ما يُعيش ، ومادام الدينار كان في ذلك الزمان ذهباً؛ فربع الدينار ترتفع قيمته . وقديماً كان الجنيه الذهب يساوي سبعة وتسعين قرشاً ونصف القرش . أما الجنيه الذهب حاليا فهو يساوي أكثر من مائتين وسبعين جنيهاً ، وقد يكون هناك إنسان يسرق لأنه محتاج أو جائع ، ولذلك وضع الشرع له قدرا لا يتجاوزه المحتاج لحفظ حياته وحياة من يعول هو الدرهم . وسرقة الدرهم لا حد فيها كما لا إثم فيها ، وذلك إذا استنفذ كل الطرق المشروعة في الحصول على القوت ، ونعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الدرهم للرجل وقال :
" اشتر طعاماً لك ولأسرتك "
وكان الدرهم - كما قلنا - يكفي في ذلك الزمن . والدرهم جزء من اثني عشر جزءا من الدينار ، فربع الدينار ثلاثة دراهم ، والدرهم يساوي في زمننا هذا أكثر من عشرين جنيها .
والسطحيون يقولون : إن سيدنا عمر ألغى حَدّ السّرقة في عام الرّمادة؛ ونقول لهم : لا ، لم يسقط عمر بن الخطاب الحد ، فالحد باقٍ ولكنه لم يدخل الحادثة التي حصلت فيما يوجب الحد . والحادثة التي حدثت في عام الرمادة أو عام الجوع هي وجود الشبهة . وبفطنته كأول أمير للمؤمنين ، لم يدخل الحوادث فيما يوجب الحد . وفي مسألة عبدالرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة . عندما سرق غلمانه ، فماذا حدث؟ قال الغلمان لعمر : كنا جوعى ولم يكن ابن أبي بلتعة يعطينا الطعام . ودرأ سيدنا عمر الحَدَّ بالشُّبهة .
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المتحرك وثمرة حركة المتحرك . ، لكن بعض السطحيين في الفهم يقولون مثل ما قال المعرّي :
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَتْ ... ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقضْ ما لنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
وهنا ردّ عليه العالِم المؤمن فقال :
أنت تعترض لأننا نعطي ديِة اليَد خمسمائة دينار ، وعندما يسرق إنسان . نقطع يد السارق لأنها أخذت ربع دينار .
وقال العالم المؤمن :
عِز الأمانة أغلاها وأرخصها ... ذُل الخيانة فافهم حكمة الباري
ونلاحظ أن التشريعات الجنائية وتشريعات العقوبات ليست تشريعات بشرية ، لكنها تشريعات في منتهى الدقة .
(1/2157)

بالله لو أن مُقنّنا يقنن للسارق أو السارقة ، ويُقَنّن للزاني والزانية ماذا يكون الموقف؟
إن الذي يتكلم هو رب العالمين ، فقال هنا : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . والسرقة عادة ما تكون رغبة في الحاجة وهي غالبا ما تكون من عمل الرجل . أما في الزاني والزانية ، فلو أن الرجل لم يُهّيج ويستثر بجمال امرأة لما فكر في الزِّنا . إذن فهي صاحبة البداية . وينص سبحَانه على العقوبة وجاء بالحكمة . وعندما يُشرع للقصاص وهي الحالة التي يغلي فيها دم أقارب القتيل ، فيقول : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 178 ]
ولنر الحَنانَ الموجود في كلمة " أخيه " . ولا نجد تقنينا يدخل التحنين بين سطوره ، إلا تقنين الرَّب الذي خلق الإنسان وهو أعلم به .
{ والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } . هذا ما انتهى إليه حَد السّرقة في تشريعات السماء ، وحتى في زمن سيدنا موسى كان السّارق يُستَرَق بسرقته؛ أي يتحوَّل الحُرّ إلى عَبد نتيجة سرقته . ولذلك نلاحظ ونحن نقرأ سورة سيدنا يوسف : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ } [ يوسف : 70 ]
و " السقاية " هي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك ، وكان اسمها " صواع الملك " وأخذوها ليكيلوا بها . وبعد أن جعل السقاية في رحل أخيه ، ماذا حدث؟ { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 70-72 ]
وهنا قال إخوة يوسف بأنهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض ، لذلك ترك لهم يوسف الأسلوب في تحديد الجزاء ، ولم يحاكمهم بشرع الملك : { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلك نَجْزِي الظالمين } [ يوسف : 75 ]
لقد جعلهم يعترفون ، ويحاكمهم حسب شريعتهم لأن شرع الملك أن من يسرق شيئا عليه أن يغرم ضعفي ما أخذ .
وهذا ما يوضح معنى قول الحق سبحانه وتعالى : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } [ يوسف : 76 ]
أي أنها حياة ليستبقي يوسف أخاه معه . ولو استعمل قانون مصر في ذلك الزمن لما أخذ أخاه معه . وهذا كيد لصالح يوسف؛ لأن " اللام " تفيد الملكية أو النفعية . وأضاف إخوة يوسف قائلين : { قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ } [ يوسف : 77 ]
ولماذا قالوا ذلك؟ أصل هذه المسألة أن يوسف كان يحيا عند عمته . وعندما كبر وأرادوا أن يأخذوه أرادات العمة أن تستبقيه فدست في متاعه تمثالاً . أو منطقة كانت لها من أبيها إسحاق وادعت أنها فقدت ذلك؛ ففتشوا الولد فعثروا معه على الشيء الذي ادعت عمته سرقته فاستبقته بشرع بني إسرائيل . وكان جزاء السرقة في الشريعة هو الاسترقاق . ونُسِخ هذا الشرع وجاءت آية حد السرقة تأكيداً للنسخ .
(1/2158)

وإن لم يكن قد نُسخ فهذه الآية هي بداية للنسخ . { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
والسُّنة هي التي تبين لنا كيفية القطع ، وكان القطع لليد اليمنى؛ لأنها عادة التي تباشر مثل ذلك العمل . وفي إحدى رحلاتي إلى أمريكا ، حدثني أخ مسلم ضمن جماعة تحضر إحدى محاضراتي وقال : إن التَّيَمُّن يجب أن يكون في كل شيء ، فلماذا يأكل البعض بيده اليسرى؟
قلت : إن هذه مسألة تكوينية بدليل أن بعض الناس أجهزتها تختلف ، فليست المسألة ميكانيكية . وأضفت : إن من خيبة بعض الاختراعات البشرية أنها لا تخطئ كالحاسب الآلي . ولو كان ينتقي ويختار لأمكن أن يخطئ ، أما العقل فهو يعرف الانتقاء . وقلن : إنني أطلب من السائل أن يقف . فلما وقف طلبت منه أن يتقدم جهتي فلما تقدم جهتي مَد رجله اليمنى ، فقلت تعليقا على هذا : " إنه تكوين خلقي " . ولذلك فالذي عنده ولد تتأبى عليه يمينه فإياك أن تُرغِمه على ذلك لأن مثل هذه العملية أرادها الخالق لتَشُذّ في الخبق ، ولتظهر قدرة الخالق .
فلا داعي لقهر الابن الذي تتأبَى عليه يَمينه؛ لأن العلماء قالوا إن مراكز السيطرة ليست في اليد ولكن في المخ . وقد أوجد الحق تلك الأمور في الكون حتى نفهم أن خالق الكون لم يخلق الكون وتركه بسننه ، لا . أنه يخرق السنن كلما أراد . لكن لو تأبى إنسان على استعمال اليد اليمنى في الأكل مثلا وهو قادر على ذلك فإنه يكون مخالفا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومجافيا للفطرة .
{ فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً } وإذا سمعنا كلمة " كسب " فهي تعني الأخذ لأكثر من رأس المال . والسارق يكسب السيئة لأنه أخذ ما فوق الضرورة . والنكال : العقاب أو هو العبرة المانعة من وقوع الجرم سواءً لمن ارتكب الجريمة وكذلك لمن يراها . والحق يقول عن بعض الأمور : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ]
وضرورة الإعلان عن تنفيذ عقوبة الفعل المؤَثِّم من أجل الاعتبار والعظة ، فالتشريع ليس من بشر لبشر ، إنما تشريع خالق لمخلوق . والخالق هو الذي صنع الصنعة فلا تتعالم على خالق الصنعة . والشريعة لا تقرر مثل هذا العقاب رغبة في قطع الأيدي ، بل تريد أن تمنع قطع الأيادي .
وإن ظل التشريع على الورق دون تطبيق فلن يرتدع أحد . والذين قالوا " قطع الأيدي فعل وحشي " ، نقول لهم : إن يداً واحدة قطعت في السعودية فامتنعت كل سرقة . وإذا كان القتل أنفى للقتل؛ فالقطع أنفى للقطع ، أما عن مسألة التشويه التي يطنطنون بها فحادثة سيارة واحدة تشوه عدداً من الناس وكذلك حادثة انفجار لأنبوبة " بوتوجاز " تفعل أكثر من ذلك .
(1/2159)

فلا تنظروا إلى القصاص مفصولا عن السرقة إن انتشرت في المجتمع . وإبطاء القائمين على الأمر للإجراءات التي يترتب عليها العقوبات ينسي المجتمع بشاعة الجريمة الأولى ، وعندما يحين وقت محاكمة المُجرم تكون الرحمة موجودة .
لكن إن وُقِّعَ العقاب سَاعَة الجُرم تنته المسألة . وساعة يسمع اللصوص أننا سنقطع يد السارق ، سيفكر كل منهم قبل أن يسرق ولا يرتكب الجُرم؛ لأن المُراد من الجزاء العبرة والعِظة ومقصد من مقاصد التربية وتذكرة للإنسان بمطلوبات الله عنده إن أخذته الغفلة في سياسة الحياة فالجزاء هنا نكالا أي عقابا و " نكولا " وهو الرجوع عن فعل الذنب أي العبرة المانعة من وقوع الجُرم . فكأن الجزاء كان المقصود منه أن يرى الإنسان من قطعت يده فيمتنع عن التفكير في مثل ما آلت إليه هذه الحالة .
أو أن يحافظ الذي قُطعت يده على ما تبقى من جوارحه الباقية؛ لأنه قد قُطِعت يمينه وإن عاد قُطِعت يساره ، فإن عاد قُطِعت رجله اليمنى ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ويكون النكال لمنع الرجوع للجريمة ، وهو إما رجوع ممن رأى العقوبة تقع على السارق أو الرجوع من السارق نفسه إن رأى أي جارحة من جوارحه قد نقصت . فيحرص أن تظل الجوارح الباقية له . ويعامل الحق خلقه بسُنة كونية هي : أن من يأخذ غير حقِّه يُحَرم من حَقه . ومثال ذلك قوم من بني إسرائيل قال الله حكما فيهم : لقد استحللتم ما حرمته عليكم فلا جزاء لكم إلا أن أضيق عليكم وأحرم عليكم ما أحللت لكم . فقال : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ]
إذن ليس في قدرة أحد أن يضحك على الله أو أن يخدع الله أو أن يأخذ ما ليس حقا له . فإن أسرف الإنسان في تعاطي أشياء حرمها الله عليه فسيأتي وقت يحرمه الله فيه من أشياء حللها له كالذي أسرف في شُرب الخمر أو في تناول المواد المخدِّرة التي تغيب عن الوعي ، يبتليه الحق بما يجعله محروماً من مُتع أخرى كانت حلالا . وإن أسرف الإنسان مثلا في تناول الحلوى . فإن المرض يأتيه ، ويحرم الله عليه أشياء كثيرة .
ولو قاس المسرف على نفسه ما أحله لنفسه بما حرمه الله عليه لوجد الصفقة بالنسبة له خاسرة . فالذي أسرف بغير حق في أن يأكل مال احد ، يرى ماله وهو يضيع أمام عينيه . ولنا في ذلك المثل . كان السادة في الريف - قديما - يقومون بتنقية الدقيق إلى درجة عالية حتى يصبح في تمام النقاء من " الردة " . ويسمون هذا النوع من الدقيق " الدقيق العَلاَمَة " وكانوا يأكلون منه ويتركون البقية من الدقيق مختلطا بالردة ليأكله الخدم أو الفقراء ، فتأتي فترة يُحرم الأطباء عليهم هذا الدقيق الأبيض ، ولا يجد الواحد منهم طعاما إلا الدقيق " السِّن " الذي كان يرفضه قديما فعلينا - إذن - أن ننظر إليها كقضية سائدة في الكون كله ، ولنجعل قول الله أمامنا :
(1/2160)

{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ]
فأنت إن أخذت كسب يد واحدة يحرمك الحق من يدٍ لا من كسب . فإن زدت حرمك الله من جارحة أخرى ، وهكذا . وتلك سُنَّة كونية تعدل نظام الكون بالنسبة للناس ، وخصوصا من يستبطئون جزاء الآخرة ، ومن يُغْريهم ويَغُرهم ويطمعهم حِلْم الله عليهم .
وأنت إذا ما نظرت وصنعت لنفسك رُقعة جغرافية في البيئة التي تعيش فيها في أسرتك ، أو حيك ، أو بلدك أو أمتك ، فأنت تجد قوما قد حرموا بأنفسهم من غير أن يحرم عليهم أحد ، فتجد واحداً مصاباً - والعياذ بالله - بالبولينا : ولا يقدر أن يأكل قطعة من اللحم ، أو آخر مصابا بمرض السكر؛ وتراه غير قادر على أن يأكل قطعة من الحلوى ، أو ملعقة من العسل . لأن أحداً لن يستطيع أن يأخذ شيئا بدون علم الله . وصنع الله ذلك لأنه عزيز لا يُغلَب . فإياك أن تظن أن بإمكانك أخذ شيء من وراء شرع الله أو تظن انك خدعت شَرع الله ، فهو سبحانه عزيز لا يُغلَب أبداً . ونرى في حياتنا الذين يأخذون أموالاً بغير حق رشوة أو سرقةً أو اختلاساً ، نرى مصارف هذه الأشياء أو الرشاوي أو الأموال قد ذهبت وأنفقت في مهالك ومصائب؛ إننا نجدها قد أخذت ما أخذوه من حرام ، ومالت وجارت على ما كسبوه من حلال . وأريد من المسرفين على أنفسهم أن يضعوا لأنفسهم كشف حساب ، فيكتبوا في ناحية القرش الذي كسبوه من حرام ، ويكتبوا في ناحية أخرى كل قرش كسبوه من حلال . وليشاهد كل مسرف على نفسه في أكل حقوق الناس المصائب التي سيبتليه الله بها ، ولسوف يجد أنه قد صرف لمواجهة المصائب كل الحرام وبعضا من الحلال . ولذلك قال الأثر الصالح : " من أصاب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر " .
وكنت أعرف اثنين من الناس ، ولكل واحد منهما ولد في التعليم . وكنت أجد أحدهما يعطي ولده خمسة قروش . فيقول الابن لأبيه : معي مصروف الأمس " . وكان الآخر يعطي ولده عشرة قروش فيقول الابن له : " إنها لا تكفي شيئاً " . وشاء الحق أن يجمعنا نحن الثلاثة في مكتب وزارة الري بالزقازيق ، فلما جئنا لنخرج إذا برئيس كتاب تلك المصلحة يأتي بظرف أصفر كبير به أشياء كثيرة ويناوله لواحد منهما ، فسألته : ما هذا؟ فقال : بعض من الورق الأبيض وبعض من ورق النشاف وعدد من الأقلام حتى يكتب الأولاد واجبهم المدرسي . فقلت له : هذا سر خيبة أولادك الدراسية وإسرافهم والدروس الخصوصية التي تدفع فيها فوق ما تطيق وسر قول ابنك لك : إن القروش العشرة لا تكفي شيئا .
(1/2161)

أما الشخص الآخر فابنه يقول له : لا أريد مصروف يد اليوم لأن معي خمسة قروش هي مصروف أمس ولا أريد أن آخذ دروسا خصوصية لأني أحب الاعتماد على نفسي .
وسبحانه الحق القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم . ويقول لنا بلاغا :
قال أبو الجلد : " أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء : قل لقومك : ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي؟ إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي ، وإن كنتم ترون أني أراكم قَلِمَ تجعلونني أهون الناظرين إليكم " .
إذن قوله الحق : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } واضح تماما ، ويردف الحق قوله هذا : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وسبحانه عزيز لا يغلبه أحد ، حتى الذي يسرق ، إنما يسرق الرزق المكتوب له؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الشيء المسروق رزق أيضا لأنه يُنتفَع به . ووالله لو صبر لجاءه وطرق عليه بابه . فإياكم أن تحتالوا على قدر الله؛ لأنه حكيم في تقديره .
وكلمة " حكيم " لها في حياتنا قصة ، كنا ونحن في مقتبل حياتنا التعليمية نحب الأدب والشعر والشعراء ، وبعد أن قرأنا للمعري وجدنا عنده بعضا من الشعر يؤول إلى الإلحاد ، فزهدنا فيه وخصوصا عندما قرأنا قوله في قصيدته :
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
وأخذنا من ذلك القول أنّه ينكر البعث؛ فقلنا : يغنينا الله عنه . ولكن صديقنا الشيخ فهمي عبداللطيف - رحمه الله - رأى المعري في الرؤيا وكان مولعا بالمعري ، فجاء إلى ذات صباح ونحن في الزقازيق وقال لي : يا شيخ لقد رأيت المعري الليلة في الرؤيا وهو غاضب منك أنت لأنك جفوته . فقلت : أنا جفوته لكذا وكذا وأنت تعلم السبب في ذلك . وقال الشيخ فهمي عبداللطيف : هذا ما حصل .
وقلت لنفسي : يجب أن أعيد حسابي مع المعري ، وجئنا بدواوينه " سقط الزند " و " لزوم ما لا يلزم " . ووجدنا أن للرجل عُذراً في أن يعتب علينا؛ لأن آفة الناس الذين يسجلون خواطر أصحاب الفكر أنهم لا ينظرون إلى تأريخ مقولاتهم ، وقد قال المعري قوله الذي أنكره عليه وقت أن كان شابا مفتونا بفكره وعندما نضج قال عكسه . وكثير من المفكرين يمرون بذلك ، مثل طه حسين والعقاد ، بدأ كل منهما الحياة بكلام قد يؤول إلى الإلحاد ولكنهما كتبا بعد النضج ما يحمل عطر الإيمان الصحيح؛ لذلك لا يصح لمن يحكم عليهم أن يأخذهم بأوليات خواطرهم التي بدأوها بالشَّك حتى يصلوا إلى اليقين . وجلست أبحث في المعري الذي قال :
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
فوجدته هو نفسه الذي قال بعد أن ذهبت عنه المراهقة الفكرية :
(1/2162)

زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
كأنه عاد إلى حظيرة الإيمان :
وكذلك قال المعري :
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَتْ ... ما بالها قُطِعَت في ربع دينار
وقال بعد ذلك :
تناقض مالنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
وقلت للشيخ فهمي عبداللطيف : للمعري حق في العتاب وسأحاول أن أعاود قراءة شعره ، والأبيات التي أرى فيها خروجا سأعد لها قليلا . وعندما جئت إلى ذلك البيت . قلت : لو أنه قال - وأنا أستأذنه - :
لحكمةٍ ما لنا إلا الرضاء بها ... وأن نعوذ بمولانا من النار
فَلكل شيء حكمة . وحين نرى طبيباً يمسك طفلا قلبه لا يتحمل المُرِقد - أي البنج - أثناء إجراء عملية جراحية ، فهل يظن ظان أن الطبيب ينتقم من هذا الطفل؟ طبعا لا ، إذن فلكل شيء حكمة ، ويجب أن ننظر إلى الشيء وأن نربطه بحكمته . والله عزيز أي لا يغلبه أحد ولا يحتال عليه أحد . وهو حكيم فيما يضع من عقوبات للجرائم؛ لأنه يزن المجتمع نفسه بميزان العدالة . ومن بعد ذلك يفتح الحق سبحانه باب التوبة رحمة لمن يتوب ورحمة للمجتمع؛ لذلك يقول الحق : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ . . . }
(1/2163)

فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
والسارق ظالم؛ لأنه أخذ حق غيره ، فإن تاب أي ندم على الفعل وعزم على ألا يعود شريطة ألا تكون التوبة بالكلام فقط ، بل يصلح ما أفسده ، هنا تُقبَل التوبة . ولكن كيف يفعل ذلك؟
إذا كان الشيء المسروق في حوزته فعليه أن يرده إلى صاحبه . وإن كان قد تصرف فيه فعليه أن يأتي لصاحب الشيء ويستحله ويقول له : كنت في غفلة نفسي وفي زهوة الشيطان مني ففعلت كذا وكذا . وأعتقد أن أي إنسان سرق من إنسان آخر وبعد فترة اعترف له وطلب العفو منه فأنا أقسم بالله أنه سيعفو عنه راضيا . وبذلك يستحل الشيء الذي أخذه . لكن ماذا إن كان السارق لا يعرف صاحب الشيء المسروق . كلص " الأتوبيسات "؟
إن كان قد سرق محفظة نقود من شخص ووجد العنوان يستطيع أن يرد الشيء المسروق بحوالة بريدية من مجهول تحمل قيمة المبلغ المسروق ويطلب فيها السماح عن السرقة . وإن لم يعرف من سرقة فعليه أن يقول : الله أعلم بصاحب هذا المبلغ وأنا سأتصدق به في سبيل الله وأقول : يا رب ثوابه لصاحبه .
إذن فوجوه الإصلاح كثيرة . وإن كان يخجل من رد الشيء المسروق فليقل : فُضُوح الدنيا أهون من فُضُوح الآخرة . وفي القرآن تأتي آيات كثيرة عن التوبة : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } [ التوبة : 118 ]
كأن توبة الله مكتوبة أولا؛ ثم يتوب العبد من بعد ذلك . وسبحانه يقول : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ } [ طه : 82 ]
وللتوبة - كما نعلم - ثلاث مراحل . فالحق حين شرع التوبة كان ذلك إذناً بها . وبعد ذلك يتوب العبد ، فيتوب الله عليه ويمحو عنه الذنب ويكون الغفران بقبول الله للتوبة . ولذلك يقول الحق : { فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وَصِفَةُ المغفرة وصِفَةُ الرحمة كل في مطلقها تَكُون لله وحده ، وهي توبة للجاني ورحمة للمجني عليه . وكلمة { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } توضح لنا أنه سبحانه له طلاقة القدرة في أن يغفر وأن يرحم . فإياك أن تقول : إن فلانا لا يستحق المغفرة والرحمة؛ لأنه سبحانه مالك السماء والأرض ، وهو الذي أعطى للبشر ما يستحقون بالحق الذي أوجبه على نفسه ، وله طلاقة القدرة في الكون؛ ولذلك يقول الحق من بعد ذلك : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله . . . }
(1/2164)

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
ويستخدم الحق سبحانه من أساليب البيان ما يخرجنا عن الغفلة ، فلم يقل : " الله له ملك السموات والأرض " ، ولو كان قد قال ذلك لكان الأمر خَبَراً من المتكلم وهو الله ، ولكنه يريد أن يكون الخبر من المُخَاطَب إقراراً من العبد . ولا يخرج الخَبَر مَخرج الاستفهام إلا وقائل الخبر واثِقٌ من أن جواب الاستفهام في صالحه؛ والمثال على هذا هو أن يأتيك إنسان ويقول : " انت تهملني " . فتقول : أنا أحسنت إليك .
ولكن إن أردت أن تستخرج الخَبَر منه فأنت تقول : ألم أُحْسِن إليك؟ وبذلك تستفهم منه ، والاستفهام يريد جوابا . فكأن المسئول حين يجيب عليه أن يدير ذهنه في كل مجال ولا يجد إلا أن يقول : نعم أنت أحسنت إليّ . ولو جاء ذلك من المتكلم لكانت دعوى ، لكن إن جاءت من المُخاطَب فهي إقرار ، ومثال ذلك قول الحق : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ]
إنه خَبرٌ من المتكلم والإقرار من المتلقي . وقد يقول قائل ولماذا لم يقل الحق : " أشرحنا لك صدرك "؟ كان من الممكن ذلك ، ولكن الحق لم يقلها حتى لا يكون في السؤال إيحاء بجواب الإثبات بل جاءت بالنفي .
وفي قوله الحق : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 40 ]
نجد منطوق الآية ليس دعوى من الحق ، ولكنه استفهام للخلق ليديروا الجواب على هذا ، فلا يجدوا جواباً إلا أن يقولوا : { للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } . وهذا أسلوب لإثبات الحجة والإقرار من العباد ، لا إخباراً من الحق : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } ، وقد يقول إنسان : إن هناك أجزاء من الأرض ملكا للبشر . ونقول : صحيح أن في الأرض أجزاء هي ملك للبشر ، ولكن هناك فرق بين أن يملك إنسان ما لا يقدر على الاحتفاظ به . . كملك البيت والأرض ، إنه مِلْك - بكسر الميم - لمالك . وهناك " مُلْك " - بضم الميم - لِمَلِكٍ هو الله . وفي الدنيا نجد أن لكل إنسان ملكية ما . ولكن المَلِك في الأرض يملك القرار في أملاك شعبه ، وهذا في دنيا الأسلوب ، أما في الآخرة فالأسباب كلها تمتنع : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ]
فلا أحد له مُلكٌ يوم القيامة .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } والقارئ بإمعان للقرآن يجد فيه عبارات تجمع بين أمرين أحدهما يتقدم ، والآخر يتأخر . ويأتي الأمر في أحيان أخرى بالعكس . ولكن هذا القول هو الوحيد في القرآن الذي يأتي على هذا النسق ، فكل ما جاء في القرآن يكون الغفران مقدّماً على العذاب؛ لأن الحق سبحانه قال في الحديث القدسي :
(1/2165)

" إن رَحمتي سبقت غَضبي "
فلماذا جاء العذاب في هذه الآية مقدماً على الغُفران : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } هل السبب هو التَّفنَّن في الأساليب؟ لا؛ لأن جمهرة الآيات تأتي بالغفران أولاً ، ثم بالوعيد بالعذاب لمن يشاء سبحانه . ولننظر إلى السّياق . جاء الحديث أولاً عن السارق والسارقة ، وبعد ذلك عمّن تاب . فالسرقة إذن تقتضي التعذيب ، والتوبة تقتضي المغفرة ، إذن فالترتيب هنا منطقي .
ونلحظ أن هذا القول قد جاء بعد آية السرقة وبعد آية الإعلام بأن له مُلْكَ السموات والأرض . ولذلك كان لا بد من تذييل يخدم الاثنين معاً . ليؤكد سيطرة القدرة . وحين يريد الحق أن يرحم واحداً . فليس في قدرة المرحوم أن يقول : " لا أريد الرحمة " . وحين يعذب واحداً لن يقول المعذَّب - بفتح الذال - : " لا داعي للعذاب " . فسيطرة القدرة تؤكد أنه لا قدرة لأحد على رَدِّ العذاب أو الرحمة . إذن فالآية قد جاءت لتخدم أغراضاً مُتعددة . فإن حسبناها في ميزان الأحداث فللحق كل القدرة . وإن حسبناها في ميزان الزمن ، فكيف يكون الأمر؟ .
نعرف أن التعذيب للسّرقة قسمان . . تعذيب بإقامة الحَدّ ، وفي الآخرة تكون المغفرة . إذن فالكلام منطقي مُتَّسق .
إنني أقول دائماً : إياكم أن تُخدَعوا بأن الكافر يكفر ، والعاصي يعصى دون أن ينال عقابه؛ لأن من تعوَّد أن يتأبَى على منهج الله ، فيكفر أو يعصي لا بد له من عقاب . لقد تمرَّدَ على المنهج ، ولكنه لا يجرؤ على التَمرُّد على الله .
إن الإنسان قد يتمرد على المنهج فلا يؤمن أو لا يقيم الصلاة ، لكن لا قدرة لإنسان أن يتمرد على الله ، لأنه لا أحد يقدر على أن يقف في مواجهة الموت ، وهو بعضٌ من قُدْرةِ الله . وسبحانه وتعالى يحكم ما يريد . وقد أراد أن يوجِد للإنسان اختياراً في أشياء ، وأن يقهر الإنسان على أشياء ، فيا من مرَّنت نفسك على التمرّد على منهج الله عليك أن تحاول أن تتمرّد على صاحب المنهج وهو الله . ولن تستطيع لا في شكلك ولا لونك ولا صحتك ولا ميعاد موتك . وليفتح كل مُتَمرِّد أذنيه ، وليعرف أنه لن يقدر على أن يَتمرَّد على صاحب المنهج وهو الله . إذن صدق قول الله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { ياأيها الرسول . . . }
(1/2166)

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
نأتي في النِّداء بحرف الإقبال وهو " يا " وندخله على " المُنادى " أي أنك تطلب إقباله . فهل نطلب إقباله لمجرد الإقبال أو لشيء آخر؟ مثال ذلك قول الحق : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ]
إذن النِّداء هنا لتلاوة التكليف عليهم . وحين يُنادي الحق سبحانه وتعالى أشرف من ناداهم وهم رُسُله ، ونجد أنه نادى كل الرُّسل بمُشخَّصاتِهم العَلَمِيّة . ( يا آدم ) ، والمُشَخّص العَلمَي هو الاسم ، وهو لا يعطي وصفاً إلا تشخيص الذات بدون صفاتها .
وكذلك نادى الحق إبراهيم عليه السلام : { ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } [ الصافات : 104-105 ]
وكذلك نادى الحق نوحاً : { يانوح اهبط بِسَلاَمٍ } [ هود : 48 ]
وكذلك نادى الحق موسى عليه السلام : { ياموسى إني أَنَا الله } [ القصص : 30 ]
وكذلك نادى الحق عيسى ابن مريم عليه السلام : { ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ]
كُل الرُّسُل ناداهم الحق بالمُشَخِّص العَلَمي الذي لا يعطي إلا التشخيص ، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتم الرُّسُل ما ناداه الله باسمه أبداً ، إنما ناداه الله بالوصف الزائد عن مُشَخَّصات الذات فيقول : { ياأيها الرسول } ، ويقول : { ياأيها النبي } .
حقًّا إنّ الجميع رُسُل ، ولكنه سبحانه يريد أن يبلغنا أن محمداً صلّى الله عليه وسلم هو الرسول الذي جاء ناسخاً ومؤمناً بالكُلّ ، هو الذي يستحق النّداء بالوصف الزائد عن مُشَخّصات الذات : { ياأيها الرسول } . وهو الرسول الذي تقوم عليه الساعة . ولذلك نجد خطاب الحق لرسوله دائما : { ياأيها الرسول } أو : { ياأيها النبي } ، وهذا نوع من التكريم .
والحق يقول هنا : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } . أي لا تحزن يا رسول الله من الذين يسارعون في الكفر . وحين يخاطب الحق رسوله في ألا يحزن ، علينا أن نعرف على ماذا يكون الحزن؟ سبحانه يوضح لرسوله : إياك أن تحزن لأني معك فلن ينالك شر خصومك ولا يمكن أن أختارك رسولاً وأخْذُلَك ، إنهم لن ينالوا منك شيئاً .
وقد يكون حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً من لون آخر ، اسمه الحزن المُتَسَامِي الذي قال فيه الحق : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ]
لأن الحق لو شاء أن يجعلهم مؤمنين لما جعل لديهم القدرة على الكفر . { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ]
وهل الله يريد أعناقا؟ لا . بل يريد قلوباً؛ لأن سيطرة القُدرة بإمكانها أن تفعل ما تريد ، بدليل أن السماء والأرض والجبال وكل الكائنات أتت للخالق طائعة . فلا يمكن أن يتأبّى الكون على خالقه . والقدرة أفادت القهر وأفادت السيطرة والعزة والغلبة في سائر الكون ، ولكن الله أحَب أن يأتي عبده - وهو السيد - للإيمان مختاراً؛ لأن الإيمان الأول هو إيمان القهر والقدرة ، ولكن الإيمان الثاني هو إيمان المحبة .
(1/2167)

وقد ضربنا من قبل المثل على ذلك ولنوضحه : هب أن عندك خادمين ربطت أحدهما في سلسلة لأنك إن تركته قليلاً يهرب ، وعندما تريده تجذب السلسلة فيأتي ، إنه يأتي لسيطرة قُدرتك عليه والقهر منك ، أما الخادم الآخر فأنت تتركه حُرّاً ويأتيك من فور النداء . فأيهما أحب إليك؟ لا شك أنك تحب الذي يجيء عن حُب لا عن قهر . وكل أجناس الكون مُسخَّرة بالقدرة ، وشاء الحق أن يجعل الإنسان مُختاراً لذلك قال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } [ الأحزاب : 72 ]
إذن فقد رفضت كل الأجناس حمل الأمانة . خوفا وإشفاقا من أنها قد لا تستطيع القيام بذلك . والحق يقول لرسوله : { لاَ يَحْزُنكَ } فأمّا إذا كان الحزن بسبب الخوف على المنهج منهم ، فالحق ينصره ولن يمكنهم منه . وأما إن كان الخوف عليهم فلا؛ لأنه سبحانه خلق الإنسان مختاراً غير مقهور على القيام بتعاليم المنهج ، وسبحانه يُحب أن يعرف من يأتيه حُباً وكرامة .
ويقول الحق لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم : { لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } .
وهذه رُبوبية التعبير ، فنحن نعلم أن السرعة تكون إلى الشيء ، لا في الشيء كما قال الحق : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ } [ آل عمران : 133 ]
ولكن هنا نجده يقول : { يُسَارِعُونَ فِي الكفر } . ولو قال الحق : " يسارعون إلى الكفر " لكان قد ثبت لهم إيمان وبعد ذلك يذهبون إلى الكُفر ، لا . الحق يريد أن يوضح لنا : أنهم يسارعون في دائرة الكفر . ويعلمنا أنهم في البداية في الكفر ، ويسارعون إلى كفر أشد . ونعرف أن " في " في القرآن نستطيع أن نضع من أجلها المجلدات . فقد قلنا من قبل قال الله تعالى : { سِيرُواْ فِي الأرض } .
ولم يقل سبحانه سيروا على الأرض .
والحق سبحانه : وتعالى يقول : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } [ النساء : 5 ]
وهي ليست أموال المخاطبين ، ولكنها في الأصل أموال السفهاء . ولكن سبحانه يبلغنا أن السُّفهاء غير مأمونين على المال ، ولذلك يأتي الحق بالوصَيَّ والقيّن على المال ويأمره أن يعتبر المال ماله حتى يحافظ عليه . ويأمره بألا يخزن المال ليأكل منه السَّفيه؛ لأن المال إن أكل منه السَّفيه ودفع له الزكاة ، قد ينضب وَينْفذ . لذلك قال الحق : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ]
ومن بعد ذلك يقول الحق : { وارزقوهم فِيهَا } [ النساء : 5 ]
لم يقل ارزقوهم منها ، ذلك أنه سبحانه شاء أن يعلمنا أن الرزق مطمور في رأس المال ويجب أن يتحرك رأس المال في الحياة حتى لا ينقص بالنفقة ، وحتى لا تستهلكه الزكاة ، وحتى يبلغ السَّفيه رُشده ويجد المال قد نما . هذه بعض من معطيات " في " . وهنا آية الصَّلب : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ]
بعض المفسرين يقولون في هذه الآية : { لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } ونقول : إن الذين قالوا ذلك لم يُفسّروا هذه الآية وكان يجب أن يقولوا في تفسير ذلك :
لأصلبنكم على جذوع النخل تصليباً قوياً يدخل المصلوب في المصلوب فيه .
(1/2168)

ومثال ذلك لو جئنا بعدو ثقاب وربطناه على الأصبع بخيط رفيع وأوثقنا الربط ، فعود الثقاب يغوص في الأصبع حتى يصير وكأنه داخل الأصبع . وعندما يقول الحق : { لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } فيجب ألا نفهم هذا القول إلا على أساس أنه تصليب على جذوع النخل تصليباً قوياً يُدْخِلُ المصلوب في المصلوب فيه . وتلك هي العِلّة في وجود " في " وعدم وجود " على " .
والحق يقول هنا : { لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } فكأن المسارعة إما أن تكون ب " إلى " وإما أن تكون ب " في " . فإن كانت ب " إلى " فهي انتقال إلى شيء لم يكن فيه ساعة بدْء السرعة ، وإن كانت ب " في " فهي انتقال إلى عمق الشيء الذي كان فيه قبل أن يبدأ المسارعة .
{ لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } فالإيمان محلّه القلب ، والإسلام محلّه الجوارح؛ ولذلك قال سبحانه : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ]
إنهم يسارعون إلى الصف الأول في الصلاة وهذا إسلام ، أما الإيمان فمحلّه القلب . إذن فالذين قالوا بأفواههم آمنا ، لهم أن يعرفوا أن منطقة الإيمان ليست الأفواه ولكنها القلوب . وهم قالوها بأفواههم وما مرّت على قلوبهم . وماداموا قد قالوا بأفواههم آمنا وما مرّت على قلوبهم فهؤلاء هم المنافقون ، ومعنى ذلك أنهم في كل يوم ستظهر منهم أشياء تُدخِلهم في الكفر؛ لأنهم من البداية قد أبطنوا الكفر ، وبعد ذلك يسارعون في مجال الكفر .
{ مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هَادُواْ } هم إذن صنفان اثنان يسارعان في الكفر؛ المنافقون الذين قالوا بأفواههم آمنا ، والذين هادوا . ويصفهم الحق بقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وساعة تسمع مادة " السين والميم والعين " فهذا يعني أن الأذن قد استقبلت صوتاً من مُصَوِّت ، هذا المُصوِّت إما أن يكون مُتكلماً بالكلام الحقّ فيجذ من الأذن الإيمانية استماعاً بإنصات؛ ثم يتعدى الاستماع إلى القبول؛ فيقول المؤمن : أنا استمعت إلى فلان ، لا يقصد أنه سمع منه فقط ولكن يقصد أنه سمع وقبل منه ما قال .
إننا نعلم أن كثيراً من الورعين يسمعون كذباً ، لكن الفيصل هو قبول الكذب أو رفضه . وليس المهم أن يكون الإنسان سامعاً فقط ، ولكن أن يصدق ما يسمع . ونرى في الحياة اليومية إنساناً يريد أن يصلح شيئاً من أثاث منزله فيأتي بالأدوات اللازمة لذلك ، ويقال هنا عن هذا الرجل : " نجر فهو ناجر " ولا يقال له : " نجّار "؛ لأن النجار هو من تكون حرفته النّجارة .
(1/2169)

إذن كلمة : سامع للكذب لا تؤدي المعنى ، ولكن " سمّاع " تؤدي المعنى ، أي أن صناعته هي التسمّع ، وعندما يقول الحق : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي ألِفُوا أن يقبلوا الكذب . وكيف يكون مزاج من يقبل الكذب؟ . لا بد أن يكون مزاجاً مريضاً بالفطرة .
وما معنى الكذب هنا ومن هم السمّاعون؟ إما أن يكون المقصود بهم الأحبار والرهبان الذين قالوا لأتباعهم كلاماً غير ذي سندٍ من واقع من أجل الحفاظ على مراكزهم . وإما أن يكونوا سماعين للكذب لا لصالحهم هم ، ولكن لصالح قوم آخرين . كأنهم يقومون بالتجسس . والتجسس - كما نعلم - يكون بالعين أو بالأذن . وتقدمت هذه الوسائل في زماننا حتى صار التجسس بالصوت والصورة . وكأن الحق يريد أن يبلغنا أنهم سماعون للكذب ، أي أنهم يسمعون لحساب قوم آخرين . والقوم الآخرون الذي يسمعون لهم هم القوم الذين أصابهم الكبر والغرور واستكبروا أن يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهم في الوقت نفسه لا يطيقون الانتظار ويريدون معرفة ماذا يقول رسول الله ، لذلك يرسلون الجواسيس إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لينقلوا لهم .
أولئك السماعون للكذب هم سماعون لحساب قوم آخرين لم يأتوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبُّراً . وهؤلاء المتكبرون هم كبار اليهود ، وهم لا يذهبون إلى مجلس رسول الله حتى لا يضعف مركزهم أمام أتباعهم . وعندما يُنقَل إليهم الكلام يحاولون تصويره على الغرض الذي يريدون ، ولذلك يقول عنهم الحق : { يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } . أي أنهم يُحرِّفون الكلام بعد أن استقر في مَواضعه ويستخرجونه منها فيهملونه ويزيلونه عن مواضعه بعد ان وضعه الله فيها وذلك بتغيير أحكام الله ، وقال الحق فيها أيضاً من قبل ذلك : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } [ المائدة : 13 ]
أي أنهم حَرَّفُوا الكلام قبل أن يستقر . { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } وهم الذين يقولون لأتباعهم من جواسيس الاستماع إلى مجلس رسول الله : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } . فكأنهم أقبلوا على النبي بهذا ، فإن أخذوا من رسول الله معنى يستطيعون تحريفه فعلوا . وإن لم يجدوا ما يحرفونه فعليهم الحذر .
ومن دراسة تاريخ القوانين الوضعية نعرف معنى السلطة الزمنية . فالقوانين التي تواضع عليها بشر ليحكموا بها نظام الحياة تأخرت في الظهور إلى الواقع عن نظام الكهنة ، فقد كان الكهنة يَدَّعُون أن لهم صلة بالسماء ولذلك كان الحكم لهم ، أي أن التقنين في الأصل هو حكم السماء والذي جعل الناس تتجه إلى وضع قوانين خاصة بهم أنهم جربوا الكهنة فوجدوهم يحكمون في قضية ما حُكْماً . وفي القضية المشابهة يحكمون حُكْماً آخر .
(1/2170)

لقد كان كلام الكهنة مقبولا عندما ادعوا لأنفسهم الانتساب إلى أحكام السماء . لكن عندما تضاربت أحكامهم خرج الناس على أحكام الكهنة ورفضوها لأنفسهم قوانين أخرى .
والحكاية التاريخية توضح لنا ذلك : فقد زَنَى أحد أتباع ملك في العصر القديم وحاولوا أن يقيموا عليه الحد الموجود بالتوراة . لكن الملك قال للكهنة لا أريد أن يُرجَم هذا الرجل وابحثوا عن حكم آخر .
ورضخ الكهنة لأمر الملك وقالوا : نُحَمِّم وجه الزَّاني - أي نُسَوِّد وجْهه بالحُمم وهو الفحم - ونجعله يركب حماراً ووجه إلى الخلف ونطوف به بين الناس بدلاً من الرَّجم . وهكذا أعطت السلطة الزمنية السياسية الأمر للسلطة الزمنية الدينية ليُغيِّروا في القوانين . فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حاولوا أن يستغلوا وجوده في استصدار أحكام فيها هوادة ولين . وعرضوا عليه بعضا من القضايا من أجل ذلك ، فإن جاء الحكم بالتخفيف قبلوه ، وإن كان الحكم مُشدّداً لم يقبلوه . وتكررت مسألة الزّنا . وحاولوا الحصول على حكم مخفف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وجاء رسول الله بالحكم الذي نزل من السماء وهو الرَّجم . ولكنهم قالوا للرَّجم لا . يكفي أن نجلده أربعين جلدة وأن نُسَود وجهه وأن نجعله يركب حماراً ووجهه للخلف ويُطاف به . وهنا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أليس عندكم رجل صالح له علم بالكتاب؟ وهنا صمتوا . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن " فدك " يقال له : " ابن صوريا " . فقالوا : نعم ، هو أعلم يهود على وجه الأرض . فأمر الرسول بإحضاره ليرى الحُكم النازل في الزِّنا بالتوراة ، وجاء الرجل وناشده رسول الله بالذي لا إله إلا هو وبحق من أرسل موسى ، وبحق من أنزَل التوراة على موسى ، وبحق من فلق البحر ، وبحق من أغرق فرعون ، وبحق من ظللهم بالغمام . وأراد صلى الله عليه وسلم أن يُزلزل فيه كل باطل وأن يشحنه بالطاعة حتى ينطق الحق ، فقال ابن صوريا : نعم نجد الرَّجم للزِّنا . وهنا سَبَّ اليهود الرجل الصالح .
لقد أرادوا أن يحصلوا على حُكم مُخفف من رسول الله ليُنقذوا الزاني صاحب المقام العالي ، وكذلك الزانية ذات الحسب والنسب؛ لذلك قال الحق على لسانهم : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا } . أي التخفيف المراد فخذوه ، وإن وجدتم العقاب القاسي فاحذروه ولا تقبلوه .
إذن فهم لم يذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ابتغاء الحق ولكنهم يبتغون التخفيف . فإن وافق الحكم هواهم قالوا : إن محمداً هو الذي حَكَم ، ومن العجيب أنهم أعداء لمحمد وكافرون به . وبرغم ذلك يُحكِّمونه .
هذه الواقعة يرويها الإمام مسلم رضي الله عنه وهي : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى يهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال : ما تجدون في التوراة على مَنْ زنى؟ قالوا : نسوّد وجوههما ونحمّمهما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ، ويُطاف بهما ، قال : ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) قال : فجاءوا بها ، فقرأوها ، حتى إذا مرّ بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها ، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : مُرْهُ فليرفع يده ، فرفع يده فاذا تحتها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما ، قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه " .
(1/2171)

إنهم يريدون الحُكم السهل الهين اللين . وقال البعض : إن سبب نزول هذه الآية هي قصة القَوَد . والقود هو القصاص .
وقصة القود في إيجاز هي - كما رواها الامام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنه - أن طائفتين من اليهود هما بنو النضير وبنو قريظة كانتا قد تحاربتا في الجاهلية ، فقهرت بنو النَّضير بني قريظة ، فكانت النَّضير وهي العزيزة إذا قتلت أحداً من بني قُريظة وهي الذَّليلة لم يُقِيدوهم أي لم يعطوهم القاتل ليقتلوه بقتيلهم . إنما يعطونهم الديَّة . وكانت قُريظة إذا قَتَلت أحداً من بني النَّضير لم يرضُوا منهم إلا بالقود . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تحاكموا إليه في هذا الأمر فحَكَم بالتَّسوية بينهم ، فسَاءَهم ذلك ولم يقبلوا . وأي قصة منها هي مؤكِّدة للمعنى .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } والفتنة هي التعذيب بالنار ، وسبحانه يقول : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ]
والفتنة أيضاً هي الابتلاء والاختبار ، ويقال : " فتنت الذهب " أي وضعت الذهب في بوتقة وحوَّلته بالحرارة العالية من جسم صُلب إلى سائل حتى تستخلصه من المواد العالقة الشائبة التي فيه ليصير نقياً . والفتنة في ذاتها ليست مذمومة . ولكن المذموم منها هو النتيجة التي تصل إليها؛ اينجح الإنسان فيها أم يرسُب؛ لأن الاختبارات التي يمر بها الإنسان كلها هي فتنة ، والذي ينجح تكون الفتنة بالنسبة إليه طيبة . والذي يرسُب ويفشل فالفتنة بالنسبة إليه سيئة . وعندما يريد الله فتنة بشر أي يرد اختبارهم : أيأتون طوعا واختياراً أم لا؟
ومادام الحق سبحانه وتعالى أعطى للإنسان قدرة الاختيار حتى يُثبت صفة المحبوبية فسبحانه أراد ذلك ، ولا أحد بقادر أن يجعل الإنسان مقهوراً . وقد أراده الله مُختاراً وأن يبتلى وأن يختبر . أينجح أم يرسُب ، أيكون مُؤمناً أم كافراً :
{ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } . وجعل سبحانه ذلك قانونا لخلقه بمنتهى الوضوح ، وهناك جانب في الإنسان مُسَخَّر ، وجانب آخر مُخيَّر .
(1/2172)

{ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } . أي أن أحداً لا يجرؤ أن يغير نواميس الكون ولن يغير الله نواميس الكون من أجل أي أحد؛ لأن النواميس لا بد أن تسير كما أرادها الله حتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد عرفنا ما حدث في أُحُد؛ عندما تخاذل الرُّماة ولم يستمعوا إلى نصيحة القائد الأعلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أَغَيَّر الله سُنَّته من أجل وجود حبيبه معهم؟ لا ، وانهزموا على رغم وجود رسول الله معهم؛ لأن الله أراد للسُّنة الكونية أن تسير كما هي من أجل إصلاح الأمر . فلو فُرِض أنهم انتصروا من أجل خاطر النبي ، ماذا يكون الموقف في أوامره صلى الله عليه وسلم فيما بعد؟ كان من الممكن أن يقول شخص منهم : " خالفناه وانتصرنا " . إذن لا بد لسُنَّة الله أن تُنَفّذ . { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 41 ]
لماذا لم يرد الله أن يُطهِّر قلوبهم؟ لأنهم منافقون . وفي قلب المنافق مرض . وعندما تأتي أحداث ينتفع بها المسلمون فالمنافق يزداد حِقداً ومَرضا لأنّ قلبه مُمتلئ بالغل ، ولا يريد الله تطهير قلب إنسان إلا أن يقبل على الله ولذلك قال تعالى : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ البقرة : 264 ]
وقال سبحانه : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ آل عمران : 86 ]
فهل عدم هداية الله لهم نشأت أولاً ، ثم نشأ الكُفر ، أو نشأ الكُفر منهم فجاء عدم الهداية؟ نعلم أن عدم الهداية مرتبة على أنه ظالم أو كافر ، وقلنا من قبل : إن هناك إرادة كونية وإرادة شرعية . والإرادة الكونية هي ما يحدث في كون الله . ولا شيء قد حدث في كون الله غصبا عن الله . والاختيار خلقه الله في الإنسان ليصير الإنسان مُخيراً بين الكُفر والإيمان . ومادام الحق قد خلق الإنسان مُختاراً لهذا أو لذلك إذن فهو سبحانه مُريد كَوْنِيًّا ما يصدر عن الإنسان اختياراً كفراً أو هدايةً . لكن أَمُريد هو سبحانه ذلك شرعاً؟ لا .
إن الشرع أمر سماوي إما أن يُنفّذه العبد وإما أن يعصيه . ونعرف أن هناك أشياء مُرادة كونياً وأشياء مُرادة شرعيا . والمُراد الكوني هو الذي يكون : أما الإنسان فقد خلقه الله وله الاختيار ، فالذي يسرق لا يسرق غصبا عن الله ولكن ما أعطاه له الله من اختيار ومن طاقة ، إما أن يوجهها إلى الخير وإما إلى الشر .
ونحن حين ننظر إلى الساعة التي نضعها حول المعصم وقد صنعها الصانع صالحة لأن يديرها الإنسان على توقيت أي بلد ، فهل هذا يتم غصبا عن الصانع؟ لا . وكذلك جهاز " التليفزيون "؛ إن أذعنا فيه برامج دينية فهو صالح للهدف ، وإن أذعنا فيه حفلة راقصة فهو صالح لذلك أيضا .
(1/2173)

والذي صنع التليفزيون جعله صالحاً لهذا ولذاك ، المهم هو توجيه الطاقة وكذلك الإنسان . والإرادة الكونية هي كل ما يكون في ملك الله ، والإرادة الشرعية هي كل ما يكون في شرع الله " افعل ولا تفعل " . ومادام هناك أمرٌ كوني شرعي فالكون قد أوجده الله لخدمة المؤمن والكافر والعاصي ، لكن الأمر الشرعي جعله الله للمؤمن .
إذن فإيمان المؤمن أراده الله كونا؛ لأنه سبحانه قد وضع الإيمان منهجا ، وأراد الله إيمان المؤمن شرعا . وكفر الكافر لم يتم غصبا عن الله . ولكن الإنسان بخلْقِه مختاراً . صار كُفره أمراً كونياً ، ولكنه غير مُراد شرعاً فكفر الكافر مُراد كونا غير مُراد شرعا . وإيمان الكافر غير مُراد كوناً وكفر المؤمن غير مُراد كونا . وبهذا نكون أمام أربعة أقسام في المُراد كونا وشرعا . وهذه هي القسمة العقلية .
إذن من يُرِد الله فتنته كوناً فلا راد لإرادة الله؛ فإذا لم يطع الشرع ، فذلك لأنه مخلوق صالح للطاعة وصالح للمعصية .
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - الوالد يعطي لابنه جنيها ويقول له : أنت حُر في هذا المبلغ فإن اشتريت مصحفا أو كتاب دين أو شيئاً تأكله أنت وإخوتك فسأكافئك وأستأمنك على أشياء كثيرة . أما إن اشتريت ورق اللعب المُسمّى " كوتشينة " فسأغضب منك .
وحين يذهب الولد ليشتري ورق اللعب المُسمّى " كوتشينة " ، هل اشترى ذلك غصبا عن أبيه؟ لا . لكن الولد يصبح غير محبوب من أبيه . هذا هو الفارق بين المُراد كونا والمُراد شرعا . وبين المُراد كونا لا شرعا . والمُراد شرعا لا كونا .
{ أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } كان ذلك كونا؛ لأنه سبحانه خلقهم قابلين للتطهير وقابلين لغيره ، فإن فعلوا أي شيء فهم لن يفعلوه غَصبا عن الله؛ لذلك يذيل الحق الآية : { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } فكأن معنى ذلك أن في قلوبهم أشياء ضد الطهارة ، ولهم في الدنيا خزي . والخزي يطلق على الفضيحة ويطلق على الاستحياء ، والمعنيان يلتقيان . وهنا في مجال هذه الآية : أي خزي وأي فتنة؟ إنهما فئتنا؛ المنافقون واليهود . وكان المنافقون كلما فعلوا شيئا ينفضح . وعندما يبيِّتون أي شيء فإن الله يخبر رسوله بما يبيِّتون . { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } [ محمد : 30 ]
وكذلك الذين هادوا : يأتيهم الخزي أي الافتضاح ، أي أن يصيروا إلى المُسترذل بعد أن كانوا في المُستحسن . والرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة واليهود سادة هذه البقعة؛ سادتها علما لأنهم أهل كتاب ، أما الأوس والخزرج فأُميون لا يعرفون شيئا . وكان اقتصاد المدينة في أيدي اليهود ، من مال وصنعة وزراعة . وعنجهية الجاه . وعندما يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يجدهم السادة ، ثم ينفضح أمرهم وكذبهم ، ويتم إجلاؤهم ، وتُسبى نساؤهم ويُقتل بعضهم . وعندما يدبرون كيدا لرسول الله ، يفضحهم الله ، وكل ذلك خزي ، وليس الخزي هو الجزاء الوحيد لهم ، بل يلقون في الآخرة عذاباً أليماً .
ويقول الحق من بعد ذلك : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ . . . }
(1/2174)

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
وفي اللغة ألفاظ مفردة ، مثال : " سجنجل " وتفتح القاموس فتجد معناها " البلور " ، وكذلك الصفا والمروة؛ وعندما تبحث في القاموس عن كلمة " مروة " تعرف أن معنى اللفظ بعيد عن النسبة ، فأول عمل للغة أن تعرف معنى الألفاظ بعيداً عن نسبتها . ومهمة القاموس أن يشرح لك معنى اللفظ بعيداً عن النسبة دون إثبات أو نفي ، مثال ذلك " الجو " معناها هو ما يحيط بك من هواء أو غير ذلك ، لكن القاموس لا يشرح هل الجو مُكفهر أو صافٍ أو باردٌ .
وإن تقدمنا مرحلة أخرى وأخذنا اللفظ لنصنع له نسبته ، كأن نقول : " الجو صحو " ، هنا ننتقل من فهم معنى كلمة " جَوّ " ، إلى أننا نسبنا الصحو إليه . والكلام المفيد يأتي في النِسب . ولا تأتي النِسب إلا بعد معرفة معاني الألفاظ . والنِسب تعني أن ننسب شيئا إلى شيء ، كأن نقول : " محمد مجتهد " هنا نسبنا لمحمد الاجتهاد ، وذلك بعد أن عرفنا معنى كلمة " محمد " بمفردها ، ومعنى " مجتهد " بمفردها .
إذن الكلام المفيد يتأتى في النسب . وقد تكون الإفادة بضميمة كلمة إلى ما سبقها ، فعندما يسألك إنسان : " من عندك "؟ فتقول : " محمد "؛ هذا القول أفاد؛ لأنه انضم إلى كلمة أخرى فصار المعنى : " محمد عندي " .
إذن هناك نسب ، والنسب هي أن تنسب حكماً إلى شيء إما إيجابا وإما نفياً .
والنسبة تنقسم إلى قسمين؛ نسبة واقعة ، ونسبة غير واقعة . وإن كانت النسبة واقعة فهل تعتقدها؟ وهل تستطيع أن تقيم عليها دليلاً؟ إن كانت النسبة الواقعة ومقام عليها الدليل تكون علماً . وإن كانت نسبة وواقعة وأنت تعتقدها ولا تستطيع أن تدلل عليها ، فهذا تقليد ، مثل الطفل الذي يقلد أباه فيقول : " الله أَحد " ، والطفل في هذه الحالة لا يستطيع أن يقيم على هذه النسبة دليلاً .
إن العلم أعلى مراتب النسب لأنه نسبة معتقدة وواقعة وعليها دليل . أما إذا كانت نسبة معتقدة وغير واقعة ، فهذا هو الجهل؛ لأن الجاهل هو الذي يعرف الشيء على غير وجهه الصحيح . أما الأمي فهو الذي لا يعرف شيئا ونجد صعوبة في الشرح للجاهل ، مثال ذلك الذي يقول الأرض مبسوطة ويدافع عنها ، إنه يقول نسبة يعتقدها ، ولكنها غير الواقع لأنها كروية .
والجهل - إذن - أن تعرف نسبة تعتقدها وهي غير واقعة . ولا يرهق الدنيا غير الجاهل ، لا الأمي؛ لأن الأمي له عقل فارغ يكفي أن تقول له الحقيقة فيصدقها ، أما الجاهل فيحتاج إلى أن نخلع من أفكاره الفكر الخاطئ ونضع له الفكر الصحيح .
(1/2175)

أما إن كانت النسبة غير واقعة . فالنفي فيها يساوي الإثبات ، وهذا هو الشك . وإن كانت هناك نسبة راجحة فهو الظن . والنسبة المرجوحة هي الوهم . إذن هناك عدد من النسب : نسبة علم ، نسبة تقليد ، نسبة جهل ، نسبة شك ، نسبة ظن ، نسبة وهم . وعلى ذلك يكون الكذب نسبة غير واقعة ، فإن كنت تعتقدها فأنت من الجاهلين .
ويقابل الكذب الصدق ، وعندما يقول الحق : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } . فالنسبة هنا غير مطابقة للواقع . ويقتنص الملبِّسون بعض النسب التي تأتي في بعض من أسلوب القرآن ويقولون : في القرآن كلام لو مَحَّصناه لوجدناه غير دقيق . مثال ذلك : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } [ المنافقون : 1 ]
كلام المنافقين هنا قد طابق كلام الله ، ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ]
النسبة واحدة ، لكن الله يكذب المنافقين . وإن فطنا إلى قول الله حكاية عنهم : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } [ المنافقون : 1 ]
أي أن الله يُكذِّب شهادتهم ، لأن محمداً رسول الله بالفعل ، ولكنهم كاذبون لأنهم لا يعتقدون ذلك ، فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب .
إذن قوله الحق : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي أن عملهم الاستماع للكذب ، وأكل السُّحت وكأنهم يرهقون إن أكلوا حلالاً ، وأكَّال صيغة للمبالغة؛ وتكون إما في الحدث ، وإما في تكرار أنواع الحدث . فيقال : " فلان أكال " ، و " فلان أكول " وهو الإنسان الذي يأكل بشراهة أو يأكل كثيراً ، والمبالغة - إذن - إما أن تكون في الحدث وإما في تكرير الحدث .
{ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } ومادة " سَحت " تعني " استأصل ومحا " ، ولكنها تزيد أنها استأصلته استئصالاً لم يبق له أثراً وتعدى الاستئصال إلى ظرفه . مثال ذلك عند ظهور بقعة من زيت أو طعام على ثوب ، نستطيع استئصال البقعة ، ونستطيع المبالغة في استصالها إلى أن تنحت من الثوب . والسُّحت استئصال مبالغ فيه لدرجة الجوْر على الأصل قليلاً . أي يستأصل الذي جاء ومعه بعض من الأصل أيضاً؛ لذلك جاء المفسرون إلى هذا المعنى في شرح الرِّبا لأن الله يصفه بالقول : { يَمْحَقُ الله الربا } [ البقرة : 276 ]
والربا في مفهومنا أنه زيادة ، ولكن الحق أوضح لنا أنه ليس بزيادة؛ لأنه يَدْخل ويستأصل ويأكل ويكحت أصل المال . وظاهر الرِّبا وباطنه محق واستئصال .
أما الزكاة فظاهرها نقص ، ولكنها نماء ، وبذلك نرى اختلاف مقاييس الخلق عن مقاييس الحق . والمثل الواضح : أن النفس تلتفت دائماً إلى رزق الإيجاب ، ولا تلتفت إلى رزق السلب . فرجل راتبه خمسمائة جنيه ، وآخر راتبه مائة جنيه ، صاحب الراتب البالغ الخمسمائة فتح الله عليه أبواباً تحتاج إلى ألفٍ من الجنيهات ، والذي يأخذ مائة جنيه سَدَّ الحق عنه أبواباً لا تأخذ منه كل راتبه بل يتبقى له عشرة جنيهات .
(1/2176)

هناك - إذن - رزق إيجاب يزيد الدخل ، ورزق سلب أن يسلب الحق عنك المصارف في المصائب والمهالك ويبارك لك فيما أعطاك .
والسًّحْت هو كل شيء تأخذه من غير طريق الحلال؛ كالرشوة أو الربا أو السرقة أو الاختلاس أو الخطف . وكل أنواع المقامرة والمراهنة ، كل ذلك اسمه سُحْت .
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } وهذا القول دليل على أن أُذَنَهُم اعتادت سماع الكذب ويقبلون عليه . وعندما نقول نحن في الصلاة : " سمع الله لمن حمده " ، أي أننا ندعو الله أن يقبل الحمد . وهم سماعون للكذب أي يقبلون الكذب . والسماع جارحة ، والأكل بناء ما به الجارحة لأنه مقوم لها . مثلما يأكل لينمو ، وإن كان ناضجاً يحفظ له الطاقة والقدرة .
فالنّمو - إذن - معناه أن يدخل جوفه أكثر مما يخرج منه . وبعد فترة يدخل إلى جسمه على قدر ما يخرج منه ، ثم الشيخوخة نجد فيها أن ما يخرج أكثر مما يدخل . وماداموا سماعين للكذب أكَّالين للسُّحت ، فهم في بوارٍ دائم ، لأن أكل السُّحْت حيثية من حيثيات الاستماع المصدِّق للكذب؛ لأنهم قد بنوا ذرات أجسادهم من حرام ، فكيف ترفض آذانهم الكذب؟ بل آذانهم تستدعي الكذب ، وألسنتهم تحترفه . وعيونهم تستدعي المحارم ، وأيديهم تستدعي السرقة ، إنها الأبعاض التي بناها أصحابها من حرام .
ولم يقل عنهم : " سامعون " ، بل قال : " سماعون " أي جعلوا صناعتهم أن يتسمعوا ، وهم الجواسيس ، وإلا فإذا كان الأمر غير ذلك لكان كل من سمع كذبا يُعَد من هؤلاء . والقول مقصود به من جعل السماع صنعة له ، ولا يجعل إنسان السماع صنعة له إلا إذا كان عينا لغيره ، والعين للغير يتلصص على أمانة المجالس ، ولكل مجلس أمانة . فإذا ما حضر إنسان مجلسا فليس له أن ينقل ما في ذلك المجلس إلى غيره إلا أن يكون ذلك هو صناعته ، وتلك هي مهمته .
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } وهنا قضيتان . فعل السماع للكذب سببه أكل السُّحت ، أم أكل السُّحت سببه السماع للكذب؟
إن الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الإنسان من طينة الأرض وصوره على شكل آدم نفخ فيه من روحه ، وحين صوره من طينة الأرض جعل كل مقومات حركة حياته من طبيعة طينة الأرض ، فإذا ما أخذ الإنسان شيئاً من حِلٍّ ، اعتدلت الذرات في نفسه على الهيئة التي خلقها الله . وإن تدخل فيها بحرام جعل في الذرات اختلالا تكوينيا . وهذا الاختلال التكويني هو الذي جعل آكل الحرام سماعا للكذب . ولو لم يكن فيه ذلك الاختلال التكويني الذي صنعه بنفسه لما سمع الكذب أبداً .
أو أنه عندما أكل السُّحْت صار سماعا للكذب . أو سمع كذبا فصار أكَّالاً للسُّحْت . ولنلاحظ أن الحق لم يقل : " آكل للسُّحْت " ، ولم يقل : " سامع للكذب "؛ ولكنه قال : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي أنهم تعودوا سماع الكذب وتعودوا أكل السُّحت ، فالواحد منهم أخذ حراما من أول الأمر ، وعندما صار أكالا وسمَّاعًا للكذب في آن واحد ، اختلت ذرَّات تكوينه ، ولم يعد في أعماقه نور ليرفض الكذب .
(1/2177)

بل أقبل عليه ، ويغريه الكذب ثانية بأن يأكل السُّحْت ، والأمر دائر بين سماع كذب وأكل سحت .
وقضية الكذب هي قضية صراع الباطل مع الحق . ومادام الكذب غير مطابق لوازع كوني أو لواقع منهجي تكليفي فهذا يصنع خللاً في الكون . وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا المثل في ذلك جاء بالمثل في أمرٍ حسي حتى نراه جميعا : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ]
أي أن كل وادٍ تحمَّل على قدر طاقته . ومن بعد ذلك يقول الحق : { فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً } [ الرعد : 17 ]
فقبل أن ينزل السيل من على الجبال إلى الوديان ، يأخذ كل الأشياء التي تصادفه على الجبل من آثار الرياح ، ومن أوراق النبات ، فينزله إلى الوادي ، وتلك هي الأشياء التي تصنع الزِّبَد ونقول عنه في لغتنا العامية : " الرَّغاوي " . { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً } [ الرعد : 17 ]
و " رابياً " أي غائماً وعاليا وطافيا فوق المياه ، لماذا؟ لأنه مادام زبداً ففيه فقاقيع هواء تجعل حجمه أكبر من وزنه . وتصبح كثافته أقل من المياه؛ لذلك يطفو فوقها . وماذا يكون الموقف بعد ذلك؟ { فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ } [ الرعد : 17 ]
ومن العجيب أنه سبحانه جعل المثلين في الماء والمضاد له وهو النار ، فالماء يأتي بزبد وغثاء يطفو على المياه ، وكذلك النار حين ندخل فيها المعادن . ومن رأى الحداد ينفخ في كيره على قطعة من الحديد يرى الخبث ، والمواد الغريبة الممتزجة بالحديد والتي تنفصل أثناء الصهر عن الحديد ليصير صافيا . إذن فهناك زبد في الحديد تخرجه النار عند صهره ، وزبد يطفو فوق الماء . { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } [ الرعد : 17 ]
ولهذا نرى الباطل وقد أتى عليه زمن ليطفو فوق السطح ، ويخرج الخَبَث طافيا على أصيل الحديد . لكن أيظل الباطل كذلك؟ يُطمئِنُنا الحق أنه يحمي الحق فيقول : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض } [ الرعد : 17 ]
وحين نرى الباطل وقد طفا على السطح نفاجأ بعد وقت من الزمن أن الزبد ينتهي صافياً . فإذا رأينا الباطل مرة يعلو ، فلنعلم أنه لا بقاء لهذا العُلو؛ لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض .
ولماذا لا يُعلن الحق عن نفسه من البداية؟ أراد الله ذلك ليجعل الباطل من جنود الحق ، ولو لم يَعَض الباطل الناس ويُتعبهم أيتجهون إلى الحق؟ لا؛ لذلك كان لا بد أن يأتي إليهم الباطل الناس ويُتعبهم ليبحثوا عن الحق .
(1/2178)

