[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
وقد أجاب عليه السلام بهذا عن مقالتهم الشنعاء المبنية على إعتقاد كون آلهتهم تضر وتنفع ولما كان ما وقع أولا منه عليه السلام في حقها من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق ذلك عليهم وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا ما زعموا صرح عليه السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الإسمية المصدرة بأن وأكد ذلك بأشهد الله فإنه كالقسم في إفادة التأكيد وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به والمقصود منه الإستهانة والإستهزاء كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به : أشهد على أني قائل لك كذا وكأنه غاير بين الشهادتين لذلك وعطف الإنشاء على الإخبار جائز عند بعض ومن لم يجوزه قدر قولا أي وأقول اشهدوا ويحتمل أن يكون إشهاد الله تعالى إنشاء أيضا وإن كان في صورة الخبر وحينئذ لا قيل ولا قال وجوز أن يكون إشهاده عليه السلام لهم حقيقة إقامة للحجة عليهم
وعدل عن الخبر فيه تمييزا بين الخطابين فهو خبر في المعنى كما هو المشهور في الأول لكن الأولى الحمل على المجاز ثم أمرهم بالإجتماع والإحتشاد مع آلهتهم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم بعض آلهتنا والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال : فكيدوني جميعا ثم لاتنظرون
54
- أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم مما يقدرون على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني بريء منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم من قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما والخطاب للقوم وآلهتهم ويفهم من كلام بعض أنه للقوم فقط وفيه نفي قدرة آلهتهم على ضره بطريق برهاني فإن الأقوياء الأشداء إذا لم يقدروا مع إجتماعهم واحتشادهم على الضر كان عدم قدرة الجمادات عليه معلوما من باب أولى وأياما كان فذاك من أعظم المعجزات بناءا على ما قيل : إنه كان عليه السلام مفردا بين جمع عتاة جبابرة عطاش إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على ما هيجهم فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا وفي ذلك دلالة على مزيد ثقته بالله سبحانه وكمال عنايته به وعصمته له وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله : إني توكلت على الله ربي وربكم وفيه تعليل لنفي ضرهم بطريق برهاني يعني أنكم وإن لم تبقوا في القوس منزعا وبذلتم مضادتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على الله تعالى واثق بكلاءنه وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته وجيء بلفظ الماضي لأنه أدل على الإنشاء المناسب للمقام ثم إنه عليه السلام برهن على عدم قدرتهم على ضره مع توكله عليه سبحانه بقوله : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية وفي البحر أنه صار عرفا في القدرة على الحيوان وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته وقوله : إن ربي على صراط مستقيم
56
- مندرج في البرهان وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن إعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها وهو كقوله سبحانه : إن ربك لبالمرصاد
(12/83)

إليه تعالى للجزاء وفصل القضاء ولعل الأول أولى وفي الكشف إن في قوله : إني توكلت الآية من اللطائف ما يبهرك تأمله من حسن التعليل وما يعطيه أن من توكل عليه لم يبال بهول ما ناله ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله : ربي وربكم فكيف يصاب من لزم سدة العبودية وينجو من تولى ما يعطيه من وجوب التوكل عليه سبحانه إذا كان كذلك وترشيحه بقوله : ما من دابة إلى تمام التمثيل فإنه في الإقتدار على المعرض أظهر منه في الرأفة على المقبل خلاف الصفة الأولى وما فيه من تصوير ربوبيته وإقتداره تعالى وتصوير ذل المعبودين بين يدي قهوه أياما كان والختم بما يفيد الغرضين على القطع كفاية من إياه تولى وخزاية من أعرض عن ذكره وتولى بناءا على أن معناه أنه سبحانه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم وفي قوله : ربي من غير إعادة وربكم كما في الأول نكتة سرية بعد إختصار المعنى عن الحشو فيه ما يدل على زيادة إختصاصه به وأنه رب الكل إستحقاقا وربه دونهم تشريفا وإرفاقا فإن تولوا أي تتولوا فهو مضارع حذف منه إحدى التاءين وحمل على ذلك لإقتضاء أبلغتكم له وجوز ابن عطية كونه ماضيا وفي الكلام التفات ولا يظهر حسنه ولذا قدر غيره ممن جعله كذلك فقل أبلغتكم لكنه لا حاجة إليه ويؤيد ذلك قراءة الأعرج وعيسى الثقفي تولوا بضم التاء واللام مضارع ولى والمراد فإن تستمروا على ما كنتم عليه من التولي والإعراض لوقوع ذلك منهم فلا يصلح للشرط وجوز أن يبقى ظاهره بحمله على التولي الواقع بعدما حجهم والظاهر أن الضمير لقوم هود والخطاب معهم وهم من تمام الجمل المقولة قبل وقال التبريزي : إن الضمير لكفار قريش وهو من تلوين الخطاب وقد إنتقل من الكلام الأول إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنه قيل : أخبرهم عن قصة هود ودعهم إلى الإيمان بالله تعالى لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود عليه السلام فإن تولوا فقل لهم قد أبلغتكم إلخ وهو من البعد بمكان كما لا يخفى وقوله سبحانه : فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم دليل جواب الشرط أي إن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ فإن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول وقيل : التقدير إن تتولوا فما على كبيرهم منكم فإنه قد برئت ساحتي بالتبليغ وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان وقيل : إنه الجزاء بإعتبار لازم معناه المستقبل بإعتبار ظهوره أي فلا تفريط مني ولا عذر لكم وقيل : إنه جزاء بإعتبار الإخبار لأنه كما يقصد ترتب المعنى يقصد ترتب الإخبار كما في وما بكم من نعمة فمن الله على ما مر وكل ذلك لما أن الإبلاغ واقع قبل توليهم والجزاء يكون مستقبلا بالنظر إلى زمان الشرط
وزعم أبو حيان أن صحة وقوعه جوابا لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل فكأنه قيل : فإن تتولوا إستؤصلتم بالعذاب ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله سبحانه : ويستخلف ربي قوما غيركم وفيه منع ظاهر وهذا كما قال غير واحد : إستئناف بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم هو إستئناف نحوي عند بعض بناءا على جواز تصديره بالواو
وقال الطيبي : المراد به أن الجملة ليست بداخلة في الجملة الشرطية جزاءا بل تكون جملة برأسها معطوفة على الجملة الشرطية وهو خلاف الظاهر من العبارة وعليه تكون مرتبة على قوله سبحانه : إن ربي على صراط مستقيم والمعنى أنه على العدل ينتقم منكم ويهلككم وقال الجلبي : لا مانع عندي من حمله على الإستئناف
(12/84)

البياني جوابا عما يترتب على التولي وهو الظاهر كأنه قيل : ما يفعل بهم إذا تولوا فقيل : يستخلف إلخ وتعقبه بعضهم بأن الإستئناف البياني لا يقترن بالواو وجوز أن يكون عطفا على الجواب لكن على ما بعد الفاء لأنه الجواب في الحقيقة والفاء رابطة له ودخول الفاء على المضارع هنا لأنه تابع يتسامح فيه
وقيل : تقديره فقل : يستخلف إلخ وقرأ حفص برواية هبيرة و يستخلف بالجزم وهو عطف على موضع الجملة الجزائية مع الفاء كأنه قيل : فإن تولوا يعذرني ويهلككم ويستخلف مكانكم آخرين
وجوز أبو البقاء كون ذلك تسكينا لتوالي الحركات وقرأ عبدالله كذلك ويجزم قوله سبحانه : ولا تضرونه شيئا وقيل : إن من جزم الأول جزم هذا لعطفه عليه وهو الظاهر والمعنى لا تضرونه بهلاككم شيئا أي لا ينتقص ملكه ولا يختل أمره ويؤيد هذا ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ولا تنقضونه شيئا ونصب شيئا على أنه مفعول مطلق لتضرون أي شيئا من الضرر لأنه لا يتعدى لإثنين وجعله بعضهم مفعولا ثانيا مفسرا له بما يتعدى لهما لمكان الرواية وجوز ابن عطية أن يكون المعنى إنكم لا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الإنتصار منه ولا تقابلون فعله بشيء يضره تعالى عن ذلك علوا كبيرا والأول أظهر وقدر بعضهم التولي بدل الإهلاك أي ولا تضرونه بتوليكم شيئا من الضرر لإستحالة ذلك عليه سبحانه إن ربي على كل شيء حفيظ
57
- أي رقيب محيط بالأشياء علما فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم فالحفظ كناية عن المجازاة ويجوز أن يكون الحفيظ بمعنى الحافظ بمعنى الحاكم المستولي أي أنه سبحانه حافظ مستول على كل شيء ومن شأنه ذلك كيف يضره شيء ولما جاء أمرنا أي نزل عذابنا على أن الأمر واحد الأمور قيل : أو المأمور به وفي التعبير عنه بذلك مضافا إلى ضميره جل جلاله وعن نزوله بالمجيء ما لا يخفى من التفخيم والتهويل
وجوز أن يكون واحد الأوامر أي وورد أمرنا بالعذاب والكلام على الحقيقة إن أريد أمر الملائكة عليهم السلام ويجوز أن يكون ذلك مجازا عن الوقوع على سبيل التمثيل نجينا هودا والذين آمنوا معه قيل : كانوا أربعة آلاف وقيل : ثلاثة آلاف ولعل الإنتصار للأنبياء عليهم السلام يكون مأذونا به للمؤمنين إذ ذاك فلا ينافي ما تقدم نقله من أنه عليه السلام كان وحده ولذا عد مواجهته للجم الغفير معجزة له صلى الله عليه و سلم لكن لا بد لهذا من دليل كدعوى إنفراده عنهم حين المقاولة وفي الحواشي الشهابية أنه لا مانع من ذلك بإعتبار حالين وزمانين فتأمل والظاهر أن ما كان من المقاولة إنما هو في إبتداء الدعوة ومجيء الأمر كان بعد بكثير وإيمان من آمن كان في البين فترتفع المنافاة برحمة عظيمة كائنة منا وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم
وروي هذا عن ابن عباس والحسن وذكره الزمخشري ولشم بعضهم منه رائحة الإعتزال لم يلتفت إليه ولا بأس بأن تحمل الرحمة عن الفضل فيفيد أن ذلك بمحض فضل الله تعالى إذ له سبحانه تعذيب المطيع كما أن له جل وعلا إثابة العاصي والجار والمجرور الأول متعلق بنجينا وهو الظاهر الذي عليه كثير من المفسرين
وجوز أبو حيان كونه متعلقا بآمنوا أي إن إيمانهم بالله تعالى ورسوله عليه السلام برحمة من الله تعالى إذ وفقهم إليه ولعل ترتيب الإنجاء على النزول باعتبار ما تضمنه من تعذيب الكفار فيكون قد صرح
(12/85)

بالإنجاء إهتماما ورتب بإعتبار الآخر إشارة إلى أنه مقصود منه ويجوز أن تكون لما لمجرد الحين ونجيناهم من عذاب غليظ
58
- تكرير لأجل بيان ما نجاهم عنه وهي الريح التي كانت تحمل الظعينة وتهدم المساكن وتدخل في أنوف أعداء الله تعالى وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا أو المراد الإنجاء من عذاب الآخرة وبالأول الإنجاء من عذاب الدنيا ورجح الأول بأنه أوفق لمقتضى المقام وحاصله أن الأول إخبار بأن الإيمان الذي وفقوا له صار سبب إنجائهم والثاني بأن ذلك الإنجاء كان من عذاب أي عذاب دلالة على كمال الإمتنان وتحريضا على الإيمان وليس من أسلوب أعجبني زيد وكرمه في شيء كما ظنه العلامة الطيبي
وقد أورد على الثاني أن إنجاءهم من عذاب الآخرة ليس في وقت نزول العذاب في الدنيا ولا مسببا عنه إلا أن يجاب بأنه عطف على القيد والمقيد كما قيل في قوله سبحانه : لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون قيل : ولا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع لأن الموافق للتعبير بالماضي المفيد لتحققه حتى كأنه وقع أن يجعل بإعتبار ذلك واقعا في وقت النزول تجوزا أو المعنى حكمنا بذلك وتبين ما يكون لهم لأن الدنيا أنموذج الآخرة وأيا ما كان فالمراد بغلظ العذاب تضاعفه وقد يقال على الإحتمال الأول في وصف العذاب الذي كان بالريج : بالغلظ الذي هو ضد الرقة التي هي صفة الريح ما لا يخفى من اللطف وفيه أيضا مناسبة لحالهم فإنهم كانوا غلاظا شدادا وتلك عاد أنث إسم الإشارة بإعتبار القبيلة على ما قيل فالإشارة إلى ما في الذهن وصيغة البعيد لتحقيرهم أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم أو الإشارة إلى قبورهم ومصارعهم وحينئذ الإشارة للبعيد المحسوس والإسناد مجازي أو هو من مجاز الحذف أي تلك قبور عاد وجوز أن يكون بتقدير أصحاب تلك عاد والجملة مبتدأ وخبر وكان المقصود الحث على الإعتبار بهم والاتعاظ بأحوالهم وقوله سبحانه : جحدوا بآيات ربهم إلخ إستئناف لحكاية بعض قبائحهم أي كفروا بآيات ربهم التي أيد بها رسوله الداعي إليه ودل بها على صدقه وأنكروها فقالوا : يا هود ما جئتنا ببينة أو أنكروا آياته سبحانه في الآفاق والأنفس الدالة عليه تعالى حسبما قال لهم هود عليه السلام
وجوز أن يراد بها الآيات التي أتى بها هود وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام ويلائمه جمع الرسل الآتي على قول وعدي جحد بالباء حملا له على كفر لأنه المراد أو بتضمينه معناه كما أن كفر يجري مجرى جحد فيعدى بنفسه نحو قوله سبحانه : ألا إن عادا كفروا ربهم وقيل : كفر كشكر يتعدى بنفسه وبالباء وظاهر كلام القاموس أن جحد كذلك وعصوا رسله قيل : المراد بالرسل هود عليه السلام والرسل الذين كانوا معه من قبله وهو خلاف الظاهر وقيل : المراد بهم هود عليه السلام وسائر الرسل من قبله تعالى للأمم من قبله ومن بعده عليه السلام بناءا على أن عصيانه عليه السلام وكذا عصيان كل رسول بمنزلة عصيان الرسل جميعهم لأن الجميع متفقون على التوحيد فعصيان واحد عصيان للجميع فيه أو على أن القول أمرهم كل رسول من قبل بطاعة الرسل والإيمان بهم إن أدركوهم فلم يمتثلوا ذلك الأمر واتبعوا أمر كل جبار متعال عن قبول الحق وقال الكلبي : هو الذي يقتل على الغضب ويعاقب على المعصية
وقال الزجاج : هو الذي يجبر الناس على ما يريد وذكر ابن الأنباري أنه العظيم في نفسه المتكبر على العباد
(12/86)

عنيد
59
- أي طاغ من عند بتثليث النون عندا بالإسكان وعندا بالتحريك وعنودا بضم العين إذا طغا وجاوز الحد في العصيان وفسره الراغب بالمعجب بما عنده والجوهري بمن خالف الحق ورده وهو يعرفه وكذا عاند ويطلق الأخير على البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد وجمعه عند كراكع وركع وجمع العنيد عند كرغيف ورغف والعنود قيل : بمعنى العنيد
وزعم بعضهم أنه يقال : بعير عنود ولا يقال : عنيد ويجمع الأول على عندة والثاني على عند وآخر أن العنود العادل عن الطريق المحسوس والعنيد العادل عن الطريق في الحكم وكلاهما من عند وأصل معناه على ما قيل : إعتزل في جانب لأن العند بالتحريك الجانب يقال : يمشي وسطا لا عندا ومنه عند الظرفية ويقال للناحية أيضا : العند مثلثة وهذا الحكم ليس كالحكمين السابقين من جحود الآيات وعصيان الرسل في الشمول لكل فرد فرد منهم فإن إتباع الأمر من أحكام الأسافل دون الرؤساء
وقيل : هو مثل ذلك في الشمول والمراد بالأمر الشأن وبكل جبار عنيد من هذه صفته من الناس لا أناس مخصوصون من عاد متصفون بذلك والمراد بإتباع الأمر ملازمته أو الرضا به على أتم وجه ويؤول ذلك إلى الإتصاف أي إن كلا منهم إتصف بصفة كل جبار عنيد ولا يخفى ما فيه من التكلف الظاهر وقد يدعي العموم من غير حاجة إلى إرتكاب مثله والمراد على ما تقدم أنهم عصوا من دعاهم إلى سبيل الهدى وأطاعوا من حداهم إلى مهاوي الردى واتبعوا في هذه الدنيا لعنة أي إبعادا عن الرحمة وعن كل خير أي جعلت اللعنة لازمة لهم وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حسبما داروا أو لوقوعه في صحبة أتباعهم وقيل : الكلام على التمثيل يجعل اللعنة كشخص تبع آخر ليدفعه في هوة قدامه وضمير الجمع لعاد مطلقا كما هو الظاهر
وجوز أن يكون للمتبعين للجبارين منهم وما حال قوم قدامهم الجبارون أهل النار وخلفهم اللعنة والبوار ويعلم من لعنة هؤلاء لعنة غيرهم المتبوعين على ما قيل بالطريق الأولى ويوم القيامة أي وأتبعوا يوم القيامة أيضا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذف ذلك لدلالة الأول عليه وللإيذان بأن كلا من اللعنين نوع برأسه لم يجتمعا في قرن واحد بأن يقال : وأتبعوا في هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة ونظير هذا قوله تعالى : واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة وعبر بيوم القيامة بدل الآخرة هنا للتهويل الذي يقتضيه المقام
ألا إن عادا كفروا ربهم أي بربهم أو كفروا نعمته ولم يشكروها بالإيمان أو جحدوه ألا بعدا لعاد دعاء عليهم بالهلاك مع أنهم هالكون أي هلاك تسجيلا عليهم باإتحقاق ذلك والإستئهال له ويقال في الدعاء بالبقاء وإستحقاقه : لا يبعد فلان وهو في كلام العرب كثير ومنه قوله : لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر وجوز أن يكون دعاء باللعن كما في القاموس : البعد والبعاد اللعن واللام للبيان كما في قولهم : سقيا لك وقيل : للإستحقاق وليس بذاك وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة في تفظيع حالهم والحث على الإعتبار بقصتهم وقوله سبحانه : قوم هود
60
- عطف بيان على عاد وفائدته الإشارة إلى أن عادا كانوا فريقين : عادا الأولى وعادا الثانية وهي عاد إرم في قول وذكر الزمخشري في الفجر أن عقب عاد بن عوص
(12/87)

ابن إرم بن سام بن نوح قيل لهم : عاد كما يقال لبني هاشم : هاشم ثم قيل : للأولين منهم عاد الأولى وإرم تسمية لهم بإسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة وأنشد لابن الرقيات : مجدا تليدا بناه أوله أدرك عادا وقبلها إرما ولعله الأوفق للنقل مع الإيماء إلى أن إستحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه السلام وهم قومه وليس ذلك لدفع اللبس إذ لا لبس في أن عادا هذا ليست إلا قوم هود عليه السلام للتصريح بإسمه وتكريره في القصة وقيل : ذكر ليفيد مزيد تأكيد بالتنصيص عليهم مع ما في ذلك من تناسب فواصل الآي
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره الكلام فيه كالكلام في نظيره السابق آنفا وجمهور القراء على منع صرف ثمود ذهابا إلى القبيلة وقرأ ابن وثاب والأعمش بالصرف على إرادة الحي هو أنشأكم من الأرض أي إبتدأ خلقكم منها فإنها المادة الأولى وآدم الذي هو أصل البشر خلق منها وقيل : الكلام على حذف مضاف أي أنشأ أباكم وقيل : من بمعنى في وليس بشيء والمراد الحصر كما يفهمه كلام بعض الأجلة كأن القوم لعدم أدائهم حقه سبحانه قد اعتقدوا أن الفاعل لذلك غيره تعالى أو هو مع غيره فخوطبوا على وجه قصر القلب أو قصر الإفراد بذلك واحتمال أنهم كانوا يعتقدون أحد الأمرين حقيقة لا تنزيلا يستدعي القول بأنهم كانوا طبيعة أو ثنوية وإلا فالوثنية وإن عبدوا معه سبحانه غيره لا يعتقدون خالقيه غيره لهم بوجه من الوجوه وأخذ الحصر على ما قيل : من تقديم الفاعل المعنوي وقيل : إنه مستفاد من السياق لأنه لما حصر الإلهية فيه تعالى إقتضى حصر الخالقية أيضا فبيان ما خلقوا منه بعد بيان أنه الخالق لا غيره يقتضي هذا فتدبر والظاهر أن من يقول بالحصر هنا يقول به في قوله سبحانه : واستعمركم فيها لمكان العطف وكونه معطوفا بعد إعتبار التقديم فلا ينسحب على ما بعده مما لا فائدة في إلتزامه أي وهو الذي جعلكم عمارها وسكانها فالإستفعال بمعنى الإفعال يقال : أعمرته الأرض وآستعمرته إذا جعلته عامرها وفوضت إليه عمارتها وإلى هذا ذهب الراغب وكثير من المفسرين وقال زيد بن أسلم : المعنى أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وحفر أنهار وغرس أشجار وغير ذلك فالسين للطلب وإلى هذا ذهب الكيا وإستدل بالآية على أن عمارة الأرض واجبة لهذا الطلب وقسمها في الكشاف إلى واجب كعامرة القناطر اللازمة والمسجد الجامع ومندوب كعمارة المساجد ومباح كعمارة المنازل وحرام كعمارة الخانات وما يبنى للمباهات أو من مال حرام كأبنية كثير من الظلمة واعترض على الكيا بأنه لم يكن هناك طلب حقيقة ولكن نزل جعلهم محتاجين لذلك وإقدارهم عليه وإلهامهم كيف يعمرون منزلة الطلب وقال الضحاك : المعنى عمركم فيها وإستبقاكم وكان أحدهم يعمر طويلا حتى أن منهم من يعمر ألف سنة والمشهور أن الفعل من العمر وهو مدة الحياة بالتشديد ومن العمارة نقيض الخراب بالتخفيف ففي أخذ ذلك من العمر تجوز
وعن مجاهد أن إستعمر من العمري بضم فسكون مقصور وهي كما قال الراغب في العطية أن تجعل له شيئا مدة عمرك أو عمره والمعنى أعمركم فيها ورباكم أي أعطاكم ذلك ما دمتم أحياء ثم هو سبحانه وارثها منكم أو المعنى جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورث داره من بعده فكأنما أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره فاستغفروه ثم توبوا إليه تفريع على ما تقدم فإن ما ذكر من صنوف إحسانه
(12/88)