وهكذا نرى الباطل كجندي من جنود الحق . وضربنا المثل من قبل وعرفنا أن الألم عند المريض من جنود العافية ، فلولا ذلك الألم لاستشرى الداء دون أن يشعر المريض ، فكأن الألم يلفته إلى موضع الداء ويدفعه للبحث عن وسائل الشفاء . وبذلك يتعرف على حلاوة العافية .
إذن فالباطل من جنود الحق والألم من جنود الشفاء؛ لأن أمور الحياة لو سارت على وتيرة واحدة لما عرف الإنسان أوجه الحياة ، فلو لم يأتِ الألم إلى المريض لأكله المرض . فإذا كان الألم من جنود الشفاء ، فالكفر أيضاً من جنود الإيمان؛ لأننا عندما نرى الكُفر ونشهد آثار الكُفر فساداً في المجتمع ، نتساءل : ما الذي يخلِّصنا من ذلك؟ ونعرف أن الذي يخلصنا من الفساد هو الإيمان .
وأُكرِّر دائماً : كلمة الكُفر بذاتها هي الدليل الأول على الإيمان؛ لأن الكُفر هو السَّتْر ، ومادام الكفر هو السَّتر ، والكافر يستر الإيمان ، وظهور الكفر على السطح دليل وجود الإيمان في الأصل .
ومادام الحق قد قال : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } فلا بد بعد هذا التشخيص أن يرسم لرسوله أسلوب التعامل معهم : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } . فأنت يا رسول الله بالخيار بين أن تحكم بينهم في القضية التي جاءوا من أجلها أو تعرض عنهم ، فليس عليك تجاههم إلزام ما؛ لأنهم السماعون للكذب الأكَّالون للسُّحْت . وهم حينما يأتونك يا رسول الله طلباً لحكم إنما يفعلون ذلك لا رغبة في معرفة الحق ولا هم يلتمسون العدل . بل جاءوك مظنة تيسير امر الباطل وأكل السُّحت لنفوسهم . وقد طلبوا الحكم في قضية الزِّنا وعندهم في التوراة كان الرَّجم عقاباً للزنا .
لقد ذهبوا لرسول الله لأنهم أرادوا أن يستروا حكم الزِّنا في التوراة ، والاكتفاء بالجلد وتسويد وجه الزاني وركوبه حماراً في الوضع العكسي بحيث يكون وجهه في اتجاه الذيل وقفاه في اتجاه رأس الحمار ، وأن يطوفوا بالزاني وهو على هذه الهيئة حول البلدة . ولما لم يسمعوا ذلك الحكم من الرسول ابتعدوا عنه . إذن هم يطلبون التخفيف لأنهم كانوا سماعين للكذب واكَّالين للسُّحت . ولأن الذي سيطبق عليه الحد رجل له جاه وله مكانة وهم يريدون التقرب إليه بتخفيف العقاب عنه . وهل هناك تعارض بين قول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وبين قول الحق : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 48 ]
لا تعارض . والبعض يقول : إن في قوله الحق : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله } إلزاماً . ونقول : المعنى الواضح هو أنك يا رسول الله ، إن رجحت جانب أن تحكم وتقضي بينهم فاحكم بما أنزل الله ، ولننظر إلى الأداء القرآني لأن المتكلم إله وحكيم : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
(1/2179)

ونلحظ أن الأمر هنا جاء بطريقة تؤكد أن الإعراض ممكن؛ لأنهم أرادوا أن يحكم لهم رسول الله على هواهم ، وطمأنه الله بأنه سيحميه من شرهم إن أعرض عنهم ، وكأن الحق يقول لرسوله : إياك أن تفكر حين تعرض عنهم أنهم سينالونك بالشر لأنك لم تحقق لهم التيسير الذي ابتغوه عندك { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } وإياك أن تجعل الضرر منهم مُرجِّحاً للحكم؛ فأنت بالخيار؛ إما أن تحكم وإما أن تعرض . ولا تخش من شرهم لأن الذي أرسلك يحميك .
{ وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } والحكم في هذه الآية يأتي كالقوس في البداية وفي النهاية ، والحكم بينهم يكون بالقسط؛ أي بالعدل . والعدل ليس كما يراه الهوى ولكن حسب ما أنزل الله . أي أن الله يحب الذين يزيلون الجوْر . ومادام الحكم بالعدل يأتي ليزيل الجور ، فكأنه كان من قبل جوْرٌ مُقنن؛ إذن ف " أقْسَط " أي أزال جوراً مقنناً وأعاد توازن الميزان ليعود الانسجام بين الإنسان والكون . والكون كله يسير بميزان؛ الأرض تدور والشمس تؤدي مهمتها ، ولا كوكب يصطدم بكوكب آخر : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ]
فإن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية ، فانظروا إلى الأمور الإجبارية التي حولكم ، فإن كانت بنظام وميزان واعتدلت الأمور ، اعدلوا - إذن - في إدارة شئونكم حتى تنسجموا كما انسجم الكون ، ولذلك نقرأ قوله تعالى : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ * والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان } [ الرحمن : 5-8 ]
أمامكم الموازين العليا في الكون ، ولا تستطيعون إفسادها لأنها تسير بنظام لا دخل لكم به؛ لذلك عليكم أن تتعلموا منها وأن تديروا أمور حياتكم بميزان حتى تستقيم أموركم الاختيارية . { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 8-9 ]
فإن رأيت حولك كونا غير مُضطرب ، وغير مُتصادم ، ويؤدي حركته دون تعارض أو تصادم ، فافهم أنه قائم على ميزان الحق ، ووضع سبحانه لك ميزاناً في الأمور الاختيارية ، والمرجحات الاختيارية هي أحكام التكليف من الله ، فإن أردت أن تستقيم لك الأمور الاختيارية فسر بها على الميزان الذي وضعه الله .
ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ . . . }
(1/2180)

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
يوضح سبحانه : كيف يأتون طلبا للحكم منك وعندهم التوراة ، وهم لم يؤمنوا بك يا محمد رسولاً من الله ، فكيف يرضاك من لم يؤمن بك حَكَما؟ لا بد أن في ذلك مصلحة مناقضة لما في التوراة ، ولو لم تكن تلك المصلحة مناقضة لنفذوا الحكم الذي عندهم ، وهم إنما جاءوا إليك يا رسول الله طمعا في أن تعطي شيئا من التسهيل وظنوا - والعياذ بالله - أنك قد توفر لهم أكل السُّحت وسماع الكذب .
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة } وهي مسألة عجيبة يجب أن يُفظن إليها؛ لأن عندهم التوراة فيها حكم الله ، فلو حكموك في أمر ليس في التوراة لكان الأمر مقبولاً ، لكن أن يحكموك في أمر له حكم في التوراة ، وبعد ذلك يطلعك الله عليه لتكشفه فتقول يا رسول الله : هاتوا ابن صوريا ليأتي بحكم التوراة . ويعترف ابن صوريا بوجود حكم الرَّجم في التوراة . إذن هم رغبوا في الاحتيال ، وأراد الله أن يثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم لوناً في الإعلام عن هؤلاء المارقين على أحكام الله ، هم يعلمون أن الرسول أُمّي ، لم يقرأ ولم يكتب ، فمن الذي أخبره بالحكم الموجود بالتوراة؟
إذن أخبره من أرسله ، وإذا كانوا قد أرادوا البحث عن حكم مُخفَّف فالحق أراد ذلك ليكون سَبباً من أسباب الخزي لهم . { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين } [ المائدة : 43 ]
وهذا دليل على أن الرسول عندما حكم بغير مطلوب تيسيرهم . أعرضوا عن الحكم . ولو كانوا طالبين للحكم بادئ ذي بدء لقبلوا الحكم بالرجم كما قاله لهم رسول الله ، لكنهم غير مؤمنين حتى بتوراتهم .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة . . . }
(1/2181)

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
الهدى هو الطريق أو الدرب المُوصِّل للغاية . وتأتي على الطريق أحقاب الليل والنهار ، فالطريق مُظلم ليلاً ، وقد تعترض السائر فيه عقبات ، أو قد لا يمشي السائر في سواء السبيل أي وسط الطريق ، فيقع في حفرة أو يصطدم بحجر .
ويوضح الحق هنا : لقد صنعت لكم الدرب وأَنرته لكم حتى لا تصطدموا بشيء أو تأتي لكم عقبات ، وتمثَّل ذلك في المنهج الذي جاء به موكب الرُّسل كلهم . وقديما كان العالم مفككا ، متناثر الجماعات ، فلا توجد مواصلات ، وتعيش كل جماعة في انعزال وشبه استقلال ، فإن حصلت داءات في بقعة ما تظل محصورة في هذه البقعة ، ويأتي رسول ليعالج هذه الداءات ، فهذا يعالج أمر عبادة الأصنام ، وذلك يعالج مسألة الكيل والميزان ، وثالث يعالج الأمور المنظمة للحياة الزوجية عند اليهود .
هذه الداءات كانت متعددة بتعدد الجهات ، وعندما أراد الحق سبحانه أن يبصر الناس بأسرار كونه ليستنبطوا منها ما يقرب المسافات ويمنع المشقات لتلتقي الأمم . وعندما تلتقي الأمم لا يوجد فصل بين الداءات ، فالداء الواحد يحصل في الشرق لينتقل إلى الغرب . وكأن الداءات تتحد في العالم أيضاً .
إذن لا بد أن يجيء الرسول الجامع ليعالج الداءات كلها ، فيأتي صلّى الله عليه وسلم الجامع المانع ، فإذا ما قال الحق : إنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ، فالإنجيل أيضاً فيه هدى ونور ، وكل هدى ونور في أي كتاب إنما هو للداءات الموجودة في البيئة المنعزلة . مثال ذلك أن سيدنا إبراهيم كان موجوداً ، ومعه في الزمن نفسه سيدنا لوط . وها هوذا سيدنا موسى كان موجودا . وكذلك سيدنا شعيب ، إذن كانت الرُّسل تتعاصر في بعض الأحيان لأن كلا منهم يعالج داء معينا . وهكذا كانت الرسالات تأتي محدودة الزمان ومحدودة المكان .
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله للناس كافة بكل أجناسهم وتقوم على منهجه الساعة؛ لذلك لم تعد الأرض في حاجة إلى رسول آخر ، وصار من المنطقي أن يكون هو الرسول الخاتم .
{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } لماذا إذن يأتي الحق بإسلام الأنبياء هنا؟ جاء سبحانه بأمر إسلام الأنبياء تشريفا للإسلام لأنه جوهر منهج كل نبي .
إننا نجد الشعراء يتفننون في هذا المعنى :
ما إن مدحت محمداً بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمدٍ
والشاعر الآخر يقول :
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان
فالقبيلة بالنسبة لأبي الصقر هي التي تنتسب إليه وليس هو الذي ينتسب إليها .
ويردف قائلا :
وكم أبٍ قد علا بابن ذُرَا شرفٍ ... كما علا برسول الله عدنان
إذن فالنبيون عندما يصفهم الحق بأنهم أسلموا ، إنما يريد الحق أن يشرف الإسلام بأن النبيين أسلموا قيادهم وزمامهم إلى الله لأنهم وجدوه الخير لهم .
(1/2182)

وإسلام النبيين هو الإسلام بمعناه الكامل ، أي هو الانصياع لأوامر الله ، فكلما فكر نبي منهم في أن هناك شراً سيأتي له بسبب دعوته ، أو أن يضطهده أحد ، أو يحلو لأحدٍ أن يسيء إليه فهو يسلم أمره لله؛ لأن الرسول منهم إنما يقول كلمة الحق ولا يبالي بما يحدث بعدها .
{ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } وهم يحكمون بالتوراة بين الذين هادوا ، أي من يهود ، وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار . والرباني منسوب للرب ، اي أن كل تصرفاته منسوبة إلى الله . والأحبار هم العلماء حملة أوعية العلم ، لكن هل ينفذونه أو لا ينفذونه فهذا شيء آخر . صحيح أن كل عالم وعاءُ علم ، لكن قد ينتفع هو بعلمه ، وقد لا ينتفع ، لكنه ينقل علمه إلى من ينتفع به . ولذلك يقول أحد العلماء :
فخذ بعلمي ولاتركن إلى عملي ... وأجْنِ الثمار وخلِّ العود للنار
فلا تقل : إن هذا العالم يقول لنا كذا وكذا ، ونراه في تصرفاته عكس ما يقول : لأن عليك أن تأخذ ثمرة العلم ، واترك العود للنار . ولكن على العالم أن يكون أول من يمتثل ويطبق ما يقوله حتى لا يعذب ولا يدخل تحت قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .
{ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } وعرفنا أن التوراة فيها نور وهدى ويحكم بها النبيون والربانيون والأحبار بالوسيلة التي طلب الله منهم أن يحفظوها ، وبما طلبه رسولهم منهم أن يحفظوا هذه التوراة . وقال الحق : " استحفظوا " ولم يقل : " حفظوا " ليبين لنا الفارق بين كل كتاب سابق للقرآن وبين القرآن؛ لأننا عرفنا أن كل رسول قد جاء بمعجزة تدل على أنه صادق البلاغ عن الله .
ولكل الرسل من السابقين على رسول الله معجزة منفصلة عن المنهج ، مثال ذلك سيدنا موسى فمعجزته العصا وفلق البحر ، أما منهجهه فهو التوراة . وسيدنا عيسى معجزته إبراء الأكمه والأبرص ، والمنهج الذي جاء به هو الإنجيل . أما سيدنا رسول الله فمعجزته هي عين منهجه ، وهي القرآن . وكان الأمر الموجود بالنسبة لكل رسولٍ مرتبطا بزمانه وجماعته ومحتاجا إلى معجزة مناسبة ومنهج مناسب ، لكن الرسول الذي أرسله الله إلى الناس جميعا وخاتما للأنبياء لا بد أن تظل معجزته عين منهجهه بحيث يستطيع أي مسلم أن يقول حتى قيام الساعة : محمد رسول الله وهذه معجزته وهي عين منهجهه .
وسيظل القرآن معجزة ظاهرة إلى أن تقوم الساعة؛ لأن الله أرادها مختلفة عن بقية المناهج والمعجزات . فالمعجزات السابقة كانت كعود الثقاب الذي يشعل مرةً واحدة؛ فمن رآه لحظة الاشتعال فالأمر بالنسبة إليه واضح ، أما من لم يره فهو لن يصدق تلك المعجزة إلا ان يخبره من يصدقه .
(1/2183)

وقد استحفظ الله الربانيين والأحبار بالتوراة ، أي طلب منهم أن يحفظوها ، وكان هذا أمراً تكليفياً ، والأمر التكليفي عُرضة لأن يُطاع وعُرضة لأن يُعصى . واستحفظهم الله التوراة والإنجيل : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 14 ]
وصار أمر المنهج منسياً . وليس على بالهم كثيراً؛ لأن الأمر إذا توارد على البال واستقر دائما في بؤرة الشعور يظل في الذهن ، لكن النسيان يأتي عندما يكون الأمر بعيداً عن البال .
والحق طلب منهم أن يحفظوا المنهج ، ولكنهم - ما عدا النبيين - لم ينفذوا ، وكل أمر تكليفي يدخل في دائرة الاختيار ، ولذلك نجد أن الأحبار والربانيين قد نسوا ، وما لم ينسوه كتموه . وأول مرحلة من مراحل عدم الحفظ أنهم نسوا ، والمرحلة الثانية هي كتمان ما لم ينسوه ، والثالثة هي : ما لم يكتموه حرَّفوه ولووا به ألسنتهم . وياليتهم اقتصروا على هذه المراحل فقط ، ولكنهم جاءوا بأشياء وقالوا : هي من عند الله وهي ليست من عند الله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله } [ البقرة : 79 ]
إذن فالحفظ منهم لم يتم؛ لذلك لم يدع الله القرآن للحفظ بطريق التكليف؛ لأنه سبحانه اختبر البشر من قبل ، ولأنه أراد القرآن معجزة باقية؛ لذلك لم يكل الله سبحانه أمر حفظه إلى الخلق ، ولكنه تكفل - سبحانه - بأمر حفظ القرآن : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
ومصداق هذا النص ، أن بعضاً من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في هجر منهج الإسلام ومنهج القرآن إلا أنك تجد عجباً ، فبمقدار بُعدهم عن منهج الإسلام تطبيقاً يحافظون على القرآن تحقيقاً ، فيكتبون القرآن بكل ألوان الكتابة وبكافة الأحجام ، فهناك حجم ذهبي ترتديه النساء في صدورهن ، وحجم يوضع في اليد ، وبعد ذلك نجد الكفرة أنفسهم يخترعون طريقة لكتابة القرآن في صفحة واحدة .
إذن فالله يُسخر لحفظ القرآن حتى من لم يكن مسلماً . وتلك خواطر من الله . ونحن نرى كل يوم من يبتعدون بسلوكهم عن المنهج لكنهم يرصدون المال لحفظ القرآن . ونجد القرآن محققاً بألف وسيلة حفظ : الرجل يضع في سيارته مصحفاً ، وفي حجرة نومه مصحفاً ، وقد تكون المرأة سافرة وصدرها مكشوف ولكنها تعلق مصحفاً ذهبياً . وهذا يثبت لنا أن حفظ القرآن ليس أمراً تكليفياً . بل هو إرادة الله .
فلو كان الأمر تكليفياً لكان نسيان القرآن وارداً؛ لأن المسلمين ابتعدوا في بعض أمورهم عنه كمنهج ، ويناسب ذلك أن ينفصلوا عنه حفظاً . ولكن الأمر صار بالعكس . فعلى الرغم من بُعد المسلمين عن المنهج ، ولكن حفظ القرآن لا يقل أبداً ، ومن العجيب أن الكثيرين من المسرفين على أنفسهم ، إن سمع واحد منهم أنّ شيئاً يمس المصحف ، يقيم الدنيا ويقعدها ، فالمسألة ليست مسألته ، ولكنها مسألة الحافظ جل شأنه . وإن حدث أي تحريف يسير في القرآن من أعداء الإسلام ، نجد أمة الإسلام تقف وقفة رجل واحد .
(1/2184)

ولقد أراد بعض المدلسين أن يدسوا على القرآن ما ليس فيه وجاءوا إلى آية في سورة الفتح وهي : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ]
وقالوا : " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكأنهم يرغبون في زيادة التكريم لرسول الله ، فلما عرف المسلمون ذلك قامت ضجة وأحرقوا تلك المصاحف . ومنع المسلمون التحريف مهما كان باب الدخول إليه .
{ فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } والخشية : خوف متوَهَّم ممن تظن أنه قادر على الضر ، ولا أحد غير الله قادر على النفع والضر؛ لذلك لا يصح أن يخاف الإنسانُ مِن سواه ، أما أن تظن أن السلطان أو القريب منه قادر على الضر ، فهذا أمر غير صحيح ، وليخشَ كل إنسان الحق سبحانه وهو جل وعلا نصحنا أن تكون الخشية منه دون سواه .
وإن غيَّر أحد أحكام المنهج من أجل السلطان أو أقارب السلطان أو أصدقاء السلطان فذلك عين الفساد . والآفات والشرور تأتي من ذلك . بل قد لا يدري السلطان شيئاً عن ذلك ، وقد يتدخل قريب للسلطان - دون علم السلطان - ليطلب من العلماء تغيير بعض من المنهج ولا يستسلم له إلا الضعاف منهم ، وقد فطن سيدنا عمر رضي الله عنه إلى هذا الأمر فقال : إن الفساد قد لا يأتي من السلطان ، ولكن من الذين حول السلطان .
والخشية هنا تكون من غير الله ، ولذلك كان سيدنا عمر يجمع أقاربه والملتفين حوله ويقول لهم : لقد اعتزمت أن أصدر كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء من هذا جعلت نكالاً للمسلمين .
هذا هو أسلوب من أداء أن يخدم ويحكم ولا يحمل أوزاراً ، ونرى صور الفساد غنما جاءت نتيجة مخالفة القاعدة الحكيمة : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } .
ويتابع الحق من بعد ذلك : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } وثمن آيات الله مهما بولغ في تقييمها فلن يتجاوز نفعه هذه الدنيا؛ لأن الدنيا - كما قلنا سابقا - لا تقاس بعمرها الحقيقي أي إلى أن يُفني الله البشر ، وإنما دنيا كل حيّ تقاس بعمره فيها .
فهب أن الحياة طالت لملايين السنين فما نفع الفرد المحدود العمر بهذه الملايين من السنين؟ إذن فدنيا كل إنسان هي مقدار عمره في الحياة . وعمر الفرد في الدنيا له حد محدود غير معروف لأحد غير الله ، فلكل أجل كتاب . ولذلك تجد واحداً يعيش متوسط الأعمار وهو سبعون عاماً . ويختلف العمر من إنسان لآخر ، وقد يموت آخر عند الستين وثالث يموت في الأربعين ورابع يموت في المائة ، وخامس يموت وهو طفل رضيع .
إذن فدنيا الفرد قد تكون لحظة . ومادامت مسألة العمر لا يحكمها زمن ولا يحكمها سبب فهي - إذن - بإرادة الحق غيب .
(1/2185)

وأقضية الموت في الوجود جعلها الله شائعة في كل زمن ولم يجعلها الحق بعد الميلاد . بمعنى أن يولد الإنسان ليموت من بعد ذلك ، لا ، فقد يموت الكائن البشري وهو جنين في بطن أمه؛ فهذا حمل يسقط من بعد ساعة ، وذاك حمل يسقط من بعد شهر أو شهور ، وجعل الحق لنا ذلك لنأخذ من الأمر الغيبي وهو الجنين في البطن مراحلَ تكوينه . إنه يعطينا شكل الجنين بعد نصف ساعة من التكوين ، ويعطينا شكل الجنين من بعد ساعة . وكل الأزمنة في الحياة والموت موجودة . وعندما نحلل تلك الأشكال نجد أمامنا كل أطوار الجنين ، وكل أطوار الحياة ليكون ذلك واضحا جليا حتى لا يحسب أحد لنفسه عمراً في هذه الدنيا .
ومادام الثمن الذي يأخذه المرتشون ليغيّروا آيات الله وأحكامه سينفعهم في هذه الدنيا ، وأعمارهم في هذه الدنيا محدودة ، كان عليهم أن يتذكروا أن حياتهم زمنياً قليلة بالنسبة لعمر الدنيا . وحتى يقوم الإنسان بعملية اقتصادية لا بد أن يتعرّف إلى أن عمره محدود بقدر سنوات مجهولة بالنسبة له في هذه الحياة ، وهو عمر محدود مهما طال . وإن قارنها الإنسان بالحياة في العالم الآخر فسيجد أن عمره الدنيوي منهي ، فإن قايضه بعمر غير منهي هو عمره في الآخرة ، فذلك هو الفوز العظيم؛ لأن وجود الإنسان في الدنيا مظنون ، ووجود الإنسان بالنسبة للآخرة متيقن . ونعيم الفرد في الدنيا هو على قدر إمكاناته ولو في السلب . ونعيم الإنسان في الآخرة ينسب إلى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى .
إذن فأي صفقة تكون هي الرابحة؟ محدود مقابل غير محدود ، ومظنون مقابل متيقن ، ونعيم على قدر مكنة وسلطان الفرد ولو بالسلب مقابل نعيم على قدر طلاقة قدرة الحق ، أي صفقة هي الرابحة؟ إذن فصفقة الدنيا قليلة بالنسبة لما وعد الله به المتقين . ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } .
ماذا يعني الحكم بما أنزل الله؟ .
نعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل قضية مخالفة في الكون حكماً ، فإذا أردت أيها الإنسان أن تحكم في أمرٍ فعليك أن تبحث عن جوهره بسلسلة تاريخ هذا الأمر . ونجد أن قمة كل الأمور هي العقيدة ، وهو وجود الواحب الأعلى وهو الله ، فإن حكمت بأنه غير موجود فذلك هو الكفر . ؟ وإن آمن الإنسان بالله ثم جاء إلى أحكام الله التي أنزلها وقال : لا ليس من المعقول أن يكون الحكم هو هكذا . فهذا لون من رد الحكم على الله وهو لون من الكفر .
أما إن آمن الإنسان بالحكم وقال : إنني أصدق حكم الله ، ولكن لا أقدر على نفسي فهل هذا كفر؟ أم هذا ظلم؟ . إنه ليس كفراً ، ويكون ظلماً إن كان حكماً بين اثنين . وهو فسق إن كان بين الإنسان وبين نفسه؛ لأنه يفسق عن الحكم كما تفسق الرطبة عن قشرتها .
(1/2186)

فالفاسق هو من له إطار من التكليفات ويخرج عن هذا الإطار كالرطبة التي خرجت من قشرتها . ومادامت الرطبة قد خرجت من قشرتها فهي عرضة للتلوث .
إذن فإن سمعت قول الله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ]
وعندما تسمع : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } [ المائدة : 45 ]
وعندما نسمع : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } [ المائدة : 47 ]
فتذكر أحكام الله وحاول أن تقدر على نفسك . وقيل : إن ذلك لليهود؛ لأن الحق قال : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [ المائدة : 44 ]
وقيل : إن الثانية جاءت للنصارى الذين لم يحكموا بالإنجيل .
ولنا أن نقول رداً على مثل هذه الأقوال : امن الممكن أن يكون ذلك للأديان السابقة على الإسلام وليس موجوداً بالإسلام؟ ذلك أمر لا يقبله العقل أو المنطق ، فهي آيات نزلت في مناط الحكم عامة . فإن حكم إنسان في قضية القمّة وهي العقيدة بغير الحق ، فذلك هو الكفر . وإن ردّ الإنسان الحكم على منشئه - وهو الحق الأعلى - فهذا لون من الكفر . وإن آمن الإنسان بالقضية وهو مؤمن بالإله فغلبته نفسه فهذا هو الفسق . وإن حكم إنسان بين اثنين وحاد ومال عن حكم الله فهذا هو الظلم .
إذن ف " كافرون " و " ظالمون " و " فاسقون " تقول لنا : إن الألفاظ اختلفت باختلاف المحكوم به . فلا يقولن أحد : إن تلك آية نزلت لتلك الفئة ، وتلك الآية نزلت لفئة أخرى ، وثالثة نزلت لفئة ثالثة ، ولكنها أحكام عامة لمناط التكليف عامة . والحق قال في بداية كل حكم " ومَن " ومَن كما نعلم كلمة عامة . والدليل على ذلك أن من يحكم بغير ما أنزل الله إنما هو يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً ورد الحكم على الله . وقال الحق في الآية اللاحقة : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ]
إنها أحكام تتعلق بجرائم ، وعقوبات على جرائم ، وهنا يكون الحكم بغير ما أنزل الله ظلماً . إذن فالأمر يختلف حسب المحكوم عليه .
وحينما تعرضنا لقضية الخلق الأول وهو خلق آدم ، وطلب الله من الملائكة المكلفين بتدبير أمور الخلق في الأرض أن يسجدوا لآدم . وقلنا إن هذا السجود هو رمزية لأن يكونوا في خدمة آدم؛ لأن كل مظهر من مظاهر القوة في الكون لا نرى الملك الذي يديره ، فكل قوة لها ملك معين ، ولأن ذلك الأمر من الغيب فنحن لا نراه ، إنها ملائكة مدبرات أمر . وحين يبلغهم الحق أن الطارش علىلكون وهو آدم ، وأنهم في خدمته ، ومن أجل ذلك أمرهم بالسجود لآدم . ولذلك نجد أن بعضاً من الملائكة الذين ليسوا من المدبرات أمرا لم يشملهم الأمر . ويكلم الحق إبليس عندما رفض السجود قال سبحانه :
(1/2187)

{ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ]
إن " العالين " هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يدرون ولا يعلمون بأمر آدم ، فقد سأل الحق إبليس : أانت مستكبر عن السجود أم أنت من العالين الذين لم يشملهم أمر السجود؟ وقلنا إن إبليس لم يكن من الملائكة ، لأنه بنص القرآن : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ]
ولذلك لا يصح أن يكون " إبليس " محل خلاف أهو من الملائكة أم لا! فهو ليس من الملائكة . وفي القرآن نص صريح يثبت جنسية إبليس . وهو من الجن . وكان من المختارين ، له أن يطيع أو أن يعصي . لأن الجن داخلون في قانون الاختيار . فإن ألزم الجنّي نفسه بمنهج الله إلزاماً يتساوى به مع الملائكة وجب عليه أن يقوم بذلك . ولكنه لم يفعل . وكان من الواجب أن يطيع إبليس الأمر . ومادام الحق هو الذي أمر بالسجود ، فالأدنى وهو إبليس كان عليه أن يسجد؛ لأن المراتب محفوظة كما نعلم ، فرئيس الجمهورية عندما يدخل على الوزراء فهم يطيعون أمره ، وإن كان يجلس مع الوزراء بعض وكلاء الوزارات فهم يطيعون أوامره؛ ذلك أنهم يدخلون في الأمر من باب أولى . ولو كان إبليس أعلى من الملائكة لكان أولى له أن يستجيب لأمر الخالق الأعلى ولا يعصى ويتأبى ، أما وإنّه كان أقل من الملائكة فكان لا بد من باب أولى - أن ينصاع لأمر الله . لكن إبليس علل أمر عدم السجود ، فقال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ]
وفي آية أخرى قال سبحانه : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ]
وحين يتأبّى كائن على الحكم ، أيتأبّى على الحكم الأصم ، أي على الحكم من حيث هو حكم دون النظر إلى الحاكم ، أم على مَن حكم بالحكم وهو الأعلى سبحانه؟ . تأبى إبليس على من حكم بالحكم ، ولذلك طرده الحق من الجنة وصار ملعوناً . لكن آدم عصى ربه وقرب من الشجرة التي نهاه الله عنها . ومن رحمة الله تعالى أنه جعل في التكليفات مقدمات تنطبق على حالة المكلف نفسه ، فلم يقل الحق لآدم : لا تأكل من الشجرة . ولكنه قال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ البقرة : 35 ]
لأن الحق علم أن آدم إنسان ، والإنسان من الأغيار ، وهو عندما يرى الشجرة بثمارها قد لا يقدر على نفسه ، ولذلك كان من الأفضل ألا يقرب من هذه الشجرة . وسبحانه يريد أن يحمي الإنسان؛ لأن التكليفات التشريعية لا يرفعها الحق ، ولا يُعفى المكلف من القيام بها إلا في الأمر الذي ليس للإنسان فيه اختيار ، ولذلك أراد الحق أن يحمي الإنسان من الاقتراب من تلك الشجرة حتى لا تغريه وجاء الحق بمثل هذا الأمر في الخمر فلم يقل : لا تشربوا الخمر . ولكنه قال :
(1/2188)

{ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ]
لأن الإنسان لو جلس في مجلس خمر ورأى السُّكارى قد سعدوا وضحكوا فقد تراوده نفسه على شرب الخمر . إذن فالأمر بالاجتناب هنا أبلغ من " لا تشربوه " . ونجد أن تكليفات الحق إنما تاتي للعمل النزوعي ، ومعنى العمل النزوعي أن يتحرك الإنسان للعمل . أما بالنسبة للإدراكات فمن الجائز أن يدرك الإنسان الأمر . ويترك الحق لنا حرية حب من نشاء وكراهية من نشاء . ولكن هذا الحب لا يصح أن يصدر عنه عمل نزوعي فنجامله بالباطل . وكذلك الكراهية فليس هناك أمر بالكراهية ، ولكن إن كره إنسان إنساناً فلا يصح أن يظلمه . فالمنهيّ عنه هو الظلم ، ولذلك قال الحق : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ } [ المائدة : 8 ]
أي لا يحملنكم بغض قوم ألا تعدلوا . إذن فالحق لم يحرم البغض لأنه مسألة عاطفية . ولكن التحريم ينحصر على الإقدام على عمل يخل بميزان العدل مع من تكره . ويجب أن يؤمن الإنسان إيماناً جازماً بأن من ظلمه بمعصية ، فلا يجازيه الإنسان إلا بطاعة الله . وآدم أكل من الشجرة ، فهو - إذن - قد تجاوز مسألة الاقتراب إلى مسألة الأكل من الشجرة؛ لأنه لو قرب منها لكان مخالفاً ، فما بالنا وهو قد أكل منها أيضاً؟ إذن فقد أوغل آدم في المعصية ، لكنه قال : ( ظلمنا أنفسنا ) .
وهذا اعتراف واضح بأن حكمك يا الله هو الحكم الحق ، لكني لم أقدر على نفسي يا ربي . إذن فهو لم يَرُدَّ الحكم على الله ، ولكنه اعترف بأنه لم يقدر على تنفيذ الحكم ، لذلك أعطاه الله كلمات ليقولها فيتوب عليه . وسبحانه هو الذي علم آدم كيف تكون التوبة . فآدم - إذن - ليس كإبليس الذي رد الحكم على الله؛ لأن آدم قال : أنا لم أقدر على نفسي .
إذن فمن لم يحكم بما أنزل الله رادّاً للحكم على الله ومخطّئاً لله - سبحانه - فهو كافر . وإن كان حكماً بين اثنين وحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم . أما إن كان حكماً علىلنفس ولم يقدر عليه الإنسان فهذا فسق . وكل وصف جاء حسب حكمه . ولا داعي - إذن - للجدل ولا للخلاف ولا ادعاء أن هناك قولاً يقصد به اليهود ، وآخر ورد في النصرانية ، ولا يصح أن يزين الإنسان الباطل لأحد ، لأن ورود الحكم بما أنزل الله في الإسلام أمر جازم يوجب الالتزام به .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ . . . }
(1/2189)

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
لقد كتب الحق على اليهود في التوراة التي وصفها من قبل بأنها هدى ونور ، كتب وأوجب عليهم أن النفس بالنفس ، وعلينا أن نأخذ كل أمر وما يناسبه من الحدث . أي أن النفس تُقتل بالنفس . ولكن عندما يقول الحق : { والعين بالعين } ، فهل يعني ذلك أن تقتل العين؟ لا . ولكن العين نقلع مقابل عين . وكذلك { والأنف بالأنف } . أي الأنف المجدوعة ، مقابل جدع أنف أخرى . وكذلك قوله الحق : { والأذن بالأذن } أي إصابة اذن بالصمم مقابل إصابة أذن بالصمم . إذن فلكل ما يقابله . فهناك النفس تقتل بالنفس وهناك العين تفقأ بالعين ، وكذلك الأمر في جدع الأنف ، وصلم الأذن .
إن تعبيرات اللغة واسعة تعطي لكل وصف ما يناسبه . فالإنسان مثلاً قد يكون جائعاً . ولكن إلى ماذا؟ إن كان جائعاً لطعام فهو جوعان . وإن أراد خصوصية أكل ويشتهيه كاللحم فلا يقال له : جوعان ، ولكن يقال " قَرِم " . وإن كان يشتهي اللبن يقال له : " عَيْمان " ، وإن كان في حاجة للماء يقال له : " عطشان " . وإن كان جائعاً للجنس فهو " شَبِق " .
وذلك يكشف لنا أن الإنسانية تحتاج إلى أمور متعددة ، وكل أمر له اسم . وكل شيء له تعبير . ومثال آخر : يقال : فلان جلس ، أي قعد . وهذا في المعنى العام . ولكن الجلوس يكون عن اضطْجاعٍ . أما قعد ، فهي عن قيام ، أي كان قائماً وقعد . ولذلك قال الحق : { قِيَاماً وَقُعُوداً } .
ومثال آخر : يقال : " نظر " و " رمق " و " لمح "؛ وكل كلمة لها موقفها؛ فالنظر يكون بجميع عينيه . و " رَمِق " أي لحظ لحظا خفيفاً . و " لَمَح " أي اختلس النظر إليه . وكذلك قوله الحق معناه : أننا كتبنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفسن والعين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوعة بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مخلوعة بالسن . وبعد ذلك يقول الحق عن الجروح : { والجروح قِصَاصٌ } لأن الجرح قد يكون في أي مكان . والقصاص يكون بمثله ومساوياً للشيء ، وهو مأخوذ من قص الأثر؛ أي السير تبعاً لما سارت عليه القدم السابقة دون انحراف . ولما كان القصاص هو أمر مطلوب فيه المماثلة فذلك أمر صعب ، صحيح أن الحق قال : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ]
لكن القصاص أمر صعب ، فالصفعة من يد جائع متهافتة بعكس الصفعة التي تأتي من يدٍ صاحبُها في منتهى النشاط والقوة . فكيف يكون القصاص مناسباً لقوة الذي فعل الفعل؟
إذن لا يصح أن يدخل الإنسان في متاهة . ويمكنه أن يتصدق بالقصاص فلا يأخذه . ونحن نعلم حكاية " تاجر البندقية " ذلك المرابي اليهودي الذي أقرض نقوداً مقابل رطل من لحم صاحب القرض ، وكتب الاثنان لاتعاقد وجاءا بالشهود ولم يستطع الرجل أن يُسدّد المال في الميعاد ولكن القاضي أنار الله بصيرته .
(1/2190)

فقال : خذ الرطل من لحم الرجل ولكن إن أنقصت أوقية فسنأخذها منك أو إن زدت أوقية فسنأخذها منك . فقال المرابي : لا أريد .
وقد قنن الحق للجريمة ، ولم يغلق سبحانه باب الطموحات الإيمانية ، فقال : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُْ } . ومعنى " تصدق " أنه دفع وأعطى شيئا غير مستحق ، ولا واجب عليه أي تبرع به ابتغاء وجه الله . إن الذي يتعب البشر في تقنيناتهم أنهم يطلبون إجراءات التقاضي ، فساعة تقع جريمة يستمر التحقيق فيها بواسطة القضاء لأكثر من عام فتنبهت بشاعة الجريمة في النفس البشرية . ومن الواجب كذلك أن يكون الأمر لولي القصاص؛ لأنك إن مكنته أرضيت نفسه بأول شفاء . وساعة يُعطي الإنسان ذلك الحكم فقد يزهد فيه؛ لأن الأمر حين يكون في يده ويقدر على القصاص فمن المحتمل أن يعفو .
وسيظل المتصدَّق عليه طيلة حياته يدين بحياته أو بجارحة من جوارحه لصاحب القصاص . وبدلاً من إيعازات الثأرات تنشأ المودة . وحين يشرع المشرع الأعلى يوضح لنا : لا تحكم بأنك دائماً معتدى عليك ، بل تصور مرة أنك معتد ، ألا تحب في مثل هذه الحالة أن يتصدق عليك صاحب القصاص؟ فإذا أرادت الحكومات لأن تنهي الثأرات فلهم في التشريع الأعلى الحكم الواضح .
وفي صعيد مصر ، ساعة يُقتل إنسان نجد الذي عليه الثأر يأخذ كفته ويذهب إلى العائلة الطالبة للثأر ، ولحظة يدخل عليهم حاملاً كفنه بيديه ، تشفي النفوس من طلب الثأر . ويحيا ، وصاحب الثأر متفضل عليه بالعيش { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } تكون الصدقة هنا من ولي القصاص . والفعل " تصدق " يحتاج إلى اثنين هما : " متصدِّق " و " متصدَّق عليه " . وسبحانه الحق يكفر عن المتصدق من الذنوب بقدر ما تسامح فيه لأخيه ، وهنا يحنن الله الخلق بعضهم على بعض؛ لذلك تأتي المسألة هنا من ناحية صاحب القصاص لترغبه في التصدق .
وينهي الحق الآية بقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } وعرفنا من قبل ضرورة الحكم بما أنزل الله . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم . . . }
(1/2191)

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
وقفينا أي اتبعنا ، فعيسى جاء من بعد موسى ، فعندما يمشي رجل خلف رجل نجد أن قفا الأول يكون في وجه الثاني . وعندما يقول الحق : { وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي مصدقاً لموسى الذي جاء بالتوراة . { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } . وعرفنا أن " الهدى والنور " يناسبان البيئة التي نزلت إليها تلك الهداية وذلك النور .
إن هناك مقولات اسمها " المقولات الإضافية " ، كأن يقول إنسان في قرية لابنه : أشعل الضوء . ويشعل الولد المصباح الكيروسيني؛ أما إذا قال إنسان في مدينة لابنه : أضيء النور ، فالابن يضغط على الزر ليضيء المصباح الكهربائي . وهذه الإضافات قد تجعل اللفظ يحمل معنيين . ومثال آخر أكثر وضوحاً : يسكن الإنسان في منزل ما ، ويعرف أن السقف عال بالنسبة له ، ولكنه أرض بالنسبة لأصحاب الدور الثاني ، إنه علو وسفل وهذا هو المعنى الإضافي . وكذلك عندما نقول : فلان ابن فلانن فهذا لا يمنع أن هذا الابن يكون أباً بالنسبة لابنه .
إذن { هُدًى وَنُورٌ } هي معان إضافية . وكل " هدى ونور " يناسب البيئة التي نزل يفيها . فالبيئة المادية الأولى كانت في حاجة إلى تقنين؛ لذلك جاءت التوراة ، ومن بعد ذلك صارت هذه البيئة المادية في حاجة إلى طاقة روحية؛ لذلك جاء الإنجيل بكل الروحانيات ، وعندما سئل عيسى ابن مريم عليه السلام في قضية الميراث قال : أنا لم أرسل مورثاً ، فهو يعلم أنه جاء بشحنة روحية فيها مواجيد ومواعظ .
ويتابع الحق من بعد ذلك : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل . . . }
(1/2192)

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
والحق أنزل في الإنجيل أن الأحكام تؤخذ من التوراة . أي أن الإنجيل تضمن إلى جانب روحانياته أسس الأحكام الموجودة في التوراة . ولذلك أوضح الحق : من لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق مادام قد خرج على الطاعة . فإن خرج أحد على الطاعة في أمر الألوهية والربوبية فهو كافر . ومن خرج على الأحكام بالنسبة للحكم بين الناس فهو ظالم . إذن فالمسألة كلها متداخلة ، فالشرك ظلم عظيم أيضاً .
وبعد أن تكلم الحق عن التوراة والإنجيل ، جاء بما نزل إلى النبي الخاتم : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب . . . }
(1/2193)

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
وساعة نسمع كلمة " أنزلنا " نعرف أن هناك تشريعاً جاء من أعلى . وهناك من يريد أن يلبس الناس أهواءه ، فيقول : إن الإسلام دين تقدمي ، أو يقول : الإسلام دين رجعي ، وكلاهما يحاول أن يلبس الإسلام بما ليس فيه ، ونقول : لا تقولوا ذلك ولكن قولوا الإسلام فوقي؛ أنه جاء من الله ، فإن كان للتقدمية مزايا فهو تقدمي ، وإن كان للرجعية مزايا فهو رجعي ، وإن كان لليمين مزايا فهو يميني وإن كان لليسار مزايا فالإسلام يساري؛ فقد جاء الإسلام بالاستطراق الاجتماعي والتقدم العلمي الأصيل؛ لأن مفهوم التقدم هو أن يرتقي الإنسان بنفيه ارتقاءً متقدماً يجعل الناس متكافئين .
إن الإسلام ليس تقدمياً فقط بالنسبة للحياة الدنيا ولكن بالنسبة لحياة أخرى خالدة فوق هذه الحياة . إن الذين يناقشون تلك الأفكار لا يحسنون فهم أفكارهم سواء أكانت تقدمية أم رجعية أم يمينية أم يسارية . ونرى أن المناهج المعاصرة التي تسبب كل هذا الصراع في الدنيا من شرق وغرب هي : الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والوجودية وغيرها .
وعندما ننظر - على سبيل المثال - إلى القائمين على أمر الثورة الشيوعية عام 1917 ، نجد قولهم : إنهم مازالوا في بداية الطريق إلى الشيوعية ، ولكنه اختيار الطريق الاشتراكي .
كان يجب أن يتجهوا إلى ما نادوا به ، ولكن ها نحن أولاء نرى أنهم كلما تقدموا في الزمن تراجعوا عن أفكارهم الأولى . حتى انقلبوا على أنفسهم . وذلك دليل على أن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم غير صحيح .
والمنهج الرأسمالي أظل كما هو؟ لا؛ لأن الأحداث قد اضطرت الرأسمالية أن تعطي العمال حقوقاً وبذلك لم تبق لرأس المال شراسته . كما سارت الشيوعية إلى معظم أساليب الرأسمالية . والرأسمالية سارت إلى بعض من أساليب الاشتراكية وهما - إذن - يريدان أن يلتقيا . ولكن الإسلام أوجد هذا اللقاء من البداية ، فاحترم رأس المال ، واحترم العمل . وكل إنسان لزم حدوده . وضمن وجود واستمرار حركة الحياة . ولذلك نجد أن الرأسمالية تقول : يجب أن توفر الحوافز للعمل . ولم تصل الشيوعية أيضا إلى مداها ، بل قامت لإهدار حقوق الناس ، ثم ماذا عن الذين لم تمتد إليهم يد الشيوعية - قبل أن توجد - وكان فيهم من يستغل الناس؟
كان العقل يحتم أن تؤمن الشيوعية بان هناك آخرة يعاقب فيها من استغلوا الناس من قبل ، ومن مصلحتهم إذن أن توجد آخرة . وكان من اللازم أن يكونوا متدينين . وكذلك الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالربح المادي ، امتلأت مجتمعاتها بالضحايا الذين فقدوا المعنويات . وقول الحق : " أنزلنا " يعتبر أن هناك منهجاً نزل من أعلى . وحين نأخذ معطيات البيان القرآني ، نجده سبحانه يبلغنا تعاليمه : { قُلْ تَعَالَوْاْ } . أي ارتفعوا إلى مستوى السماء ولا تهبطوا إلى حضيض الأرض .
(1/2194)

ولذلك قال الحق : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق } ونرى أن آيات القرآن تتآزر وتخدم كل منها الأخرى . ونزول الكتاب بالحق يحتاج إلى صدق دليل أنه ينزل من الله حقا ، وأن تأتي كل قوانين الحق في حركة الحياة بالانسجام لا بالتنافر ، وهناك آية تشرح كلمة " الحق " : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } [ الإسراء : 105 ]
أي أنه نزل من عند الله وليس من صناعة بشر . { وبالحق نَزَلَ } أي نزل بالمنهج من عند الله الذي يقيم منطق الحق في كل نفس وكل مكان ، ويَضمن كل حق يقيم حركة الحياة .
وهنا أجملت الآية ، فقالت : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب } أي أن القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة . وما الفارق بين كلمة " الكتاب " الأولى التي جاءت في صدر الآية ، وكلمة " الكتاب " الثانية؟
إننا نعلم أن هناك " ال " للجنس ، و " ال " للعهد ، فيقال " لقيت رجلا فأكرمت الرجل " ، أي الرجل المعهود الذي قابلته . فكلمة الكتاب الأولى اللام فيها للعهد أي الكتاب المعهود المعروف وهو القرآن ، وكلمة الكتاب الثانية يراد بها الجنس أي الكتب المنزلة على الأنبياء قبله ، فالقرآن مهيمنٌ رقيبٌ عليها؛ لأنها قد دخلها التحريف والتزييف .
كلمة " الحق " - إذن - تعني أن كتاب الله الخاتم لكتبه المنزلة وهو القرآن قد نزل بالحق الثابت في كل قضايا الكون ومطلوب حركة الإنسان . ونزل بالحق بحيث لم يصبه تحريف ولا تغيير .
إذن فالحق هو في مضمونه وفي ثبوت نزوله . وقد نزل القرآن بعد كتب أنزلها الله متناسبة مع الأزمنة التي نزلت فيها؛ لأنه سبحانه خلق الخلق لمهمة أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن يعمروا هذا الكون بما أمدّهم به من عقل يفكر ، وطاقات تنفّذ ، ومادة في الكون تنفعل ، فإن أرادوا أصل الحياة مجرداً عن أي ترقٍ أو إسعاد فلهم في مقومات الأرض ما يعطيهم ، وإن أرادوا أن يرتقوا بأنفسهم فعليهم أن يُعملوا العقل الذي وهبه الله ليخدم الطاقات التي خلقها الله في المادة التي خلقها الله ، وحينئذ يأخذون أسرار الله من الوجود .
إن أسرار الله في الوجود كثيرة ، وتفعل لنا وإن لم نعرف نحن السر . فنجد الجاذبية التي تمسك الأفلاك تفعل لنا ، وإن لم نكن قد اكتشفنا الجاذبية إلا أخيراً . والكهرباء السارية في الكون سلباً وإيجاباً تعمل لنا وإن لم نعرف ما تنطوي عليه من سرّ
إن الحق سبحانه حين يريد ميلاد سر في الكون سبحانه يمد الخلق بأسباب بروز هذا السر . واعلموا أن كل سر من أسرار الكون المسخر للإنسان له ميلاد كميلاد الإنسان نفسه ، إما أن يصادف - هذا الميلاد - عمل العقل في مقدمات تنتهي إليه ، وحينئذ يأتي الميلاد مع مقدمات استعملها البشر فوصلوا إلى النتيجة ، تماماً مثل التمرين الهندسي الذي يقوم الطالب بحله بعد أن يعطيه الأستاذ بعضاً من المعطيات ، ويستخدمها التلميذ كمقدمات ليستنبط ما يريد المدرس أن يستنبطه من مطلوب الإثبات .
(1/2195)

فإن صادف أن العقل بحث في الشيء معملياً وتجريبياً وصل ميلاد السر مع البحث . وإن جاء ميلاد السر في الكون ، ولم يشغل الإنسان نفسه ببحث مقدمات توصل إليه ، وأراد الله ذلك الميلاد للسر فماذا يكون الموقف؟
أيمنع الله ميلاد السر لأننا لم نعمل؟ . لا . بل يخرج سبحانه السر إلى الوجود كما نسمع دائماً عن مصادفة ميلاد شيء على يد باحث كان يبحث في شيء آخر ، فنقول : إن هذا السر خرج إلى الوجود مصادفة .
وإذا نظرت إلى الابتكارات والاختراعات وأمهات المسائل التي اكتشفت لوجدتها من النصف الثاني ، ونجد المفكر أو العالم وقد غرق في بحث ما ، ثم يعطيه الله سراً من أسرار الكون لم يكن يبحث عنه ، فيقال عن الاكتشاف الجديد : إنه جاء مصادفة ، وحينما جعل الله لكل سر ميلاداً ، فهو قد أعطى خلقه حياة من واسع فضله ، وأعطاه قدرة من فيض قدرته وأعطاه علماً من عنده { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } ، ووهبه حكمة يُؤتى بها خيرا { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } . وهو سبحانه وتعالى يريد من خلقه أن يتفاعلوا مع الكون ليبرزوا الأشياء ، وإذا كان سبحانه يريد منا أن ننفعل هذا الانفعال فلا بد أن يضع المنهج الذي صون طاقاتنا وفكرنا مما يبددهما .
والذي يبدد أفكار الناس وطاقاتهم هو تصارع الأهواء ، فالهوى يصادم الهوى ، والفكرة قد تصادم فكرة ، وأهواء الناس مختلفة؛ لذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن لنا اتفاق الأهواء حتى نصدر في كل حركاتنا عن هوى واحد؛ وهو ما أنزله الخالق الأعلى الذي لا تغيره تلك الأهواء . أما ما لا تختلف فيه الأهواء فتركنا لكي نبحث فيه؛ لأننا سنتفق فيه قهراً عنا . ولذلك نقول دائما : لا توجد اختلافات في الأفكار المعملية التجريبية المادية ، فما وجدنا كهرباء روسية ، وكهرباء أمريكية لأن المعمل لا يجامل . والمادة الصماء لا تحابي . والنتيجة المعملية تخرج بوضوحها واحدة .
إننا نرى اتفاق العلماء شرقاً وغرباً في معطيات المادة التجريبية وتحاول كل بلد أن يسرق من البلد الآخر ما انتهى إليه من نتائج لتدخلها على حضارتها ، بينما يختلف الأمر في الأهواء البشرية ، فكل بلد يحاول أن يبعد هوى الآخر عن حدوده؛ لأن الأهواء لا تلتقي أبداً ، والحق قد وضع حركة الحياة لتنفعل ب " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " مما تختلف فيه الأهواء ليضمن اتحادنا وعدم تعاند الطاقات فينا . بل تتساند معاً . { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ }
(1/2196)

[ المؤمنون : 71 ]
إذن فمنهج الله في كونه إنما جاء لينظم حركة الإنسان فيما تختلف فيه الأهواء . أما الحركة فيما لا تختلف فيه الأهواء فقد تركها سبحانه حرة طليقة : لأن البشر يتفقون فيها قهراً عنهم ، لأن المادة لا تجامل والمعمل لا يحابي .
ولذلك قلنا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله نبياً خاتماً أعطى ب " افعل ولا تفعل " . أما بالنسبة للأمر المادي المعملي فقد جعل أمره في ذات النبي صلى الله عليه وسلم . " فعندما قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان أهلها يأبرون النخل؛ أي يلقّحونه ليثمر . فمر النبي صلى الله عليه وسلم بقومٍ يلقحون فقال : " لو لم تفعلوا لصلح " .
فلم يأْبُروا النخل ، فخرج شيصا؛ أي بُسْراً رديئاً ، وخاب النخل . ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما لنخلكم؟ قالوا : قلت كذا وكذا . فقال صلى الله عليه وسلم : " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل " .
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال :
" إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر "
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنها قضية كونية مادية تجريبية معملية : " أنتم أعلم بأمر دنياكم "
أي أنه صلى الله عليه وسلم ترك للأمة إدارة شئونها التجريبية ، ولم يكن ذلك القول تركا للحبل على الغارب في شئون المنهج ، فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفيصل فيما تتدخل فيه السماء ، وفيما تتركه السماء للبشر ، وأعمار الناس - كما نعلم - تختلف ، فنحن نقول للإنسان طفولة ، وله فتوة ، وشباب ، وله اكتمال رجولة ونضج؛ لذلك يعطي الحق من الأحكام ما يناسب هذا المجتمع؛ يعطي أولاً الاحتياج المادي للطفولة ، وعند عصر الفتوة يعطيه المسائل الإدراكية ، وعندما يصل إلى الرشد يعطيه زمام الحركة في الكون على ضوء المنهج ، فكانت رسالة الإسلام على ميعاد مع رشد الزمان ، فَأَمِن الحق سبحانه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، أن يقفوا ليحموا حركة الإنسان من أهواء البشر . وكانت الرسل تأتي من عند الله بالبلاغ للمجتمعات البشرية السابقة علىلإسلام . وكانت السماء هي التي تؤدب . ولكن عندما اكتمل رشد الإنسانية ، رأينا الرسول يبلغ ، ويوكِّله الله في أن يؤدب من يخرج على منهج الله في حركة الحياة ، لأنه صلى الله عليه وسلم أصبح مأموناً على ذلك .
وإذا نظرت إلى الكون قديماً لوجدته كوناً انعزالياً ، فكل جماعة في مكان لا تعلم شيئاً عن الجماعة الأخرى ، وكل جماعة لها نظامها وحركتها وعيشها وداءاتها .
(1/2197)

والإسلام جاء على اجتماع للبشر جميعاً . فقد علم الله أزلاً أن الإسلام سيجيء على ميعاد مع إلغاء فوارق الزمن والمسافات ، وأن الداء يصبح في الشرق فلا يبيت إلا وهو في الغرب ، وكذلك ما يحدث في الغرب لا يبيت إلا وهو في الشرق .
إذن فقد اتحدت الداءات ولا بد أن يكون الدواء واحداً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعاً للزمان وجامعاً للمكان ومانعا أن يجيء رسول آخر بعده ، وأن العالم قد وصل إلى قمة نضجه . فإذا ما جاء الإنسان ليعلم منهج الله ب " افعل " ولا " تفعل " ، وجد أن المنهج محروس بالمنهج ، بمعنى أن الكتب السابقة على القرآن فيها " افعل " و " لاتفعل " ، والقرآن أيضاً فيه " افعل " و " لا تفعل " لكن المنهج السابق على القرآن كان مطلوباً من المنزل إليهم أن يحافظوا عليه ، ومادام قد طلب الحق منهم ذلك فكان من الواجب أن يتمثلوا لطاعته لكنهم تركوا المنهج . فكل منهج عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى ، ولم يحفظوا الكتب وحدث فيها التحريف بمراحله المختلفة والتي سبق أن ذكرناها وهي النسيان وهو متمثل في قوله الحق : { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 13 ]
وما لم ينسوه كتموا بعضه ، فقال الحق فيهم : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله } [ البقرة : 159 ]
وما لم يكتموه حرفوه ولووا ألسنتهم به وقال الحق : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب } [ آل عمران : 78 ]
ولم يقتصروا على ذلك بل وضعوا من عندهم أشياء وقالوا إنها من عند الله . وكان أمر حفظ كتب المنهج السابقة موكولاً لهم وبذلك قال الحق عنهم : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } [ المائدة : 44 ]
أي أن الحق طلب منهم أن يحافظوا على المنهج ، وكان يجب أن يطيعوه ولكن أغلبهم آثر العصيان . فلما عصى البشر المنهج ، لم يأمن الله البشر من بعد ذلك على أن يستحفظهم على القرآن ، وكأنه قال : لقد جُرّبْتم فلم تحافظوا على المنهج ، ولأن القرآن منهج خاتم لن يأتي له تعديل من بعد ذلك فسأتولى أنا أمر حفظه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
ومادام الحق هو الذي يحفظ المنهج فالقرآن مهيمن على كل الكتب؛ لأنه سبحانه وتعالى قد ضمن عدم التحريف فيه . إذن فالكتاب المهيمن هو القرآن ، ومادام القرآن هو المهيمن فهو حقيقة ما يسمى بالكتاب .
ودليل العهد هو قول الحق : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب } أما قوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب } فالمقصود به الزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى ، ثم جاء القرآن مهيمناً على كل هذه الكتب .
وساعة نجد وصفاً وصف به غير الله وسمى به الله نفسه فما الموقف؟ نعرف أن لله صفات بلغت في تخصصها به مقامها الأعلى بالله ، مثل قولنا : " الله سميع " والإنسان يسمع ، و " الله غني " ويقال : " فلان غني "؛ فإذا سمي الحق باسم وجد في الخلق ، فليس من المتصور أن يكون هذا صفة مشتركة بين العبد والرب ، ولكننا نأخذ ذلك في ضوء : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
(1/2198)

إن أي اسم من هذه الصفات على إطلاقه لا ينصرف إلا لله ، فإن قلت : " الغني " على إطلاقه فهو اسم لله ، وإن قلت : " الرحيم " على إطلاقه فهو اسم لله . فإذا أطلق اللفظ من أسماء الله على اطلاقه فهو لله ، واسم " المهيمن " يطلق هنا على القرآن وهو اسم من أسماء الله . ومن معنى " مهيمن " أنه مسيطر .
ومن أمثلة الحياة أننا نرى صاحب مصنع يطلق يد مدير في شئون العمل ، وهذا يعني أنه مؤمن ومسيطر وأمين ، ولا بد أن متنبه ، أي رقيب ، وهو شهيد ، إذن فالذين فسروا كلمة " مهيمن " على أنه مؤمن قول صحيح .
والذين فسروا كلمة : " مهيمن " على أنه " مؤتمن " قول صحيح . والذين فسروا كلمة : " مهيمن " بأنه " رقيب " قول صحيح . والذين فسروا كلمة : " مهيمن " بأنه " شهيد " قول صحيح . والذين فسروا كلمة : " مهيمن " بأنه قائم على كل أمر قول صحيح . وإذا رأيت الاختلافات في تفسير اسم واحد من أسمائه - سبحانه - فلتعلم أن الحق بصدق عليه كل ذلك ، وباللازم لا يكون " رقيباً " إلا إذا كان " شهيداً " ، ولا يكون شهيداً إلا إذا كان قائماً على الأمر ، ولا يكون كل ذلك إلا إذا كان مؤمناً ومؤتمنا .
إذن ف " مهيمن " هو قيم وشاهد ورقيب . ومادام القرآن قد جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب فعلى أي مجال يهيمن؟ نحن نعرف مدلول الكتاب بأنه نزل من عند الله ، فإن بقي الكتاب الذي من عند الله كما هو فالقرآن مصدق لما به ، أما إن لعبت في ذلك المنهج أهواء البشر فالقرآن مهيمن لأنه يصحح المنهج وينقيه من أهواء البشر . { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله } . و " احكم " مأخوذة من مادة " حكم " ، و " الحَكَمة " هي قطعة الحديد التي توضع في فم الحصان ونربطها باللجام؛ حتى نتحكم في الحصان . والحكمة هي الأ تدع المحكوم يفلت من إرادة الحاكم .
وحين يقول الحق : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله } فهل يحدث ذلك أيضا مع غير المؤمنين؟ نعم . فإذا ما جاء إليك يا رسول الله أناس غير مؤمنين وطلبوا أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله . ولذلك قال الحق :
(1/2199)

{ فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ]
لكن لماذا جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم برغم عدم إيمانهم به؟
جاءوا إلى الرسول ليحكم بينهم؛ لأنهم ألفوا أن يبيحوا ما حرم الله بشهوات الدنيا وأخذوا لأنفسهم سلطة زمنية ، وماداموا قد أخذوا لأنفسهم سلطة زمنية أنستهم حكم الله . وأرادوا - على سبيل المثال - أن يخرجوا على حكم الرجم وتخفيفه ، ولذلك ذهبوا إلى النبي ، فإن حكم هو بالتخفيف أخذوا بالحكم المخفف ، وإذا لم يحكم بالتخفيف فهم لن يأخذوا الحكم ، هم ذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم بقصد التيسير وقالوا له : أنت تعلم أن لنا سلطاناً وأن لنا نفوذاً ونحن نريد أن تحكم لنا لأنك عندما تحكم لنا سنؤمن بك وبعد ذلك تأتي إليك باقي جماعتنا ليؤمنوا بك ويتبعوك .
لقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تطبيقاً لقول الحق : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } فإذا كان عندهم كتاب التوراة مصوناً من التحريف ، فالرسول يشير عليهم بالحكم الموجود في التوراة ، ولذلك عندما استدعى صلى الله عليه وسلم أعلم علمائهم بالتوراة حاول بعضهم أن يضع يده على السطور التي بها الحكم؛ فالحكم بما أنزل الله يكون من التوراة إن لم يبدل ، أما إذا كان الحكم قد بدله الناس فالحكم من القرآن؛ لأن القرآن هو المهيمن . { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } لأنهم بهذه الأهواء يريدون أن ييسروا على أنفسهم ليستبقوا لأنفسهم السلطة الزمنية ، ووصفهم الحق : { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } [ التوبة : 9 ]
هم - إذن - يريدون أن يستبدلوا بآيات الله مصلحتهم في الحكم . ويقول الحق : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ، وإن افترضنا أن بعضا من التوراة لم يحرف ، وبه حكم أراد الإسلام أن يبدله ، فأي أمر يتبع؟ إن الاتباع هنا يكون للقرآن لأنه هو المهيمن ، فسبحانه أراد بالقرآن أن يصحح ويعدل ويغير .
إن مناهج الأديان في العقائد ثابتة لا تغيير فيهان وأما ما يتصل بالأحكام التي تحكم أفعال الإنسان فالله سبحانه وتعالى ينزل حكماً لقوم يلائمهم ثم ينزل حكما آخر يلائم قوماً آخرين . ولذلك نجد أن سيدنا عيسى قال : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عمران : 50 ]
أي أن هناك أشياء كانت محرمة في دين اليهود . وجاء عيسى عليه السلام ليحلل بعضاً من هذه المحرمات ، وكان التحريم مناسباً بني إسرائيل في بعض الأمور ، وجاء المسيح عيسى ابن مريم ليحلل لهم بعضاً من المحرمات ، وكان تحريم بعض الأمور لبني إسرائيل بهدف التأديب : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ]
إذن فقد يكون تحريم الشيء بسبب الضرر الناشئ منه ، أو بهدف التأديب؛ لأن الإنسان أحل لنفسه ما حرمه الله عليه .
(1/2200)

{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } والشرعة هي الطريق في الماء . والمنهج هو الطريق في اليابسة . ومقومات حياة الإنسان هي من الماء ومن الغذاء الذي يخرج من الأرض فكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى في القيم هذين الاثنين ، الشرعة والمنهاج ، ومادام سبحانه قد جعل لكل منا شرعة ومنهاجاً ، فلماذا قال في موضع آخر من القرآن : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ]
معنى هذا القول هو الاتفاق في أصول العقائد التي لا تختلف أبداً باختلاف الأزمان . ففي بدء الإسلام نجد أنه جاء ليؤصل العقيدة أولاً بلا هوادة ، فنادى بوحدانية الله ، وعدم الشرك به ، وصفات الكمال المطلق فيه ، وعدم تعدد الآلهة . أما بقية الأحكام الفعلية فقد جعلها مراحل . وكان يخفف قليلاً فقليلاً . إذن فالمراحل إنما جاءت في الأحكام الفعلية ، أما العقائد فقد جاءت كما هي وبحسم لا هوادة فيه .
إذن فقوله الحق : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } . هذا القول مقصود به العقائد . ومادام قد شرع لنا في الدين ما وصى به نوحاً ، فهذا توصية بأفعال تتعلق أيضا بزمن نوح ، وسبحانه الذي وضع لنا المنهاج الذي نسير عليه في زماننا . إذن فالأمران متساويان . والمهم هو وحدة المصدر المشرِّع .
ويقول الحق : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } . فلو شاء لجعل " افعل " ولا " تفعل " واحدة في كل المناهج ، ولكن ذلك لم يكن متناسباً مع اختلاف الأزمان والأقوام الانعزالية قبل الإسلام بداءاتها المختلفة؛ لذلك كان من المنطقي أن تأتي الأحكام مناسبة للداءات . { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } [ المائدة : 48 ]
وسبحانه وتعالى لو شاء لجعلنا أمة واحدة في " افعل " و " لا تفعل " ولكنه - سبحانه - لم يرد ذلك حتى لا يألف الناس العبادة وتصير كالعادة عندهم ، فحينما يألف الناس أداء العبادات ، فهم بذلك يحرمون لذة التكليف والإيمان ، فكان لا بد أن يأتي التشريع مناسبا لكل زمان . وذلك ليفرق بين قوم وقوم ففي الصوم - على سبيل المثال - نجد أن الحق يسمح لنا بالطعام والشراب والجنس في الفترة ما بين الإفطار والسحور؛ فالحق يأتي إلى الشيء الرتيب ويأتي فيه أمر الله بالامتناع عنه لفترة زمنية معينة . ولا يقرب المؤمن هذه المحرمات في زمان معين ، ولا يقرب غيرها في أي زمان ومكان . مثل شرب الخمر ، أو أكل لحم الخنزير . والمؤمن لا يقرب هذه الأشياء بطبيعة اختياره . ويأتيه الصوم ليعلمه ويدربه على الانصياع للتكليف فيحرمه الحق من الطعام طول نهار شهر رمضان وكذلك الشراب والجنس .
المسألة - إذن - ليست رتابة أبداً . بل هي ابتلاء واختبار البشر { ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم } والابتلاء - كما نعلم - ليس أمراً مذموماً في ذاته ، هو مذموم باعتبار ما تؤول إليه نهايته ، ومادام سبحانه يبتلينا فيما آتانا فيجب أن نكون حكماء وأن نتسابق إلى الخير :
(1/2201)

{ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ المائدة : 48 ]
والتسابق إلى الخيرات إنما يكون بهدف النجاح في الإبتلاء ، والنجاح يعطينا أكثر مما ننال بعدم الانصياع . إذن فالابتلاء في مصلحتنا يعطي الناجحين فيه نجاحاً أخلد ، وقصارى ما يزينه الشيطان للناس أو ما تتخيله نفوس الناس ، أن تمر الشهوة العابرة وتنقضي في الدنيا العابرة . وبعد ذلك يأتي العذاب المقيم . وعندما نوازن هذا الأمر كصفقة نجدها خاسرة ، لكن إن نجحنا في ابتلاء الله لنا فذلك هو الفوز العظيم : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .
أي تسابقوا في الوصول إلى الخيرات ، لأن الخير إنما يقاس بعائده ، فإياكم أن تفهموا أن الله حَرَمكم شهوات الدنيا لأنه يريد حرمانكم ، ولكنه حرمكم بعضا من شهوات الدنيا لأنها مفسدة . وكان التحريم لزمن محدود ليعطيكم نعيم ومتع الآخرة المُصلحة في زمن غير محدود ، وهذا هو كل الخير .
{ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } والكل يرجع إلى الله سواء الملتزم أو المنحرف ، وأمام الحق نرى القول الفصل : { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . ومادام هناك اختلاف فلا بد أن يوجد من أخذ جانب الخير ومن أخذ جانب الشر ، ولو أن الله قال لنا : " ستأخذون الخير " وسكت عن الشر لكان ذلك كافياً ، لكنه يعطينا الصورة الكاملة . ويتبع ذلك قول الحق : { وَأَنِ احكم . . . }
(1/2202)

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
وقد يقول قائل : إن الله سبحانه وتعالى قال من قبل : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ]
وتكون الإجابة : أن الحق بيّن إن القرآن قد نزل مهيمناً ، وعلى الرسول أن يباشر مهمة التنفيذ؛ لذلك يأتي هنا قوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } بلاغاً للرسول وإيضاحاً : أنا أنزلت إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمناً فاحكم ، فإذا جاءك قوم بشيء مخالف لما نزل من القرآن ، فاحكم بينهم بالقرآن . والذي زاد في هذه الآية هو قوله الحق : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } والحذر هو احتياط الإنسان واحترازه مِمَّن يريد أن يوقع به ضرراً في أمر ذي نفع ، والذي يرغب الضر قد يزين لنفسه ولغيره الذر كأنه الخير ، على الرغم من أن ما في باطنه هو كل الشر .
إذن فالحذر هو ضرورة الانتباه لمن يريد بالإنسان شراً حتى لا يدخل عليه ضُرّاً في صورة نفع ، كأن يأتي خصم ويقول لك : سأضع لك كذا وافعل من أجلك كذا وكذا . يجب عليك هنا أن تقول له : لا .
والحذر - إذن - يقتضي عقلاً مركباً ، ولذلك كانوا يعرفون الحذر من الغراب . فها هوذا الغراب يعلم ابنه في قصة شعبية فيقول الغراب لابنه :
احذر الإنسان؛ لأن الإنسان عندما ينحني ليلتقط شيئاً من الأرض فهو يلتقط قطعة من الطوب ليرميك بها . وهنا يقول الغراب الصغير لوالده : وماذا أفعل لو كان هذا الإنسان يخبئ قطعة الطوب في جيبه؟ إنها قصة توحي بأن الغراب حذر بفطرته .
ونرى مثل ذلك في مظاهر الأشياء كالمرابي الذي يزين للناس أن يضعوا أموالهم عنده ويعطيهم فائدة تبلغ عشرين بالمائة ، هذه صورة شيء ينفع ولكنها ضارة بالفعل؛ لأنها تزيد المال ظاهراً ولكن ينطبق عليها قول الله : { يَمْحَقُ الله الربا } .
وهذا أمر ضار يزينه الخصم وكأنه أمر نافع . والحق يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون حذراً ، فماذا يكون المطلوب من الأتباع؟ . إنه الحذر نفسه؛ لأن أفضل البشر وَجَّهَهُ الله إلى الحذر : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } لأن الصورة التي دخلوا بها هي صورة تزين الخداع ، فقد قالوا : نحن جئناك لتحكم لنا ، فإن حكمت لصالحنا فلسوف نتبعك ، وهذا أمر يبدو في صورة شيء نافع . وجاء القول الحق ليحسم هذه المسألة : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } وهنا يحذر الله ورسوله من الفتنة عن بعض ما أنزله إليه سبحانه .
ويتابع الحق : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ } وهم إن تولوا ، فاعلم أن الله يحميك أن تنزلق إلى شبهة باطل . فهم قد اختاروا أن يوغلوا في الكفر ، وفي الابتعاد عن منهج الله ، وسيصيبهم ببعض عذابه مقابل ذنوبهم ، وسبحانه لا يصيبهم ظلماً ، بل يصيبهم ببعض الذنوب التي ارتكبوها .
(1/2203)

وهو أعلم بهم ، لأنه الأعلم بالناس جميعاً .
ويختم الحق الآية بقول : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ } أي خارجون عن طاعة كتبهم ورسلهم؛ لأن طاعة الكتب السابقة على القرآن تنص على ضرورة الإيمان بالرسول النبي الأمين صلى الله عليه وسلم . ويقول الحق : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون } [ الأعراف : 157 ]
إذن فطريق الفلاح كان مكتوباً في التوراة والإنجيل ، وكان الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي موجوداً في الكتب السابقة على القرآن ، وكانت البشارة بمحمد رسولا من عند الله يأمر بكل الخير وينهى عن كل الشر ويحل للناس كافة الأشياء التي تُحْسِن الفطرة الإنسانية استقبالها ، ويحرم عليهم أن يزيفوا ويغيروا المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألا يستسلموا للعناد ، فقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليزيل عنهم عبء تزييف المنهج . فمن اتبع نور رسول الله صلى الله عليه وسلم أحس بالنجاة والفوز . ومن لم يتبع هذا النور فهو الخارج عن طاعة كتاب السماء . ومحاولة إنكار رسالة رسول الله محكوم عليها بالفشل ، فالعارفون بالتوراة والإنجيل يعرفون وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الكتب . { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ]
ونعلم جميعاً ما فعله عبدالله بن سلام عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه . قال عبدالله بن سلام :
- لأنا أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم منّي بابني .
فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : - وكيف ذلك يا ابن سلام؟ .
قال عبدالله بن سلام : لأني أشهد أن محمداً رسول الله حقاً ويقيناً وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري ، أحداث النساء . فقال عمر بن الخطاب :
- وفقك الله يا ابن سلام .
ولكن بعض علماء بني إسرائيل وأحبارهم كتموا البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كانوا يرجون الرئاسة والطمع في الهدايا التي كان يقدمها الناس إليهم . لذلك عمدوا إلى صفة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها . وماداموا قد فعلوا ذلك فلنعلم أن الله يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم .
ونلحظ أن الحق حين أجرى على لسان رسوله خطاباً إلى اليهود . ولم يأت على لسانه صلى الله عليه وسلم اتهام شامل لليهود ، بل اتهام لبعضهم فقط ، وإن كان هذا البعض كثيراً ، فلنعلم أن ذلك هو أسلوب صيانة الاحتمال؛ لأن بعضهم يدير أمر الإيمان بقلبه .
(1/2204)

صحيح أن كثيراً منهم فاسقون ، ولكن القليل منهم غير ذلك . فها هوذا أبو هريرة رضي الله عنه ينقل لنا ما حدث : " زنى رجل من اليهود بامرأة وقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي مبعوث للتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججناها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في امرأة ورجل زنيا؟ . فلم يكلمهم حتى ذهب إلى مِدْراسهم .
وهناك طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاب رفض أن يتكلم بالكلام غير الصدق الذي يتكلمه قومه . وقال الشاب : إنا نجد في التوراة الرجم . وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم " .
" عن البراء بن عازب قال : مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي مُحَمَّماً مجلوداً ، فدعاهم فقال : هكذا تجدون الزاني في كتابكم؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم . قال : لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ ، فقلنا : تعالَوْا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إِذْ أَمَاتُوه ) ، فأمر به فرُجم فأنزل الله : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } إلى قوله : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } يَقُولون ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا " .
إذن فالكثير منهم فاسقون ، والقليل منهم غير فاسق لأنهم يديرون فكرة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم . فلو أن الاتهام كان شاملاً للكل بأنهم فاسقون؛ لما أحس الذين يفكرون في أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنور الذي جاء به . وعندما قال الحق : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ } يعني أن الذين يديرون في رؤوسهم فكرة الإيمان برسول الله سيجدون النور واضحاً في كلماته .
ونتساءل : لماذا أرادوا أن يلووا أحكام الله ليحققوا لأنفسهم سلطة زمنية وثمناً تافهاً من تلك الأشياء التي يتقاضونها ، لماذا يفعلون ذلك؟
ها هوذا قول الحق سبحانه : { أَفَحُكْمَ الجاهلية . . . }
(1/2205)

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
والجاهلية هي نسبة إلى جاهل . ولو كانت نسبة مأخوذة من الجهل لجاء القول " جهلية " ، لكن الحق يقول هنا : " جاهلية " نسبة إلى جاهل . وحتى نعرف معنى الجاهل بالتحديد لا بد لنا أن نتذكر ونستعيد تقسيم النسب الذي قلناه قديماً ، ونعرف أن كل لفظ نتكلم به له معنى ، وساعة نسمع اللفظ فالمعنى يأتي إلى الذهن إفرادياً . مثلما نسمع كلمة " جبل " فيقفز إلى الذهن صورة الجبل ، لكن لا توجد حالة واضحة للجبل؛ لأن الكلمة لم تكن مصحوبة بحكم .
إذن فهناك معنى للفظ ، ولكن هذا المعنى لا يستقل بفائدة . ولكن إن قلنا إن القاهرة مكتظة بالسكان ، أو أن مرافقها متعبة ، هناك نكون قد أتينا بحكم يوضح لنا ماذا نقصد بقولنا القاهرة .
إن هناك فرقا بين اللفظ حين يؤدي إلى معنى مفرد لا حكم له ، وبين لفظ له حكم ، ولذلك نجد العربي القديم حين يأتيه لفظ بلا حكم لم يكن لقبله . وها هوذا رجل عربي قال : أشهد أن محمداً رسولَ الله - بفتح اللام في كلمة " رسول " - وبهذا القول تكون " رسول الله " صفة لمحمد وليس فيها الخبر المطلوب . لذلك قال عربي آخر : وماذا يصنع محمدا؟ ليفلت القائل إلى أنه لم يتلق الخبر . إذن كل لفظ له معنى ، وهذا المعنى مفرد ولا بد له من نسبة .
مثلما نقول لصديق : " محمد " ، ويعرف هذا الصديق محمدا ، فيسألك : " وما لمحمد "؟ وبقوله هذا إنما يطلب الخبر ليعرف ماذا حدث له أو منه ، فتقول : " محمد زارني أمس " . وهكذا تكتمل الفائدة .
إذن فكل لفظ من الألفاظ المفردة له معنى حين يفرد . فإذا ما جاء الحكم تنشأ عنه النسبة . وإن كانت النسبة واقعة وبعتقدها قائلها؛ ويستطيع إقامة الدليل عليها فهذه نسبة علم؛ لأن العلم نسبة مجزوم بها وواقعة ونستطيع إقامة الدليل عليها تماما مثلما نقول : ( الأرض كروية ) حيث توحي الكلمة أولاً بصورة الأرض وأضفنا إليها نسبة هي " كروية " لأننا نعتقد أنها كروية والواقع يؤكد ذلك ، فإذا ما جئنا بالدليل عليها فهذه نسبة علم . إذن فالعلم نسبة مُعتقَدة وواقعة وعليها دليل .
أما إذا كانت النسبة واقعة ومعتقدة ولا نستطيع التدليل عليها فذلك هو التقليد مثلما يكرر الطفل عن والده بعضاً من الحقائق ولكنه لا يستطيع إقامة الدليل عليها ، إنه يقلد من يثق به ، إذن فالمرحلة الأقل من العلم هي التقليد . أما إذا كان الإنسان يعتقد أن النسبة قد حدثت ولكن الواقع غير ذلك ، فهذا هو الجهل ، فالجهل ليس معناه أنك لا تعرف ، ولكن أن تعرف قضية مناقضة للواقع .
(1/2206)

والجاهل يختلف عن الأمي ، فالأمي هو الذي لا يعرف ، أما الجاهل فهو الذي يعرف قضية مخالفة للواقع ومتشبث بها .
{ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } والحق هنا يتساءل : هل يرغبون في الاستمرار بالاعتقاد الخاطئ الجاهل؟ والأمر مع الأمي - كما عرفنا - يختلف عن الأمر مع الجاهل؛ لأنه يكفيك أن تقول للأمي العلم الذي تريد تعليمه إياه ويقبله منك ، أما الجاهل فلا بد للتعامل معه من عملين . . الأول أن تجعله يحذف ويستبعد من باله القضية الخاطئة ، والثاني أن تجعله يقتنع بالقضية الصحيحة . والذي يرهق الدعاة إلى الدين هم الجهلة هؤلاء الذين يعتقدون اعتقاداً خاطئاً يتضمن قضايا باطلة .
لكن ماذا إن كانت النسبة مجالاً للنفي ومجالأً للإثبات؟ إن كان النفي مساوياً للإثبات فهي نسبة شك . وإن غلب الإثبات فهذا ظن . وإن كان النفي راجحاً فذلك هو الوهم . وهكذا يتضح لنا أن قضية الجهل قضية صعبة ، والذي يسبب التعب في هذه الدنيا هم الجهلة؛ لأنهم يعتقدون في قضايا خاطئة . فإذا كان هناك حكم من الله . فلماذا لا يرتضون إذن؟ أيريدون حكم الجاهلية؟ وكان أهل الكتاب أنفسهم يسفهون حكم الجاهلية .
ولنلحظ أن هذا التسفيه كان في زمن المواجهة بين الجاهلية وبين أهل الكتاب . وكانوا يستفتحون عن أهل المدينة ومكة . وكثيراً ما قالوا : لقد أظلّنا عهد نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم . ولكن ما إن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالوا العكس ، ماذا قالوا للجاهلين؟ هاهوذا الحق يخبرنا بما قالوا : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ]
وقد ذهب بعض من أحبار اليهود إلى قريش ، وسألهم بعض من سادة قريش : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم فأخبرونا عنا وعن محمد . فقال الأحبار : ما أنتم وما محمد؟ فقال سادة قريش : نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العاني ونصل الأرحام ونسقي الحجيج وديننا القديم ودين محمد الحديث . فقال الأحبار : أنتم خير منه وأهدى سبيلا . وبذلك زوروا القول .
وينقل الرواة قصة أخرى في هذا الموضع ، أن واحداً من أحبار اليهود قال لأبي سفيان : أنتم والله أهدى سبيلاً مما هو عليه . وقال الأحبار ذلك حسداً لرسول الله .
إذن فهل يرتضي أهل الكتاب حكم الجاهلية؟ لا . ولكنه التناقض والتضارب . وماداموا قد تناقضوا مع أنفسهم صار من السهل أن يتناقضوا مع الكتاب الذي نزل إليهم . ولذلك يتساءل الحق :
{ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } ثم يأتي من بعد ذلك بالمقابل وهو قوله : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً } . وسبحانه لم يقل : إن الأحسن في الحكم هم المسلمون لجواز أن يكون من المسلمين من ينحرف ، لذلك رد الأمر إلى ما لا يتغير أبداً وهو حكم الله .
(1/2207)

وحين يقرر سبحانه ذلك فإنه - اولا - يعلم أنه سيأتي قوم مسلمون وينحرفون عن المنهج .
ونحن نرى في بعض الأحيان سلوكاً منحرفاً من مسلم ، فهل نلصق هذا السلوك بالإسلام؟ لا . بل ننظر إلى حكم الله في كتابه . وعندما نرى أن حكم الله يجرم فعلاً وله عقوبة ، فالعقوبة تقع على المسلم المنحرف أيضاً . والمثال قوله الحق : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ]
وهذا الحكم يطبق على المسلم وغير المسلم ، إذن فلا نقول هذا حكم المسلمين وذلك حكم الجاهلية . ولكننا نقول : إنه حكم صاحب المنهج وهو الله .
ونلحظ أن هناك استفهاماً في قوله الحق : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً } . والاستفهام هو نقل صورة الشيء في الذهن ، لا نقل حقيقة الشيء . وساعة يطلب المتكلم من المخاطب أن ينقل إليه الفهم ، هنا نقول : هل كان المتكلم لا يعلم الحكم؟ قد يصح ذلك في الحياة العادية . وقد نراه حين يقول إنسان لآخر :
من زارك أمس؟ فنكون أمام حالة استفهام عن الذي زاره ، تلك هي حقيقة الاستفهام ، لكن ما بالنا إذا كان الذي يتكلم ويستفسر لا تخفى عليه خافية ، إنه - سبحانه - يطلب - منا أن نجيب على سؤاله : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً } . وتلك عظمة الأداء .
وأضرب مثالاً آخر - ولله المثل الأعلى - عندما يأتيك إنسان ويدعي أنك لم تحسن إليه لأنه كان سجيناً مثلاً وأنت الذي أخرجته من السجن . فتقول له : من الذي ذهب ودفع عنك الكفالة وأخرجك من الحبس؟
إنك أنت الذي فعلت ولا تريد أن تقول له : لقد فعلت من أجلك كذا وكذا ، ولكنك تريده هو أن ينطق بما فعلته له ، ولا تقول ذلك إلا وأنت واثق أنه لن يجد جواباً إلا الاعتراف بأنك أنت الذي صنعت له كذا وكذا ، وبذلك تصبح المسألة إقراراً وليس إخباراً .
{ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } فالحق عالم أنهم حين يديرون رءوسهم في الجواب ، لن يجدوا إلا أن يقولوا : يارب أنت أحسن حكماً . وهذا إقرار منهم وإخبار أيضاً . أما عند المؤمن فالأمر يختلف تماماً؛ لأن المؤمن بعترف ويقر بفضل الله عليه .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فالذي يفهم أن حكم الله هو الأفضل هم القوم الذين دخلوا إلى مرحلة اليقين . ونعلم أن مراحل اليقين تتفاوت فيما بينها ، فعندما يخبرك إنسان صادق في قضية ما فأنت تعلم هذه القضية . كأن يقول لك : لقد ذهبت إلى نيويورك . وهذه المدينة تقع على عدد من الجزر وبها عمارات شاهقة والعنف منتشر فيها . والناس تبدو وكأنها ممسوسة من فرط الهوس على الثروة . وحين تسمع هذا الصادق فأنت تأخذه على محمل الجد وتعتبر كلامه يقيناً وهذا هو علم اليقين ، أي أنه إخبار من إنسان تثق فيه لأنه صادق .
وبعد ذلك يأتي هذا الإنسان ليوجه لك الدعوة ، فتركب معه الطائرة ، وتطير الطائرة على ارتفاع يساوي أربعين ألف قدم ، وبعد إحدى عشرة ساعة تهبط الطائرة قليلاً؛ لترى أضواء مدينة صاخبة ، ويقول لك صاحبك : هذه هي نيويورك ، وتلك هي ناطحات السحاب .
(1/2208)

هكذا صار علم اليقين عين يقين .
وعندما تنزلان معاً إلى شوارع نيويورك فأنتما تسيران إلى جزيرة مانهاتن . وتصعد إلى برج التجارة أعلى ناطحات السحاب في نيويورك ، وهذا هو حق اليقين .
إذن : فمراحل اليقين ثلاث : علم يقين : إذا أخبرك صادق بخبر ما ، وعين يقين : إذا رأيت أنت هذا الخبر ، وحق يقين : إذا دخلت وانغمست في مضمون وتفاصيل هذالخبر . وقديماً قلت لتلاميذي مثالاً محدداً لأوضح الفارق بين ألوان اليقين ، قلت لهم : لقد رأيت في أندونيسيا ثمرة من ثمار الموز يبلغ طول الثمرة الواحدة نصف المتر . وبالطبع صدقني التلاميذ؛ لأنهم يصدفون قولي . وقد نقلت لهم صورة علمية . وصار لديهم علم يقين . وبعد ذلك أدخل إلى غرفة وأفتح حقيبة وأخرج منها ثمرة الموز التي يبلغ طولها نصف المتر . وبذلك يصير علم اليقين عين يقين . وبعد ذلك أمسكت بسكين وقمت بتقشير ثمرة الموز ووزعت على كل واحد منهم قطعة . وهكذا صار لديهم حق يقين . وحين يطلق الحق " اليقين " فهو يشمل الذي علم والذي تحقق .
فأهل الأدلة ، علموا علم اليقين ، وأهل المرائي والمشاهدات علموا عين اليقين ، وأهل الفيوضات والتجليات وصلوا إلى حق اليقين . والمؤمنون بالله يقول الواحد منهم : أنا بمجرد علم اليقين موقن تماماً ولا انتظر حق اليقين لأني لا أجرؤ على التكذيب؛ لذلك نجد أن سيدنا الإمام عليا - كرم الله وجهه - يقول : لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقيناً . { أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } [ التكاثر : 1-7 ]
والبداية تكون علم اليقين ، ثم نرى الجحيم ونحن نسير على الصراط فتصير عين اليقين ، ومن لطف الله أنه جعلنا - نحن المسلمين - لا نراها حق اليقين . وهو القائل : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ]
هو يعطينا صورة الجحيم . لكن حينما أراد الحق أن يعطينا صورة حق اليقين ، فقد جاء بها في قوله الحق : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين * أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 75-82 ]
كل ذلك مقدمة ليقول الحق : { إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } [ الواقعة : 95 ]
وما يذكره الحق هنا عن منزلة المصدق المؤمن إن هذه المنزلة هي الجنة ويرى ذلك عين اليقين . أما منزلة المكذب الكافر ، فله مكانه في النار؛ لذلك سيرى كل الناس النار كعين اليقين . أما من يدخله الحق النار - والعياذ بالله - فسيعاني منها حق اليقين ، وسينعم المؤمنون بالجنة حق اليقين .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { ياأيها الذين . . . }
(1/2209)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
نلحظ أن الخطاب هنا للذين آمنوا . والمنهي عنه هو اتخاذ اليهود والنصارى أولياء . وما معنى الوليّ؟ . الوليّ هو الناصر وهو المعين . وهذا القول مأخوذ من ولي يلي؛ أي يقف في جانبه . ونسمي الذي ينوب عن المرأة في عقد النكاح " الوليّ " . وكذلك " وليّ المقتول " . والمراد هو : يا من آمنتم لاحظوا تماماً أنكم أصحاب مهمة وهي أن تخرجوا الضلالات من البشر ، هذه الضلالات تمثلت في تحريف ديانات كان أصلها الهدى فصارت إلى ضلال ، فإياكم أن تضعوا أيديكم لطلب المعونة والنصرة .
إذن قوله الحق : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } هو حكم تكليفي . وحيثية الإيمان بالله . فما دمت قد آمنت بالله فكل من تقدح أنت في إيمانه بمخالفته لمنهج ربه لا يصح أن يكون مؤتمناًَ على نصرتك؛ لأنه لم يكن أميناً على ما معه فهل تتوقع منه أن يعينك على الأمانة التي معك لا؛ لأنه لم يكن أميناً على ما نزل عليه من منهج . والولاية نصرة ، والنصرة انفعال الناصر لمساعدة المنصور . وهل تجد فيهم انفعالاً لك ينصرك ويعينك ، أو يتظاهرون بنصرتك ، ولتعلموا أنهم سيفعلون ما قاله الحق : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ]
إنهم لو دخلوا في صفوفكم لفعلوا فيكم مثلما يفعل المنافقون ، فما بالنا بالذين خانوا أمانة الكتب المنزلة عليهم؟ إذن فالموالاة والنصرة والمعونة يجب أن تكون من متحد معك في الغاية العليا . وما دام هناك من يختلف مع الإسلام في الغاية العليا وهي الإيمان فلا يصح أن يأمنه المسلم . وسبحانه يقول : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
وقد يتساءل الإنسان : كيف يقول الحق فيهم : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ } [ البقرة : 113 ]
ويقول سبحانه أيضاً : { وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ } [ البقرة : 113 ]
ويقول جل شأنه : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } [ البقرة : 113 ]
نحن - إذن - أمام ثلاثة أقسام؛ يهود ، ونصارى ، ومشركون ، وقد قال مشركو قريش مثل قول أهل الكتاب بشقيهم برغم أنهم في خلاف متضارب وكل منهم ينكر الآخر ، وسبحانه قال : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة } [ المائدة : 14 ]
فكيف من بعد ذلك يقول سبحانه : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } ؟ وهذا أمر يحتاج إلى وقفة إيمان لنرى الصورة كاملة ، ونعلم أن الذين يخالفون منهج الحق قد يصح أن يكون بينهم خلاف على السلطات الزمنية ، لكنهم عندما يواجهون عملاقاً قادراً على دحر كل بنيان أكاذيبهم يتفقون معاً . وهذا ما نراه في الواقع الحياتي : معسكر الشرق - الذي كان - يعادي معسكر الغرب ، ولكن ما إن يجيء شيء يتصل بالإسلام حتى يتفقوا معاً على الرغم من هزيمة المعسكر الشرقي؛ لأن الإسلام بمنهجه خطر على هؤلاء وهؤلاء وعلى سلطاتهم ولكنه في الحقيقة رحمة بهم إنه يخرجهم من الظلمات إلى النور وهم يتصرفون في ضوء ما قاله الحق : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
(1/2210)

وعندما ينفرد كل منهم بالآخر فإنه ينطبق عليهم قول الحق : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء } [ المائدة : 14 ]
هكذا نفهم طبيعة العلاقات بين أعداء الإسلام .
ويقول الحق : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } أي أن من يتخذهم نصراء ومعينين فلا بد أنّه يقع في شرك النفاق؛ لأنه سيكون مع المسلمين بلسانه ومع أعداء الإسلام بقلبه .
ويذيل الحق الآية بقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } ونعرف أن الظلم هو نقل حق إلى غير صاحبه ، وأعلى مراتب الظلم هو الشرك بالله ، وهو الظلم العظيم؛ فالحق يقول : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ]
ذلك أن الإنسان حين يظلم إنساناً آخر ويأخذ منه شيئاً ليعطيه لآخر فهل هناك إنسان يقدر على أن يأخذ من الله شيئاً؟ لا ، فالإنسان لا يستطيع أن يظلم الله ، لكنه ينال عقوبة الشرك وهذا ظلم خائب للنفس والذي يشرك بالله لا يأخذ إلا الخسار ، وذلك هو كل الخيبة .
لأن الظلم حينما يحقق للظالم فهو ظلم هين ، ولكن الظلم العظيم هو أن يشرك إنسان بالله ولا يأخذ إلا العقاب الصارم . فإذا كان المشرك يتأبّى على منهج الله في الأشياء فهل يجرؤ على أن يتأبّى على قدريات الله غير الاختيارية فيه كالموت مثلاً؟ .
والحق يأمر الإنسان بالإيمان . ومتعلقات الإيمان من شهادة بوحدانيته وإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا . والمشرك يتأبّى على الإيمان والتكاليف فهل يجرؤ على التأبي على المرض أو الموت؟ . لا؛ لذلك فهو يظلم نفسه ظلماً خائباً . والحق سبحانه لا يهديه؛ لأن معنى الهداية هو أن يجد الإنسان من يدله على الطريق الموصل للغاية . فهداه أي دلّه على الطريق الموصل للغاية . ولا يتجنّى سبحانه على خلقه فلا يهديهم ، بل الذين ظلموا أنفسهم ولم يؤمنوا هم الذين لا ينالون عناية الحق سبحانه وتعالى باختيارهم .
والحق سبحانه يقول : { فَتَرَى الذين . . . }
(1/2211)

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
المجال هنا كان عن النهي عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء من دون الله ، ومن سمع هذا النهي وفي قلبه الإيمان نفّذ النصيحة . ولكن الذي طمس المرض - وهو النفاق - قلبه فهو الذي يتولاهم . وهو يسارع إلى هذه الولاية . ونعرف أن المسارعة هي تقليل الزمن في قطع المسافة الموصلة للغاية فإذا كانت هناك مسافة تقتضي السير لمدة خمس عشرة دقيقة فالمسارعة تفرض على الإنسان أن يقطعها في وقت أقل من ذلك . وهناك " يسارع إلى " و " يسارع في " ، مثل قول الحق : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 133 ]
والغاية هنا هي المغفرة من الله وعلى المؤمن أن يسارع إليها ، أما عندما يقال : ( يسارع في كذا ) أي أنه كان في الأصل منغمساً في هذا الموضوع . وعندما يقول الحق : { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } أي كانهم كانوا مع هؤلاء الكفار من البداية ، ولذلك فالمسارعة في ظرفيتهم . وبذلك يتهافتون عليهم . والعلّة العامة أن في قلوبهم مرضاً جعلهم يبتكرون ويلفقون أسباباً ، هذه الأسباب هي { نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ }
والموالاة هنا من الخوف أن تدور الدوائر ، ونحتاج إليهم لأن عندهم الأموال والسلاح ، وهذا ما قاله المنافق عبدالله بن أبيّ؛ فقد قال : أنا رجل أخشى الدوائر . أي أنه يخشى الأحداث والمصائب . مثلما نقول : " الأيام دول " . ولكن كلمة " دول " هي انتقالية وقد لا يكون فيها ضرر ، أما " دوائر " فهي انتقالية فيها ضرر . وعكس ذلك ما قاله عبادة بن الصامت قال رضي الله عنه :
- أنا سآخذ ولاية الله ورسوله والمؤمنين وسأنفض عني ولاية اليهود والنصارى .
وأورد الحق قول المنافق : { نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } وساعة نسمع كلمة " الفتح " ، فلنعرف أدلّ مدلولاتها أنه الحكم . { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ]
أي احكم يا رب بيننا وبينهم .
إذن فقوله الحق : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } أي الحكم الذي يضع حدّاً لمسألة موالاة أهل الكتاب والذين لا يعلمون .
والأمر من عند الله هو حكم من الله أيضاً . يخاطب المؤمنين به . والمؤمن بالله له أعمال تؤدى كأسباب إلى مسببات ، وقد يأتي للمؤمنين أشياء بدون مقدمات منهم ، وهي الفضل من الله . إذن فعسى الله أن يأتي بالفتح ، أي بأسباب أنتم تصنعونها وتعدّون ما استطعتم من عِدِّة وعُدَّة وتؤذونهم ، ولذلك قال في آية أخرى : { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } [ الحشر : 6 ]
مثال ذلك ما حدث لبني النضير ، فكان الإجلاء ، واستولى المسلمون على أرض بني قريظة ، وهذا هو الفتح من عند الله . وسبحانه - إذن - يعامل المؤمنين معاملتين : الأولى أن يصنع المؤمنون مقدمات تؤدي إلى نتائج :
(1/2212)

{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ]
وهنا جعل الحق قتال المؤمنين سبباً ، أما الثانية فهي الأمر من عنده بالنصرة بالربوبية .
وساعة تسمع " عسى " و " لعل " فهذا معناه الرجاء . والرجاء أن المتكلم يرجو أن يقع ما دخلت عليه " عسى " . مثال ذلك قولنا : { عسى أن تكرم زيداً ) . ومن يقولها إنما يرجو سامعها أن يكرم زيداً ، وهذا يعني أن القائل ليس في يده إكرام زيد . أما إذا قال القائل : ( عسى الله أن يكرم زيداً ) ، فهذا نقل للرجاء من البشر إلى الله . والقائل هنا بشر ويتكلم عن بشر ، والمرجو هو الله ، وقدرة الله أوسع من كل قدرة . هنا ندخل في اتساع دائرة الرجاء فما بالنا إذا كان المتكلم هو الله؟ إذن فهذا إطماع من كريم لا بد أن يتحقق .
ونتعرف بذلك على درجات الرجاء : رجاء من بشر لبشر ، رجاء بشر من إله لبشر ، رجاء إله من إله لبشر ، ولأن الرجاء الأخير من المالك الأعلى لذاته فهو الذي يعطي { فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } أي أنهم صاروا إلى الندم . وبذلك صار قولهم : { نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } هو كشف لما في قلوبهم من مرض النفاق ، وقد خلعوا على المرض وعبروا عنه بهذا الكلام سترا لما في قلوبهم ، فكأن الذي أسروه في نفوسهم هو كراهية هذا الدين وكراهية هذا المنهج وأنهم لا يحبون أن يستعلي هذا المنهج على غيره .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يدلنا على أن القول الذي نشأ منهم : { نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } لم يكن هو السبب المباشر . ولكن السبب هو المرض في قلوبهم . والمرض : أنهم لا يحبون أن ينتصر منهج الإسلام؛ لأنهم يعيشون على ثروات المخالفين للدين ، وساعة تكون السيطرة للإسلام ينتهي ثراؤهم . وكذلك كان أهل الكتاب في المدينة قبل أن يأتي الإسلام كانوا أصحاب العلم والمال والجاه ، وكانت الأوس والخزرج يأخذون منهم المال بالربا ويشترون منهم السلاح ، ويأخذون منهم العلم . ولما جاء الإسلام ضاع من اليهود كل ذلك فتمكن من قلوبهم المرض؛ لأن الإسلام سلبهم السلطة الزمنية ، هذه السلطة التي جعلتهم يحرفون كتب الله . فإذا كانوا قد دخلوا مع الله في تحريف كتبه ، أفلا يدخلون معكم - أيها المسلمون - في عداوة ويلبسون عليكم بأنهم يعينون وهم يُخَذِّلون؟
{ فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } وساعة يسمعون هذا القول الرباني وهو قرآن يتلى ويتعبد بتلاوته ويُقرأ في المساجد ويسمعونه ، ولم يكن هناك فتح ، ولم يكن هناك أمر ، ويخبرهم الله بمصيرهم : { فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } ومعنى ذلك أنه سبحانه كتب الذي في نفوسهم . مثلما قال من قبل : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ } . أي أنهم قالوا في أنفسهم وسمعهم الخالق . ولو لم يقولوا في أنفسهم لأعلنوا أنهم لم يقولوا ذلك ، لكنهم بهتوا حين كشفهم الحق وفضحهم وسجل ما في أنفسهم وأورد مضمون القول ، وكان من اللازم أن يعترفوا بمضمون القول ، وكان لا بد لهم أن يتجهوا إلى الإيمان . لكنهم لم يفعلوا فصاروا إلى الندم . بنص الآية التي نزلت قبل أن يأتي فتح أو أمر من الله .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ . . . }
(1/2213)

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
هنا يرى المؤمنون رأي العين ندم هؤلاء . والندم انكسار القلب في الحاضر على تصرف سابق مثلما يرتكب إنسان حماقة وتظهر آثارها من بعد ذلك ، فيقول : يا ليتني لم أكن قد فعلت ذلك . إنه انكسار نفس على تصرف سابق . وانكسار النفس يتضح على بشرة الوجه . وساعة يأتي الفتح تجد المنافقين وأهل الكتاب مكبوتين كبتاً قسرياً وهو الكبت الذي لا يجرؤ صاحبه عليه فيدعي أنه فرحان ، إنه قسري بإلحاح بِنْيَة ، وظهور أثر ذلك على وجوههم .
وهنا يفطن المؤمنون إلى ذلك فيقولون : { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } . ولو كان هؤلاء المنافقون من الصادقين لفرحوا ولكانت أساريرهم متهللة ، ولظهرت عليهم الغبطة . لكنهم صاروا عكس ذلك ، صاروا نادمين مكبوتين .
{ وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ } أي حبط عملهم وقولهم : " إنا معكم " . والحبط هو - كما قلنا - الانتفاخ الذي يصيب البهيمة التي تأكل طعاماً غير مناسب لها ، فيظن الناس أنها قد سمنت ولكنهم ياتفتون فيجدون أنها مصابة بانتفاخ قاتل .
{ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } والخسارة في معناها الواضح أن يقل رأس المال . لقد فعل المنافقون ذلك ليستروا وراء المسلمين ولم يسلم لهم هذا الأمر وانكشفوا .
ويقول الحق بعد ذلك : { ياأيها الذين . . . }
(1/2214)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
والخطاب هنا للمؤمنين ، وكل نداء مثل هذا قد يجيء بعده حكم من الأحكام أو بشارة من البشارات أو وعيد للمخالف . والذي يأتي فيه شبه إشكال وليس بإشكال ، هو أن يأتي هذا القول ويكون ما بعده أمر بالإيمان كقوله الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } فسبحانه يناديهم كمؤمنين ويطلب منهم الإيمان ، ومثال ذلك قول القائل : " يا قائم قم " برغم أن المفروض أن يكون القول : " يا قائم اجلس " أو " يا قائم تعال " ، أو " يا قائم انصرف إلى فلان " ، فكيف إذن يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } . هنا نقول : ما الإيمان؟ الإيمان هو استقرار العقيدة في القلب فلا تطفو للذهن لتناقش من جديد . ونسمي ذلك عقيدة ، أي أمراً معقوداً في القلب .
إذن فالحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب مؤمناً يطالبه ان يؤمن ، فمعنى ذلك أن الحق يقول : أنت آمنت قبل أن أناديك وبسر الإيمان ناديتك فحافظ على هذا الإيمان دائما . وجدد دائماً إيمانك لأنني ناديتك بوصف الإيمان الذي عرفته فيك .
إن الحق يوضح : يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم ولتكن كل لحظة من لحظات حياتكم المقبلة في إيمان عالٍ مرتقٍ قبل أن أتكلم معكم بوصف الإيمان أنتم آمنتم أولاً فناديتكم فحافظوا على ذلك واثبتوا على إيمانكم .
ومعنى قوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } أي من يتراجع منكم عن الإسلام فسيأتي الله بعوض عنه ، وسيأتي بقوم لن يكونوا مثل هؤلاء المرتدين . إذن فمن يرتد فعليه أن يفهم أنه لن ينقص جند الله واحداً؛ لأن الذي أذن لشرعه أن ينزل على رسول ونبي خاتم لن يجعل هذا الرسول وهذا المنهج تحت رحمة أغيار الناس . فإن خرج أناس عن المنهج فالله يستبدل بهم غيرهم . وفي هذه الآية أسلوب يخالف آية البقرة في الوجه الإعرابي ، وسبحانه يقول في آية البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 217 ]
هنا وجدنا الحق يقول : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } أما في الآية التي نحن بصددها في سورة المائدة فهو سبحانه يقول : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } ونجد الأسلوبين مختلفين . والحكمة العليا في أن الحق سبحانه وتعالى يأتي في كتابه بآيات متحدة في المعنى إلا أن وجه الإعراب فيها يختلف ليدلنا أن القرآن نزل إلى الناس كافة .
(1/2215)

وقبل أن ينزل القرآن كانت هناك لغتان : لغة تميم ، ولغة الحجاز .
وكان الخلاف بين اللغتين محصوراً في الكلمة التي بها تضعيف ، أي فيها حرفان من شكل واحد أي متماثلان . وكلمة " يرتد " بها " دالان " وأصلها " يرتدد " . و " يرتد " بها مِثْلان والنطق بهما صعب . ولذلك حاول الناس في مثل هذه الحالة أن يدغموا مِثْلاً في مثل . ولذلك كان من اللازم أن نُسكن الحرف الأول من المثلين . والمفروض أن " الدال " الثانية ساكنة؛ لأن " مَن " شرطية جازمة . والدال الأولى أصلها بالكسر . ولا بد من الإدغام . والإدغام يقتضي إسمان الحرف الأول . إذن فمن أجل الإدغام نفعل ذلك .
ونحن نعلم أن الساكنين لا يلتقيان ، وكان تسكين الحرف الأول لأنه ضروري للإدغام ، أما الحرف الساكن الآخر فهو الطارئ . فنتصرف فيه ، ولذلك نحركه بالفتح حتى نتخلص من التقاء الساكنين . ولذلك نقول : " من يرتد " بالفتح .
وجاء لي ذات مرة سؤال يقول : كيف يأتي القرآن ب " يرتد " بالنصب أي بالفتح؟ وقلت : إنها ليست " فتحة نصب " والسائل يفهم أن " مَن " إما اسم موصول ، وإمَّا هي " مَن " الشرطية ، فلو كانت اسماً موصولاً؛ لكان القول " من يرتدُ " - بالضم - وإن كانت " مَن " الشرطية لجاءت بالتسكين ولأن ما قبلها جاء ساكناً للإدغام تخلصنا من السكون بالفتحة وهي " فتحة " التخلص من ساكنين ، لأنه - كما قلنا - لا يلتقي ساكنان .
والذي يُظهر لنا ذلك هو آية البقرة التي قال فيها الحق : " ومن يرتدد " بدليل أنه عندما عطف قال : " فيمت " بالجزم عطفا على يرتدد . أما السبب في أن جواب الشرط واضحٌ في آية المائدة أنه لم يأت فعل جوابي أو عطف ، وجواب الشرط هو قول الحق : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ويدل على ذلك دخول الفاء على كلمة سوف لكن لو كان الحق قد قال : من يرتد منكم عن دينه يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه كان يمكن الفهم بسرعة أن " مَن " شرطية ، لأن كلمة " يأت " جاءت مجزومة بحذف آخرها ، ومن هنا يتضح أن الفتحة في " يرتد " هي فتحة التخلص من التقاء الساكنين .
وما السبب في أن الحق يأتي بآية على هذا النسق ، وآية أخرى على ذاك النسق؟ نحن نعلم أن القرآن قد نزل بلغة قريش . وكانت قريش تمتلك السيادة . ولم تكن هناك قبيلة بقادرة على مواجهة قريش . ونعرف جميعاً أن رحلة قريش إلى اليمن لم يكن ليجرؤ إنسان أن يتعرض لها ، وكذلك في رحلة قريش إلى الشام؛ لأن قريشا تستوطن حيث يوجد بيت الله الحرام الذي يحج إليه كل عربي .
(1/2216)

ويوم أن يتعرض أحد لقوافل قريش فعليه أن ينتظر العقاب له أو لقبيلته ، إذن فالبيت الحرام هو الذي أوجد لهم تلك المهابة لذلك ينبههم الحق إلى ذلك عندما قال في سورة الفيل : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [ الفيل : 1-5 ]
وقد تم وعيد الله لأصحاب الفيل ، لأنهم أرادوا هدم بيت الله الحرام . ثم يتبع الحق سورة الفيل بقوله في سورة قريش؛ { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف } [ قريش : 1-2 ]
ليوضح سبحانه أنه من ضمن أسباب صيانة بيت الله الحرام أن حفظ سبحانه لقريش الأمان في رحلة الشتاء والصيف ، ولو انهدم البيت الذي يحقق لقريش السيادة لهجم الناس على القرشيين من كل جانب؛ لأنه القائل في شأن من قصدهم لهدم بيت الله الحرام . { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [ الفيل : 5 ] { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ]
وما دامت تلك المسألة قد صنعها الله لقريش ، فلا بد لهم من عبادة رب هذا البيت : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3-4 ]
إذن فقريش أخذت السيادة بين العرب بمكانة البيت ، وأخذت السيادة أيضاً في اللغة ، وكانت كل أسواق العرب تعقد هناك ، وأشهرها سوق عكاظ ، وكان ينصب في قريش خلاصة اللغات الجميلة من القبائل المختلفة . وهكذا أخذت اللغة المصفّاة المنتفاة ، فكل شاعر كان يقدم أفضل ما عنده من شعر . وكل خطيب كان يأتي بأحسن ما عنده من خطب . وبذلك كانت قريش تسمع أجود الكلمات . ولهذا كانت اللغة التي عندهم هي اللغة العالية . ولذلك عندما جيء لزمن كتابة القرآن كانت الوصية :
إن اختلف عليكم شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ لأن لغة قريش أخذت من اللغات محاسنها . وبنو تميم والحجاز كانوا مختلفين في بعض الأشياء . ولذلك كنا نسمع - عندما نتعلم الإعراب - قول المعلم وهو يسألنا : هل " ما " حجازية أو تميمية؟ وهذا يدلنا على أن هناك خلافاً بين النطق في القبيلتين .
وفي الآية التي نحن بصددها ندغم ونقول : { مَن يَرْتَدَّ } وفي آية البقرة ننطقها دون إدغان فنقول : " ومن يرتدد " .
وكأن الحق جاء بآية على لغة الحجاز واية على لغة تميم ، وذلك برهان جديد على أن القرآن لم يأت ليحقق سيادة القريش ، إنما هو للناس كافة؛ لذلك نجد من كل لهجة كلمة ، ليتضح أن القرآن لعموم الناس جميعهم .
وعندما نقرأ قول الحق : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ]
نعلم أنه سبحانه يعلمنا أنه قادر على أن يأتي بأهل إيمان غير الذين ارتدوا عنه ، تماماً كما أخبرنا من قبل : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
(1/2217)

[ البقرة : 217 ]
والقول هنا : خبر عن مصير المرتد إلى جهنم بعد أن تقوم الساعة .
ولكن القول : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } يدل على أن إجراءً سيحدث قبل أن تقوم القيامة . ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور أن إلهاً ينزل قرآنا يتحدى به ثم يأتي في القرآن بقضية مازالت في الغيب ويجازف بها ، إن لم تكن ستقع؟ . والحق يقول : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } و " سوف " تخبرنا بموقف قادم سيأتي من بعد ذلك . ونقول هنا : من الذي يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان؟ . لا أحد يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان إلا الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي يتحكم ويحكم ويخبرنا بأنه سوف يأتي أناس يؤمنون بدلاً من المرتدين .
أما إن ارتد أناس ، وانتظروا أن يروا البديل لهم ، ولم يأت فماذا يكون الأمر؟ لا بد أن تنصرف الناس عن الدين . ولم يكن الحق ليجازف ويجري على لسان محمد بأن قوماً سيرتدون وهو لا يعلم أيأتي قوم مرتدون؟ والعلم جاء في هذه الآية كما جاء في كل القرآن من الله جل وعلا . وقد قالها الحق قضية كونية : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } . وهل هناك قوم يحبهم الله وهم لا يحبونه؟ ونقول : إن هذا لا يحدث مع الله ، وإن كان يحدث في الحياة البشرية مثلما قال الشاعر العربي :
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محبّاً غير محبوب
وشقاء المحبين إنما يأتي من أن العاشق يحب أحداً ، وهذا الحبيب لا يبادله الحب؛ لذلك يظل العاشق باكياً طوال عمره . ولنا أن نلحظ أن حب الله هو السابق في هذا القول الكريم : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ؛ لأن هذه هي صفة الانكشاف للعلم ، لقد علم الحق أنهم سيتجهون إليه فأحبهم ، وعندما جاءوا فعلوا ما جعلهم محبوبين لله ، ثم ما هو الحب؟ . إنه ودادة القلب . وقلنا الكثير من قبل في أمر ودادة القلب . ونعرف أن هناك لوناً من الحب يتحكم فيه العقل . ولوناً آخر من الحب لا يتحكم فيه العقل ولكن تتحكم فيه العاطفة .
ومثال هذا عندما نذهب إلى طبيب ويصف لنا دواء مراً غير مستساغ الطعم ، ونجد الإنسان الموصوف له الدواء يذهب إلى الصيدلية للسؤال عن الدواء ، فإن لم يجده فهو يلف ويدور ويسأل في كل صيدليات البلد فإن لم يجده فهو يوصي المسافر إلى الخارج لعله يأتي له بالدواء . وإذا جاء له صديق بهذا الدواء فهو يمتلئ بالامتنان بالسرور . أيقبل المريض على الدواء غير المستساغ بعاطفته ام بعقله؟ إنه يقبل على الدواء غير المستساغ الطعم ويحبه بعقله . والحب العقلي - إذن - هو إيثار النافع .
(1/2218)

ومثال ذلك نجد الوالد لابن غبي يحب ابناً ذكياً لإنسان غيره .
الوالد - هنا - يحب ابنه الغبي بعاطفته . ولكنه يحب ابن جاره لأنه يمتلك رصيداً من الذكاء . إذن هناك حب عقلي وحب عاطفي . وهذا ما يحدث في المجال البشري لكن بالنسبة لله فلا .
وعندما يقول الحق : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } أي أنهم يحبون الله بعقولهم ، وقد يتسامى الحب إلى أن يصير بعاطفتهم ، وقد يُجرب ذلك حين يجري الله على أناس أشياء هي شر في ظاهرها ، ولكنهم يظلون على عشق لله . ومعنى ذلك أن حبهم لله انتقل من عقولهم إلى عاطفتهم . وسيدنا عمر جرى معه حل هذا الإشكال . كيف؟
لقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " .
وهناك من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أحب إليه من ماله وولده لكن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : أنت أحب إليّ من مالي وولدي أما نفسي فلا وأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم القول : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " .
وهنا علم عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد الحب العقلي؛ لأن عمر رضي الله عنه علم أيضا أن الحب العاطفي لا يكلف به ، ولذلك قال عمر : الآن أحبك عن نفسي ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر . أي كأنه في هذه اللحظة قد اكتمل إيمان عمر . إذن فحب الله لا تقل فيه أيها المؤمن هل هو حب عقلي أو حب عاطفي؟؛ لأن المراد بحب الإله هو دوام فيوضاته على من يحب ، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فالحق يلقاه في أحضان نعمه ويتجلى عليه برؤيته : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ]
والحسنى هي الجنة . أما الزيادة فقد قال المفسرون : إنها رؤية المحسن .
{ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وعندما يقول الحق : " فسوف " فلنعلم أن ما يأتي بعدها هو من إعلامات النبوة التي جاءت على لسان محمد في قرآن الله؛ لأن ذلك الأمر قد حدث كما جاء في قرآن الله ، فقد ارتد قوم وانقسموا في الردة إلى قسمين؛ قسم ارتد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسم ارتد على عهد أبي بكر ، ومنهم من ارتد على عهد عمر . وحين تنظر إلى ما بعد " سوف " لا بد أن تعرف أن هناك امتداداً زمنياً .
وأول الارتداد كان في اليمن وكان ذلك بعد حجة الوداع وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان في اليمن كاهن مشعوذ اسمه عَبْهَلة بن كعب ، ويقال له : ذو الخمار ، أو ذو الحمار في رواية أخرى ، وهو الذي يعرف في كتب التاريخ الإسلامي باسم الأسود العنسي .
(1/2219)

هو أحد الكذابين اللذين ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " بَيْنَما أنا نائم إذ اوتيتُ خزائن الأرض ، فوُضع في يديّ سواران من ذهب فكبر عليّ وأهمّني ، فأُوحِي إليَّ ان انفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما الكذابَيْن اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة " .
وكان لهذا الكاهن حمارٌ روّضه صاحبه رياضة من لون خاص تماماً كتدريب القرود ، فكان يقول له : قف . فيقف . ويقول له : سر . فيسير . واعتبر هذا الكاهن أن مثل هذا الأمر للحمار هو معجزة . أو كان الرجل اسمه " ذو الخمار " أي أنه كان يرتدي خماراً على وجهه . ومن العجيب أن اي مرتد لم يطالبه من يتعبه بعلامة صدقه في النبوة .
إن أول شيء في التأكد من صحة قول أي إنسان : " أنا نبي " أن يسأله الناس عن علامة الصدق في النبوة وأن يتعرفوا على معجزته ، لكنا لا نجد ذلك في مرتد أبداً . وكيف لا يسأل الناسُ الذين يتبعون المرتد عن نفسه وعن دعواه أنه نبي وعن معجزته التي تدل على صدق رسالته ، وهو ما يحدث مع أي رسول ، كيف يؤمن أناس بفرد بدون معجزة؟ .
هنا نذهب إلى الجانب النفسي من الأمر ونقول : إن التدين أمر فطري والإنسان الذي ليس له دين يغضب ويحزن عندما نقول له : يا قليل الدين . ولذلك نجد أن المبطل من هؤلاء يقول : أنا على دين . إنه لا يتصور أنه مبطل بلا دين . ولذلك قال الحق : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ]
فكأن الأصل في الفطرة الأصلية أن الدين ليس مجرد اسم أو صفة ، ولكنه التزام بتكاليف . والذي يجعل الناس في خشية من الدين هو مشقة التكاليف؛ لذلك فعندما يأتي إنسان ويقول : أنا نبي ومعجزتي أنني خففت عليكم الصلاة والزكاة والصيام وأبحت لكم النظر إلى نساء بعضكم .
لا بد أن يسيل لعاب أصحاب الهوى الذين لا بصيرة لهم ويقولون : إن مثل ذلك لدين جميل ، ويستسلمون ويخدعون أنفسهم بأنهم متدينون ورغم تحللهم من بعض التزامات التدين ، إن المرء ليتعجب من مدعي النبوة في الزمن القديم وحتى عصرنا هذا لأننا لم نجد أحداً من المثقفين قد وقف أمام مدع وقال له :
ما معجزتك؟ ولكن الكل سأل : ما منهجك؟ وعندما سأل أهل اليمن ذا الخمار : ما منهجك؟
كانت إجابته : إنه أسقط عنهم بعض التكليفات بداية من تقليل الصلاة والزكاة إلى إباحة الاختلاط بنساء غيرهم . واستراح بعضهم لذلك المنهج وذهلوا وغفلوا عن طلب المعجزة . وكل الذين ادعوا النبوة كانوا من هذا الصنف . ولذلك نجد أن كل مدع للنبوة يحاول التخفيف من المنهج ، فهناك من خفف الزكاة .
(1/2220)

وجاءت امرأة اسمها سجاح خففت الصلاة . وجاء ثالث ليخفف الربا فيبيحه . لكن أحداً منهم لم يأت بمعجزة . واتبعه بعضهم لمجرد تسهيل المنهج . ومدعي النبوة إنما يرضي النفوس التي لا تطيق ولا تقوى على مشقة المنهج بأن تكون متدينة ملتزمة به .
ومثال ذلك ما حدث في الإسكندرية عندما ظهر مدع للنبوة . وأباح منكراً مثيراً ، وتبعه بعض من المتعلمين الذين أرادوا دينا على هواهم ، وكذلك كان الأمر في البداية . وعندما جاء ذو الخمار ، أو ذو الحمار ، وهو كما قلنا : مشعوذ ، وكان كما يصفه المؤرخون يسبي قلوب من يسمع منطقه وكان يريهم الأعاجيب ، واستطاع بذلك أن يستولي على مُلْك اليمن ، وأعلن ارتداده . وغلب على صنعاء وعلى ما بين الطائف إلى البحرين . وجعل يستطير شره استطارة الحريق .
وكان سيدنا معاذ بن جبل هو الوالي على اليمن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبر سيدنا معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن كاهناًَ اسمه ذو الخمار أو ذو الحمار ، قد ارتد .
ويذهب سيدنا معاذ إلى حضرموت . وهناك يأتيه كتاب من النبي صلى الله عليه وسلم يأمره فيه أن يبعث الرجال لمصاولة ذي الخمار . ويحتال المسلمون للنهوض بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعد ذلك يدخل على ذي الخمار رجل ديلمي اسمه فيروز فيقتله على فراشه .
وعلى الرغم من بعد المسافة بين اليمن والمدينة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ليلتها : " قتل الليلة الأسود العنسي " .
وبعد ذلك يأتي الخبر في آخر الشهر أن مدعي النبوة قد قتل . وتلك من إعجازات النبوة . إذن فقد تعرض المؤمنون على زمن رسول الله صلى اله عليه وسلم للهزة في العقيدة بحكاية ذي الخمار أو ذي الحمار . وكانت قصة ذي الخمار كالمصل الواقي الذي يربي المناعة ، وأخبرهم الله بها أولاً : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } .
وذلك ليعطي الحق سبحانه وتعالى المؤمنين مناعة إيمانية وكأنه يقول للمؤمنين : لا تظنوا أنكم لن تتعرضوا إلى هزات عقدية دينية بل ستتعرضون . وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : قد يجوز أن يفهم الناس أني وأنا حي أقوم على منهج الله في الأرض فإذا أنا مت ربما ارتدوا عن الدين .
ورسول الله عندما يبلغ ذلك للمؤمنين عن الله - سبحانه - إنما كان بقصد تربية المناعة . فلو فوجئ المسلمون بالردة ولم يكن الله قد خبرهم بها لما كان عندهم احتياط مناعي . والاحتياط المناعي هو أول عملية في الوقاية . ونعلم أن العلم المعاصر استطاع فصل الميكروب أو الفيروس المسبب لمرض وبائي ، ويقوم العلماء بإضعاف هذا الميكروب أو الفيروس ، ثم يوضع قليل من هذا الميكروب أو الفيروس بعد إضعافه في الجسم البشري ، فتتحرك في الجسم أجهزة الوقاية والحماية لتقاتل هذا الميكروب أو الفيروس وتنتصر عليه ، وبذلك تمتلك قوى الوقاية والحماية داخل الجسم القدرةَ على مقاومة هذا المرض ، وهكذا أراد الحق بهذا القول الكريم : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } .
(1/2221)

إذن فحين يوجد الارتداد ، لا يفاجأ المسلمون بهذا الارتداد ، ويثقون تماماً أنه بمجرد مجيئ الارتداد فإن وعد الله الآخر يجيء : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فلا فزع عند المؤمنين ساعة يحدث الارتداد ولا زلزلة في النفوس . وساعة يأتي الارتداد يقول المؤمن :
إن الذي صدق في أنه يحدث الارتداد ، سيصدق في قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } . وإذا رأيت " السين " تسبق قولاً فإن هذا يعني أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث قريب وقليل مثل قوله الحق : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس } [ البقرة : 142 ]
أما عندما تقرأ " سوف " فأعلم أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث متسع وبعيد . ولذلك نحن نرى أن الردة قد امتدت في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وفي عهد عمر - رضي الله عنه - .
وما هي ذي مواصفات القوم الذين يأتي بهم الله في قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم } ؟ إنها مواصفات ست : يحبهم الله ، ويحبون الله ، أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ، لا يخافون لومة لائم .
وكيف يكون الإنسان المؤمن ذليلاً وعزيزاً في آن واحد؟ لأن الحق لا يريد أن يطبعنا على لون واحد من الانفعال ، ولكنه يريد لنا أن ننفعل تبعاً للموقف . فعندما يحتاج الموقف إلى أن يكون المؤمن عطوفاً فالمؤمن يواجه الموقف بالعاطفة . وعندما يحتاج الموقف إلى الشدة فالمؤمن يواجه الموقف بالشدة . وإن احتاج الموقف إلى الكرم ، فالمؤمن يقابل الموقف بالكرم . فالمسلم - إذن - ينفعل انفعالاً مناسباً لكل موقف ، وليس مطبوعا على انفعال واحد . ولو انطبع المؤمن على موقف ذلة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب العزة فلا يجدها ولو طُبع المؤمن على عزة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب الذلة فلا يجدها؛ لذلك جعل الحق قلب المؤمن ليناً قادراً على المواجهة كل موقف بما يناسبه .
والمؤمن عزيز أمام عدوه لا يُغلب ، ويجابهه بقوة . والمؤمن يخفض جناح الذل من الرحمة لوالديه امتثالاً لأمر الحق سبحانه : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } [ الإسراء : 24 ]
وهل إذا خفض المؤمن جناح الذل لوالديه . أيخدش ذلك عزته؟ لا . بل ذلك أمر يرفع من عزة الإنسان . والحق يريد المؤمن أن يكون غير مطبوع على لون واحد من الانفعال ، ولكن لكل موقف انفعاله . وحين ينفعل المؤمن للمواقف المختلفة فهو يميز ما يحتاج إليه كل موقف { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } ويقال في اللغة : " ذليل لفلان " فلماذا - إذاً - يقول الحق هنا : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } ، و " على " تفيد العلو .
(1/2222)

والذلة تفيد المكانة المنخفضة ، فكيف يأتي هذا التعبير؟ لقد جاء هذا القول على هذا الشكل لحكمة هي : أن المؤمن ما دام يحب الله ويحبه الله . وساعة يكون في ذلة لأخيه المؤمن فهذا يرفع من قدره . وهي ليست ذلة بالمعنى المتعارف عليه ، ولكنه لين جانب وعطف ورحمة . إذن فقوله الحق : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } يعني أن المؤمنين يعطفون على غيرهم من المؤمنين حتى يبدو هذا العطف وكأنه ذلة . وبعض العلماء يقول : إن المادة " ذال " و " لام " تدل على معنيين متقابلين ، مثال ذلك قوله الحق : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } [ يس : 72 ]
أي جعلناها خاضعة لتصرفهم . وهذا التذليل ليس بقهر من الإنسان للأنعام ولكنه بتسخير من الله . وهي ميسرة لخدمة الإنسان . ومثال آخر . قوله الحق : { فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } [ النحل : 69 ]
أي متطامنة مهيأة . إذن فهذه ذلة اللين . وهناك " ذُل " - بضم الذال - وهو ضد العز . وهناك " ذِل " - بكسر الذال - وهو اللين . إذن فالذل بكسر الذال هو ضد الصعوبة؛ أي اللين . والذُّل - بضم الذال - هو ضد العز - ، فإذا اردنا ذلّة اللين؛ فذل المؤمن للمؤمن من الذُّل ، وإن أردنا الذلة التي هي ضد العز ، فهي من الذُّل . وعندما يكون المؤمن على ذِلة للمؤمن . فهي ذِلة اللين والعطف . وعندما يريد الحق الشيء ليتدانى للمؤمن ولا يتعبه ، فهو يقول : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [ الحاقة : 23 ]
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } [ الإنسان : 14 ]
أي دُلِّيت عناقيدها . فالفاكهة تنزل إلى المكان الذي يوجد فيه المؤمن . وإن وقف المؤمن لطال بيده أن يقطف الثمار . وإن اضطجع لاستطاع أن ينال أيضاً من الثمار لأنها تتدانى له . وإن نام المؤمن لتدانى قطاف الثمار إلى مكانه وبذلك يستطيع أن يأكل منها في أي وقت وعلى أي وضع .
وهنا يأتي الحق بالقول الحكيم : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } أي أن ذلة المؤمن لأخيه المؤمن ترفع منزلته . وبها يكون المؤمن أهلاً لأن ترفع منزلته؛ لأنه مصطفى بأن الله يحبه وأنه يحب الله ، ولا توجد رفعة أكثر من هذه رفعة . ولذلك نجد القول المأثور : ( من تواضع لله رفعه ) .
أي من تواضع وفي باله الله فإن الله يرفعه .
{ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } وهذا هو الوصف الثالث للمؤمنين في تلك الآية بعد قوله الحق : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } .
إن المؤمن عزيز على الكافرين بأنه لا يُغلب ، وما دام هو يعرف ذلك فهو ينضم إلى الجهاد في سبيل الله . { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله } وكلمة " الجهاد في سبيل الله " تخصص لوناً من الجهاد ، فالإنسان قد يجاهد حمية أو دفاعاً عن جنسيته أو أي انتماء آخر ، وكل هذه الانتماءات في عرف الذين لا قيمة لها إلا إذا نبعت من الانتماء إلى منهج الله ، لتكون كلمة الله هي العليا .
(1/2223)

وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل القتال :
" فيما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليُرَى مكانه ، فَمَنْ في سبيل الله؟ قال : " مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .
وما دام المؤمن محبوباً من الله ويحب الله وذليلاً على المؤمنين وعزيزا على الكافرين ، مادام الأمر كذلك فعندما يتولى مؤمن أمر قيادة غيره من المؤمنين فلا أحد منهم يأنف أن يكون تحت قيادته . وبذلك يخرج المؤمن عن دائرة الاستعلاء والاستكبار؛ لأنه يجاهد في سبيل الله . ولو جاءه إنسان ليلومه على ذلك فهو لا يسمح له ، وكأنه سبحانه يوضح : تنبهوا جيداً إلى أن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله والذين هم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين ويجاهدون في سبيل الله فلا نظن أنهم بمنأى عن سخرية الساخرين ، وهزؤ المستهزئين ، ولوم اللائمين ليردوهم عن هذه العملية .
ولذلك يقول الحق : { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم } وقد وضح ذلك على مر تاريخ الإسلام وجاء الحق بقوم يحبهم ويحبونه وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين وجاهدوا في سبيل الله وما خافوا لومة لائم .
وساعة نستقرئ هذه الآية نجد أن " سوف " ابتدأ مدلولها الأول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . " وحين سئل رسول الله عن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله وفيهم هذه الصفات؛ أشار بيده مرة إلى أبي موسى الأشعري ، وقال صلى الله عليه وسلم : " هم قوم من هذا " .
وعندما نزل قوله تعالى : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } [ الجمعة : 3 ]
" سأل أبو هريرة - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هم يا رسول الله؟ . فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال : " لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من هؤلاء " .
وقد حدثت الردة الأولى في اليمن ، وكانت في قوم أبي موسى الأشعري ، وكتب رسول الله إلى معاذ بن جبل - كما أوضحنا - وبعد ذلك تطوع فيروز الديلمي ودخل على من كان يدّعي النبوة ذي الخمار أو ذي الحمار ، وقتله . وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتها بالأمر . ولكن خبر القتل جاء بعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى . وكانت تلك من علامات النبوة .
(1/2224)

وحدث - أيضاً - في زمانه صلى الله عليه وسلم أن ادّعى مسيلمة الكذاب أنه نبي . وكتب مسيلمة إلى رسول الله كتاباً ، يقول : مِن مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله .
ولم يقدر على نزع صفة النبوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وجاء في كتاب مسيلمة : " أما بعد . فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك " كأنه قد فهم أن المسألة بالنسبة لرسول الله تحتاج إلى قسمة ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات فيها هبات النبوة :
" من محمد رسول لله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين "
ولم يسمع مسيلمة كلام رسول الله ، وجهزت الحملة لترسل إليه لتأديبه . وجاء عهد أبي بكر - رضي الله عنه - ، وكانت المعركة على أشدها . وجاء " وحشي " الذي قتل حمزة - رضي الله عنه - في موقعة أحد . وأراد أن يكفر عن سيئاته فذهب وقتل مسيلمة . ولذلك كان يقول كلمته المشهورة : أنا قتلت في الجاهلية خير الناس - يقصد حمزة - وقتلت في الإسلام شر الناس - يقصد مسيلمة - وانتهى أمر مسيلمة .
وجاء إنسان ثالث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه " طليحة بن خويلد " من بني أسد وادّعى النبوة ، وكلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن ذهب إليه وكان " خالد بن الوليد " وساعة علم الرجل أن خالداً هو الذي جاء لقتاله لاذ بالفرار ، ولكنه من بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه .
ونلاحظ أننا ننطق " الردة " بكسر الرا ، وصفاً لتلك الأمور التي حدثت وقوبلت هذه المقابلة . ولا نسميها " رد " فتح الراء ، لأن الرد - بفتح الراء - يكون عودة إلى حق ، أما الردة - بكسرة الراء - فتكون إلى باطل ، مثال ذلك قوله سبحانه وتعالى : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ النساء : 59 ]
أما الذي يرتد فهو يرتد إلى باطل .
ومن العجيب أن كلمة " الردة " التي جعلها الإسلام علامة على الانتقال من الإيمان إلى الكفر يستخدمها أعداء الإسلام الذين لا يؤمنون بأديان ما ، فعندما يترك الشيوعية أحد أتباعها يقولون : لقد حدثت رِدة . وكان من الواجب لو أنهم أصحاب مبادئ أصيلة أن يختاروا لفظاً آخر لكن لا يوجد في اللغة لفظ يعبر عن الرجوع إلى الباطل إلا كلمة " ردة " وكذلك كلمة " منبر " لا توجد - أيضاً - إلا في الإسلام ، وهو موقف الواعظ من المصلين يوم الجمعة . وعندما يأتون إلى تصنيف جماعة متطرفة إلى اليسار فهم يقولون : " منبر اليسار " ونقول : لماذا تأخذون هذه الكلمة من عندنا؟ .
(1/2225)

ومثال آخر عندما يكتب كاتب : هذه الراقصة تتعبد في محراب الفن . ونقول : لماذا تستخدم كلمة " محراب "؟ . عليك أن تبحث عن كلمة أخرى . وكل ذلك يدل على أن كلمات الإيمان هي الكلمات المعبرة ولذلك يذهبون إليها .
ويؤخذ في ظاهر الأمر على الإسلام أن من يرتد يُقتل .
ونقول : أيظن أحد أن هذه ضد الإسلام؟ لا إنها لصالح الإسلام؛ لأن الإنسان إذا علم أنه عندما يقبل على الإسلام فهو يقبل على الدين الكامل؛ لأن من يخرج عليه يهدر دمه ويقتل . وعلى من يفكر في الدخول إلى الإسلام أن يحتاط لحياته . إذن فالإسلام لا يسهل لأحد الدخول فيه ، ولكنه يصعب عملية الدخول : وينبه كل فرد إلى ضرورة الانتباه قبل الدخول في الإسلام؛ لأنه دخول إلى دين كامل وليس لهواً أو لعباً .
إن على من يرغب في الدخول في الإسلام أن يفكر جيداً وأن ينتهي إلى الحق؛ لأن حياته ستكون ثمن الرجوع عن الإسلام وهذا دليل على جدية هذا الدين وعدم السماح بالعبث في عمليات الدخول فيه . وحين يصعب الإسلام عملية الدخول فيه إنما يعطي فرصة الاختيار ليعلم من يختار الدين الإسلامي أن يعي أن الرجوع عن الإسلام ثمنه الحياة . وساعة يطلب دين أن يفكر الإنسان جيداً قبل أن يدخل فيه فهل في ذلك خداع أو نصيحة؟ إنها النصيحة وهي عملية لصالح الإسلام ، وهي أمر علني ليعلم كل داخل في الإسلام أن هذا هو الشرط .
ولو أن الإسلام يريد تسهيل المسألة لقال : تعال إلى الإسلام واخرج متى تريد . لكن الدين الحق لا يخدع أحداً . وسبحانه يقول : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ]
وتكلمنا من قبل عن الردات التي حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن كلمة " سوف " التي جاءت في قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } تدل على الامتدادية . وقد حدثت ردة في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وظهر سبعة ادّعوا النبوة ، مثال ذلك : " بنو فزارة " قوم عيينة بن حصن ارتدوا وأرسل إليهم أبو بكر - رضي الله عنه - من حاربهم . وكذلك قوم غطفان ارتدوا .
وكذلك قوم قرّة بن هبيدة بن سلمة ، وكذلك بنو سُلَيْم . قوم الفجاءة بن عبد ياليل ، فأرسل لهم أبو بكر من يؤدبهم . وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض من بني تميم الذين ادعت فيهم النبوّة سجاح بنت المنذر والتي تزوجت مسيلمة . وكذلك " كِندة " قوم الأشعث بن قيس ، وكذلك قوم الحًطَم بن ضبيعة وهم بنو بكر بن وائل في البحرين . وقضى عليهم سيدنا أبو بكر مما جعل كثيراً من القوم يقولون : إن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله وفيهم كل تلك الأوصاف هم أبو بكر ومن معه .
(1/2226)

ولكن أيمنع ذلك أن كل جماعة سيكون فيها مثل أبي بكر - رضي الله عنه -؟ لا . ومثال ذلك علي بن أبي طالب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر :
" عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : كان علي رضي الله عنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر ، وكان به رمد فقال : أنا اتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج على فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأعطين الراية - أو ليأخذنّ - غداً رجلٌ يحبه الله ورسوله ، أو قال : يحب الله ورسوله . يفتح الله عليه . فإذا نحن بعليٍّ وما نرجوه ، فقالوا هذا علي ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الله عليه " .
وفي عهد سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم تحدث إلا ردة واحدة ، جاءت من الغساسنة بقيادة جبلة بن الأيهم وهم من الشام وكانوا موالين للروم ، وكان جبلة هو رئيسهم وأسلم وجاء ليطوف بالبيت الحرام بهيلمان كزعيم للغساسنة . وكان لهم العظمة في الجياد والملابس . وكان يرتدي رداءً طويلاً فوطئ أحد الناس رداءه؛ فسقط ، فلطمه جبلة ، وأبلغ الرجل عمر بن الخطاب . وقال عمر بن الخطاب : إنه القصاص . وقال سيد الغساسنة : إني أشتري هذه اللطمة بألف دينار ولم يقبل الرجل فعرض سيد الغساسنة ألفين من الدنانير فرفض الرجل ، فزادها إلى عشرة آلاف ولم يقبل الرجل .
وقال جبلة لعمر : أنظرني حتى أفكر في المسألة . فلما أنظره عمر ، هرب الرجل إلى الشام و وتنصر . هكذا يتضح لنا آفاق كلمة " سوف " وأي زمن تأخذ ، إن لها امتدادات حتى زماننا .
إن الردة في زماننا جاءت من فارس ممثلة في البهائية والبابية ، وهدف المرتد يكون جاه الدنيا ، إن كان يريد الحكم ، ووسيلة المرتد تيسير التكليف لمن يتبعه في الارتداد . ومن يدعي لنفسه النبوة والقدرة على الإتيان بتشريع جديد إنما يطلب لنفسه جاه الدنيا ، والذي يتبع ذلك المدعي للنبوة إنما يقصد لنفسه تيسير التكليف .
ولماذا تيسير التكليف؟؛ لأن الإنسان مؤمن بفطرته ودليل ذلك أننا إذا واجهنا إنساناً غير مؤمن ، وقلنا له : أنت قليل الدين . يغضب ويثور؛ لأنه لا يتصور أن ينزع أحد منه أنه متدين بشكل ما . ونرى إنساناً قد يسرف على نفسه كثيراً لكنه ساعة يسمع إنساناً آخر يسب الدين يثور ويغضب ويتحول إلى مدافع عن دين الله ، وتلك هي الفطرة الإيمانية التي فطر الله كل الناس عليها . والذي يجعل الدين لأمراً شاقاً على النفس البشرية ليس فطرة الدين ، ولكنه تكليف التدين؛ لأنه أمر يدخل في الاختيار .
(1/2227)