سبحانه داع إلى الإستغفار والتوبة وقوله : إن ربي قريب أي قريب الرحمة لقوله سبحانه : إن رحمة الله قريب من المحسنين والقرآن يفسر بعضه بعضا مجيب
61
- لمن دعاه وسأله زيادة في بيان ما يوجب ذلك والأول علة باعثة وهذا علة غائية وما ألطف التقديم والتأخير وصرح بعضهم أن قريب ناظر لتوبوا و مجيب لاستغفروا كأنه قيل : ارجعوا إلى الله تعالى فإنه سبحانه قريب منكم أقرب من حبل الوريد واسألوه المغفرة فإنه جلا وعلا مجيب السائلين ولا يخلو عن حسن قالوا يا صالح قد كنت فينا أي فيما بيننا مرجوا فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا على ما روي عن ابن عباس
وقال ابن عطية مشورا نأمل منك أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر وقال كعب : كانوا يرجونه للملك بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة
وقال مقاتل : كانوا يرجون رجوعه إلى دينهم إذ كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم قبل هذا أي الذي باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة الآلهة فلما سمعنا منك ما سمعناه إنقطع عنك رجاؤنا وقيل : كانوا يرجون دخوله في دينهم بعد دعواه إلى الحق ثم إنقطع رجاؤهم فقبل هذا قبل هذا الوقت لا قبل الذي باشره من الدعوة وحكى النقاش عن بعضهم أن مرجوا بمعنى حقيرا وكأنه فسره أولا بمؤخرا غير معتني به ولا مهتم بشأنه ثم أراد منه ذلك وإلا فمرجوا بمعنى حقير لم يأت في كلام العرب وجاء قولهم : أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا على جهة التوعد والإستبشاع لتلك المقالة منه والتعبير بيعبد لحكاية الحال الماضية وقرأ طلحة مرجوا بالمد والهمز وإننا لفي شك مما تدعونا إليه من التوحيد وترك عبادة الآلهة وغير ذلك من الإستغفار والتوبة مريب
62
- إسم فاعل من أرابه المتعدي بنفسه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق وإنتفاء الطمأنية باليقين أو من أراب الرجل اللازم إذا كان ذا ريبة والإسناد على الوجهين مجازي إلا أن بينهما كما قال بعض المحققين فرقا وهو أن الأول منقول من الأعيان إلى المعنى والثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول : شعر شاعر فعلى الأول هو من باب الإسناد إلى السبب لأن وجود الشك سبب لتشكيك المشكك ولولاه لما قدر على التشكيك والتنوين في مريب وفي شك للتفخيم وإنما بثلاث نونات ويقال : إنا بنونين وهما لغتان لقريش
قال الفراء : من قال : إننا أخرج الحرف على أصله ل 4 أن كناية المتكلمين نا فإجتمعت ثلاث نونات ومن قال : إنا أستثقل إجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين
وإختار أبو حيان أن المحذوف النون الثانية لا الثالثة لأن في حذفها إجحافا بالكلمة إذ لا يبقى منها إلا حرف واحد ساكن دون حذف الثانية لظهور بقاء حرفين بعده على أنه قد عهد حذف النون الثانية من إن مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون نا ولا ريب في أن إرتكاب المعهود أولى من إرتكاب غير المعهود قال يا قوم أرأيتم أخبروني إن كنت على بينة حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة من ربي مالكي ومتولي أموري وآتاني منه من قبله سبحانه رحمة نبوة وهذا من الكلام المصنف والإستدراج
(12/89)

ذلا يتصور منه عليه السلام شك فيما حيز إن وأصل وضعها أنها لشك المتكلم فمن ينصرني من الله أي فمن يمنعني من عذابه ففي الكلام مضاف مقدر والنصرة مستعملة في لازم معناها أو أن الفعل مضمن معنى المنع ولذا تعدى بمن والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصر على ما سبق من كونه على بينة وإيتاء الرحمة على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله : إن عصيته أي في المساهلة في تبليغ الرسالة والمنع عن الشرك به تعالى والمجاراة معكم فيما تشتهون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل فما تزيدونني إذن بإستتباعكم إياي أي لا تفيدونني غذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه غير تخسير
63
- أي غير أن تجعلوني خاسرا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى أو فما تزيدونني بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم : إنكم لخاسرون لا أن أتبعكم
وروي هذا عن الحسن بن الفضل فالفاعل على الأول هم والمفعول صالح وعلى الثاني بالعكس والتفعيل كثيرا ما يكون للنسبة كفسقته وفجرته والزيادة على معناها والفاء لترتيب عدم الزيادة على إنتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه السلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى فما تزيدونني غير مضارة في خسرانكم فالكلام على حذف مضاف وعن مجاهد ما تزدادون أنتم بإحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان قد سألهم الإيمان وقال ابن عطية : المعنى فما تعطوني فيما أقتضيه منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم وأضاف الزيادة إلى نفسه من حيث أنه مقتض لأقوالهم موكل بأيمانهم كما تقول لمن توصيه : أنا أريد بك خيرا وأنت تريد بي سوءا وكان الوجه البين أن تقول : وأنت تريد شرا لكن من حيث كنت مريد خير ومقتضى ذلك حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك وقيل : المعنى فما تزيدونني غير تخسيري إياكم حيث أنكم كلما إزددتم تكذيبا إياي إزدادت خسارتكم وهي أقوال كما ترى ويا قوم هذه ناقة الله الإضافة للتشريف والتنبيه على أنها نفارقة لسائر ما يجانسها خلقا وخلقا لكم آية معجزة دالة على صدقي في دعوى النبوة وهي حال من ناقة الله والعامل ما في إسم الإشارة من معنى الفعل
وقيل : معنى التنبيه والظاهر أنها حال مؤسسة وجوز فيها أن تكون مؤكدة كهذا أبوك عطوفا لدلالة الإضافة على أنها آية و لكم كما في البحر وغيره حال منها فقدمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها وإعترض بأن مجيء الحال لم يقل به أحد من النحاة لأن الحال تبين هينة الفاعل أو المفعول وليست الحال شيئا منهما وأجيب بأنها في معنى المفعول للإشارة لأنها متحدة مع المشار إليه الذي هو مفعول في المعنى ولا يخفى ما فيه من التكلف وقيل : الأولى أن يقال : إن هذه الحال صفة في المعنى لكن لم يعربوها صفة لأمر تواضع النحويون عليه من منع تقدم ما يسمونه تابعا على المتبوع فحديث إن الحال تبين الهيئة مخصوص بغير هذه الحال وإعترض بأن هذا ونحوه لا يحسم مادة الإعتراض لأن المعترض نفى قول أحد من النحاة بمجيء الحال من الحال وبما ذكر لا يثبت القول وهو ظاهر نعم قد يقال : إن إقتصار أبي حيان والزمخشري
(12/90)

وهما من تعلم في العربية على هذا النحو من الإعراب كاف في الغرض على أتم وجه وأراد الزمخشري بالتعلق في كلامه التعلق المعنوي لا النحوي فلا تناقض فيه على أنه بحث لا يضر
وقيل : لكم حال من ناقة و آية حال من الضمير فيه فهي متداخلة ومعنى كون الناقة للمخاطبين أنها نافعة لهم ومختصة بهم هي ومنافعها فلا يرد أنه لا إختصاص لذات الناقة بهم وإنما المختص كونها آية لهم وقيل : لكم حال من الضمير في آية لأنها بمعنى المشتق والأظهر كون لكم بيان من هي آية له وجوز كون ناقة بدلا أو عطف بيان من إسم الإشارة و لكم خبره و آية حال من الضمير المستتر فيه فذروها دعوها تأكل في أرض الله فليس عليكم مؤنتها والفعل مجزوم لوقوعه في جواب الطلب وقريء بالرفع على الإستئناف أو على الحال والمتبادر من الأكل معناه الحقيقي لكن قيل : في الآية إكتفاءا أي تأكل وتشرب وجوز أن يكون مجازا عن التغذي مطلقا والمقام قرينة لذلك
ولا تمسوها بسوء أي بشيء منه فضلا عن العقر والقتل والنهي هنا على حد النهي في قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلخ فيأخذكم لذلك عذاب قريب
64
- عاجل لا يستأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم وقيل : أراد من وصفه بالقرب كونه في الدنيا وإلى الأول ذهب غير واحد من المفسرين وكان الإخبار عن وحي من الله تعالى فعقروها أي فخالفوها وما أمروا به فعقروها والعقر قيل : قطع عضو يؤثر في النفس
وقال الراغب : يقال : عقرت البعير إذا نحرته ويجيء بمعنى الجرح أيضا كما في القاموس وأسند العقر إليهم مع أن الفاعل واحد منهم وهو قدار كهمام في قول ويقال له : أحمر ثمود وبه يضرب المثل في الشؤم لرضاهم بفعله وقد جاء أنهم إقتسموا لحمها جميعا فقال لهم صالح عليه السلام تمتعوا عيشوا
في داركم أي بلدكم وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي يتصرف فيها يقال : دار بكر لبلادهم وتقول العرب الذين حوالي مكة : نحن من عرب الدار يريدون من عرب البلد وإلى هذا ذهب الزمخشري وقال ابن عطيى : هو جمع دارة كساحة وساح وسوح ومنه قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان : له داع بمكة مشمعل وآخر فوق دارته ينادي ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارا وتطلق الدار على الدنيا أيضا وبذلك فسرها بعض 4 هم هنا وفسر الطبرسي التمتع بالتلذذ أي تلذذوا بما تريدون ثلاثة أيام ثم يأخذكم العذاب قيل : إنهم لما عقروا الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا ثلاث رغوات فقال صالح عليه السلام : لكل رغوة أجل يوم وإبتداء الأيام على ما في بعض الروايات الأربعاء وروي أنه عليه السلام قال لهم : تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة يصبحكم العذاب فكان كما قال : ذلك إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب عقيبها وما فيه من معنى البعد للتفخيم وعد غير مكذوب
65
- أي غير مكذوب فيه فحذف الجار وصار المجرور مفعولا على التوسع لأن الضمير لا يجوز نصبه على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه ويسمون هذا الحذف والإيصال وهو كثير في كلامهم ويكون في الإسم كمشترك وفي الفعل مقوله :
(12/91)

ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن النهال نوافله أو غير مكذوب على المجاز كأن الواعد قال له : أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه فهناك إستعارة مكنية تخييلية وقيل : مجاز مرسل بجعل مكذوب بمعنى باطل ومختلف أو وعد غير كذب على أن مكذوب مصدر على وزن مفعول كمجلود ومعقول بمعنى عقل وجلد فإنه سمع منهم ذلك لكنه نادر ولا يخفى ما في تسمية ذلك وعدا من المبالغة في التهكم فلما جاء أمرنا أي عذابنا أو أمرنا بنزوله وفيه ما لا يخفى من التهويل نجينا صالحا والذين آمنوا معه متعلق بنجينا أو بآمنوا برحمة منا أي بسببها أو ملتبسين بها وفي التنوين والوصف نوعان من التعظيم ومن خزي يومئذ أي نجيناهم من خزي يومئذ وهو الهلاك بالصيحة وهذا كقوله تعالى : ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى إنا نجيناهم تلك التنجية من خزي يومئذ وجوز أن يراد ونجيناهم من ذل وفضيحة يوم القيامة أي من عذابه فهذه الآية كآية هود سواء بسواء
وتعقب أبو حيان هذا بأنه ليس بجيد إذ لم تتقدم جملة ذكر فيها يوم القيامة ليكون التنوين عوضا عن ذلك والمذكور إنما هو جاء أمرنا فليقدر يوم إذ جاء أمرنا وهو جيد والدفع بأن القرينة قد تكون غير لفظية كما هنا فيه نظر وقيل : القرينة قوله سبحانه فيما مر : عذاب يوم غليظ وفيه ما فيه وقيل : الواو زائدة فيتعلق من بنجينا المذكور وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الواو لا تزاد عندهم فيوجبون هنا التعلق بمحذوف وهو معطوف على ما تقدم وقرأ طلحة وأبان ومن خزي بالتنوين ونصب يومئذ على الظرفية معمولا لخزي وعن نافع والكسائي أنهما قرآ بالإضافة وفتح يوم لأنه مضاف إلى إذ وهو غير متمكن وهذا كما فتح حين في قوله النابغة : على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت : ألما أصح والشيب وازع إن ربك خطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو القوي العزيز
66
- أي القادر على كل شيء والغالب عليه كل وقت ويندرج في ذلك الإنجاء والإهلاك في ذلك اليوم وأخذ الذين ظلموا قوم صالح وعدل عن الضمير إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بعليته لنزول العذاب بهم الصيحة أي صيحة جبريل أو صيحة من السماء فيها كل صاعقة وصوت مفزع وهي على ما في البحر فعلة للمرة الواحدة من الصياح يقال : صاح يصيح إذا صوت بقوة وأصل ذلك كما قال الراغب تشقيق الصوت من قولهم : إنصاح الخشب أو الثوب إذا إنشق فسمع منه صوت وصيح الثوب كذلك وقد يعبر بالصيحة عن الفزع وفي الأعراف فأخذتهم الرجفة قيل : ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء وقد تقدم الكلام منا في ذلك فأصبحوا في ديارهم أي منازلهم ومساكنهم وقيل : بلادهم جاثمين
67
- هامدين موتى لا يتحركون وقد مر تمام الكلام في ذلك معنى وإعرابا كأن لم يغنوا أي كأنهم لم يقيموا فيها أي في ديارهم والجملة قيل : في موضع الحال أي أصبحوا جاثمين مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط ألا إن ثمودا وضع موضع المضمر لزيادة البيان ومنعه من الصرف حفص وحمزة نظرا إلى القبيلة وصرفه أكثر السبعة نظرا إلى الحي كما قدمنا آنفا وقيل : نظرا إلى الأب الأكبر يعني يكون المراد به الأب الأول وهو مصروف
(12/92)

وحينئذ يقدر مضاف كنسل وأولاد ونحوه وقيل : المراد إنه صرف نظر الأول وضعه وإن كان المراد به هنا القبيلة كفروا ربهم صرح بكفرهم مع كونه معلوما مما سبق من أحوالهم تقبيحا لحالهم وتعليلا لإستحقاقهم الدعاء عليهم بالعبد والهلاك في قوله سبحانه : ألا بعدا لثمود
68
- وقرأ الكسائي لا غير بالتنوين وقد تقدم الكلام في شرح قصتهم على أتم وجه ولقد جاءت رسلنا إبراهيم وهم الملائكة روي عن ابن عباس أنهم كانوا إثني عشر ملكا
وقال السدي : أحد عشر على صورة الغلمان في غاية الحسن والبهجة وحكى صاحب الفينان أنهم عشرة منهم جبريل وقال الضحاك : تسعة وقال محمد بن كعب : ثمانية وحكى الماوردي أنهم أربعة ولم يسمهم
وجاء في رواية عن عثمان بن محيصن أنهم جبريل وإسرافيل وميكائيل ورفائيل عليهم السلام وفي رواية عن ابن عباس وابن جبير أنهم ثلاثة الأولون فقط وقال مقاتل : جبرائيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام ولإختار بعضهم اللإقتصار على القول بأنهم ثلاثة لأن ذلك أقل ما يدل عليه الجمع وليس هناك ما يعول عليه في الزائد وإنما أسند إليهم المجيء دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى : إنا أرسلنا إلى قوم لوط وإنما جاءوه لداعية البشرى قيل : ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه السلام من لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى : وإلى عاد أخواهم هودا وإلى ثمود أخوهم صالحا ثم رجع إليه حيث قيل : وإلى مدين أخاهم شعيبا والباء في قوله تعالى : بالبشرى للملابسة أي ملتبسين بالبشرى والمراد بها قيل : مطلق البشارة المنتظمة بالبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى : فبشرناه بإسحاق الآية وقوله سبحانه : وبشرناه بغلام حليم إلى غير ذلك وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى : فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى لظهور تفرع المجادلة على مجيئها وكانت البشارة الأولى على ما قيل : من ميكائيل والثانية من إسرافيل عليهما السلام وقيل : المراد بها البشارة بهلاك قوم لوط عليه السلام فإن هلاك الظلمة من أجل ما يبشر به المؤمن
وإعترض بأنه يأباه مجادلته عليه السلام في شأنهم وإستظهر الزمخشري أنها البشارة بالولد وهي المرادة بالبشرى فيما سيأتي وسر تفرع المجادلة عليها سيذكر إن شاء الله تعالى وعلل في الكشف إستظهار ذلك بقوله : لأنه الأنسب بالإطلاق ولقوله سبحانه في الذاريات : وبشروه بغلام عليم ثم قال بعده : فما خطبكم أيها المرسلون ثم قال : وقوله تعالى : فلما ذهب عن إبراهيم إلخ وإن كان يحتمل أن ثمة بشارتين فيحتمل في كل موضع على واحدة لكنه خلاف الظاهر إنتهى ولما كان الإخبار بمجيء الرسل عليهم السلام مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا : أجيب بأنهم قالوا سلاما أي سلمنا أو نسلم عليك سلاما فهو منصوب بفعل محذوف والجملة مقول القول قال ابن عطية : ويصح أن يكون مفعول قالوا على أنه حكاية لمعنى ما قالوا لا حكاية للفظهم
وروي ذلك عن مجاهد والسدي ولذلك عمل فيه القول وهذا كما تقول لرجل قال : لا إله إلا الله : قلت حقا وإخلاصا
وقيل : إن النصب بقالوا لما فيه من معنى الذكر كأنه قيل : ذكروا سلاما قال سلام أي عليكم سلام
(12/93)

أو سلام عليكم والإبتداء بنكرة مثله سائغ كما قرر في النحو وقد حياهم عليه السلام بأحسن من تحيتهم لأنها بجملة إسمية دالة على الدوام والثبات فهي أبلغ وأصل معنى السلام السلامة مما يضر
وقرأ حمزة والكسائي سلم في الثاني بدون ألف مع كسر السين وسكون اللام وهو على ما قيل : لغة في سلام كحرم وحرام ومنه قوله : ممرنا فقلنا : أيه سلم فسلمت كما أكتل بالبرق الغمام اللوائح وقال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسلم ضد الحرب ووجه بأنهم لما إمتنعوا من تناول طعامه وخاف منهم قاله أي أنا مسالم لا محارب لأنهم كانوا لا يأكلون طعام من بينهم وبينه حرب وإعترض بأنه يدل على أن قوله هذا بعد تقديم الطعام وقوله سبحانه : فما لبث إلخ صريح في خلافه وذكر في الكشاف أن حمزة والكسائي قرءا بكسر السين وسكون اللام في الموضعين وهو مخالف للمنقول في كتب القراءات وقرأ ابن أبي عبلة قال سلاما بالنصب كالأول وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما فما لبث أي فما أبطأ إبراهيم عليه السلام أن جاء يجعل حينئذ أي في مجيئه به أو عن مجيئه به فما نافية وضمير لبث لإبراهيم و أن جاء بتقدير حرف جر متعلق بالفعل وحذف الجار قبل أن وأن مطرد وحكى ابن العربي أن أن بمعنى حتى وقيل : أن وما بعدها فاعل لبث فما تأخر مجيئه وروي ذلك عن الفراء واختاره أبو حيان
وقيل : ما مصدرية والمصدر مبتدأ أو هي موصول بمعنى الذي كذلك و أن جاء على حذف مضاف أي قدر وهو الخبر أي فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه وليس بشيء والعجل ولد البقرة ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة والباء فيه للتعدية أو الملابسة والحنيذ السمين الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال كأن ودكه كالجلال عليه أو كأن ما يسيل منه عرق الدابة المجللة للعرق واقتصر السدي على السمين في تفسيره لقوله تعالى : بعجل سمين وقيل : هو المشوي بالرضف في أخدود وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وفي رواية عن مجاهد تفسيره بالمطبوخ وإنما جاء عليه السلام بالعجل لأن ماله كان البقر وهو أطيب ما فيها وكان من دأبه عليه السلام إكرام الضيف ولذا عجل القرى وذلك من أدب الضيافة لما فيه من الإعتناء بشأن الضيف وفي مجيئه بالعجل كله مع أنهم بحسب الظاهر يكفيهم بعضه دليل على أنه من الأدب أن يحضر للضيف أكثر مما يأكل واختلف في هذا العجل هل كان مهيئا قبل مجيئهم أو أنه هيء بعد أن جاءوا قولان إختار أبو حيان أولهما لدلالة السرعة بالإتيان به على ذلك ويختار الفقير ثانيهما لأنه أزيد في العناية وأبلغ في الإكرام وليست السرعة نصا في الأول كما لا يخفى
فلما رءآ أيديهم لا تصل إليه كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون وقيل : لا كناية بناءا على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالعبث والملائكة عليهم السلام يجلون عن مثله و رأى قيل : علمية فجملة لا تصل مفعول ثان والظاهر أنها بصرية والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيامة النظر إلى الظيف هل يأكل أولا لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر
(12/94)

لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك نكرهم أي نفرهم وأوجس أي إستشعر وأدرك وقيل : أضمر منهم أي من جهتهم خيفة أي خوفا وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف ولعل إختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبيء عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه : قال سلام قوم منكرون أنهم ملائكة وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه لأمر أنكره الله تعالى عليه قالوا حين رأوا أثر ذلك عليه السلام أو أعلمهم الله تعالى به أو بعد أن قال لهم ما في الحجر إنا منكم وجلون فإن الظاهر منه أن هناك قولا بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب وقيل : إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقا ما لم يجعل لغيرهم من الإطلاع كما قال تعالى : يعلمون ما تفعلون وفي الصحيح قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة الحديث وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية
وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه والآية والخبر المذكوران لا يصلحان دليلا لهذا المطلب وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا لا تخف ويحتمل أن القائل بعضهم وكثيرا ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك وظاهر قوله سبحانه : إنا أرسلنا أنه إستئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه : إنا نبشرك إستئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط خاصة ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد يستدل له بقولهم لا تخف إنا أرسلنا فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا فخاف وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده وأصل الإنكار ضد العرفان ونكرت وأنكرت واستكبرت بمعنى وقيل : إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر ومن ذلك قول الشاعر : وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا فإنه أراد في الأول على ما قيل : أنكرت مودتي وقال الراغب : إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما في الآية وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجح إلى حالهم حين قدم إليهم العجل والثاني متعلق بأنفسهم ولا يتعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعهده من الناس ويحتاج هذا إلى إعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية واعترض ما قدمناه بأن فيه إرتكاب مجاز ولعل الأمر فيه سهل
وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له : لا تخف إنا أرسلنا وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءا إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك وكان عليه السلام نازلا في طرف من الأرض منفردا عن قومه وهي رواية عن ابن عباس أخرجها إسحاق بن بشر
(12/95)

وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عنه وقيل : كان سبب خوفه أنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت
وقال العلامة الطيبي : الحق أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين وكونهم ممتنعين من الطعام كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة ولأنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام ولم يحرضهم على الأول وإنما عدلوا إلى قولهم : إنا أرسلنا إلى قوم لوط ليكون جامعا للمعاني بحيث يفهم منه المقصود أيضا إنتهى
وفيه إشارة إلى الرد على الزمخشري وقد إختلف كلامه في تعليل الخوف فعلله تارة بعرفانه أنهم ملائكة وأخرى بأنهم لم يتحرموا طعامه ولعله أراد بذلك العرفان بعد إحضار الطعام وما ذكره الطيبي من أنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر إلخ غير قادح إذ يجوز أن يخافهم بعد الإحضار أولا لعدم التحرم ثم بعد تفرس أنهم ملائكة خافهم لأنهم ملائكة أرسلوا للعذاب والزمخشري حكى أحد الخوفين في موضع والآخر في آخر
قال بعض المحققين والتعليل بأنهم ملائكة هو الوجه لينتظم قوله سبحانه : لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم مع ما قبله إذ لو كان الوجل لكونهم على غير زي من عرف ونحوه لم يحسن التعليل بقوله تعالى : إنا نبشرك فإنه إنما هو تعليل للنهي عن الوجل من أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب كأنهم قالوا : لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم و إنا أرسلنا إلى قوم لوط فجاء على إختصارات القرآن بذكر أحد التعليلين في أحد الموضعين والآخر في الآخر ولا شك أن في الحجر إختصارا لطي حديث الرواع والتعجيل بالعجل الحنيذ وعدم تحرمهم بطعامه لما أن المقصود من سوق القصة هنالك الترغيب والترهيب للإعتبار بحال إبراهيم عليه السلام وما لقي من البشرى والكرامة وحال قوم لوط عليه السلام وما منوا به من السوأى والملامة ألا ترى إلى قوله سبحانه : نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم إلى قوله جل وعلا : عن ضيف إبراهيم فاقتصر على ما يفيد ذلك الغرض وأما في هذه السورة فجيء بها للإرشاد الذي بني عليه السورة الكريمة مع إدماج التسلية ورد ما رموه به عليه الصلاة و السلام من الإفتراء وفي كل جزء من أجزاء القصة ما يسد من هذه الأغراض فسرد على وجهها وفي سورة الذاريات للأخيرين فقط فجيء بما يفيد ذلك فلا عليك إن رأيت إختصارا أن تنقل إليه من المبسوط ما يتم به الكلام بعد أن تعرف نكتة الإختصار وهذا من خواص كتاب الله تعالى الكريم إنتهى ولا يخلو عن حسن وفيه ذهاب إلى كون جملة إنا أرسلنا إلى قوم لوط إستئنافا في موضع التعليل كما هو الظاهر
وقال شيخ الإسلام عليه الرحمة : الظاهر ما ذكر إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى : قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين صريح في أنهم قالوه جوابا عن سؤاله عليه السلام وقد أوجز الكلام إكتفاءا بذلك إنتهى
وتعقب بأنه قد يقال : إن ذلك لا يقدح في الحمل على الظاهر لجواز أن يكونوا قالوا ذلك على معنى التعليل للنهي عن الخوف ولكنه وإن أريد منه الإرسال بالعذاب لقوم لوط عليه السلام مجمل لم يؤت به على وجه يظهر منه ما نوع هذا العذاب هل هو إستئصال أم لا فسأل عليه السلام لتحقيق ذلك فكأنه قال : أيها المرسلون إلى قوم لوط ما هذا الأمر العظيم الذي أرسلتم به فأجابوه بما يتضمن بيان ذلك مع الإشارة إلى علة نزول ذلك الأمر بهم وهو قولهم : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين الآية فإن إنفهام عذاب الإستئصال لقوم لوط عليه السلام من ذلك ظاهر وكذا الإشارة إلى العلة
(12/96)

والحاصل أن السؤال في تلك الآية عن الخطب وهو الأصل الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب ويراد من السؤال عنه تحقيق أمر لم يعلمه عليه السلام من كلامهم قبل إما لأنه لم يعلم ذلك منه أو لأنه كان مشغولا عن كمال التوجه ليعلم عليه السلام منه ذلك وفي خطابه عليه السلام لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة ما يؤيد تقدم قولهم : إنا أرسلنا على هذا السؤال لكنه أسقط هناك تعويلا على ما هنا ولا بدع في الإسقاط من المتأخر تعويلا على المتقدم وتأخر الحجر والذاريات عن هود تلاوة مما لا كلام فيه وتأخرهما نزولا مما رواه ابن ضريس في فضائل القرآن عن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن عمر بن هارون عن عثمان ابن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس وذكر أنها كلها نزلت بمكة وأن بين هود والحجر سورة واحدة وبين الحجر والذاريات ثلاث عشرة سورة فليتأمل في هذا المقام ويفهم من كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يتحقق كونهم ملائكة إلا بعد أن مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فحينئذ عرفهم وأمن منهم ولم يتحقق صحة الخبر عندي والذي أميل إليه أنه عليه السلام عرفهم قبل ذلك وأن خوفه منهم لكونهم ملائكة لم يدر لأي شيء نزلوا ويبعد عند من عرف حال إبراهيم عليه السلام القول بأنه خاف بشرا وبلغ منه الخوف حتى قال إنا منكم وجلون لا سيما إذا قلنا : إن من خافهم كانوا ثلاثة وأنه عليه السلام لم يكن في طرف من الأرض بل كان بين أصحابه أو كان هناك لكن بين خدمه وغلمانه وامرأته سارة بنت هاران بن ناحور وهي بنت عمه قائمة في الخدمة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وكانت نساؤهم لا تحتجب لا سيما العجائز منهم وكانت رضي الله تعالى عنها عجوزا وقال وهب : كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم وأخذ منه بعضهم أن تستر النساء كان لازما والظاهر أنه لم يكن كذلك لتأخر آية الحجاب ويجوز أن يقال : إن القيام وراء الستر كان إتفاقيا وعن ابن إسحاق أنها كانت قائمة تصلي وقال المبرد : كانت قائمة عن الولد وهو خلاف المشهور في الإستعمال وأخرج ابن المنذر عن المغيرة قال في مصحف ابن مسعود : وامرأته قائمة وهو جالس وفي الكشاف بدل وهو جالس وهو قاعد وعن ابن عطية بدل وامرأته قائمة وهي قائمة ففيه الإضمار من غير تقدم ذكر وكأن ذلك إن صح للتعويل على إنفهام المرجع من سياق الكلام والجملة إما موضع الحال من ضمير قالوا وإما مستأنفة للأخبار فضحكت من الضحك المعروف والمراد به حقيقته عند الكثير وكان ذلك عند بعضهم سرورا بزوال الخوف عن إبراهيم عليه السلام والنساء لا يملكن أنفسهن كالرجال إذا غلب عليهن الفرح وقيل : كان سرورا بهلاك أهل الفساد وقيل : بمجموع الأمرين وقال ابن الأنباري : إن ضحكهما كان سرورا بصدق ظنها كانت تقول إبراهيم : أضمم إليك لوطا فإني أرى العذاب سينزل بقومه وكان لوط ابن أخيه وقيل : ابن خالته وقيل : كان أخا سارة وقد مر آنفا أنها بنت عم إبراهيم عليه السلام وعن ابن عباس أنها ضحكت من شدة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه والذين جاءوه ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين وقيل : المائة وقال قتادة : كان ذلك من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم وقال السدي : ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت : عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا وهم لا يأكلون طعامنا وقال وهب بن منبه : وروي أيضا عن ابن عباس أنها ضحكت من البشارة بإسحاق وفي الكلام على ذلك تقديم وتأخير وقيل : ضحكت من المعجز الذي تقدم نقله عن جبريل عليه السلام
(12/97)

ولعل الأظهر ما ذكرناه أولا عن البعض وذهب بعضهم إلى أن المراد بالضحك التبسم ويستعمل في السرور المجرد نحو مسفرة ضاحكة ومنه قولهم : روضة تضحك وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ وغيرهما عن ابن عباس أن ضحكت بمعنى حاضت وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعكرمة وقولهم : ضحكت الأرنب بهذا المعنى أيضا وأنكر أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء مجيء ضحك بمعنى حاض وأثبت ذلك جمهور اللغويين وأنشدوا له قوله : وضحك الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا وقوله وعهدي بسلمى ضاحكا في لبابة ولم يعد حقا ثديها أن تحلما وقوله إني لآتي العرس عند طهورها وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ نعم قال ابن المنير : إنه يبعد الحمل على ذلك هنا قولها : أألد وأنا عجوز إلخ فإنه لو كان الحيض قبل البشارة لما تعجبت إذ لا عجب في حمل من تحيض والحيض في العادة معيار على إمكان الحمل ودفع بأن الحيض في غير أوانه مؤكد للتعجب أيضا ولأنه يجوز أن تظن أن دمها ليس بحيض بل إستحاضة فلذا تعجبت وقرأ محمد بن زياد الأعرابي من قراء مكة فضحكت بفتح الحاء وزعم المهدوي أنه غير معروف وأن ضحك بالكسر هو المعروف ومصدره ضحكا وضحكا بسكون الحاء وفتح الضاد وكسرها وضحكا ضحكا بكسر الحاء مع فتح الضاد وكسرها والظاهر أن هذه مصادر ضحك بأي معنى كان ويفهم من مجمع البيان أن مصدر ضحك بمعنى حاضت إنما هو ضحكا بفتح الضاد وسكون الحاء ولم نر هذا التخصيص في غيره وعن بعضهم أن فتح الحاء في الماضي مخصوص بضحك بمعنى حاض وعليه فالقراءة المذكورة وتؤيد تفسير ضحكت على قراءة الجمهور بحاضت
فبشرناها بإسحاق قيل : أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا ومن وراء إسحاق يعقوب
71
- بالنصب وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما على أنه منصوب بتقدير فعل يفسره ما يدل عليه الكلام أي ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب ورجع ذلك أبو علي واعترضه البعض بأنه حينئذ لا يكون ما ذكر داخلا تحت البشارة ودفع بأن ذكر هذه الهبة قبل وجود الموهوب بشارة معنى وقيل : هو معطوف على محل بإسحاق لأنه في محل نصب واعترض أنه إنما يتأتى العطف على المحل إذا جاز ظهور المحل في فصيح الكلام كقوله
ولسنا بالجبال ولا الحديدا
وبشر لا تسقط باؤه من المبشر به في الفصيح وزعم بعضهم أن العطف على بإسحاق على توهم نصبه لأنه في معنى وهبنا لها إسحاق فيكون كقوله : مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناب إلا ببين غرابها إلا أنه توهم في هذا وجود الباء في المعطوف عليه على عكس ما في الآية الكريمة ويقال لمثل هذا : عطف التوهم ولا يخفى ما في هذه التسمية هنا من البشاعة على أن هذا شاذ لا ينبغي التخريج عليه مع وجود غيره وبهذا إعترض على الزمخشري من حمل كلامه حيث قال : وقريء بالنصب كأنه قيل : وهبنا لها إسحاق ومن وراء إسحاف يعقوب على طريقة قوله
مشائيم
البيت عليه لما أنه الظاهر منه وقال في الكشف أراد أنه عطف معنوي ومثله شائع مستفيض في العطف والإضمار على شريطة التفسير وغيرهما وإنما شبهه بقوله :
(12/98)

ولا ناعب
تنبيها على أن ذلك مع بعده لما كان واقعا فهذا أجدر والغرض من التشبيه أن غير الموجود في اللفظ جعل بمنزلته وأعمل ولا يخفى أنه خلاف المتبادر من عبارته وقيل إنه معطوف على لفظ إسحاق وفتحته للجر لأنه غير مصروف للعلمية والعجمة وعلى هذا دخوله في البشارة ظاهر إلا أنه قيل عليه : إنه يلزمه الفصل بين نائب الجار ومجروره وهو أبعد منه بين الجار ومجروره وفي البحر أن من ذهب إلى أنه معطوف على ما ذكر فقوله ضعيف لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور فلا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو فإن جاء ففي شعر فإن كان المعطوف منصوبا أو مرفوعا ففي جواز ذلك خلاف نحو قام زيد واليوم عمرو وضربت زيدا واليوم عمرا وقرأ الحرميان والنحويان وأبو بكر و يعقوب بالرفع على الإبتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل ومن وراء إسحاق يعقوب كائن أو موجود أو مولود قال النحاس : والجملة حال داخلة في البشارة أي فبشرناها بإسحاق متصلا به يعقوب
وأجاز أبو علي أن يرتفع بالجار والمجرور كما أجازه الأخفش وقيل : إنه جائز على مذهب الجمهور أيضا لإعتماده على ذي الحال وتعقب بأنه وهم لأن الجار والمجرور إذا كان حالا لا يجوز إقترانه بالواو فليتدبر
وجوز النحاس أيضا أن يكون فاعلا بإضمار فعل تقديره ويحدث من وراء إسحاق يعقوب
قال ابن عطية : وعلى هذا لا يدخل في البشارة وقد مر ما يعلم منه الجواب و وراء هنا بمعنى خلف وبذلك فسرها الراغب وغيره هنا وهو رواية عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه تفسيرها بولد الوالد وهو أحد معانيها كما في الصحاح والقاموس وبذلك قال الشعبي واختاره أبو عبيدة واستشكل بأن يعقوب ولد إسحاق عليه السلام لصلبه لا ولد ولده ولدفع ذلك قال الزمخشري فيما نقل عنه : إن وجه هذا التفسير أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال : هاشم ويراد أولاده فكأنه قيل : من ولد ولد إسحاق أولاد يعقوب ويتضمن ذلك البشارة بيعقوب من طريق الأولى وقيل : وجه ذلك أنه سمي ولد إسحاق وراء بالنسبة إليها أي وراؤها من إسحاق كأنهم بشروها بأن تعيش حتى ترى ولد ولدها أو بأن يولد لولدها ولد قيل : وهذا أقرب والمنقول عن الزمخشري أظهر والمعول عليه تفسيره بمعنى خلف إذ في كلا الوجهين تكلف لا يخفى والإسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كما في قوله تعالى : نبشرك بغلام اسمه يحيى وهو الأظهر
وروي عن السدي : ويحتمل أنها بشرت بولد وولد ولد من غير تسمية ثم سميا بعد الولادة وتوجيه البشارة إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه السلام وقد وجهت إليه في آيتي الحجر والذاريات للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد وكانت قد تمنته حينما ولد لهاجر إسماعيل عليه السلام قالت إستئناف بياني كأن سائلا سأل ما فعلت حين بشرت فقيل : قالت : يا ويلتي من الويل وأصله الخزي ويستعمل في كل أمر فظيع والمراد هنا التعجب وقد كثرت هذه الكلمة على أفواه النساء إذ طرأ عليهن ما يتعجبن منه والظاهر أن الألف بدل من ياء المتكلم ولذا أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية وبهذا يلغز فيقال : ما ألف هي ضمير مفرد متكلم
وقرأ الحسن يا ويلتي بالياء على الأصل وقيل : إنها ألف الندبة ولذا يلحقونها الهاء فيقولون يا ويلتاه ءألد وأنا عجوز ابنة تسعين سنة على ما روي عن ابن إسحاق أو تسع وتسعين على ما روي عن مجاهد
(12/99)

وهذا الذي تشاهدونه بعلي أي زوجي وأصل البعل القائم بالأمر فأطلق على الزوج لأنه يقوم بأمر الزوجة وقال الراغب : هو الذكر من الزوجين وجمعه بعولة نحو فحل وفحولة ولما تصوروا من الرجل إستعلاءا على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها وسمي به شبه كل مستعل على غيره به فسمي باسمه ومن هنا سمي العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله تعالى بعلا لإعتقادهم ذلك فيه شيخا ابن مائة سنة أو مائة وعشرين وهو من شاخ يشيخ وقد يقال : للأنثى شيخة كما قال
وتضحك مني شيخة عبشمية
ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان ونصبه على الحال عند البصريين والعامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة أو التنبيه
قال الزجاج : ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر ففي قولك : هذا زيد قائما لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح فهنا بعلتيه معروفة والمقصود بيان شيخوخته وإلا لزم أن لا يكون بعلها قبل الشيخوخة قاله الطيبي ونظر فيه بأنه إنما يتوجه إذا لم تكن الحال لازمة غير منفكة أما في نحو هذا أبوك عطوفا فلا يلزم المحذور والحال ههنا مبينية هيئة الفاعل أو المفعول لأن العامل فيها ما أشير إليه وبذلك التأويل يتحد عامل الحال وذيها وذهب الكوفيون إلى أن هذا يعمل عمل كان و شيخنا خبره وسموه تقريبا وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش شيخ بالرفع على أنه خبر محذوف أي 4 هو شيخ أو خبر بعد خبر وفي البحر إن الكلام على هذا كقولهم : هذا حلو حامض أو هو الخبر و بعلي بدل من إسم الإشارة أو بيان له وجوز أن يكون بعلي الخبر و شيخ تابعا له وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير في أألد لتقدير ما فيه من الإستبعاد وتعليله أي أألد وكلانا على حالة منافية لذلك وإنما قدمت بيان حالها على بيان حاله عليه السلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام ولأن البشارة متوجهة إليها صريحا ولأن العكس في البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع عن الولادة إلى جانب إبراهيم عليه السلام وفيه ما لا يخفى من المحذور واقتصارها في الإستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعدة وأما ولادة ولدها فلا يتعلق بها قاله شيخ الإسلام إن هذا أي ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا وقيل : هو إشارة إلى الولادة أو البشارة بها والتذكير لأن المصدر في تأويل إن مع الفعل ولعل المآل أن هذا الفعل لشيء عجيب
72
- أي من سنة الله تعالى المسلوكة في عباده والجملة تعليل بطريق الإستئناف التحقيقي ومقصدها كما قيل : إستعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الإستعجاب العادي لا إستبعاد ذلك من حيث القدرة قالوا أتعجبين من أمر الله أي قدرته وحكمته أو تكوينه وشأنه سبحانه أنكروا عليها تعجبا لأنها كانت ناشئة في بيت النبوة ومهبط الوحي ومحل الخوارق فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف الله سبحانه الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد ممن يتعلق بإفاضته على مشيئته تعالى الأزلية لا سيما أهل بيت النبوة الذين هم هم وأن تسبح الله تعالى وتمجده وتحمده وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى : رحمت الله المستتبعة كل خير
(12/100)

ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة تشريفها والإيماء إلى عظمتها وبركته أي خيراته التامة المتكاثرة التي من جملتها هبة الأولاد وقيل : الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء عليهم السلام منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه السلام وقيل : رحمته تحيته وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة
عليكم أهل البيت نصب على المدح أو الإختصاص كما ذهب إليه كثير من المعربين قال أبو حيان وبينهما فرق ولذلك جعلها سيبويه في بابين وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم والمنصوب على الإختصاص يقصد به المدح أو الذم لكن لفظه لا يتضمن بوضعه ذلك كقول رؤبة
بنا تميما يكشف الضباب
إنتهى وفي الهمع أن النصب في الإختصاص بفعل واجب الإضمار وقدره سيبويه بأعني ويختص بأي بعد ضمير المتكلم كأنا أفعل كذا أيها الرجل وكاللهم إغفر لنا أيتها العصابة وحكمها في هذا الباب إلا عند السيرافي والأخفش حكمها في باب النداء ويقوم مقامها في الأكثر كما قال سيبويه بنو نحو قوله
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
ومنه قوله : نحن بنات طارق نمشي على النمارق ومعشر كقوله : لنا معشر الأنصار مجد مؤثل بأرضائنا خير البرية أحمدا وفي الحديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث وآل وأهل وأبو عمرو لا ينصب غيرهما وليس بشيء وقل كون ذلك علما كما في بيت رؤبة السابق في كلام أبي حيان ولا يكون إسم إشارة ولا غيره ولا نكرة البتة ولا يجوز تقديم إسم الإختصاص على الضمير وقل وقوع الإختصاص بعد ضمير المخاطب كسبحانك الله العظيم وبعد لفظ غائب في تأويل المتكلم أو المخاطب نحو على المضارع الوضعية أيها البائع فالمضارع لفظ غيبة لأنه ظاهر لكنه في معنى على أو عليك ومنع ذلك الصفار البتة لأن الإختصاص شبه النداء فكما لا ينادى الغائب فكذلك لا يكون فيه الإختصاص انتهى مع أدنى زيادة وتغيير ومنه يعلم بعض ما في كلام أبي حيان وأن حمل ما في الآية الكريمة على الإختصاص من إرتكاب ما قل في كلامهم وجوز في الكشاف نصبه على النداء وقدمه على إحتمال النصب على الإختصاص ولعله أشار بذلك إلى ترجيحه على الإحتمال الثاني لكن ذكر بعض الأفاضل إن في ذلك فوات معنى المدح المناسب للمقام والمراد من البيت كما في البحر بيت السكنى وأصله مأوى الإنسان بالليل ثم قد يقال من غير إعتبار الليل فيه ويقع على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر وعبر عن مكان الشيء بأنه بيته ويجمع على بيوت وأبيات وجمع الجمع أباييت وبيوتات وأبياوات ويصغر على بييت وبييت بالكسر ويقال : بويت كما تقوله العامة وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع ليكون جوابهم عليهم السلام لها جوابا لمن يخطر بباله مثل ما خطر ببالها من سائر أهل البيت
والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها فهي جملة خبرية واختاره جمع من المحققين وقيل : هي دعائية وليس بذاك واستدل بالآية على دخول الزوجة في أهل البيت وهو الذي ذهب إليه السنيون ويؤيده ما في سورة الأحزاب وخالف في ذلك الشيعة فقالوا : لا تدخل إلا إذا كانت قريب الزوج ومن نسبه فإن المراد من البيت بيت النسب لا بيت الطين والخشب ودخول سارة رضي الله تعالى عنها هنا لأنها بنت عمه وكأنهم حملوا البيت على الشرف كما هو أحد معانيه وبه فسر في قول العباس رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلى الله عليه و سلم :
(12/101)

حتى احتوى بيتك المهين من خندف علياء تحتها النطف ثم خصوا الشرف بالشرف النسبي وإلا فالبيت بمعنى النسب مما لم يشع عند اللغويين ولعل الذي دعاهم لذلك بغضهم لعائشة رضي الله تعالى عنها فراءوا إخراجها من حكم يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام واستدل بالآية على كراهة الزيادة في التحية على السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم
أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلا قال له : سلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته فانتهزه ابن عمر وقال : حسبك ما قال الله تعالى وأخرج عن ابن عباس أن سائلا قام على الباب وهو عند ميمونة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته وصلواته ومغفرته فقال : إنتهوا بالتحية إلى ما قال الله سبحانه وفي رواية عن عطاء قال : كنت جالسا عند ابن عباس فجاء سائل فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه فقال : ما هذا السلام ! وغضب حتى احمرت وجنتاه إن الله تعالى حد للسلام حدا ثم إنتهى ونهى عما وراء ذلك ثم قرأ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد قال أبو الهيثم : أي تحمد أفعاله وفي الكشاف أي فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده ففعيل بمعنى مفعول وجوز الراغب أن يكون حميد هنا بمعنى حامد ولعل الأول أولى مجيد
73
- أي كثير الخير والإحسان وقال ابن الأعرابي : هو الرفيع يقال : مجد كنصر وكرم مجدا ومجادة أي كرم وشرف وأصله من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع وقد أمجدنا الراعي إذا أوقعنا في ذلك وقال الأصمعي : يقال أمجدت الدابة إذا أكثرت علفها وقال الليث : أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره ومن ذلك قول أبي حية النميري : تزيد على صواحبها وليست بماجدة الطعام ولا الشراب أي ليست بكثير الطعام ولا الشراب ومن أمثالهم في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي إستكثر من ذلك وقال الراغب : أي تحرى السعة في بذل الفضل المختص به وقال ابن عطية : مجد الشيء إذا حسنت أوصافه والجملة على ما في الكشف تذييل حسن لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده إذ شرفها بما شرف وقيل : هي تعليل لما سبق من قوله سبحانه : رحمة الله وبركاته عليكم فلما ذهب عن إبراهيم الروع أي الخوف والفزع قال الشاعر : إذا أخذتها هزة الروع أمسكت بمنكب مقدام على الهول أروعا والفعل راع ويتعدى بنفسه كما في قوله : ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم والروع بضم الراء النفس وهي محل الروع والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه السلام ببعض غب إنفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه بل له مدخل في السياق والسباق وتأخر الفاعل من الظرف لكونه مصب الفائدة والمعنى لما زال عنه ما كان أوجسه منهم من الخيفة واطمأنت نفسه بالوقوف على جلية أمرهم وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط أي يجادل رسلنا في حالهم وشأنهم ففيه مجاز في الإسناد وكانت مجادلته عليه السلام لهم ما قصه الله سبحانه في قوله سبحانه في سورة العنكبوت : ولما جاءت رسلنا إبراهيم
(12/102)

بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال : إن فيها لوطا فقوله عليه السلام : إن فيها لوطا مجادلة وعد ذلك مجادلة لأن مآله على ما قيل : كيف تهلك قرية فيها من هو مؤمن غير مستحق للعذاب ولذا أجابوه بقولهم نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته وهذا القدر من القول هو المتيقن
وعن حذيفة أنهم لما قالوا له عليه السلام ما قالوا قال : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونها قالوا : لا قال : فثلاثون قالوا : لا قال : فعشرون قالوا : لا قال : فإن كان فيهم عشرة أو خمسة شك الراوي قالوا : لا قال : أرأيتم إن كان فيها رجل واحد من المسلمين أتهلكونها قالوا : لا فعند ذلك قال : إن فيها لوطا فأجابوه بما أجابوه وروي نحو ذلك عدة روايات الله تعالى أعلم بصحتها وفسر بعضهم المجادلة بطلب الشفاعة وقيل : هي سؤاله عن العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة وأيا ما كان فيجادلنا جواب لما وكان الظاهر جادلنا إلا أنه عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية واستحضار صورتها وقيل : إن لما كلو تقلب المضارع ماضيا كما أن أن تقلب الماضي مستقبلا وقيل : الجواب محذوف وهذه الجملة في موضع الحال من فاعله أي أخذ أو أقبل مجادلا لنا وآثر هذا الوجه الزجاج ولكنه جعله مع حكاية الحال وجها واحدا لأنه قال : ولم يذكر في الكلام أخذ لأن الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه أخذ وأقبل لأنك إذا قلت : قام زيد دل على فعل ماض وإذا قلت : أخذ زيد يقوم دل على حال ممتدة من أجلها ذكر أخذ وأقبل وصنيع الزمخشري يدل على أنهما وجهان وتحقيقه على ما في الكشف أنه إذا أريد إستمرار الماضي فهو كما ذكره الزجاج وإن أريد التصوير المجرد فلا وقيل : الجواب محذوف
والجملة مستأنفة إستئنافا نحويا أو بيانيا وهي دليل عليه والتقدير إجترأ على خطابنا أو فطن بمجادلتنا وقال : كيت وكيت واختاره في الكشاف وقيل : إن هذه الجملة وكذا الجملة التي قبلها في موضع الحال من إبراهيم على الترادف أو التداخل وجواب لما قلنا يقدر قبل يا إبراهيم أعرض عن هذا وأقرب الأقوال أولها والبشرى إن فسرت بقولهم : لا تخف فسببية ذهاب الخوف ومجيء السرور للمجادلة ظاهرة وأما إن فسرت ببشارة الولد كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن قتادة واختاره جمع أو بما يعمها فلعل سببيتها لها من حيث أنها تفيد زيادة إطمئنان قلبه عليه السلام بسلامته وسلامة أهله كافة كذا قاله مولانا شيخ الإسلام ثم قال : إن قيل : إن المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لإشتغاله بشأن نفسه فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله سبحانه : قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط قلنا : كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم : لا تخف وأما الذي علمه عليه السلام بعد بعد النهي فهو إختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخول لهم تحت العموم فتأمل إنتهى
وفيه أن كون الكل أمته في حيز المنع وما أشار إليه من إتحاد الشريعتين إن أراد به الإتحاد في الأصول كاتحاد شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مع شريعة إبراهيم عليه السلام فمسلم لكن لا يلزم منه ذلك وإن أراد به الإتحاد في الأصول والفروع فغير مسلم ولو سلم ففي لزوم كون الكل أمته له تردد على أنه لو سلمنا كل ذلك
(12/103)

فلقائل أن يقول : سلمنا أنه عليه السلام لما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى حصل له خوف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط عليه السلام لكن لا نسلم أن هذا الخوف كان عن علم بأن أولئك الملائكة كانوا مرسلين لإهلاك الكل المندرج فيه قوم لوط بل عن تردد وتحير في أمرهم وحينئذ لا ينحل السؤال بهذا الجواب كما لا يخفى على المتبصر وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال : المفهوم من الكلام تحقق المجادلة بعد تحقق مجموع الأمرين ذهاب الروع ومجيء البشارة وهو لا يستدعي إلا سبق العلم بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط على تحقق المجموع ويكفي في ذلك سبقه على تحقق البشارة وهذا العلم مستفاد من قولهم له : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وكأنه عليه السلام إنما لم يجادل بعد هذا العلم وأخر المجادلة في مجيء البشارة ليرى ما ينتهي إليه كلام الملائكة عليهم السلام أو لأنه لم يقع فاصل سكوت في البين ليجادل فيه إلا أن هذا لا يتم إلا أن يكون الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط سابقا على البشارة بالولد وفيه تردد
وفي بعض الآيات ما هو ظاهر في سبق البشارة على الإخبار بذلك نعم يمكن أن يلتزم سبق الإخبار على البشارة ويقال : إنهم أخبروه أولا ثم بشروه ثانيا ثم بعد أن تحقق مجموع الأمرين قال : فما خطبكم أيها المرسلون ويقال : المراد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك إن إبراهيم لحليم غير عجول على الإنتقام إلى المسيء إليه أواه كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس منيب
75
- راجع إلى الله تعالى والمقصود من وصفه عليه السلام بهذه الصفات المنبئة عن الشفقة ورقة القلب بيان ما حمله على ما صدر عنه من المجادلة وحمل الحلم على عدم العجلة والتأني في الشيء مطلقا وجعل المقصود من الوصف بتلك الصفات بيان ما حمله على المجادلة وإيقاعها بعد أن تحقق ذهاب الروع ومجيء البشرى لا يخفى حاله
يا إبراهيم على تقدير القول ليرتبط بما قبل أي قالت الملائكة أو قلنا يا إبراهيم
أعرض عن هذا الجدال إنه أي الشأن قد جاء أمر ربك أي قدره تعالى المقتضي بعذابهم وقد يفسر بالعذاب ويراد بالمجيء المشارفة فلا يتكرر مع قوله سبحانه : وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود
76
- أي لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما إذ حاصل ذلك حينئذ شارفهم ثم وقع بهم وقيل : لا حاجة إلى إعتبار المشارفة والتكرار مدفوع بأن ذاك توطئة لذكر كونه غير مردود
وقرأ عمرو بن هرم وإنهم أتاهم بلفظ الماضي و عذاب فاعل به وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع ولما جاءت رسلنا لوطا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك سيء بهم أي أحدث له عليه السلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم وقيل : كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاءا وقيل نصف النهار ووجدوا لوطا في حرث له
وقيل : وجدوا بنتا له تستقي ماءا من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيأتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم : مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا :
(12/104)

إنا نريد أن تضيفنا الليلة فقال : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم فقالوا : وما عملهم فقال : أشهد بالله تعالى أنهم شر قوم في الأرض وقد كان الله تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فلما قال هذه قال جبريل عليه السلام : هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله وضاق بهم ذرعا أي طاقة وجهدا وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار مادا خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد وذلك أن اليد كما تجعل مجازا عن القوة فالذراع المعروفة كذلك وفي الصحاح يقال : ضقت بالأمر ذرعا إذا لم تطقه ولم تقو عليه وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله وربما قالوا : ضقت به ذراعا قال حميد بن ثور يصف ذئبا : وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها ذراعا ولم يصبح لها وهو خاشع وفي الكشاف جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا : رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب وضيقه كناية عن شدة الإنقباض للعجز مدافعة المكروه والإحتيال فيه وهو على ما قيل : كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة وقيل : إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه على أن المراد أن بدنه ضاق قدر عن إحتمال ما وقع وقال هذا اليوم يوم عصيب
77
- أي شديد وأصله من العصب بمعنى الشد كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض وقال أبو عبيدة : سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر قال الراجز : يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوى السلم الطوالا وفي معناه العصبصب والعصوصب وجاءه أي لوطا وهي في بيته مع أضيافه قومه يهرعون إليه قال أبو عبيدة : أي يسحتثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم أو الطمع في الفاحشة والعامة على قراءته مبنيا للمفعول وقرأ جماعة يهرعون بفتح الياء مبنيا للفاعل من هرع وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا وفسر بعضهم الإهراع بالمشي بين الهرولة والجمز وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية فقال : المعنى يقبلون إليه بالغضب ثم أنشدوا مهلهل : فجاءوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القرائتين وجملة يهرعون في موضع الحال من قومه أي جاءوا مهرعين إليه وروي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت إمرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت : إن لوطا قد أضاف الليلة فئة ما رؤي مثلهم جمالا فحينئذ جاءوا يهرعون إليه ومن قبل أي من قبل وقت مجيئهم وقيل : من قبل بعث لوط رسولا إليهم كانوا يعملون السيئات قيل : المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو بإعتبار فاعليها
وقيل : المراد ما يعم ذلك وإتيان النساء في محاشهن والمكاء والصفير واللعب بالحمام والقمار والاستهزاء
(12/105)

بالناس وغير ذلك والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم إعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها
وقيل : إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات
قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزا وقد زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إبنته زينب لأبي العاص بن الربيع وابنته رقية لعتبة بن أبي لهب قبل الوحي وكانا كافرين إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت تبت يدا أبي لهب فتزوجها عثمان رضي الله تعالى عنه وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة و السلام زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم أنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة و السلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف
وقال الحسن بن الفضل : إنه عليه السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام وإلى ذلك ذهب الزجاج وهو مبني على أن تزوج المسلمات من الكفار لم يكن جائزا إذ ذاك وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما إبنتيه ولم يكن له عليه السلام سواهما واسم إحداهما على ما في بعض الآثار زعواء والأخرى زيتاء وقيل : كان له عليه السلام ثلاث بنات وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على إثنين وأيا ما كان فقد أراد عليه السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال : كيف يليق عليه السلام أن يعرض بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم ! نعم إستشكل عرض بناته بناءا على أنهن إثنتان كما هو المشهور أو ثلاث كما قيل على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين : إن ذلك القول لم يكن منه عليه السلام مجريا على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهار لشدة إمتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم وعندهم لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن ابن جبير ومجاهد وابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه السلام نساء أمته والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبي أب لأمته وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم
وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم وأزواجه أمهاتهم على وهو أب لهم وأراد عليه السلام بقوله : هن أطهر لكم أنظف فعلا أوأقل فحشا كقولك : : الميتة أطيب من المغضوب وأحل منه ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهي التنزه عن الفحش والإثم وصيغة أفعل في ذلك مجاز والظاهر إن هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر وكذلك هن أطهر لكم وجوز أبو البقاء كون بناتي بدلا أو عطف بيان وهن ضمير فصل و أطهر هو الخبر وكون هن مبتدأ ثانيا و أطهر خبره والجملة خبر هؤلاء
(12/106)

وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى الثقفي وسعيد بن جبير والسدي أطهر بالنصب وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء : إن من قرأ أطهر بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن إنتصابه على أن يجعل حالا عمل فيها ما في هؤلاء من الإشارة أو التنبيه أو ينصب هؤلاء بفعل مضمر كأنه قيل : خذوا هؤلاء و بناتي بدل ويعمل هذا المضمر في الحال و هن في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل وهذا المنع هو المروي عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول : جاء زيد هو ضاحكا وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة وقيل : بوقوعه شذوذا كما في قولهم : أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان والآية الكريمة على أن هن مبتدأ و لكم الخبر و أطهر حال من الضمير في الخبر واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي والأكثرون على منعه أو على أن يكون هؤلاء مبتدأ و بناتي هن جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك : هذا أخي هو ويكون أطهر حالا وروي هذا عن المبرد وابن جني أو على أن يكون هؤلاء مبتدأ و بناتي بدلا منه أو عطف بيان و هن خبر و أطهر على حاله
وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك : هذا أبوك عطوفا وادعى في الكشف أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم وقوله : بناتي هن جملة معترضة تعليلا للأمر وكونهن أولى قدمت للإهتمام كأنه قيل خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي ويجوز أن يقال هن تأكيد للمستكن في بناتي لأنه وصف مشتق لا سيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل فاتقوا الله بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم ولا تخزون في ضيفي أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له أولا تخجلوني فيهم والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية وأصل معنى خزي لحقه إنكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط وإما من غيره وهو الإستخفاف والتفضيح والضيف مصدر ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور وسمع فيه ضيوف وأضياف وضيفان ولا ناهية والفعل مجزوم بحذف النون والموجودة نون الوقاية والياء محذوفة بالكسرة وقريء بإثباتها على الأصل أليس منكم رجل شديد يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم والإستفهام للتعجب وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام قالوا معرضين عما نصحهم به من الأمر بالتقوى والنهي عن الإخزاء عن أول كلامه لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي حق وهو واحد الحقوق وعنوا به قضاء الشهوة أي ما لنا حاجة في بناتك وقد يفسر بما يخالف الباطل أي ما لنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات وما هو إلا عرض سابري كذا قيل وهو ظاهر في أنه كان من شريعته عليه السلام عدم حل نكاح الكافر المسلمة
وقيل : إنما نفوا أن يكون لهم حق في بناته لأنهم كانوا قد خطبوهن فردهم وكان من سنتهم أن من رد في خطبة إمرأة لم تحل له أبدا وقيل : إنهم لما إتخذوا إتيان الذكور مذهبا كان عندهم هو الحق وأن نكاح الإناث من الباطل فقالوا ما قالوا وقيل : قالوا ذلك لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة وكانوا
(12/107)

كلهم متزوجين وأنك لتعلم ما نريد
79
- أي من إتيان الذكور والظاهر أن ما مفعول لتعلم وهو بمعنى تعرف وهي موصولة والعائد محذوف أي الذي نريده وقيل : إنها مصدرية فلا حذف أي إرادتنا
وجوز أن تكون إستفهامية وقعت مفعولا لنريد وهي حينئذ معلقة لتعلم ولما يئس عليه السلام من إرعوائهم عما هم عليه من الغي قال لو أن لي بكم قوة أي لو ثبت أن لي قوة ملتبسة بكم بالمقاومة على دفعكم بنفسي لفعلت فلو شرطية وجوابها محذوف كما حذف في قوله سبحانه : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال وجوز أن تكون للتمني و بكم حال من قوة كما هو المعروف في وصفة النكرة إذا قدمت عليها وضعف تعلقه بها لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور وقوله : أو آوي إلى ركن شديد
80
- عطف على ما قبله بناءا على ما علمت من معناه الذي يقتضيه مذهب المبرد والمضارع واقع موقع الماضي واستظهر ذلك أبو حيان وقال الحوفي : إنه عطف على ما تقدم بإعتبار أن المراد أو أني آوي وجوز ذلك أبو البقاء وكذا جوز أن تكون الجملة مستأنفة و الركن في الأصل الناحية من البيت أو الجبل ويقال : ركن بضم الكاف وقد قريء به ويجمع على أركان وأراد عليه السلام به القوي شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته أي أو أنضم إلى قوي أمتنع به عنكم وأنتصر به عليكم وقد عد رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا القول منه عليه السلام بادرة واستغفر به فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : رحم الله تعالى أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد يعني عليه الصلاة و السلام به الله تعالى فإنه لا ركن أشد منه عز و جل
إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد وجاء أنه سبحانه لهذه الكلمة لم يبعث بعد لوط نبيا إلا في منعة من عشيرته وفي البحر أنه يجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل ويكون عليه السلام قد أضرب عن الجملة السابقة وقال : بل آوي في حالي معكم إلى ركن شديد وكني به عن جناب الله تعالى ولا يخفى أنه يأبى الحمل على هذه الكناية تصريح الأخبار الصحيحة بما يخالفها وقرأ شيبة وأبو جعفر آوي بالنصب على إضمار أن بعد أو فيقدر بالمصدر عطفا على قوة ونظير ذلك قوله : ولو لا رجال من رزام أعزة وآل سبيع أو أسوأك علقما أي لو أن لي بكم قوة أو أويا روي أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة عليهم السلام ما على لوط من الكرب قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام رب العزة في عقوبتهم فأذن له فلما دنوا طمس أعينهم فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا وهم يقولون : النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة وفي رواية أنه عليه السلام أغلق الباب على ضيفه فجاءوا فكسروا الباب فطمس جبريل أعينهم فقالوا : يا لوط جئتنا بسحرة وتوعدوه فأوجس في نفسه خيفة قال : يذهب هؤلاء ويذروني فعندما قال جبريل عليه السلام لا تخف إنا رسل ربك فأسر بأهلك بالقطع من الإسراء وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السري وقد جاء سري
(12/108)

وهما بمعنى واحد عند أبي عبيدة والأزهري وعن الليث أسري سار أول الليل وسرى سار آخره ولا يقال في النهار : إلا سار وليس هو مقلوب سرى والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الأخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عز و جل إليه عليه السلام والباء للتعدية أو للملابسة أي سر ملابسا بأهلك بقطع من الليل قال ابن عباس : بطائفة منه وقال قتادة : بعد مضي صدر منه وقيل : نصفه وفي رواية أخرى عن الحبر آخره وأنشد قول مالك بن كنانة : ونائحة تقوم بقطع ليل على رحل أهانته شعوب وليس من باب الإستدلال وإلى هذا ذهب محمد بن زياد لقوله سبحانه : نجيناهم بسحر وتعقبه ابن عطية بأنه يحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوزوا البلد المقتلع ووقعت نجاتهم بسحر وأصل القطع القطعة من الشيء لكن قال ابن الأنباري : إن ذلك يختص بالليل فلا يقال : عندي قطع من الثوب
وفسر بعضهم القطع من الليل بطائفة من ظلمته وعن الحبر أيضا تفسيره بنفس السواد ولعله من باب المساهلة ولا يلتفت منكم أحد أي لا يتخلف كما روي عن ابن عباس أولا ينظر إلى ورائه كما روي عن قتادة قيل : وهذا هو المعنى المشهور الحقيقي للإلتفات وأما الأول فلأنه يقال : لفته عن الأمر إذا صرفته عنه فالتفت أي أنصرف والتخلف إنصراف عن المسير قال تعالى : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباؤنا أي تصرفنا كذا قال الراغب
وفي الأساس أنه معنى مجازي والنهي في اللفظ لأحد وفي المعنى للوط عليه السلام على ما نقل عن المبرد وهذا كما تقول لخادمك : لا يقم أحد في أن النهي في الظاهر لأحد وهو في الحقيقة للخادم أن لا يدع أحدا يقوم فالمعنى هنا فأسر بأهلك ولا تدع أحدا منهم يلتفت ولا يخفى أنه على هذا تتم المناسبة بين المعطوف عليه والمعطوف لأن الأول لأمره عليه السلام والثاني لنهيه ويعلم من هذا أن ضمير منكم للأهل
وقد صرح بذلك شهاب فلك الفضل الخفاجي فقال : وههنا لطيفة وهو أن المتأخرين من أهل البديع إخترعوا نوعا من البديع سموه تسمية النوع وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر إسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الإستخدام : واستخدموا العين مني فهي جارية وكم سمحت بها في يوم بينهم وتبجحوا بإختراعه وأنا بمن الله تعالى أقول : إنه وقع في القرآن في هذه الآية لأن قوله سبحانه : فأسر بأهلك إلخ وقع فيه ضمير منكم للأهل فقوله جل وعلا : لا يلتفت من تسمية النوع وهذا من بديع النكات إنتهى وسر النهي عن الإلتفات بمعنى التخلف ظاهر وأما سره إذا كان بمعنى النظر إلى وراء فهو أن يجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ورائه لا يخلو عن أدنى وقفة أو أن لا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم
وذكر بعضهم أن النهي وكذا الضمير للوط عليه السلام ولأهله أي لا يلتفت أحد منك ومن أهلك
إلا امرأتك بالنصب وهو قراءة أكثر السبعة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع وقد كثر الكلام في ذلك فقال الزمخشري : إنه سبحانه إستثناها من قوله : فأسر بأهلك ويدل عليه قراءة عبدالله فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ويجوز أن ينتصب
(12/109)

من لا يلتفت على أصل الإستثناء وإن كان الفصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هذة العذاب إلتفتت وقالت : يا قوماه فأدركها حجر فقتلها
وروي أنه لما أمر أن يخلقها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها واختلاف القرائتين لغختلاف الروايتين إنتهى وأورد عليه ابن الحاجب ما خلاصته أنه إما أن يسري بها فالإستثناء من أحد متعين أولا فيتعين من فأسر بأهلك والقصة واحدة فأحد التأويلين باطل قطعا والقراءتان الثابتتان قطعا لا يجوز حملهما على ما يوجب بطلان أحدهما فالأولى أن يكون إلا امرأتك رفعا ونصبا مثل ما فعلوه إلا قليل منهم ولا يبعد أن يكون بعض القراء على الوجه الأقوى وأكثرهم على ما دونه بل جوز بعضهم أن تتفق القراء على القراءة بغير الأقوى
وأجاب عنه بعض المغاربة بما أشار إليه في الكشف من منع التنافي لأن الإستثناء من الأهل يقتضي أن لا يكون لوط عليه السلام مأمورا بالإسراء بها ولا يمنع أنها سرت بنفسها ويكفي لصحة الإستثناءين هذا المقدار كيف ولم ينه عن إخراجها ولكنه أمر بإخراج غيرها نعم يرد على قوله : واختلاف القراءتين لإختلاف الروايتين أنه يلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين ويجاب بأن معناه إختلاف القراءتين جالب وسبب لإختلاف الروايتين كما تقول : السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلا له ولم يرد أن إختلاف القرائتين لأجل إختلاف الروايتين قد حصل ولا شك أن كل رواية تناسب قراءة وإن أمكن الجمع وأما قوله : وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فنقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن وإنما الكائن فيه إستثناؤها عن الحكم الذي للإستصلاح إذ لم يعن بها وإلى معنى ما أشار إليه صاحب الكشف في منع التنافي أشار أبو شامة فقال : وقع في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن وذلك أن يكون في الكلام إختصارا نبه عليه إختلاف القراءتين فكأنه قيل : فأسر بأهلك إلا امرأتك كما قرأ به عبدالله ورواه أبو عبيدة عن مصحفه فهذا دليل على أن إستثناءها من السري بهم ثم كأنه قال سبحانه : فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فإنه أهلك عن الإلتفات غيرها فإنها ستهلك ويصيبها ما يصيب قومها فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح ولا يخفى ما في ذلك من التكلف كما قال ابن مالك ولذا إختار أن الرفع على أن الإستثناء منقطع و امرأتك مبتدأ والجملة بعدها خبره وإلا بمعنى لكن
وقال ابن هشام في المغنى في الجهة الثامنة من الباب الخامس : إن ما ذكره الزمخشري وقد سبقه إليه غيره في الآية خلاف الظاهر والذي حمل القائلين عليه أن النصب قراءة الأكثرين فإذا قدر الإستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح وقد إلتزم بعضهم جواز مجيء الأمرين مستدلا بقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر فإن النصب في ذلك عند سيبويه على حد قولهم : زيدا ضربته ولم ير خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحا كما رآه بعض المتأخرين ثم قال : والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجحة وأن الإستثناء على القرائتين من جملة الأمر بدليل سقوط ولا يلتفت إلخ في قراءة ابن مسعود والإستثناء منقطع بدليل سقوطه في آية الحجر ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته لا أهل بيته وإن لم يكونوا
(12/110)