وقد جعل الحق التكليفات الإيمانية كلها في مناط الاختيار البشري ، ولم يشا أن تكون أمراً قهرياً . ولو شاء سبحانه أن يجعل كل الناس مؤمنين لما قدر أحد على الكفر : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3-4 ]
فليس في قدرة أحد أن يتأبى على الله ، ولكنه شاء أن يجعل تكاليف الإيمان مسألة اختيارية . والإنسان حر في أن يفعل تكاليف الإيمان أو لا يفعلها ، وفي كلتا الحالتين سيلقى الجزاء . مثال ذلك : " اللسان " خلقه الله صالحاً أن يقول : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وهذا اللسان نفسه صالح لأن يقول : - والعياذ بالله - " أنا لا أؤمن بالله " .
ولا يعصى اللسان صاحبه ، فقد خلقه الله مجهزاً للتعبير عن مكنونات قلب الإنسان وخاضعا لإرادة الإنسان . ومثال آخر من مصنوعاتنا نحن : جهاز التليفزيون الذي صممه البشر ليكون آلة منقادة ومسخرة لما يرسله الإنسان فيه من برامج ، فإن أرسل الإنسان في جهاز التليفزيون أفلاماً وبرامج دينية وعلمية تستكشف آيات الله في الكون وتثبت قيم الإنسان على الإيمان فهذا اختيار إيماني . وإن أرسل الإنسان أفلاماً خليعة تحض على المجون والفسق فهذا اختيار يلحق الإنسان بدائرة المفسدين في الأرض .
إذن فالحق خلق الإنسان صالحاً لتطبيق تكاليف الإيمان وصالحاً للخروج عن التكليف . وحين يأمر الله عباده أن يطبقوا أو ينفذوا التكليف الإيماني فهو يعلم أن قدرة الإنسان تسع التكليف؛ لأنه العليم بعباده ، ولو لم يكن باستطاعتهم تنفيذ التكليف لما كلفهم به . وكلنا نعرف الفرق بين " العباد " و " العبيد "؛ فكل الكائنات عبيد لله ، والإنسان من عبيد الله إن كان متكبراً على التكليف ، وإن خرج على التكليف فهو مسير في أمور لا يقدر على الخروج منها ، فلا يستطيع أحد بإرادته أن يتوقف عن التنفس ، وهو - كما نعلم - أحد العمليات التي تجري على الرغم من الإنسان .
ولا أحد يستطيع أن يتنفس عندما ينتهي أجله . كذلك لا أحد يستطيع أن يقاوم المرض إن أصابه . إذن فكِبْر الإنسان وخروجه عن طاعة الله في أشياء لا تعني أنه خارج في مطلق أموره عن الله؛ لأن الحق فعال لما يريد ، فلا أحد يتحكم في بدايته حين يولد ، ولا أحد يتحكم في نهايته حين يموت ، وهناك أمور بين قوسَيْ الميلاد والموت ما من أحد بقادر على التحكم فيها ، وإرادة الاختيار إنما توجد في بعض الأمور فقط . أما كل ما عدا ذلك فهو قهري ، وكلنا عبيد لله في ذلك . لكن الحق تعالى أعطى لنا الاختيار في بقية أمور الحياة .
والذكي حقاً هو من يسأل ربه : لقد خلقتني يارب مختاراً .
(1/2228)

وماذا تحب أنت أن أفعل؟ هنا يجد الإنسان نفسه أمام أوامر الله ونواهيه وأمام المنهج بمطلوباته ، هذا المنهج الذي يوضح للمؤمن ما الذي يمكن أن يفعله وما الذي يمكن أن يتجنبه . ويقول المؤمن : إنني أخرج من اختياري إلى مرادك يارب . والعبد الذي يتنازل عن اختياره إلى مراد خالقه هو واحد من العباد الذين وصفهم الحق بأنهم عباد الرحمن .
ونرى في حياتنا العادية نموذجا لما يحدث بين رب الأسرة وأفرادها ، فرب الأسرة يقول لأبنائه : أنتم تريدون التنزه ، فأي مكان تحبون الذهاب إليه؟
يجيب أحد أفراد الأسرة : لنذهب إلى المكان الفلاني . ويجيب آخر : أنت حر في أن تصحبنا إلى أي مكان تريد ، المهم فقط أن تكون معنا . ومن المؤكد أن الذي يقول مثل هذا القول لرب الأسرة ينال منزلة رفيعة في قلبه . فإذا كان هذا يحدث بين إنسان وإنسان مثله فما بالنا بالاستحسان الذي يناله العبد حين يقول ذلك لخالقه الأكرم؟ لا بد أن ينال منزلة راقية؛ لأنه قد خرج من دائرة العبيد إلى دائرة العباد الذين قال عنهم الحق : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 63-66 ]
هؤلاء هم عباد الرحمن الذين يحبهم ويحبونه . أما الذي يتمرد على منهج الله فعليه أن يعرف أنه غير قادر على أن يتمرد على قدر الله . وأراد الحق أن يعطينا مناعة إيمانية حين قال : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وتتجلى تلك المناعة في أن المؤمن لا بد أن يلتفت إلى هؤلاء الذين يرتدون عن دين الله بادعاء أنهم أنبياء من بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن هذه الآية توضح لنا ما جد وما يجد من أمر هؤلاء المرتدين ، والواحد منهم يعلن : أنا نبي مرسل . ويَجِدُ هذا النبي المزيف من يستمع له ويصدقه ويتبعه ، ولا يجد من يسأله : إن كنتَ نبياً فما معجزتك؟ لكنه يجد من يصدقون هذا الزيف لهوى في نفوسهم .
هذا الهوى يتلخص في أن مثل هذا النبي المزيف يأتي بمنهج ميسر يخدع به أتباعه الذين يخدعون أنفسهم بأن الواحد منهم متدين ، لكنّه يتبع منهاجاً ضالاً . وكثير من الذين ادعوا أنهم أنبياء وأنّه هو المهدي المنتظر لم يسألهم أحد : ما المعجزة الدالة على صدق نبوتكم؟ لأن النبي المزيف من هؤلاء يلهي الناس بالتخفيف من التكليف .
إننا نجد بعضاً من المثقفين أو الذين يدعون أنهم يعملون عقولهم في كل شيء يتبعون هؤلاء الدجالين . وقد رأينا منذ أعوام قليلة العجب العجاب ، عندَما ادعى أحدهم النبوة . وآمن به واتبعه عدد من الرجال والنساء .
(1/2229)

وكانت المرأة المتزوجة تدخل على هذا النبي المزيف لتقبله ويقبلها من شفتيها وأمام زوجها . أين نخوة الرجل - إذن - في مثل هذا الموقف؟ إنه التدليس الضال الذي يدعي لنفسه الهداية ، إنّها هداية إلى الجحيم .
وهل تنبع تلك التيارات من الإسلام؟ لا ، بل تأتي من قوم يبغضون الإسلام ، ويصطادون الرجل الذي تظهر عليه المواهب والمخايل ، ويقنعونه بأنه يمكن أن يلعب دور النبي المزيف .
مثال ذلك الهندي ميزرا غلام أحمد الذي جاء بالقاديانية . ونعلم أن الإنجليز قد استعمروا الهند لسنوات طويلة ، وكانوا يعتبرونها درة التاج البريطاني . ونعلم أن خصوم الإسلام وعلى رأسهم الاستعمار يحاولون أن ينالوا من الإسلام؛ لأنهم رأوا أن التمسك بالدين أتاح للمسلمين فتح الأمبراطوريات لا بالسيف ولكن بحماية حق الاعتقاد .
إذا كانت الدعوة قد نشأت في الجزيرة العربية؛ فقد امتدت إلى آفاق الأرض . وانهزمت الفرس والروم أمام الذين يحملون راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " . ومن بعد ذلك نجد أن الذين هزموا التتار هم المسلمون ، وكذلك اشتعلت الحروب الصليبية في حملات متتابعة ، ولكن المقاتلين تحت راية الإسلام أنزلوا بهم الهزيمة الضارية .
إن الذي أرهق الاستعمار من الإسلام طاقة الإيمان والقتال في سبيله ولذلك جاء ميزرا غلام أحمد وحاول أن يضعف القدرة على الجهاد عند المسلمين ، فقال : لقد جئت لكم لألغي الجهاد من العقيدة الإسلامية . وجرؤ ميزرا غلام أحمد ، وأعلن إلغاء القتال . والحق يقول في كتابه الكريم : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ]
وسبحانه بقدرته يمهل ولا يهمل . وجاء وباء الكوليرا في الهند سنة 1908 ليقضي على غلام أحمد وينهي تأكيداً لقوله الحق : { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ]
وظهر أيضاً في فارس وهي موطن سلمان الفارسي مَن ادعى لنفسه النبوة ، وكان من الذكاء بحيث حاول التسلل إلى الإسلام؛ لينقلب عليه من بعد ذلك ، قال الرجل : أنا الباب ومن بعدي سيأتي المهدي .
وعندما سأله الناس : وماذا تحمل من منهج؟ أجاب : جئت لأخفف عنكم بعض التكاليف؛ لأن الإسلام صار بتكاليفه لا يناسب العصر . واتبعه أناس ، وثار عليه أناس . ومن اتبعوه ، ذهبوا إليه بغية تخفيف المنهج ، ومن ثاروا عليه كانوا من القوم الذين يحبهم الله ويحبونه ، وجاءوا له بالعلماء يناقشونه ويحاجونه فاعترف بأنه مخطئ وأعلن التوبة في المسجد الكبير . وعند ذلك تركه الناس .
لكن هذا الرجل وجد من يلتقطه ليعيده إلى ضلاله وتضليله ، التقطه قنصل روسيا في فارس ، وهيأ له ملجأ ، واوعز إليه أن يعلن أن توبته إنما كانت هرباً من القتل . واستطاع هذا الباب ، واسمه علي محمد الشيرازي أن ينال دعاية واسعة وخاصة بعد أن انضمت إلى دعوته فتاة اسمها " قرة العين " وكانوا يلقبونها بالطاهرة . ووقفت لتخطب خطبة في الناس .
(1/2230)

ومن يقرأ تلك الخطبة يعرف إلى أي انحلال كان يدعو ذلك الباب .
وأعلنت هذه المرأة أن الإسلام قد انقضت مدته كدين ، وأن الباب قد اختفى لفترة؛ لأنه في انتظار شرع جديد ، وأن العالم يمر بفترة انتقال ، وصار ينزل المنهج الجديد على الباب . وقالت تلك " الطاهرة " : إنّ التشريع المختص بالمرأة ، والذي جاء إلى الباب هو :
" المرأة زهرة خُلِقَت لتُشَمّ ولِتُضَمّ " ... " فلا يمنع ولا يُحَدّ شامّها ولا ضامّها "
وما دامت المرأة زهرة إذن فهي تجنَى وتقطَف " وإلى الأحباب تُهَدى وتتحف . . إلى أن تقول في نهاية خطابها : لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم ( !! )
ومن يرغب في أن يعرف مسلسل الفضائح الخلقية التي جاءت في خطاب " قرة العين " تلك فليقرأ كتاب " نقطة الكاف " للباب الكاشاني طبعة لندن صفحة 154 . هذا ما جاء به الباب من بعد أن أعلن إلغاء الإسلام :
لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم فإنه الآن لا منع ولا حد ، خذوا حظكم من الحياة ، فإنه ليس بعد الممات شيء . وهذه خلاصة الانحلال الذي جاء به هذا المدعو بالباب ، لقد أعلن أنه لا حساب ولا يوم آخر ، وأن المرأة عرضها مشاع تضم وتشم . والغريب أن بعضاً من المتزوجين قد اتبعوه . وقالوا عن أنفسهم : إنهم متدينون ، لقد أخذوا ظاهر الأمر واعتبروا الفسوق الذي جاء به هذا الباب وأسموه دينا بعد أن سهل لهم بتعاليمه الفساد ، فأخذوا الانحلال عن التكاليف ، وادعو أن ذلك دين ( !! )
هكذا أراد خصوم الإسلام للإسلام . وقنصل روسيا القيصرية هو الذي شجع هذا الرجل وحماه في عام واحد وستين ومائتين بعد الألف من الهجرة . وبرغم ذلك حكم أهل فارس بإعدامه بعد موجة السخط العارم ، ولم يستطع أن ينقذه أحد ، وتم إعدامه فعلاً . والذين قرأوا أقواله لحظة الإعدام عرفوا كيف أنه تذلل وخضع وبكى . ولو كان مبعوثاً بحق من عند الله لما تذلل وخضع وطلب النجاة . ولامتلأ بالسرور والحبور؛ لأنه ذاهب إلى الله .
لقد عرف هذا الرجل الدجال إلى أي عقاب سيذهب؛ لذلك بكى واسترحم . ولما قتل الباب ، أعلن واحد من رجاله وهو ميرزا حسين أن الكتاب الذي جاء به الباب كتاب كاذب ، وكان اسمه " البيان " . وقال ميرزا حسين علي : إنه جاء بكتاب اسمه " الأقدس " . كأن المسألة كلها خداع للناس وتبرير الخداع .
ولو رجعنا إلى كتاب يسمونه " بهجة الصدور " لمؤلفه حيدر بن علي البهائي لوجدنا كل الانحرافات الممكنة ، فالبهاء يقول : استر ذهبك وذهابك ومذهبك ، أي لا تجعل أحداً يعرف ثروتك ، ولا إلى أي مكان تذهب ولا تقل للناس : إنك بهائي حتى لا يقتلوك . واعتبر البهائيون أن القرآن قد انتهت مدته وأن كتاب " الأقدس " هو كتاب فوق القرآن .
(1/2231)

ويقرر كتاب " الأقدس " أن القدس لا بد أن تكون وطناً لليهود وأن موسى سيد الرسل جميعاً . ومما يدلنا على أن ذلك الرجل كان صنيعة الاستعمار والصهيونية ، أنهم اقاموا له حفل تكريم في بريطانيا ومنحوه وسام الفروسية الإنجليزي؛ لأنه رجل خدم الاستعمار .
ونجد أن شيخنا رشيد رضا الذي نقل لنا تاريخ الإمام محمد عبده يروي قصة لقاء بينه وبين ذلك المدعو " بهاء " في بيروت ، وحكى الشيخ رشيد عن الإمام محمد عبده أن هذا البهاء كان يأتي للصلوات الخمس ويصلي الجمعة . وعندما سأله عن تلك المسألة المسماة بالبهائية . أجاب بأنها محاولة للتقريب بين الشيعة وأهل السنة .
وعندما أمرت الدولة العثمانية بمحاكمة ذلك البهاء توسط قنصل روسيا فاكتفوا بنفيه إلى بغداد . وعاش فترة فيها ثم مات وقام الأمر من بعده لابنه عباس المسمى عبد البهاء .
لقد كانت البداية برجل سمى نفسه الباب صاحب كتاب البيان وقال فيه : " ملعون مطرود من يدعي أنه جاء بشريعة بعد شريعتي إلا بعد مرور ألف سنة " .
وما أن تمر سبع سنوات حتى جاء رجل ثان يسمي نفسه البهاء ، وأعلن أنه جاء بشريعة جديدة ، ويعقد الوصية لابنه المسمى " عبد البهاء " . ثم يكون الأمر من بعده إلى ابنه المسمى " شوقي أفندي " وكان يقيم بعكّا . هكذا انفضحت أكاذيبهم . ورئيس البهائية الحالي هو يهودي اسمه بترسون .
إذن فالردة عن الإسلام لم تكن نابعة من نفوس المسلمين ولكن مدفوع إليها من خصوم الإسلام الذين يأخذون أي رجل ملحد فيه بعض من الذكاء وينفخون فيه بدعاياتهم حتى يشوهوا دعوة الإسلام . وأقاموا مراكز لمثل هذه الانحرافات في بلجيكا وأمريكا وانجلترا . وحاولوا النفاذ إلى البلاد الإسلامية لينشروا فيها دعوتهم ومبادئهم . وكانوا يأخذون المرأة كنقطة هجوم على الإسلام . ويتهمون الإسلام بأنه يضع المرأة في الحريم ، ويحبسها في خيمة وإلى آخر تلك الدعايات التي تشوه تكريم الإسلام للمرأة .
ومن العجيب أني سمعت بأذني من واحدة هي بنت لتلك الحضارة الغربية . تقول : كنت أتمنى أن أكون مسلمة وأمًّا لشاب مسلم .
فعلينا نحن المسلمين ألا ننخدع بتلك الدعايات وتلك المواهب التي تتسلل من باب تخفيف المنهج والمراد بها قتل قيم الإسلام التي تحمي الإنسان وتحترم مشاعره؛ لذلك يجب أن ننتبه إلى دعوات المتسللين إلى مجتمعاتنا بغية هدم ديننا . وعلى الحكومات أن تضرب على أيدي العابثين بدين الله لا أن تترك مسائل الدين لهبّات الأفراد . وكل منا مطالب بأن يرد عن دين الله كل دخيلِ عليه وكل محاولة لوضع أمور ليست من الدين في شيء . وجزى الله قضاء مصر خيراً حينما تصدوا لمثل هذه الدعوات ووقفوا دفاعاً عن الإسلام لتبيين وإيضاح كل أمر دخيل عليه ، فدستور الدولة ينص على أن مصر بلد مسلم ، وإن كانت بعض التقنيات في دور التشريع .
(1/2232)

وجزى الله قضاء مصر عنا خيراً ، فقد وضحوا تلك المسائل وبينوها . وعرفنا بسلوكهم أن خميرة الإيمان هي التي تحكم سلوك المسلم الحق ، وإن تخلت عنه بعض القوانين التي عليه أن يحكم بها .
وكلما حدث حادث من تلك الحوادث لنا أن نتذكر القول الصدق من الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] .
وكل هذه الحركات المناوئة للإسلام تنتهي ويبقى الإسلام قوياً بأبنائه الذين يحبهم الله ويحبونه . هؤلاء الذين وصفهم الحق : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم } [ المائدة : 54 ] .
ويذيل الحق سبحانه هذا القول الكريم : { ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ المائدة : 54 ] .
نعم إنه فضل من الله؛ لأنهم ما داموا يحبهم الله ويحبون الله وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين فقد جعلهم سبحانه حملة لواء منهجه لتكون كلمة الله هي العليا . وذلك تفضل من الله . ولنعلم أن الخير لا يعود منا على الله؛ لأنه سبحانه هو واهب كل خير ، ولم يأت لنا الخير من بعد خلقنا ، ولكن نحن الذين طرأنا على الخير ، نحن طرأنا على الأرض ، وعلى السماء بما فيهما من كل كنوز الخير ، ففي الأرض العناصر والمعادن والقوت ، وفي السماء الشمس والقمر والنجوم ، وكل ذلك فضل الخالق على المخلوق .
إن فضل الله يؤتيه سبحانه وتعالى من يشاء وتتسع قدرته لكل مطلوب؛ لذلك لا يمن المؤمن على الله بإيمانه ، فليس عند الله أزمة في الذين يؤمنون به ، وهو قادر على أن يأتي بقوم يحملون دعوته ، فإذا ما ارتفعت رأس الباطل فهذا دليل على أن قطافها قد حان؛ لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض .
فكأن الله حين يندب المؤمنين لمهمة إيمانية فلا يقال : إن المؤمنين إنما يفعلون ذلك لمصلحة ربهم . لا ، ولكن ذلك فضل من الله على المؤمنين حين يختارهم لمهمة حمل البلاغ عن الله ، ويعود الخير إلى المؤمنين ثمرة مضاعفة . إذن فحين يكون اختيار الله للمؤمن لمهمة إيمانية فهذا فضل من الله على المؤمن . ونعرف أن الفضل هو الأمر الزائد عن العدل فالحق سبحانه وتعالى قد قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] .
وكل تكليف من الحق للخلق هو فضل من الله؛ لأنك إن نظرت إلى كل تكليف من الحق للخلق لوجدت أن التكليف إنما يعود لصالح الخلق وما دامت الفائدة من التكليف تعود إلى الخلق فليس من المطلوب إذن أن يثاب الخلق المؤمنون المكلفون ، لكن الله يأبى أن يكلف خلقه بتكاليف ويذهبون إلى هذه التكاليف بطاعة ومحبة دون أن يجازيهم على ذلك بحسن الثواب .
(1/2233)

ولهذا نجد الحق يقول : { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] .
المنّة إذن لله حين تفضل على الخلق الذين أطاعوه بحسن حياتهم في إطار تكاليفه الإيمانية ، وفوق ذلك هناك الثواب ، وهذا هو عين التفضل من الحق على الخلق المؤمنين : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] .
وساعة نسمع " بفضل الله " فلنعلم أن فضل الله لا حدود له . وقد نجد من يقول : ولكن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } [ النجم : 39-40 ] .
ونقول : لنفترض أن إنساناً مات ، ونجد الأمر من الخالق سبحانه وتعالى بأن نصلي عليه؛ لندعو له بالرحمة . ودعاؤنا للميت بالرحمة يأتي له بخير أكثر مما فعل هو في حياته ، ولولا أن صلاتنا على الميت تثيب الميت وتثيبنا في آن واحد لولا ذلك ما أمرنا الحق بأداء هذه الصلاة .
وقد يقول قائل : هذا الخير الذي يأتي إلى الميت من دعاء المصلين عليه ليس من سعي الميت .
ونقول : إن " اللام " في قوله الحق : { لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] .
هذه اللام تفيد الاستحقاق والملكية . وهو قول كريم يحدد العدل ولا يحدد الفضل . ونضرب مثلاً من حياتنا نحن البشر - ولله المثل الأعلى - تجد السيد يقول للخادم عنده : إن لك أجراً عندي يساوي مائة جنيه . ثم يجيء السيد في آخر الشهر ويقول للخادم : خذ مائة وخمسين جنيهاً . العدل إذن هو أن يأخذ الخادم أجره وهو مائة جنيه ، ولكن الخمسين جنيهاً الزائدة هي الفضل الزائد عن الأجر .
إننا حين يأمرنا الحق سبحانه وتعالى بأن نصلي على الميت فهذا تفضل من الله على الميت وعلينا أيضاً . هذا لون من تفضل الله على خلقه . وسبحانه يجازي كل إنسان بما عمل ويمنحه فوق ذلك ، ومن قصّر في شيء من العمل . ويصلي عليه الناس ويدعون له بالرحمة فتفيض رحمة الله على العبد وعلى غيره من العباد . وهذا هو مناط قول الحق : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ]
وعندما نحقق في هذا الموقف وحده نجد أن الجزاء يكون أفضل من العمل . وما الذي يجعل المؤمن يصلي على ميت مؤمن؟ إنه إيمان هذا الذي مات وإيمان من مات ملك له ، وعلى ذلك فملكية المؤمن لإيمانه تمتد بعد أن يموت لتشمل صلوات ودعاء من صلوا عليه .
وذلك يدخل في فضل الله : { ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ المائدة : 54 ] .
وما دامت المسألة فضلاً من الله يشمل كل مؤمن فلا بد أن الحق عنده من السعة ما يعطي الكل . وسبحانه واسع عليم . والحديث القدسي يقول : " يا عبادي ، لو أن أوّلكم وآخركم ، وإنسكم وجنّكم ، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه " .
(1/2234)

إذن فخزائن الله ملأى لا تنفد ، وسعة الحق مطلقة .
ولهذا نحن أيضاً نجد أن الحب في الله يزداد دائماً ، فساعة نشاهد اثنين يتحابان في الله ، فحبهما يزداد كل يوم؛ لأنه الحب في الله . أما إن كان الحب لأمر محدود فذلك الحب ينتهي ويترك كل منهما الاخر بانتهاء السبب لذلك الحب .
ولنأخذ قضية واضحة أمامنا : من كان يحب في الله فالحب لغير المحدود لا حدود له . ومن كان يحب في غير الله ، فالحب هنا لمحدود ويرتبط طردا وعكسا بمدى الإثراء من هذا المحدود . ومن يحب لغرض من أغراض الدنيا يقيس ما يعطيه لمن يحب ، فإن زاد ما يعطيه على ما يأخذه يحس بالخسارة . وعندما نتبادل الحب في الله فلا شيء ينقص عند الله أبداً؛ لأنه سبحانه يعطي الاثنين معاً اللذين يتحابان فيه . وسبحانه العليم أزلاً ، وصاحب القدرة الذي يعطي كل إنسان المناط الذي يستحقه .
ويقول الحق من بعد ذلك : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين . . . }
(1/2235)

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
وحين نهانا الحق عن أن نتخذ اليهود والنصارى أولياء فعلينا أن نأخذ بالقياس أن النهي إنما يشمل كل خصوم ديننا ، فلا نتخذ أيّاً من أعداء الدين وليّاً لنا؛ لأنه سبحانه وتعالى لم يتركنا بغير ولاية ، وهو وليّنا وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا .
إذا أردنا المقارنة بين ولاية الله ، وولاية أعداء الله فلنعرف أن كل عدو لله له قدرة محدودة لأنه من البشر ، أما ولاية الله لنا فلها مطلق القدرة . وأي عدو له قد يتظاهر لنا بالولاية نفاقا . أما ولاية الله لنا فلا نفاق فيها لأنه لا قوة أعلى منه . وإن كان الحق قد منعنا أن نتخذ من أعدائه أولياء فذلك ليحررنا من الولاية المحدودة ليعطينا الولاية التي لا تتغير وهي ولايته سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } وهكذا يكون التعويض في الولاية أكبر من كل تصور . وساعة نرى " إنما " فلنعرف أن هناك ما نسميه " القصر " أو " الحصر " .
مثال ذلك نقول : " إنما الكريم زيد " : كأن القائل قد استقرأ آراء الناس ولم يجد كريماً إلا زيداً ، وكأنه يقول : " زيد كريم وغير زيد ليس بكريم " واختصر الجملتين في جملة واحده بقوله : " إنما الكريم زيد " وأثبت بهذا القول الكرم لزيد ونفاه عن غيره . أما إن قال القائل : " زيد كريم " فهذا القول لا يمنع أن يكون غيره من الكرماء .
إن الحق سبحانه يحصر الولاية في قوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } وهو قد نهانا من قبل عن ولاية أهل الكتاب ، وعن ولاية كل من لا توجد عنده مودة أو محبة تعين المؤمن على مهمته الإيمانية . فلو كان عند أحد من أهل الكتاب أو الملاحدة محبّة ومودّة تُعين المؤمن على أداء مهمته لما بقي هذا الإنسان على منهجه المحرّف أو على إلحاده ، بل إن ذلك سيجعله يذهب إلى الإيمان برسالة الإسلام .
إننا نجد بقاء الكافر على كفره أو إلحاده أو عدم إيمانه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم دليلا على أنه لم يستطع الوصول إلى الهداية أو أنه - إن كان من أهل الكتاب - لم يستطع أن يكون مأموناً على الكتاب الذي نزل إلى نبيّه وفيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فكيف - إذن - يعين إنسان مثل هذا إنساناً مسلماً؟ . إنه لا يستطيع أن يعين ولا أن يوالي ولا أن يكون على هداية؛ لأنه لم يستطع أن يهدي نفسه . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم " .
(1/2236)

لأن الذي لا يستطيع أن يهدي نفسه لن يستطيع هداية غيره .
وحين نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال أهل الكتاب كان يعلم أنهم في ريب من أنفسهم ، وفي ضلال وخلط ، فهم إما يخلطون الحق بالباطل ، وإما في غيظ من الذين آمنوا؛ لذلك نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسألهم ، وهذا هو الاحتياط للدين ، فقد يسألهم المؤمن سؤالاً ، فيجيبون بصدق ، فيكذبهم المسلم ، وقد يجيبون بكذب فيصدقهم المسلم؛ لذلك لا يصح ولا يستقيم أن يسألهم المسلم أبداً عن شيء؛ لأنه عرضة لأمر من اثنين : إما أن يصدق بباطل ، وإما أن يكذب بحق . وأهل الكتاب أنفسهم قد تضاربوا ، ألم يقل الحق على ألسنتهم : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ } [ البقرة : 113 ] .
وكذلك قالت النصارى : { لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ } [ البقرة : 113 ] .
إذن فأي الموقفين نصدق؟ أنصدق رأي اليهود في النصارى؟ أم نصدق رأي النصارى في اليهود؟ ولا نستطيع أن نكذب رأي اليهود في النصارى ، ولا نستطيع أن نكذب رأي النصارى في اليهود ، إذن فحين يقول الحق سبحانه : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } فعلينا أن نفهم أنه سبحانه وتعالى ما دام قد نهاكم عن أن تتخذوا أولياء من دون الله فلن يترككم أيها المؤمنون دون ولي . بل متعكم فقط من ولاية من لا يمكن صادقاً في معونتكم ولا في نصرتكم .
لقد أراد سبحانه أن يكون هو بطلاقة قدرته وليكم ، ورسول الله أيضاً وليكم ، وكذلك الذين آمنوا . ونجد من يقول : الحق هنا قد عدد الولاية فيه سبحانه وتعالى وفي الرسول صلى الله عليه وسلم وفي المؤمنين ، لماذا لم يقل - إذن - : أولياؤكم هم الله والرسول والذين آمنوا؟
ونقول : هل كانت للرسول ولاية منفصلة عن ولاية الله والمؤمنين؟ وهل كانت للمؤمنين ولاية منفصلة عن ولاية الله والرسول؟ لا؛ لأن الولاية كلها منصبة لله ، فلم يعزل الحق الرسول عن ربه ، ولا عزل المؤمنين عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يقسم الولاية إلى أجزاء ، بل كلها ولاية واحدة وأمر واحد ، ونلحظ أن الخطاب في " كاف الخطاب " هو للجمع : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } ، و " كاف " الخطاب هنا تضم المؤمنين ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالله سبحانه وتعالى ولي الرسول وولي المؤمنين ، والرسول ولي المؤمنين ، وجاء في المؤمنين قول الحق : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] .
كم درجة من الولاية هنا إذن؟ الله ولي الرسول وولي المؤمنين . ذلك أن سبحانه شاء بفضله ألا يعزل الولاية أو يقسمها بل جعلها ولاية واحدة ، والرسول صلى الله عليه وسلم ولي المؤمنين ، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض؛ لذلك نجد أن كل مؤمن مطلوب منه معونة ونصرة أخيه المؤمن .
(1/2237)

إن الإنسان - كما نعلم - ابن أغيار ، وما دام الإنسان ابناً للأغيار فعلينا أن نعرف أن المؤمنين لن يظلوا كلهم في حالة توجيه النصيحة . ولن يظلوا جميعهم في حالة تلقٍ للنصيحة . وكل واحد منهم يكون مرة ناصحاً ومرة يكون منصوحاً ، فساعة يصيب الضعف مؤمناً في جزء من المنهج يجد أخاه المؤمن قد هبّ لنصحه ليعتدل . وساعة يصيب الضعف الناصح في جزء من منهجه فالمنصوح السابق يهب لنصح أخيه ليعتدل . والذي خلق الخلق وهو أعلم بهم ، ويعلم كيف تستوعب الأغيار الخلق ، وكيف أن كل إنسان له خواطره وله ظنونه وله مواقف ضعف وله مواقف قوة . إنه - سبحانه - لم يطلب من الناس أن يوصوا بالخير فحسب ولكنه قال : { وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ] .
لماذا إذن التواصي بالحق؟؛ لأن سبل الحق شاقة ، ولأن أصحاب الحق يلاقون المتاعب من أصحاب الباطل؛ لذلك لا بد أن يؤازر أصحاب الحق بعضهم بعضاً فيقول الإنسان من أهل الحق لأخيه ما يساعده على التمسك بما هو أعز من الراحة والصحة والمال . ولا بد أن نجعل الحق واضحاً في حياتنا وسلوكنا ، وأن يتذاكر أهل الحق بما حدث لغيرهم وكيف صبروا ، هكذا يكون التواصي بين المؤمنين .
وتلك هي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
إذن فقوله الحق : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله } هو ما يسمونه في اللغة " أسلوب الحصر " ، أي لا ولي لكم غير الله . وحين يُرَدّ الإنسان من الولاية المحدودة القدرة ويجعل العوض له في غير محدود القدرة فذلك كسب كبير للعبد ، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ، ومَن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .
كيف تكون أنت أيها العبد في عون أخيك؟ يتحقق لك ذلك عن طريق أن تقدم لأخيك المؤمن المعونة والنصرة والمؤازرة والتواصى . وتقدم لأخيك من وقتك وطاقتك وقدرتك ومالك ما يعينه . وإياك أن تحسب المسألة بأنك كنت تستطيع أن تفعل كذا وكذا في الوقت الذي أعطيته لأخيك المؤمن ، بل يجب أن تحسبها بأن الله هو الذي أعطاك الوقت والمال والجهد وأنت لا تفعل شيئاً بقدرتك أنت ، وأن قدرتك المحدودة عندما تعطي بعضها منها لأخيك فأنت تصل قوتك المحدودة بصاحب القوة غير المحدودة وهو الله . وبذلك يكون الله في عونك وتكون أنت الأكثر كسباً . فمن يرد الله بجانبه فلا بد أن يكون مع الخلق دائماً بالمعونة ، وبهذا السلوك يرتقي المؤمن إلى أعلى درجات الذكاء .
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } وسبحانه يريد أن يبين لنا مميزات أصحاب الإيمان؛ لأننا حين نتعرف على شعب الإيمان وصفاته الجميلة إنما نميز بهذه الصفات المؤمنين من غيرهم .
(1/2238)

وإقامة الصلاة هي الصفة الغالبة في وصف الذين يؤمنون بالله؛ لأن الصلاة هي الصلة المتجددة بإعلان الولاء لله خمس مرات في كل يوم . والنبي صلى الله عليه وسلم قال :
" بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت " .
وهذه الأركان الخمسة هي الدعائم والأسس التي تقام عليها عمارة الإسلام . وأي بيت لا يقوم بالأسس وحدها ، ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة وعشرات الفضائل والمطلوبات غير الأسس ، وإذا ما راجع كل واحد منا علاقته بأسس الإسلام فلسوف يجد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مرة واحدة في العمر ، ومن بعد ذلك يقيم الصلاة . ثم يؤتي الزكاة ، لكن إن كان فقيراً فهو معفىً من أداء الزكاة . وحتى الذي يؤدي الزكاة فيؤديها في وقت واحد في السنة . ومن بعد ذلك يصوم رمضان . لكن المريض أو المسافر أو الذي له عذر فهو يفطر ويقضي الصوم؛ ويفدي عن الصيام المريض الذي لا يرجى شفاؤه والعجوز الذي تصيبه بالصوم مشقة شديدة . ومن يحج البيت يفعل ذلك مرة واحدة في العمر إن استطاع إلى ذلك سبيلا .
هذه هي أركان الإسلام ، وفيها إعفاءات كثيرة للمسلم . اللهم إلا الصلاة فهي أساس يتكرر ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة " .
ويقول صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " .
ويقول صلى الله عليه وسلم : " إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " .
لذلك لا تسقط أبداً ، فنحن نصلي ونحن قيام ، ونصلي ونحن قعود ، ونصلي على جنوبنا . ونصلي ونحن غير قادرين على أية حركة ، نصلي بالإيماء . ومن لا يقدر على هز رأسه بحركات الصلاة في أثناء المرض الشديد فهو يصلي بعينيه . ومن أصابه - والعياذ بالله - شلل جعله لا يقدر على تحريك جفنيه بحركات الصلاة فهو يصلي بالخواطر وبالوعي أي يجري أركان الصلاة على قلبه . أما من ذهب عنه الوعي فقد سقطت عنه الصلاة .
ولذلك يقول الحق : { والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة } ويقول بعد ذلك : { وَيُؤْتُونَ الزكاة } ؛ لإن إيتاء الزكاة معناه تقوية أثر حركتك لغيرك وتعدية أثر هذه الحركة للضعيف عنك ، وحينما تزكي إنما تعطي مالاً ، والمال هو ناتج من أثر حركتك في الوجود ، وعطاؤك من مالك بالزكاة يدل أيضاً على الإيمان . ثم يذيل الحق الآية بقوله : { وَهُمْ رَاكِعُونَ } . وهل الركوع هنا بمعنى الركوع في الصلاة؟ أو بمعنى الخضوع لكل تكاليف منهج الله؟ أو أنها نزلت هنا في مناسبة خاصة لحالة خاصة؟
هنالك رواية تقول : إن عبدالله بن سلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن قوماً من قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا ألا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل .
(1/2239)

وشكا عبدالله مما يلقاه من اليهود ، فنزلت تلك الآية : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] .
فقال ابن سلام : رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء . وتزيد الرواية في موقع آخر : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس بين قائم وراكع ودخل إنسان إلى المسجد وسأل الصدقة فلم يعطه أحد فقال الرجل : أشهد الله أني جئت إلى مسجد رسول الله وطلبت الصدقة وما أعطاني أحد شيئاً ، وسمعه علي ابن أبي طالب - كرم الله وجهه وكان يصلي - فمد على يده بحيث يراها الرجل وأشار له أن يأخذ من يده الخاتم كصدقة ، فأخذه الرجل . وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل فقال : هل أعطاك أحد شيئاً . فأجاب الرجل نعم خاتما ، وأشار إلى علي بن أبي طالب . وهنا نزلت الآية بتمامها : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] .
وأياً كانت المناسبة التي نزلت فيها الآية ، فالركوع معناه الخضوع ، والخضوع يكون لكل تكاليف منهج الله . فإذا كنا نقول : فلان ركع لفلان فهذا معناه أن فلاناً قد خضع لفلان .
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَن يَتَوَلَّ الله . . . }
(1/2240)

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
ونلحظ أن الحق أوضح في الآية السابقة : إن الله هو المولى ، وهنا تكون أنت أيها العبد المؤمن من الذين يتولاهم الله ، تماماً مثل قوله : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } .
وحين يكون الله في معونتك فهو يعطيك من قدرته غير المحدودة فكيف تتولى أنت الله؟ ويكون القول الحاسم في هذا الأمر هو قول الحق : { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] .
والحق في الآية التي نحن بصددها جاء بالمقابل لما جاء في الآية السابقة عليها فهو القائل من قبل : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } .
وفي هذه الآية يأتي بالمقابل . فيقول سبحانه : { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } [ المائدة : 56 ] .
هذه المقابلة توضح لنا كيف ينصر الله العبد ، وكيف ينتصر العبدلله . ولم يقل سبحانه في وصف من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا : إنهم الغالبون فقط ، ولكنه أورد هذه الغلبة في معنى عام فقال : { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } .
وكلمة " حزب " معناها : جماعة التف بعضهم مع بعض على منهج يرون فيه الخير . ولا يمكن أن يجتمع قوم بقوة كل فرد فيهم بفكر كل فرد منهم إلا إذا كان هذا الأمر هو خير اجتمعوا عليه ، إذن فحزب الله في أي وضع وفي أي تكوين ولأيَّةِ غايةٍ هو الحزب الغالب . وعلى المستوى الفردي نجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزّبه أمر قام إلى الصلاة " .
فما معنى حَزّبه هنا؟ معناه أمر أتعبه وأرهقه وفكر فيه كثيراً . وبذلك يعلمنا رسول الله ألا نقصر رؤيتنا على رأينا وحده ، ولكن لنلجأ إلى الله . فنهزم الأمر الذي يحزبنا ولا نقدر عليه بأن نقيم مع الله حزباً بالصلاة .
إننا عندما نأخذ من سنة رسول الله المثل والقدوة نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحزبُه أمر يتعلق بدنياه وإنما أمر يتعلق بمنهج الله وبالدين؛ لذلك يذهب رسول الله إلى من يعطيه ويعطي أهل الإيمان كل الطاقة . إنّه يذهب إلى الصلاة . ويعلن أن أسبابه قد انتهت ولم يعد يقوى على تحمل هذا الأمر الذي حَزَبَهُ ، ولأن الله لا يغلبه شيء؛ لذلك فسبحانه يرفع الهمَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويغلب كل أمر صعب . وإن حَزَبَنا هذا الأمر في نفوسنا فسنجد العجب .
إذن فحين تعز الأسباب على المؤمن في أمر ما ويكون قد أعطى كل جهده وما زال هذا الأمر يحزب المؤمن ويشتد عليه ويرهقه فعلى المؤمن أن يقوم إلى الصلاة ، وييسر الحق هذا الأمر للمؤمن بالخير . والمؤمن عندما يحزبه أمر ما إنما يذهب بالصلاة إلى المسبب وهو الله ، لكن على المسلم ألا يذهب إلى الله إلا بعد أن يستنفد كل الأسباب ، فالأسباب إنما هي يد الله الممدودة ، ولا يمكن للمؤمن أن يرفض يد الله ويطلب ذات الله ، فإن انتهى الأخذ بالأسباب فليذهب إلى المسبب :
(1/2241)

{ أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ النمل : 62 ] .
وسبحانه الذي يجيب المضطر وهو الذي يكشف السوء وهو الذي جعل البشر خلفاء في الأرض ، وسبحانه لا شريك له في ملكه ، وهو القائل : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ النمل : 65 ] .
وإذا قال قائل : ولكني أدعو الله ولا يستجيب لي . ونقول : أنت لم تدع دعوة المضطر؛ لأنك لم تستنفد الأسباب . وعليك أن تستنفد الأسباب كلها . فإن استنفدت الأسباب فالحق يجيبك ما دمت مضطراً .
إذن فحزب الله عندما يَغلِب إنما يعطينا قضية مكونة من " إن المؤكِّدة واسمها وخبرها " وهذه قضية قرآنية وهي تختلف عن القضية الكونية التي تصف واقع الحياة : ويقول الحق : { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } [ المائدة : 56 ] .
وسبحانه يعلم ما يكون في كونه ، ولن تختلف قضية القرآن عن قضية واقع الكون . وساعة تجد قوماً تجمعوا وفي صورتهم الرسمية الشكلية أنهم رجال الله ، ولا يَغْلِبُون فعلينا أن نعرف أنهم خدعوا أنفسهم وخدعوا الناس بأنهم حزب الله وواقع الحال أنهم ليسوا كذلك؛ لأنه سبحانه قال : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] .
وهذه قضية قرآنية . ونأخذ الأمر دائماً بسؤال : هل غلبت أم لم تغلب؟ فإن كنت قد غلبت فإن جنديتك لله صدقة . وإن لم تكن فأنت تخدع نفسك بأنها جنديّة لله وهي ليست كذلك . " ولنا المثل الواضح من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان بين صحابته في موقعة أُحُد وأمر الرُّماة أن يقفوا موقفاً خاصاً ، فلما وجد الرّمَاة استهلال نصر المؤمنين على الكافرين ، وأن الذين يحاربون أسفلهم يأخذون الغنائم ، ذهبوا هم أيضاً إلى الغنائم وخالفوا أمر الرسول حينما قال لهم : إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هَزَمْنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم " .
فلما خالفوا أمر رسول الله أَكانوا جُنوداً لله بحق؟ لا ، بل اختلت جُنديتهم لله . ولم يمنع وجود رسول الله فيهم سُنَّة الله الإيمانية في كونه ألا تقع ، ولو ظلوا مُنتصرين على الرغم من أنهم خالفوا الرسول لهان أمر رسول الله في نظرهم؛ لذلك أراد الحق أن يُوقع بهم ألم الهزيمة المؤقتة من أجل أن يتأدبوا ، وحتى يَعضُّوا على أمر سيدهم وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنّواجذ . وقد أورد الحق ذلك الأمر ورسول الله فيهم من أجل مصلحة الإسلام ، فلو نصرهم على الرغم من مخالفتهم لرسول الله لجرأهم ذلك على أن يخالفوا .
ويقول الحق بعد ذلك : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً . . . }
(1/2242)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
والهُزُوُ هو السُّخرية والتَّنكيت . وهُزْء أهل الكتاب من أهل الحق لون من الانفعال العكسى . فساعة يرى بعض أهل الباطل واحداً ملتزماً يُصلّي ولا يُحملق في النساء قد يصفونه بصفات غير لائقة؛ لأنهم لا يستقبلون التزامه إلا بلونٍ من السخرية ، وحتى لا يفهم أنه خيرٌ منهم ، وقد يضلونه فيتبعهم .
ولنفرض أن ثلاثة من الشباب جمعت بينهم الصداقة ثم انحرف منهم اثنان والْتزم واحد منهم . وكان لأحد المنحرفين أُخت فيطلب زميله المنحرف يد هذه الأخت ، ويأتي له الصاحب الذي لم ينحرف ليطلب الأخت نفسها ، هنا نجد الأخ لا يوافق على زواج أخته بالمنحرف ، بل يوافق على زواجها من الذي لم ينحرف؛ لأنه لن يخدع نفسه . وعندما يعاتبه المنحرف فهو يرد عليه : وهل أستأمنك على أختي؟ أنا أعرفك حق المعرفة .
وهكذا نرى أن القيم هي القيم . وعندما يكون هناك إنسان على حق ويلتقي بأناس على باطل نجدهم لا يتركونه وشأنه ، ولأنهم لن يستطيعوا أن يكونوا مثله فلا أقل من أن يهزأوا منه حتى يحتفظوا لأنفسهم بفسادهم . وعندما ننظر إلى العادات الضَّارة التي تنتشر ، مثل شمّ الهيروين أو تدخين المخدرات نجد أن الذي وقع في مصيدة هذه المصائب يريد أن يجر غيره إلى مثل هذا المستنقع . ونجد في القرآن ما يقوله لنا خالق الطباع والعليم بها : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29-30 ] .
مثل قول أهل الباطل للمؤمن : احملنا إلى الجنة على جناحك . أو : أتريد أن تكون وليّاً . { وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ } [ المطففين : 31 ] .
ويرجع الواحد منهم إلى أهله فيحكي بسرور : لقد قابلنا إنساناً غارقاً في الإيمان وسخرنا منه : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطففين : 32-33 ] .
بل قد نجد أن أهل الإضلال يتهمون المؤمن بأنه على ضلال ، فماذا يكون العقاب يوم الحشر؟ { فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 34-36 ] .
وكأن الحق يسأل المؤمنين : ألم آخذ لكم حقكم؟ إذن فالذين يتخذون الدين هُزُواً ولعباً . وادعوا الإيمان نفاقاً . إياكم أن تأمنوا لهم .
ولقد حذرنا الحق بداية : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ المائدة : 51 ] .
وهنا أمر بعدم اتخاذ الذين يتخذون الدين مادة للهزء أولياء ، وعلى المؤمنين اليقظة والحذر؛ لأن الحق يقول : { واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن كنتم مؤمنين حقاً فعليكم الأخذ بيقظة الإيمان ، عليكم ألا توالوا اليهود والنصارى وكذلك من يتمسح في الإيمان نفاقاً ويريد الانتفاع بمزايا الإسلام ليأخذ حقوقه الظاهرية وقلبه مع غير المؤمنين . وتقوى الله تبدأ من أن ينفذ المؤمن المنهج ، ويحاول أن يستبقي للمنهج مناعة اقتداره أمام خصومه بألا يُدخل المؤمنُ في حماية المنهج من لا يؤمن من اليهود والنصارى والكافرين والمنافقين .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها . . . . }
(1/2243)

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
والنداء هو دعوة بجهر . ومقابل النداء المناجاة . وتثبت هذه الآية أن الأذان مشروع بالقرآن ، وفي ذلك رد على الذين يقولون : إن الأذان قد شرع بالسنة . أو أن القرآن بهذه الآية قد أقر تشريع الأذان . { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } ذلك أنهم كانوا يقولون عن الأذان : لقد صاحوا صياح الحمير . ووصفهم الحق بقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } والعقل - كما نعلم - هو الأداة التي تؤدي مهمة الاختيار ما بين البدائل؛ أي أن يختار الصالح من الأمور فيدرس مزايا كل أمر ومضاره ويختار الأمر الرابح .
إن الهوى هو الذي يدفع العقل إلى أن يختار أمراً مخالفاً . فيجنح بالعقل إلى الضلال . وآفة الرأي الهوى . ولا يميل الإنسان عن جادة الصواب إلا إذا أراد أن يخدم هواه . ولذلك لا بد أن يكبح المؤمن جماح هواه بعقله ، والعقل مأخوذ من عقال البعير ، فصاحب الجمل يقيد ساقه بقطعة من الحبل حتى لا يجمح . ويحتاج الإنسان إلى العقل ليكبح جماح الهوى ، ولينقذ الإنسان من الضلال لا أن يبرر الهوى . والذين يريدون العقل تحرراً من الفكر نقول لهم : أنتم لا تفهمون معنى كلمة العقل . فقد جاءت كلمة العقل لتمنع الهوى لا ليجترئ الإنسان بهواه على رأيه وسلوكه المستقيم ، والعقل هو الذي يمنع الفكر من أن يكون مبرراً للهوى .
فلو كانوا يعقلون لقلنا لهم : إن الأعمال التي تنادون بها عمر نفعها مظنون وقد تنفعكم في دنياكم ، وعمر الدنيا لا يستطيع أحد أن يحدده بالنسبة لنفسه ، فدنيا الفرد قد لا تزيد على مائة سنة . ودنيا الإنسان هو عمره فيها . وقد ستر الله سبب الموت وكيفيته عن الخلق حتى يعرف الإنسان أن عمره مظنون وقد ينتهي قبل أن تطرف عينه . ولو كانوا يعقلون لما باعوا آخرتهم بدنياهم . ولو عقلوا لأداروا مسألة البدائل في رءوسهم ولعلموا أنهم بموقفهم هذا من قضية الإيمان والإسلام إنما يقفون موقفاً خاسراً ليس في مصلحتهم .
ويقول الحق بعد ذلك : { قُلْ ياأهل الكتاب . . . }
(1/2244)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
و " قُلْ " هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وحين يخاطب الحق الرسول ، فالخطاب أيضاً لأمته صلى الله عليه وسلم ، فنقول نحن أيضاً : { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 59 ] .
و " نَقَم يَنْقِم " أي كره مني أن أفعل هذا ، فلماذا تكرهون إيماننا يا أهل الكتاب؟ هل الإيمان مما يكره؟ وجاء الحق هنا بسؤال لا يقدرون على الإجابة عنه ، فنحن آمنا بالله وبرسله وما أنزله علينا وما أنزل من قبل ، فما الذي يُكره في هذا؟ وأبلغ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اليهود أننا نؤمن بالله وبالرسل ومنهم سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام ، فغضبوا منه كثيراً . فكيف يكره أهل الكتاب إيمان المسلمين بالله؟
مثال ذلك عندما يدعوك إنسان إلى تصرف غير مستقيم أو إلى الذهاب إلى مكان مشبوه فترفض ذلك يكرهك هذا الإنسان ، فتقول له : أتكره في سلوكي أن أكون مستقيماً؟ ونعلم أن الإنسان الأمين هو ثروة لمن يعرفه والذي يستحق النقمة والكراهية هو الفعل الضار ، أما الإيمان بالله فهو أمر محبوب لأنه يُعلم الإنسان الأدب مع كل خلق الله ، ويعلم الإنسان الحفاظ على أعراض الناس ، ويعلم الإنسان ألاَّ يعتدي على أموال ودماء الناس ولا يغتاب الناس ، ولا يرتشي ، وأن يخلص في العمل وألا يكذب في ميعاد ، فأي شيء في هذا يستحق الكراهية؟
إذن ، فمن يكره إنساناً لأي سبب من هذا فهو كره بلا منطق ، وكان من الواجب أن يكون سبب الكره سبباً للمحبة . وقد يأتي من يقول لك : ليس في فلان من عيوب إلا كذا .
وقد يورد سبباً معقولاً . ولكن لا يقول أحد أبداً : لا عيب في فلان إلا أنه شهم؛ لأن الشهامة لا يمكن أن تكون عيباً ، كأن القائل قد أعمل ذهنه حتى يكتشف عيباً ، لم يجد إلا صفة رائعة ، وقال عنها : إن كنت تعتبر هذه الصفة عيباً فهذا هو عيبه . ويسمون ذلك من أساليب الأداء الأدبي عند العرب وهو تأكيد المدح بما يشبه الذم ، فيقول قائل : لا عيب في فلان إلا كذا . وساعة يسمع السامع هذا يظن أن العيب الذي سيورده هو صفة قبيحة فيفاجأ بأنها خصلة جميلة . وبذلك يؤكد القائل المدح بما يشبه الذم : { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } .
أنتم تقولون : إنكم أهل كتاب وعندكم التوارة ، وكان يجب أن تعلموا كيف يشذب الإيمان النفوس ويدفع عنها الشر؛ لأن لكم سابقة في الإيمان ، فقد آمنتم بالله وبالرسل السابقين على موسى وآمنتم بموسى ، والمسلمون آمنوا بالله وآمنوا بما أنزل إليهم وآمنوا بالرسل ومنهم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم فكيف يُكره ذلك؟
وإن كان هذا مما يُكره فعلينا كمؤمنين أن نسألكم : لماذا تنكرون علينا ذلك؟ لا شك أنكم تنكرون علينا إيماننا بالله لأنها قضية غير واضحة في أذهانكم .
(1/2245)

ولو كانت واضحة في أذناهكم ما كرهتم إيماننا . إذن فمسألة الإيمان بالله غير مستقرة في وجدانكم كأهل كتاب بدليل أنكم تكرهون من آمن بالله ، ودليل ذلك أنكم أنزلتم الله منزلة لا تليق بكماله ، فجسمتموه وقلتم : { حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] .
وقلتم : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] .
وقلتم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] .
إذن فأنتم تكرهون لنا أن نؤمن بالله إيماناً يليق بكمال الله؛ لأنكم لم تؤمنوا بالله صحيح الإيمان ، ولو طابق إيماننا إيمانكم ما كرهتمونا . وكذلك لم تؤمنوا بالكتب بدليل أنكم حرفتموها . ولم تؤمنوا بالرسل لأنكم وقفتم من عيسى عليه السلام هذه المواقف . إذن فأنتم تنقمون منا وتكرهون أموراً لا تُكره عند الطبع السليم ، وهذا دليل على أن طبعكم هو المختل . وإذا كنتم تكرهون هذا الإيمان فماذا تملكون لمن تكرهون؟ لا قوة لكم لتفعلوا لنا أي شيء . ولكن حين يكرهكم الله فماذا يفعل بكم؟ إنكم حين تكرهوننا لا تملكون قدرة لعقابنا ، لكن الذي يكرهكم هو الله وعنده القدرة المقتدرة لينتقم لنا منكم .
إذن فكراهيتكم لنا لا قيمة لها . وإذا كنا نجاريكم ، والمجاراة لون من جدال الخصوم فماذا يعنيكم من كوننا مؤمنين؟
مثال ذلك أن يتهمك إنسان بأنك بخيل فتقول له : هب أنني بخيل فعلاً فماذا يعنيك من هذا؟ وهذا ما نسميه مجاراة الخصوم؛ لذلك نقول لأهل الكتاب : هب أن لكراهيتكم لنا رصيداً وأنكم تستطيعون إيذاءنا ، فلكم شر من هذا وهو عقاب الله ، وسنرى ماذا سيحدث لكم عندما يكرهكم الله . وهو قادر على كل شيء . وعلى فرض أن إيذاءكم لنا هو شر ، فالأكثر فاعلية هو عقاب الحق لكم؛ لأنه عندما يكرهكم يقدر أن يعاقبكم بما شاء . إذن فالصفقة - صفقة كراهيتكم لنا - خاسرة من ناحيتكم .
ولذلك قال الحق : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن . . . }
(1/2246)

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
فإن سلمنا جدلاً أنكم يا أهل الكتاب تعتبرون كيدكم لنا سيصيبنا بشر . على الرغم من أنكم لا تملكون أن تجازونا بشيء . وها هوذا الحق يخبركم على لسان رسوله بالأكثر شراً من هذا ، وهي العقوبة التي يصنعها الله لكم وهو قادر على إنزالها بكم وهي الأكثر ضرراً . وهذا لون - كما قلنا - من مجاراة الخصم . ويعلمنا الله ذلك على لسان رسوله فيقول لخصومه : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
والرسول على الهدى بالقطع وخصومه على ضلال بالقطع ، ولكن رسول الله يسلم الأمر طالباً من خصومه أن يراجعوا أنفسهم ليناقشوا القيم التي يدعو إليها الإسلام . وسيجدون أن قيم الإسلام هي الهدى وأنهم على ضلال . ونعلم أن الهدى والضلال لا يجتمعان ، فنحن كمسلمين على هدى ، وأنتم على ضلال . ووسيلة التمييز أن يحكم الإنسان عقله في المسألة ، وبذلك يرى مَن الذي على هدى ومَن الذي على ضلال ، فأنت لا تناقش الخصم في أصل الدعوى ، ولكن سلم للخصم جدلاً . والتمييز النهائي هو الفيصل . وسيجد المميز حيثية ضلال الخصم واضحة وضوح حيثية هدى المسلمين . { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 59 ] .
فإن كنتم تعيبون علينا أو تكرهوننا أو تأخذون إيماننا سُبَّة فهذا أمر لا يُكره الإنسانُ من أجله؛ لأنكم تدعون أنكم مؤمنون بالله . وكذلك لا يمكن أن يُسب الإنسان من أجل الإيمان بما أنزله الله في كتاب؛ لأنكم أيضاً تقولون إنكم مؤمنون بالتوارة . وتقولون إنكم مؤمنون بالأنبياء السابقين على موسى . والخلاف أن عيسى عليه السلام جاء بعد نبيكم فكفرتم به ، لكننا آمنا به فنحن منطقيون مع أنفسنا ومع ربنا .
والحق يبلغنا : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } . ونعرف أن صيانة الاحتمال تقتضي ألا يحكم الحق عليهم جميعاً بأنهم فاسقون؛ لأن فيهم بعضاً من الناس تراودهم نفوسهم بالإيمان وبالإسلام؛ لذلك لم يكن الحق أبداً ليعمم الحكم على كل أهل الكتاب بالفسق؛ ليعطي الفرصة لمن يفكر أن يعلن إيمانه .
ومن بعد ذلك يأتي الخبر على لسان الرسول بعقابهم : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله } إذن فهناك أمر أكثر ضرراً لكم لأنه ما كان يصح أن تكرهوا إيماننا ، والأكثر ضرراً من هذا هو لعنة الله { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } ويأتي سبحانه بالأوصاف التي فيهم ، من لعنة الله وغضبه عليهم وجَعْلِه بعضاً منهم قردة وخنازير . وكيف يأتي الله بمثل هذه الأوصاف كمثوبة؟ إن هذا لون من فتح باب الرجاء والأمل ثم يصدمهم من بعد ذلك تماماً مثل قوله تعالى :
(1/2247)

{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] .
والعذاب الأليم يُنذر به ، وكذلك اللعنة لا يمكن أن تكون ثواباً ، لكن الأسلوب القرآني يعطي النفس المخالِفة لوناً من الانبساط ، ثم يعطيها اللون المناقض له من الانقباض ، ليكون ذلك أبلغ في الانقباض وأكثر إيلاماً .
ومثال ذلك - كما قلنا من قبل - المسجون الذي يطلب كوب ماء فيأتي له الحارس بكوب الماء ويقربه من فمه ثم يسكب الماء على الأرض ، هذه العملية زرعت في نفس السجين الأمل في الأرتواء أولاً ، ثم يكون سكب الماء على الأرض سبباً في التعذيب والإمعان فيه ، لكن لو رفض الحارس أولاً تقديم الماء لعاش السجين في اليأس وهو إحدى الراحتين .
ونرى ذلك أيضاً فيمن ينتظر حكماً قد يكون إعداماً وقد يكون براءة ، وتكون فترة الانتظار هي المليئة بالقلق . وعندما يضعون المنتظر في الميزان يجدون وزنه في انخفاض . وبعد الحكم بإعدامه يبدأ وزنه في الزيادة؛ لأن اليأس إحدى الراحتين . إذن فانبساط النفس ومجيء القبض بعدها هو الأمر الأنكى والأشد قسوة على النفس ، ولذلك يقول الحق : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] .
هذه البشارة تأتي بالانبساط للنفس ويتلوها الانقباض ، ومثل قول الحق : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه } [ الكهف : 29 ] .
أي أنه قد وقع عليهم لون من العذاب يستدعي الإغاثة ، ومن بعد ذلك يغاثوا لا بما ينقذهم ولكن بما يزيد عذابهم .
وساعة يسمعون " يغاثوا " تنفرج أساريرهم وتسكن وتطمئن نفوسهم ، وبعد ذلك يحدث الانقباض بسماعهم : { بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه } ، إذن فكلمة " مثوبة " تأتي لهم بشيء من الانبساط يتلوه العذاب .
هذا . وإنّ أفعل التفضيل يأتي على صورة " أفعل " ، " أكرم " ، " أجود " ، " أشجع " فهذا لون من زيادة الصفة في طرف عنها في الطرف الآخر . اللهم إلا كلمات قليلة جاءت في اللغة على غير صيغة التفضيل منها كلمة " خيرط وكلمة " شر " فلم تأت منها كلمة " أَخْيَر " بمعنى أكثر خيراً . ولا كلمة أشر بمعنى أكثر شرا ، ومرة تأتي كلمة " خير " ويقابلها الخير الأقل . والذي يميز المعنى هو وجود كلمة " من " كقولنا : " فلان خير من فلان " . أما إن قيل : فلان خير " فمقابله هو " شر " لأنه لا توجد كلمة " أَخْيَر " .
وهكذا نجد كلمة " خير " تأتي للوصف مرة وتأتي للمبالغة في الوصف مرة أخرى ، والفاصل للتمييز بين الاثنين هو وجود " مِن " . فيقال : فلان خير من فلان ومثلها في ذلك كلمة شر ، وقد ورد استعمال كلمة خير للتفضيل ولغير التفضيل في قوله تعالى : { ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(1/2248)

[ الأنفال : 70 ] .
والحديث النبوي يقول : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " .
إن في كل مؤمن خيراً . ولكن في المؤمن القوي خير أكثر مما في المؤمن الضعيف . والمثال على أن كلمة " خير " . تقابل كلمة " شر " ، هو قول الحق : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } [ آل عمران : 180 ] .
و " خير " هنا ليست أفعل التفضيل ولكنها للوصف العادي؛ وإذا جاءت " مِن " تعرف أنها للتفضيل ، وعدم الإتيان بلفظة " مِن " يدلنا على أنها للوصف العادي ومقابله كلمة " شر " . وهنا يقول الحق : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك } . وجاءت كلمة " بشر " هنا للتفضيل ولا يعني ذلك أن المؤمنين في " شر " ولكنها مجاراة للخصم . واعتبار أن ما يقوله الخصم مقبول جدلاً . وهناك الأكثر شراً في الواقع وعند الله وهو المراد من قوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 60 ] .
لماذا إذن يكون مصير هؤلاء إلى شر؟ لأنهم كرهوا سلوك المؤمنين ولم يستطيعوا أن ينفسوا عن الغل الذي في صدورهم بعقوبة المؤمنين . ولكن الله يكرههم ويملك لهم العقوبة ويكون مصيرهم الذي يوضحه الحق في قوله : { لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } واللعنة هي الطرد من الرحمة . والطرد من الرحمة يعني حرمانهم من الخير .
ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - عندما يكون هناك خادم في خدمة إنسان ما وهو يسكن ويأكل ويلبس على حساب السيد ، فإذا لم يؤد هذا الخادم حقوق الخدمة على وجهها المطلوب ، لا يرضى عنه سيده ، ويطرده من الخدمة ، وحين يطرد الإنسان فهو يُعْلن للناس أن هذا الخادم لم يؤد حق الخدمة ، فلا يستخدمه أحد بعد ذلك ، وهذا هو الغضب . وبهذا نعرف الفرق بين أن يُطرد من الرحمة فقط ولا يعقب ذلك شيء ، أو أن يستمر الغضب بالإعلان عن السبب في الإخراج من الرحمة ، فهذا معناه أن الله بعد أن طردهم يلاحقهم بغضبه وسخطه وأن لعنه لهم لا ينفك عنهم .
والله سبحانه وتعالى يعلن لأهل الكتاب : إن طردي لكم من رحمتي وتواصل غضبي عليكم هو شر عظيم . وغضب الله - كما نعلم - يترتب عليه أشياء في كل حركة من حركات حياتهم ، إنه يمنع الهُدى أن ينفذ إلى قلوبهم ، بأن يختم على قلوبهم فلا يدخلها الإيمان ، ولا يخرج منها الكفر . أو أن يجعل منهم القردة والخنازير . وإن تساءلنا : كيف يكون نسلهم؟ نعرف أن الذي يُمسخ لا يَتَناسل ، إنه يُمسخ إلى أن يُرى مسخاً ثم يؤخذ إلى الموت .
(1/2249)

وهل هم الذين اعتدوا في السبت أو الذين عبدوا العجل أو الذين كفروا بعد نزول مائدة عيسى؟ إنهم كل هؤلاء . أو أنهم قردة ، أي في خصال القردة ، كالطيش وخفة الحركة وانكشاف العورة ، أو طبائعهم وخصالهم كالخنازير ، فهؤلاء لهم خبث ونتن وزخم كزخم الخنزير . وأهم ميزة في الخنزير أنه لا يغار على أنثاه . وهذه موجودة فيهم . وتفشت فيهم عادة تشغيل بناتهم في الدعارة وغير ذلك من أعمال الباطل .
وهكذا نفهم قوله الحق : { وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } إما على أساس أنه المسخ الحقيقي . والمسخ الحقيقي لا يظل متماثلاً ممسوكاً وإنما يكون المسخ لزمن محدود يراه الناس ممسوخاً ثم يموت وينتهي ، وإما أن نفهمها على أن سلوكهم كسلوك القردة والخنازير .
ويتابع الحق : { وَعَبَدَ الطاغوت } والعبادة إنما هي طاعة العبد للمعبود فيما أمر به وفيما نهى عنه . والطواغيت هم الذين يزينون لهم الشر والنفاق وأكل السحت والإثم . ويكون مصيرهم هو قوله الحق : { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } وهذا هو الواقع الذي يعيشون فيه وهو شر كله ، وهم لا يفكرون في السير في الطريق السليم .
وعندما نقرأ قول الحق كاملاً في هذه الآية : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 60 ] .
نعرف أنهم في حالة غفلة عن مسار الهدى الموصل للحق؛ لأن { سَوَآءِ السبيل } هو الأمر المستوي الموصل للغاية . وكانت طرق العرب إما فيها رمال وإما بين الجبال ، وكانوا يختارون السير في وسط الطريق حتى لا ينالهم أذى من جرف هاوٍ من الرمال فيقع بهم أو أن تقع عليهم صخرة من جبل .
ولذلك قال الحق : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 51-55 ] .
أي أنه في وسط الجحيم . ويقول الحق بعد ذلك عن الذين غضب عليهم : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا . . . }
(1/2250)

وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وهؤلاء هم الذين اتخذوا الدين هزواً ولعباً وسخرية . وهم ساعة يدخلون على المؤمنين يدخلون ومعهم الكفر . وعندما جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا أيضاً بالكفر . أي أنّ الكفر قد لازمهم داخلين خارجين . وكأن جلوسهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزدهم أي شيء . وكان من الممكن أن يدخل إنسان على مجلسه صلى الله عليه وسلم ، وهو كافر ، وبعد ذلك تمسّه عناية الهداية فيخرج مؤمناً .
ومثال ذلك : فضالة بن عمير الليثي الذي جاء ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح . وعندما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضالة قال له : ما كنت تحدث به نفسك؟ فقال : لا شيء ، كنت أذكر الله عز وجل . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أستغفر الله لك . ووضع يده عليه السلام على صدر فضالة . فكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إلي منه .
لقد مسته العناية ، فقد دخل - أولاً - بكفره وخرج - ثانياً - بعميق الإيمان . لكن هؤلاء دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر ، كأن الدخول كان نفاقاً ، بدليل قوله الحق : { والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } وهذا القول دليل نفاقهم ، فقد أعلنوا الإيمان لكنهم دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر . وكانوا يكتمون أن الدخول إلى رسول الله هو محض نفاق . وهذه خاصية لمن قالوا آمنا ، ولكان كان دخولهم إلى الإسلام نفاقاً؛ لأن كفرهم أمر مستقر في قلوبهم لا يتزحزح ، وكان يكفي في الأسلوب أن يقول الحق : وقد دخلوا بالكفر وخرجوا به ، ولكنه قال : " وهم " وذلك تحديداً لهويتهم الكافرة ، فكأن عملية الدخول بالكفر والخروج بالكفر هي عملية مسبقة؛ لذلك يكشفهم الحق : { والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } .
وجاء سبحانه بأفعل التفضيل " أعلم " فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إشراقات الله عليه وتنويره له كان يعلم أيضاً أنهم منافقون . ولكن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى علم الحق سبحانه وتعالى فعلم الله ذاتي وعلم رسوله فيض منه - سبحانه - .
إذن فقوله الحق : { والله أَعْلَمُ } لم يمنع أن هناك أناساً قد علموا أنهم منافقون . وقد استقر في ذهن النبي أنهم منافقون وأن الله أعلم بما كانوا يكتمون . والكتم هو حبس الإحساس النفسي أن يخرج وأن يظهر واضحاً ، ومحاولة الكتم عملية غير طبيعية لأنها قسرية . ويكاد كفرهم أن يظهر ويخرج فيحاولون أن يكتموه لأنهم يحرصون ألا ينكشفوا ، ولكن علم الله لا تخفى عليه خافية .
ويقول الحق بعد ذلك : { وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ . . . }
(1/2251)

وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
والمسارعة في الإثم تعني أنهم من بداية الأمر في الإثم ، ويسارعون فيه ، أي أنهم كانوا على أولية الإثم ويجرون إلى آخرية الإثم ، فَضَلاَلُهم واضح من البداية ، وكأن خلقهم الكفر يفضحهم ، برغم محاولتهم كتمان ذلك . ويجدون أنفسهم مسارعين إلى فعل الإثم ، أي أن عملهم ينزع إلى الكفر ، ويجعلهم الحق يغفلون عن الكتمان ، فتبدو منهم أشياء هي أكثر فضيحة من القول ، ذلك أن الإثم مراحل : مرحلة قول ، ومرحلة فعل . والفعل أكثر فضحاً من القول .
{ وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان } ويقول الحق : { كَثِيراً مِّنْهُمْ } صيانة لاحتمال أن يوجد الإيمان في قلب القليل منهم ، وذلك لتبرئة أي إنسان يفكر في الإيمان . وهم أيضاً يسارعون في العدوان ، فإذا كان الإثم هو الجُّرم على أي لون كان ، فالعدوان هو إثم يأخذ به إنسان حقاً لغيره ، مثال ذلك الإنسان الذي يحقد ، إثمه لنفسه ولذلك يعاني من تضارب الملكات حتى يبدو وكأنه يأكل بعضه بعضاً .
إن الحقد - كما نعلم - جريمة نفسية لم تتعد الحد . ويقال عن الحقد : إنه الجريمة التي تسبقها عقوبتها ، عكس أي جريمة أخرى ، فأي جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحقد والحسد ، فتنال عقوبة الحقد صاحبها من قبل أن يحقد؛ لأن الحاقد لا يحقد إلا لأن قلبه ومشاعره تتمزق عندما يرى المحقود عليه في خير . ولذلك يقال في الأثر : " حسبك من الحاسد أنه يغْتّم وقت سرورك " .
إذن من يرتكب إثماً في نفسه لا يتعدى أثر إثمه إلى غيره ، أما الذي يرتكب العدوان فهو ينقل حق إنسان إلى غيره . وهو قسمان؛ هناك من يعتدي ليعطي حقا لغير ذي حق . وهناك من يعتدي بالسكوت على الظالم ، فالظالم تتملكه شهوة الظلم ، لكن من يرى الظالم ويسكت ولا ينهاه فهذا عدوان أيضاً؛ لأن الظالم عنده وفي نفسه ما يدفعه إلى أن يظلم ، أما الشاهد الذي يصمت فليس عنده في نفسه ما يدفعه إلى أن يُسكته . فمن - إذن - الأكثر شراً؟ إنه الذي يصمت عن تنبيه الظالم إلى أنه يظلم .
{ وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان } نلحظ أن كلمة " سارع " مثلها مثل كلمة " نافس " تدل على أن هناك أناساً في سباق؛ كأنهم يتسابقون على الإثم والعدوان ، كأن الأثم والعدوان غاية منصوبة في أذهانهم ، ومتفقة مع قلوبهم .
{ وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } والسحت هو كل مال مصدره حرام ، سواء أكان رشوة أمْ ربا أم سرقة أم اختلاساً أم خطفاً أم اغتصاباً ، كل تلك الألوان وما ماثلها من السحت إنها أخذ لحق الغير . وأخذ حق الغير له صور متعددة ، فإن أخذه أحد خفية فتلك هي السرقة . وإن سارع إنسان لخطف شيء من بضاعة إنسان آخر فهذا هو الخطف . وإذا لحق به صاحب البضاعة وتجاذبا وتشادَّا فهذه المجاذبة تخرج بالخطف إلى دائرة الغضب . وإن كان الإنسان أميناً على شيء وأخذه فهذا هو الاختلاس ، وكل ذلك أكل مال بالسحت . وبئس هذا اللون من العمل .
ويقول الحق بعد ذلك : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون . . . }
(1/2252)

لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
والربانيون هم الذين يُنسبون إلى الرب في كل تصرفاتهم ، وكذلك الأحبار الذين يعرفون الدين ، ولا هؤلاء ولا أولئك ينهون هؤلاء الناس من أهل الكتاب عن ارتكابهم الإثم وأكلهم السحت ، فكيف يُنَصَّبُ هؤلاء الربانيون والأحبار أنفسَهم قادة للضمير الديني دون أن يقوموا بواجبهم بوعظ الناس؟ وفي هذا تأكيد على أن الربانيين والأحبار إنما يريدون فقط سلطة الهيمنة على الناس .
والربانيون هم رؤساء النصارى ، والأحبار هم رؤساء اليهود . وكان من بين اليهود والنصارى من تتملكه شهوات أكل السحت والظلم وقول الإثم ، فلماذا لم يتحرك المنسوبون إلى الله للنهي عن ذلك وهم الذين أخذوا حظهم في الدنيا من أنهم منسوبون إلى حماية منهج الله من انحرافات البشر؟ . ألم يكن من واجبهم نهي الظالمين والآثمين عن الظلم والإثم؟
إن الذي يظلم له شهوة في أن ينتفع من الظلم ، أما أنتم أيها الربانيون والأحبار فلماذا لا تتحركون لوقف ذلك؟ لا شك أنهم قد أمتلأوا سروراً من هذا الإثم وذلك العدوان وأكل السحت ، ومبعث سرورهم أن الواحد من هؤلاء لو كان سليماً في تصرفاته وأحكامه لغار على المنهج ، لكنه يقبل الانحراف؛ لأن من مصلحته أن ينحرف غيره حتى لا يلومه أحد . وجاء الحق ب " لولا " في أول هذه الآية تحضيضية أي يقصد بها الحث على الفعل . . أي كان يجب أن يناهم الربانيون والأحبار عن أكل السحت وقول الإثم والعدوان . ثم تتجلى دقة الأداء القرآني - كما هو دائماً - في قوله الحق : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } .
ونذكر أن تذييل الآية السابقة قال فيه الحق عن سلوك العامة من أهل الكتاب : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ، إذن فالحق يفرق بين بئس عن صناعة وبئس عن عمل . وبئس الربانيون والأحبار هو بئس الصناعة . ونعلم أن كل جارحة من جوارح الإنسان لها حدث خاص بها : فالعين حدثها أن ترى ، والأذن حدثها السمع ، واليد اللمس ومناولة الفعل ، والرِّجل تسعى ، واللسان مجال عمله الكلام . والجوارح تنقسم إلى قسمين : اللسان وحدثه القول ، وبقية الجوارح أحداثها أفعال ، بدليل أن الله يقول : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] .
إذن فالقول مقابله الفعل . والقول عمل ، والفعل عمل . وما دام هناك قول وفعل من عامة أهل الكتاب في ذلك المجال لذلك يقول الحق : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
وقال عن الربانيين والأحبار : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } لإيضاح الفرق بين من يعمل ومن يصنع ، فمن فُتق ثوبه بإبرة وخيط ليصلحه ، فهو خائط ، ولكن الذي يحترف ذلك هو " الخيَّاط "؛ فصاحب الحرفة هو من يأخذ وصفها لأنه يجيدها ، أما الذي يمارسها لمرة واحدة فلا يأخذ من الصنعة إلا بقدر ما يدل على أنه لم يتقنها .
(1/2253)

وكان الربانيون والأحبار قد اتخذوا أمر الدين والكهنوت صناعة بتجويد كبير . وذلك هو الذي جعل السلطة التقنينية في العالم كله تنتقل من منهج السماء إلى منهج الأرض . وحينما نرجع إلى تاريخ القانون نجد أن الأصل في التقنين كان من الكهنة الذين كانوا منسوبين إلى الله وخبر السماء ، وهم الذين كانوا يحكمون بين الناس ، لكنهم أفسدوا ، ورأى المجتمع أنهم يحكمون في قضية بحكم ، ثم في قضية مشابهة يحكمون بنقيض الحكم السابق ، وأنهم ارتشوا في سبيل ذلك ، وما يزوا بين الناس ، وعرف الناس أن الكهنة غير مأمونين على العدالة؛ لذلك تركوا الكهنة وبدأوا يضعون قوانين خاصة بهم بعيدة عن حكم الكهنة . وهكذا انتقلت المسألة من تقنينات وحكم الكهنة إلى المجتمع الذي لم يعد يتمسك بالدين بسبب انحرافات أحكام الكهنة عن العدل وأنهم باعوا الأحكام لصالح من يدفع أكثر ، أو يحكمون لصاحب النفوذ . وهكذا صارت المسألة صناعة لهم . وبئست تلك الصناعة .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَقَالَتِ اليهود . . . }
(1/2254)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
ونعرف أن اليد جارحة حرة الحركة تنفعل يميناً وتنفعل شِمالاً وتنفعل إلى أسفل وإلى أعلى ، ولها من الأصابع ما جعل الله لكل أصبع مع زميله مهمة . وليلاحظ كل منا أصابعه في أثناء أي عمل ، سيجدها تتباعد وتتقارب بحركة إرادية منسجمة لتؤدي المهمة . وخلقة الأصابع بالمفاصل والعُقل وحجم كل عقلة يختلف عن الأخرى؛ لتؤدي المهمة بانسجام . وساعة تعوّق هذه الجارحة عن أداء مهمتها فأنت بذلك تكون قد غللتها ، أي ربطتها عن التصرف المطلوب منها .
ومعنى قوله : " يد الله مغلولة " أي أن يد الله - والعياذ بالله - مشلولة الحركة . وقد قالوا ذلك قبل ظهور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل زحف الإسلام عليهم لينقض باطلهم . وحدث أن تفرغوا لصناعة آلات الحرب وبناء الحصون والزراعة ، وانشغلوا عن الزراعة فخابت محاصيلهم وجاء وقت الحصاد فلم يجدوا ، فقال " فنحاص " وهو واحد من اليهود : لماذا قبض الله يده عنا؟ إن يد الله مغلولة . ونلحظ أن الذي قال ذلك هو شخص واحد ، ولكن الحق يقول هنا : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " . ومعنى ذلك أن " فنحاص " عندما قال ذلك سمعوه وسرّهم ما قال ، ووافقوه عليها .
أو أنهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة وقد آخى بين المهاجرين والأنصار ، وكانت تمر على المسلمين الليالي دون طعام فيراهم اليهود فيتندرون على تلك الحال ويقولون : إن يد الله مغلولة عن محمد وآله .
أو أنهم قالوا : إن يد الله مغلولة في الآخرة عن عقابنا؛ لأنه سيعقابنا أياماً معدودة . والذي يبيح لنفسه أن يجعل الله منفعلاً لأحداث خلقه إنما يكفر بالله؛ لأنه يُنزلُ الله من مكانته . فإذا كانت يد الله مغلولة ، فهذا الرباط والغَلُّ والمنع يكون من خَلْق الله . وكيف يقدر خلقٌ من خلق الله أن يربط يد الله؟ . لقد اجترأوا على مقام الأولوهية وهذا من سوء الأدب ، تماماً كما قالوا : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] .
وحينما قالوا : " يد الله مغلولة " وردّ الحق عليهم : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وقال قبلها : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } فهل يدعو الحق عليهم؟ طبعاً لا؛ لأنه هو المصدر الذي يتجه إليه الخلق بالدعاء وهو القادر على كل الخلق . ولكن الحق حين روى ما قالوه إنما ينبه الذهن الإيماني الذي يستقبل كلامه أنه ساعة يجد وصفاً لا يناسب الله فعليه أن يدفع هذا الكلام حتى قبل أن يرى الرد عليهم .
{ وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } وهذا يعلمنا أننا إذا سمعنا وصفاً لا يليق فلا بد أن ندحضه؛ لأن الحق لا يدعو على عبيده؛ لأن الدعاء هو أن يرفع عاجز طلبه إلى قادر لينفذ المطلوب له .
(1/2255)

إذن فإن قالها الحق فهي إما أن تكون خبراً ، وإما تعليماً لنا ، فإذا كانت خبراً نلحظ أن الله كتب عليهم البخل ساعة قالوا هذا ومنذ لحظة هذا القول ، وإن كان القصد هو تعليمنا ، فنحن نتعلم الأدب الإيماني ، ونرد أي وصف لا يليق بجلال الله .
وهذه المسألة لها نظير ، فعندما علم الحق سبحانه وتعالى تشوّق رسوله والمؤمنين أن يذهبوا إلى المسجد الحرام؛ قال لرسوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله } [ الفتح : 27 ] .
وهل هذا إخبار من الله ، أو هو تعليم لنا؟ . إنه تعليم لنا أن نفعل ذلك عندما نشتاق إلى فعل . وكذلك هنا : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } لذلك يعلمنا سبحانه أن نقول : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } مثلما علمنا أن نقول : { إِن شَآءَ الله } حتى ننسب كل قدر لله . وقد حاول الفلاسفة أن ينسونا تقدير المشيئة ، فقالوا : إن الله خلق النواميس والأكوان وجعل لها قوانين تعمل في الكون . وهل زاول الحق سلطانه ساعة خلق النواميس ثم ترك الأمور لذاتها؟ لا؛ لذلك جاء سبحانه بمعجزات تخرق النواميس ليدلنا على أن النواميس لم تأخذ هي الكلمة للتصرف بل إن يد الله ما زالت في كونه ، فالنار - على سبيل المثال - التي تحرق يأتيها الأمر : { كُونِي بَرْداً وسلاما } [ الأنبياء : 69 ] .
والماء الذي يُغرق يأتيه الأمر : { فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ] .
وقال : { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 77-78 ] .
والعصا التي خلقت من غصن شجر جاف ، تتحول إلى أفعى ، أي نقلها كلها إلى جنس آخر ، من نباتية إلى حيوانية . هذا هو خرق النواميس .
ويقول الحق عن هؤلاء الذين ادعوا أن يد الله مغلولة : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } أي أنهم طردوا من رحمة الله ، لأنهم هم الذين بشروا على أنفسهم وقالوا إن يد الله مغلولة ، وسبحانه قادر أن يمنع عطاءه عنهم .
ويتابع سبحانه : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } ، وهو يعطي من يريد ، وكلمة " اليد " في اللغة تُطلق على الجارحة وتطلق على النعمة ، فيقول الرجل : إن لفلان علي يداً لا أنساها؛ أي أنه قدم جميلاً لا يُنسى . واستعملت اليد بهذا المعنى لأن جميع التناولات تكون باليد . وتُطلق اليد ويراد بها الملكية فيقول سبحانه : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } [ البقرة : 237 ] .
أي الذي يملك أن يُنكح المرأة ، هو الذي يعفو . وفي القتال نجد القول الحكيم : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] .
أو تطلق اليد على من له ولاية في عمل من الأعمال ، لذلك نجد الحق قد قال : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] .
وآدم هو الخلق الأول وكلنا من بعده مخلوقون بالتناسل من الزوجية .
(1/2256)

وقد كرّم الله الإنسان بأنه خلقه بيديه ، وخلق كل شيء ب " كن " . إذن : كلمة " اليد " تطلق على معانٍ متعددة . والرسول يقول : " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " .
أي عندما تجتمع الأيدي تكون هي اليد القادرة . وعندما نقرأ كلمة " يد الله " فهل نحصرها في نعمته أو ملكه؟ { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الملك : 1 ] .
والله سبحانه وتعالى أعلم بذاته فنقف عند الوصف ، نعم له يد ، وله يدان ، وإياك أن تتصور أن كل ما يتعلق بالله مثل ما يتعلق بك؛ لأن الأصل أن لك وجوداً الآن ، ولله وجود ، لكن وجودك غير وجود الله ، وكذلك يده ليست كيدك . حتى لا نشبه ونقول : إن له يداً مثل أيدينا ، فلنقل إن المراد باليد هو القدرة أو النعمة ، والهدف الراقي هو تنزيه الحق . وهناك من يقول : إن لله يداً ولكن ليست كأيدينا لأننا نأخذ كل ما يأتي وصفاً لله على أنه " ليس كمثله شيء " والتأويل ممكن . مثلما بيّن الحق : انه قد صنع موسى على عينيه .
وتأخذ أي مسألة تتعلق بوصف الله إما كما جاءت ، بأنه له يداً ولكن ليست كالأيدي ، وله وجود لا كالوجود البشرى ، وله عين ليست كالأعين ، ولكن كل وصف لله نأخذه في إطار " ليس كمثله شيء " . وإما أن نأخذ الوصف بالتأويل ، ويراد بها النعمة ويراد بها القدرة . ويقول الحق : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } والمراد هما هو " النعمة " . ولم يكتف سبحانه بأن يرد بأن له يداً واحدة تعطي . لا ، بل يرد بما هو أقوى مما يمكن ، فهو يعطي بيديه الاثنتين ، وهو القائل : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [ لقمان : 20 ] .
أنه يُعطي الظاهر ويُعطي الباطن . وإياك أن تقول تلك اليد اليمنى وتلك اليد اليسرى؛ لأن كلتا يدي الله يمين : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } أي أنه سبحانه لا يمكن . أن يكون بخيلاً ، حتى وإن منع الحق فذلك منح وعطاء وإنفاق؛ لأن الذي يطغى بنعمة ، قد يذهب به الطغيان إلى بلاء وسوء مصير؛ لذلك يقبض سبحانه عنه النعمة ليعطيه الأمن من أن ينحرف بالنعمة . ولذلك نجد القول الحق في سورة الفجر : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 15-16 ] .
ورد الحق بعد ذلك بقوله : { كلا } .
فلا الإعطاء هنا للإكرام ، ولا المنع للإهانة . فكيف يكون الإعطاء دليل الإكرام وقد يعطيك الله ولا تؤدي حق النعمة؟ وكيف يكون المنع دليل الإهانة وهو قد منعك من وسيلة انحراف؟ إذن فهو قد أعطاك بالمنع - في بعض الأحيان - أنه قد أعطاك الأبقى وهو الهداية .
(1/2257)

إذن فمنعه أيضاً عطاء .
{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } والناس تنظر دائماً إلى عطاء الله بعطاء الإيجاب ، ولا تنظر عطاء السلب أي المنع ، وهو أن يصرف عنك الحق مصرف سوء ، وسبق أن ضربت المثل بالرجل الذي تحرى الحلال في مصدر ماله ويتقي الله في عمله ويأخذ دخله ويدير حركة حياته في إطار هذا الدخل ، وقد يعود هذا الرجل إلى منزله فيجد حرارة الابن مرتفعة قليلاً ، ولأن ماله حلال وذرات جسمه تعرف أن ماله حلال؛ لذلك يستقبل الأمر بهدوء ويعرض الابن على طبيب في مستوصف خيري بقروش قليلة ، فيصف الطبيب دواء بقروش قليلة ويتم شفاء الابن .
هذا الرجل يختلف حاله عن حال رجل آخر أتى بماله من السحت ، وساعة يرى حرارة ابنه قد ارتفعت نجد باله يدور بين ألف خاطر سوء ، ويدور الرجل بابنه على الأطباء ولا يصدق طبيباً واحداً .
الرجل الأول رزقه الله الاطمئنان بمنع هواجس الحدَّة من قلبه وخواطره ، أما الرجل الثاني فهو ينفق أضعاف ما أكله من سحت . إذن { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي أن هناك عطاء السلب . والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء السلب . والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء المال وهو عطاء المال وهو عطاء يذهب إلى الفانية . أما المنع فهو يمنع الإنسان من ارتكاب آثام . وبعد ذلك يأخذ الإنسان نعيمه في الآخرة . ونحن نجد كثيراً من الناس تدعو ، ولكنهم لا يعلمون أن الله قد أعطى بالمنع .
يقول الحق تبارك وتعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] .
لذلك يعطي الحق أحياناً أشياء يكون العبد قد ألح عليها ، وبعد ذلك يتبين الإنسان أنها شر ، كأن الحق ساعة منع الإنسان لفترة كان ذلك صيانة له .
{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } إذن فكله إنفاق . وسبحانه ينفق كيف يشاء ، فلا يبخل أبداً حتى وإن منع ، فالمنع في موضعه الصحيح هو عين الإنفاق ، وهكذا يكون عطاء الله عطاء النعمة ظاهرة كانت أو باطنة . فإن أردت ب " اليد " القدرة فيدا الله مبسوطتان بالثواب لقوم وبالعقاب لقوم آخرين . وهو سبحانه وتعالى يعطي لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم المناعة الإيمانية ضد كل متمرد عليه ، أو ضد كل متأبٍ ومستكبر من الكافرين أو من أهل الكتاب .
فكأنه سبحانه وتعالى يوضح : وطَّنْ نفسك يا محمد ولتوطن أمتك نفسها على أن هؤلاء الكفرة لن يكتفوا بالقدر اليسير والقليل من الكراهية لك ، بل كلما جاءت لك نعمة بزيادة الهدى من الله سيحسدونك ، وسيبغضونك ، وسيزداد تمردهم وحقدهم عليك ، فوطن نفسك على ذلك . وفي هذا ما يعطي مناعة إيمانية ، يسد كل منافذ وسوسة النفس ويجعل النفس على استعداد لاستقبال ما يحدث حتى ولو كان من المكاره .
ولنقرب هذا الأمر من الذهن .
(1/2258)

لا تشبيهاً ولكن لمجرد تقريب الأمر من الذهن - والله المثل الأعلى - لننظر إلى ما حدث في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية ، كانت انجلترا تخوض الحرب ضد النازية ، وكانت الأهوال تتساقط من الطائرات على المدن الإنجليزية . وجاء تشرشل ليقود الحرب فقال للإنجليز . إن الهول والصعاب هي التي تتنظركم فوطنوا أنفسكم على مواجهة الشدائد .
وإذا كان هذا قد حدث في حرب بين شعبين ، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وهو يعلم ضرورة التمحيص لأمته التي تحمل راية المنهج الكامل للهداية . كان لا بد إذن من أن يوطن نفس رسوله ونفوس المؤمنين معه على مواجهة الحسد والبغض والحقد والمكر والتبييت .
ويقول الحق : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } . ولا يأتي قول الحق : " بينهم " إلا إذا كان هناك طائفتان ، والمقصود إما الطوائف اليهودية فيما بينها ، وإما طوائف النصرانية فيما بينها ، أو بين اليهودية والنصرانية ، خصوصاً أن هذه الآيات مستهلة بقوله الحق : { يَا أَهْلَ الكتاب } . فإذا كانت لليهود فالعداوة والبغضاء قائمة بين طوائفهم بعضها مع بعضها الآخر . وإذا كانت للنصارى فالعداوة والبغضاء حاصلان فيما بين طوائفهم ، وإن كانت بين اليهود كقسم وبين النصارى كقسم فهي مسألة ممكنة . وهذه العداوة والبغضاء لا تنتهي أبداً بل هي قائمة بينهم إلى يوم القيامة .
ويقول الحق : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } وهذا خبر عما وقع في حضن الإسلام ، ومثال ذلك خروج " بني قينقاع " على العهد بعد أن جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق بني قينقاع وقال لهم :
" يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً " .
فرفضوا وقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا . فنزل فيهم قول الحق : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 12 ] .
فكان " بنو قينقاع " أول اليهود الذين نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحاربوا فيما بين موقعتي بدر وأحد .
وكان سبب ذلك أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها - بضاعة - لتبيعها في سوق " بني قينقاع " ، فجلست إلى صائغ يهودي بالسوق ، وحاول اليهود إجبارها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، وهي لا تشعر به ، فلما قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها فصاحت المرأة . فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، وحدثت بذلك الفتنة ، لكن الله أطفأ الفتنة وأجلى " بني قينقاع " ، ثم " بني النضير " وكان لهم - قبل ذلك - التجمع القوي في المدينة بالثراء والعلم .
(1/2259)

وقاتل المسلمون " بني قريظة " وأجلوا أهل خيبر ، وتملك واستولى المسلمون على وادي القرى . حدث هذا في حضن الإسلام فماذا حدث في غير حضن الإسلام؟
لقد رأيناهم أيام المجوس وقد أهلكهم بختنصر ، وكذلك تيتوس الروماني ، ورأيناهم مقطعين في الأرض في كل زمان ومكان ، وقد يقول قائل : إذا كان الحق قد قال : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } فلماذا لا تنطفىء الحرب الحالية بيننا وبينهم؟ ونقول : إن الذي يطفئ نيران الحرب لا بد أن يكون من جنود الله . وعندما نصبح جنوداً لله فلسوف تنطفئ هذه الحرب .
والمثال القريب منا هو انتصارنا في العاشر من رمضان . لقد كان انتصارنا بالعمل تحت راية " الله أكبر " وقد جزى الله بالخير الضباط والجنود الذين كانوا يعلمون أن العتاد في جانب العدو كان أكبر من عتادنا ، لكن النتيجة كانت في صالحنا لأننا دخلناها تحت ظل " الله أكبر " .
أما الذين ادعوا أنه انتصار حضاري فنقول : عن أي حضارة تتحدثون؟ والإسلام هو نبع الحضارة المتوازنة ، وليس الادعاء بالحضارة هو الخروج عن منهج الله . إننا إن ثبتنا على مبدأ " الله أكبر " لا كشعار ولكن كتطبيق لأطفأ الله نيران أي حرب .
ويترك سبحانه في كونه السنن التي تعطي التجارب الواقعية لمن يتشكك في الإيمان . ومثال ذلك ما حدث من مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض المقاتلين في غزوة أحد فكادت الهزيمة تلحق بهم . وفي غزوة حنين قالوا : لن نُغلب اليوم من قلة ولذلك يقول سبحانه : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] .
وقد ترك الله هذه السنن الكونية ليلفت أي غافل عن الدين أن الخصم ينال منه؛ فالغفلة تؤدي إلى الانحراف ، والانحراف لا يمكن أن يؤدي إلى النصر . هكذا يحذر الحق معسكر الإيمان . أما معسكر الكفر فالحق يريد له الذلة ، فيعطيه في بعض اللحظات نصراً على المؤمنين في أوقات غفلتهم ، وما أن يُفيق المؤمنون من الغفلة حتى تأتي ضربتهم لمعسكر الكفر . وتأتي الضربة وقت أن يكون معسكر الكفر في علو وغلو . ولنا في المثل الريفي الإيضاح .
يقول المثل : لا يقع مؤمن من على حصيرة ، والمقصود أن التواضع يحمي الإنسان من وهم العلو والكبر؛ لأن الذي يقع هو الذي يتخيل أنه علا في الأرض ولذلك يعميه الله عن الحرص ، ويأتي قوله : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ] .
أي أن يتم العصف بكل شيء . وأهل السياسة عندما يريدون أن ينزلوا بخصومهم العقاب يرفعون خصومهم ويمدون لهم في حبال الصبر والإمهال حتى يعلو الخصم كثيراً ثم ينكشف ويظهر سوء سلوكه فيقع أمام الناس .
(1/2260)

ولذلك نجد القرآن صريحاً مطلق الصراحة في هذا المجال : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] .
فسبحانه يمد ويملي لهم ليأخذوا وليبنوا وليترفوا ، وليفرحوا بما أخذوا ، ومن بعد ذلك يفتح الله عليهم أبواب كل شيء . وأمثلة ذلك في الحياة كثيرة .
لقد رأينا الدول القوية تساعد خصومنا ، واتفق المعكسر الشرقي والمعسكر الغربي لسنوات على مساعدة الخصم ، وقلنا لهم : أنتم الآن في مقام : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } وأنتم أيها الخصوم قد تنتقلون إلى مقام : { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا } . وسوف تنتقلون من بعد ذلك إلى مقام : { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } .
وقد حدث أن سقط الاتحاد السوفيتي بأكمله ، وأخذهم الله بغتة بأيدي أناس منهم ، وكثيراً ما تحدث الكوارث لمن يضطهد أهل الإيمان . إذن : فلا داعي لأن يغتر أحد بما وصل إليه .
ويقول الحق : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } [ المائدة : 64 ] .
وهم مكبوتون دائماً . فالحق لا يُمَكّنهم من كل أهوائهم . لذلك يبغون في الأرض فساداً بأساليب الاختفاء . ومن يقرأ " بروتوكلات صهيون " يجد اعترافاتهم بأنهم أصحاب النظريات التي تقود إلى الأفكار الخاطئة كالماركسية والوجودية والداروينية وهي أمور مرتبة من قبل ليظهر أثرها الضار في الشعوب غير اليهودية . أما اليهود فقد حصنوهم ضد هذه المبادئ الفاسدة ، هكذا أرادوا التبييت ضد العالم ، وهكذا يكون سعيهم بالفساد بين الناس . وإذا نظرنا إلى الانحراف الحالي في الكون فإننا نجدهم وراءه .
فالرأسمالية الشرسة من اليهود . والشيوعية الشرسة من اليهود . وهؤلاء الذين يدعون أنهم أنبياء من بعد رسول الله إنما يحدث لهم ذلك بفعل اليهود ، وكذلك الجمعيات التي تتخفي وراء أسماء " الماسونية والروتاري والليونز " ، كلها من اليهود . ومع ذلك نتلفت إلى قوم يقولون إنهم متحضرون ويفخرون بأنهم أعضاء في الروتاري ، ونسألهم : ماذا تفعلون في تلك الأندية؟ يقولون : نقوم بالأعمال الخيرية والخدمات . ونقول لهم : لماذا لا تفعلون أعمال الخير باسم الإسلام؟ . وهل تظنون أن هناك خيراً يأتي من خارج الإسلام؟!
ويكتشف الكون كل فترة من الزمن أن الفساد الذي فيه إنما هو بسبب هؤلاء الناس وبسبب مكائدهم؛ لذلك يصيبهم الحق بالكوارث كل فترة من الزمن؛ لأنهم يسعون في الأرض فساداً . وهذا السعي في الأرض بالفساد إنما يأخذ صوراً متعددة ، مرة يأخذ شكل النظريات العلمية ، ومرة يأخذ شكل التطرف في الأنظمة السياسية من رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة ، وكل ذلك تخريب لحياة الناس .
(1/2261)

والناس حين تجرب نظاماً فهي تقيس نجاحه أو فشله بمقدار ما يعود عليها من خير أو من شر .
لقد كانت روسيا - على سبيل المثال - تمد العالم بالقمح من سيبيريا . ولكنها الآن تشكو قلة الزراعة وتنتظر من يبيع لها القمح . وعلى الجانب الآخر نجد الرأسمالية الشرسة تطحن أبناء تلك البلدان في الحياة غير المسئولة باسم الحرية . وقد شهدت ألمانيا - مثلاً - قسمة عاصمتها القديمة " برلين " إلى قسمين ، ولكل قسم حياة ، وشهدت إعادة التوحيد لأرض ألمانيا بما يصاحبه من مشكلات جمة .
وقد تذهب بعض المجتمعات إلى أيدي أناس لهم شراسة أشد كالحزب الحاكم في كل دولة لا تتبع منهاجاً متوازناً ، ونجد رجال هذا الحزب كهيئة تأخذ الدعوة ونقيض الدعوة حتى لا يتمرد عليهم أحد ، فعَرق العامل في أيديهم ومصنع الرأسمالي في أيديهم وهم يعيشون حياة الأمراء ولا يجرؤ أحد على أن يسألهم .
ومثال ذلك أيضاً نظرية الوجودية التي تدعو كل إنسان ليثبت وجوده ، وصاحبتها موجة من الانحلال اللا مسئول ، ذلك أنهم لم يفهموا إثبات الوجود على أساس أنه مسئولية العمل الصالح في الكون ، ولكن فهموا الأمر على أنه انطلاق غرائز على الرغم من أن المفترض في كل إنسان إذا أراد أن يمد يده ، فعلى يده أن تتوقف حيث يوجد أنف إنسان آخر . لكن هؤلاء الناس عاملوا الناس كأطفال ، تماماً كما يأتي الأب لابنه بلعبة يلعب بها ولتكن آلة تليفون ، يقدمها الأب لابنه ليستغل طاقته قبل أن يكون مكلفاً ، ولكن الأب لا يسمح للابن أن يعلب بآلة التليفون الحقيقية ، وهؤلاء الناس يأخذون الكبار إلى اللعب واللهو حتى لا يتدخل الكبار في أمور الجد .
ومثال ذلك لعبة كرة القدم ، إنهم ينفخون فيها بالبطولة وينقلون قوانين الجد إلى اللعب . وقبل المبارة بثلاث ساعات تجد قوات الأمن قد سدّت الطرق إلى الملعب الذي يشهد المباراة . ولو أخطأ الحكم خطأ تافهاً فإنّ الجهور يثور ويهيج . ولكن عندما يخطئ الحكام والحكومات ألف خطأ فلا أحد يتكلم ، لماذا؟ . لأنكم نقلتم قوانين الجد إلى اللعب واللهو وتركتم الجِد بلا قوانين .
مثال آخر : نجد كل فاكهة أو محصول أو صناعة في الوجود يقيمون لها الاحتفالات ويتوجون عليها ملكة ، ملكة الكروم ، ملكة القمح ، ملكة الأزياء ، وكل ذلك من أجل إبراز مفاتن النساء ، ولا يوجد تكريم للعقول التي تنتج . وعلى سبيل المثال نجد ملابس الشباب الرياضية تغطي جسد الشباب من الذكور ، لكنهم لا يفعلون ذلك بالنسبة للإناث ، لماذا لا يغطون أجساد البنات أيضاً أثناء ممارسة الرياضة؟ والغرض - بطبيعة الحال - هو دغدغة أعصاب الناس ، وكل ذلك إفساد في الأرض .
{ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } ومن العجيب أن سعيهم للفساد يلبسونه ثوب الحق وثوب الارتقاء وثوب الحضارة .
(1/2262)

ويأتي أناس من المسلمين ويشجعون مثل هذا الفساد ، وينسون الحقيقة البديهية وهي : { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } فسبحانه وتعالى قد خلق الكون على هيئة الصلاح ، فإذا استقبلت خير الله بصلاح الوجود الذي طرأت أنت عليه فأنت تحسن حياتك وعملك ، أما إن لم ترد صلاح الكون فعليك ألا تأتي بفساد .
والحق خلق الكون على نظام دقيق ، ونرى ذلك في الأشياء التي لا دخل للإنسان فيها ، ونجدها في منتهى الدقة والاستقامة ، الشمس والكواكب والفصول والرياح ، لكن الفساد يأتي عندما تدخلت يد البشر بغير منهج الله . إذن فالفساد هو الذي يصرف الناس عن منهج الله . ونجد بعضاً من الناس يركبون رءوسهم ويظنون أن ما يفعلونه هو الصلاح ، فينطبق عليهم قول الحق : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 11-12 ] .
هذا هو حكم الحق فيهم . . إنهم يدّعون الصلاح ، ولكن يجب عليهم أن يرتدعوا فلا يفسدوا . ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب . . . }
(1/2263)

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
هذا القول يدل على أن أهل الكتاب جميعاً في غير حظيرة الإيمان ، والحق يوضح لهم : إن فسادهم كان سابقاً على ظهور الإسلام ، ولهذا جاء الإسلام ليخرج الناس من فسادكم أنتم . لقد كان لكم منهج من الله ولكنكم حرّفتموه ، وإن لكم رسلاً أرسلهم الله إليكم ولكنكم أسأتم إليهم ، وطقوساً دينية ابتدعتموها . وجاء الإسلام لا ليهدي الملاحدة فقط ، ولكن ليهدي أيضاً الذين أضلهم أرباب أهل الكتاب . وكانوا من بعد الإسلام يحاربون الإسلام بالاستشراق ، وكانوا يؤلفون الكتب ليطعنوا الإسلام . لكنهم وجدوا أن الناس تنصرف عنهم؛ لذلك جاءوا بمن يمدح الإسلام ويدس في أثناء المديح ما يفسد عقيدة المسلمين .
إننا نجد بعضاً من المؤلفات تتحدث عن عظمة الإسلام تأتي من الغرب ، ولكنهم يحاولون الطعن من باب خلفي كأن يقولوا : إن محمداً عبقري نادر في تاريخ البشرية ويبنون كل القول على أساس أن ما جاء به محمد هو من باب العبقرية البشرية ، لا من باب الرسالة والنبوة . ونجد مثالاً على ذلك رجلاً أوروبياً يؤلف كتاباً عن مائة عظيم في العالم ويضع محمداً صلى الله عليه وسلم على رأسهم جميعاً . ونقول له : شكراً : ولكن لماذا لم تؤمن أنت برسالة محمد بن عبد الله؟
إن شهادتهم لنا لا تهمنا في كثير أو في قليل . لقد هاجمونا من قبل بشكل علني . ويحاولون الآن الهجوم علينا بشكل مستتر . وهم أخذوا بعضاً من أبناء البلاد الإسلامية ليربوهم في مدارس الغرب وجامعاته من أجل أن يجعلوا من هؤلاء الشباب دعاة لقضاياهم في إفساد المسلمين ، ولم ينجحوا إلا مع القليل؛ لذلك نقول لشبابنا : احذروا أن تكونوا المفسدين وتدعوا أنكم المصلحون ، فلا تأخذوا المسألة بالطلاء الخارجي ولكن انظروا إلى عمق القضايا ، وتذكروا قول الحق : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103-104 ] .
علينا أن نرقب كل فساد في الكون ، وسنجد أن لأصابع أعداء الإسلام أثراً واضحاً . لقد كان من اجتراء الصهيونية إلى حد الوقاحة أن تقول : ليطمئن شعب الله المختار ، فثمانون في المائة من وسائل الإعلام في العالم خاضعة لإرادتنا ولا يمكن أن يُعلم فيها إلا ما نحب أن يُعْلَم . والحق سبحانه وتعالى عندما يقول : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم } [ المائدة : 65 ] .
فسبحانه وتعالى بهذه الآية يقدم الفرصة لهؤلاء الناس حتى يدخلوا إلى حظيرة الإيمان ويستغفروا الله عن خطاياهم الماضية وليبدأوا حياة جيدة على نقاء وصفاء بدلاً من التحريف والتضليل . وليعرفوا معرفة حقة قوله تعالى في رسوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } .
هذا القول يجب أن يتهافت إليه غير المسلمين مع المسلمين ليأخذوا من ينبوع الرحمة ، وفي ذلك تصفية عقدية شاملة لكل إنسان أن يبدأ طريق إصلاح نفسه .
(1/2264)

وقوله الحق : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا } إنما يدعوهم إلى الإيمان والتقوى . والإيمان محله القلب ، أي أن يستقر في القلب الاعتقادُ بوجود إله أعلى ، ونؤمن بالبلاغ عن الإله الأعلى بواسطة الرسل ، وأن نؤمن بالرسل وبالمناهج التي جاءوا بها ، وأن نتبع هذه المناهج ، وأن نؤمن بأن المرجع إلى الله ، هذا الإيمان ينعكس على الحركة الإيمانية في الأرض ، ويحقق الإيمانُ مع التقوى اتجاهَ الإنسان إلى الصالح من العمل . وأن يبتعد عن غير الصالح من العمل اتباعاً لقول الحق : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1-3 ] .
ولذلك نجد قولاً لأحد العلماء الصالحين من العرب هو : إن الإيمان كالْعُمُد والأعمال كالأطناب . وعرف أن كل بيت له أساس من الأعمدة ، وله أوتاد تثبته . والخيمة العربية هي بيت من القماش السميك على عمود من الخشب وتشد الخيمة إلى الأوتاد بحبال ، وهذه الحبال هي الأطناب ولا تقوم الخيمة إلا إذا ربطت بأحبال وشدت إلى أوتاد . وكان العربي يفك هذه الخيمة ، ويحملها على ظهر بعيره لينصبها في أي مكان . وكان العربي يختار القماش الذي إن نزل عليه المطر ، يمتص الماء ويمنع سقوطه داخل الخيمة .
إذن فالإيمان عمود ، والأعمال أطناب ، وهكذا تكون دعوة الحق لأهل الكتاب حتى يؤمنوا ويتقوا الله حتى يكفر عنهم سئياتهم ، والكفر - كما نعرف - هو الستر والتغطية والعفو هو محو الأثر ، كأن الحق سيغطي على سيئاتهم ثم يمحو أثرها وذلك بأن يعفو عنها؛ لأن الإسلام إنما جاء رحمة يجب أن تستغل ليكفر الحق عن سيئاتهم التي ضللوا بها شعوبهم .
لقد كان من الواجب عليهم أن يعرفوا أن مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فرصة للتراجع عن الكفر والبهتان . وقد جاء صلى الله عليه وسلم ليقيم تصفية عقدية في الكون ، فالملحد يجب عليه أن يتعرف على خالق الوجود ويؤمن به ، والمبدل لمنهج الله ينبغي أن يعود إلى منهج الله . وتلك هي التصفية العقدية الشاملة .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة . . . }
(1/2265)

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
أي أنهم لو طبقوا التوارة والإنجيل دون تحريف ، وآمنوا بالقرآن الكريم لكان خيراً لهم . والتوارة كتاب اليهود . والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام ، وقد أنزل الله بعد ذلك الكتاب الجامع المانع وهو القرآن الكريم ، وأراد لهم الحق بالإيمان بما جاء في التوارة والإنجيل من بشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإيمان بالتوارة والإنجيل - من قبل تحريفهما - إنما يقود إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزله الله إليه . واليهود - كما عرفنا - هم الذين توعدوا العرب بمجيء رسول الله ، لكن العرب سبقوهم إلى الإيمان بمحمد بن عبد الله { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } .
لقد كانوا - أهل الكتاب - يملكون المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن وهو الإيمان بالتوارة الصحيحة والإنجيل الصحيح؛ لأن فيهما نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان سيدنا عبدالله بن سلام وكان من أحبار اليهود يقول : " لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد " . وحينما يعد الحق أهل الكتاب إن آمنوا واتقوا بأن يكفر عنهم سيئاتهم ويقيهم من عذاب النار فحسب ، ولكن سيمحو هذه السيئات ويدخلهم الجنة . وسبحانه هو الأعلم بهم ، ويعلم أن منهم الماديين المرتبطين بالدنيا لذلك جاء لهم بخير الإيمان في الدنيا فقال :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } فسبحانه يمد لهم أيضاً يد الأسباب في الدنيا ، والمؤمن هو من يرتقي في الأخذ بالأسباب فيأخذ نعيم الدنيا والآخرة ، أما الكافر فيأخذ الأسباب دون أن يشكر الخالق عليها .
لقد أراد الحق لأهل الكتاب أن يحسنوا الإيمان أولاً بصحيح التوارة وبصحيح الإنجيل حتى يكون ذلك هو المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن ، فهذا هو السبيل إلى تكفير السيئات بألا يدخلوا النار بل ويدخلون الجنة في الآخرة . وهم بالإيمان لا يأخذون خير الآخرة فقط بل يأخذون خير الدنيا أيضاً؛ لأن الحق لا يضن على مجتهد في الأسباب ، وهو القائل : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
فمن بقي منهم على الكفر يأخذ من أسباب الدنيا ولكنه لا يأخذ أبداً من عطاء الآخرة : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
وبذلك يوضح الحق مصير أهل الكفر في الآخرة أولاً ، ويوضح من بعد ذلك مصيرهم في عاجل الدنيا ، فإن أخذوا بالأسباب أعطاهم الله نتائج الأسباب ، وهو سبحانه الذي يحتفظ بطلاقة القدرة ، فقد يعطل الأسباب ويسلب الأشياء خواصها ، فالمزارع قد يأخذ بكل الأسباب من حرث للأرض وتسميد لها وانتقاء لسلالة البذور ، ولكنَّ إعصاراً قد يهب فيقتلع كل شيء أو فيضاناً يغرق الزرع ، أو حشرة فتاكة كدودة القطن تأكل المحصول .
(1/2266)

إذن ، فالأسباب وراءها مُسبِّب له طلاقة القدرة ، وسبحانه هو الذي وضع القوانين الكونية ، وهو - أيضاً - الذي يسلبها خواصها .
فأنت أيها الإنسان سيد الكون بإرادة الله ومقهور في كثير من الأقضية لقهرية الجبار . صحيح أن لك بعض الاختيارات في بعض الأشياء ، ولكن هناك قهريات في أمور لا دخل لك فيها ، فالمرض قد يقتل ، والحادث المفاجئ قد يقتل ، وتلك أشياء من قهريات الله التي تخرج الإنسان عن الأسباب .
إن الحق سبحانه يرينا أن بلاداً كانت دائمة المطر ثم أصابها الجفاف ، لماذا؟ لأن الناس تغتر من رتابة النعمة ، ولذلك يمسك الحق الكون بيده ، وهو سبحانه لا يسلمه لأحد أبداً . لذلك يأتي في بعض الأحاديين ويقبض أسبابه حتى لا يفتن الإنسان بالأسباب ورتابتها .
وأمثلة ذلك في حياتنا كثيرة ، نرى المزارع الذي يملك عشرات الأفدنة فتهاجمها الدودة فتأتي على الأخضر واليابس ، بينما جاره الذي لا يملك إلا قطعة يسيرة وقليلة من الأرض تطرح الخير كله لصاحبها؛ لأنه دفع ما يسميه أهل الريف " غفرة الأرض " أي زكاتها . والدودة في هذه الحالة تكون هي من جنود الحق فتأكل المال الباطل ولا تلمس المال الحلال . { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] .
ولذلك يقدم الحق أسبابه لمن يسعى فيها ، ويزيد للمؤمن . ويقول : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } والرزق - كما علمنا - قسمان : قسم مباشر وقسم يأتي بالرزق المباشر ، والرزق المباشر هو ما ننتفع به على الفور ، كطعام نأكله أو ماء نشربه ، أما الرزق الآخر فهو المال الذي قد نشتري به الرزق المباشر . وجاء سبحانه بأمور الحياة الواقعية حتى نفهم أن المنهج إنما نزل لينظم حركة الإنسان في هذه الحياة ، والآخرة هي الجزاء على حسن العمل في الدنيا .
وبعد أن وعدهم - سبحانه - بالجنة جزاءً للإيمان يمد لهم الأسباب في الدنيا رخاءً وسعة وترفاً وسعادة . ونجد من يسأل : وكيف يأكلون من فوقهم؟ ونقول : إن الأكل هو المظهر الأساسي لحياة الإنسان؛ لأن كل حركة يصنعها الإنسان هي فرع عن وجود حياته . ووجود حياة الإنسان يتوقف على ثلاثة عناصر مهمة هي الأكل والشرب والتنفس . فإذا ما أردنا استبقاء الحياة والتناسل فلا بد من توفير لهذه المصادر الثلاثة .
إننا عندما ننظر إلى ترتيب الثلاثة في الأهمية نجد أن الإنسان قد يصبر على الطعام شهراً . وقد يصبر على الماء مدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام ، أما التنفس فلا يطيق الإنسان ألا يجد الهواء لمدة دقائق .
ومن رأفة الحق بالخلق أن جعل الحيازة لهذه الأنواع المقومة لاستبقاء الحياة تترتب حسب أهميتها .
(1/2267)

لذلك نرى من يملك على إنسان آخر طعامه ويتحكم فيه ، لكن الحق يجعل في جسد الإنسان ما قد يقيته شهراً . ونرى أن الحيازة في الماء أقل من الحيازة في الطعام؛ لذلك لم يُمَلِّكْهَا الحق إلا نادراً؛ ذلك أن الإنسان لا يطيق الصبر على العطش إلا لمدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام . وأما الهواء فلم يجعله الحق ملكاً لأحد على الإطلاق؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يستغني عنه إلا بمقدار الشهيق والزفير ، ولا يستطيع الإنسان أن يدخره في حجم رئتيه؛ لذلك لم يأمن الحق أحداً من الخلق على ملكية الهواء .
وقوله الحق : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } مقصود به أن الاستقامة في تطبيق منهج الله تُخْضِعُ الأسباب الكونية لهم ، أما إذا ما تمرد الإنسان على منهج الله فقد يعطيه الله زهرة الحياة الدنيا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر ، فالنواميس الكونية لم تنعزل عن يد الحق .
لذلك يخاطب - سبحانه - الخلق خطاباً ، فإن انفعلوا للخطاب ، يسرَّ لهم كل ما سخره لهم في الكون . وإن لم ينفعلوا فهو ممسك الأسباب ويمكنه أن يخرق قوانينها ، فلا الأرض ولا الهواء ولا أي شيء خرج عن طاعة الله ، فإذا ما تمردت جماعة على نعم الله أو على الله فسبحانه يجعلهم نكالاً لغيرهم ويقبض عنهم الأسباب .
والإنسان سيد هذه الكائنات في هذا الكون ، وهو منفعل - أيضاً - بقدرة ربه وقد يمرض ، وقد يموت ، وقد ينكسر ، وقد يغرق ، فإذا كان الإنسان وهو المنفعل ب " كن " من ربع فكيف حال الأشياء الأدنى منه؟ إنها أيضاً منصاعة ب " كن " . والحق قادر أن يقول للأرض : كوني جدباً ، وهو القادر على أن يوقف المطر لأنه هو سبحانه الذي يجعل الأشياء تسير سيراً رتيباً . ألم يقل الحق سبحانه وتعالى في خطابه لكل خلقه عن الأرض : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } . فإذا كان الحق قد أوحى للأرض لتبرز الكنوز أو تحدث الزلازل ، فما بالنا بكل شيء آخر؟ . إن كل شيء إنما يسير بأمر الله ، ذلك أن كل شيء يسبح بحمد الله ، ولكن الإنسان لا يفقه لغات غيره من الكائنات : { لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمًْ } .
وخطاب الله لكل خلقه يفهمه المنفعل له من أي جنس من أجناس الوجود ، ولو علمك الله هذا الانفعال ، لسمعت لغة الكائنات الأخرى . مثال ذلك سيدنا سليمان عليه السلام الذي سمع قول نملة لبقية النمل : { ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } [ النمل : 18 ] .
وماذا قال سليمان بعد ذلك؟ .
قال سليمان : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } [ النمل : 19 ] .
وهو سبحانه القائل : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير } [ الأنبياء : 79 ] .
والهدهد قال في القرآن : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض }
(1/2268)

[ النمل : 25 ] .
إذن فكل كائن في الوجود يعرف قضية الإيمان وقضية التوحيد . وكل من في الوجود ينفعل لربه . وهكذا كل الأشياء التي تحفظ للإنسان حياته أو نوعه . فماذا عن حال من يتمرد على الله؟ . إنه سبحانه قد يقول للأسباب : انقبضي عنه . ونرى ذلك في حال بعض البلاد على ألوان مختلفة ، فالبلاد التي تقع في منطقة يعرف عنها أنها دائمة المطر ، يخرق الله طبيعة البيئة فتصير إلى جفاف ، وغيرها التي تستطيع أن تصل إلى الفضاء الخارجي . لا تقدر على مواجهة إعصار ، وذلك ليتأكد لنا أن يد المكوّن - سبحانه - فوق أسباب الكون .
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } أي أن يأتي الخير من كل ناحية . فإذا كان يراد بالأكل المباشر ، فالمطر هو الذي ينزل من أعلى يروي الأرض فيخرج الزرع ، وكذلك النخل يعلونا ويأتينا بالتمر ، وكذلك أشجار الفاكهة من برتقال وتفاح وغير ذلك . أما ما تحت الأقدام فهي الخضراوات ، والفواكه التي تنمو دون أن يكون لأي منها ساق على الأرض كالبطيخ والشمام وغير ذلك .
ولنا في سقوط الفاكهة من على أشجارها العالية بعد تمام النضج الحكمة البالغة ، فالرزق الذي طاب وإن لم تسع إليه يأت إليك تحت قدمك .
وإن توسعنا في فهم قوله الحق : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } . فلله أسرار فوق الأسرار ، وله فيما تحت الأرض أسرار . ألا نأخذ كل شيء يعيننا على الحياة من طبيعة الأرض سواء أكان حديداً أم نحاساً أم بترولاً؟ . وهكذا نجد أن كل شيء في الوجود يخدم بقاء نوع الإنسان أو استبقاء حياته هو من عطاء الله .
إذن فلو أن أهل الكتاب أقاموا التوارة والإنجيل والقرآن وساروا على المنهج لوهبهم الله كل خير . ويؤكدالحق هذا المعنى في آية أخرى فيقول : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } .
ونرى أن الحق قد أفاء على بعض الناس من النعمة الشيء الواسع والكثير ومن بعد ذلك يطغى أهلها بالنعمة فيمهلهم ربنا إلى أن يعلو أمرهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر . وحياتنا المعاصرة خير شاهد على ذلك؟ فكل بلد أخذت نعمة الله لتحاج بها الله وتكون ضد منهج الله نجدها تبوء بالفساد . ويأتي بأس أهلها فيما بينهم شديداً ويخربون بيوتهم بأيديهم . وكم من بلاد كانت متعة الناس أن يذهبوا إليها للترف أو الانفلات ثم يأتي بأس أهلها بينهم وتخرب بأيدي أبنائها . وفي واقع الكون ما يؤيد صدق ذلك ، وكأن الحق يقول لنا : اعتبروا يا أولي الأبصار .
ويقول سبحانه : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله }
(1/2269)

[ النحل : 112 ] .
والمراد بالقرية ليس قرية الريف التي نتعارف عليها اليوم؛ لأن القرية في عرف العربي القديم هي المكان الذي يقابل العاصمة . وكانت البيئة العربية قديماً بيئة " التبدّي " أي أنهم يقيمون في البادية وينتقلون من مكان إلى مكان ، ولم يكونوا متوطنين في مكان واحد . وكانت عاصمة البدو هي القرية التي تتكون من عدد صغير من البيوت . ولذلك يسمي القرآن الكريم " مكة " بأم القرى . ويضرب الله مثلاً بالقرية الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها واسعا من كل مكان ، أي أن خيرها ليس ذاتياً ولا نابعاً منها ولكن يأتيها من كل مكان . وفي العصر الذي نعيشه نجد أن خير الدنيا يصب في قلب بعض القرى ، وما أن يكفر أهل القرية بأنعم الله فما الذي يحدث؟ { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف } [ النحل : 112 ] .
وهذا واقع نراه في كثير من البلاد التي أخذت نعمة الله فبدلتها كفراً فأحلوا قومهم دار البوار . ويرينا سبحانه القرى التي يلبسها الحق لباس الجوع والخوف . وعندما ننظر إلى قول الحق : " لباس " نرى أن الجوع له لذعة ، واللباس له شمول ويلفهم الجوع كما يلفهم الثوب ، وكذلك الخوف فتصير كل جارحة فيهم خائفة : أي أن الحق سلط عليهم الجوع فلا يجدون موادّ الاقتيات . وكذلك الخوف يأتيهم فإما أن يكون الخوف بسبب بأسهم فيما بينهم لأن عداوة بعضهم بعضاً شديدة ، وإما أن يكون الخوف من عدو خارج عنهم . وهذا واقع معاصر .
وكيف يكون الكفر بنعم الله؟ الكفر بنعم الله إما أن يكون بمعنى ستر النعمة . واستعمالها في معاصي الله ، ومثله مثل الكفر بالله أي ستر وجود الله ، وقد يكون الكفر بنعمة الله بالتكاسل عن استنباط النعمة من مظانها . وفساد العالم الآن يأتي من أناس كُسالى عن استنباط نعم الله المطمورة في كونه ، وأناس يجدّون في استنباط نعم ويحبسونها لأنفسهم ولا يعطون منها الضعاف ، ويستخدمون النعمة في المعاصي .
إذن فقوله الحق : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 96 ] .
وقوله الحق : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } . هم حكم عام؛ فهل وُجِدَ من يؤديه؟ . نعم؛ هناك أناس منهم عرفوا ذلك وساروا إلى السبيل المستقيم ، وعن هؤلاء يقول سبحانه : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } . أي منهم أمة تسير إلى أغراضها وإلى غايتها على الطريق المستقيم . وهذه إشارة إلى أن بعضاً من أهل الكتاب يفعل ذلك ، والبعض الآخر لا يفعل ، وهذا القول أشار أيضاً إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يُخلى وجوده وكونه من خلية خير فيه ، وقد تكون خلية الخير هذه من أضعف الناس الذين لا شوكة لهم في الدنيا ولا جاه ولا قوة .
(1/2270)

ولولا هؤلاء الناس لهدَّ الله الأرض ومن عليها . ويوضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله : " لولا عباد لله رُّكع ، وصبية رضع ، وبهائم رُتّع لصُبّ عليكم العذاب صبا ثم رُصَّ رَصّا " .
كأننا مكرمون في هذا العالم من أجل الضعاف فينا . وكأن الحق لا يحجب الخير عن كونه ، بل يجعل في الكون ذرات استبقاء للخير . ولذلك نجد من يقول : إذا بالغ الناس في الإلحاد زاد الله في المد . وقد تجد بلداً كلها من الملاحدة ، وتجد فيها عبداً واحداً متبتلاً لربه ، ويكون هذا الرجل هو الذي يستبقي الله من أجله هواء تلك البلدة وماءها . ولذلك قال سبحانه : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } .
ويقول الحق من بعد ذلك : { ياأيها الرسول . . . }
(1/2271)

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
تبدأ الآية بخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن عظمة رسولنا المصطفى عليه الصلاة والسلام وعلو مكانته عند من اصطفاه خاتماً لرسالاته في الأرض أن الله ذكر الرسل في خطابه لهم بنداء أسمائهم فقط كقوله الحق : { يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [ البقرة : 33 ] .
أو قوله الحق : { ياموسى إني أَنَا الله } [ القصص : 30 ] .
أو قوله الحق : { ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] .
أو قوله الحق : { يانوح اهبط بِسَلاَمٍ } [ هود : 48 ] .
فسبحانه ينادي كل رسول له بالاسم المشخص للذات بصرف النظر عن أي صفة ، لكن رسول الله لم يُناد باسمه أبداً بل ناداه الحق بالمشخص للوصف : " يا أيها الرسول " . أو قوله الحق : " يا أيها النبي " .
فكأنك يا رسول الله قد اجتمعت فيك كل مسائل الرسالة لأنك صاحب الدين الذي سينتهي العالم عنده ولا يكون بعد ذلك لله في الأرض رسالة إلا فهم يؤتيه الله لأحد في كتاب الله .
ومن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أقسم بحياته ، على الرغم من أن الحق لا يقسم بحياة أحد من البشر إلا رسوله ، فقد أقسم بحياته . وهو سبحانه يقسم بما يشاء على ما يشاء ، أقسم بالريح والضحى والليل والملائكة ، لكنه ما حلف بحياة بشر أبداً إلا حياة محمد صلى الله عليه وسلم . { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] .
أي وحياتك يا محمد هم في سكرتهم يعمهون أي يترددون حيارى . ويقول الحق هنا مخاطباً الرسول : " يا أيها الرسول " . وما دام محمد هو الرسول الخاتم الذي جاء مصدقاً لما بين أيديهم من الكتب ، فمعنى هذا أن كل خير في أي كتاب سبق القرآن موجود في القرآن وفيه أيضاً زيادة مما تتطلبه مصالح الحياة المستجدة . وما دام الخطاب للرسول فهذا يعني أنه رسول مرسل من قبل الله بمنهج لخلقه ليبلغه لهم : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } . وكيف يقول الحق لرسوله : " بلِّغ " وهو أن يعلم أن مهمة الرسول هي البلاغ؟
لقد أراد سبحانه بذلك إخبار الناس أنه إن أبلغهم بما يكره بعضهم فهو يبلغ التزاماً بأمر الله ، فهو لا يقول من عنده ، ذلك أن الرسول عليه البلاغ ، فإن أبلغ أحداً ما يكدره فليس له مصلحة في ذلك . ويورد سبحانه ذلك حتى إذا بَلَّغ الرسول حكماً من الأحكام فعليهم أن يستقبلوا الحكم على أساس أنه قادم من الله وسبحانه يعلم أن رسوله لا يكتم البلاغ ولكن ليجعل لرسوله العذر عند البشر ، فهو سبحانه حين يخاطبهم بشيء قد يكرهونه ، فهو بلاغ من الله : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . أي أنه إن لم يفعل ولو في جزئية يسيرة من المنهج فهذا معناه أن البلاغ ناقص والله يريد أن يكون البلاغ كاملاً بالدين المتكامل .
(1/2272)

إن التركيبة الإيمانية تقتضي أن يأتي القول بهذه الطريقة حتى ينسجم البلاغ بشكل كامل؛ فقد نزل المنهج بكليته ، ويجب أن يُطبق بكليته من أجل أن ينصلح الكون وحتى لا تفسد حركة الإنسان في الكون ، فقد أنزل سبحانه المنهج وأحكمه ليسير العالم على حسب تصميمه له دون أن يختل . ولذلك يقول الحق : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . وبذلك يعطي الحق رسوله المناعة الكاملة . فلم يأت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا لخير الناس .
لقد سبق أنَ خلق الله آدم وأعطاه المنهج . وكان على آدم أن يبلغ المنهج إلى الذرية وقد فعل ، لكنَّ بعضاً من أجيال بني آدم غفلت عن المنهج؛ فيبعث الحق الرسل لتذكر بالمنهج . ولا يأتي رسول إلا بعد أن يكون الفساد قد فشا وانتشر بين الناس . وقد جعل الله في النفس الإنسانية نفساً لوامة ، ونفساً تأمر بالسوء ، ونفساً مطمئنة .
إن مهمة النفس اللوامة هي أن ترد على كل ما توسوس به النفس الأمارة بالسوء . لكن إن لم تلم النفس اللوامة ، فالنفس الآمرة بالسوء تتمادى ولا يردعها رادع . أما النفس المطمئنة فهي النفس التي تطمئن إلى منهج الله . ومثال ذلك الإنسان الذي تلح عليه شهوته لارتكاب معصية ما فيرتكبها ، ومن بعد ذلك يندم ويلوم نفسه ، ويتوب عن المعصية ، هذا الإنسان يردع نفسه ذاتياً . لكن إن سيطرت النفس الأمارة بالسوء فلا رادع .
وماذا إذا ساد الفساد بين عموم الناس؟ وماذا لو لم يتناهَوْا عن المنكر الذي يفعلونه؟ هنا لا بد أن يرسل الحق رسولاً بمعجزة جديدة ليأخذ العالم إلى منطق الرشاد ومنهج الحق .
ولا يختار الحق الرسول إلا إذا علم الرسول أنه مبلغ عن الله . وسبحانه في الآية التي نحن بصددها يعطي رسوله المعذرة إن بلغ قومه شيئاً يسؤوهم ، فما على الرسول إلا البلاغ في قوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . ونعرف أن الرسالة تقتضي : المرسِل وهو الله ، والمرِسَلَ إليهم وهم الخلق ، ومرسَلاً وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمرسَل به وهو ما نزل على الرسول ليبلغه . وفي كل أمر مثل هذا نجد أن كلمة " أرسل " تتعدى إلى مفعولين؛ المرسَل : مثال ذلك أرسلت فلاناً إلى فلان ، والمرسل إليه : وهو فلان . إذن فهنا مفعولان اثنان ، أولهما تعدى الفعل إليه بذاته والآخر تعدى إليه الفعل بحرف الجر .
وحرف الجر هنا هو : " إلى " . وبطبيعة الحال يعرف الرسول أنه مرسَل إلى الناس من الله رعاية لمصالحهم؛ فليس في أمر الرسالة شيء لصالح الله . وإن رأيت تعدياً ب " إلى " فهو لتحديد الغاية المرسل إليها ، مثل قوله الحق :
(1/2273)

{ وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ } [ آل عمران : 49 ] .
وهذا يوضح أن عيسى - عليه السلام - جاء مبعوثاً بمنهج إلى بني إسرائيل لصالح بني إسرائيل . ومثلما يقول الحق : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } . أي لصالح الناس . و " اللام " هنا تفيد المعنيين؛ النفعية والغاية .
{ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي أنه صلى الله عليه وسلم إن لم يبلغ الرسالة كاملة فمعنى ذلك أن البلاغ يكون ناقصاً . ومعاذ الله أن يكون بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنقص شيئاً ، فمنهج الله كل متكامل .
وقد يقول قائل : ولكن الناس قد لا تؤدي فروض الله في مواعيدها ، والمثال على ذلك هو الصلاة . ونقول : إن هذا عجز في إدارة الناس لحياتهم حسب منهج الله . ومن واجب المجتمعات أن تنظم حركة الناس اليومية من بعد صلاة الفجر إلى الظهر . وفي ذلك قدر هائل من الحيوية والنشاط ، وينتهي العمل عند الظهر ، فلا تتصادم حركة الناس مع منهج الله ، ولا توجد عرقلة ولا نشاز في حركتهم .
ثم يقول الحق : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } . وكان لا بد أن يأتي هذا القول الحكيم؛ لأننا نعرف أن الرسول لا يجيء إلا بعد أن يعم الشر ويسود الفساد ، ذلك أنه لو لم يسد الفساد ، ولم يعم الشر لا كتفى الله بالمجتمع ليردع بعضه بعضاً ، أو يكتفي الحق بأن تردع النفسُ اللوّامةُ النفسَ الأمارةَ بالسوء لتستوي النفس المطمئنة على عرش السلوك البشري .
لكن عندما يعم الفساد الكونَ . فالسماء ترسل الرسول بمنهج يصلح حال البشرية . وبطبيعة الحال لن يترك المجتمعُ الشريرُ الرسولَ لحاله بل يقاومه؛ لأن مثل هذا المجتمع يريد أن تكون كفة الكون غير متوازنة؛ لأن هناك منتفعين بالفساد والشر ، وهم المدافعون عن الفساد ، فإن جاء من ينصف الضعفاء والمظلومين فلا بد أن يتعرض للمتاعب التي تأتيه من قبل الأقوياء المفسدين .
إن هذه المتاعب تبدأ أول ما تبدأ في النفس؛ ولأن الرسول مخاطب من الله فيمكنه أن يتحملها لأن الحق قد أعده لهذه المهمة ، ومثل تلك المتاعب تأتي أيضاً للأتباع ، لذلك يمدهم الله بالمدد الذي يجعلهم يتحملونها . والحق يحفظ للرسول ذاته على الرغم من كل ما يحدث : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } .
فكأن الحق يقول لرسوله : اطمئن يا محمد؛ لأن من أرسلك هداية للناس لن يخلي بينك وبين الناس . ولن يجرؤ أحد أن ينهي حياتك . ولكني سأمكنك من الحياة إلى أن تكمل رسالتك . وإياك أن يدخل في رُوعك أن الناس يقدرون عليك ، صحيح أنك قد تتألم ، وقد تعاني من أعراض التعب في أثناء الدعوة ، ولكن هناك حماية إلهية لك . ونحن نعلم قدر المتاعب التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم . ألم تكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد؟ ألم يشج وجهه؟ ألم تدم أصبعه فيقول :
(1/2274)

" إن أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت " .
لكن قول الحق سبحانه لرسوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } لم يكن المقصود هو منع الجهاد في سبيل الله والمعاناة في سبيل نشر الدعوة . ولكن الحق يبين لرسوله : إن أحداً غير قادر على أن يأخذ حياتك .
ولم يمنع سبحانه المتاعب عن رسوله الكريم حتى لا يكون هناك أحد الداعين إلى الله لا يتحمل من الآلام أكثر مما تحمل رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولننظر ونستمع جيداً إلى " ما ترويه عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - حول هذه الآية إنها قالت :
سهر رسول الله ذات ليلة وأنا إلى جنبه ، فقلت : يا رسول الله ما شأنك؟ قال : ( ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ) ، فقالت : وبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت سلاح فقال صلى الله عليه وسلم : من هذا؟ فقالوا : سعد وحذيفة جئنا نحرسك . فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قُبّة أدَم وقال : انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله " .
وهناك باحثة بلجيكية عكفت على دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى هذه النقطة ، فتوقفت عندها لتقول : لو كان هذا الرجل يخدع الناس جميعاً ما خدع نفسه في حياته ، ولو لم يكن واثقاً من أن الله يحرسه لما فعل ذلك كتجربة واقعية تدل على ثقته في خالقه . وأضافت الباحثة البلجيكية : ولذلك أنا أقول بملء اليقين : " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " . لقد أسلمت المرأة لمجرد وقوفها عند لمحة واحدة من لمحات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويقول الحق من بعد ذلك : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } . ونعرف أن الهداية تعني الدلالة الموصلة إلى الغاية ، وهي أيضاً المعونة التي توصل طالب الهداية إلى الغاية . وكان الكفار الذين يبيتون للرسول وينهكون أنفسهم في المكر والتفكير والتبييت ، فيقطع الحق سبحانه وتعالى عليهم كل سبيل ، وينصره عليهم ، ويأتي التطبيق العملي لنصر الله للمؤمنين في بدر : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 249 ] .
لقد بيتوا ، ولكن عند المواجهة لم يقدروا على محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ولم يستطعوا إيذاءه ، برغم المكر والتبييت؛ لأن الحق قطع عليهم كل سبيل لإيذاء محمد ، ولن توجد وسيلة من وسائل اللؤم والخبث قادرة على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد تمثل ذلك يوم خرج رسول الله مهاجراً وغطى الله أبصار فتيان القبائل الذين حملوا سيوفهم ليقتلوا محمداً وليفرق دمُه بين القبائل فلم يبصروه لأن الله جعل على أبصارهم غشاوة .
(1/2275)