مؤمنين كما في قوله تعالى لنوح عليه السلام : إنه ليس من أهلك ووجه الرفع أنه على الإبتداء وما بعد الخبر والمستثنى الجملة ونظيره لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله
واختار أبو شامة ما اخترته من أن الإستثناء منقطع لكنه قال : وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية وهذا يدل على أنه جعل الإستثناء من جملة النهي وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة عبدالله انتهى
واستظهر ذلك الحمصي في حواشيه على التصريح واستحسنه غير واحد وقد نقل أبو حيان القول بالإنقطاع على القراءتين وتخريج النصب على اللغة الحجازية والرفع عن الأخرى ثم قال إنه كلام لا تحقيق فيه فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الإلتفات وكان المعنى لكن إمرأتك يجري عليها كذا وكذا كان من الإستثناء الذي لا يتوجه إليه العامل وهذا النوع من الإستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع العرب وإنما الخلاف في المنقطع الذي يمكن توجه العامل إليه وفيه نظر ففي التوضيح لابن مالك حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب مفردا كان أو مكملا معنى بما بعده كقوله تعالى : إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين النصب ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين إلا النصب وقد غفلوا عن وروده مرفوعا بالإبتداء ثابت الخبر كقول أبي قتادة : أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم ومحذوفه نحو لا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله وإلا في ذلك بمعنى لكن أي لكن أبو قتادة لم يحرم ولكن الله يعلم إنتهى وما نحن فيه من قبيل هذا وفي حاشيتي البدر الدماميني وتقي الدين الشمني أن الرضي قد أجاب بما يقتضي أن الإستثناء متصل ولا تناقض وذلك أنه قال : ولما تقرر أن الإتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة وكان أكثر القراء على النصب في ولا يلتفت إلخ تكلف الزمخشري لئلا تكون قراءة الأكثر محمولة على وجه غير مختار بما تكلف واعترضه ابن الحاجب بلزوم التناقض لأن الإستثناء من أسر بأهلك يقتضي كونها غير مسري بها ومن لا يلتفت منكم أحد يقتضي كونها مسري بها لأن الإلتفات بالإسراء والجواب أن الإسراء وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الإلتفات فمآله أسر بأهلك إسرارءا لا إلتفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراءا مع الإلتفات فآستثن على هذا إن شئت من أسر أو لا يلتفت ولا تناقض وهذا كما تقول : إمش لا تتبختر أي امش مشيا لا تتبختر فيه فكأنه قيل : ولا يلتفت منكم أحد في الإسراء وكذا إمش ولا تتبختر في المشي فحذف الجار والمجرور للعلم به انتهى
وأورد عليه السيد النسد في حواشيه أن الإستثناء إذا رجمع إلى القيد كان المعنى فأسر بجميع أهلك إسراءا لا إلتفات فيه إلا من مرأتك فيكون الإسراء بها داخلا في المأمور به وإذا رجمع إلى المقيد لم يكن الإسراء بها داخلا في المأمور به فيكون المحذور باقيا بحاله ولا مخلص عنه إلا بأن يقال : إن تناول العام إياها ليس قطعيا لجواز أن يكون مخصوصا فلا يلزم من رجوع الإستثناء إلى قوله تعالى : ولا يلتفت كونه عليه السلام مأمورا بالإسراء بها وحينئذ يوجه الإستثناء بما ذكر من أنها تبعتهم أو أسرى بها مع كونه غير مأمور بذلك إذ لا يلزم من عدم الأمر به النهي عنه فتأمل إنتهى
وبحث فيه الشهاب ولم يرتض إحتمال التخصيص لما أنه لا دليل عليه ويفهم صنيعه إرتضاء كلام الرضي ثم قال : ومراده بالتقييد أنه ذكر شيآن متعاطفان فالظاهر أن المراد الجمع بينهما لا أن الجملة حالية فلا يرد
(12/111)

عليه أن الحمل على التقييد مع كون الواو للنسق ممنوع وكذا جعلها للحال مع لا الناهية وأيضا القراءة بإسقاطها تدل على عدم إعتبار ذلك التقييد ولا يخلو عن شيء وقد ألفت في تحقيق هذا الإستثناء عدة رسائل : منها رسالة للحمصي وأخرى للعلامة الكافيجي ألفها لبعض سلاطين آل عثمان غمرهم الله سبحانه بصنوف الفضل والإحسان حين طلب منه لبحث وقع في مجلسه ذلك وبالجملة القول بالإنقطاع أقل تكلفا فيما يظهر والقول بأنه حينئذ لا يبقى إرتباط لقوله سبحانه : إنه مصيبها ما أصابهم ناشيء عن عدم الإلتفات فلا ينبغي أن يلتفت إليه كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم نقله فتأمل وضمير إنه للشأن و ما أصابهم مبتدأ و مصيبها خبره والجملة خبر إن الذي إسمه ضمير الشأن وفي البحر إن مصيبها مبتدأ و ما أصابهم خبره والجملة خبر إن ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مصيبها خبر إن و ما فاعل به لأنهم يجوزون أنه قائم أخواك ومذهب البصريين أن ضمير الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحا بجزأيها فلا يجوز هذا الإعراب عندهم والأولى ما ذكر أولا والجملة إما تعليل على طريقة الإستئناف أو خبر لامرأتك على قراءة الرفع والمراد من ما العذاب ومن أصابهم يصيبهم والتعبيريه دونه للإيذان بتحقق الوقوع وفي الإبهام وأسمية الجملة والتأكيد ما لا يخفى
إن موعدهم الصبح أي موعد عذابهم وهلاكهم ذلك وكأن هذا على ما قيل : تعليل للأمر بالإسراء واالنهي عن الإلتفات المشعر بالحث على الإسراع وقوله سبحانه : أليس الصبح بقريب
81
- تأكيد للتعليل فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع للتباعد عن مواقع العذاب وروي أنه عليه السلام سأل الملائكة عليهم السلام عن وقت هلاكهم فقالوا : موعدهم الصبح فقال : أريد أسرع من ذلك فقالوا له : أليس الصبح بقريب
ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين
وقرأ عيسى بن عمر الصبح بضم الباء قيل : وهي لغة فلا يكون ذلك اتباعا فلما جاء أمرنا أي عذابنا أو الأمر به فالأمر على الأول واحد الأمور وعلى الثاني واحد الأوامر قيل : ونسبة المجيء إليه بالمعنيين مجازية والمراد لما حان وقوعه ولا حاجة إلى تقدير الوقت مع دلالة عليه
وقيل : إنه يقدر على الثاني أي جاء وقت أمرنا لأن الأمر نفسه ورد قبله ونحن في غنى عن إدعاء تكراره ورجح تفسير الأمر بما هو واحد الأوامر أعني ضد النهي بأنه الأصل فيه لأنه مصدر أمره وأما كونه بمعنى العذاب فيخرجه عن المصدرية الأصلية وعن معناه المشهور الشائع ويجعل التعذيب مسببا عنه بقوله سبحانه : جعلنا عاليها سافلها فإن جواب لما والتعذيب نفس إيقاع العذاب فلا يحسن جعله مسببا عن ذلك بل العكس أولى إلا أن يؤول المجيء بإرادته وضمير عاليها و سافلها لمدائن قوم لوط المعلومة من السياق وهي المؤتفكات وهي خمس مدائن : ميعة وصغرة وعصره ودوما وسدوم
وقيل : سبع أعظمها سدوم وهي القرية التي كان فيها لوط عليه السلام وكان فيها على ما روي عن قتادة أربعة آلاف ألف إنسان أو ما شاء الله تعالى من ذلك وقيل : إن هذا العدد إنما كان في المدائن كلها وقيل : إن ما كان في المدائن أكثر من ذلك بكثير والله تعالى أعلم
(12/112)

ونصب عاليها و سافلها على أنهما مفعولان للجعل والمراد قلبناها على تلك الهيئة وهو جعل العالي سافلا وإنما قلبت كذلك ولم يعكس تهويلا للأمر وتفظيعا للخطب لأن جعل عاليها الذي هو مقرهم ومسكنهم سافلها أشق من جعل سافلها عاليها وإن كان مستلزما له وروي أن لوطا عليه السلام سرى بمن معه قبل الفجر وطوى الله تعالى له الأرض حتى وصل إلى إبراهيم عليه السلام ثم إن جبريل عليه السلام إقتلع المدائن بيده وفي رواية أدخل جناحه تحت المدائن فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها وما أعظم حكمة الله تعالى في هذا القلب الذي هو أشبه شيء بما كانوا عليه من إتيان الإعجاز والإعراض عما تقتضيه الطباع السليمة ولا ينبغي أن يجعل الكلام كناية عن إنزال أمر عظيم فيها كما يقول القائل : اليوم قلبت الدنيا على فلان لما فيه من العدول عن الظاهر والإنحراف عما نطقت به الآثار من غير داع سوى إسبعاد مثل ذلك وما ذلك ببعيد وإسناد الجعل إلى ضميره تعالى بإعتبار أنه المسبب فهو إسناد مجازي بإعتبار اللغة وإن كان سبحانه هو الفاعل الحقيقي والنكتة في ذلك تعظيم الأمر وتهويله فإن ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم ويقوي ذلك ضمير العظمة أيضا وعلى هذا الطرز قوله سبحانه : وأمطرنا عليها أي على المدائن أو شذاذ أهلها حجارة من سجيل وكان ذلك زيادة في تفظيع حالهمأو قطعا لشأفتهم واستئصالا لهم
وروي أن رجلا منهم كان بالحرم فبقي حجر معلق بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه وأهلكه والسجيل الطين المتحجر لقوله تعالى في الآية الأخرى : حجارة من طين والقرآن يفسر بعضه بعضا ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة وهو كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد معرب سنك كل
وقال أبو عبيدة : السجيل كالسجين الشديد من الحجارة وقيل : هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته والمعنى حجارة كائنة من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار وهو على هذا خارج مخرج التهكم وقيل : من السجل بتشديد اللام وهو الصك ومعنى كونه من ذلك أنه مما كتب الله تعالى عليهم أن يعذبهم به وقيل : أصله من سجين وهو إسم لجهنم أو لواد فيها فأبدلت نونه لاما
وقال أبو العالية وابن زيد : السجيل إسم لسماء الدنيا قال أبو حيان : وهو ضعيف لوصفه بقوله سبحانه : منضود أي نضد وضع بعضه على بعض معدا لعذابهم أو نضد في الإرسال يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار ولا يخفى إن هذه المعاني كما تأبى ما قال أبو العالية وابن زيد تأبى بحسب الظاهر ما قيل : إن المراد جهنم وتكلف بعضهم فقال : يمكن وصف جهنم بذلك بإعتبار المعنى الأول بناءا على أنها دركات بعضها فوق بعض أو أن الأصل منضود فيه فإتسع وقد يتكلف بنحو هذا لما قاله أبو العالية وابن زيد وجوز أن يكون منضود صفة حجارة على تأويل الحجر وجره للجوار وعليه فالأمر ظاهر إلا أنه من التكلف بمكان مسومة أي عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله ابن جريج وقيل : معلمة ببياض وحمرة وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أنه كان بعضها أسود فيه نقطة بيضاء وبعضها أبيض فيه نقطة سوداء
وعن الربيع أنها كانت معلمة بإسم من يرمي بها وكان بعضها كما قيل : مثل رءوس الإبل وبعضها مثل مباركها وبعضها مثل قبضة الرجل عند ربك أي في خزائنه التي لا يملكها غيره سبحانه ولا يتصرف بها سواه عز و جل والظرف قيل : منصوب بمسومة أو متعلق بمحذوف وقع صفة له والمروي عن مقاتل
(12/113)

أن المعنى أنها جاءت من عند ربك وعن أبي بكر الهذلي أنها معدة عنده سبحانه
وقال ابن الأنباري : المراد ألزم هذا التسويم للحجارة عنده تعالى إيذانا بقدرته وشدة عذابه فليفهم
وما هي أي الحجارة الموصوفة بما ذكر من الظالمين من 4 كل ظالم ببعيد
83
- فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها وفيه وعيد لأهل الظلم كافة وروي هذا عن الربيع
وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن المراد من الظالمين ظالموا هذه الأمة وجاء في خبر ذكره الثعلبي وقال فيه العراقي : لم أقف له على إسناد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة وقيل : المراد بالظالمين قوم لوط عليه السلام والمعنى لم تكن الحجارة لتخطئهم
وعن ابن عباس أن المعنى وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعهد وظاهره أن الضمير للعقوبة المفهومة من الكلام و الظالمين من يشبههم من الناس ويمكن أن يقال : إن مراده بيان حاصل المعنى لا مرجح الضمير
وذهب أبو حيان إلى أن الظاهر أن يكون ضمير هي للقرى التي جعل عاليها سافلها والمراد من الظالمين ظالمو مكة وقد كانت قريبة إليهم يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام وتذكير البعيد يحتمل أن يكون على تأويل الحجارة بالحجر المراد به الجنس أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد في الأرض إلا أنها هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم أو لأنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث وإلى مدين أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام فحذف المضاف أو جعل إسما بالغلبة للقبيلة وكثيرا ما تسمى القبيلة بإسم أبيهم كمضر وتميم ولعل هذا أولى وجوز أن يراد بمدين المدينة التي بناها مدين فسميت به فيقدر حينئذ مضاف أي وإلى أهل مدين أخاهم نسيبهم شعيبا قد مر ما قيل في نسبه عليه السلام والجملة معطوفة على قوله سبحانه : وإلى ثمود أخاهم صالحا أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا
قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أمر بالتوحيد على وجه أكيد ولما كان ملاك الأمر قدمه على النهي عما إعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعارض وإيصال الحقوق لأصحابها بقوله : ولا تنقصوا المكيال والميزان قيل : أي لا تنقصوا الناس من المكيال والميزان يعني مما يكال ويوزن على ذكر المحل وإرادة الحال واستظهر أن المراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود وكذا الصنجات وقد تقدم في الإعراف الكيل بدل المكيال فتذكر وتأمل إني أراكم بخير أي ملتبسين بثروة واسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما أنتم عليه بأن تتفضلوا على الناس شكرا عليها فإن أجل شكر النعم الإحسان والتفضل على عباد الله تعالى أو أراكم بخير وغنى فلا تزيلوه بما تأتونه من الشر وعلى كل حال الجملة في موضع التعليل للنهي وعقب بعلة أخرى أعني قوله تعالى : وإني أخاف عليكم إن لم تنتهوا عن ذلك عذاب يوم محيط
84
- وجوز أن يكون تعليلا للأمر والنهي جميعا وفسر المحيط بما لا يشذ منه أحد منهم وفسره الزمخشري بالمهلك أخذا من قوله تعالى :
(12/114)

وأحيط بثمره وأصله من إحاطة العدو وادعى أن يصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد إجتمع للمعذب ما إشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه يعني أن اليوم لما كان زمانا مشتملا على الحوادث الكائنة فيه عذابا أو غيره فإذا أحاط بالمعذب ملتبسا بعذابه لأنه حادثة فقد إجتمع للمعذب الأمر الذي يشتمل عليه اليوم وهو العذاب كما إذا أحاط ملتبسا بنعيمه
والحاصل أن إحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب وأما إحاطة العذاب على قوم فقد يكون بأن يصيب كل فرد منهم فردا من أفراد العذاب وأما فيما نحن فيه فيدل عل إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد ولا شك في أبلغية هذا كذا في الكشف وتمام الكلام فيه وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية : إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطا بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له وهذا كقوله : إن المروءة والسماحة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة وجعل اليوم محيطا بالمعذب كضرب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه إستعارة إحاطته لإشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب وهذه الإستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية وجوز أن يكون محيط نعتا لعذاب وجر للجوار وقيل : هو نعت ليوم جار على غير من هو له والتقدير عذاب يوم محيط عذابه وليس بشيء كما لا يخفى وأيا ما كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الإستئصال في الدنيا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر والعذاب بغلائه
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان أي أتموهما وفائدة التصريح بذلك مع أن الإنتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الإتمام فيكون مطلوبا تبعا وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزما له تضمنا أو إلتزاما لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقض مبالغة في الكف ثم الأمر بالضد مبالغة في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكف عكسا وتقييده بقوله سبحانه : بالقسط أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان ثم إدماج أن المطلوب من الإتمام العدل ولهذا قد يكون الفضل محرما كما في الربويات وإلى هذا يشير كلام الزمخشري وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن وحملهما بعضهم في الموضعين على الآيتين المعروفتين وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال : إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص فلعل الزائد للإستعمال عند الإكتيال والناقص للإستعمال عند الكيل
وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا
(12/115)

لظلمهم وقانونا لعدوانهم وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه وادعى الفاضل الجلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء فقال : إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزان للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الإتصال بين الجملتين إنتهى
وتعقب بأن حمل هذين اللفظين وقد تكررا في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن لذلك وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه : يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم إنتهى
وفي ورود ما تعقب به أولا تأمل فتأمل وقوله تعالى ولا تبخسوا الناس أشياءهم يحتمل أن يكون تعميما بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضا فهو تذييل وتتميم لما تقدم وكذا قوله سبحانه : ولا تعثوا في الأرض مفسدين
58
- فإن العثي يعم تنقيض الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد وفعله من باب رمى وسعى ورضى وجاء واويا ويائيا ويحتمل أن يكون نهيا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم إعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما والتصريح بهذا النهي بعد ما علم في نفس النهي الأمرين السابقين للإهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها وإلى كل من الإحتمالين ذهب بعض وهو مبني على ما علمت من الإختلاف السابق في تفسير ما سبق وقيل : المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم العثي السرقة وقطع الطريق والغارة و مفسدين حال من ضمير تعثوا وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام وخرق السفينة فهو حال مؤسسة وقيل : ليس الفائدة الإخراج المذكور فإن المعنى لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم ومآل ذلك على ما قيل : إلى تعليل النهي كأنه قيل : لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم بقيت الله قال ابن عباس : أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء خير لكم مما تجمعون بالبخس فإن ذلك هباء منثور بل هو محض وإن زعمتم أنه خير إن كنتم مؤمنين أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلا أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق
وقال الربيع هي وصيته تعالى وقال مقاتل : ثوابه في الآخرة وقال الفراء : مراقبته عز و جل وقال قتادة : ذخيرته وقال الحسن : فرائضه سبحانه
وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال : المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة بقية
(12/116)

بتخفيف الياء قال ابن عطية : وهي لغة قال أبو حيان : إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الباء كان على وزن فعيل للمبالغة وقرأ الحسن تقية الله بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي ومآ أنا عليكم بحفيظ
86
- أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهدا أو ما أنا بحافظ عليكم نعم الله تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعبادة الله تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآمر لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك آمرا من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون وعلى هذا بنوا إستفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الإستهزاء : أصلاتك التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلا بعد جيل من الأوثان والتماثيل وإنما جعلوه عليه السلام مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكام النبوة لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة معروفا بذلك بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم وقيل : إن ذلك لأنه عليه السلام كان يصلي ويقول لهم : إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإلى الأول ذهب غير واحد وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكما واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان وقوله سبحانه : أن نترك على تقدير بتكليف أن نترك فحذف المضاف وهو تكليف فدخل الجار على أن ثم حذف وحذفه قبلها مطرد وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك وقيل : إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلا وقيل : لا تقدير والمعنى أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه السلام والإستهزاء به من تلك الجهة وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على دون الأمر ويستدعي أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه وأنى ذلك فتأمل وقرأ أكثر السبعة أصلواتك بالجمع وأمر الجمع بين القرائتين سهل وقوله تعالى : أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء أجابوا به أمره عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على ما و أو بمعنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره ولا يصح عطفه على أن نترك لإستحالة المعنى إذ يصير حينئذ تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به وحمل ما على ما أشرنا إليه هو الظاهر وقيل : كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك فقالوا ما قالوا وروي هذا عن محمد بن كعب وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثي في الأرض فيكون النهي عنه نهيا عنه ولا مانع من إندراجه في عموم ما وقرأ الضحاك بن قيس وابن أبي عبلة وزيد بن علي بالتاء في الفعلين على الخطاب فالعطف على مفعول
(12/117)

تأمرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان كما هو الظاهر وقيل : من الزكاة فقد كان عليه السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري قيل : وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه السلام صلاة وزكاة وأيد بما روي عن الحسن أنه قال : لم يبعث الله تعالى نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة وأنت تعلم أن حمل ما تشاء على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهرا إلا أنه روى ابن المنذر وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها
وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من من أن يكون له عليه السلام صلاة ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه السلام وما روي عن الحسن ليس نصا في الغرض كما لا يخفى هذا وجوز أن يكون العطف على القراءة على ما وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه
وقرأ أبو عبدالرحمن وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني والعطف على مفعول تأمرك والمعنى ظاهر مما تقدم إنك لأنت الحليم الرشيد
87
- وصفوه عليه السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الإستعارة التهكمية فالمراد بهما ضد معناهما وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه ذهب قتادة والمبرد
وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناءا على الزعم والجملة تعليل لما سبق من إستبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا : كيف تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك وقيل : يجوز أن يكون تعليلا باقيا على ظاهره بناءا على أنه عليه السلام كان موصوفا عندهم بالحلم والرشد وكان ذلك بزعمهم مانعا من صدور ما صدر منه عليه السلام ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضا ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه السلام من قولهم له : قد كنت فينا مرجوا قبل هذا وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه : قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة حجة ظاهرة من ربي ومالك أموري ورزقني منه من لدنه سبحانه رزقا حسنا هو النبوة والحكمة يدل على ذلك والجواب عليه من باب إرخاء العنان والكلام المصنف كأنه عليه السلام قال : صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدا لكم حليما فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة لكم إنظروا بعين الإنصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك ثم إنه عليه السلام أكد معنى الإرشاد وأدرج معي الحلم فيما سيأتي من كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم كذا قرره العلامة الطيبي
واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيا على الظاهر لما أن مقام الإستهزاء آب عنه وذكر قدس سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه السلام ولأمته وأن هذا الكلام منه عليه السلام رد على
(12/118)

مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم إستناد أمره ونهيه إلى سند ثم قال : وجواب الشرط محذوف يدله عليه فحوى الكلام أي أتقولون والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون وإستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم ما قلتم فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه ! وادعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم
وفسر القاضي الرزق الحسن بما آتاه الله تعالى من المال الحلال ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وبإعانته بلا كد في تحصيله وقدر جواب الشرط فهل يسع مع هذا الإنعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلام إعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي
وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم وعطاء ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون إنتهى
وأقول : لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتبادر بأن يقال : إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون ولم يتعرض عليه السلام صريحا لرد قولهم المتضمن لرميه وحاشاه بالوسوسة والجنون والسفه والغواية إيذانا بأن ذلك مما لا يستحق جوابا لظهور بطلانه وتعرض لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك مما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم : يا قوم إنكم إجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك مني أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع وربما يقال : إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال : إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغني عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضى وارتفاع ما يظن مانعا ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل
بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني أرأيتم إن كنت إلخ أن تقدر
(12/119)

الجملة الإستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني لأرأينم المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها والتقدير إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي إلخ فافهم ولا تغفل وما أريد بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف أنا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه أي أقصده بعدما توليتم عنه فإستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولي عنه وأنت قاصده
قال في البحر : والظاهر ما ذكروه أن أن أخالفكم في موضع المفعول به لأريد أي وما أريد مخالفتكم ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفا منكم و إلى متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه وقيل : في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى إلخ ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من المخالفة ويكون أن وما بعدها في موضع المفعول به لأريد ويقدر مائلا إلى كما تقدم أو يكون أن وما بعدها في موضع المفعول له و إلى ما متعلقا بأريد أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه وقال الزجاج في معنى ذلك : أي ما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه إن أريد أي ما أريد بما أقول لكم إلا الإصلاح أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة ما استطعت أي مدة إستطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدا فما مصدرية ظرفية
وجوز فيها أن تكون موصولة بدلا من الإصلاح أي المقدار الذي إستطعته أو إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه وقيل : بدل إشتمال وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لا بد منه وجوز أيضا أن تكون مفعولا به للمصدر المذكور كقوله : ضعيف النكاية أعداءه يخال الفرار يراخي الأجل أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم الأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في إحتمال البدلية إضمار وفوات المبالغة وفي الإحتمال الأخير إعمال المصدر المعرف في المفعول به وفيه مع أنه لا يجوز عند الكوفيين ويقل عند البصريين فواتها وزيادة إضمار مفعول استطعت وما توفيقي أي ما كوني موفقا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم إلا بالله أي بتأييده سبحانه ومعونته
واختار بعضهم أن يكون المراد وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى ومعونته والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم ويؤول إلى هذا ما قيل : إن المعنى ما جنس توفيقي لأن إنحصار الجنس يقتضي إنحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم وعلى الثاني بطريق المنطوق وتقدير المضاف بعد الباء مما إلتزمه كثير وفيه على ما قيل : دفع الإستشكال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد وإنما يقال : من زيد فالإستعمال الفصيح بناءا على هذا وما توفيقي إلا من عند الله
(12/120)

ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ
وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقا لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه عليه توكلت في ذلك أو في جميع أموري لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الإعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب وإليه المصير
88
- أي أرجع فيما أنا بصدده أو أقبل بشراشري في مجامع أموري لا إلى غيره والجملة معطوفة على ما قبلها وكأن إيثار صيغة الإستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لإستحضار الصورة والدلالة على الإستمرار ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيا
وفي أنوار التنزيل لأجوبته عليه السلام الثلاثة يعني يا قوم أرأيتم إلخ وما أريد أن أخالفكم إلخ و إن أريد إلخ على هذا النسق شأنا وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى فإن الجواب الأول متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والإجتهاد في خدمته وثانيها حق النفس فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره وثالثها حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير إصلاحه وإرشاده وإنما لم يعطف قوله : إن أريد إلخ ما قبله لكونه مؤكدا ومقررا له لأنه لو أراد الإستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدا للإصلاح ولا ينافي هذا كونه متضمنا لجواب آخر وكأن قوله : وما توفيقي إلخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الإستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك ونظير ذلك إياك نعبد وإياك نستعين وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد وقال غير واحد : إنه قد اشتمل كلامه عليه السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الإستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والإستعانة به عز شأنه في أمورهم وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم قيل : وفيه أيضا تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء وذلك من قوله : وإليه أنيب لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الإختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الإضطراري للجزاء وما يعمه وقد يقال : إن في قوله : عليه توكلت إشارة أيضا إلى تهديدهم لأنه عز و جل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدا بالجزاء يوم القيامة ويقوم لا يجرمنكم أي لا يكسبنكم شقاقي أي معاداتي وأصلها أن أحد المتعاديين يكون في عدوة وشق والآخر في آخر وروي هذا عن السدي وعن الحسن ضراري وعن بعض فراقي والكل متقارب وهو فاعل يجرمنكم والكاف مفعوله الأول وقوله سبحانه : أن يصيبكم مفعوله الثاني وقد جاء تعدي جرم إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك ومن الأول قوله : ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا وإضافة شقاق إلى ياء المتكلم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لا يكسبنكم شقاقكم إياي أن يصيبكم
(12/121)

مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق أو قوم هود من الريح أو قوم صالح من الرجفة والصيحة ونهى الشقاق مجاز أو كناية عن نهيهم وهو أبلغ من توجيه النهي إليهم لأنه إذا نهى وهو لا يعقل علم نهي المشاقين بالطريق الأولى وقرأ ابن وثاب والأعمش يجرمنكم بضم الياء وحكى أيضا عن ابن كثير وهو حينئذ من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا والهمزة للنقل من جرم المتعدي إلى مفعول واحد ونظيره في النقل كذلك كسب المال فإنه يقال فيه أكسبه المال والقراءتان سواء في المعنى إلا أن المشهورة جارية على ما هو الأكثر استعمالا في كلام الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم وقرأ مجاهد والجحدري وابن أبي إسحاق مثل بالفتح وروي ذلك عن نافع وخرجه جمع على أن مثل فاعل أيضا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وقد جوز فيه وكذا في غير مع ما وأن المخففة والمشددة ذلك كالظروف المضافة للمبني وعلى هذا جاء قوله : ولم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال وبعض على أنه نعت لمصدر محذوف والفتحة إعراب أي إصابة مثل إصابة قوم نوح وفاعل يصيبكم ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق وفيه تكلف وما قوم لوط منكم ببعيد
89
- زمانا كما روي عن قتادة أو مكانا كما روي عن غيره ومراده عليه السلام أنكم إن لم تعتبروا بمن قبل لقدم عهدا أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأى ومسمع منكم وكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم واكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكر ما أصابهم لشهرة كونه منظوما في سمط ما ذكر من دواعي الأمم المرقومة وجوز أن يراد بالبعد البعد المعنوي أي ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فاحذروا أن يحل بكم ما أحل بهم من العذاب وقد أخذ هذا المعنى بعض المتأخرين فقال : فإن تكونوا قوم لوط بعينهم فما قوم لوط منكم ببعيد وإفرد بعيد وتذكيره مع كون المخبر عنه وهو قوم إسم جمع ومؤنثا لفظا على ما نص عليه الزمخشري واستدل له بتصغيره على قويمة وذلك يقتضي أن يقال : ببعيدة موافقة للفظ وببعداء موافقة للمعنى لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد أو وما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد وجوز أن يكون ذلك لأنه يستوي في بعيد المذكر والمؤنث لكونه على زنة المصادر كالنهيق والصهيل
وفي الكشف عن الجوهري أن القوم يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط ونفر وقوم وإذا صغرت لم تدخل فيه الهاء وقلت : قويم ورهيط ونفير ويدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل والغنم لأن التأنيث لازم وبينه وبين ما نقل عن الزمخشري بون بعيد وعليه فلا حاجة إلى التأويل هذا ثم إنه عليه السلام لما أنذرهم سوء عاقبة صنيعهم عقبه طمعا في أروعائهم عما هم فيه من الضلال بالحمل على الإستغفار والتوبة فقال : واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه مر تفسير مثله إن ربي رحيم عظيم الرحمة فيرحم من يطلب منه المغفرة ودود
90
- أي كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه والمشهور جعل الودود مجازا بإعتبار الغاية أي مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان
(12/122)

وجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي والداعي لإرتكاب المجاز أو الكناية على ما قيل : إن المودة بمعنى الميل القلبي وهو مما لا يصح وصفه تعالى به والسلفي يقول : المودة فينا الميل المذكور وفيه سبحانه وراء ذلك مما يليق بجلال ذاته جل جلاله وقيل : معنى ودود متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم وقيل : محبوب المؤمنين وتفسيره هنا بما تقدم أولى والجملة في موضع التعليل للأمر السابق ولم يعتبر الأكثر ما أشرنا إليه من نحو التوزيع فقال : عظيم الرحمة للتائبين مبالغ في اللطف والإحسان بهم وهو مما لا بأس به قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه السلام سبيلا من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه وقيل : قالوا ذلك إستهانة به عليه السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به : لا أدري ما تقول وليس فيه كثير مغايرة للأول ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم قيل : وقولهم كثيرا للفرار على المكابرة ولا يصح أن يراد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك كما أن كثيرا نفسه يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيرا مما يقول لأنه عليه السلام كان ألثغ وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك ولعل صيغة المضارع للإيذان بالإستمرار وإنا لنراك فينا أي فيما بيننا ضعيفا لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع
وروي عن ابن عباس وابن جبير وسفيان الثوري وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن وذلك كما يطلقون عليه ضريرا وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الإستعارة تلميحا وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم : فينا بصير لغوا لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمه وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه ولا يخفى تكلفه ومن هنا قال الإمام : جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام ليس فيهم أعمى وما حكاه الله تعالى عن يعقوب عليه السلام كان أمرا عارضا وذهب
والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه وربما يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه السلام فقد أخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بكى شعيب عليه السلام من حيب الله تعالى حتى عمي فرد الله تعالى عليه بصره وأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار فقال : لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي فأوحى الله تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي ياشعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز إستنباء الأعمى لكونه صفة منفردة لعدم الإحتراز معه عن النجاسات ولأنه يخل بالقضاء والشهادة فإخلاله بمقام النبوة أولى
(12/123)

وأجيب بأنا لا نسلم عدم الإحتراز معه عن النجاسات فإن كثيرا ممن نشاهده من العميان أكثر إحترازا عنها من غيره وبأن القاضي والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطيء كغيره كذا قيل فلينظر ولولا رهطك أي جماعتك قال الراغب : هم مادون العشرة
وقال الزمخشري : من الثلاثة إلى العشرة وقيل : إلى السبعة وقيل : بل يقال : إلى الأربعين ولا يقع فيما قيل كالعصبة والنفر إلا على الرجال ومثله الراهط وجمعه أرهط وجمع الجمع أراهط وأصله على ما نقل عن الرماني الشد ومنه الرهيط لشدة الأكل والراهطاء لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده والظاهر أن مرادهم لولا مراعاة جانب رهطك لرجمناك أي لقتلناك برمي الأحجار وهو المروي عن ابن زيد وقيل : ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا : لقتلناك بأصعب وجه وقال الطبري : أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى : لأرجمنك واهجرني مليا وقيل : لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا ولم يجوزوا أن يكون المراد لولا ممانعة رهطك ومدافعتهم لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم ومعنى وما أنت علينا بعزيز
91
- ما أنت بمكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا والجار الأول متعلق بعزيز وجاز لكون المعمول ظرفا والباء مزيدة ولك أن تجعله متعلقا بمحذوف يفسره الظاهر وهو خبر أنت وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقديم هذا الضمير الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلا بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والإختصاص أي إختصاص النفي بمعنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا بمعنى نفي الإختصاص بمعنى لست منفردا بالعزة وهو ظاهر قاله العلامة الثاني قال السيد السند : إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه السلام وإثباتها لرهطه فيكون تخصيصا للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول واستدل السكاكي على كون ذلك للإختصاص بقوله عليه السلام في جواب هذا الكلام ما حكى بقوله عز شأنه : قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله أي من نبي الله على ما قال عليه الرحمة ووجه الإستدلال كما قال العلامة وغيره : إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقا لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير وإنما يدل على ذلك إختصاصه بنفي العزة
واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الإختصاص وفاقا وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الإختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جوابا لقولهم : لو لا رهطك لرجمناك فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الإمتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص في قوله تعالى : كلا إنها كلمة هو قائلها فكيف يقال : باب أنا عارف لا يفيد الإختصاص إتفاقا وإن جعله جوابا لما أنت عليه بعزيز هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ودلالة لقولهم : ولولا رهطك لرجمناك على إشتراك العزة فلا يلائمه أرهطي أعز عليكم ثم قال : فإن قيل : شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم
(12/124)

بحيث إذا أخر كان فاعلا معنويا ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا : إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلاما فجاز أن يقال : ما عزيز أنت على أن يكون أنت تأكيدا للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على عزيز بعد تقديم أنت وجعله مبتدأ وكذلك قوله سبحانه : وما أنا بطارد الذين آمنوا وما أنت عليهم بوكيل مما يلي حرف النفي وكان الخبر صفة وقد صرح صاحب الكشاف وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصا وإن كان مفيدا إياه عند من لا يشترط ذلك
وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته : بأن ما فيه الخبر وصفا كما يقارب ما فيه الخبر فعلا في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه وأن قولهم : ولو لا رهطك لرجمناك كفى به دليلا أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جوابا لهذا الكلام بل يؤكده وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الإحتمالين في أنها كلمة هو قائلها وقال العلامة الطيبي : إن قوله تعالى : لو لا رهطك لرجمناك وقوله سبحانه : وما أنت علينا بعزيز من باب الطرد والعكس عنادا منهم فلا بد من دلالتي المنطوق والمفهوم في كل من اللفظين إنتهى
ويعلم من جميع ما ذكر ضعف إعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال : إنه إعتراض قوي وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى
وأجيب أيضا بأن تهاونهم بنبي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطي أعز عليكم من الله تعالى حتى كان إمتناعكم عن رجمي بسبب إنتسابي إليهم وأنهم رهطي لا بسبب إتسابي إلى الله تعالى وأني رسوله ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في عزيز للتعظيم وحينئذ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطي أعز إلخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيدا جدا من حال القوم فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقا وإثباتا لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على إشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة فقال : وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز و جل مع الإشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى وثانيا نفي العزة بالمرة والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا واتخذتموه بسبب عدم إعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره وراءكم ظهريا شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا إنتهى
وأنا أقول : قد ذكر الرضي أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من المشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقا كما في زيد أحسن من عمرو أو تقديرا كقول علي كرم الله تعالى وجهه : لأن أصوم يوم من شعبان أحب إلي
(12/125)

من أن أفطر يوما من رمضان وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوبا إلى نفسه أيضا ثم فصل يوم شعبان عليه فكأنه قال : هب أنه محبوب عندي أيضا ليس صوم يوم من شعبان أحب منه إنتهى وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز و جل عزيزا عندهم أيضا ويعلم من ذلك إنكاره ما هم عليه بطريق الأولى وكأن هذا هو الداعي لإختيار هذا الأسلوب من الإنكار ووقوعه في الجواب لا يأتي ذلك وإن قيل بجواز خلو المجرور بمن من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناءا على مجيء ذلك بقلة كما قال الجلال السيوطي في همع الهوامع نحو العسل أحلى من الخل والصيف أحر من الشتاء واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح واستحسن كون قوله تعالى : واتخذتموه إلخ إعتراضا وفائدته تأكيد تهاونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبأوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ وجوز بعض كونه عطفا على ما قبله على معنى أفضلتم رهطي على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز و جل وقال غير واحد : إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام أرهطي إلخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه رد عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطي الأذلة وأيا ما كان فضمير اتخذتموه عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما و الظهري منسوب إلى الظهر وأصله المرمي وراء الظهر والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس : أمس بالكسر وإلى الدهر دهري بالضم ثم توسعوا فيه فاستعلموه للمنسي المتروك وذكروا أنه يحتمل أن يكون في الكلام إاتعارة تصريحة وأن يكون إستعارة تمثيلية
وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى و الظهري العون وما يتقوى به والجملة في موضع الحال والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم
ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة وقيل : الظهري المنسي والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحا وروي عن مجاهد أو على أمر الله ونقل عن الزجاج وقيل : الظهري بمعنى المعين والضمير لله تعالى وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عونا وعدة لدفعي وقيل : لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعما أنهم كانوا يسمون الملك عزيزا على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن ونصب ظهريا على أنه مفعول ثان لاتخذتموه والهاء مفعوله الأول و ورائكم ظرف له أو حال من ظهريا
إن ربي بما تعملون محيط
92
- تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علما بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك وكذا قوله : ويا قوم اعملوا على مكانتكم أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى إستطاعتكم وإمكانكم وهو مصدر مكن يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ والميم على هذا أصلية وفي البحر يقال : المكان والمكانة مفعل ومفعلة
(12/126)

من الكون والميم حينئذ زائدة وفسر ابن زيد المكانة بالحال يقال : على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت : إثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف وهو من إستعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد وحاصل المعنى ههنا إثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه
وقرأ أبو بكر مكاناتكم على الجمع وهو بإعتبار جمع المخاطبين كما أن الإفراد بإعتبار الجنس والجار والمجرور كما قال بعضهم : يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول : عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم
إني عامل على مكانتي حسبما يؤيدني الله تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق وكأنه حذف على مكانتي للإختصار ولما فيه من زيادة الوعيد وقوله سبحانه : سوف تعلمون إستئناف وقع جواب سؤال مقدر ناشيء من تهديده عليه السلام وإياهم بقوله إعملوا إلخ كأن سائلا منهم سأل فماذا يكون بعد ذلك فقيل : سوف تعلمون ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشيء ومتفرع عن إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسئل عنه ويعتني به والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم الله تعالى بالغوا في الإستهانة به عليه السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الإنتفاع كالأنعام وما فيها نحو ذلك
وقال بعض أجلة الفضلاء : إن إختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسئل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه إنتهى وهو دون ما قلناه و من في قوله سبحانه : من يأتيه عذاب يخزيه قيل : موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان وجملة يأتيه العذاب صلة الموصول وجملة يخزيه صفة عذاب ووصفه بالإخزاء تعريضا بما أوعدوه عليه السلام من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر وقوله تعالى : ومن هو كاذب عطف على من يأتيه و من أيضا موصولة وجوز أن تكون من في الموضعين إستفهامية والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل
واستظهر أبو حيان الموصولية وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في سيعلم الصادق والكاذب إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم : لرجمناك والتصميم على تكذيبه بقولهم : أصلاتك تأمرك إلخ فكأنه قيل : سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم وفيه إدراج حال الفريقين أيضا
وفي الإرشاد أن فيه تعريضا بكذبهم في إدعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي إدعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط وقال الزمخشري : إنه كان القياس ومن هو صادق بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذ ينصرف من يأتيه إلخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه السلام كاذبا قال : ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم يعني أنه عليه السلام جرى في الذكر
(12/127)

على ما اعتادوه في تسميته كاذبا تجهيلا لهم والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبا لجهلكم وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل وقال ابن المنير : الظاهر أن الكلامين جميعا لهم فمن يأتيه إلخ متضمن ذكر جزائهم ومن هو كاذب متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده : ستعلم من يهان ومن يعاقب وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه السلام إستغناءا بذكر عاقبتهم وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه : فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حيث إكتفى بذلك عن أن يقول : ومن هو على خلاف ذلك ونظيره فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخبر لأنها متى أطلقت لا يعني إلا ذلك نحو والعاقبة للمتقين ولأن اللام في له يدل على أنها ليست عليه واستغنى عن ذكر مقابلها إنتهى وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي وارتقبوا أي إنتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه إني معكم رقيب
93
- أي منتظر ذلك وقيل : المعنى إنتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة وروي ذلك عن ابن عباس و رقيب إما بمعنى مرتقب كالرفيع المرتفع أو راقب كالصريم بمعنى الصارم أو مراقب كعشير بمعنى معاشر والأنسب على ما قيل بقوله ارتقبوا : الأول وإن كان مجيء فعيل بمعنى إسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة معكم إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره ولما جاء أمرنا أي عذابنا كما ينبيء قوله سبحانه : سوف تعلمون إلخ أو وقته فإن الإرتقاب يؤذن بذلك نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وهو الإيمان الذي وفقناهم له أو برحمة كائنة لهم وإنما جيء بالفاء في قصتي ثمود ولوط حيث قيل : فلما جاء أمرنا وبالواو ههنا وفي قصة عاد حيث قيل : ولما جاء إلخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه : ذلك وعد غير مكذوب وقوله تعالى : إن موعدهم الصبح وهو يجري مجرى السبب المقتضي لدخول الفاء في معلوله وأما ههنا وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجيء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر وذلك مقام الواو كذا قيل
وتعقب في الكلام ههنا ذكر الوعد أيضا وهو قوله سبحانه : يا قوم اعملوا على مكانتكم إلى قوله عز و جل : رقيب غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي في الفرق وقيل : إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة : إن موعدهم الصبح والصبح : وهي سويعات يسيرة ولا كذلك عذاب قومي شعيب وهود عليهما السلام بل في قصة شعيب عليه السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجيء العذاب بناءا على الشائع في إستعمال سوف على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح ولوط عليهما السلام والوعد في غيرهما فإن الإشعار بالمجيء فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل وفيه ما لا يخفى ولعل الإقتصار على التفرقة بالقرب
(12/128)

وعدمه أقل غائلة مما قيل وكذا مما يقال : من أن الإتيان بالفاء لقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه إعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط وصالح عليهما السلام أنهم إمتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر وأخذت الذين ظلموا عدل عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل الصيحة قيل : صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعا من العذاب والعرب تقول : صاح بهم الزمان إذا هلكوا وقال امرؤ القيس : فدع عنك نهبا صيح في حجراته ولكن حديث ما حديث الرواحل والمعول عليه الأول وقد سبق في الأعراف الرجفة أي الزلزلة بدلها ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة وقيل : غير ذلك فتذكر فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي ميتين من جثم الطائر إذا لصق بطنه بالأرض ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدا ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم بمعنى الإقامة ثم أستعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه : سوف تعلمون من يأتيه عذاب غلخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطا وجعل تنجية شعيب عليه السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جوابا له ومقصود الإفادة وإنما قدم التنجية إهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام و أصبح إما ناقصة أو تامة أي صاروا جاثمين أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين كأن لم يغنوا أي لم يقيموا فيها متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها والجملة إما خبر بعد خبر أو حال بعد حال
ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود العدول عن الإضمار إلى الإضهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم
وقرأ السلمي وأبو حيوة بعدت بضم العين والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضصارع بمعنى هلك ومنه قوله : يقولون : لا تبعد وهم يدفونني وأين مكان البعد إلا مكانيا وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة قيل : أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين وقال ابن الأنباري : من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب وفي القاموس البعد المعروف والموت وفعلهما ككرم وفرح بعدا وبعدا بفتحتين وقال المهدوي : إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر وبعد بالكسر في الشر خاصة وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضا هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إما حقيقة أو مجاز ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر : ومن كان بينك في التراب وبينه شهران فهو في غاية البعد
(12/129)

وفي الآية ما يسمى الإستطراد قيل : ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد إستعملته العرب في أشعارها ومن ذلك قول حسان رضي الله تعالى عنه : إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحرث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام هذا ومن باب الإشارة في الآيات قوله سبحانه في قصة هود عليه السلام : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عز و جل لا يسلط أحدا على أحد إلا عن إستحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا إعوجاج فيه وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه : إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه نعم إن الناس على قسمين : أهل الكشف وأهل الحجاب فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك والآخرون يمشون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطا مستقيما وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطا مستقيما واستنبط قدس سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء وهي الرحمة السابقة على الغضب وادعى أن فيها بشارة للخلق أي بشارة
وقال القيصري في تفسيرها : أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابته لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي فالمعنى ما من حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم وأشار بقوله سبحانه : آخذ إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها وإنما قال : إن ربي على صراط مستقيم بإضافة الرب إلى نفسه وتنكير الصراط تنبيها على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الآلهية والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالإسم الآلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم : إهدنا الصراط المستقيم بلام العهد أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها فلا يقال : إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما فائدة الدعوة لأنا نقول : الدعوة إلى الهادي من المضل وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا إنتهى بحروفه وأعظم من هذا إشكالا التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقدير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة إقتضتها الإستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم
وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجود خاص مقيد بخصوصية ما
(12/130)

إقتضاها إستعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلا لتمايزهما ذهنا ولا ينافي ذلك قول الأشعري : وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته والمكلف سبحانه هو الحق عز و جل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية وبعبارة أخرى : إن حقيقة الممكن أمر معدوم وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلي الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التكليف بمقتضى الحكمة ومحقق المغايرة
وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلفية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه وكون الحق سبحانه قيوما للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص ما شاء الله لا قوة إلا بالله وما هو بالله فهو لله تعالى والبحث في ذلك طويل وبعض كلماتهم يتراءى منها عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل : لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطا إخالك أني ذاكر لك شاكر فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا بأنك مذكور وذكر وذاكر لكن بنبغي أن لا يبادر سامعها بالإنكار ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام وفيما قص الله تعالى ههنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة فقد قالوا : إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال ثم يثني بالكرامة بالطعام وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه ولله در من قال : لعلك غضبان ولست بعالم سلام على الدارين إن كنت راضيا وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الأدلال على ما قيل وقوله تعالى عن لوط عليه السلام : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قيل : يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية ومنها روحانية وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيرا لأنها قد تؤثر في أكثر العالم أو كله بخلاف الجسمانية وقصد عليه السلام بالركن الشديد القبيلة لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا تظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر فتوجه إلى الله سبحانه وطلب منه أن يجعل له أنصارا ينصرونه على أعداء الله تعالى وردد الأمر بين ذلك وأن يجعل له همة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء وقد علمت ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من قوله : يرحم الله تعالى أخي لوط الخبر
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أنه عليه الصلاة و السلام نبه بذلك الخبر أن لوطا كان مع الله تعالى من أنه سبحانه
(12/131)

ركن شديد والإشارة في قصة شعيب عليه السلام إلى أنه ينبغي لمن كان في حيز أن لا يعصي الله تعالى وللواعظ أن لا يخالف فعله قوله : لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم وأنه لا ينبغي أن يكون شيء عند العبد أعز عليه من الله تعالى إلى غير ذلك والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد ولقد أرسلنا موسى بأياتنا وهي الآيات التسع العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والنقص من الثمرات والأنفس والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول أرسلنا أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها
وسلطان مبين
96
- هو المعجزات الباهرة منها وهو العصا والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها والمراد بالآيات ما عداها ويجوز أن يراد بهما واحد والعطف بإعتبار التغاير الوصفي أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وكونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما بمعنى تبين ومتعديا بمعنى بين وجعل بعضهم الآيات والسلطان شيئا واحدا في نفس الأمر إلا أن في ذلك تجريدا نحو مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة وجعلها غيرها وعطفت عليها لذلك وجوز أن يكون المراد بالآيات ما سمعت بالسلطان ما بينه عليه السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون : من ربكما فما بال القرون الأولى من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة أو هو الغلبة والإستيلاء كما في قوله سبحانه : ونجعل لكما سلطانا وجعله عبارة عن التوراة أو إدراجها في جملة الآيات يرده كما قال أبو حيان قوله عز و جل : إلى فرعون وملاءيه فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنوا إسرائيل فيما يأتون ويذرون وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية وتقبلها منه فئة الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر ومن هذا يعلم ما في عد النقص من الثمرات والنقص من الأنفس آية واحدة من الآيات التسع وعد إظلال الجبل منها لأن ذلك إنما كان لقبول التوراة حين أباه بنو إسرائيل فهو متأخر أيضا ضرورة ومثل ذلك عد فلق البحر وإظلال الغمام بدلهما لأن هذا الإظلال أيضا متأخر عن مهلك فرعون وقومه
وأجاب بعض الأفاضل عن الإعتراض على جعل التوراة من الآيات بأن التصحيح ممكن أما أولا فبما صرحوا به من جواز إرجاع الضمير وتعلق الجار ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله سبحانه : إلى فرعون يجوز أن يتعلق بالإرسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة وأما ثانيا فبأن يقال : إن موسى عليه السلام كما أرسل إلى الفراعنة أرسل إلى بني إسرائيل أيضا فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين وإلى ملائه بالتوراة فيكون لفا ونشرا غير مرتب ويقال نحو هذا تقدير يرعد إظلال الجبل أو الغمام من الآيات وفي مجموعة سري الدين المصري أن هذا السؤال مما أورد الحافظ الطاشكندي على مخدوم الملك فأجاب بأن قوله سبحانه : بآياتنا حال مقدرة أي مقدرين تلبسه أو نصرته بالآيات والسلطان إلى فرعون وملائه فلا يقدح فيه ظهور بعضها بعد هلاك فرعون كالتوراة وانفجار الماء وغير ذلك وبأنه قيل : إن إعطاءه التوراة مجموعا مرتبا مكتوبا في الألواح بعد غرق فرعون
(12/132)

وأوحى بها إلى موسى عليه السلام في حياة فرعون وكان يأمر بها قومه ويبلغها إلى فرعون وملائه ويؤيده ما قيل : إن بعض الألواح كان منزلا قبل نزول التوراة بتمامها وكانت تلك الألواح من خشب والألواح التي كانت فيها التوراة بتمامها كانت من زمرد أو من ياقوت أحمر أو من صخرة صماء انتهى ولا يخفى أن الذهاب إلى كون الحال مقدرة مما لا يكاد يقبله الذوق السليم وما حكى من إعطاء التوراة مجموعا كان بعد والإيحاء بها كان قبل الخ مما لا مستند له من الأخبار الصحيحة وما ذكر أولا من حديث التعلق بالمطلق وثانيا من حمل الملأ على ما يشمل بني إسرائيل الخ مما ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه وكيف يحمل الملأ على ما يشمل بني إسرائيل مع الإضافة إليه وجعلهم من أهل النار ولا أظنك في مرية من القول بعدم صحة ذلك وقيل : لو جعل إلى فرعون متعلقا بسلطان مبين لفظا أو معنى على تقدير وسلطان مرسل به إلى فرعون لم يبعد مع المناسبة بينه وبين السلطان وفيه ما لا يخفى فتأمل
وتخصيص الملأ مع عموم رسالة موسى عليه السلام للقوم كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع الغير لهم في الورود الصدور ولم يصرح بكفر فرعون بالآيات وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملائه فقيل : فاتبعوا أمر فرعون أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملائه بذلك متحقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا وإنما المحتاج إلى ذلك شأن مائه المترددين بين هاد إلى الحق وهو موسى عليه السلام وداع إلى الضلال وهو فرعون فنعى عليهم سواء اختيارهم وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الإتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر والأمر به فكأن ذلك لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ
وجوز أن يراد من الأمر الطريقة والشأن قيل : ومعنى فاتبعوا فاستمروا على الإتباع والفاء مثل ما في قولك : وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث ويجوز أن يكون المراد فاتصفوا بما أتصف به فرعون من الكفر بما جاء به موسى عليه السلام والتكذيب له ووافقوه في ذلك وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الموافقة لفرعون في الكفر ومسارعته إليه فكأنه حين حصل الإرسال والتبليغ حصل كفر فرعون بما جاء به موسى عليه السلام ووقع على أثره الموافقة منهم ولا تتوهمن أن هذه الموافقة كانت حاصلة لهم قبل لأنها تتوقف على اتصاف فرعون بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام وذلك إنما تجدد له بعد الإرسال والتبليغ فلا ضرورة إلى الحمل على الإستمرار وجعل الفاء كما في قولك : زجرته فأنزجر فتأمل
وعدل عن أمره إلى أمر فرعون لدفع توهم رجوع الضمير إلى موسى عليه السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد والإفساد والضلال والإضلال فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الاستبصار وكذا الحال في قوله تعالى : وما أمر فرعون برشيد
97
- أي براشد أو بذي رشد والرشد ضد الغي وإسناده إلى الأمر مجازي وكأن في العدول عن وأمر فرعون غي وضلال إلى ما في النظم الكريم زيادة في تقبيح فعلهم وتحسيرا لهم على فوات ما فيه صلاح الدارين أعني الرشد
ويجوز أن يجعل الرشد كناية عن المحودية والإسناد حقيقي أي وما أمر فرعون بصالح حميد العاقبة
(12/133)

وقوله سبحانه : يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار على الأول استئناف وقع جوابا لمن سألأ عن حال المتبوع والتابع مآ لا وعلى الثاني تفسير وإيضاح لعدم صلاح عاقبته أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته وجملة وما أمر الخ جواز أن تكون حالا من فاعل اتبعوا وأن تكون حالا من مفعوله قيل : وهو مختار الزمخشري والمراد بالقوم ما يشمل الملأ وغيرهم و يقدم كينصر من قدم كنصر بمعنى تقدم ومنه قادمة الرحل وهذا كما يقال : قدمه بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش وأقدم بمعنى تقدم ومنه مقدم العين فإنه بالكسر لا غير كما قاله المرزوقي ومثله مؤخر العين كما في المزهر والمراد من أوردهم يوردهم والتعبير به دونه للإيذان بتحقق وقوعه لا محالة والقول : بأنه باق على حقيقته والمراد فأوردهم في الدنيا النار أي موجبها وهو الكفر ليس بشيء ونصب النار على أنه مفعول ثان لأوردهم وهي استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء وفي قرينتها احتمالات كما شاع في ينقضون عهد الله وعلى احتمال المجاز يكون الإيراد مستعارا استعارة تبعية لسوقهم إلى النار
وجوز أن يقال : إنه شبه فرعون بالفارط وهو الذي يتقدم القوم للماء ففيه استعارة مكنية وجعل اتباعه واردة وإثبات الورود لهم تخييل وجوز أيضا جعل المجموع تمثيلا
وجوز بعضهم كون يقدم وأورد متنازعين في النار إلا أنه أعمل الثاني وحذف مفعول الأول وليس بذلك
وبئس الورد المورود
98
- أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار تقطع الأكباد واشتعالها كذا قيل فالورد على هذا بمعنى النصيب من الماء والمورود صفته والمخصوص بالذم محذوف وهو النار وتعقب بأنه لا بد من تصادق فاعل بئي ومخصوصها ولا تصادق على هذا وأيضا في جواز وصف فاعل نعم وبئس خلاف وابن السراج والفارسي على عدم الجواز
وجوز ابن عطية كون المورود صفة والمخصوص النار إلا أنه جعل الكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فالتصادق حاصل في الحقيقة أي بئس مكان الورود والمورود النار ومنهم من يجعل المورود هو المخصوص بالذم والمراد به النار ويقدر المضاف ليحصل التصادق أيضا أي بئس مكان الورد النار ومن يجعل الورد فاعل بئس ويفسره بالجمع الوارد و المورود صفة لهم والمخصوص بالذم ضميرهم المحذوف أي بئس القوم المورود بهم هم فيكون ذما للواردين لا لموضع الورود واتبعوا أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون وقيل : القوم مطلقا في هذه أي في الدنيا لعنة عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم ويوم القيامة أيضا يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حيثما ساروا ودائرة أينما داروا فكما اتبعوا أمر فرعون إتبعتهم اللعنة في الدارين جزاءا وفاقا
وقال الكلبي : اللعنة في الدنيا من المؤمنين أو بالغرق ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار
بئس الرفد المرفود
99
- أي بئس العون المعان كما نقل عن أبي عبيدة والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم ويكون الرفد بمعنى العطية كما يكون المعنى العون
قال أبو حيان : يقال : رفد الرجل يرفده رفدا ورفدا إذا أعطاه وأعانه من رفد الحائط دعمه وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح والرفد بالكسر ما فيه من الشراب وقال الليث : أصل الرفد العطاء والمعونة ومنه
(12/134)

رفادة قريش وهي معاونتهم للحاج بشيء يخرجونه للفقراء ويقال رفده رفدا ورفدا بكسر الراء وفتحها ويقال بالكسر الاسم وبالفتح المصدر وفسره هنا بالعطاء غير واحد
وزعم أن المقام لا يلائمه ليس بشيء نعم تفسيره بالعون جاء في صحيح البخاري والمراد به على التفسيرين اللعنة وتسميتها عونا على التفسير الأول من باب الإستعارة التهكمية وأما كونها معانا فلأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى صراط الجحيم وكان القياس أن يسند المرفود إليهم لأن اللعنة في الدنيا تتبعهم وكذا في الآخرة لقوله سبحانه : واتبعوا إلخ ولكن أسند إلى الرفد الذي هو اللعنة على الإسناد المجازي نحو جد جده وجنونك مجنون وكذا يعتبر الإستعارة والمجاز المذكوران على التفسير الثاني كذا قيل
وقال بعض المدققين : إن في قول الزمخشري في بيان الآية على المعنى الأول المنقول عن أبي عبيدة وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له وقد رفدت باللعنة في الآخرة ما يشعر بأنه ليس من الإستعارة التهكمية في شيء إذ لو كان رفدا للمعذبين لكان من ذلك القبيل ثم قال : وجعله من باب جديده أبعد وأبعد لأنه ذكر أنه رفد أعين برفد أما لو فسر بالتفسير الثاني ففيه الأول لا الثاني لأنه ليس مصدرا وإنما العطاء بمعنى ما يعطي فكثيرا ما يطلق عليه إنتهى وفيه نظر لا يخفى ثم إن القول بأن هناك لعنتين رفدت إحدهما بالأخرى هو المروي عن مجاهد وغيره فيوم معطوف على محل في الدنيا
وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي واحدة أولا وقبح إرفاد آخر إنتهى وتعقبه في البحر بأن هذا لا يصح لأنه يدل على أن يوم معمول بئس وهي لا تتصرف فلا يتقدم معمولها عليها ولو كان يوم متأخرا صح ذلك كما قال الشاعر : ولنعم حشو الدرع أنت إذا دعيت نزال ولج في الذعر وهو كلام وجيه والآية ظاهرة في سوء حال فرعون يوم القيامة لأنه إذا كان حال الأتباع ما قص الله سبحانه فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد وهذا يعكر على من ذهب إلى أنه قبض طاهرا مطهرا بل قال بعضهم : إنها نص في رد ذلك لأنه تعالى سلب عنه فيها الرشاد بعد موته والمؤمن الطاهر المطهر لا يسلب عنه الرشاد بعد الموت ولعل من ذهب إلى ذلك يقول : باب التأويل واسع وباب الرحمة أوسع منه
ذلك إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم وهو مبتدأ خبره من أنبآء القرى المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديرا بذكر أربابها نقصه عليك خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعد أنباء القرى مقصوص عليك وجوز أن يكون من أنباء في موضع الحال وهذا هو الخبر وجوز أيضا عكس ذلك منها أي من تلك القرى قآئم وحصيد
100
- أي ومنها حصيد فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى وقد شبه ما بقي منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد فالمعنى منها باق ومنها عاف وهو المروي عن قتادة ونحوه ما روي عن الضحاك قائم لم يخسف وحصيد قد خسف قيل : وحصيد الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله : والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
(12/135)

وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصود كما قال الأخفش وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض وجملة منها قائم إلخ مستأنفة إستئنافا نحويا للتحريض على النظر في ذلك والإعتبار به أو بيانيا كأنه سئل لما ذكرت ما حالها فأجيب بذلك وقال أبو البقاء : هي في موضع الحال من الهاء في نقصه وجوز الطيبي كونها حالا من القرى وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالا من ضمير نقصه فاسد لفظا ومعنى ومن القرى كذلك وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير وفي الثاني مجيء الحال المضاف إليه في غير الصور المعهودة وبالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال خارجة عنها وليس بمراد ولا يسوغ جعل ما بعده إبتداء المقصوص وفيه فساد لفظي أيضا
وزعم بعض أنه أراد بالفساد الأول في الأول ما ذكر وفي الثاني وقوع الجملة الإسمية حالا بالضمير وحده وبالضمير تخصيص كونها مقصوصة بتلك الحالة فإن المقصوصية ثابتة لها وللنبأ وقت قيام بعضها أيضا وقد أصاب بعضا وأخطأ بعضا ووجه الجلبي الخلو عن الواو والضمير بأن المقصود من الضمير الربط وهو حاصل لإرتباط ذلك بمتعلق ذي الحال وهي القرى فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحالة تشاهدون فعل الله تعالى بها وتعقب بأن الإكتفاء في الربط بما ذكر مع خفائه مذهب تفرد به الأخفش ولم يذكره في الحال وإنما ذكره في خبر المبتدأ وقول أبي حيان : إن الحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين مع ما سمعت نفعا والحق أنه لا وجه لما ذكره أبو البقاء يعول عليه إلا الذهول وما ظلمناهم قيل : الضمير للقرى مرادا بها أهلها وقد أريد منها أولا حقيقتها ففي الكلام إستخدام وقيل : الضمير لأهل القرى لأن هناك مضافا مقدرا أي ذلك من أنباء أهل القرى والضمائر منها ما يعود إلى المضاف ومنها ما يعود إلى المضاف إليه ومتى وضح الأمر جاز ذلك
وقيل : القرى على ظاهرها وإسناد الأنباء إليها مجاز وضمير منها لها وضمير ظلمناهم للأهل المفهوم منها وقيل : القرى مجاز على أهلها والضميران راجعان إليها بذلك الإعتبار أو يقدر المضاف والضميران له أيضا وعلى هذا خرج ما حكى عن بعضهم من أن معنى منها قائم وحصيد منها باق نسله ومنها منقطع نسله وأيا ما كان ففي الكلام إيذان بإهلاك الأهل فيكون المعنى هنا وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم ولكن ظلموا أنفسهم حيث اقترفوا بسوء إستعدادهم ما يترتب عليه ذلك بمقتضى الحكمة فما أغنت عنهم أي ما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم آلهتهم التي يدعون أي يعبدونها من دون الله أوثر صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على إستمرار عبادتهم لها من شيء أي شيئا من الإغناء أو شيئا من الأشياء فما نافية لا إستفهامية وإن جوزه السمين وتعلق عن بما عنده لما فيه من معنى الدفع و من الأخيرة صلة ومجرورها مفعول مطلق أو مفعول به للدفع وقوله سبحانه : لما جاء أمر ربك أي حين مجيء عذابه منصوب بأغنت وهذا على ما في البحر بناءا على خلاف مذهب سيبويه لأن مذهبه أن لما حرف وجوب لوجوب
وقريء آلهتهم اللاتي و يدعون بالبناء للمفعول وهو وصف للآلهة كالتي في المشهورة وفيه مطابقة
(12/136)

للموصوف ليست في التي لكن قيل كما في جمع الجوامع للجلال السيوطي إن التي في جمع غير عالم أكثر من اللاتي نعم إن الآلهة قد عوملت في الآية معاملة العقلاء لأن عبدتها نزلوها منزلة العقلاء في إعتقادهم فيها أنها تنفع وتضر فقيل : وما زادوهم غير تتبيب
101
- ومن هنا قيل : إن اللاتي في تلك القراءة واقع موقع الألى أو الذين و التبيب على ما في البحر التخسير يقال : تب خسر وتببه خسره
وذكر الجوهري أن التب الخسران والهلاك والتتبيب الإهلاك وفي القاموس التب والتبب والتباب والتتبيب النقص والخسار
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر ومجاهد تفسير ذلك بالتخسير وكذا أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أنه إستشهد عليه بقول بشر بن أبي خازم : هم جدعوا الأنوف فأذهبوها وهم تركوا بني سعد تبابا وحينئذ فالمعنى فما زادوهم غير تخسير أو خسارة لنفوسهم حيث إستحقوا العذاب الأليم الدائم على عبادتهم لها نسأل الله تعالى العفو والعافية
وكذلك أي مثل الأخذ والإهلاك الذي مر بيانه وهو ما قال السمين : خبر مقدم وقوله سبحانه : أخذ ربك مبتدأ مؤخر وقيل : بالعكس والكاف يحتمل أن تكون إسمية وأن تكون حرفية وقد يجعل المشار إليه الأخذ المذكور بعد كما تحقق قبل وفي قراءة عبدالله كذلك بغير واو
إذا أخذ القرى أي أهلها وإنما أسند إليه للإشعار بسريان أثره وقرأ الجحدري وأبو رجاء وكذلك أخذ ربك إذا أخذ على أن أخذ ربك فعل وفاعل والظرف لما مضى وهو إخبار عما جرت به عادة الله تعالى في إهلاك من تقدم من الأمم وكذلك على هذا ساد مسد المصدر النوعي ولا مانع من تقدمه على الفعل والقرى متنازع للمصدر والفعل وقوله سبحانه : وهي ظالمة في موضع الحال من القرى ولذا أنث الضمير و ظالمة إلا أن وصف القرى بالظلم مجاز وهو في الحقيقة صفة أهلها وجعله حالا من المضاف المقدر أولا وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه تكلف وفائدة هذه الحال الإشعار بأن أخذهم بسبب ظلمهم وفي ذلك من أنذار الظالم ما لا يخفى والمراد بالظلم إما الكفر أو ما هو أعم وظاهر صنيع بعضهم أخذا من إطلاقه أنه شامل لظلم المرء نفسه وغيره إن أخذه أليم وجيع شديد
102
- لا يرجى منه الخلاص وهذا مبالغة في التهديد والتحذير أخرج الشيخان في صحيحهما والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ وكذلك أخذ ربك إلى قوله تعالى : إن أخذه أليم شديد إن في ذلك أي في أخذه سبحانه للأمم المهلكة أو فيما قص من أخبارهم لآية أي لعلامة وفسرها بعضهم بالعبرة لما أنها تلزمها وهو حسن والتنوين للتعظيم أي لعبرة عظيمة لمن خاف عذاب الآخرة فإنه إذا رأى ما وقع في الدنيا بالمجرمين من العذاب الأليم إعتبر به حال العذاب الموعود فإنه عصا من عصية وقليل من كثير وانزجر بذلك عن المعاصي التي يترتب عليها العذاب وأكب على التقوى والخشية من الله تعالى وقد أقيم من خاف إلخ مقام من صدق بذلك لما بينهما
(12/137)