إذن فكلما فكروا في طريقة سد الله عليهم منافذ تنفيذ فكرتهم . وكأنه يقول لهم : لن تستطيعوا مصادمة محمد في منهجه لا بالعلن ولا بالدس ولا بالخفية ، بل أنتم - أيها الكفار - تخدمون الدعوة من حيث تريدون هدمها ، فقيامكم ضد محمد في بداية الدعوة كان لإثبات أن الحق جل وعلا أراد أن يشتد عود الدعوة بكفر أهل قريش . وعندما أردتم قتل محمد وأن يتفرق دمه بين القبائل خرج محمد سالماً وأغشى الله أبصار الذين أرادوا القتل . وهاجر صلى الله عليه وسلم . وفي الطريق إلى الهجرة يكون دليله من الكفار وهو عبدالله بن أريقط . كان ذلك لنعلم أن الكفر كان وسيلة الهداية إلى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عبدالله بن أريقط وهو كافر لا تغريه المكافأة أن يشى ويسعى بالرسول لدى مشركي مكة . ولكنهم لم يتخذوا من كل ذلك عبرة . وكذلك الغنم تُعفَّى الأثر ، والأرض تشد قوائم فرس سراقة لتغوص وتسوخ فيها .
إذن فكل جنود الله في صف محمد بن عبدالله . وهكذا رأينا كيف لم يهد الحق القوم الكافرين إلى الغاية التي أرادوها وهي التمكن من محمد صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً لا يهديهم الله إلى الإيمان . ويقول الحق من بعد ذلك : { قُلْ ياأهل الكتاب . . . } .
(1/2276)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
و " قل " - كما نعرف - هي خطاب له صلى الله عليه وسلم ، وما يلي ذلك بلاغ من الله لأهل الكتاب إنهم بلا منهج لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل بل حرفوهما ، ولم يؤمنوا بالقرآن ، وهو المنهج الكامل المنزل على محمد بن عبدالله .
وحين يقول الحق : { لَسْتُمْ على شَيْءٍ } فكلمة " شيء " تقال لأدنى فرد من أي جنس ، فالقشة شيء ، وورقة الشجرة شيء ، وما يطلق عليه شيء - إذن - هو الأقل .
وقوله الحق : { لَسْتُمْ على شَيْءٍ } أي إياكم أن تظنوا أنكم حين تقومون بتنفيذ جزء من تعاليم التوارة والإنجيل وتخفون الباقي وتهملونه تكونون قد أخذتم شيئاً من الهداية ، لا؛ فأنتم لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وتؤمنوا بالكتاب الذي أنزل على محمد ، والمنهج ليس عرضة لأن تأخذوا منه ما يعجبكم وأن تتركوا ما لا يعبجكم .
وعندما يقال : { لَسْتُمْ على شَيْءٍ } . ونعرف أن الشيء هو أقل مرتبة في الوجود ، ولذلك نقول : شيء خير من لا شيء . ويقال بالعامية : هاش خير من لاش و " هاش " هو الهالك من ثياب المنزل الممزقة ، أي أن الذي يملك ملابس ممزقة أفضل ممن لا يملك شيئاً على الإطلاق .
وقوله الحق : { لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } هو إيضاح لهم أنهم في المرتبة الأدنى من الكائنات لأنهم بلا منهج . ويضيف : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } أي أنهم لن يظلوا على درجة واحدة ثابتة من الطغيان والكفر ، بل كلما أنزل الحق إليك آية يا محمد ، وكلما نصرك الله في أمر ازدادوا هم طيغاناً وكفراً . وكان من المفروض أن زيادة نزول الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكون إضعافاً لتشددهم وترقيقا لقلوبهم ، لكنه سبحانه أراد أن تشتد شراستهم ووحقدهم في أمر الاعتراف بالإسلام .
وقد حدث من خالد بن الوليد وكان فارس الجاهلية ضد الإسلام أن قال لعمرو ابن العاص : لقد استقر الأمر لمحمد . واتجه الاثنان إلى الإسلام على الرغم من أن كلا منهما يعرف قوته ومكانته بين قومه . وبعد أن رأى خالد وعمرو أن الخيبة هي نصيب الواقف ضد محمد مهما علا شأنه . ذهبا إلى الإسلام ، وهذا هو موقف المتدبر للأمر دون حقد ولَدَد . أما الذي يزدحم بالمعاناة حقداً ولدداً فتزيده آيات الله لنصرة منهجه حقداً ولدداً وطيغاناً؛ لأن الله شاء ألا يهديهم . ولذلك تصير كل آية في صف الإيمان والمؤمنين مصدرَ إثارةٍ وغيظ ومرارة في نفوس أهل الكفر . وهكذا يوطن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره تجاه هؤلاء الكفار .
إنك يا رسول الله لا تواجه طاقة محدودة ولكنك تواجه طاقة من الشر النامي .
(1/2277)

وكل آية إنما تهدي الذي في أعماقه بذرة من خير ، أما الذي ينتفي الخير من داخله فالمسألة تزيده سراشة في قلبه . إن الشرير يُصَعِّد الشر ويزداد جُرمه وإثمه ، أما الخير فينزل من قِمّةِ الجرم إلى أقل درجة . ولنا المثل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام ، فالحق يقول على لسان أخوة يوسف : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يوسف : 8 ] .
ومن بعد ذلك قالوا لأبيهم : { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ } . ثم أخذوا في التبييت والتدبير وقالوا : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } . وكان أول التدبير لهم هو ما قاله الحق حكاية عنهم : { اقتلوا يُوسُفَ } .
ومعنى القتل هو إزهاق الروح . وهذه أعلى درجات الشر ، لكنهم يتراجعون عنها ويقولون : { أَوِ اطرحوه أَرْضاً } . فهم لم يرغبوا في قتله ، واكتفوا بأن يتركوه في مكان بعيد ، وتصوروا أن بعض السيارة قد يلتقطه فيبعدون يوسف عن أبيه . إذن هم بدأوا التدبير قتلاً ، ثم انتهوا بالتفكير لنجاة يوسف : { اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [ يوسف : 9 ] .
والمرحلة الثالثة قولهم : { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب } والجب فيه مياه ، وهناك أناس كثيرون يذهبون إلى مصادر المياه . هكذا يورد الحق لنا كيفية نمو الخير من بطن الكيد .
إذن ، فقوله الحق : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } أي أن الكثير منهم سيواصل رحلة التصعيد في الشر ، فوطن نفسك يا محمد على ذلك .
ونلحظ أن الحق قد وضع صيانة لاحتمال أن تفكر قلة منهم في الإيمان ، لذلك لم يشملهم كلهم بالحكم ، ولكن الحكم شمل الكثرة من هؤلاء الكافرين . ولذلك يقول الحق لرسوله : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } أي لا تحزن عليهم يا رسول الله . فعلى الرغم من عداوة وشراسة من صادموا دعوته صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم كل تلك المحاولات ، كان لا يكف عن الدعاء لهم : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " . وكان لا يكف عن القول : " لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله " . وقد تم ذلك بالفعل .
وكان الصحابة بعد الغزوات الأولى يقول كل منهم للآخر : أنا حزين لأن عمراً أفلت مني ولم أقتله . فيقول الآخر : وأنا حزين لأن عكرمة أفلت مني . ويقول الثالث : وأنا لا أدري كيف أفلت منا خالد بن الوليد . ولم يمكن الحق الصحابة الأوائل من هؤلاء المقاتلين الأشاوس لأنه يدخرهم للإسلام ليحملوا السيف للإسلام مدافعين وناشرين لدعوته . وها هوذا عكرمة بن أبي جهل يتلقى الطعنة الأخيرة في حياته فيضع رأسه على فخذ خالد بن الوليد ويسأله : أهذه ميتة ترضى عني رسول الله؟ إذن فقد أراد الله من عدم تمكين المسلمين منهم في أوائل الغزوات أن يكونوا جنداً للإسلام بقدراتهم القتالية فاستبقاهم أحياء ليخدموا الدعوة . ويقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ الذين آمَنُواْ . . . }
(1/2278)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
هم - إذن - أربعة ألوان من الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله . وهذه الآية وردت في صورتها العامة ثلاث مرات ، مرة في سورة البقرة ، ومرة هنا في سورة المائدة ، ومرة في سورة الحج .
ففي سورة البقرة يقول الحق : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] .
ولنلحظ أن كلمة " الصابئين " في هذه الآية منصوبة .
وفي سورة المائدة نجد قول الحق : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ المائدة : 69 ] .
ولنلحظ أن كلمة " الصابئون " هنا مرفوعة ومقدمة على كلمة " النصارى " .
وفي آية سورة الحج يقول الحق : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] .
هنا إخبار عن أربعة ، وزاد الحق عليهم اثنين في آية الحج ، ونجد أن الإخبار يختلف ، وكذلك يختلف الأسلوب ، فمرة تتقدم النصارى على الصابئين ، ومرة تتقدم الصابئون على النصارى ، ومرة تكون الصابئون مرفوعة ، ومرة تكون منصوبة بالياء .
وأما اختلاف الإخبار ، فهو سبحانه يخبرنا في سورة البقرة فيقول : { مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] .
والخبر في سورة المائدة هو : { مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ المائدة : 69 ] .
والخبر في سورة الحج هو : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] .
والآيات الثلاث في مجموعها تتعرض لمعنى واحد ، ولكن الأساليب مختلفة وكذلك الغايات فيها مختلفة .
ونلحظ هنا أن الحق قال : " آمنوا " والإيمان هنا هو الإيمان اللفظي أي بالفم وليس بالقلب ، والمتصفون بذلك هم المنافقون والذين هادوا ، هم أتباع موسى ، والنصارى هم أتباع عيسى ، والصابئون ليسوا أتباعاً لأحد فقد كانوا أتباعاً لنوح ثم صبأوا عن ديانة نوح وعبدوا الكواكب ، أو هم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة . والمجوس وهم عبدة النار . إذن الحق يريد أن يجري تصفية إيمانية في الكون ، فمن يبادر ويدخل في هذه التصفية . يسلم من شر ما فعله قبل ما مجيء الإسلام ، ذلك أنهم أضلُّوا أناساً أو حكموا بالظلم .
والحق في سورة البقرة يقول : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي أنه - سبحانه - غفر لهم ما فعلوا من سوء وجزاهم على عملهم الصالح الذي لم يحبطوه ويذهبوه بعمل السيئات والآثام . هذا ما يتعلق بالآيتين . . . آية سورة البقرة ، وآية سورة المائدة ، ونلاحظ أن آية سورة المائدة لم يرد فيها قوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } ولعل ذلك راجع إلى الاكتفاء بذكرها في سورة البقرة ، وذلك له نظير في القرآن الكريم .
(1/2279)

كحمل المطلق على المقيد ونحو ذلك .
أما في آية سورة الحج فهي التي يأتي فيها الحكم : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } كأنهم لن يؤمنوا ولن يعملوا الصالح ، فتكون هذه هي التصفية العقدية في الكون .
وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصفي المسألة الإيمانية في الأرض ويقول عن المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } وهو ابتداء الخبر ، وتكون فيه " الذين آمنوا " في محل نصب لأنه اسم " إن " كما يقول النحاة ، وهو سبحانه قال هنا : و " الصابئون " وهي معطوفة على منصوب . وهذا كسر للإعراب . إنّ الإعراب يقتضي أن تكون الكلمة منصوبة فتكون " الصابئين " لماذا إذن عدل الحق عن إنزال الكلمة حسب سياقها من الإعراب وأنزلها بكسر الإعراب مع أنه في آية أخرى قال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين } .
لقد جاءت هنا في مكانها ودون كسر للإعراب ، وهي قد جاءت مرة قبل كلمة " النصارى " وجاءت مرة أخرى بعد كلمة " النصارى " . وهنا لا بد أن نتعرف على زمنية الصابئين ، فقد كانوا قوماً متقدمين قبل مجيء النصرانية ، فإن أردنا أن نعرف زمانهم نجد القول الحق يقدمهم على النصارى ، وإن أردنا أن نعرف منزلتهم فإننا نقرؤها في موضع آخر من القرآن ونجدهم يأتون بعد " النصارى " . إذن فعندما أرّخ الحق لزمانهم جاء بهم متقدمين ، وعندما أرّخ لكمّهم وعددهم ومقدارهم يؤخرهم عن النصارى؛ لأنهم أقل عدداً فهم لا يمثلون جمهرة كثيرة كالنصارى .
وجاء بها الحق مرة منصوبة ومرة مرفوعة ، لنعرف ونلتفت إليهم . وكسر الإعراب كان لمقتضى لفت الانتباه . وكان الصابئة قوماً يعبدون الكواكب والملائكة ، وهذا لون من الضلال .
إذن فهناك اليهود الذي عرفوا أن هناك إلهاً ، وجاء موسى عليه السلام مبلغاً عنه ، وهناك النصارى الذين عرفوا أن هناك إلهاً ، وجاء عيسى ابن مريم - عليه السلام - مبلغاً عنه ، وهناك المنافقون الذي أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولكن لم يلمس الإيمان قلوبهم .
وأراد الحق أن يلفتنا إلى أن الصابئين هم قوم خرجوا عن دائرة التسليم بوجود إله خالق غيب ، ويحدثنا الحق أنه يغفر لهم إن آمنوا وعملوا صالحاً . فالإيمان بالله شرط أساسي لقبول العمل الصالح والإثابة عليه . وجاء بهم متقدمين على النصارى احتراساً وتوقيا من مظنة أنه لا يعفو عنهم إن آمنوا وعملوا العمل الصالح .
ونلحظ أنها جاءت أيضاً في معرض جمع الله فيه بينهم وبين من يعبدون أغياراً من دون الله؛ لأن من يلصق ألوهية بغير الله يكون كمن عبد الكواكب وخرج عن التوحيد .
(1/2280)

إنه سبحانه وتعالى يتيح لكل إنسان أن يدخل حظيرة الإيمان ويقيم تصفية عقدية يدخل فيها الكل إلى رحاب الإيمان ويقطعون صلة لهم بالشرك . فلو آمن المنافقون واليهود والنصارى والصابئون وعملوا الصالحات فلهم الأجر والمثوبة من الله ولا خوف عليهم من عذاب الآخرة ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا ، وجاء العمل الصالح بعد الإيمان؛ لأن الإيمان إذا لم يقترن بعمل صالح يكون عرضة للسلب والعياذ بالله ولا فائدة فيه ، وسبحانه يريد أن يسيطر الإيمان على حركة الحياة بالعمل الصالح فيأمر كل مؤمن بصالح العمل حتى يكون لهم الأجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
أما الذين يصرّون على موقفهم الكفري ، فإن الله يفصل بينهم يوم القيامة لأنه على كل شيء شهيد . وكلمة " يفصل " تدلنا على أنه سبحانه وتعالى سيصدر الحكم الذي يبين صاحب الحق من غيره . ونعرف أن الذي يحكم إنما يحكم ببينة . والبينة هي الإقرار ، والإقرار - بلغة القانون - سيد الأدلة . أو الحكم بشهود . أو الحكم باليمين ، وهو سبحانه يفصل بين المواقف المختلفة . والفصل هو القضاء بحكم . وعندما يكون الذي يحكم هو الذي شهد ، فهو العادل . لذلك قال الحق : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
ويقول الحق بعد ذلك : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ . . . }
(1/2281)

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
والميثاق هو العهد المؤكد الموثق ، الذي يقتضي الوفاء الشديد . ولا تُوثق العهود إلا مظنة المخالفة . والمواثيق في الإيمان بالله كثيرة . فهناك الميثاق الأول عندما كنا جميعاً في ظهور الآباء . { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } [ الأعراف : 172 ] .
أو الميثاق الذي أخذه الله لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } [ آل عمران : 81 ] .
أو الميثاق الخاص الذي أخذ على كل أمة . وفي كل جزئية من جزئيات الدين يؤخذ ميثاق ، فنحن في الإسلام مأخوذ علينا الكثير من المواثيق . وكذلك رأينا النبي وقد أخذ لنفسه الميثاق في العقبة ، رأى الرسول أن ما يربطه بالأوس والخزرج الكثير ، كما يربطه بكل قوم يحنون إلى الوحدة تحت راية إيمان واحد ، وكان اليهود يعتبرون عرب الأوس والخزرج مجرد همج وخدم يعملون لهم ، وأرتأوا السيادة لأنفسهم . وكلما اختلفوا معهم هددوهم بمجيء رسول قادم سيؤمنون به وسيقتلونهم تقتيلاً .
وكان كل من الأوس والخزرج يحاول أن يستميل اليهود إليه ، فالأوس حالفت بني قريظة . وحالف الخزرج بني قينقاع وبني النضير . وتلقى الاثنان الوعيد من اليهود بعد ظهور النبي القادم ، وذلك ما جعل كلاً من الأوس والخزرج يُسرع إلى التعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء في موسم الحج نفر من ستة رجال ودعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فآمنوا به صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك .
وجاءوا في العام الذي يلي ذلك إلى موسم الحج وزادوا حتى صاروا اثني عشر رجلاً . وكانت المعاهدة ألا يشرك منهم أحد بالله وألا يسرق ألا يزني وألا يقتل أولاده وألا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه ، ولا يعصي رسول الله في معروف . وعادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن . وفي العام الثالث جاء ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان هما نسبية بنت كعب أم عمارة ، وأسماء بنت عمرة بن عديّ ، وكانت مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزاد من ذلك إرباك قريش ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم :
" " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلْقَة ( السلاح ) وتكلم أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " بل الدم الدم والهدم والهدم ، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " . وبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه "
(1/2282)

وكانت بيعة العقبة ميثاقاً يضمن لأهل البيعة الجنة إن أوفوا به . وقد أوفوا . وهذا لون من العهود والمواثيق . وحين يخبرنا الحق هنا أنه أخذ من بني إسرائيل الميثاق ، فمعنى ذلك أن هناك عهداً موثقاً مؤكداً : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } [ المائدة : 70 ] .
وقد أخذ الحق الميثاق وأرسل رسلاً بالمنهج ، لكنهم كلما جاء إليهم رسول تباحثوا : هل المنهج الذي جاء به على هواهم أولا؟ . فإن لم يكن المنهج على هواهم قتلوا الرسول أو كذبوه على الرغم من أن الميثاق عهد مؤكد باتباع الرسول إن جاء بمعجزة ومنهج بلاغاً عن الله وتنفيذاً له في حركة الحياة .
لكنّ بني إسرائيل كانوا يتمردون على مناهج الرسل لأنها لا تأتي بما تهواه أنفسهم وأول التمرد التكذيب . وهو أول خطوة في طريق الإخلال بالميثاق ، ولم يكتفوا بالتكذيب ، إنما حاولوا حصار الرسول حتى لا يصل المنهج إلى آذان تهتدي به . ولذلك لا يكتفون بالتكذيب بل قد يقتلون الرسول لأنه جاء بما لا تهوى أنفسهم .
ما هو الهوى أولاً؟ . هو من مادة " الهاء والواو والألف المقصورة التي ترسم ياء " . ونجدها منطوقة مرة هَوى ومرة هواء . ومرة " هوى " بضم الهاء وكسر الواو وتشديد الياء ، وكلها تدل على التغلغل والانحياز . والهوى هو لطف الشيء في النفس والميل إليه . فالشيء تستلطفه في نفسك فتنزع إليه نزوعاً وقد يكون غير مستحب أو غير مقبول ولا مشروع .
وهل كل الهوى كذلك؟ . لا ، لأن هناك هوى الإيمان الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " .
إذن فمن الممكن أن يتجه الهوى إلى الخير . وهو الهوى الذي يحمل النفس على أن يسير الإنسان تبعاً للحق . أما الهواء فهو الذي يتنفسه الإنسان ويستخلص منه الأوكسجين ليغذي به الجسم وتسير به الحياة . ولذلك يقول الأثر : وأقبلْت كالنَّفَس المرتَدِّ .
إنه الإقبال الرقيق ، فنحن نعرف أننا إن أكلنا شيئاً نحبه فإننا نشعر بطعمه ، وعندما نشرب شيئاً نحبه نتذوق طعمه ، أما التنفس فهو أمر لا إرادي فعندما نتنفس شيئاً نحبه يكون إحساساً لطيفاً .
(1/2283)

وهناك نطق ثالث ويعبر عن السقوط ، وهو الهُوِىّ من هَوى يهوى - بالكسر للواو - ولذلك يقال : هُوِىّ الدلو ، أي نزول الدلو إلى المياه التي في البئر . فأي نوع من الهوى تقصده الآية؟
يقول الحق : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } إذن الهوى الذي يُتَحَدّث عنه هنا هو هوى النفس المجردة عن المنهج ، وهو الذي يتحكم في حركة هذه النفس ويقودها إلى غير طاعة الله . وهل ترك الحق النفس الإنسانية دون عاصم لها؟ لا؛ لأنه أنزل الرسل تحمل منهجاً ملخصه " افعل " و " لا تفعل " . وهكذا يمكن أن يصير المنهج قَيِّماً على خواطر النفس .
لكن ما دام الحق قد أراد أن يكون المنهج قَيِّماً على خواطر النفس ، فلماذا أوجد النفس؟ . لقد أوجد سبحانه النفس لأن وجودها ينبني عليه أن يَهوَى إنسان الحق والحلال لاستبقاء النوع وتجويد العمل لحلال الرزق . إذن فالغريزة تكون موجودة وقد خلقها الله لمهمة ، ولكنه يعصمها بالمنهج من الخروج عن مهمتها .
ويقول قائل : ما دام الله قد خلق غريزة الجنس . . فلماذا لا نتركها لتعبر عن نفسها؟ ونقول له : اتق الله واعلم أن الغريزة الجنسية إنما جاءت لبقاء النوع ، واستخدامها فيما يغضب الله فناء للنوع وانحراف يعاقب عليه المنهج .
وكذلك أوجد الحق غريزة حب الطعام ليقيم الإنسان حياته ولم يوجدها للقضاء على الحياة بالنهم والتخمة والشره . وكذلك غريزة حب الاستطلاع ليست موجودة للتجسس على الناس ، ولكن هي لاستكشاف أسرار الكون واستنباط الجديد فيما ينفع الناس . إذن فكل غريزة إنما توجد من أجل مهمة ، فإن خرجت عن مهمتها ، فالشرع يتحكم ويقول : لا . إن هناك إطاراً يمكن أن تستخدم فيه الغرائز ، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز ، ولكن ليعلِىَ من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر .
ويقال في المثل العربي : " آفة الرأي الهوى " فإذا ما وقف اثنان أمام القاضي وأحدهما مظلوم والآخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم حتى وإن كان له هوى مع الظالم . ولذلك نجد الحق قد عصم رسوله فقال : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] .
والسطحيون هم الذين لا يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون : ما دام الحق يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى . ونقول : أنتم لا تحسنون الفهم عن الله ولا عن رسول الله ، فعندما صوّب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم إراده الله ، ولم يعدل حكماً لله حسب هواه الشخصي ، وإنما هو ببشريته صلى الله عليه وسلم كان يصل إلى حكم ما ويراه ثم ترى السماء تعديلاً له ، فينطق محمد بالتعديل كما انزله الله .
(1/2284)

ولم يخالف صلى الله عليه وسلم ربه في أي أمر . وجاء كل تصويب لله في أشياء لم يسبق فيها لله حكم ، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشرى من رسول الله ، ولم يكن في ذلك أي هوى .
وحين قال الحق : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } . إنما يبلغنا أنه لم يكن عند محمد حكم من الله فخالفه الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً لهوى ، فمعنى الهوى أن يكون هناك منهج ثم يعدل عنه ، وكل التصويبات التي صوّبها الله جاءت في أمور لم يكن فيها حكم . ولهذا نجد تصويب الحق لرسوله يتسم باللطف ، فيقول سبحانه : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] .
وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء ، ولكن هو عفو سمح؛ لأن رسول الله أخذ بالاجتهاد البشرى في الأمور التي لم يكن فيها حكم الله ، وهو قول الحق : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرّم أموراً على نفسه ، ولم يحرمها على الناس ، وهنا يوضح له الحق : لا تحرم على نفسك ما أحللتُ لك . إذن هذا أمر لمصلحة الرسول . وعندما جاء زيد بن حارثة ليخبر بين أن يكون مع رسول الله كعبد له ، وأن يكون مع أهله ، آثر زيدٌ رسول الله ، فكافأه صلى الله عليه وسلم بأن جعله في مقام الابن ، وكان التبني معروفاً عند العرب ، ونادى الناس زيدا بزيد بن محمد ، فلما أراد الله أن يبطل التبني قال : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } .
وكلمة " أقسط " تعني أعدل ، ومعناها أن القسط أيضاً في دائرة العدل . وعندما يقال : فلان له القسط ، أي له العدل . إذن فالقسط أولاً لرسول الله ، والأكثر قسطاً هو حكم الله ، فكأنك يا محمد قمت بالقسط عند البشر ، ولكن الله يريد لك الأقسط .
إذن فقوله الحق سبحانه : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } . هو قول لا يستدرك عليه من مخالف لمنهج الإسلام ، فإذا ما قال مخالف لمنهج الإسلام : إن الله يصوب لمحمد ، فكيف لا ينطق محمد عن الهوى؟ . نقول : وهل تعرف معنى الهوى؟ إن الحكم بالهوى يعني أنّه وجد حكما لله فيعدل الحكم لهواه ، ولم يحدث ذلك من سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكل تصويب من الله لم يأت على لسان رجل آخر ، إنما جاء على لسان رسول الله نفسه . وهذه هي منتهى الأمانة في البلاغ عن الله .
والحق يقول عن بني إسرائيل : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } إذن فهم فريقان : منهم من لا يقبل عن الإيمان بالمنهج لهوى في نفسه فيكذب . ومنهم من تمتلئ نفسه باللدد وشدة الخصومة على الرسول ، ويخشى أن يحيا الرسول لإبلاغ قوم آخرين ، فيحاول أن يقتل الرسول .
(1/2285)

والتكذيب هو أول نقطة في اللدد ، ثم هناك من يترقى في اللدد ويخشى أن يصل البلاغ إلى قوم آخرين فيحاول أن يقتل الرسول . والتكذيب هو إنكار لقول أو فعل . أما القتل فهو إزالة لأصل الحياة . والذي يقتل هو الأكثر لدداً .
وتتجلى دقة القرآن حين يأتي الحق بصيغة الماضي ، لفئة وصيغة المضارع لفئة أخرى : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } لأن التكذيب هو تأب من المكذِّب ، أما القتل فهو تأبٍ على وجود الرسول من الذين يكذبون . والأبشع هو القتل؛ لأنه إزالة لكل أثر من آثار وجود المقتول . وجاء التكذيب في صيغة الماضي . وجاء في المسألة البشعة بصيغة المضارع .
فالحدث حين يكون بشعاً فهو يبرد بعد مرور فترة من الزمن . وهذا ما يجعل المجتمع يثور عندما تحدث جريمة بشعة ، ولكن ما إن تمر عليها عشر سنوات ويصدر الحكم بقتل المجرم لا ينفعل الناس ، بل منهم من يتعاطف مع المجرم . ولذلك يحذرنا الحق أن ننسخ من الأذهان صورة قتلهم للرسل ، بل يجب أن نستحضر بشاعته دائما فلا نعطف على الذين قتلوا الرسل ، وقد قال علماء العربية : إن التعبير بالفعل المضارع يكون لاستحضار صورة الفعل .
وساعة يأمر القاضي العادل بالقصاص من إنسان قتل إنساناً آخر ، فهو لا يجعل القتل حدثاً منسياً لأنه ماضٍ ، بل يستحضره في ذهنه وكأن دمه ما زال ينزف ومكان الطعنة واضحاً؛ لأنه لا يأخذ شيئاً مستوراً بالماضي ، بل يأخذ شيئاً واقعاً في الحال . وكأن الحق يأمرنا باستحضار صورة ما حدث أمامنا . ومثال آخر لاستحضار الصورة : نجد الحق يقول لنا : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } [ الحج : 63 ] .
إنه أنزل الماء ، لكنه يتبع ذلك : { فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] .
هو سبحانه يستخدم الفعل المضارع لتظل الصورة في أذهاننا مستحضرة في الحال وفي الاستقبال . والحق يقول : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } وكيف يقول الحق : إنهم يقتلون الرسل ، والرسل لا تقتل ، وأنه سبحانه يريد أن يجعل لهم من العمر ما يمكنهم من تمام البلاغ عنه ، إن الأنبياء فقط هو الذين يجوز عليهم القتل؟ ونقول : إن الأنبياء رسل أيضاً بدليل أن الحق قال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } [ الحج : 52 ] .
إن كليهما مرسل ، والفرق أن الرسول يصحب وينزل معه منهجه ، والنبي مرسل كنموذج هداية بمنهج قد سبق . ويقول الحق من بعد ذلك : { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ . . . }
(1/2286)

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
" وحسب " إن كانت بفتح الحاء وكسر العين فمعناها الظن ، وإن كانت بفتح الحاء وفتح السين فبمعنى " عد " ، والحسبان هو أن تظن وترجع وجود الشيء . والذين أخذ الله عليهم الله الميثاق وهم - بنو إسرائيل - ظنوا أن تكذيب الرسل وقتلهم لا يكون فتنة . ويعني أنهم لم يعلموا علم اليقين ، وقد رجحوا ألا تكون فتنة . والأصل في الفتنة - كما نعرف - هي الاختبار ، إما أن ينجح فيه الإنسان وإما ألاّ ينجح . فكيف جاءهم الظن أن هذا ليس اختباراً؟ لقد جاءهم هذا الظن من الخطأ الذي وقعوا فيه عندما قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .
والخطأ الذي تمادوا فيه عندما قالوا : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] .
لقد ظنوا أن الحق سيعاقبهم فقط على عبادة العجل ولن يعاقبهم على أي شيء آخر . وكان هذا ظناً خاطئاً . إن المنهج لم يأت لينجي أناساً بذواتهم مهما فعلوا ، ولكن المنهج جاء ليحاسب كل إنسان حسب ما عمل . ومن العجيب أنهم ظنوا الظن الخاطئ ولم يقوموا بحساب الأمر بحسابه الصحيح على الرغم من أنهم أهل تفوق في العد والحساب ، فالحساب هو الذي يضمن صحة أمر أو يكذبه . ومن العجيب أن من رحمة الحق بالخلق ساعة يؤاخذهم فهو يقول : لك كذا وعليك كذا . لكن ساعة يرزقهم فهو يرزقهم بغير حساب .
ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك وقال عنهم الحق : { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي ظنوا أن ذلك الأمر لا اختبار فيه وأنهم غير محاسبين عليه . ونعرف أن " أَنْ " تنصب الفعل . وقال لي سائل : لقد سمعت قارئ القرآن في المذياع ينطقها { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } .
وقلت له : إن هناك ثلاثة من أكابر القراء في صدر الإسلام هم : " أبو عمرو " و " حمزة " و " الكسائي " ، وكان لكل منهم أسلوب متميز . وعندما نعلم أن " أنْ " تنصب الفعل لا بد أن يكون الفعل الذي يليها لا يدل على العلم واليقين والتبين ، " فأن " بعد العلم لا تنصب ، كقوله الحق : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض } [ المزمل : 20 ] .
وألفية ابن مالك تقول : ( وبلن انصبه وكي كذابِأَنْ لا بعد علم ) . أما " أن " التي من بعد ظن فمن الممكن أن تنصب ومن الممكن أن يُرفع الفعل بعدها ، فالذي رجح وجود الفعل وأدركه إدراكاً راجحا يرفع ، والذي لم يكن لديه هذا الإدراك الراجح ينصب ، والرفع هو قراءة الكسائي وأبي عمرو وحمزة . فقد بنوا الأمر على أنَّ الرجحان يقرب من اليقين . وما دام قد حدث ذلك تكون " أَنْ " هنا هي " أن " المؤكدة ، لا " أن " الناصبة ويسمونها أن المخففة من الثقيلة فأصلها أنّ .
(1/2287)

{ وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } . وتأتي " فتنة " بالرفع لأنها اسم تكون . و " تكون " من " كان .
و " كان " لها اسم مرفوع وخبر منصوب . وهي هنا ليس لها خبر؛ لأنها مِن " كان التامة " . فهناك " كان الناقصة " وهناك " كان التامة " . ونقول ذلك حتى نتقن فهم القرآن ، مثلما نقرأ قوله الحق : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ . . } [ البقرة : 280 ] .
و " كان " فعل ماضي ، و " ذو عسرة " اسم كان التامة؛ لذلك لا خبر لها؛ لأن المقصود هو القول : وإن وُجِد ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . ولا بد لنا أن نعرف ما معنى " تام " وما معنى " ناقص "؟ نعلم أن كل لفظ ننطق به ويدور حول أمرين اثنين ، إما لفظ مهمل وغير مستعمل وإمّا لفظ مستعمل . والمستعمل هو الذي له معنى يصل إلى الذهن ساعة نطقه ويستقل به الفهم ، فإن كان لا دخل للزمن فيه فهو الاسم ككلمة " أرض " و " شمس " و " قمر " . وهناك لفظ لا يستقل بالفهم كحرف الجر " في " مثلاً . صحيح أنه يدل على شيء في شيء؛ ولكنه لا يستقل بالفهم؛ لذلك لا بد أن ينضم لشيء ، كقولنا : الماء في الكوب أو قولنا : التلميذ في الفصل . فإذا كان للفظ معنى ومستقل بالفهم ، والزمن له دخل فيه فهو الفعل .
مثال ذلك قولنا : السماء . إن السماء كانت في الماضي وهي في الحاضر وهي في المستقبل . إذن فالزمن لا دخل له بها ، وكلمة : كلُوا نجدها تأتي من الأكل ، وهي معنى مستقل بالفهم والزمن جزء منه . ولفظ " في " يدل على معنى غير مستقل بالفهم فلا بد من أن ينضم لشيء آخر .
إذن كل لفظ له معنى ، وهذا المعنى قد يكون مستقلا بالفهم أو غير مستقل ، فإن كان مستقلاً بالفهم فإننا نسأل : هل الزمن جزء منه؟ وفي هذه الحالة يكون " فعلاً " وإن لم يكن الزمن جزء منه فهو الاسم . وإن كان غير مستقل بالفهم ويريد شيئاً آخر ليستقيم المعنى فهو " حرف " .
وهكذا تعرف الألفاظ . والفعل هو " معنى زائد عليه زمن " كقولنا : أكل؛ فهي تعني تناول إنسان طعاماً في زمن ماضٍ ، وهكذا نفهم قولنا : " كان " . فإن قلنا : " كان " بمعنى حدوث شيء في الماضي ، كقولنا " كان زيد مسافراً " فهي ناقصة . وفي ضوء هذا نفهم قول الحق : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
فإن أردت الوجود فقط من غير شيء جديد طارئ عليه ، فالفعل يكون تاماً لا يحتاج إلى خبر .
(1/2288)

وإن أردت الوجود مع أي شيء آخر فهو الفعل الناقص الذي تكمله بخبر . مثل قوله تعالى : { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي ألا توجد فتنة ، فهي لا تحتاج إلى خبر .
وكان مثل بني إسرائيل كمثل التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة ولا يعلم أن فيها اختباراً آخر العام فيُمضي الوقَت في تحصيل ولا جد ولا اجتهاد بل في لهو ولعب ، وكان هذا حسباناً خاطئاً؛ لأن المنهج لم يأت اعتباطاً ، ولكنه جاء كنظام حركة للحياة ليعمله المؤمن . وكان المفروض أن يستقبلوا المنهج على حسب تعاليم المنهج . ومن العجيب أنهم ظنوا ولم يحسبوا بالحساب على الرغم من أنهم أهل علم بالحساب ، فهم حسبوا - بكسر السين - وما حسبوا - بفتح السين - وكان المفروض أن يقوموا بالحساب ، فالحساب هو الذي يضمن صحة المسائل .
وكل شيء عند الله يكون بالحساب ، حساب للعبد وحساب على العبد . { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي ظنوا أنها ليست اختباراً . وظنوا أن الرسالات والمناهج هي مسألة لا اختبار لهم فيها ، فلما عرفوا تعاموا عن ذلك وصموا آذانهم عنه . ونعلم أن وسائل الإدراك في النفس البشرية هي السمع والأَبْصار والأفئدة : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] .
إذن فوسائل الإدراك : سمع ، وبصر ، وفؤاد . وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه . أما ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كل غير له . وبذلك يكون السمع اكثر اتساعاً من العين . والسمع هو وسيلة الإدراك التي توجد أولاً في الإنسان حين يولد . ونجد المولود لا يهتز عندما يقترب شيء من عينيه؛ لأنه لا يرى بدقة وقد يستمر ذلك لمدة عشرة أيام ومن بعد ذلك يبدأ في الرؤية . لكن الطفل إذا سمع صوتاً بجانب أذنيه ينفعل ، كأن حاسة السمع هي التي توجد أولاً ، ولذلك يأتي لنا الحق بذك السمع أولاً ومن بعد ذلك الأبصار ثم الأفئدة .
" فعموا وصموا " وهو سبحانه يسألهم أولاً عن التجربة الشخصية فيهم . ولم يسألهم عن الذي سمعوه عن غيرهم فقط ، " فعموا " أي لم يروا حتى الأمور المتعلقة بهم ، ولم ينظروا في آيات الكون ولم يسمعوا البشير ولا النذير ولا المنهج من الله ولا اتفقوا على تنفيذه . وسبحانه يعاتبهم أولاً أنهم لم يستعملوا عيونهم . وحتى لو افترضنا أنهم لم يروا آيات الكون بأنفسهم فما بالهم لا ينظرون وقد جاءهم الرسول ودعاهم لينظروا في كون الله وأن يعتبروا .
فإذا كانوا أولاً في غفلة فلم يروا ، فلماذا لم ينتبهوا ويسمعوا سماع إذعان وانقياد عندما جاءهم البشير والنذير لينبههم؛ لذلك " فعموا وصموا " منطقية جداً هنا .
وبعد ذلك قبل الله منهم ، وأنجاهم من فرعون وفلق لهم البحر ، وعبروا ، ولكنهم بمجرد خروجهم من البحر ، ومروا على قوم يعكفون ويلزمون ويقبلون على أصنام لهم يعبدونها .
(1/2289)

قالوا لموسى : نريد إلهاً كما لهم آلهة . وأمرهم موسى أن يتوبوا وقبل الله توبتهم . مع كثرة ما ارتكبوا من ذنوب . ومن بعد ذلك يتوب الله عليهم . { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } .
والتوبة هي فتح مجال للنفس السوية لتنطلق في الخير من جديد ، فلو لم يتب الله على من أذنب فماذا يكون موقف المذنب بلا توبة؟ إنه يتمادى ويحس أنه ذاهب في طريق الشر بلا عودة . وحين يقبل الحق توبة المذنب ، فذلك معناه أنه سبحانه يريد أن يحمي المجتمع من شره . والتوبة مراحل : الأولى : حين يشرع الله التوبة ، والثانية : أن يتوب العبيد ، والثالثة : هي قبول الله للتوبة . وهذا ما جاء به الحق : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] .
ماذا تعني توبة الله عليهم؟ سبحانه لن يتوب عليهم توبة القبول إلا بعد أن يتوبوا . إذن فتوبة الله عليهم الأولى هي التشريع لهم بالتوبة ، ثم توبتهم ، ثم قبول الحق للتوبة . لكن هؤلاء عموا وصموا ، وعلى الرغم من ذلك لطف الله بهم . فماذا حدث منهم بعد ذلك؟ عموا وصموا مرة أخرى { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .
و " عموا " مأخوذة من الفعل " عمى " ، ومثلها مثل " أكلوا " و " شربوا " و " حضروا " ، فأين الفاعل؟ الفاعل هو " واو الجماعة " . وابن مالك قعّد لهذه المسألة ، فساعة تسند الفعل إلى اثنين أو إلى جماعة ، فلا بد أن تجرد الفعل من علامة التثنية أو الجمع ، فلا تقول : " قاما زيد وعمرو " ولكن تقول : " قام زيد وعمرو " ، ولا نقول : " قاموا التلاميذ " بل نقول : " قام التلاميذ " ، لأن مدلول " الواو " هو مدلول " التلاميذ "؛ قال ابن مالك :
وجرد الفعل إذا ما أسندا ... لاثنين أو جمع ك " فاز الشهدا "
أي أن الفعل إذا أسند لمثنى أو مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع . أما كلمة كثير فتعرب إما على أنها البدل من واو الجماعة ، وإما على إضمار مبتدأ أي العُمْىُ والصُّم كثير منهم ، وإما على أنها فاعل ويكون ذلك قد جاء على لغة طائفة من العرب وهم بنو الحارث بن كعب ، وهؤلاء قد يأتون بعلامة تدل على التثنية أو الجمع إذا أسند الفعل إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع مثل : قاموا الرجال وسافرا محمد وعلي .
وحمل بعضهم قوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } على هذا ، وكان قول الحق : { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } صيانة للاحتمال بأن قلة منهم تدير أمر الإيمان في قلوبهم ، وكلمة " كثير " جاءت حتى تنبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يهمل أبداً القلة التي تدير أمر الإيمان في خواطرهم . ليؤكد ويعاضد ما جاء في قوله تعالى : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } . { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } و " بصير " مثلها مثل " عليم " ، أي شاهد وليس مع العين أين . ويقول الحق من بعد ذلك : { لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا . . . }
(1/2290)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
وهناك ثلاث آيات تتعرض لهذه المسألة : { لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } . والآية الثانية : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .
والآية الثالثة : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [ المائدة : 116 ] .
إذن فالخلاف في المسألة جاء على ثلاث صور :
طائفة تقول : المسيح هو الله . وطائفة تقول : إن المسيح هو إله مع اثنين آخرين . وطائفة تقول : إن المسيح هو وأمه إلهان . ولكل طائفة رد . والرد يأتي من أبسط شيء نشاهده في الوجود للكائن الحي ، فالإنسان - كما نعرف - سيد الكون والأدنى منه يخدمه . فالإنسان يحتاج إلى الحيوان من أجل منافعه ، وكذلك يحتاج إلى النبات والجماد ، هذا السيد - الإنسان - يحتاج إلى الأدنى منه . والحق سبحانه وتعالى أراد أن يرد على تأليه سيدنا عيسى وسيدتنا مريم ، فقال : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } [ المائدة : 75 ] .
وهذا استدلال من أوضح الأدلة ، لا للفيلسوف فحسب ولكن لكل المستويات ، فماداما يأكلان الطعام فقد احتاجا إلى الأدنى منهما . والذي يحتاج إلى الأدنى منه لا يكون الأعلى ولا هو الواحد الأحد . والمتبعون لهذه الفرق الثلاثة مختلفون .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } وكلمة { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } تستعمل على أنه واحد من ثلاثة لكنه غير معين . فكل ثلاثة يجتمعون معاً ، يقال لكل واحد منهم إنه { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } . وليس هذا القول ممنوعاً إلا في حالة واحدة ، أن نقول : ثالث ثلاثة آلهة؛ لأن الإله لا يتعدد . ويصح أن نقول كلمة : " ثالث اثنين " لأن الله يقول : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] .
إذن فمن الممكن أن نقول : هو رابع ثلاثة ، أو خامس أربعة أو سادس خمسة . وهو الذي يصير الثلاثة به أربعة أو يصير الأربعة به خمسة أو يصير الخمسة به ستة . إننا إن أوردنا عدداً هو اسم فاعل وبعد ذلك أضفناه لما دونه ، فهذا تعيين بأنه الأخير . فإن قال قائل : الله رابع ثلاث جالسين فهذا قول صحيح . لكن لو قلنا إنهم آلهة . فهذا هو المحرم ، والممنوع؛ لأن الإله لا يتعدد .
ويلاحظ أن الحق لم يقل : ما يكون من نجوى اثنين إلاّ هو ثالثهم؛ لأن النجوى لا تكون إلا من ثلاثة ، فإن جلس اثنان معاً فهما يتكلمان معاً دون نجوى؛ لأن النجوى تتطلب ألا يسمعهم أحد . والنجوى مُسَارَّةَ ، وأول النجوى ثلاثة ، ولذلك بدأها الحق بأول عدد تنطبق عليه . فإن قلت : " ثالث ثلاثة " فهذا قول صحيح إن لم يكونوا ثلاثة آلهة .
والحق أراد أن يدفع هذا القول بالبطلان حين قال : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } .
(1/2291)

والطعام مقوم للحياة ومعطٍ للطاقة في حركة الحياة؛ لأن الإنسان يريد أن يستبقي الحياة ويريد طاقة ، والطعام أدنى من الإنسان لأنه في خدمته ، فإذا ما كانا يأكلان الطعام فهما في حاجة للأدنى . وإن لم يأكلا فلا بد من الجوع والهزال .
ولذلك فهما ليسا آلهة . بعضهم يقول : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } هي كناية عن شيء آخر هو إخراج الخبث . ونقول : ليس إخراج الخبث ضرورياً لأن الله سيطعمنا في الجنة ولا يخرج منا خبث . فهذا ليس بدليل . ويرتقي الحق مع الناس في الجدل ، فاليهود قالوا في المسيح - عليه السلام - ما لا يليق بمكانته كنبي مرسل وقالوا في مريم عليها السلام ما لا يليق باصطفائها من الحق .
واليهود إذن خصوم المسيح . وأنصار المسيح هم الحواريون! فإذا كان لم يستطع أن يصنع من خصومه ما يضرهم ولا مع حوارييه ما ينفعهم فكيف يكون إلهاً؟ والنص القرآني يقول عن مريم : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } [ آل عمران : 43 ] .
والمسيح نفسه كان دائماً مع الله خاشعاً عابداً . والذي يعبد إنما يعبد من هو أعلى منه؛ فالإله لا يعبد ذاته . وإذا كان هذا قول من ينتسبون إلى السماء إيماناً بإله وإيماناً بمنهج ، فماذا عن قول الذين لا ينتسبون إلى السماء من الملاحدة الذين ينكرون الأولوهية؟
إذن كان من الواجب أن يؤمن المنسوبون إلى السماء بواسطة مناهج وبواسطة أنبياء وأن يصفوا هذه المسائل فيما بينهم . وعلى سبيل المثال كان العالم موجوداً ومداراً قبل المسيح فمن إذن كان يدير العالم من قبل ميلاده؟ ولذلك أراد الحق سبحانه جل جلاله أن يحسم الموقف . والقرآن يعلمنا : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
أيمكن أن يكون المتناقضان محقين؟ لا؛ لأن أحدهما لا بد أن يكون على هدى ولا بد أن يكون الآخر على ضلال . ولذلك نقول : كلامكم لا يلزمنا وكلامنا لا يلزمكم . ونفوض الأمر إلى الإله الذي نؤمن به . وحتى نصفي هذه المسألة نذكر قول الحق : { نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } [ آل عمران : 61 ] .
ونقول : اجعل لعنتك على الكاذبين . حتى تخرجنا من هذا الخلاف ولا تجعل واحداً منا يسطير على الآخر ، فأنت صاحب الشأن ، فها نحن أولاء بأنفسنا ونسائنا وأولادنا ندعو دعاءً واحداً : اجعل لعنة الله على الكاذبين منا . وما تلاعن قوم وابتهلوا إلا وأظهر الله المسألة في وقتها . ولم يقبل أحد من أهل الكتاب هذه المباهلة ، والحق يقول : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين . . . }
(1/2292)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
إذن فالذين لا يعلنون التوبة عن ذلك يقعون في الكفر ويعذبون . ثم يقول الحق : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله . . .
(1/2293)

أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
فكأن هذا القول يقتضي التوبة واستغفار الحق .
ويقول سبحانه بعد ذلك : { مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ . . . } .
(1/2294)

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
و " أفك " يعني انصرف أو صُرف ، أي يصرفهم غيرهم . وهذا يعني أن هذا إيعاز من الشيطان؛ لأن المسيح عليه السلام ما هو إلا رسول مثل من سبقوه من الرسل وأمه ( صدِّيقة ) مصدِّقة بما جاء به ، والدليل على بشريتهما أنهما يحتاجان كسائر البشر لما يَقوَّم حياتهما من طعام وشراب وكساء ، والأولوهية المدّعاة منهم تتنافى مع هذا الاعتقاد وهذا هو الإفك بعينه الذي يتصادم مع العقل المجرد عن الهوى .
يقول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ . . . }
(1/2295)

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
والعقل يستنكر أن نعبد أحداً غير الله ، فغيره لا يملك أن يصنع الضر للخصوم ، ولا النفع لنفسه أو لأشياعه وأنصاره بدليل أن الأعداء فعلوا ما فعلوه وما ملك عيسى عليه السلام أو الحواريون أن يضروهم ولا استطاعوا أن يفعلوا شيئاً ينفعون به أنفسه .
ويختم الحق الآية بقوله : { والله هُوَ السميع العليم } . وكلمة " السميع " تدل على قول . وكلمة " العليم " تدل على شيء يدور في الخواطر ، والشيء الذي يدور في الخواطر أهو حراسة سلطة زمنية جعلتهم يقولون هذا الكلام؟ إنه سبحانه العليم بذلك . فإن كان قد حصل كلام فهو قد سمعه ، وإن كانت قد دارت خواطر في النفس فهو يعلمها؛ لأن العاقل قبل أن يتكلم لا بد أن يدير الكلام في النفس . وكل كلام لا بد له من نزوع . وهو سبحانه السميع العليم أزلا وأبدًا .
ويقول الحق : { قُلْ ياأهل الكتاب . . . }
(1/2296)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
عندما يوجد شيء مشترك بين النصارى واليهود يحدثهم الله بقوله : { قُلْ ياأهل الكتاب } أما الشيء الخاص فهو يتحدث به لكل فئة بمفردها . والغلو هو أن يتطرف إنسان في حكم ما إيجاباً أو سلباً . وهو إما الإفراط في المنزلة العالية وإما التفريط في المنزلة الدنيا . ولذلك نجد المتناقضات دائماً في الغلو . " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لسيدنا علي - كرم الله وجهه - : يا عليّ ، يهلك فيك رجلان . . محب غال ومبغض غال " ويقول : " يا عليّ لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " .
ويقول : " يا علي ستقاتلك الفئة الباغية "
إن هناك من أحب سيدنا عليًّا إلى درجة أنهم اعتبروه نبياً وقالوا : إن الوحي أخطأ عليًّا وجاء إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أو اعتبروا عليًّا إلهاً!! وكل ذلك غلو ، فقد أحبّوه إلى منزلة فيها غلو وإفراط .
أما الخوارج فقد قالوا عن سيدنا علي : إنه كافر . جاء الغلو - إذن - من ناحية المحبين فجعلوه نبياً أو فوق ذلك مما يدخلهم في الشرك ، أو من المبغضين القائلين بتكفيره وإخراجه من دائرة الدين ، ولذلك يجب ألاّ نغلو في الدين فلا نحب إنساناً ونرفعه فوق مستوى البشر ، ولا نبغض إنساناً وننزل به إلى الحضيض . بل يجب أن نعطي كل واحد قدره ومقداره الذي وضعه الله فيه؛ لأن وضع الله له هو تكريمه : { قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] .
وجاء مثل هذا القول في آية أخرى : { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } [ النساء : 171 ] .
وحتى نفهم أن مسألة الغلو إنما جاءت في ادعاءات ألوهية البشر؛ قال الحق بعد ذلك : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ النساء : 171 ] .
فلا داعي للغلو بنسب الأولوهية له أو أنه ثالث ثلاثة . فإن كنتم متشككين ووصلتم إلى هذا الشك بسبب عدم عنصر الذكورة في مجيء عيسى ، فافهموا أن كل الأشياء جاءت ب " كن "؛ لأنه وإن وجُدت مقدمات للإنسان ، فَرَقَّ هذه المسألة إلى واحد لم يأت من إنسال ، وستصل إلى آدم وآدم من تراب؛ إذن كل الكون كلمة . وإن وجدت أسباباً فما طمره الله في الكلمة الأولى ، فحين يجيء إنسان أُنشئ بكلمة فلا تقولن : إن هذا شيء عجيب؛ لأن الكون كله إنما نشأ بكلمة : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
وإن كانت الفتنة قد نشأت في ظاهر الأمر من أن المسيح ليس له أب في عالم الإنسال وقانون التناسل ، فما كان يجب أن تكون الشبهة في هذا؛ لأنه مخلوق من أم ، وآدم مخلوق بلا أب ولا أم .
(1/2297)

وكان يجب أن تكون الفتنة في آدم أكبر . والكلمة من الله تنشئ حياة . والحياة إدخال روح في مادة لتهبها الحركة والحس ومقومات الحياة . إذن فالكلمة تقال من الله فتأتي الروح لتدخل في المادة : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } . { وَرُوحٌ مِّنْهُ } مثلها مثلما قال في آدم : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] .
إذن فآدم كلمة ، وآدم روح منه ، وكذلك المسيح ، فلا شبهة هنا ولا شبهة هناك . ويطلب الحق من المنسوبين إلى السماء : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } . فإذا كنتم منسوبين إلى السماء فلا تذبذبوا أفكار الناس بمثل هذه المسائل ، وكان يجب أن تقفوا بعيسى عندما أراد الله له من التكريم؛ لأن التكريم هو أن يكون أسوة حسنة ، فلو كان من جنس آخر غير البشر لا متنعت الأسوة فيه؛ لأن الأسوة إنما تكون من جنس من يتبعها ، فلو رأه الناس خاشعاً متعبداً لما استطاعوا أن يفعلوا مثله لو كان من مادة أخرى غير مادة البشر .
وقلت مرة : لو أن إنساناً رأى أسداً يفترس في الغابة ويصول ويجول على الحيوانات ، أيفكر واحد من الرائين أن يجعل نفسه أسداً؟ . لا . لكن لو رأى فارساً مثله شجاعاً في حرب يصول ويجول في الأعداء فهو يقلده ويحاول أن يكون مثله . إذن فالأسوة لا تكون إلا مع وحدة الجنس ، فلو أنه لم يكن من جنس البشر لما صلح أن يكون رسولاً .
{ قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق } لقد جاء الحق هنا بالحديث شاملاً لكل أهل الكتاب؛ لأن كلا منهما جاء بطرفي الأمور . فاليهود اتهموا سيدتنا البتول المصطفاة مريم بما ليس فيها ، وأولئك جاءوا بالمغالاة في الجهة الأخرى؛ لذلك يأمرهما الحق بعدم المغالاة؛ لأن الحق لا يتعاند؛ فهو شيء ثابت لا يتغير أبداً ولا يتعارض . والإنسان إن رأى حدثاً من الأحداث بعينيه ثم طُلب منه أن يحكيه فهو يحكيه الآن ويحكيه غداً ويحكيه بعد عام وتظل روايته واقعاً لأنه شهده وهذا هو الواقع المشهود يفرض نفسه عليه ، لكن الكاذب لا يذكر ذلك ، وقد يقول قضية ويكون فيها كاذبا فلا بد أن يغير من الحقيقة عندما يحكيها لمرة ثانية . ولذلك يقال " إن كنت كذوباً فكن ذكوراً " .
إن الذي يحكم الحق هو واقعة؛ لأن المتكلم به يستقرئ واقعاً . لكن الكاذب لا يستقرئ واقعاً فلا يعلم ماذا كذب في المرة الأولى . ونذكر الكاذب الذي جلس يقول : مرة كنا سائرين وخرجنا من القرية ذاهبين إلى المدينة لنأتي بحاجات عيد الفطر . وكانت الدنيا قمراً كالظهر وقوله : " قمراً كالظهر " هي التي تكشف كذبه ، فكيف يكون في ليلة العيد قمرٌ ، وأول ليلة في عيد الفطر هي أول ليلة في شوّال ، وليس فيها أي قمر ، الهلال يكاد يكون مخفياً .
(1/2298)

إذن فالذي يستوحي واقعاً لا يتغير كلامه لأنه حق . والذي يستوحي غير الواقع لا يذكر ماذا قال فيخلط . لذلك لا يقولن إنسان غير الحق لأن قوله سيتضارب . وإذا تضارب هذا القول في مسألة الألوهية فإن الناس قد تشك في منهج السماء الذي يتبعونه . وإذا شك الناس في منهج السماء فسيكون عليكم وزر إضلال الناس؛ لأن الذي يتعرض لهذه القضية يجب ألا يجرب الناس عليه أي شيء من المخالفة . ولذلك قال سيدنا إبراهيم عليه السلام : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الممتحنة : 5 ] .
لماذا قال سيدنا إبراهيم هذا الدعاء؟؛ لأنه إن قال شيئاً ثم عمل بما يناقضه فقد يتصور من يراه أنه - والعياذ بالله - كذاب .
{ قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } ويا ليتهم ضلوا فقط في ذواتهم بل هم يحاولون إضلال غيرهم . لذلك قال سبحانه : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] .
وسبحانه يوضح لهم : لا تفعلوا ذلك حتى لا تضلوا؛ لأن وزرك أن تعمل ، وهناك وزر آخر هو أن تُضلِّل غيرك . ولذلك يقول الحق : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] .
قال الحق ذلك مع أنه قال : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . حتى نفهم الأمر علينا أن نعرف أن الوزر الأول هو وزر الضلال؛ والثاني هو وزر الإضلال .
{ وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ } أي لا تقلدوا أناساً اتبعوا الهوى . والهوى هو لُطف موقع الشيء وقربه إلى النفس فيصنعه الإنسان على طريقة لا تنبغي . ولذلك كل كلمة " هوى " في القرآن جاءت في مجال الخسران والضلال . وعندما نقرأ قوله الحق : { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } .
وهو القائل سبحانه : { واتبع هَوَاهُ فتردى } .
وقد جاء الهوى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به "
أي المطلوب أن يطوِّع الإنسان هواه لمطلوب الله . وما دام قدْ طوِّع هواه لمطلوب الله ، فهذا يعني أن هواه الشخصي قد امتنع . { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } . إن هذا هو النهي عن اتباع الهوى الذي يضل ويكون سبباً في الإضلال عن سواء السبيل .
ويقول الحق بعد ذلك : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ . . . }
(1/2299)

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
الحق سبحانه وتعالى يعطي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة تصبره على ما يلاقيه من خصومه من أهل الكتاب ، وكأنه يقول له : إن هذا الأمر ليس بدعاً وليس عجيباً؛ لأن تاريخ أهل الكتاب الطويل يؤيد هذا ، فها هوذا موقفهم من نبي الله داود ، وكذلك موقفهم من عيسى ابن مريم عليه السلام . وهذا يجعل لك أسوة بهؤلاء الرسل الذين نالهم من أذى هؤلاء . فالمسألة ليست خاصة بك وحدك ، وإنما هي طبيعة فيهم ، ويبسط سبحانه في التسرية عن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يجعل موقفه موقف الصلابة الإيمانية التي لا تخاف ولا تهتز . فينسب هذه الأشياء لنفسه فيقول : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] .
فمرة قالوا عن الرسول : إنه مجنون ، ومرة أخرى قالوا : " ساحر " وثالثة قالوا : " كذاب " . وهم يعرفون كذبهم ، فهم على الرغم من اتهامهم للرسول بالكذب والجنون والسحر إلا أنهم لا يأمنون أحداً على مصالحهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو الأمين دائماً . وكان لهم أن يتعجبوا من موقفهم هذا ، ومن صدهم عن دين الله بالكفر ، وعلى الرغم من ذلك فعندما يكون هناك شيء ثمين ونفيس فلا يُؤمَن عليه إلا محمد بن عبدالله .
ما هذا الأمر العجيب إذن!!
لقد عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة رسالته - ما في ذلك ريب - ولكن لأن لهم أهواء أصرّوا على الضلال تمسكاً بالسلطة الزمنية . هم يعرفون أن محمداً هو الأمين . ولذلك نرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع عليّاً - كرم الله وجهه - ويتركه في مكة ليؤدي الأمانات التي كانت عنده لهؤلاء جميعاً .
إذن { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } . أي أنك يا رسول الله عندهم الصادق . أنت عندهم يا رسول الله الأمين . أنت عندهم يا رسول الله في منتهى السمو الخلقي . ولو لم تقل أنك رسول من الله لكانوا قد رفعوك إلى أعلى المنازل . ولكنك ببلاغك عن الله زلزلت سلطتهم الزمنية .
ولقد حاولوا أن يثنوك عن الرسالة ، فعرضوا عليك الملك ، وعرضوا عليك الثراء ، ولو كنت تقصد شيئاً من ذلك لحققوا لك ما تريد . ولكنك تختار البلاغ الأمين عن الله .
لقد عرضوا عليك الملك طواعية . وعرضوا عليك الثروة . وزينوا لك أمر السيادة فيهم شريطة أن تتخلى عن الرسالة . لكنك تختار السبيل الواضح الذي لا لبس فيه على الرغم مما فيه من متاعب ، تختار السبيل الذي يكلفك أمنك وأمن من يتبعك . إنك تتبع ما أنزل إليك من ربك .
ومن بعد ذلك جاءوا ليحاصروك في الشِّعب ليمارسوا معك الحصار الاقتصادي بتجويعك وتجويع من معك .
(1/2300)

ومع هذا كله ما تنازلت عن البلاغ . وكان يجب أن يفطنوا إلى أنك لا تطلب لنفسك شيئاً ، لا المال ولا الجاه بل أنت رسول من الله لا تأكل من صدقة أحد ، لا أنت ولا أهلك . وكان يجب أن يتساءلوا : لماذا تدخل بنفسك إلى هذه الحرب الضارية؛ فلا أنت طالب جاه ولا أنت طالب مال ، ولا أنت طالب لمتعة من تلك المتع . وكان يجب أن يأخذوا العبرة ، فهم يعرضون عليه كل هذه الأشياء . وهو يرفضها؛ لأنه خاتم الأنبياء؛ لذلك يتمثل فيه خير كل من سبقه من الأنبياء . يتمثل فيه على سبيل المثال ما قاله سليمان لوفد بلقيس ملكة سبأ : { فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [ النمل : 36 ] .
إذن كان يجب على الناس أن يفطنوا إلى أن النبوة حينما تأتي إنما تأتي لتلفت الناس إلى السماء وإلى منهجها ولتنتظم حركة حياتها في الكون ، وأن المنتفع أولاً وأخيراً بالمنهج هم أنفسهم؛ لأنهم هم الذين يشقون بمخالفتهم منهج الله .
وليجرد كل إنسان نفسه من كل شيء ولينظر إلى المنهج ولسوف يجد أنه في صالحه . فها هوذا سليمان الذي دانت له الدنيا وأُعْطِيَ ملكاً لم يعطه الله لأحد من بعده فسخر الله له الريح وسخر له الجن يفعلون له ما يشاء . وكان سليمان يعطي الدقيق النقي للعبيد ليستمتعوا بالطيبات ، ويأكل هو ما تبقى من نخالة الدقيق ، وكان ذلك دليلاً من الله أن هذه المناهج ليست لصالح نبي ، ولكن كل نبي إنما يريد بالمنهج صالحَ من أُرسل إليهم .
وكانت مقاومة أهل الكتاب لنبي الله داود ، وكيف أنهم اعتدوا في يوم السبت فدعا عليهم داود عليه السلام فمسخهم الحق قردة ، ولعنهم في الزبور ، وكذلك قالوا الإفك في مريم البتول ولعنهم الله في الإنجيل ، ولم يكن اللعن إلا بناءً على ما فعلوا؛ لذلك يذيل الحق الآية بالقول : { ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
والعصيان - كما نعلم - هو العصيان في ذات الإنسان وفي أموره الخاصة التي لا تتعدى إلى الغير ، أما الاعتداء فهو أيضاً معصية ولكنها متعدية إلى الغير . مثال ذلك : الحاقد إنما يعاقب نفسه ، أما السارق أو المرتشي فهو يضر بغيره . إذن فهناك معصية وهناك عدوان ، المعصية تعود على صاحبها دون أن تتعدى إلى الغير ، أما العدوان فهو أخذ حق من الغير للنفس ، وضرر يرتكبه الفرد فينتقل أثرة إلى الغير .
ويقول الحق من بعد ذلك : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ . . . }
(1/2301)

كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
ونعلم أن حراسة منهج الله تعطي الإنسان السلامة في حركة الحياة على الأرض . وقد جعل الحق سبحانه في النفس البشرية مناعة ذاتية ، فساعة توجد في الإنسان شهوة على أي لون سواء في الجنس أو في المال أو في الجاه . فقد يحاول الوصول إليها بأي طريق ، ولا يمنعه من ذلك إلا الضمير الذي يفرض عليه أن يسير في الطريق الصحيح . هذا الضمير هو خميرة الإيمان ، وهو الذي يلوم الإنسان إن أقدم على معصية ، هذا إن كان من أصحاب الدين .
ولنا أن ندقق في هذا القول القرآني لأنه يحمل الوصف الدقيق للنفس البشرية في حالتها المتقلبة ، فها هوذا قابيل يتحدث عنه القرآن : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } [ المائدة : 30 ] .
ومن بعد ذلك ، قتل قابيل هابيل ، ثم هدأت النفس من سعار الغضب وسعار الحقد ، وانتقل قابيل إلى ما يقول عنه القرآن : { فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } [ المائدة : 30 ] .
فبعد أن غواه غضبه إلى أن قَتَل أخاه وسلبه الحياة . يبعث الله له غراباً ليريه كيف يواري سوأة أخيه؛ لأنه لم يكن يعرف كيف يواري جثمان أخيه . وانتقل بالندم من مرحلة أنه لم يرع حق أخيه في الحياة فأراد أن يرعى حق مماته ، إذن فالنفس البشرية وإن كانت لها شهوات إلا أن لها اعتدالا مزاجيا يتدخل بالندم عندما يرتكب الإنسان إثماً أو معصية . ولذلك تجد كثيراً من الناس تعاني من متاعب لأنهم ارتكبوا معاصي ، لكنهم يريدون الاعتراف بها لأي إنسان وأي إنسان يتلقى الاعتراف ليست لديه القدرة على تدارك آثار تلك المتاعب؛ لأنها وقعت وانتهى الأمر .
لكن لماذا يريد الإنسان أن يعترف لأخر بمعصية؟ . إنه اعتراف للتنفيس؛ لأن كل حركة في النفس البشرية ينتج عنها تأثير في النزوع ، فعندما يغضبك أحد فأنت تنزع إلى الانتقام ، ولهذا يأمرك الشرع حين يغضبك أحد أن تغير من وضعك وقل : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } . حتى تصرف الطاقة السعارية عندك ، فإن أغضبك أحد وأنت قائم فاقعد ، وإن كنت قاعدا فاضطجع ، وأن كنت ثابتاً في مكان فلتسر بضع خطوات . والشرع حين يطلب منك أن تتحرك لحظة الغضب فذلك ليزيل من جسدك بعض الطاقة الفائضة الزائدة التي تسبب لك الغليان فتقل حدّة الغضب .
ولذلك فالشاعر العربي ينصح كل مستمع للشكوى ألا يرد السماع بل يصغي لصاحب الشكوى؛ لذلك يقول :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وحينما تظهر المشاركة لصاحب الشكوى فأنت تريحه ، وتهديه إلى الاطمئنان . وينصح الشاعر صاحب الشكوى أن يضعها عند ذي المروءة؛ لأن ذا المروءة إنما يعطيك أذنه ومشاعره وهو جدير أن تستأمنه على السّر ، وكأن الأسرار في خِزانة لن يعرف أحد ما بداخلها ، وبمثل هذا الاعتراف يريح الإنسان نفسه ، ويصرف انفعاله إلى شيء آخر .
(1/2302)

وعندما تكرر النفس البشرية فعل السوء ولا تجد من ينهها أو ينهاها ، فالسوء يعم وينتشر ، هنا تتدخل السماء بإرسال رسول .
ويوضح الحق أن السبب في إرسال رسول لهؤلاء الناس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، والتناهي عن المنكر إنما يكون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، ولا يظنن المؤمن أنه بمنجاة عن خاطر السوء في نفسه لأن كلاً منا بشر . وعرضة للأغيار ، ومن لطف الله لحظة أن يهب خاطر السوء على مؤمن أن يجد أخاً خالياً من خواطر السوء فيواصيه بالحق ويواصيه بالصبر؛ لأن الفرد إن جاءه سعار الشهوة في اللحظة التي يجيء فيه السعار نفسه عند صديق له فقد يتفقان على المنكر ، أما إن جاء سعار الشهوة لإنسان وكان صديقه مؤمناً خالياً من خواطر السوء ، فهو ينهاه ويوصيه بالحق والصبر . وهكذا . يتبادل المؤمنون التناهي بالتواصي؛ فمرة يكون الإنسان ناهياً ، ومرة أخرى يكون الإنسان منهياً .
وكذلك أعطى الله هذه المسألة كلمة التواصي : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1-3 ] .
ولم يخصص الحق قوماً ليكونوا الناهين ، وقوماً آخرين ليكونوا المنهيين ، لا ، بل كل واحد منا عرضة أن يكون ناهياً إن اتجهت خواطر صاحبه إلى الحرام ، وعرضة أيضاً لأن يكون منهياً إن كانت نفسه تتجه إلى الحرام ، وبذلك نتبادل النهي والتناهي ، ويسمون ذلك " المفاعلة " مثلما نقول : " شارك زيد عمرا " ، ولا يشارك الإنسان نفسه إنما يشارك غيره ، ومعنى هذا أن هناك شخصا قد كان فاعلا مرة ، ومرة أخرى يكون مفعولاً ، وكيف تكون صيغة التفاعل هذه؟ . إنها مثل " تشارك " و " تضارب " أي أن يأتي الفعل من اثنين . ومن السهل إذن أن ينهي إنسان صديقاً له أو ينهاه صديق له . وقد نفسرها على أن الجميع ينهى نفسه بفعل القوة الخفية الفطرية التي توجد في كل نفس ، أي أن كل نفس تنهى نفسها . إذن فالتفاعل إما أن يكون في النفس وإما أن يكون في المجتمع .
{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } ولننتبه هنا إلى أنهم قد فعلوا المنكر بالفعل ، فكيف يكون التناهي عن المنكر؟ . يمكن أن نفهم العبارة على أساس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله ، أي أن الإنسان منهم كان يرى زميلاً له يتهيأ لارتكاب منكر فلا ينهاه . ومثلها في ذلك قوله الحق : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } [ المائدة : 6 ] .
وهذا القول لا يعني أبداً أن يتوضأ الإنسان بعد أن يدخل في الصلاة . إنما يعني أن نبدأ الوضوء لحظة الاستعداد للصلاة ، يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأداءها .
وقوله الحق : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } يجعلنا في حالة انتباه وفراسة إيمانية ويقظة .
(1/2303)

ويلتفت كل منا إلى نفسه ويرقبها ويراقبها ، وإلى أي اتجاه تسير ، فلا يترك الإنسان نفسه تتجه إلى أي مكان موبوء أو فعل غير مستقيم . وكذلك ينتبه الإنسان إلى أصدقائه وأخلائه حتى نتناهى عن أي منكر فلا نقع أبداً في دائرة هذا الحكم { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } وساعة نسمع " لبئس " فلنعرف أن اللام إذا سبقت فهي للقسم ، وحين يقسم الله فهذا تأكيد للقضية ، فهل هذا تأكيد على طريقتنا نحن البشر؟ . لا . فليس أحد منا كالله ، ونحن في حياتنا نعرف الأدلة على الحق ، إما إقرار ، وإما شهادة ، وإما قسم .
والقاضي لا يحكم إلا بإقرار المتهم أو بشهادة الشهود ، أو باليمين ، وحين يأتي الحق بالحكم فهو يأتي به على معرفة الخلق . وعدم التناهي عن المنكر هو فعل وقول معا . وبما أن الحق لم يقل : لبئس ما كانوا يقولون ، ذلك أن القول مقابل للفعل ، وكلاهما أيضاً عمل ، فالقول عمل جارحة اللسان ، والفعل هو عمل الجوارح كلها ، ويجمع القول والفعل وصف " العمل " . ونلحظ أن المسألة لا تقتصر على القول ، إنما هي عمل قد نتج عن فعل .
ولنر الحديث النبوي القائل : " من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان " .
وقوله الحق : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } دليل على أنهم كانوا يفعلون المنكر والقبيح قولاً وعملاً .
ويتابع الحق من بعد ذلك فيقول : { ترى كَثِيراً . . . }
(1/2304)

تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
ونلحظ الفارق بين أن يخبر الحق رسوله بأمور حدثت من قبل مثل قوله الحق : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 78 ] .
وبين الواقع الذي يجري في زمن رسول الله؛ فالخبر الأول هو خبر عن أمر صدر منهم مع من سبق من الرسل . لكن هناك أشياء يا رسول الله أنت تراها بنفسك ، وهذا دليل على أن كفرهم لم يكن نزوة وانتهت ، لا ، بل كفرهم أصبح ملكة فيهم انطبعت عليها نفوسهم ، كيف؟ نعلم أن الإسلام حينما جاء واجه معسكرات شتّى ، وهذه المعسكرات كانت تفسد حركة الإنسان في الحياة ، والحق سبحانه وتعالى خلق الكون مسخّراً للإنسان ويريد أن يظل الإنسان حارساً لصلاح الكون أو أن يزيد صلاح الكون وألا يسمح بتسرب الفاسد إلى الصالح .
إن هذا هو مراد الحق من وجود منهج للإنسان . وهدف المنهج أن يحمي حركة الحياة كلها من الفساد وأن يزيد صلاحية الكون ، فعملنا في الكون دائماً لصالحنا؛ ولا يوجد عمل يفعله مخلوق يأتي للحق سبحانه وتعالى بصفة زائدة على كمالاته - سبحانه -؛ لأن الحق له كمال الصفات ، وهو الذي خلقنا وأوجدنا وأمدنا ، وتكليفنا منه لم يزده سبحانه شيئا ، فهو - سبحانه - مستغن بذاته عن جميع خلقه .
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذن - ليحارب معسكرات هي معسكر أهل الشرك في مكة ، ومعسكر أهل الكتاب ، وكان المفترض في أهل الكتاب أن لهم صلة بالسماء ولهم إلف بمناهج الرسل . وبعجزات الرسل وعندهم البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، ومعكسر المنافقين الذين ظهروا بعد أن قويت شوكة الإسلام ، فأعلنوا الدخول في الإسلام وهم لم يؤمنوا بل أضمروا الكفر .
وعندما نتوقف عند معكسر أهل الكتاب ، كان من الطبيعي أن ينتظر منهم رسول الله أن يؤمنوا لأنه جاء بالمنهج الذي يقوي من صلة السماء بالأرض ، لو كانوا صادقين وحريصين على تلك الصلة . وخصوصاً أنهم كثيراً ما تباهوا بمقدم النبي قبل أن تأتي الرسالة . وكانوا يقولون للأوس والخزرج :
لقد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا ، يأتي سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم .
وفي ذلك جاء قول الحق : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .
وقالت لهم كتبهم : إن النبي إنما يأتي في أرض ذات نخيل ، وهذا ينطبق على مكان مبعثه صلى الله عليه وسلم . إذن فقد عرفوا المكان ، وعرفوا الصفات ، وعرفوا الجبهات التي سيحارب فيها لأنه سبق لأنبيائهم أن حاربوا فيها . وعندما جاء محمد رسولاً من عند الله اهتزت سلطتهم الزمنية ، وأرادوا أن يستبقوها بتحريفهم منهج السماء . وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج الرباني ليعيد حركة الكون إلى الإيمان .
(1/2305)

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بينما كانوا ينسجون الإكليل كتاج لملك ينصبونه .
هكذا أوقف رسول الله سلطتهم الزمنية ولم يعد لهم الجاه ، ووحّد الأوس والخزرج ، وكان اليهود يعيشون على الشقاق بينهما ، ببيع الأسلحة والإقراض بالربا . ومع مجيء محمد صلى الله عليه وسلم تهدم بنيان سلطتهم؛ لذلك حاولوا أن يشجعوا خصوم رسول الله وهو ما زال في مكة ليهزموا الدين الجديد حتى لا يزحف الدين إلى المدينة ويهدر سلطانهم :
وفي ذلك جاء القول الحق : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 77 ] .
والثمن القليل هو الأبهة والرئاسة وسدة الحكم . وها هوذا كعب بن الأشرف كبير يهود وله ثراء ولسان ، يخرج إلى قريش ليناقشهم في ضرورة وأد الدين الجديد والقضاء عليه . فقالت له قريش : إنك من أهل الكتاب . ولك صلة بالسماء .
فيقول لهم : إنكم أهدى من محمد سبيلا!! كيف يصير المشركون عبدة الأصنام أهدى من محمد سبيلا؟ .
وهكذا نرى قوله الحق : { ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } . لقد تحالفوا مع معكسر الشرك الذي كان بينهم وبينه خصومة حتى لا تتسرب السلطة من أيديهم . وتعاونوا مع الذين أشركوا لإيقاف زحف الدين الجديد .
{ ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ } [ المائدة : 80 ] .
ويتولونهم أي ينصرونهم ويعينونهم ويدعون أنهم على حق ، وكأن الدين الجديد على باطل . ويقسم الحق هنا أنه بئس ما زينت لهم النفس الأمارة بالسوء ، لأنهم افتقدوا النفس اللوامة ، وغلبت عليهم النفس الأمارة بالسوء .
وتتابع الآية : " أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون " وينشأ عن السخط الابتعاد عن طريق الهداية . والبعد عن طريق الهداية يقود إلى العذاب الخالد . كأن الحق يوضح لهم : على فرض أنكم أخذتم متاعاً قليلاً في الحياة ، ولكنكم أتيتم لأنفسكم بمتاعب أزلية تنتظركم في الآخرة .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ . . . }
(1/2306)

وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
فلو كان عندهم إيمان بالله حقيقة وبالمنهج المنزل من الله ، ما اتخذوا أهل الشرك أولياء ، ولكن كثرة هؤلاء أهل فسق . ونلحظ أن الكثير فاسق ، وهذا يعني أن القليل غير فاسق .
ويقول الحق بعد ذلك : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس . . . }
(1/2307)

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
الحق سبحانه وتعالى يُقْسم لرسوله صلى الله عليه وسلم أن واقع الحياة مع فرقتين كاليهود والنصارى سيتجلى واضحاً على الرغم من أن كل جانب منهما مخالف لرسول الله في ناحية ، فمواجيد هؤلاء الناس وأهواؤهم مختلفة ولكنهم اتفقوا جميعاً في الهدف .
فاليهود أشد عداوة لأنهم أخذوا سلطة زمنية جعلتهم السادة في المنطقة ، أما النصارى فلم تكن لهم سيادة ولا سلطة زمنية وكانوا عاكفين في صوامعهم وبيعهم يعبدون الله . والجانب الذي ليس له سلطة زمنية لا يعادي من جاء ليسحب من أهل الجور سلطتهم الزمنية ويقيم العدل بين الناس . فما العلّة في ذلك؟
يقول الحق : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } . و " القسيسون " جمع قَس وهو المتفرغ للعلم الرباني . و " الرهبان " هم الذين تفرغوا للعبادة . فكأن القسيس مهمته أن يعلم العلم . والراهب مهمته أن ينفذ مطلوب العلم ويترهبن .
إننا نجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى قد امتن بشيئين وبذلك جعلهم أقرب مودة للذين آمنوا ، امتن سبحانه بأن منهم قسيسين يحافظون على علم الكتاب ، وامتن بأن منهم رهباناً ينفذون مدلول المطلوب من العلم ، وبذلك صاروا أقرب مودة للذين آمنوا إن ظلوا على هذا الوضع؛ لأن العلّة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً . وما دام قد عللها - سبحانه - بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون فذلك لأنهم لا يتطاولون إلى رئاسة وليس لهم تكبر أو ترفع؛ لأن طبيعة دينهم تعطيهم طاقة روحية كبرى حتى إنهم يقولون : " من ضرب على خدّك الأيمن فادر له خدّك الأيسر " . وهذا يعطيهم شحنة إيمانية نراها ناضحة عليهم .
{ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } وقد جاء واقع الكون مؤيداً لهذا ، فمواقف اليهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة حتى إنهم نزلت بهم الخسّة وتمكن منهم الحقد ودفعهم الغدر أن أرادوا أن يقلوا عليه حجراً ليقتلوه وحاولوا دسّ السّم له .
وحين تجد إنساناً لا يجد طريقا إلى الخلاص من خصمه إلا بأن يقتله ، فيمكنك أن تواجهه قائلاً : أنت لا تملك شجاعة تواجهه بها في حياته ، ولو كنت تملك تلك الشجاعة ما فكرت في أن تقتله . وهذا دليل على أنه أضعف منه وليس أشجع منه ، فلو كان قوياً لكان عليه أن يواجه هذا الخصم مواجهة في حركة حياته ولا يفكر في قتله؛ لأن الضعيف هو من يرى أن حياة الخصم ترهقه .
لقد كان اليهود أهلاً لهذا الضعف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم حينما جهر بدعوته اتبعه بعض الناس ، ولكن هؤلاء المؤمنين الأوائل عانوا من اضطهاد أهلهم وذويهم .
(1/2308)

حتى إن البيت الواحد انقسم . مثال ذلك تجد أن أم حبيبة السيدة رملة وهي بنت أبي سفيان تؤمن بينما والدها شيخ الكفرة آنذاك ، وتذهب أم حبيبة مع زوجها إلى الحبشة ويحرص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الخلايا الإيمانية لأنه يعلم أنها ستفرخ الإيمان بعد ذلك . وبتلك الهجرة إلى الحبشة أراد صلى الله عليه وسلم أن يحمي بذور الإيمان لتكون هي مركز انتشار الإيمان من بعد ذلك؛ لأنهم سوف يؤدون مهمة إيمانية ، والشجاعة - كما نعلم - تقتضي الحرص . وشاعرنا أحمد شوقي - رحمه الله - قال في إحدى مقطوعاته النثرية التي سمّاها " أسواق الذهب " : ربما تقتضيك الشجاعة ، أن تجبن ساعة؟
وهذه الشجاعة لا تكون على العدو فقط ولكنها تكون شجاعة في مواجهة النفس ، مثال ذلك : لو أن جماعة من الأقوياء كانوا جالسين معاً في جلسة سمر ، ثم دخل عليهم صعلوك يحمل مسدساً ، وقام بتوجيه السباب لكل منهم ، هنا يتحايل عليه هؤلاء إلى أن يتمكنوا منه ليعاقبوه .
إذن فالشجاعة تقتضي أن يجبن الإنسان لحظة إلى أن يتمكن من الخصم . وهذه هي الكياسة والحيلة ، فالإيمان ليس انتحاراً ، بل يقتضي الإيمان ألا يدخل المؤمن معركة إلا وعنده حسبان في الكسب . وها هوذا حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يسمي خالد بن الوليد " سيف الله المسلول " في معركة لم ينتصر فيها خالد ، ولكنه انتصر انتصاراً سلبياً بأن عرف كيف يسحب الجيش ، فالأَمرُ بسحب الجيش يحتاج إلى قوة أكثر مما يحتاج إليه النصر . فالمنتصر تكون الريح معه . أما المهزوم فتكون الريح ضده .
ونجد القرآن الكريم يقول : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ الأنفال : 16 ] .
إذن فالمناورة والكيد من المهارة القتالية لأنها تتيح من بعد ذلك القدرة على مواجهة العدو .
وينير النور الإلهي بصيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستعرض الأرض كلها حتى يختار مكاناً آمنا يذهب إليه هؤلاء المؤمنون ، فيختار الحبشة . لم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالذهاب إلى أي قبيلة من القبائل ، لأنه يعلم أن كل قبائل الجزيرة تخشى قريشاً ، فموسم الحج جامع للقبائل تحت سيادة قريش . ومن يقف ضد إرادة قريش فسيتعرض للمتاعب ، وعلى ذلك لن يأمن رسول الله على خلايا الإيمان أن يذهبوا إلى أي قبيلة . واستقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرض كلها ، واختار الحبشة؟ لماذا؟
ها هي ذي كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم باقية إلى زماننا : " إن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم به " .
(1/2309)

وفي حديث الزهري : لما كثر المسلمون ، وظهر تعذيب الكفار - قال عليه الصلاة والسلام : " تفرقوا في أرض الله فإن الله سيجمعكم ، قالوا : إلى أين نذهب؟ قال : إلى ها هنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة " .
وتسللوا في جنح الليل إلى الطريق متجهين إلى الحبشة . وعندما علمت قريش بالخبر حاولت أن تقطع عليهم الطريق لتعيدهم إلى مكة لتواصل الحملة عليهم والتنكيل بهم لصدهم عن الإسلام . ولكن الحق أراد أمراً مختلفاً وكان الطريق سهلاً ، ووصلوا إلى الحبشة ، وأنجاهم الله من كيد الكافرين .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك - بما علمه له ربه - الخبرة الكاملة بالرقعة الأرضية ويعرف من يظلم من الحكام ومن لا يظلم . وصدق رسول الله في فراسته الإيمانية ، فحينما ذهب المؤمنون المهاجرون إلى الحبشة وجدوا أنهم دخلوا دار أمن ، أمنوا فيها على دينهم . وجن جنون قريش وأرادوا استرداد هؤلاء القوم من النجاشي ملك الحبشة فأرسلوا صناديدهم ومعهم الهدايا والتحف لملك الحبشة .
سافر عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة ، وعمارة بن الوليد بن المغيرة . وطلب وفد قريش من النجاشي أن يسلمهم هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة ، وحاولوا الدس للمهاجرين عند النجاشي ، فاتهموا المسلمين المهاجرين أنهم قوم تركوا دين الآباء واعتنقوا ديناً جديداً يعادي الأديان كلها . ويقولون في عيسى بن مريم قولاً لا يليق به أو بأمه . ورفض النجاشي أن يصدق حرفاً واحداً ، وطلب أن يسمع من هؤلاء المهاجرين . فتقدم جعفر بن أبي طالب وقال :
" أيها الملك كنا أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقدف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وترك عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا عليه من الخبائث ، فلما قهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك ، وآثرناك على من سواك ، ورجونا ألا نظلم عندك " .
وثبت للنجاشي أن المسيح بشهادة القرآن نبي نقي طاهر العرض . وهكذا لم يستمع إلى وشاية وفد قريش . وامتلأ قلب النجاشي بالإيمان ولم يستكبر مع أنه ملك ووقف أمام محاولات قريش للنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1/2310)

وعندما سمع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة مريم قال : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .
وعرف رسول الله أن الإيمان قد خامر قلب النجاشي ، بدليل أن أم حبيبة بنت أبي سفيان عندما هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وتنصر الزوج لكنها بقيت على دينها على الرغم من أنّها كانت تحبه خالص الحب ، وهنا انفصلت أم حبيبة عن زوجها وذلك حتى يثبت الحق أن - هجرتها - كانت لله .
وأراد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكرمها وأن يكرم النجاشي على موقفه من عدم تسليم المؤمنين إلى وفد قريش وموقفه من أنه شهد للإسلام بأنه يخرج من نفس المشكاة التي خرج منها إنجيل عيسى عليه السلام ، لذلك يجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم ولي نكاحه لأم حبيبة؛ لأنه مأمون على ما عَرَف من الإنجيل ، ومأمون على ما سمع من القرآن في مريم ، ومأمون على أنه لم يسلم المهاجرين؛ لذلك اختاره وكيلاً عنه في زواجه من أم حبيبة بعد أن تنصر زوجها ، وتلك حادثة واحدة أضاءت أكثر من موقف : موقف أم حبيبة التي أثبتت أنها لم تذهب إلى الهجرة تبعاً لزوجها ، فلو تبعت زوجها لتنصرّت كما تنصر . وأضاءت أن رسول الله كان لا ينطق عن الهوى حين قال مسبقاً عن النجاشي : إنه لا يظلم عنده أحد . وعندما يبلغ الرسول نبأ وفاة النجاشي فهو - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه صلاة الغائب .
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ المائدة : 82 ] .
وهذا امتنان من الله بأن جعل منهم القسيسين الذي يعلمون وهذا تكريم للعلم والرهبان الذين ينفذون منطوقات العلم . إذن فلنعلم أننا يجب أن نفرق بين العَالِم الذي قد يُكتفى بأخذ العلم عنه إن لم يكن يعمل به ، وأن نحترم الذين يعبدون الله تطبيقاً للعلم بالله ونترك هؤلاء الذين لا يعملون بعلمهم لينالوا جزاءهم ، ولكن علينا أن نأخذ بعلمهم ونعمل به .
فخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ... واجنِ الثمار وخلِّ العود للنار
ونجد أن قوله الحق : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } حيثية تجعلهم أقرب مودّة للمسلمين . فهل الرهبانية ممدوحة عند الله؟ وإذا كانت ممدوحة عند الله فلماذا قال سبحانه : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 27 ] .
(1/2311)

هو سبحانه يحدثنا عن موكب الرسل إلى أن وصل إلى عيسى عليه السلام وما جاء به من الإنجيل وكيف أودع في قلوب الذين اتبعوه شفقة شديدة ورقة وعطفاً وابتدعوا الرهبانية زيادة منهم في العبادة ولم يفرضها الله عليهم ، لكنهم التزموها ابتغاء رضوان الله؛ لكن منهم من حافظ عليها والكثير منهم فسق عنها . وسبحانه حين يفرض أمراً تعبدياً فعلى المؤمن أن يؤديه . ويزيد ثواب المؤمن إن ترقى في التعبديات . لكن إن ترقى الإنسان في التعبد فعليه أن يعطي هذا الترقي حقه لأنّه ألزم به نفسه أمام الله . إذن فالمأخوذ عليهم ليس ابتدع الرهبانية ، ولكن عدم رعاية بعضهم لها حق الرعاية .
{ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } إذن فمنهم من يرصد حياته للعلم ، ومنهم النموذج التطبيقي العملي وهم الرهبان ، وليس فيهم الاستكبار أو العلو ، وما دام فيهم ذلك فهذا يعني أنهم لا يطلبون السلطة الزمنية . وسيظلون أقرب إلينا مودة ما دامت فيهم هذه الحيثية . فإن تخلوْا عن واحدة منها وأصابوا سلطة زمنية فهذا يعني أنهم تخلوْا عن الصفة التي حكم الله لهم بسببها بأنهم أقرب مودة . وإن تمسكوا بها على العين والرأس .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ . . . َ }
(1/2312)

وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
هذه دقة الأداء القرآني الذي جاء من قبل أن يجهد المفكرون أنفسهم في دراسة ظواهر وأحوال النفس البشرية في مجال علم النفس بالبحث والاستقراء والتجارب ، وأثر ذلك في وظائف الأعضاء . لقد قال العلم : إن لكل آلة وظيفة ، فالعين ترى ، والأذن تسمع ، واللسان يتذوق ويتكلم ، والأنف يشم ، واليد تلمس ، وقال العلماء في البداية : إن هذه هي الحواس الخمس الظاهرة ، وكلمة " الظاهرة " هذه إنما جاءت للاحتياط؛ لأن هناك أموراً يشعر بها الإنسان ولكن لا يدرك كيفية ولا مصدر شعوره بها مثل الجوع أو العطش ، أو في أثناء المقارنة بين شيئين أيهما أكثر ثقلاً .
لقد حاول العلماء إدراك كيفية تمييز الإنسان بين ثقل وثقل آخر ، فقالوا : إن هناك حاسة اسمها حاسة العضل ، فعندما يحمل الإنسان شيئاً ما فإنه يجهد العضلات لدرجة تمكنه من التمييز بين درجات الجهد . وعرفوا أيضاً أن هناك حاسة اسمها حاسة البين ، وهي الحاسة التي يميز بها الإنسان درجة نعومة أو سمك أي نوع من القماش حتى ولو كان السمك يبلغ الواحد من العشرة من المللميتر .
إذن فهناك حواس كثيرة يمكن للإنسان الإدراك بها ، وهناك حواس تترك بعضاً من الأثر في النفس البشرية كآثار الحب والميل أو البغض والنفرة ، ومقرها الوجدان . كإدراك حلاوة طعم شيء أو كراهة شيء آخر ، فإذا استطاب الإنسان شيئاً أخذ منه مرة ثانية ، وهذا العمل هو نزوع يتبع الوجدان الذي يتبع الإدراك .
إذن فهناك إدراك يدرك . وهناك وجدان يجد ، وهناك نزوع ينزع . مثال ذلك إدراك وردة جميلة المنظر واللون في بستان هذا الإدراك قد يصيب من القلب عشقاً وحباً؛ أي وجداناً ، وأنت حر في أن تدرك ما شئت ، وأن تجد ما شئت ، لكن ليس لك أن تمد يدك لتقطف الوردة؛ لأن الشرع يحرم ذلك . وحارس البستان أيضاً يمنعك من ذلك . هذا على الرغم من أن أحداً لا يمنعك من أن تنظر إلى الوردة وتستمتع بجمالها . فالإدراك - إذن - مباح ، والوجدان أمر مباح .
أما النزوع فهذا هو الأمر الذي تتدخل فيه الشريعة ، ولنا أن نكرر أن الإدراك مباح والوجدان مباح إلا في إدراك جمال الأنوثة ، فالشرع يتدخل من البداية . فأنت قد تدرك جمال المرأة فتجد في نفسك حباً وميلاً ، فإذا نوعت فكيف يمكنك أن تضبط نفسك؟ فأنت بعد الإدراك والوجدان إما أن تنزع وإما أن تكبت . وإن نزعت انتهكت أعراض الناس ، وإن كبت ، أصابك القهر والألم؛ لذلك يتدخل الشرع في هذه المسألة من بدايتها فيمنعك تحريماً من أن تدرك ، وذلك بأمر واضح وهو غض البصر؛ لأن المسألة الجنسية من الصعب أن تفصلها عن بعضها ، فالإدراك يمكن فصله عن الوجدان ، والنزوع يمكن فصله عن الوجدان والإدراك في أمر الوردة .
(1/2313)

أما في المسألة الجنسية فهي سعار . . إما أن يقابله الإنسان بأن يعف وإما أن يلغ . فإن عف الإنسان فهو يكبت ويتوتر ، وإن ولغ الإنسان في أعراض الناس فهذا أمر يسبب هتك أعراض الناس . ولذلك يمنع الشرع من البداية مسألة الإدراك .
وقد جاءت هذه الآية الكريمة قبل أن يأتي علماء لنفس ليفسروا أمور الإدراك والوجدان والنزوع ، فها هوذا الحق يقول : { وَإِذَا سَمِعُواْ } وهذا إدراك بحاسة الأذن . وما المسموع ، يجيب القرآن : { مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول } . وهذا هو سبب الوجدان الذي يأتي في قوله : { ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } . فكيف يكون نزوعهم بعد هذا الوجدان؟ إنهم : { يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } ، وهذه هي العملية النزوعية . والقرآن الذي نزل من أربعة عشر قرناً ، جاء بترتيب الإدراك والوجدان والنزوع قبل أن يأتي به العلم . فساعة سمعوا بالأذن ، حدث شيء في الوجدان ، والتغير الذي في الوجدان له علامات ظهرت في عيونهم التّي فاضت بالدمع .
وهنا نميز بين أمرين : الأول هو اغروراق العين بالدمع ، أي أن تمتلئ العين بالدمع لكن لم تصل درجة التأثر إلى أن تسقط الدموع من العين ، ويقال : " اغرورقت عين فلان " أي امتلأت عينه بالدموع ولكنها لم تسقط . والثاني وهو فيض الدموع من العين ، والفيض لا يكون إلا نتيجة امتلاء الظرف بالمظروف ، فكأن الدمع قد ملأها امتلاء ، تماماً مثلما نملأ إناء أو كوباً إلى النهاية فيزيد ويفيض .
إذن كان سبب كل ذلك أنهم عرفوا أن القرآن من الحق . ونلحظ أن : " مِنْ " تتكرر في الأداء هنا . { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } . ف " من " تسبق من الدمع . و " من " مدغومة في " ما " فصاروا معاً " مما و " مِن " تسبق الحق .
{ تَفِيضُ مِنَ الدمع } ف " مِن " هنا هي : " مِن " الابتدائية . و " مما عرفوا " هنا " مِن " السببية أي بسبب أنهم عرفوا أن هذا القرآن منزل من الحق سبحانه . و " من الحق " للتبعيض ، أي عرفوا بعضاً من الحق؛ لأنهم لم يسمعوا كل القرآن .
إذن جاءت " مِنْ " ثلاث مرات ، وكل مرة لها مجال لتؤدي إلى المجموع البياني الذي يصف المظاهر الثلاثة للإدراك والوجدان والنزوع . وهذه المراتب هي مظاهر الشعور التي انتهى إليها العالم التجريبي حين أراد أن يتعرف إلى وظائف الأعضاء ومدى تغلغلها إدراكاً ووجداناً ونزوعاً .
والنزوع هو الذي يهمنا هنا ، لقد قالوا : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } والإيمان امر يعود إليهم . أما الكتابة مع الشاهدين فهي أمر يعود على الآخرين ، فكأن المؤمن ينال حظاً عالياً ، إنه يؤمن لذاته ، ثم من بعد ذلك يكون وعاءً ولساناً يبلغ منهج الإيمان إلى غيره لأنه لا يكون شاهداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى :
(1/2314)

{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] .
أي إنكم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجت للناس لا حسباً ولا نسباً ولكن اتباعاً لمنهج ، ومن يتبع المنهج ب " افعل " و " لا تفعل " فهو الذي يطبق عملية الإيمان بالله . ومن أهل الكتاب من يؤمن بالله فيصير مسلماً ، ولكن الكثير منهم يخرج عن حدود الإيمان . وهناك آية أخرى يقول فيها الحق : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] .
إذن فالأمة التي تتبع منهج الإسلام - وهو منهج الاعتدال - هي الأمة المهتدية التي تسير إلى العمل الصالح الصحيح وتعمل به وتطبقه؛ لأنه المنهج الذي ينسخ ما قبله ويصححه ، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المهيمن على كل من سبقه من الرسل ، وحياته وما جاء فيها من سلوك هو سنة إيمانية تهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم . وجاءت في هذه الآية مسألة تحويل القبلة لتعلم المسلمين أن الأمر الأول بالاتجاه إلى بيت المقدس كان اختباراً ينجح فيه من يذعن لصاحب كل أمر وهو الله ، وكان ذلك من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله إلى الهداية ، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة وهي أول بيت وضعه الله للناس .
إذن فمادمنا شهداء ، وما دام الرسول شهيداً علينا ، فالرسول إنما يشهد أننا بلغنا وننال منزلتين : منزلة تلقى البلاغ عن الرسول ، ومنزلة الإبلاغ من بعد ذلك إلى غيرنا من الناس . والمؤمن لا يكون شهيداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم . هذه الشهادة التي جاء بها الحق في وصف أمة المؤمنين : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] .
فأنتم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجها الله للناس بشرط أن تتبعوا المنهج ب " افعل " و " لا تفعل " . تأمرون بالطاعات وتنهون عن كل ما نهى عنه الدين ، وبذلك تكونون قد طبقتم المنهج الدال على صدق إيمانكم بالله إيماناً صحيحاً صادقاً . ولو صدق أهل الكتاب مثلكم في إيمانكم ، لكان خيراً لهم مما هم عليه .
(1/2315)

لكنّ بعضاً منهم يدير أمر الإيمان في قلبه ، والكثير منهم يخرج ويفسق عن مقتضى الإيمان .
إذن فهم عندما قالوا : { آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } ، فذلك إقرار بأن الإيمان كان إيمان ذات وإيمان بلاغ إلى الغير . وهم بذلك قد دخلوا الإسلام وصاروا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وها هوذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
وها هوذا الحق يحدد لنا قيمة الكلمة الطيبة المبلغة عن الله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء * تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ إبراهيم : 24-25 ] .
إن الكلمة الطيبة هي شجرة لها من الثمار ما ينفع الناس وتظل بظلها الحنون سامعها ، ولها أصل ضارب الجذور في الأرض . ولها فروع تعلو إلى اتجاه السماء . وتعطي الثمار في كل زمن بإرادة خالقها . وهذا المعنى المحسوس مادياً يضربه الله كمثل للناس حتى يعرفوا قيمة المعاني السامية . إذن سيظل صاحب قوله الحق في بلاغ منهج الإيمان إلى الناس يقطف ثمار هذه الكلمة ما بقي إنسان مؤمن إلى أن نلقى الله .
{ فاكتبنا مَعَ الشاهدين } والشاهد هو المبلغ . وعندما يطلب مؤمن من الله أن يكتبه مع الشاهدين فهو يطلب لنفسه المكانة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . فالشهيد ليس هو من قتل فقط ، إنما الشهيد هو من يعطي شهادته . والشهيد في معركة إيمانية تفقه حياته هو إنسان أعطى شهادة على أن ما ذهب إليه إثمن من حياته كلها . وهو في ذلك يعطي شهادة علمية . ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ . . . }
(1/2316)

وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
عندما يأتي التعجب هنا فهذا معناه أن الإنسان يحب أن يعلم أن إيمانه بالله مسألة تعطينا الخير لأنفسنا . فحين نؤمن بالله يقابلنا الحق بفيض الكرم من اطمئنان وخير وعطاء . فإياكم أيها الناس أن تعتقدوا أن الإيمان جاء ليحجب حرياتكم أو أنه يمنع عنكم اشتهاء الأشياء . ولكن الإيمان جاء ليعلي الحرية ، ويعلي الشهوة فلا يأخذها الإنسان عابرة تنتهي بانتهاء الدنيا ولكن ليأخذها الإنسان خالدة ما بقيت السموات والأرض .
إذن فالدين إنما جاء بالنفعية العاقلة؛ لأن العاقل إنما يأخذ على مقدار عمره من نفع يسير ولا يضر أحداً ، وإن كان يضر النفس أو الغير فالدين يأمر بترك هذا النفع ، ذلك أن النفع إما أن يفوت الإنسان أو يفوته الإنسان . والذكي هو من يؤثر نفع غيره على نفع نفسه .
مثال ذلك أن يأتيك سائل يسألك الطعام لأنه لم يأكل منذ يومين ، ولا يكون في جيبك إلا جنيه واحد فتعطيه له ، إنك بذلك تؤثره على نفسك ، فتكون ضمن من قال فيهم الحق سبحانه : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } [ الحشر : 9 ] .
وبمثل هذا السلوك يكون الإنسان قد اقتدى بالأنصار الذين استضافوا المهاجرين وخلصوا الإيمان فأحبوا أهله ، ولا يجدون حقداً أو حسداً فيما خُصّ به المهاجرون من مال الفيء وغيره ، وكان جل همهم أن يسعد المهاجرون وقد سبق أن آثروهم بأشياء كانت لهم وارتضوا لأنفسهم عدم البخل ، فوقاهم الله شر البخل فكانوا من الفائزين . والمتصدق بجنيه إنما يأخذ من الله عشرة أمثاله ، وهذه نفعية كبرى . وعندما أمرنا الشرع بغض البصر عن محارم الغير ، والمنفذ لذلك يحفظه الله ويغض الجميع عيونهم عن محارمه ، أليست هذه نفعية؟ إذن فمن الحمق أن يظن إنسان أن الدين يقيد الحرية ، لأن الدين إنما يعلي الحرية وينميها ، وينمي الانتفاع عند المؤمن بأن يحول بينه وبين النفعية الحمقاء .
ودائماً أضرب هذه المثل : لنفترض أن رجلاً له ولدان؛ الأول منهما يستيقظ صباحاً من النوم فيفعل مثلما علمه أبوه : يتوضأ ويصلي ويتجه إلى دراسته بعد أن يتناول إفطاره ، أما الابن الثاني فلا يستيقظ إلا بصعوبة ويظل يتناوم إلى أن يأتي الضحى ثم يخرج من المنزل إلى المقهى . إن كلاً من الولدين أراد النفع لنفسه ، الأول أراد النفع الآجل ، والثاني أراد النفع العاجل ، وبعد أن تمر عشر سنوات يتخرج الابن الأول ليكون مفلحاً وناجحاً في الحياة ، ولكن الابن الثاني يظل صعلوكاً فاشلاً ، إذن فكلاهما نظر إلى النفعية ولكن المنظار مختلف .
وإياكم أن تفهموا أن هناك إنساناً لا يحب نفسه ، لا .
(1/2317)

كلنا نحب أنفسنا . ولكن هناك من يحب نفسه حباً يعطي لها طول البقاء ، فيجد ويجاهد ، وقد يكون شهيداً ، وآخر أحب نفسه بضيق أفق فحافظ على حياته بالجبن وهو قد مات ألف مرة في أثناء هذا الجبن ، وفقد كرامته حرصاً على حياة لن يزيد في مقدارها يوماً واحداً . والمتنبي يقول :
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التُّقَى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ولذلك فالمتأمل بعمق في أمر الدين يقول لنفسه : " ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق " ، والمؤمن يرى أنه من العجيب ألا يؤمن لأنه يطمح إلى مكانة المؤمن .
" ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " إذن فالمؤمن يطلب مكانة الإنسان الصالح .
ويقول الحق من بعد ذلك : { فَأَثَابَهُمُ الله . . . }
(1/2318)

فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
إنها كلمة الحق التي تقال في كل مكان وزمان . قالها نجاشي الحبشة وله سلطان لأهل الجاه من قريش الذين استبد بهم باطلهم؛ لذلك كان لهذه الكلمة وزنها ، فعندما سمع ما نزل من القرآن من سورة مريم قال : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة . إذن فهي كلمة حق لها وزن ، والله سبحانه وتعالى يجزل العطاء لكل من ساند الحق ولو بكلمة فهو سبحانه ( الشكور ) الذي يعطي على القليل الكثير ، و ( المحسن ) الذي يضاعف الجزاء للمحسنين .
ولنا أن نعرف أن للقول أهمية كبرى لأنه يرتبط من بعد ذلك بالسلوك . وكان قول النجاشي عظيماً ، لكن العمر قد قصر به عن استمرار العمل بما قال . فقد قال كلمته وجاءه التوكيل من رسول الله ليعقد للرسول على أم حبيبة بنت أبي سفيان فقعد عليها وكيلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرها من ماله ثم مات ، ولم تكن أحكام الإسْلام قد وصلت إليه ليطبقها؛ لذلك كان يكفيه أنه قال هذا القول ، ولذلك صلى عليه النبي صلاة الغائب .
وهناك قصة " مخيريق " اليهودي . لقد تشرب قلبه الإسلام وامتلأ به وكان في غاية الثراء فقال لليهود : كل مالي لمحمد وسأخرج لأحارب معه . وخرج إلى القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل فمات شهيداً ، وهو لم يكن قد صلى في حياته كلها ركعة واحدة . إذن مجرد القول هو فتح لمجال الفعل .
{ فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } والحق يريد أن يؤكد لنا أن كل حركة إيمانية حتى ولو كانت قولاً إنما تأخذ كمالها من عمرها . ونعلم أن الإيمان في مكة كان هو الإيمان بالقول . ذلك أن الناس آمنت ولم تكن الأحكام قد نزلت ، فغالبية الأحكام نزلت في المدينة . وعلى ذلك أثاب الله المؤمنين لمجرد أنهم قالوا كلمة الإيمان ، حدث ذلك ولم يكن قد جاء من الحق الأمر بالبلاغ الشامل وهو قوله الحق : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] .
فهؤلاء قد جزاهم الله حسن الثواب وسمّاهم " محسنين " وكذلك فعل النجاشي ، فقد ذهب إلى الإيمان دون أن توجه له دعوة وكان ذلك قبل أن يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة للملوك ليؤمنوا ، وعلى هذا فالنجاشي محسن؛ لأنه قفز إلى الإيمان قبل أن يطلب منه . وساعة يتكلم الحق عن منزلة من منازل الإيمان فهو أيضاً يتعرض للمقابل ، وذلك لتبلغ العظة مراميها الكاملة . فإذا تحدث عن أهل الجنة فهو يعقبها بحديث عن أهل النار ، وإذا تحدث عن أهل النار فهو يعقبها بحديث عن أهل الجنة؛ لأن النفس الإنسانية تكون مستعدة للشيء ومقابله .
ويقول الحق من بعد ذلك : { والذين كَفَرُواْ . . . }
(1/2319)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
ونعرف أن كلمة " صاحب " وكلمة " صحبة " وكلمة " أصحاب " ، هذه الكلمات تدل على الملازمة ، والملازمة في الحياة تكون اختيارية لا قهرية؛ فلا أحد يصاحب أحداً بالقهر .
ونفهم من قوله : { أَصْحَابُ الجحيم } أن هذا يعني العشق المتبادل بين النار وأهلها ، وليس هذا مرادا ، فهو إما أن يكون على سبيل السخرية والاستهزاء بهم ، وإما أن يكون المراد هو الملازمة التامة والمصاحبة الدائمة التي لا تنفك ولا تنهى .
وبعد أن تكلم الحق عن المشركين وتكلم عن اليهود وتكلم عن النصارى . فهو يتكلم عن المؤمنين ، إنه ينفض أذهاننا أولا ليزيل عنها ما علق بها من أمر المخالفين ومناهجهم ، ويأتي لنا من بعد ذلك بالأحكام ، وقد فعل ذلك في هذه السورة التي تبدأ بآية العقود : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
وعقد الإيمان هو ما يرتفع ويسمو على ما يقوله المشركون ويخرج عما يقوله اليهود والنصارى . ومن بعد ذلك نلاحظ أن الحق بعد أن تكلم عن ضرورة الوفاء بالعقود ، فهو يلزم المؤمنين بالمنهج الذي يحمي حركة الحياة . وحركة الحياة يتم استبقاؤها أولاً بالطعام والشراب . لذلك قال : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } [ المائدة : 1 ] .
ومن بعد استبقاء حركة الحياة بالطعام والشراب ، ها هوذا يقول : { حُرِّمَتْ } . وهنا لنا وقفة ، فعندما يحلل الله شيئاً من أجناس الوجود؛ وحينما يحرم شيئاً آخر من أجناس الوجود فللسائل أن يسأل بعقلانية ويقول : ما دام الحق قد حرم هذه الأشياء فلماذا أوجدها؟ ونعلم في حياتنا العادية أن كل صانع إنما يحدد خصائص لصنعته . ومثال ذلك صانع الطائرة يصمم طائرته ويحدد الوقود اللازم لها ، ولا يمكن أن تسير بوقود سيارة ، فإذا كانت الآلات التي من صنع البشر تفسد إن استخدمنا لها ما لا يناسبها . فكيف إذن نقول لصانعنا : لماذا خلقت الأشياء التي لا تناسبنا؟ لا بد أن لها مهمة في الكون واستخداماً آخر يجعلها تنتج الأشياء المفيدة لنا . مثال ذلك سمّ الحية ، إنه يقتل الإنسان ، ولكن الله ألهم الإنسان القدرة على استخراج السّم من الحيّة لقتل بعض الميكروبات .
إذن فالعالم قد خلقه الله بتركيب معين . ومثال ذلك نجد التمساح وهو راقد على الشاطئ والطيور تلتقط من فمه بعضاً من غذائها ولا يؤذيها؛ لأن هذه الطيور هي التي تنبه التمساح إذا جاء صياد ليقتنصه ، فالطيور تحرص على مصدر قوتها وتحافظ على حياة التمساح ، والكهرباء نستخدمها في مجالها ، أما في عكس مجالها فهي تصعق وتدمر .
إذن فليس للإنسان أن يسأل لماذا حرم الله أشياء على الإنسان؟ لأن لتلك الأشياء دورة في الحياة . ولا يصح أن ننقل الوسيلة لتكون غاية . والحق أراد بالحلال والحرام أن ينتفع الإنسان بالصلح له .
(1/2320)

مثال ذلك أن حرم الله أكل لحم الخنزير . والخنزير إنما وُجد ليأكل ميكروبات . إذن فليس للإنسان أن يُحَوَّل الوسيلة إلى غاية . ويعطي الحق كل يوم للإسلام قوة تأييد تأتيه من خصوم الإسلام .
ومثال ذلك : إننا نجد أن الأمراض تنتشر بنسب عالية في الأمم التي تستهلك لحم الخنزير ، وتشرب الخمر ، وهناك مرض اسمه " تشمع الكبد " ينتشر في تلك البلدان ، فهل كنا نؤخر تنفيذ أمر الله إلى أن تنشأ المعامل وتقول لنا نتائج أكل الخنزير؟ أو كان يكفي أن نحرم على أنفسنا ما حرم الله؟ إن علينا أن ننفذ أوامر الله صيانة لنا : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ] .
وكل يوم تظهر لنا آية تؤكد صدق إيماننا بالله؛ لذلك فلا يقولن أحد : لماذا خلق الله تلك الأشياء المحرمة؟ لقد خلقها الله وسيلة لا غاية . ومثال ذلك أن خلق الله لنا البترول لنستخرج منه الوقود؛ فهل أحد منا يقدر على شرب البترول؟! إذن فالتحليل والتحريم لصالح الإنسان . فإن خرج الإنسان عن ذلك فلا يلومن إلا نفسه . ولذلك يقول الحق : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } [ يونس : 59 ] .
كأن الحق يستنكر أن نصنع من حلال ما خلق أشياء محرمة . وأن نحرم أشياء حللها الله . كترك البحيرة والسائبة والوصيلة؛ وكلها أرزاق من الله . هو سبحانه خالق كل الأشياء وهو الذي يحدد نفعها وعدم نفعها للإنسان . والبحيرة هي الناقة التي كانوا يشقون أذنها حتى لا يتعرض لها أحد بعد أن تكون قد نتجت خمسة أبطن آخرها ذكر ، وكانوا يطلقونها في المراعي لا تُركب ولا تُحلب ولا يُمنع عنها مرعى أو ماء . وكانوا يقولون إنها للآلهة . وعندما نستكشف آفاق من يستفيد منها ، كنا نجد الكهنة هم الذين يستفيدون منها . وكذلك السائبة وكانوا يتركونها تطوعاً لا يركبها أحد ولا يحلبها أحد وكان المستفيد منها الكهنة أيضاً . وكذلك الوصيلة وهي الأنثى التي جاءت في بطن واحد مع ذكر وقالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم . وكذلك كانوا يطلقون الفحل الذي نتج من صلبه عشرة أبطن وقالوا قد حمى ظهره فلا يركب ، ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى ، والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : أنا لم أحرم هذه الأشياء فلماذا تحرمونها؟
هو سبحانه قد حرم الميتة والدم لأنه هو الذي حدد وبيّن ما هو حلال وما هو حرام . وسبحانه الذي يرزق الرزق فيكون مرة رزقاً مباشراً ومرة يكون رزقا غير مباشر . ولذلك جاء الحق بالقول الكريم : { ياأيها الذين . . . }
(1/2321)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
إذن فأمر التحريم موكول إلى خالق الآله الإنسانية ، وأمر التحليل موكول إلى خالق الآله الإنسانية . وأنت أيها الإنسان لا تتدخل في ذلك أبداً . لأن تدخل الإنسان يكون أحياناً بتحريم ما أحل الله ، وأحياناً يكون تدخل الإنسان بتحليل ما حرم الله .
إياك أيها الإنسان أن تحرم ما أحل الله لك ، وإياك أن تحلل ما حرم الله عليك . ونحن هنا أمام مراحل عدة ، لا تعتقد أن هناك أمراً حلله الله هو حرام ، ولا تقل إن هناك أمراً حلله الله هو حرام ، ولا تمتنع عن أمر حلله الله ظناً أنه حرام ، ولا تُفْتِ بأمر حلله الله على أنه حرام ، ولا تجعل أمراً حلله الله فتحرمهَ على نفسك ، فلا ينذر أحد ألا يأكل لحم الضأن أو البرتقال - على سبيل المثال - لأن النذر في ذلك ليس حلالاً ، لأن تحريم الأشياء المحللة بالنذر هو أمر محرم . ولذلك علمنا الحق قائلاً لرسوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] .
لا بد لنا أن نعى ذلك الأمر وأن نعرف مراحله : لا تعتقد ، لا تقل ، لا تمتنع ، لا تُفْتِ ، لا تنذر ، لماذا؟ لأن في ذلك اعتداء .
يقول الحق تبارك وتعالى : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } [ المائدة : 87 ] .
وما الاعتداء؟ إنه تجاوز الحد فيما حرم الله أو فيما حلل الله . أي أن الله يحب من يقف عند الحدود . وهو سبحانه يقول مرة : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] .
ومرة يقول : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] .
فهي المنهيات : لا تقترب . وفي ما أحله الله : لا تتعدَّ؛ لذلك جاء القول على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " الحلال بين والحرام بين وبينهما مُشْتَبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المُشْتَبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملكٍ حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه؛ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
إذن فكل كائن له مميزات وله مهمة في الوجود . وأنت أيها الإنسان لا تقلب الوسيلة إلى غاية ، فهناك كثير من المخلوقات هي وسائل ولا تصلح أن تكون غايات؛ ولذلك أمرنا الحق بأن نأخذ ما ننتفع به مباشرة وأن نترك الأشياء التي حرمها علينا؛ فلا نقرب - على سبيل المثال - لحم الخنزير؛ لأن الخنزير مخلوق ليخلصك من الميكروبات ، فإن أكلته تكون قد قلبت الوسيلة إلى غاية . وعليك أيها الإنسان أن تحتفظ بالوسيلة كوسيلة وأن تحتفظ بالغاية كغاية .
(1/2322)

والذي يحدد لك ذلك هو من صنعك . . إنه الله .
ودليل ذلك أن خصوم الإسلام يكتشفون كل يوم المميزات التي جاء بها الإسلام فيتجهون إليها . إن الله بتحريمه وبإيماننا بهذا التحريم منعنا من متاعب التجربة إلى أن تثبت ، والكفار الذين لم يأمنوا اضطرتهم الظروف إلى تناوله ، وعلى ذلك فكل شيء محلل أو محرم بأوامر الله يظهر لنا فائدته أو ضرره طبقاً لقول الحق سبحانه وتعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] .
إذن فلا اعتقاد في شيء حلال أنه حرام ولا قول بمثل ذلك ولا امتناع عنه ولا يفتي إنسان بمثل ذلك . ويأتي الأمر : { وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } . ونعرف أن الاعتداء إنما هو أن نتجاوز الحد فيما حرم أو فيما حلل ، والحق سبحانه يحب من يقف عند حدود الله . فلا يقربها الإنسان حتى لا تحدثه نفسه بمعصية . وعندما يبتعد المسلم عنها فهو يتقي الشبهات .
والحق يبين لنا قد أحللت لكم كذا وحرمت عليكم كذا وهو الخالق . فيجب أن نأخذ من الخالق مواصفات ما يبقي لنا الحياة؛ هذا الإبقاء هو ما نصنعه نحن حينما نخترع آلة توفر علينا الحركة وتعطينا الثمرة بأقل مجهود ، فحين يصنع الصانع آلة من الآلات يصنع لها ما يوجد لها الطاقة لتقوم بعملها ، ولا يستطيع المستعمل لهذه الآلة أن يغير وقود هذه الطاقة ، فإن غير نوع الطاقة ، فالآلة لا تؤدي مهمتها . فما بالنا بالذي خلق؟
إنه حين يوضح أنّ هذه الآلة لا تصلح إلا بما أحللت ، ولا يصح أن تدخل عليها ما حرمت عليك . هنا يجب أن نطيع الخالق؛ لأنه هو الذي يعلم ما يصلح لنا وما لا يصلح . ولم يدع أحد في الكون أنه خلق نفسه ، فلنرد اقتياتنا وحفظ حياتنا إلى خالقنا ، ولنأخذ ما حلله ونبعد عما حرمه ، فالآلة - الإنسان - تصلح بأن تفعل الحلال وأن تترك فعل الحرام . إذن هناك أشياء تُفعل ، وهناك أشياء لا تُفعل . وهناك أشياء لم يأت فيها الحل أو الحرمة ، فإن أقبل عليها الإنسان فهي تصلح ، وإن لم يقبل عليها الإنسان فهي تصلح أيضاً . والحق سبحانه وتعالى يوضح : أنكم لم تخلقوا هذه الآلة - الإنسان - وأنا الذي خلقتها ، فإنا أعلم بما يعطيها مدد الطاقة ومدد البقاء ، فإن صنعتم غير ذلك كنتم معتدين .
ولذلك يخاطب الحق الذين آمنوا بأنه خلقهم من عدم وأمدهم من عدم ورزقهم لاستبقاء حياتهم ونوعهم ، وعليهم أن يأخذوا من الله هذه الأحكام : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } . وسبحانه يوضح : إن الذي يؤمن بأني إله فليأخذ مني مواصفات استبقاء حياته . وعندما يقول سبحانه ذلك فلا بد أن يكون هناك سبب داعٍ لهذا القول ولما نزل قوله - سبحانه - :
(1/2323)

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ المائدة : 82 ] .
الحق جاء في هذا القول الكريم بحيثيات مدحهم وحيثيات قربهم من مودتنا ، فمنهم القسيسون والرهبان الذين زهدوا في الحياة . ولما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وفيهم أبو بكر الصديق وعمر وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك أي الدسم . ويجبوا المذاكير ويسيحوا في الأرض كما يفعل الرهبان ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم فحمد الله وأثنى عليه فقال : " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وأنزل الحق سبحانه وتعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] .
وكلمات الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته وللناس منطقية ، فإذا كانوا يريدون أن يمتنعوا عن طبيات ما أحل الله حتى يعلنوا الزهد مثل السابقين عليهم ، ومن يريد الرهبنة أَلا يصلي؟ أنه يقيم الصلاة؛ والصلاة لا بد لها من حركة ، والحركة لا بد لها من قوة ، والصلاة لا بد لها من ستر العورة ، وستر العورة يقتضي اللباس ، وهذا اللباس يحتاج إلى تفكير من أين يأتي هذا . القماش يأتي من تاجر أقمشة ، وتاجر الأقمشة لا بد أنه يأتي به من المصانع التي تنسجه ، والمصانع التي تنسجه لا بد أن تأتي من المصانع التي غزلته ، والمصانع التي غزلته لا بد أن تأتي به من المحالج التي حلجت ، ثم لا بد من الحيوانات التي أخذ منها إن كان صوفاً ، وأن تُربى وتربيتها تحتاج إلى زراعة . إذن فكل هذه الأشياء تتطلب حركة واسعة ، أنت لا تشعر بها إلا حين تحتاج إلى الثوب . فإن كنت تريد أن تنقطع للعبادة فإياك أن تنتفع بحركة من يقيم أركان الإسلام ، ويتحرك في الحياة في ضوء منهج الله ساعياً إلى الرزق ، وهذا أمر لا يتأتى .
وأيضاً ، ألا يأكل الذي يريد الانقطاع إلى العبادة؟ إنه يأكل ليقوم إلى الصلاة . وكلنا يعرف كيف يجيء رغيف الخبز . صحيح أن الإنسان يذهب إلى المخبز ليشتري رغيف الخبز ، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن . والمطحن جاءته الغلال من المخازن ، والغلال جاءت من الذي زرع . والذي زرع احتاج إلى الآت تحرث وآلات تغرس وإلى آلات تجنى ، وبعد ذلك احتاج إلى أشياء أخرى كالسماد وغيره ، إن هذا يحتاج إلى طاقة هائلة .
(1/2324)

إذن فالإنسان في حركته في الصلاة محتاج إلى كل هذه الأعمال ، فإياك أن أردت أن تعتزل الحياة أن تنتفع بعمل من لم يعتزل الحياة . والعمل الذي لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . ولذلك يكون على ولي الأمر إن رأى حرفة يتطلبها الوجود الإنساني والوجود الإيماني ولم يذهب إليها أناس طوع أنفسهم عليه أن يلزم قوماً بأن يفعلوها . وكل صناعة هي فرض كفاية إن قام بها البعض سقطت عن الباقين . وإن لم يقم بها البعض أثم الجميع .
إذن فلا بد من حركة الحياة . وحركة الحياة تُسْلم حلقة إلى حلقة أخرى . فلا تأخذ الثمرة وأنت مع ذلك تعتزل الحياة . والحق سبحانه وتعالى يقول : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله } . إنكم إن فعلتم ذلك تكونوا قد أخذتم صفة المشرع واعتديتم على حقه في أن يحلل وأن يحرم ، وهذا اعتداء .
وإذا كان الله قد حرم أشياء وحلل أشياء فهذا بمقتضى صلاحية الأشياء المحللة للإنسان . وعلى الإنسان أن ينظر إلى الأشياء الموجودة المحرمة على أنها رزق غير مباشر لأنها وسيلة إلى رزق مباشر ، كما عرفنا أننا نستخلص من سم الثعبان علاجاً ، إذن فالثعبان مخلوق لمهمة تخدم الإنسان . والعالم كله حلقات ، حيوانات تستفيد من أذى بعضها إلى أن يصل الخير كله إلى المؤمن ، فلا يقولن إنسان " لماذا خلق إذا كان قد حرم " .
فلا تعتد لتحلل ما حرمه الله وتحرم ما حلله الله ، فبترك الاعتداء ينتظم الوجود ، وحين ينظر الإنسان إلى الغابة يجد أن لكل حيوان مهمة مع غيره ، هذه المهمة تؤدي إلى الصلاح فيما يصلح للإنسان . لقد حرم الحق بعض الأشياء كرزق مباشر؛ لأنها رزق غير مباشر . والرزق المباشر هو ما يأكله الإنسان مباشرة وما يلبسه ، والرزق غير المباشر هو وسيلة إلى الرزق المباشر ، وما حرمه الله هي أشياء مخلوقة كوسائل إلى صحة غيرها .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا } أي لا تجعلوا الحرام حلالاً ، ولا تجعلوا الحلال حراماً ، و " لا تعتدوا " أي كلوا من الطبيات دون أن تتجاوزوا الحد ، وهذا هو معنى قوله الحق : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] .
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ . . . }
(1/2325)

وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
أولا نسأل : ما هو الرزق؟ الرزق هو ما انتفع به . فالذي تأكله رزق ، والذي تشربه رزق ، والذي تلبسه رزق ، والذي تتعلمه رزق ، والصفات الخلقية من حلم وشجاعة وغيرها هي رزق ، وكل شيء ينتفع به يُسمى رزقاً .
ولكن حين يقول الحق : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } فهو ينصرف إلى ما يطعمه الإنسان . وحين يقول سبحانه ذلك فالمقصود به أن يأكل الإنسان من الرزق الحلال الطيب . إذن هناك رزق حرام ، مثال ذلك اللص الذي يسرق شيئا ينتفع به ، هذا رزق جاء به طريق حرام ، ولو صبر لجاءته اللقمة تسعى إلى فمه لأنها رزقه . أو الرزق هو ما أحله الله ، وهنا اختلف العلماء وتسائل البعض : هل الرزق هو الحلال فقط والباقي ليس رزقاً؟ وتسائل البعض الآخر : هل الرزق هو ما ينتفع به ومنه ما يكون حلالاً ومنه ما يكون حراماً؟ الحق يقول : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } [ المائدة : 88 ] .
كلوا ما رزقكم هذا أسلوب ، { مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } هذا أسلوب آخر . فما رزقكم الله أي نأكله كله ، وهذه لا تصلح؛ لإننا لا نأكله كله طبعا بل إننا سنأكل بعضه؛ لأن الذي يؤكل ويطعم إما أن يكون صالحاً لإيجاد مثله ، وإما أن يكون غير صالح لإيجاد مثله ، فعندما يحتفظ الإنسان بالدقيق مثلاً فهو لا ينتج سنبلة قمح ، إذن يجب علينا أن نأكل بعضاً ونستبقي بعضاً صالحاً لأن ينتج مثله ، فعندما نحتفظ بالقمح فهو يصلح أن يأتي بسنابل القمح؛ لذلك جاء الأمر بأن نأكل بعض ما رزقنا الله حتى نحتفظ ببعض الورق لا نأكله ، وهذا يعني أن نحتفظ بامتداد الرزق ، فلو أكل الإنسان كل القمح الذي عنده فكيف يحدث إن أراد أن يزرع؟ إذن فاستبقاء الرزق يقتضي أن نحتفظ ببعض الرزق لنصنع به امتداداً رزقياً في الحياة؟
والرزق الحلال هنا نوعان : ما يصلح لامتداده فيحجب احتجاز بعض منه من اجل أن يستخدمه الإنسان في استجلاب رزق آخر . وما لا يصلح لامتداده كالدقيق مثلاً . نأكل بعضه ونحتفظ ببعضه لمن لا يقدر على الحركة . ولذلك نجد الحق في سورة يوسف يقول عن رؤيا الملك : { وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] .
هنا قال أهل تفسير الرؤيا : { قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ } [ يوسف : 44 ] .
إنه اضطراب في الجواب؛ لأن كونها أضغاث أحلام أنها لا معنى لها ، وقولهم بعد ذلك : { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ } فمعنى ذلك أن لها تأويلاً وقد كان لها تأويل ، ثم من الذي رأى الرؤيا؟ إنه الملك . ويأتي الحق بيوسف مفسراً للرؤيا .
(1/2326)

إذن فلا ضرورة أن يكون الرائي مؤمنا ولا صالحاً . وقد يقول قائل : كيف يطلعه الله على مثل هذه المسائل؟ ونقول : قد تكون الرؤيا إكراماً للرائي ، وقد تكون الرؤيا إكراماً للمعبر الذي يعرف التأويل ، وهي هنا إكرام للمعبر وهو سيدنا يوسف . وعرف سيدنا يوسف كيف يفك " شفرة " الرؤيا ، والعجيب في الرؤيا أن البقر الهزيل يأكل البقر السمين : وهنا قال يوسف : { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } [ يوسف : 47 ] .
أي كلوا البعض وليكن قليلا قليلا ، لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن سنين الجدب لتأكلوا فيها ما جمعتوه في سنين الخصب ، اتركوا البعض الآخر . لاستمرار النوع . وتبين أن أفضل وسيلة لحفظ حبوب القمح في عصرنا هي أن نتركه في سنابله وكذلك الذرة نتركها في غلافها . وكان تعبير الرؤيا دقيقاً لأنه يريد أن يستبقي للناس حياتهم في زمن الجدب ، ويستبقي لهم كذلك الضرع الحيواني ، فتأكل الناس الحب ، وتأكل الماشية التبن المتبقي ، وكذلك ضمن الحق مقومات الحياة لكل ما يلزم للحياة . ونلحظ أن المأكول في هذه الآية هو القليل ، أما الباقي فهو الكثير في سنابله ، هذا في أيام الرخاء؛ فماذا عن أيام الجدب؟ { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } [ يوسف : 48 ] .
أي أن الناس ستأكل في أعوام الجدب الكثير من الحبوب التي في المخازن ويجب أن يحتفظوا بقليل مما يحصنون في هذه المخازن ، وذلك لاستبقاء جزء من القمح للزراعة .
إذن ف ( من ) في قول الحق سبحانه وتعالى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } للتبعيض أي أكلوا بعض ما رزقكم الله ، فإن كانت الأشياء مما يكون بقاؤها سبباً لامتداد نوعها فالنوع يكون متصلاً . مثال ذلك رجل عنده بذور البطيخ وزرعها ، وبعد أن جاءت الثمار أكلها هي والبذور فمن أين يزرع في العام القادم؟ كان يجب أن يحتفظ ببعض منها لتكون بذوراً . وكان يجب أن يحتفظ بجزء من البطيخ ليعطي منه الجار أو المحتاج؟
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى : { مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } تصلح لاستبقاء النوع وتصلح لصرف الزائد إلى غير القادر . { واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } أي أنك حين تتقى من تؤمن به إلهاً فليس في ذلك غضاضة؛ لأنك آمنت أنه إله وقوي ، والغضاضة في أن تأمر بأمر مُساوٍ لك ، أما الانقياد والائتمار لأمر الأعلى منك ، فهذا لا يكون سبباً في الغضاضة إنما هو تشريف لك وتكريم .
ونجد الحق يشرع لنا ذلك في قصة سيدنا موسى على السحرة ، فألقى موسى عليه السلام عصاه ، ورآها السحرة حية ، والساحر ينظر إلى الشيء الذي تم سحره فيراه على حقيقته وصورته الأصلية ، أما المسحورون بالرؤية فهم الذين يرون الشكل المراد لهم رؤيته . ورأى السحرة حبالهم مجرد حبال؛ وعصا موسى هي التي صارت حية .
(1/2327)

هنا عرفوا أنها مسألة أخرى فماذا قالوا؟ : { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47-48 ] .
لقد عرفوا أن هذا أمر خارج عن نطاق البشرية . إذن فما كان من أمر السحرة تجاه قوم فرعون هو تخييل للنظر : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] .
وقال الحق : { سحروا أَعْيُنَ الناس } [ الأعراف : 116 ] .
أما موسى عليه السلام فحين ألقى العصا أول مرة ووجدها حية خاف لأنه رأى في ذلك قلباً للحقيقة . أما عند السحرة فليست حبالهم حيات حقيقية ولكنها سحر لأعين الناس أي تخيل للناظر . ومثال آخر هو سيدنا سليمان عندما أرسل لبلقيس ملكة سبأ . وجاء رسوله يقول لها : { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [ النمل : 31 ] .
فماذا قالت لحاشيتها من رجال القتال؟ : { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ } [ النمل : 32 ] .
وهنا عرفت الحاشية أن المسألة تتطلب رأياً سياسياً؛ فقالوا : { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ } [ النمل : 33 ] .
الرأي إذن هو من حق السياسي الذي يزن الأمور بموازين العقل وموازين الاحتمال الواقعة ، وموازين رد الفعل ، وأدارت بلقيس المعركة سياسياً ، فأرسلت هدية من مقام ملكة ، فإن راقته الهدية فهو طالب دنيا ويريد خيرها ، وعندما وصل رسلها بالهدية ، ماذا قال سليمان؟ { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ النمل : 36-37 ] .
وهنا عرفت بلقيس أن الإسلام أمر ضروري ، وها هي ذي الدقة لنعرف أن الأمر من المساوى هو الذي يعطي عزة في الآمر وذلة في المأمور ، أما إذا كان الأمر من غير المساوى ومن الأعلى - سبحانه - فلا ذلة فيه لأحد . وكان إيمان بلقيس إيماناً ملوكياً .
فقالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } [ النمل : 44 ] .
إنها لم تقل أسلمت لسليمان وإنما قالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ } . إذن فلا غضاضة في إيمانها . وذلك حتى لا يظن شعبها أنها ذهبت به إلى حضيض الذلة في أن يحكمهم إنسان آخر . لكن هي وسليمان محكومان لله رب العالمين ، ولا غضاضة في ذلك : ونعود إلى قوله جل شأنه : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 88 ] .
أي : اجعلوا للإيمان حيثية ، وما دمت قد آمنت وتأتمر بأمر من تؤمن به . فأنت لا تؤمن إلا بمن تثق في أنه يستحق الإيمان . وقوله أولاً في الآية السابقة : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 88 ] .
وقوله في تذييل هذه الآية : { واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 88 ] .
هو تسوير وإحاطة لطاعة بإيمانين ، إيمان خوطبوا به ، وإيمان أقروه به ، ومن بعد ذلك يقول الحق : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله . . . }
(1/2328)

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
عندما ننظر في قول الحق : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } نعرف أن " يؤاخذ " من " أخذ " ويأخذ من أخذ ، فإن قلت : " أخذت فلاناً بكذا " فذلك دليل على أنك أنزلت به نكالاً لأنه لم يدخل في تعاقد خيري معك ، ولكن أن تقول : " آخذته " . كأن المفاعلة حدثت بأن دخل معك في عقد الإيمان ولذلك يأخذ الحق الكافرين أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يؤاخذ المؤمنين ، لماذا؟ لأن المؤمنين طرف في التعاقد ، أما الكافرون فليسوا طرفاً في التعاقد؛ لذلك يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
إذن فالمؤاخذة غير الأخذ ، المؤاخذة هي إنزال عقوبة بمن له معك عهد فخالفه بعمل جريمة نُصَّ عليها؛ فلا يؤاخذه أبداً بجريمة لم ينص عليها ، ولا يتم توقيع عقاب على أحد دون تحذير مسبق . ولذلك ففي القانون المدني يقولون : لا عقوبة إلا بجريمة ولا جريمة إلا بنص .
إذن لا بد من النص أولاً على العقاب على الجريمة؛ لأن النص على فعلٍ ما بأنه جريمة يجعل الإنسان يراجع نفسه قبل الإقدام على مثل هذا الفعل . أما عدم وجود نص على أن ذلك الفعل جريمة يجعل الإنسان حراً في أن يفعله أو لا يفعله لأنه فعل مباح .
وعلينا أن نلحظ التعاقد في قوله الحق : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } . وعندما ننظر إلى معنى : " اللغو " نجده الشيء الذي يجري على اللسان بدون قصد قلبي؛ مثل قول الإنسان في اللغة العامية : لا والله أو : والله أن تأتي للغداء معنا ، هذا هو اللغو . أي هو الكلام من غير أن يكون للقلب فيه تصميم . وسبحانه وتعالى قد خلقنا وهو الأعلم بنا علم - سبحانه - أن هناك كلمات تجري على ألسنتنا لا نعنيها . ودليل ذلك أن الأم التي تحب وحيدها قد تدعو عليه ، لكن ذلك بلسانها ، أما قلبها فيرفض ذلك . ولهذا يقول المثل الشعبي : أَدْعي على ابني واكره من يقول آمين .
إذن الحق سبحانه وتعالى علم بشريتنا ، وعلم أن اللسان قد يأتي بألفاظ لم تمر على قلبه فيقول سبحانه : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } واتبع الحق ذلك : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } . وساعة نرى كلمة " ولكن " نعرف أن هناك استدراكاً ، والاستدراك هو إثبات ما يتوهم نفيه أو نفي ما يتوهم ثبوته . وساعة نرى كلمة " عقَّدتُم " فهي دليل على أنها عملية جزم قلبية ، وأن الإنسان قبل أن ينطق بالقسم قد أدار المسألة في ذهنه وخواطره وانتهى إلى هذا الرأي .
إذن فاللغو هو مرور كلمة اللسان دون أن تمر علة القلب ، وضربنا مثلاً على ذلك وهو دعاء الأم على وحيدها .
(1/2329)

ونحن نرى أن هناك ألفاظاً كثيرة تمر على ألسنة قد تؤدي إلى الكفر ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله يضع لنا صدق النية فيقول : " " أخطأ من شدة الفرح " . قالها رسول الله تعليقاً على رجل قال : " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " " .
هذا هو اللغو ومن رحمة الله بنا أنه يعفو بعميق وواسع رحمته فيقول لنا : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } . وكلمة " عقدتم " دليل على أن اللسان لم يعقد شيئاً فحسب ولكن عقده بإحكام قوي . فساعة تبالغ في الحدث فأنت تأتي له باللفظ الذي يدل على المعنى تماماً بتمكين وتثبيت . وعلى ذلك فكلمة " عقَّد " غير " عَقَدَ " إذن فكلمة " عقَّد " أي أن الإنسان قد صنع عقدة محكمة . ومثال على التأكيد قول الحق سبحانه وتعالى : { وَغَلَّقَتِ الأبواب } [ يوسف : 23 ] .
قد يقول قائل : ألم يكن يكفي أن يقول الحق سبحانه : " وغلقت الأبواب "؟ ونقول : لا إن الحق قد أتى بالفعل الذي يؤكد إحكام الإغلاق . فإغلاق الأبواب يختلف من درجة إلى أخرى؛ فهناك غلق للباب بلسان " طبلة " الباب؛ وهناك غلق بالمزلاج ، وقوله الحق : { وَغَلَّقَتِ الأبواب } أي أن امرأة العزيز بالغت في غلق الأبواب . وكذلك قوله الحق : { عَقَّدتُّمُ الأيمان } . أي جالت في قلوبكم جولة تُثبِّت صدق نيتكم في الحلف . وهناك صورة أدائية أخرى تلتقي مع هذه الصورة في المعنى ، حين قال سبحانه : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ البقرة : 225 ] .
ونلحظ هنا أن القلوب قد كسبت ، فما الذي تكسبه القلوب في مثل هذه الحالة؟ نعرف أن الكسب هو وجود حصيلة فوق رأس المال . والكسب الزائد في القسم ، هو أن يؤكد الإنسان بقلبه هذا القسم؛ أي أن القسم انعقد باللسان والقلب معاً وسبب نزول آية سورة المائدة { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } أن الصحابة الذين حرموا على أنفسهم طيبات المطاعم والملابس والمناكح وحلفوا على ذلك فلما نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 87-88 ] .
قالوا : كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية أي أن تحريم الحلال لغو لا كفارة فيه ، ونعلم أن الإنسان لا يصح له أن يحلف على شيء ليس له دخل فيه؛ كقول إنسان ما : والله لن أصلي . إن مثل هذه اليمين لا تنعقد ، ولذلك لا كفارة لها . لكن إن قال : والله لأشربن الخمر . هنا نقول له : امتثل إلى ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(1/2330)

" من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } إذن فهناك استدراك يتعلق باليمين المؤكدة وهي تستدعي المؤاخذة . فكيف تكون المؤاخذة وهي عقوبة ، على الرغم من أنه لا عقوبة إلا بنص؟ إن الحق سبحانه وتعالى ستر العقوبة ومنعها بالكفارة : " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " . والكفارة هي ستر للعقوبة . فهل معنى ذلك أن الإنسان تلزمه الكفارة ما دام قد عقَّد الأيمان؟ لا ، تكون الكفارة فقد حين تحنث في القسم فلم تبر فيه . فتكون الكفارة في هذا المجال كالآتي : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، أو صوم ثلاثة أيام لمن لم يجد .
والمناسب في الكفارة يختلف في مفهوم المفتين باختلاف الحانث ، ومثال ذلك أن خليفة في الأندلس حلف يميناً وأراد أن يؤدي عن اليمين كفارة ، فجاء إلى القاضي منذر بن سعيد وسأله عن كفارة هذه اليمين؛ فقال : لا بد أن تصوم ثلاثة أيام . وكان يجلس شخص آخر فأشار للقاضي إشارة فلم يعبأ القاضي منذر بن سعيد بتلك الإشارة . وخرج القاضي ومعه ذلك الشخص ، فسأل القاضي : يا أبا سعيد ، إن في نفسي شيئاً من فتواك؛ لماذا لم تقل للخليفة إن كفارة اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟ فقال القاضي منذر بن سعيد : أمثل أمير المؤمنين يزجر بعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟
وهذا يدلنا على أن القاضي منذر بن سعيد قد أجهد نفسه ليختار الكفارة التي تزجر . وهذا يعلمنا أن الكفارة في جانب منها زجر للنفس وفي جانب آخر جبر للذنب . وقد رجح القاضي منذر بن سعيد جانب الزجر على جانب جبر الذنب؛ لأن الخليفة لن يرهقه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق أكثر من رقبة .
وفي الإطعام لعشرة مساكين من أواسط ما نطعم به الأهل ، قد يقول قائل : هل الأوسطية هنا للكمية أو الكيفية؟ ونقول : يراعى فيها الكمية والكيفية . فإن كانت وجبة الإنسان مكونة من رغيف واحد فليعرف أن مِن أهله من يأكل في الوجبة الواحدة ثلاثة أرغفة فيكون الأوسط في مثل هذه الحالة رغيفين مع ما يكون من أدم كلحم ودسم . وكذلك الكسوة؛ أن يكسو الإنسان الذي يكفر عن يمين عشرة مساكين بما يستر العورة وتصح به الصلاة؛ كإزار ورداء أو قميص وعمامة ، أو أي ملابس تسترهم . وها نحن أولاء نجد أن كفارة تحرير رقبة تأتي في المرتبة قبل الأخيرة ويأتي بعدها قول الحق : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } . إذن فالحق لم يرتب الكفارة وإنما علينا أن نختار منها الكفارة الملائمة .
(1/2331)

ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول : { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } والحفظ هو عدم التضييع . أما كيف نحفظ أيماننا؟ فنقول : إن على الإنسان ألا يجري اليمين على لسانه ، هذه واحدة . والثانية : أن يحاول الإنسان ألا يحنث في اليمين . وهذا يقتضي ألا يحلف الإنسان على شيء يقوله بلسانه ويخضعه لقلبه إى إذا كان على ثقة من أنه سيجند كل جوارحه للقيام بهذا العمل الذي أقسم أن يقوم به ، وهذا هو معنى قوله الحق : { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } .
ويذيل الحق الآية الكريمة : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . والشكر هو الثناء من المّنعم عليه على المُنْعِمِ بالنعمة ، فكأن هذه التشريعات تستحق منا الشكر؛ لأنها جعلت اللغو غير مؤاخذ عليه ، ولأنها جعلت اليمين الذي عقَّدته له كفارة ، وفي كل من الأمرين تيسير يستحق الشكر لله .
ويتابع الحق القول : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }
(1/2332)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
ساعة تسمع كلمة : " إنما " فاعلم أنهم يسمونها في اللغة " أداة قصر " كقولنا : إنما زيد مجتهد ، وهذا يعني أننا قَصِرَنْا زيداً على الاجتهاد . لكن إذا قلنا : إنما المجتهد زيد ، فنحن في هذه الحالة قَصَرْنا الاجتهاد على زيد . وساعة تقصر إنساناً على وصف فذلك يسمونه : " قصر موصوف على صفة " ، وعندما نقول : إنما زيد شاعر . فهذا يعني أن زيداً شاعر فقط وهو ليس بكاتب أو خطيب . أما إن قلت : إنما الشاعر زيد ، فهذا يعني أنه لا يوجد شاعر إلا زيد؛ فكأنك نفيت عن الآخرين أنهم شعراء ، وأن زيداً فقط هو الشاعر ويحتمل أن يكون كاتباً وخطيباً وعالماً مع كونه شاعراً . إذن فساعة ترى " إنما " فاعرف أنها أداة من أدوات القصر .
والحق سبحانه يقول هنا : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] .
أي أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كلها رجس من عمل الشيطان . والرجس هو الشيء الرديء الخبيث القذر . والقذارة والخبث هما من الأمور التي قد تكون حسية مثل الخمر ، وقد تكون معنوية كالأنصاب والأزلام؛ وجمع الحق سبحانه في هذه الآية الأمرين معاً . ولم يقل إن الخمر هي عصير العنب أو عصير التفاح ، إنما جاء بالخمر التي تشمل كل ما يخامر العقل ويستره . وتعجب بعض العلماء من أن هذه الآية نزلت في البلاد التي ليس فيها شيء من عصير العنب ، ذلك أنهم ظنوا أن عصير العنب فقط هو الذي يستر العقل ، لكن الحق جاء بالتحريم الشامل لكل ما يستر العقل . لماذا إذن تكون الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجساً من عمل الشيطان؟
إنّ الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض وسخر له كل شيء في الوجود وطلب منه أن يعبده وحده وأن يعمر هذه الأرض . وأراد الحق أن يضمن للإنسان سلامة أشياء متعددة؛ سلامة نفسه فلا يُعتدي عليها بالقتل أو غير ذلك ، وسلامة عقله فلا يُجنى عليه بما يستر آلية الاختيار بين البدائل ، وسلامة عرضه فلا يَلغ فيه أحد وحتى تأتي الأنسال التي تعمر الكون وهي أنسال طاهرة ، وسلامة ماله حتى يحفظ على الإنسان أثر حركته في الحياة وحتى لا يأخذ غيره أثر حركته ، وذلك حتى لا يزهد العامل في العمل ولا يعود الطاقات أن تأخذ من غير عملها فتكسل وتتواكل ، فالإنسان إذا ما اعتاد أن يأخذ من غير عمل صار العمل صعباً عليه ، وهكذا كانت صيانة المال لا تبدد طاقة ولا تهدر حقا ، ولا تعطي غير ذي حق حقا لغيره ، وهكذا حتى لا يشيع العجز الاصطناعي في الكون .
(1/2333)

ولذلك قال الحق وهو مانح كل مال : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] .
أي أنه - وهو المانح سبحانه وتعالى - قد احترم حركة الإنسان فلا يستمرئ أحد البطالة . وعندما تنتشر البطالة في الإسلام يعالج الأمر بحكمة بالغة؛ فهو يطلب من الوالي أن يسبب لهم الأسباب ليعملوا . وذلك حتى لا يتعودوا على الأخذ بغير عمل لئلا تكون مصيبة على المجتمع . وأراد سبحانه بالشريعة السمحاء أن يحمي الإنسان من كل ما يبدده ، فحينما حرم الخمر ، أي منع عن الإنسان ستر العقل ، ذلك أن ميزة الإنسان على الحيوان هي العقل .
إن الإنسان يختلف عن الحيوان بأنه يحفظ حياته بالعقل ، أما الحيوان فيحفظ حياته بالغريزة . ولذلك فالحيوان لا يملك إلا رداً واحداً إذا ما تم الاعتداء عليه؛ الكلب يعض المعتدي والقطة تخمش المعتدي ، أما الإنسان فعندما يعتدي عليه أحد فهو يختار بين بدائل للرد على العدوان ، إما أن يضرب وإما يقتل وإما أن يسامح .
ومثال لذلك نراه في الريف ، عندما يحاول راكب الحمار أن يجبر الحمار على القفز على قناة صغيرة فيها مياه يرفض الحمار ذلك تماماً ومهما ضربه راكبه فهو يرفض القفز؛ لأن غريزته تمنعه من ذلك . أما الإنسان فقد ينتابه الغرور ويظن أنه قادر على القفز فوق القناة فيقفز لكنه قد يقع في المياه . وتوجد المجازفة عند الإنسان ، لكنها لا توجد عند الحيوان بمقتضى الغريزة .
ومثال آخر من عالم الحيوان . نجد ذكر الجاموس يقترب من الأنثى ليشمها فإن وجدها حاملاً لا يقربها ، هكذا الحيوان . أما الإنسان فلا . والحمار يتناول طعامه من البرسيم مثلا ما يشبعه ولا يزيد أبداً في الطعام مهما ضربه صاحبه؛ لأنه محكوم بالغريزة ، أما الإنسان فقد يأكل فوق طاقته .
وهكذا نجد الغريزة هي التي تعصم الحيوان ، والعقل هو الذي يعصم الإنسان . ولذلك لا يملك الحيوان القدرة على الاختيار ، ولكن ميزان غرائزه لا يختل أبداً . أما ميزان الغرائز عند الإنسان فقد يختل .
لقد ميز الله الإنسان عن الحيوان بالاختيار بين البدائل بالعقل ، ولذلك لا يصح ولا يستقيم من الإنسان أن يطمس هذه القدرة بالخمر . فإن طمس قدرة الاختيار ، فإن غرائزه في هذه الحالة لا تنفعه لأنها غير مؤهلة لحمايته ، ولذلك نجد الذي يطمس عقله يضع نفسه في مرتبة أقل من الحيوان؛ لأن الحيوان تحميه الغريزة ، والإنسان يحفظه عقله ، وهو في هذه الحالة قد طمسه وغطاه ، وقد حرم الله الخمر لأنها تستر العقل . وكل ما يستر العقل خمر ولو كان أصله حلالاً؛ وذلك لأن العقل هو مناط التكليف . وكذلك حرم الله الميسر .
ولنر دقة الاسم الذي اختاره الله للقمار ، إنه " الميْسر " ولم يسمه " المعسر " ذلك أن أحداً لا يقبل على الميسر وهو يظن أنه سوف يخسر ، وكل من يلعبون القمار إنما يفعلون ذلك على أمل الكسب؛ لذلك جاء بالاسم الذي يعبر عن حالة اللاعب للقمار إنه يلعب على وهم الكسب ، وإن كسب فالمكسب يُغْريه بالمزيد من اللعب .
(1/2334)

والخسران يغري باللعب أكثر لعل كسباً يعرض الخسارة التي مني بها ، وقد يبيع اللاعب للميسر كل ما يملك كي يعوض خسارته ومع ذلك فالكسب من الميسر هين على النفس تبدده وتنفقه فيما لا ينفع بل قد ينفقه فيما يضر ، فالمكسب ليس له والخسارة محسوبة عليه . والذين يلعبون الميسر مع بعضهم لا تربطهم صداقة أو محبة . فكل منهم حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر . وهذا اللون من اللعب يعطل القدرة على الكسب الحلال؛ لأن الكسب الحلال يحتاج إلى حركة في الكون . والميسر يشل حركة الكاسب لأنه يزهد في العمل . والخسران يشل حركة الخاسر لأنه مهما سعى في الأرض فقد لا يستطيع أن يسدد ديونه .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن للناس ألا ينتفع أحد بشيء إلا نتيجة كده وعمله . والحق يريد أن يكون جسد كل إنسان من ناتج عرقه في عمل مشروع وكذلك أجساد من يعول . وأبلغنا أيضاً أن الأنصاب رجس من عمل الشيطان . والأنصاب ثلاثة قداح كانت توجد عند الكاهن؛ قدْح مكتوب عليه أمرني ربي ، والقدح الثاني : مكتوب عليه نهاني ربي ، والقدح الثالث : غفل من الكتابة أي خال منها فلا علامة فيه . فإن كان في نية إنسان السفر أو الزواج أو التجارة فهو يذهب إلى الكاهن ليضرب له هذه القداح . فإن خرج القدح المكتوب عليه أمرني ربي فعل .
وإن خرج نهاني ربي لم يفعل . أما أن خرج القدح الغفل فهو يعيد ضرب القداح حتى يخرج أحد القدحين : إما الذي يحمل الأمر ، وإما الذي يحمل النهي . ولم يتساءل أحد لماذا عندما يخرج القدح الغفل لا يعتبر أن هذا أمر خارج عن نطاق التحريم . ويؤخذ على أنه إباحة واختيار يعمل أو لا يعمل . لقد أنساهم الحق ذلك حتى يدلنا على أن ذلك أمر كاذب جاء به الكهنة من عندهم . فإن سألهم سائل : من الإله الذي أمر ونهى؟ هنا يقول القائل منهم : الله هو الذي أمر وهو الذي نهى . ( والله يعلم إنهم لكاذبون ) .
والحق سبحانه وتعالى حين ينهانا عن تلك الأمور فهو يريد للإنسان أن ينمي ملكة الاختيار بين البدائل . وعلى الإنسان أن يستنبط وأن يحلل وأن يعرف المقدمات فيدرسها ويحلل الخطوات ليصل إلى النتائج . لا أن يعطل القوة المدركة التي تختار بين البديلات ، فالخمر تستر العقل ، وكذلك الميسر يضع الإنسان بين فكي الوهم ، وكذلك الأنصاب تعطل القدرة على السعي والرضوخ للكهنة . وعندما تسأل شارب الخمر : لماذا تشربها؟ يجيب : إنني أريد أن أستر همومي . وستر الهموم .
(1/2335)

لا يعني إنهاءها . ولكن مواجهة الهموم هي التي تنهي الهموم بالأسباب المتاحة للإنسان . فإن لم تقو أسبابك فالجأ إلى المسبب في إطار قول الحق : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] .
وعندما تستنفد أسبابك وتلجأ إلى الله فهو يعينك على الأمر الشاق المسبب للهموم . ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة . فقد كان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة . ومعنى " حزبه " أي خرج عن نطاق أسبابه . ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى رب الأسباب . وقد نجد من يقول : إنني أدعو الله كثيراً ولكنه لا يستجيب لي .
ونقول : إما لأنك قد دعوت في غير اضطرار ، وإما لأنك لم تلفت إلى الأسباب ، وأنت حين تتجنب الأسباب فأنت ترفض يد الله الممدودة لك بالأسباب . وأنا أتحدى أن يوجد مضطر أنهى الأسباب ، ولا يأتي له الفرج . وأنت حين تدعو بحاجة وتتأخر عليك ، نقول لك : إنك دعوت بغير اضطرار .
وكثيراً ما أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى المنزه دائماً - وأقول : هب أن تاجراً من تجار الجملة الكبار يجلس أمام المخازن التي يملكها وجاءت السيارات الشاحنة بصناديق بضائعه . والعمال يحملون البضائع ليضعوها في المخازن . وفجأة رأى عاملاً من عماله يكاد يقع بالصندوق الذي يحمله ، هنا نجد التاجر يهب بلا شعور لنجدة العامل . فما بالنا بالحق الذي خلق لنا الأسباب؟ إنك إن استنفدت الأسباب فإن الله يعينك مصداقاً لقوله : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء } [ النمل : 62 ] .
إذن فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان . والأزلام هي نوع من الميسر؛ فقد كانوا يحضرون الناقة أو الجزور ويذبحونها ويقسمونها إلى ثمانية وعشرين قسماً ويخصصون لإنسان نصيباً وللثاني نصيبين وللثالث ثلاثة أنصبة ، وللرابع أربعة أنصبة وللخامس خمسة أنصبة ، وللسادس ستة أنصبة ، والسابع له سبعة أنصبة . وكانوا يأتون بالقِداح السبعة . قدح اسمه " الفذ " ويأخذ الفائز به نصيباً ، والقدح الثاني : " التوأم " ويأخذ نصيبين ، والقدح الثالث اسمه " الرقيب " يأخذ ثلاثة . والقدح الرابع اسمه " المُسْبِل " ويأخذ ستة . والسابع اسمه " المُعَلَّى " ويأخذ سبعة أنصبة . وهناك ثلاثة قداح هي المنيح والسفيح والوَغْد ، وهؤلاء الثلاثة لا يأخذون شيئا بل يدفعون ثمن الذبيحة . وذلك رجس من عمل الشيطان .
إن النفس العاقلة لا تقبل على مثل هذه الأعمال ، بل لا بد أن يحرك أحد تلك الأطماع ، ذلك أن المخالفات إنما تنشأ من أمرين؛ إما أن تكون من النفس ، وإما أن تكون من الشيطان . والمخالفة التي تكون من النفس هي التي تحقق شهوة من نوع خاص بحيث إذا زحزحت النفس عنها فهي تريدها . والمخالفة التي من نزغ الشيطان تختلف ، فقد يوعز الشيطان لإنسان بالسرقة ، فيرفض ، فيعرف الشيطان أن لهذا الإنسان مناعة ضد هذه المعصية ، فيوعز بمعصية أخرى ، فإذا وجد مناعة انتقل إلى معصية ثالثة؛ لأن وسوسة الشيطان تطلب الإنسان عاصياً على أي لون من الألوان .
(1/2336)

فإذا وقفت عند معصية بذاتها فاعلم أن ذلك من عمل نفسك ، وإن انتقلت بالوسوسة من معصية عزت على الشيطان إلى معصية أخرى فاعلم أنها من عمل الشيطان ولا دخل للنفس بها . والعاقل الذي يتمعن في كل تلك المسائل المحرمة يرى أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام هي أمور لا تستطيبها النفس غير المنزوعة من الشيطان ، فكأن قوله الحق : { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان } يدلنا على أن العاقل لا يمكن أن يصنع هذه الأشياء .
ويذيل الحق الآية : { فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . ويأمرنا سبحانه باجتناب الرجس الذي جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، والاجتناب هو أن يعطي الإنسان الشيء المجْتَنَب جانَبَه ، أي المنع للذرائع والأسباب والسد لها؛ لأنك إن لم تجتنبها فمن الجائز أن قربك منها يغريك بارتكابها . وبعض الناس يظنون أن الخمر لم يأت لها تحريم وإنما جاء الأمر فيها بالاجتناب .
ونقول لهم : إن التحريم هو النص بعدم احتسائها ، وأما الاجتناب فهو أقوى من التحريم لأنه أمر بعدم الوجود في مكانها . فإذا كان الحق قد قال في قمة العقائد : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
فقد قال هنا اجتنبوا الرجس الذي يجمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام . والحق سبحانه وتعالى واجه العادات التي شاعت قبل الإسلام ليخلع الفاسد منها ولم يجابهها دفعة واحدة وذلك لتعليق النفس بها والإلف لها ، وإنما كان التحريم لها بالتدريج . لقد حزم الإسلام الأمر أولاً في مسائل العقائد ، أما الأمور التي تترتب على إلف العادة فكان تحريمها على مراحل .
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى عن شيء إنه : " رجس " ، فذلك حكم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ونحن نقبل هذا الحكم حتى ولو لم نفهم نحن معنى الرجس ، أو لم نتأكد مادياً من أن الشيء المحرم هو من الرجس ، ذلك أنه يكفي في ذلك حكم الله الذي يرضخ له العبد المؤمن الذي قبل التكليف من ربه؛ لأن ربه مُؤتمن على كل مصالحه . وما دام الحق قد قال عن شيء إنه رجس ، فهو رجس ولا جدال في ذلك .
أقول ذلك لأن بعضاً يظل متصيداً لأي ثغرة مفتعلة متسائلا : كيف يكون ذلك العمل أو ذلك الشيء من الرجس؟ ونقول : إننا نرضخ لحكم الله تعالى وننفذ ما أمر به ، فهو إله مأمون على كل الخلق ، وتثبت لنا الأيام دائماً صدق قول الحق في أن الأشياء التي قال عنها سبحانه إنها رجس ، هي من الرجس فعلاً ، فحين يقول سبحانه لخلقه : افعلوا كذا ، لا نسأله : وما علة ذلك التكليف ، ولكننا ننفذ أمر الحق ، ونكتشف في أعماقنا فائدة ذلك التكليف .
(1/2337)

أما عندما يكلفنا عبد مساوٍ لنا بشيء فلا بد أن نسأل : لماذا؟ والعبد المساوى لنا عليه أن يقدم لنا العلة لأي فعل يطلب منا القيام به ، ولكننا لا نسأل الله عن علة التكليف لنا؛ لأننا نؤمن بأنه إله حكيم ، والأيام ستثبت لنا أن قول الله حق . ومثال على ذلك نجد أن الذي لا يشرب الخمر امتثالاً لنهي الله عن ذلك الفعل ، هو إنسان مستقيم السلوك ، طاهر القصد ، ولا يتأتى منه نشاز في الكون . أما الذي يشرب الخمر فهو معوج السلوك ، غير طاهر القصد ، ويتأتى منه نشاز في الكون . وقد أثبتت التجربة أن شارب الخمر إنما يصاب بأمراض في الكبد ويعاني من ارتباك في إدارة حياته وكلماته . نحن نقرأ قول الله سبحانه : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله } [ البقرة : 282 ] .
والتقوى - كما علمنا - أن نجعل بيننا وبين غضب الله وقاية؛ لذلك نفعل ما أمرنا به . وحين نفعل أوامر الإله الحق فإننا نتعلم حكم الله في الفعل . ومثال ذلك قوله الحق : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] .
ونحن نعرف كيف تنهانا الصلاة عن الفحشاء والمنكر؛ لأننا نسلم وجوهنا وقلوبنا الله فننفذ ما أمر به . وكذلك نجد في الزكاة نماء . ونجد الحج يصفي النفس من أي كبر ويغسل الذنوب . وكل فعل أمر به الحق نجد له الأثر في نفوسنا بعد أن نقوم به . أما إن فعلت الحكم للعلة فذلك يبعد بك عن مرتبة الإيمان .
ونجد أن الطبيب يأتي لشارب الخمر بصورة ملتقطة للكبد بواسطة الموجات الصوتية أو الأشعة فيجد شارب الخمر صورة كبده وقد امتلأت بالتهرؤ وصارت عرضة لأمراض كثيرة ثقيلة وربما تعطلت وظائف الكبد في بعض الأحيان ، وهنا يأمر الطبيب شارب الخمر أن يمتنع عن شرب الخمر . فهل امتناع شارب الخمر في مثل هذه الحالة هو امتناع بسبب الإيمان أو بسبب الأمر الطبي؟ إنه امتناع بسبب الأمر الطبي ، ويستوي في ذلك المسلم العاصي والكافر . ولكن المؤمن الذي يمتنع عن شرب الخمر ابتداءً ، فهو قد امتنع لا لعلة الأمر ولكن لأن الأمر من الله ، وهو يتبع أوامر الحق دون سؤال عن العلة . والمؤمن يأخذ الحكم من الله دون طلب تعليل منه ليشرح له أسباب المنع في سلوكه .
والحق سبحانه قال : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } والعداوة المسبقة بين الشيطان وأبينا آدم عليه السلام بينها - سبحانه - بقوله للملائكة : { اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ البقرة : 34 ] .
وكان الشيطان موجوداً مع الملائكة ، وكان الأولى أن يسجد هو؛ لأن الأمر إذا كان للجنس الأعلى وهو الملائكة ، فيجب أن ينسحب على الأدنى ، لكنه عصى وقال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ البقرة : 61 ] .
إذن فالعداوة مسبقة بين آدم والشيطان ، فكيف إذن نقبل نحن أبناء آدم وسوسته؟ وكيف نقبل نزغه؟ وكيف نقبل إغراءه؟ لا بد إذن أن نتجنب ذلك لأنه رجس ومن عمل الشيطان ، حتى ننجو من كل سوء ، ويأتي لنا كل فلاح .
ويقول الحق : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان . . . }
(1/2338)

إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
لم يأت الحق هنا بالأنصاب أو الأزلام؛ لأن المؤمنين لا يعتقدون فيها وانتهوا منا ، والخطاب هنا موجه للمؤمنين .
إذن لماذا قرن الحق التكليف بالنهي عن الخمر والميسر - من قبل - بالأنصاب والأزلام؟ قال سبحانه ذلك ليبشع لنا الأمر ، فوضع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ، ولنفهم أن الحكم بالنهي عن الخمر والميسر جاء ليقرنهما بالأنصاب والأزلام ، وما داموا مؤمنين فلا بد أنهم قد انتهوا عن الأنصاب والأزلام .
ويقول سبحانه : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء } . والإرادة هي تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه ، وتتعلق الإرادة بمريد ، فهل يقدر على إنقاذ ما يريد أم لا يقدر؟ إن كان يقدر على إنقاذ ما يريد ، فالقدرة تكون من بعد الإرادة .
وحينما يريد سبحانه وتعالى فالقدرة تبرز المراد ، فقدرته لا تتخلف ولا مراده يتخلف؛ لأن كل شيء منفعل له سبحانه وتعالى ، وتختلف المسألة عند الإنسان والشيطان ، فالإنسان يريد ، ولكن أله القدرة على إنفاذ ذلك؟ أحياناً تكون له بعض من القدرة على إنفاذ ما يريد ، وأحياناً لا .
والشيطان يريد ، لكن أيقدر على إنفاذ ما يريد؟ إنه يقدر في حالة إطاعة الإنسان له . وهكذا تكون إرادة الشيطان ، وهو يحب أن تحدث المعصية من الإنسان ، ويتمنى الشيطان ذلك ، ويخطط لذلك . لكن الفعل لا يأتي إلى الوجود إلا إذا وافق الإنسان على طاعة الشيطان .
إذن فالإرادة إن كانت ممن يقدر على الإرغام والإبراز فهي تظهر العمل فوراً ، والقادر المطلق هو الله ، وهو يحكم ما يريد ، ولذلك يأتي قوله الحق : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
لكن خلقه حين يريدون فالأشياء لا تنفعل لهم انفعالها لخالقها؛ لأن إرادة المخلوقات تقتضي أن ينفذ الإنسان على قدر طاقته ، وهي مهما زادت محدودة . وإرادة الشيطان تحتال على الإنسان حتى يفعل ما يتمناه ، ولا يستطيع الشيطان أن يُكره الإنسان قهراً على فعل ما ، ولكنه يزين له الفعل . فليس للشيطان سلطة الإكراه ليقهر الإنسان على فعل ، وليس للشيطان قدرة على الإقناع أو الإتيان بأدلة تجعل الإنسان يفعل مراد الشيطان وهو راضٍ عن عمله . ولذلك يقول الشيطان في الآخرة للمذنبين : إن الذنب ذنبهم . { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [ إبراهيم : 22 ] .
هكذا يعلن الشيطان أنه غير قادر على البشر ، لا بالقهر ولا بالحجة ، إنّه فقط زين لهم الأمر ، فمن كانت له شهوة فالشيطان يزينها له فيرتكب الذنب . ويعلن الشيطان : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] .
ويعترف الشيطان أنه مهما صرخ مستغيثاً - يوم القيامة - فلن يجد من يغيثه ، وكذلك أصحاب الذنوب الذين اتبعوه سيصرخون ولن يجدوا من الشيطان عوناً ينجيهم من العذاب .
(1/2339)

و " أصرخ فلان فلانا " أي ذهب ليزيل صراخه وينجده .
إذن فقول الحق : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء } يشرح لنا أن إرادة الشيطان هي إرادة تزيين ، لا إرادة قدرة على القهر أو الإقناع . وإذا سمعت كلمة " يوقع " ، فافهم أن هناك شيئين الأصل فيهما الالتحام ، وهناك من يريد أن يجعل بينهما يفصل هذا الالتحام . ولذلك يقال : " فلان مشى بالوقعية " أي أنه أراد أن يصنع فجوة وشرخاً بين اثنين الأصل فيهما الالتحام .
وكلمة " بينكم " تفيد الانفصال . وهذا الانفصال هو الذي توضع فيه الوقيعة . لماذا؟ لأن المؤمنين إخوة ، ولأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، والشيطان يسعى بالخمر والميسر بأن يمشي بالوقيعة بين المؤمنين . ونجد مجالس الخمر فيها هذا؛ فالشاربون معاً كثيراً ما تقوم بينهم المعارك ويدور بينهم السباب . ولاعبو الميسر يأخذ بعضهم مال بعض ، وهكذا يتحولون من وحدة كالبنيان إلى فرقة وتحدث بينهما العداوة والبغضاء .
وما الفرق بين العداوة والبغضاء؟ العداوة هي انفصال متلاحمين حدثت بينهما عداوة وبغضاء . والبغضاء هي انفعال القلب بشيء مكروه .
كأن البغضاء توجد في الصدور بعد حصول العدوان ، فكأن العداوة تكون هي المنطقة الوسط التي باعدت بين هذين الشخصين بعد أن استسلما لنزغ الشيطان . وهذان الاثنان كان يجمعهما من قبل الصفاء والمودة والحب والأخوة الإيمانية .
والعداوة في هذه الحالة تأخذ من مشاعر كل طرف؛ لأن العداوة إن كانت من طرف واحد فعمرها قصير ، ولكنها تطول إن كانت بين طرفين . ولذلك تكون المعركة حامية بين عدوين يستشعر كل منهما العداوة للآخر . وهي تكون عداوة مؤججة وملتهبة إن لم يتدخل طرف ثالث ليحسم بالحق بين الاثنين ، فيخزي الذي على الباطل ويأخذ الحق منه ويعطيه لصاحبه ، وهنا يحس صاحب الحق أن هناك من ينصره . وبهذا تحسم العداوة وتنقضي . لكن إن لم يجد الطرفان رادَّا ولا رادعاً ، تظل العداوة متوهجة . ولذلك حينما عرض الحق أمر موسى عليه السلام وأمر فرعون ، قال عن موسى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ } [ القصص : 8 ] .
والتقطوا موسى لماذا؟ { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
فهل عرفوا هم من البداية أنه عدو؟ لا ، لقد التقطوه ليكون قرة عين لهم ، ولكن الله أفسد مرادهم . فاللام في قوله : " ليكون " هي لام الغاية والعاقبة وليست لام العلة الفاعلة ، وقد أثبت سبحانه بذلك أن فرعون ليس إلهاً ، وأن أتباعه كانوا قوماً مغفلين لا فطنة لهم . فلو كان فرعون إلهاً لعرف أن هذا الوليد الذي سيربيه سيكون عدواً له .
والعداوة هنا هل هي من ناحية موسى فقط تجاه فرعون؟ لا . إنها عداوة بين الله وموسى كطرف ، وفرعون كطرف . لذلك قال : { فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 39 ] .
(1/2340)

ولم تنته هذه العداوة إلا بغرق فرعون . والحق ينبهنا : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر } و " في " هنا هي للسببية كقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت " .
ونقول في حياتنا اليومية : أُخذ فلان إلى الحبس لمدة أعوام في قطعة مخدرات . أي أنه أوقع نفسه في المكروه بسبب شيء ما . وقوله الحق : { فِي الخمر والميسر } دلت على أن العداوة والبغضاء مظروفة في الخمر والميسر . ويقول بعد ذلك : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .
إن ذكر أي أمر يعني أن يكون هذا الأمر في بؤرة الشعور دائماً ، فكل معلومة يذكرها الإنسان تكون في بؤرة شعوره ، ومن بعد ذلك تتحرك لتحل محلها معلومة أخرى . وعندما يكون بال الإنسان مشغولاً بشيء فهذا الشيء لا يتزحزح من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور إلا بعد أن يأتي أمر آخر يشغل البال .
ولذلك نقول : إياكم أن تعتقدوا أن الذهن يفهم أي أمر من مرة واحدة أو من مرتين أو من ثلاث مرات . لا ، بل يفهم الذهن من مرة واحدة كآلة التصوير ، والمهم أن يكون ساعة التقاط المعلومة خالياً من غيرها؛ ولذلك كنا نعرف أن إخواننا المكفوفين الدارسين معنا أقدر على الاستيعاب الحفظي منا نحن المبصرين؛ لأن المبصر عندما يكون بصدد مسألة قد تنشغل عيناه بشيء ، فتكون بؤرة شعوره مشتتة . أما الأعمى فبؤرة شعوره تذكر فقط ما يسمعه .
وهكذا نعرف ما هو " الذكر " . والخمر تطمس العقل وتستره فكيف يذكر الله إذن؟ وكذلك الصلاة ، وهي الذكر ، تسترها الخمر عنا . وكذلك الميسر الذي يلوح فيه الوهم بالكسب كالسراب ، فيلهث اللاعب خلف اللعب لعله يكسب ، ويفقد القدرة على ذكر الله والصلاة .
ولأن العداوة مسبقة بين الإنسان والشيطان ، نجد الشيطان قد قال فيما يحكيه الحق عنه : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] .
قد عرف الشيطان كيف يقسم؟ أقسم بعزة الله أن يغوي خلقه ، فلو أن الله أراد عباده لما أخذهم الشيطان . ويذيل الحق أمر الخمر والميسر بقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } . هذا استفهام ، وهو طلب فهم الشيء ، هذا ما نعرفه عندما يكون الاستفهام من البشر ، ولكن عندما يصدر هذا الاستفهام من الله لنا ، فهذا أمر الأمر سبحانه وتعالى . كيف؟ إن هناك أمراً من الآمر هو حكم لازم . وهناك أمر يريده الله من المأمور ليأمر به نفسه .
وهي ثقة من الآمر الأعلى في الإنسان المؤمن الذي يتلقى مثل هذا الأمر . ومثال ذلك - والله المثل الأعلى - يقول الأب لأحد أبنائه : إن إهمالك لدروسك سيجعلك تنال غضبي واحتقار زملائك لك وتتأخر عن غيرك ، فهل ستنتهي من اللعب واللهو أو لا؟ ولم يقل : انته عن اللعب؛ لأن الأب أراد أن يأتي بالحيثيات حتى يحكم الابن بنفسه ، وحتى يدير المسألة بمقابلها ، ولا يجد إلا أن يقول : لقد انتهيت عن اللعب .
(1/2341)

وهنا جاءت المسألة أيضا على هذا الشكل ، فبدلاً من أن تكون حكماً من الله أصبحت حكماً من العبد المأمور . وهذا أبلغ أنواع الحكم؛ لأن المتكلم يلقي بالأمر في صيغة سؤال ، ليدير المسئول كل جواب فلا يجد إلا الجواب الذي يريده السائل . ومثال ذلك عندما فتر الوحي عن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقال أهل قريش : إن رب محمد قد قلاه وأبغضه وكرهه ، ثم نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ] .
ويتابع الوحي : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] .
وعندما يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة يجيب : نعم يا رب أنت وجدتني يتيماً فآويتني . وهذا يسمونه مشاركة المأمور في علة الأمر . وهذه أبلغ أنواع الأمر .
وعندما يقول الحق : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } يعلم المخاطبون ماذا يريده الله ، فيقولون : نعم انتهينا يا ربنا . وبالغوا كثيراً في هذا الانتهاء ، فالإمام عليّ - كرم الله وجهه - يقول : لو وقعت قطرة منها في بحر ثم جف البحر ، ونبت فيه الكلأ واندلع لساني من الجوع ما قربته . ولم يكن هذا أمراً مفروضاً ، ولكنها المبالغة في الانتهاء على أقصى صورة .
وها هوذا سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : لو وقعت قطرة منها على يدي لحرمتها على نفسي . وهكذا كان رد فعل قول الحق : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } . وبذلك تم حسم مسألة الخمر . ونعرف أن التكليف في تحريم الخمر جاء متدرجاً ، والتكاليف الإيمانية إنما تأتى على لسان رسول ، والرسول لا يأتي إلا إذا عم الفساد في المجتمع ، وفي ذوات البشر في آن واحد . فلا نجد من يلوم نفسه ، أو يتدخل ليرد آخر عن فساده؛ هنا تتدخل السماء بإرسال رسول ، ولا تصب السماء كل أحكامها في أول الأمر ، ولكنها تدعو خلال الرسول بالإيمان بالله الواحد حتى يتلقوا منه الحكم . فالأيمان بوحدانية الله هو قمة العقيدة التي لا هوادة فيها .
لكن في الأمور التي تتعلق بالأحكام ، فالأحكام تُغيِّر أوضاعاً عرفية وأوضاعاً اجتماعية متداولة بين الناس . فإذا أراد الله أن يغير عادة بحكم فهو يأتي بهذه المسألة تدريجا؛ لأنه سبحانه وتعالى يتلطف مع خلقه برحمته .
ومثال ذلك : كان الرجل يملك المال فلا يعطي أباه ولا أمه ، إنما يعطي المال لأولاده؛ لأنه يعرف أن والده منته وسيموت قريبا ، وأن الابن هو الذي يستقبل الحياة ، ولذلك فالابن يأخذ كُلَّ المال . هنا قال الحق : لا ، إنك أنت يا صاحب المال قد تموت قبل أبيك فاترك له شيئاً . { إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ }
(1/2342)

[ البقرة : 180 ] .
لقد أراد أن يخرجهم من عدم العطاء إلى الوصية التي تكون منهم . وبعد أن استقرت الأحكام ، قرر الحق للوالدين نصيباً من الميراث . إذن جاء الأمر أولاً بتلطف في الخروج عن حكم الإلف والعادة والعرف؛ حتى لا يخرجهم إخراجاً قسرياً . والحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يجعل المال دُولة بين الأغنياء فحسب أي يتداولوه دون غيرهم ، بل يريد أن يجعل المال دولة بين الناس . لذلك جاء الميراث .
إننا عندما نحسب ميراث ألف فدان مثلا نجده قد ذاب وتقلص وتناثر خلال ثلاثة أجيال إلى فدانين وخمسة أفدنة . وهذا تدرج أجيالي لا قسري . حتى يرتب الإنسان حياته وحياة أبنائه ، فيترك المالك لأولاده ميراثاً وخيراً ليديروا العمل فيه . أما الذي لا يملك فهو يعطي لأبنائه حرفة أو وظيفة . لذلك يذيب الدِّيُن المسألةَ المالية والعقارية أو الإقطاع كما يقولون ، لا بالقسر حتى لا تحدث للمجتمع هزة حقد أو هزة توتر؛ لأن الذي جمع ماله من عرقه ومن اجتهاده ساعة يرى المال قد خرج منه إلى من لم يعرق ومن لم يجد ، فهو يحقد ، والحق يقول : { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 36-37 ] .
وساعة يحدث الضغن في المجتمع فإن كل استقرار وود ينتهي . وهذا هو منتهى التلطف في رعاية العادات . وكانت الخمر ومجالسها عادة موجودة عند العرب ، وكان من الصعب أن يخرجهم منها مرة واحدة . لذلك جاء تحريمها بتدرج وبتلطف والذكي والفطن عندما يسمع الآية التالية يعرف أن الله قد بيت للخمر تبييتاً محكما للقضاء عليها وذلك بتحريمها ، يقول الله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] .
فسبحانه يقول : " ورزقاً حسناً " ، ولم يصف السكر بأنه حسن . ومعنى هذا أن أخذ الرزق وتخميره واتخاذه سكراً هو إتلاف للحسن . وجاء الحق ب ( السكر ) أولاً ليخبرنا أنهم كانوا يأخذون منه الرزق أولاً النصيب الذي يجعلونه خمراً . ومن بعد ذلك يطرح الحق الأمر كعظة من الواعظ للموعوظ ، والعظة ليست إلزاماً ، إنما هي إبداء رأي حكيم لغيره ، وهذا أول التبيت للدخول إلى تحريمها ، ثم يقول الحق : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] .
وهكذا رجح الحق جانب الإثم على جانب المنفعة . ومن بعد ذلك يأتي للصلاة ، ولم يكن هناك حكم جازم بعدم شرب الخمر قبل الصلاة إلى أن قام واحد للصلاة وهو سكران ، ونعوذ بالله مما قال ، قال : قل أيها الكافرون أعبد ما تعبدون . لقد اضطرته الخمر أن يخطيء في القمة العقدية ، لذلك جاء الأمر : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] .
ونعلم أن المسلم يصلي خمسة فروض في اليوم ، وحتى لا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران فهذا يقتضي أن يمر النهار كله تقريبا دون خمر إلى ما بعد العشاء .
(1/2343)

وبذلك أطال الحق المسافة الزمنية التي يمتنع فيها عن تعاطي الخمر . وفي ذلك حبس للنفس عن المعتاد عليه حتى يألف الشخص المعتادُ تركَ ما اعتادَهُ . ومن بعد ذلك يطلبون من الرسول رأياً شافياً في الخمر فيأتي قوله الحق : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] .
لقد كان هذا هو التدرج الذي يخرجهم من الإلف والعادة في أعمالهم ، فيأتي الأمر بالتحريم وكأنه صادر منهم . ويردف الحق سبحانه وتعالى ذلك الحكم الجزئي في الخمر والميسر فكأنه يقول : ما دامت المسألة كما علمتم مني بأن هذا رجس ومن عمل الشيطان فلا تعينوا الشيطان على نفوسكم وأخلصوا في عبادة الحق وحده ، ويقول سبحانه - بعد ذلك : { وَأَطِيعُواْ الله . . . }
(1/2344)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
لقد نقل الله الحكم بعدما انتهى من هذه الجزئية إلى حكم عام هو طاعة الله وطاعة الرسول . وأنت ساعة تستقرئ أمر الله بالطاعة فأنت تجدها في صور متعددة . فمرة يقول : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ المائدة : 92 ] .
فقد كرر الأمر بالطاعة لله وللرسول ، فالإطاعة لله في الحكم العام ، وإطاعة الرسول في تفصيله ، ومرة يقول سبحانه : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } [ آل عمران : 32 ] .
إنه هنا لا يكرر أمر الطاعة ، فهناك أمر للطاعة ، وهناك مطاع ، وهناك مطيع والمطيع ، هم المخاطبون ، فهو هنا يوجد أمر الطاعة ، والمطاع هنا هو الله ، والرسول يأتي معطوفا على لفظة الجلالة .
ومرة يقول الحق سبحانه : { وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النور : 56 ] .
نحن إذن أمام حالات للطاعة : الأولى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، والثانية : أطيعوا الله والرسول ، والثالثة : أطيعوا الرسول ، ومرة واحدة فقط يعطف على ذلك " أولي الأمر " فيقول جل وعلا : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] .
وحين قال الحق : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ المائدة : 92 ] .
فهو يكرر الأمر بالطاعة عند الله وعند الرسول ، لكن عند أولي الأمر لم يأت سبحانه بأمر : " وأطيعوا "؛ ذلك أن طاعة أولي الأمر تكون من باطن الطاعتين : طاعة الله ، وطاعة الرسول؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وإذا قال الحق : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } تكون طاعة الله في الحكم العام ، وطاعة الرسول في تفصيل الحكم . والمثال قوله الحق : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] .
هنا نطيع الله في الحكم العام ، ونطيع الرسول في تفصيل الحج . لأن التفصيل لم يأت في القرآن ، والرسول صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني مناسككم " وعندما يتوحد الأمران : " وأطيعوا الله والرسول " فهذا يعني أن هناك أمراً واحداً قد صدر من الله ، وصدور وحصول الفعل من الرسول يكون للقدوة والأسوة وتوكيدا للحكم .
وإذا كان لله أمر بالإجمال وللرسول أمر بالتفصيل فسبحانه يقول : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } . وإذا كان الأمر للرسول فقط ولم يرد فيه شيء من الله فهو أمر صدر بتفويض من الله بناء على قوله الحق : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
وهكذا نجد أنه لا تلتبس طاعة بطاعة ولا تتناقض طاعة مع طاعة . والحق هنا يقول : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا } . لماذا هذا التحذير؟ يأتي هذا التحذير ليعلمنا الله أن الشيطان لن يدعنا ندخل في مجال طاعة الله وطاعة الرسول ، وسيحاول جاهداً أن يُلبَّس علينا الأمر . فعندما يعرف الشيطان ميلاً في نفس إنسان إلى لون من الشهوات ، يدخل إليه من باب المعاصي . وإن كان الإنسان قد أوصد بعض السبل أمام الشيطان فلا يستطيع مثلا إغراءه بالسرقة أو شرب الخمر ، لا يتركه بل يدخل إليه من باب الطاعة ، فيأتي الشيطان إلى الإنسان لحظة الوضوء وينسيه هل غسل هذه اليد أو تلك ، وهل أسبغ الوضوء أم لا؟ أو يأتي الشيطان إلى المؤمن لحظة الصلاة فينسيه عدد الركعات أو عدد السجدات ، وهكذا يدخل الشيطان للمؤمن من ناحية الطاعة .
(1/2345)

ومعنى قوله سبحانه : { واحذروا } أي احذروا أن يحتال الشيطان عليكم؛ لأنه سيحاول أن يدخل لكم من كل مدخل ، يدخل على المسرف على نفسه بالمعصية ، وأشد أعمال الشيطان على المؤمنين هي أن يدخل عليهم من باب الطاعة . ولذلك قال الحق : { واحذروا } وكثيراً ما نجد الإنسان منا ينسى موضوعاً ما ، وحين يأتي إلى الصلاة فهو يتذكر هذا الموضوع . والشيطان لا يترك الإنسان في مثل هذه الحالة ، فقد أقسم الشيطان فقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] .
وقال الحق سبحانه : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] .
إنه أقسم أن يقف على الطريق المستقيم لا على الطريق المعوج . ومثال ذلك عندما يتصدق إنسان بصدقة قد يعلنها ويقول : لقد تصدقت أكثر من فلان . وهكذا يضيع منه الأجر . الشيطان يحاول - إذن - أن يدخل علينا من باب لا تفطن إليه وهو باب الطاعة . وأروي لكم هذه القصة حتى تعرفوا مدى تَدَخُّل الشيطان ، وقد حدثت مع الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه . فقد جاء إليه من يسأله الفتوى في أمر غريب؛ قال السائل : ضاعت مني نقودي ، فقد دفنتها في مكان من الأرض ، ونزل السيل فطمس مكان النقود وأزال الحجر الذي وضعته علامة على مكانها . فقال الإمام أبو حنيفة : اذهب الليلة بعد صلاة العشاء وقف أمام ربك إلى أن يطلع الفجر ، وقل لي ماذا سوف يحدث . وعندما جاءت صلاة الفجر جاء الرجل متهللاً إلى أبي حنيفة وقال : وجدت مالي .
فسأله أبو حنيفة " كيف؟ قال الرجل : بينما أنا أقف للصلاة تصورت مكان وضع النقود ، ومتى نزل السيل ، وكيف سار ، وهكذا قست المسافة وقدرتها إلى أن عرفت موقع النقود . فضحك الإمام وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعك تتم ليلتك مع ربك . هكذا ترى كيف يدخل الشيطان من باب الطاعة . ولذلك قال الحق : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } [ المائدة : 92 ] .
أي فإن أعرضتم عمّا كلفتكم به فاعلموا أنكم بتوليكم وإعراضكم لن تضروا الرسول؛ لأن الرسول ما كلف إلاّ أن يقوم بالبلاغ المبين ، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم به . إن الحق يعلم أزلاً أن بعضاً من عباده قد يقول : إن هذا الحكم لم يَرِد في القرآن؛ لذلك جاء بالأمر بطاعة الرسول . وهكذا صارت للرسول طاعة مستقلة ، وأرادها الله حتى يَرُدّ مقدماً على الذين يسألون عن نص فيه كل تفصيل . بينما نجد هذه التفاصيل في السنة النبوية الشريفة .
(1/2346)

ومثال ذلك عدد ركعات كل صلاة ، إنها لم تَرِدْ في القرآن ، ولكننا عرفناها تفصيلاً من الرسول . وفَوَّض الحق رسوله في التشريع : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
فسبحانه قد علم أزلاً أن هناك من سيدَّعي أنه لن يطيع إلا القرآن . ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله عزوجل ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله "
أي أن الرسول هو المبلغ عن ربه ، وأن علينا أن نحذر الشيطان إذا أراد أن يدخل علينا من باب الطاعة . ولكن لماذا قال الحق : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } ؟ وعن أي شيء يكون التولي؟
قال الحق ذلك ليوضح لنا أن الإنسان له الاختيار في أن يذهب إلى الطاعة ، وله الاختيار في أن يذهب إلى المعصية ، وإن تولى الإنسان عن الطاعة إلى المعصية ، وعن الإيمان الذي جاء به الرسول الذي بلغ عن الله إلى البقاء في الكفر ، فليعلم ذلك الإنسان أن الرسول قد أوفى مهمته وأداها . فالمطلوب من الرسول أن يبلغ المنهج ، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم بلاغاً مبيناً ، محيطاً ، واضحاً ومستوعباً لكل أقضية الحياة .
لقد أبلغنا صلى الله عليه وسلم مطلوب الله منا أن نؤمن بإله واحد ، قادر ، حكيم ، له كل صفات الكمال ، ذلك هو الأمر الأول في العقيدة . وأبلغنا صلى الله عليه وسلم أن نبتعد عما كان عليه العرب من الأنصاب ، ومن الأوثان ، ومن الأصنام . وبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منا إيماناً ، وعملاً ، والعمل ينقسم إلى قسمين : عمل إيجابي ، وعمل سلبي . ويتركز العمل الإيجابي في " افعل كذا " ، إذا لم تكن تفعله ، أما العمل السلبي فهو أن تكف عما نهاك عنه الله ، ونهاك عنه الرسول صلى الله عليه وسلم .
إذن أول مطلوب الإيمان هو الاعتقاد في الإله الواحد ، وأن نكف عن عبادة الأوثان والأصنام ، والطلب - كما نعرف - هو أن تنشيء كلاماً تطلب به من مخاطبك أن يفعل شيئاً لم يكن مفعولاً وقت طلبه . فإذا أوضح الحق : لا تعبد الأوثان ، فهذا طلب الفعل ، وهو أن نكف عن عبادة الأوثان . وحين يأمرنا الحق بالصلاة والصوم والزكاة وحج البيت ، فهذا طلب لأفعال . وطلب الفعل يقال له : " أمر " . وطلب الكف عن فعل يقال له : " نَهْي " .
وأنت إذا نظرت إلى كل التكاليف في الإسلام ، تجدها لم تأت مرة واحدة ، وإنما جاءت على مدار ثلاثة وعشرين عاماً . فعندما جاء الإسلام آمن به أناس ، ولم يكن قد صدر إليهم تنفيذ أي من الأحكام التي وردت على مدار سنوات الرسالة ، وإنما كان المطلوب منهم بعضاً يسيراً منها ، وكانوا يؤدونها ، منهم من بلغه فقط ضرورة الإيمان بالإله الواحد ، وآمن بذلك ثم وافاه الأجل وكانت له الجنة .
(1/2347)

ومنهم من امتدت حياته ، فزادت عليه أحكام جديدة فنفذها ، وكان إسلامه بذلك إسلاماً تاماً .
إذن ، فالتمام في الإسلام هو تنفيذ كل عمل جاء في الأحكام التي أدركها المسلم . فإن لم يكن المسلم قد أدرك إلا حكماً واحداً ونفذه فله كل ما وعد الحق به . ومثال ذلك " مخيريق اليهودي " الذي أسلم وأوصى بماله للنبي صلى الله عليه وسلم . فلما كان يوم أُحُد ، وقف في قومه قائلاً : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لَحَقُّ . فلم يجيبوه ، فأخذ سيفه وعدته وقال : إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء . ثم خرج إلى القتال فقاتل حتى استشهد . ولم يكن قد نفذ أي حكم من أحكام الإسلام ، لكنه قاتل فنال شرف الشهادة ، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مُخَيْريق خير يهود "
ولا بد لنا أن نفرق دائماً بين " أركان الإسلام " والمطلوب من المسلم . ونعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمس : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان "
هذه هي أركان الإسلام . أما المسلم فقد يختلف المطلوب منه ، فالمطلوب من المسلم أن يشهد مرة واحدة في حياته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . ومطلوب منه دائماً أن يقيم الصلاة مهما تكن حالته . لكن فرض الزكاة قد يسقط عنه إن كان لا يملك مالاً . وقد يسقط عنه الصوم إن كان مريضاً مرضا لا يرجى شفاؤه أو كان كبير السن لا يقدر على الصوم وعليه فدية طعام مسكين ، أما المريض الذي يرجى شفاؤه وكذلك المسافر فيقضيان الصوم بعد زوال العذر ومثلهما الحائض والنفساء . وقد يسقط عنه الحج لأنه لا يملك المال الكافي . هكذا تختلف أركان الإسلام من مسلم لآخر ، وهكذا نعرف أن من عاش في بدايات الإسلام ونفذ القليل من الأحكام التي نزلت حتى مات أو استشهد ، فقد أدى مطلوب الإسلام منه .
وعندما نزلت مسألة النهي عن الخمر ، والميسر ، ذهب أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن مصير زملائهم وإخوتهم في الإيمان الذين ماتوا أو استشهدوا قبل أن ينزل تحريم الخمر والميسر . ومجرد السؤال هو دليل على اليقظة الإيمانية ، فالإنسان لا يكون مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . وهنا أنزل الحق سبحانه وتعالى القول الكريم : { لَيْسَ عَلَى الذين . . . }
(1/2348)

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
لقد أنزل الحق هذه الآية ليُطَمْئن المؤمنين السائلين عن الحكم في إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا وكانوا يشربون الخمر قبل نزول الحكم بتحريمها . { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } و { طعموا } لا تخص الطعام فقط ولكن تشمل وتضم الشراب أيضاً ، فالحق يقول : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] .
وعلى ذلك فالماء طعام ، بمعنى أن طعمه يكون في الفم . وهكذا عرف المسلمون السائلون عن إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا أن إسلامهم كان مقصوراً على الأحكام التي نزلت في أثناء حياتهم ، فقد نفذوا المطلوب منهم بعدم عبادة الأصنام . وقد يكون منهم من مات قبل أن تفرض الصلاة ، أو مات قبل أن تنزل أحكام الزكاة أو الصوم ، ولذلك لم يفعلوها . وعلى ذلك يكون عملهم الصالح هو تنفيذ التعاليم التي نزلت إليهم . لقد اتقوا الله فنفذوا مطلوب الإيمان على قدر ما طلب منهم الحق ، آمنوا بالإله المكلِّف وجعلوا بينهم وبين الله وقاية بأن نفذوا مطلوبه سبحانه امراً ونهياً .
والإيمان له قمة هي أن يؤمن الإنسان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وبعد ذلك بالأحكام التي تنزل من السماء . واختلف العلماء فيما بينهم في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه ، فمن العلماء من قال : إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، إنما نظروا إلى الإيمان بالقمة العقدية وهي الإيمان بالله : والذين قالوا بأن الإيمان يزيد وينقص إنما نظروا إلى الإيمان بالأحكام التي ينزلها الله ، وأخذوا ذلك من قوله الحق : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] .
فكل آية تنزل بأحكام جديدة فهي تزيد الإيمان . فعندما نزل الحكم بالزكاة أمن به المسلمون وطبقوه . ومنهم ممن لم يكن يملك المال فلم يطبق الحكم على الرغم من أنه آمن به .
فالمسلم يؤمن بالحكم ، وإن كان مستطيعاً فهو يفعله ، وإن كان غير مستطيع فهو لا يفعله . ولهذا كانوا يستبشرون بالأحكام التي تنزل بها الآيات . وعلى ذلك يكون خلاف العلماء خلافا على جهة منفكة ، ونلحظ أن الحق يقول : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين } [ المائدة : 93 ] .
إذن ، فهنا ثلاث مراحل : هناك من أدرك حكماً فاتقى الله وآمن وعمل صالحاً ، وبعد ذلك انتقل وأفضى إلى ربه فلا جناح عليه ، وهناك من عاش ليعاصر أحكاماً أخرى فآمن بها وعمل بها ، وهناك من عاش ليعاصر أحكاماً قد زادت فعمل بها أيضاً . والإيمان الأول ارتبط بالعمل الصالح ، وكذلك الإيمان الثاني الذي جاء في الآية .
(1/2349)

ثم يأتي الإيمان الثالث مرتبطاً بالإحسان .
والإحسان كما نعلم له وجهان : الأول أن يعبد المؤمن الله كأنه يراه ، وكلما جاء تكليف ، يحسن المؤمن في أدائه ، كأنه يرى الله ، وإن لم يكن يراه فإنه يحس أنه سبحانه يراه . وإذا ما استوعب المسلم كل أحكام الله التي استوعبت بدورها كل أقضية الحياة ، فهو يحسن أداء هذه الأحكام . والوجه الثاني للإحسان أن يزيد المؤمن في أداء هذه التكاليف فوق ما فرض الله ، وهي النوافل . وبذلك لا يكتفي المؤمن بتصديق الأحكام التي نزلت ، بل يزيد من جنسها . والحق يقول : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 15-16 ] .
وجاء الحق بالتعليل وهو : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 16 ] .
ووجه إحسانهم أن الواحد منهم لا يقف عند ما كلفه الله به ، بل يزيد على ما كلفه الله من جنس ما كلفه سبحانه ، فالحق قد فرض على المسلم خمسة فروض ، والمحسن هو من يزيد ويتقرب إلى الله بالنوافل . وفرض سبحانه على المسلم صوم رمضان ، والمحسن هو من يؤدي صيام رمضان بتمامه ويزيد بصوم أيام أخرى من العام . وفرض سبحانه على المسلم زكاة مال بقدر اثنين ونصف في المائة وهو ربع العشر ، والمحسن قد يزيد الزكاة إلى أكثر من ذلك . وفرض سبحانه على المسلم حج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا ، والمحسن هو الذي يزيد مرات الحج .
إذن ، فالمحسن هو من عشق التكليف من الله ، وعرف منزلة القرب من الله ، فوجد أن الله قد كلفه دون ما يستحق - سبحانه - منا فزاد من العمل الذي يزيده قرباً من الله . ويضيف الحق في وصف المحسنين : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] .
ولم يكلفنا سبحانه بألا نهجع إلا قليلاً من الليل . كلفنا فقط بأن نصلي العشاء ، وبعد ذلك قد ننام لنصحو لنصلي الصبح ، أما المحسن الذي عرف حلاوة الخلوة مع الله فهو لا يهجع إلا قليلاً من الليل . ويضيف الحق سبحانه في وصف المحسنين : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 18 ] .
ولم يكلف الله المسلم بالاستغفار في السحر ، لكن المحسن يفعل ذلك ويضيف الحق سبحانه : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 19 ] .
ولم يقل سبحانه : إنه حق معلوم ، لأن الحق المعلوم هو الزكاة . وهذه المراحل الثلاث هي التي تُدخل المؤمن في مرتبة الإحسان . ولذلك نجد الحق في آخر مرحلة في الآية التي نحن بصددها يتحدث عن الإحسان : { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } أي أن يزيد الإنسانُ المؤمنُ من جنس ما فرض الله . ووقت أن كان التكليف في دور الاستكمال فكل حكم يأتي كان يستقبله المؤمن بإيمان وعمل . أما الذين أدركوا كل التكاليف خلال الثلاثة والعشرين عاماً - المدة التي مكثها وعاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى - فقد استوت عندهم التكاليف ، وإذا ما أرادوا الإحسان فلا بد لهم من الزيادة من جنس التكليف .
ويقول الحق من بعد ذلك : { ياأيها الذين . . . }
(1/2350)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
وهذا انتقال لحكم جديد ، فبعد أن تكلم الحق فيما أحله لنا وقال سبحانه : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } [ المائدة : 1 ] .
وبعد أن تكلم الحق سبحانه فيما حرم علينا من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكى وذبح وحرَّم ما ذبح للأصنام وما استقسم بالأزلام وكذلك الخمر والميسر ، أراد أن يعطينا محرمات من نوع خاص ، وحتى نعرف هذه المحرمات لا بد لنا أن نعرف أن هناك أشياء محرمة في كل زمان وكل مكان ، كالخمر والميسر والزنا وغير ذلك من النواهي الثابتة ، سواء أكانت عبادة أصنام أم أزلام أم غير ذلك من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ، وهناك محرمات في أزمنة خاصة ، أو في أمكنة خاصة . والفعل ، أي فعل ، لا بد له من زمن ولا بد له من مكان .
نحن مأمورون بالصلاة في زمانها في أي مكان طاهر وصالح للصلاة فيه ، وكذلك الصوم يتحكم فيه الزمان ، أما الحج فالذي يتحكم فيه هو الزمان والمكان . وأما العمرة فالذي يتحكم فيها هو المكان؛ لأن الإنسان يستطيع أن يعتمر في أي زمان - غالباً - ويتكلم سبحانه هنا عن نهي في مكان خاص وفي زمان خاص ، فالصيد ليس محرماً إلا في حالة أن يكون الإنسان حُرماً .
ونعلم أن كلمة و " حُرُم " هي جمع " حَرَام " ، والحرام إما أن يكون الإنسان في المكان الذي يبدأ فيه بالتحريم . ومثال ذلك منطقة رابغ التي يبدأ عندها الإحرام بالنسبة لسكان مصر ، فإن وصلت إلى هذا المكان وبدأت في عمل من أعمال الحج أو العمرة فأول عمل هو الإحرام . ومن لحظة الإحرام حتى ولو أحرمت من بلدك أو بيتك لا يحل لك الصيد . و " الحرم " أيضاً هو وصف للمكان حتى وإن لم يكن الإنسان حاجاً ، فالصيد محرم في الحرم ، والحرم له حدود بينها الشرع ، فالصيد فيه حرام على المُحْرِم وغير المحْرِم . ونعلم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد جعل الحق لها الأرض كلها مسجداً وطهوراً .
وعلى ذلك فأي مكان يصلح للصلاة ، ويصلح أن نقرأ فيه العلم ، ويصلح أن نقيم عليه مصنعاً ويصلح أن نزرعه . إذن فأي أرض تصلح أن تكون مسجداً لأنها مكان للسجود . ولكن المسجد بالمعنى الاصطلاحي هو المكان المخصص للصلاة . أما المسجد الحرام فمركزه الكعبة وحولها الطواف وحول ذلك جدران الحرم . ويقع المسجد الحرام في دائرة الحرم ، والتي تبدأ من التنعيم والجعرانة والحديبية والجحفة وغيرها ، هذه حدود الحرم . فالإنسان إذا ما جاء إلى ميقات الحج عند رابغ مثلا فهو لا يصطاد؛ لأنه أصبح في دائرة الحرم ، فالصيد محرم عليه حتى ولو لم يكن حاجاً أو معتمرا .
(1/2351)

والحج - كما نعلم - هو رحلة فرضها الله مرة واحدة في العمر يخرج إليها المسلم الذي يحيا في كل مكان مع نعمة المنعم . وعندما يخرج المسلم إلى الحج فهو يتحلل من كل النعم التي تصنع له التمييز ليستوي مع كل خلق الله . وأول سمة مميزة للإنسان هي الملابس ، لذلك يخلع المسلمون ملابسهم ويرتدون لباساً موحداً يتساوون فيه . وحين يترك المسلم النعمة كلها فذلك لأنه ذاهب إلى المُنْعِم .
ومن بعد ذلك يريد الحق أن يؤدبنا تأديباً إيمانياً مع الوجود كله . ويصفي الله في الحج هذه المسألة كلها ، فالكل سواء في ملابس تكاد تكون واحدة ، وكلهم شُعْثٌ غُبْر ، وكلهم يقولون : " لبيك اللهم لبيك " . هكذا تتم تصفية التفاوت في الإنسان بالإحرام .
ومن بعد ذلك ينظر إلى الجنس الأدنى وهو الحيوان ، ويعلمنا الحق الأدب مع هذا الجنس فيأتي بتحريم صيده . ويعلمنا الأدب مع الزرع الذي تحت الحيوان فيمنع المسلم من قطع شجر الحرم . وهكذا تصفي كل هذه المسألة ، وتصبح العبودية مستطرقة في الجميع .
وتزول في الحج كل الألقاب والمقادير المتباينة من فور اتجاههم إلى الحج ، وحول الكعبة يرى الخفيرُ الوزيرَ وهو يبكي ، ويشعر الجميع أن الكل سواء ، والحق يقول : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] .
فالحيوان يأمن وكذلك النبات ، هذا ما أمر به الحق في دائرة الحرم؛ لأن ذلك تدريب للإنسان على أن يخرج من النعمة إلى المنعم . ومن بعد ذلك يدخل إلى المسجد ويطوف حول الكعبة . ونجد الإنسان - سيد الوجود - يقف من كل ما يخدمه في الوجود موقفاً مختلفاً ، فالحيوان يأخذ كرامته وكذلك النبات ، وكذلك الجماد يأخذ أيضاً كرامته ، فمن عند الحجر الأسود يبدأ الطواف سبعة أشواط .
في الحج ينفض الإنسان أي طغيان عن نفسه ويتساوى مع كل الناس ، ينفض طغيانه أمام الجنس الأدنى وهو الحيوان فحرّم عليه صيده - ونعلم أن الحيوان يغذي الإنسان - وينفض أيضا طغيانه مع النبات - والنبات يغذي الإنسان - فحرّم قطعه .
وينفض الحق كبرياء الإنسان أمام الجماد - وهو أحط الأجناس - فأمر الحق الإنسان أن يستلم الحجر الأسود أو أن يقبله ، وإن لم يستطع من الزحام فعليه الإشارة للحجر ، ومن لم يستطع استلام الحجر أو تقبيله فقد يخيل إليه أن حجه لم يقبل وذلك زيادة منه في التعلق بالمناسك والاحتياط في أدائها .
كل ذلك حتى يحقق الله سبحانه وتعالى استطراق العبودية ، ودائماً نجد من يتساءل : وكيف نقبل الحجر على الرغم من أن الله قد نهانا عن الوثنية وعبادة الأصنام؟ ونقول؟ إن الحجرية ليست لها قيمة في هذا المجال ، ولكن رب الإنسان والحيوان والنبات والحجر هو الذي أمرنا بذلك ، بدليل أننا نرجم حجراً آخر هو رمز إبليس ، والعبد في أثناء أداء المشاعر - إنما ينتقل من مراد نفسه إلى مراد ربه ، فيقبل ويعظم حجراً ويرجم حجراً آخر ، وهكذا صفيت العبودية بالنسبة للناس فاستطرقوا ، وصُفيت العبودية بالنسبة للحيوان والنبات والجماد .
(1/2352)