من اللزوم ولأن الإعتبار إنما ينشأ من الخوف وذكر هذا القيد لأن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم أسند الحوادث إلى أسباب فلكية وأوضاع مخصوصة فلم يعتبر بذلك أصلا ولم ينزجر عن الضلالة قطعا وقال : إن ما وقع إنما وقع لهاتيك الأسباب والأوضاع لا للمعاصي التي إقترفتها الأمم المهلكة
وقيل : المراد إن فيما ذكر دليلا على عذاب المجرمين في الآخرة لأنهم إذا عذبوا في الدنيا لإجرامهم وهي دار العمل فلأن يعذبوا في الآخرة عليه وهي دار الجزاء أولى وقيل : المراد إن فيه دليلا على البعث والجزاء وذلك أن الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا باسئصال من كذبهم وأشرك بالله ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم وذلك أحد الشواهد على صدقهم فيكونون صادقين فيما يخبرون به من البعث والجزاء فلا بد أن يقع لا محالة والتقييد بما ذكر هنا كالتقييد في قوله سبحانه : هدى للمتقين وهو كما ترى ذلك إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة يوم مجموع له الناس أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء فالناس نائب فاعل مجموع
وأجاز ابن عطية أن يكون مبتدأ و مجموع خبره وفيه بعد إذا الظاهر حينئذ أن يكون مجموعا وعدل عن الفعل وكان الظاهر ليدل الكلاك على ثبوت معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع وإيضاحه أن في هذا دلالة على لزوم الوصف ولزوم الإسناد وفي ذلك على حدوث تعلق الجمع بالمخاطبين واختصاصه باليوم ولهذا إستدركه بقوله : الجمع فأضاف اليوم إليه ليدل على لزومه له وإنما الحادث جمع الأولين والآخرين دفعة وذلك أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له يوم مشهود
103
- أي مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراءا له مجرى المفعول به كما في قوله : ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن الدراك نوافله أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد وإنما لم يجعل نفس اليوم مشهودا بل جعل مشهودا فيه ولم يذكر المشهود تهويلا وتعظيما أن يجري مجرى على اللسان وذهابا إلى أن لا مجال لغلتفات الذهن إلى غيره وقد يقال : المشهود هو الذي كثر شاهدوه ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود وطعام محضور ولأم قيس الضبية : ومشهد قد كفيت الناطقين به في محفل من نواصي الناس مشهود واعتبروا كثرة شاهديه نظرا إلى أنه الذي يستحق أن يطلق إسم المشهود على الإطلاق عليه ولو جعل اليوم نفسا مشهودا من غير هذا الإعتبار لم يحصل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك لكن جاء الإمتياز من ذلك لما أضيف إليه من الكثرة المهولة المميزة وبما ذكر يعلم سقوط ما قيل : الشهود الحضور واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر وما نؤخره أي ذلك اليوم الملحوظ بعنوان الجمع والشهود ونقل الحوفي رجوع الضمير للجزاء وقرأ الأعمش ويعقوب يؤخره بالياء
إلا لأجل معدود
104
- أي لإنتهاء مدة قليلة فالعد كناية عن القلة وقد يجعل كناية عن التناهي والأجل عبارة عن جميع المدة المعينة للشيء وقد يطلق على نهايتها ومنع إرادة ذلك هنا لأنه لا يوصف بالعد
(12/138)

في كلامهم بوجه وجوز بعضهم بناءا على أن الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي وتعقب بأنه عدول عن الظاهر وتقدير المضاف أسهل منه واللام للتوقيف وفي المجمع أنها تدل على الغرض وأن الحكمة إقتضت التأخير ولذا عدل عن إلى إليها وفي الآية رد على الدهرية والفلاسفة الزاعمين أنه لا إنقضاء لمدة الدنيا وهو بحث مفروغ منه يوم يأت أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروي عن ابن جريج وقيل : الضمير للجزاء أيضا لله تعالى وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى ويعضده قراءة وما يؤخره بالياء ونسبة الإتيان ونحوه إليه سبحانه أتت في غيرها آية واعترض الأول بأن التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرض اليوم بالإتيان يأبى تعرف الإتيان به ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة ونقل العلامة الطيبي نصا على عدم جوازه كما لا تقول : جئتك يوم بسرك وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد والنيروز والساعة مثلا يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زمانا فبإعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال : يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا فاللأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني وإذا حسن مثل قوله : فسقى الغضي والساكنيه وإن هم شبوه بين جوانحي وضلوعي فهذا أحسن وقرأ النحويان ونافع يأتي بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا وهي ثابتة في مصحف أبي وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا وسقطت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل ووصلا ووقفا التخفيف كما قالوا : لا أدر ولا أبال وذكر الزمخشري أن الإجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل ومن ذلك قوله : كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما وقرأ الأعمش يوم يأتون بواو الجمع وكذا في مصحف عبدالله أي يوم يأتي الناس أو أهل الموقف لا تكلم نفس أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق
وجوز أن يكون منصوبا بالإنتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولا به لا ذكر محذوفا وهذه الجملة موضع الحال من الضمير اليوم وأجاز الحوفي وابن عطية كونها نعتا ليوم وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفا وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول : إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالإضافة إليها كالإضافة إليها إلا بإذنه أي إلا بإذن الله تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم وقوله تبارك وتعالى : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى : يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها في آخر منها وروي هذا عن الحسن
وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار الباطلة نعم قد يؤذن فيها
(12/139)

أيضا لإظهار بطلانهم كما في قول الكفرة : والله ربنا وما كنا مشركين ونظائره والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه : يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه وقوله سبحانه : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتدرون وكذا قوله جل وعلا : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون إختلافا بحسب الظاهر وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة وعلى ما ذكروه يكون معنى هذا يوم لا ينطقون هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر والجواب السديد عن ذلك أن يقال : إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقا بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة ويجري هذا المجرى قولهم : خرس فلان عن حجته وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم نره قال شيئا وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفى عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه ومثله قول الشاعر : أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر ويصم عما كان بينهما سمعي وما بي غيره وقر وعلى هذا فلا إختلاف لأن التساؤل والتلاوم مثلا لاحجة فيه وأما قوله سبحانه : ولا يؤذن لهم فيعتذرون فقد قيل فيه : إنهم غير مأمورين بالإعتذار فكيف يعتذرون ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعباد ملجأون عند مشاهدة الأهوال إلى الإعتراف والإقرار وأحسن من هذا أن يحمل يؤذن لهم أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم إنتهى
وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من إمتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضي لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفا للنقيضين فما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلاف المكان واتحاد الزمان والمكان من شروط تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد ما لا يخفى
وقال بعض الفضلاء : لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت وقال ابن عطية : لا بد من أحد أمرين : إما أن يقال : إن ما جاء في الآيات من التلاوم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة وإقامة حجة وكلا القولين كما ترى والإستثناء قيل : من أعم الأسباب أي لا تكلم نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وهو متصل وجوز أن يكون منقطعا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى ولا يخفى أن هذا إستثناء مفرغ وقد طرد سمعك ما هو الأصح فيه وقريء كما في المصاحف لابن الأنبار يوم يأتون لا تكلم دابة إلا بإذنه فمنهم أي
(12/140)

أهل المواقف المدلول عليه بقوله سبحانه : لا تكلم نفس أو الجميع الذي تضمنه نفس إذ هو إسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية أو الناس المذكور في قوله سبحانه : مجموع له الناس ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدا لتوجيه الإستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك والظاهر أن من للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم وقوله سبحانه : شقي مبتدأ وقوله تعالى : وسعيد
105
- بتقدير ومنهم سعيد وحذف منهم لدلالة الأول عليه والسعادة على ما قال الراغب : معاونة الأمور الآلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش و سوئه ثم قال : والسعادة ضدها وفي القاموس ما يقرب من ذلك فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر وفسر غير واحد الأول بمن إستحق النار بمقتضى الوعيد والثاني بمن إستحق الجنة بموجب الوعد وهذا هو المتعارف بين الشرعيين وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام الإنذار والتحذير فأما الذين شقوا أي سبقت لهم الشقاوة ففي النار أي مستقرون فيها لهم فيها زفير وشهيق
106
- قال أهل اللغة من الكوفية والبصرية : الزفير بمنزلة إبتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه قال رؤبة : حشرج في الصدر صهيلا أو شهق حتى يقال ناهق وما نهق وقال ابن فارس : الزفير إخراج النفس والشهيق رده قال الشماخ في حمار وحش : بعيد مدى التطريب أو صوته زفير ويتلوه شهيق محشرج وقال الراغب : الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه ومنه قيل : للإماء الحاملات الماء : زوافر والشهيق طول الزفير وهو رد النفس والزفير مده وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول
وعن السائب أن الزفير للحمير والشهيق للبغال وهو غريب ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من إستولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام إستعارة تمثيلية أو إستعارة مصرحة والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : يريد ندامة ونفسا عاليا وبكاءا لا ينقطع وقرأ الحسن شقوا بضم الشين فاستعمل متعديا لأنه يقال شقاه الله تعالى كما يقال أشقاه وجملة لهم فيها زفير إلخ مستأنفة كأن سائلا قال : ما شأنهم فيها فقيل لهم فيها كذا وكذا وجوز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز و جل : خالدين فيها خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة ما دامت السماوات والأرض أي مدة دوامها وهذا عبارة عن التأييد ونفي الإنقطاع على منهاج قول العرب : لا أفعل كذا ما لاح كوكب وما أضاء الفجر وما إختلف الليل والنهار وما بل بحر صوفة وما تغنت حمامة إلى غير ذلك من كلمات التأييد عندهم لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السماوات والأرض فأن النصوص القاطعة دالة على تأييد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما وروي هذا عن ابن جرير وجوز أن يحمل ذلك على التعليق والمراد بالسماوات والأرض سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة للأبد قال الزمخشري : والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله سبحانه : يوم تبدل الأرض غير
(12/141)

الأرض والسموات وقوله سبحانه : وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء إنتهى
قال القاضي : وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دواب الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه وأجاب عنه صاحب الكشف بأنه إذا أريد ما يظلهم وما يقلهم فهو ظاهر السقوط لأن هذا القدر معلوم الوجود لكل عاقل وأما الدوام فليس مستفادا من دليل دوام الثواب والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة والنار سواء عرف أنهما دار الثواب والعقاب وأن أهلهما السعداء والأشقياء من الناس أولا على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل العكس إنتهى وتعقبه الجلبي بأن قوله : لكل عاقل غير صحيح فإنه لا يعترف بذلك إلا المؤمنون بالآخرة وقوله : الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة والنار لا يدفع ما ذكره القاضي لأنه يريد أن المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرف كليهما من قبل الأنبياء عليهما السلام وليس فيه ما يوجب أعرفية دوام سموات الآخرة وأرضها وليس مراده أن دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهمه ليمنع ولا عند غير المتدين فإنه لا يعترف به ولا بها ولا يعرفه وقوله : على أنه ليس من تشبيه إلخ مبني على أنه تشبيه تلك الدار بهذه الدار وليس بذلك وإنما المراد التشبيه الضمني لدوامهم بدوامهما إنتهى وفيه بحث
والحق أن صحة إرادة ذلك مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وفي الأخبار عن ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ما يقتضيه ومن تأمل منصفا بعد تسليم أن هناك تشبيها يظهر له أن المشبه به أعرف من المشبه وأقرب إلى الذهن واتحاد طريق العلم بهما لا يضر في ذلك شيئا بداهة أن ثبوت الحيز أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طريق السمع كما لا يخفى على أن إشتراط كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني نعم المتبادر من السموات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا فالأولى أن تبقى على ظاهرها ويجعل الكلام خارجا مخرج ما اعتادته العرب في محاوراتهم عند إرادة التبعيد والتأييد وهو أكثر من أن يحصى ولعل هذا أولى أيضا مما في تفسير ابن كثير من حمل السموات والأرض على الجنس الشامل لما في الدنيا والآخرة أي المظل والمقل في كل دار وفي الدرر أنه يمكن أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدة بقاء السموات والأرض التي يعلم إنقطاعها ثم يزيدهم سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم ولعله أراد مدة بقائهما منذ خلقهما الله تعالى إلى أن يبدلهما لا مدة بقائهما بعد دخولهم النار يوم القيامة لأنهما يبدلان قبل دخولهم والآية على هذا من قبيل قوله سبحانه : لا بثين فيها أحقابا إلا ما شاء الله قيل : هو إستثناء من الضمير المستكن في خالدين وتكون ما واقعة على نوع من يعقل كما في قوله سبحانه : فانكحوا ما طاب لكم من النساء أو واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها عليه مطلقا
والمراد بمن شاء فساق الموحدين فإنهم يخرجون منها كما نطقت به الأخبار وذلك كاف في صحة الإستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالإستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم والتأبيد من مبدأ معين ينتقض بإعتبار الإبتداء كما ينتقض باعتبار الإنتهاء ألا ترى أنك إذا قلت : مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ولا يقال : فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه :
(12/142)

فمنهم شقي وسعيد تفسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منفية عن قسميه لأن ذلك الشرط حيث الإنفصال حقيقي أو مانع من الجمع وههنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وإن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمتنع إجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين إنتهى وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالإستثناء يقتضي إخراجا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول فكيف ينتقض بما سبق عليه وكيف وقد سبق قوله تعالى : في الجنة ثم قيل : فإن قلت : زمان تفرقهم عن الموقف هو الإبتداء وهو آخر يوم يأتي قلت : إن ادعى أن الإبتداء من إبتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير وأما جعل إبتداء المدة من إنتهائه فلا وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجميع مطلقا وأجيب بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار ويدل على ذلك إتحاد معيار الخلودين وهو ما دامت السموات والأرض فإنه يدل على زمان خلودهما ولا إتحاد مع الإختلاف في المبدأ والإستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة
وخلاصة المعنى على هذا أن السعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لإجتماعهما في العصاة وإن أريد مطلقا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى إنتهى
ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والإنتصار له بما ذكر لا يجديه نفعا وقيل : هو إستثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار وكذا يقال فيما بعد : إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالإتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى وإلى هذا ذهب الزمخشري سالا سيف البغي والإعتزال وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك
وقال صاحب الكشف : إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر إستعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا ألا ترى إلى قوله تعالى : نارا تلظى نارا وقودها الناس والحجارة وكم وكم وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الإستثناء كيف وقوله سبحانه : خالدين فيها لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل وكفاه بطلانا التخصيص من غير دليل واعتراض بأن لك أن تقول : هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقا
وقيل : إن الإستثناء مفرغ من أعم الأوقات و ما على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في النار والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانا شاء الله تعالى فيه عدم
(12/143)

كونهم فيها وهو زمان موقف الحساب واعترض بأن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى وليس كذلك أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار وهو خلاف مذهب أهل السنة وأيضا تأخره عن الحال ولا مدخل لها الإستثناء لا يفصح والإبهام بقوله سبحانه : إلا ما شاء ربك والتفخيم الذي يعطيه لا يبقى له رونق وأجيب بأنه قد يقال : إن القائل بذلك يخص الأشقياء بالكفار والسعداء بالأتقياء ويكون العصاة مسكوتا عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان سنيا وإن كان معتزليا فقد وافق سنن طبعه ويجاب عما بعد بالمنع وقيل : أمر الإستثناء ما علمت إلا أن المستثنى مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ ويقطع النظر عن يوم يأتي والمعنى أنهم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زمانا شاء الله تعالى لبثهم في الدنيا أو البرزخ والمراد مع زمان الموقف إذ ليسوا في زمانه أيضا في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فلا يحتاج للمعية لكن يرد أنهم معذبون في البرزخ أيضا إلا أن يقال : لا يعتد بذلك لأنه عذاب غير تام لعدم تمام حياتهم فيه وأورد عليه ما أورد على ما قبله وأجيب بأنه إنما لو كان المستثنى في الإستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الإستثناء الأول وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه ومان لبثهم في النار مع ذلك الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على تعيين زمان حتى لا يمكن الزيادة عليه وهو كما ترى
وقيل : هو استثناء من قوله سبحانه : لهم فيها زفير وشهيق ورد بأن المقابل لا يجري فيه هذا ويبقى الإشكال وأجيب بأن المراد ذكر ما تحتمله الآية والأطراد ليس بلازم وتعقب بأنه ليس المراد إلا بيان ضعف هذا الوجه وكفى بعدم الإطراد ضعفا وقيل : إلا بمعنى سوى كقولك : لك علي ألفان إلا الألف التي كانت يعني سواها ونقل ذلك عن الزجاج والفراء والسجاوندي والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض والإستثناء في ذلك منقطع ويحتمل أن يريدوا أن إلا بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مدة السموات والأرض سوى ما شاء الله تعالى مما لا يتناهى وضعف هذا القيل بأنه يلزم حمل السموات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأييد وهو فاسد وقيل : إلا بمعنى الواو أي وما شاء ربك زائدا على ذلك واستشهد على مجيئها بمعنى الواو بقوله : وكل أخر مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان وفيه أن هذا القول مردود عند النحاة وقال العلامة الطيبي : الحق الذي لا محيد عنه أن يحمل ما على من إرادة الوصفية وهي المرحومية و خالدين حال مقدرة من ضمير الإستقرار أي في النار والمعنى وأما الذين شقوا ففي النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء الله تعالى أن لا يستقر مخلدا فيفيد أن لا يستقر فيها مطلقا أو يستقر غير مخلد وأحوال العصاة على هذا النهج كما علم من النصوص وفي ذلك إيذان بأن إخراجهم بمحض رحمة الله تعالى فينطبق عليه قوله سبحانه : إن ربك فعال لما يريد
107
- وتعقب بأنه لا يجزي في المقابل إلا بتأويل الإمام وقد مر ما فيه أو بجعله من أصل الحكم ويقتضي أن لا يدخلوا أصلا وإذا أول بمقدرين فلو جعل إستثناء من مقدرين لم يتجه ومن قوله تعالى : في النار فلا يكون لهم دخولا أصلا ودلالة ما لإبهامها إما على التفخيم أو التحقير ولا يطابق المقام وقيل : وقيل والأوجه أن يقال : إن الإستثناء في الموضعين مبني على الفرض والتقدير فمعنى إلا ما شاء الله إن شاء أي لو فرض أن الله تعالى شاء إخراجهم من النار أو الجنة في زمان لكان مستثنى من مدة خلودهم لكن ذلك لا يقع لدلالة القواطع على عدم وقوعه
(12/144)

وهذا كما قال الطيبي من أسلوب حتى يلج الجمل في سم الخياط ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وذكر أنه وقف على نص من قبل الزجاج يوافق ذلك
1 - وفي المعالم عن الفراء أيضا ما يوافقه حيث نقله عنه أنه قال : هذا إستثناء إستثناه سبحانه ولا يفعله كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه وحذر القذة بالقذة ما نقله قبل عن بعضهم أن المعنى لو شاء لأخرجهم لكنه لا يشاء لأنه سبحانه حكم لهم بالخلود
وفي البحر عن ابن عطية نقلا عن بعض ما هو بمعناه أيضا حيث قال : وأما قوله تعالى : إلا ما شاء ربك فقيل فيه : إنه على طريق الإستثناء الذي ندب الشرع إلى إستعماله في كل كلام فهو على نحو قوله جل وعلا : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين إستثناء في واجب وهذا الإستثناء في حكم الشرط كأنه قيل : إن شاء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع وممن ذهب إلى ذلك أيضا الفاضل ميرزاجان الشيرازي في تعليقاته على تفسير القاضي ونص على أنه من قبيل التعليق بالمحال حتى يثبت محالية المعلق ويكون كدعوى الشيء مع بينة وهو أحد الأوجه التي ذكرها السيد المرتضى في درره وتفسير الإستثناء الأول بالشرط أخرجه ابن مردوية عن جابر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما ذكر ذلك الجلال السيوطي في الدر المنثور ولعل النكتة في هذا الإستثناء على ما قيل : إرشاد العباد إلى تفويض الأمور إليه جل شأنه وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته جل وعلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا حق لأحد عليه ولا يجب عليه شيء كما قال تبارك وتعالى إن ربك فعال لما يريد
وذكر بعض الأفاضل أن فائدته دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نقضه كما ذهب إليه المعتزلة حيث أخبر به جل وعلا مؤكدا والمراد - بالذين شقوا - على هذا الوجه الكفار فقط فإنهم الأحقاء بهذا الاسم على الحقيقة - وبالذين سعدوا - المؤمنون كافة مطيعهم وعاصيهم فيكون التقسيم في قوله سبحانه فمنهم شقي وسعيد للانفصال الحقيقي ولا ينافيه قوله تعالى ففي الجنة لأنه يصدق بالدخول في الجنة
وفي الكشف بعد نقل أن الاستثناء من باب حتى يلج الجمل فإن قلت فقد حصل معنى الزمخشري من خلود الفساق قلت لا كذلك لأنهم داخلون في السعداء والآية تقتضي خلود السعيد وذلك بعد دخوله فيها لا محالة ولا تنفي كينونته في النار قبل دخوله في الجنة فإن اللفظ لا يقتضي أن يدخلوا - أعني السعداء - كلهم في الجنة معا كيف والقاطع يدل على دخولهم أولا فأولا على حسب مراتبهم انتهى فتأمل فإن الآية من المعضلات
وإنما لم يضمر في إن ربك الخ كما هو الظاهر لتربية المهابة وزيادة التقرير واللام في لما قيل للتقوية أي فعال ما يريده سبحانه لا يتعاصى عليه شيء بوجه من الوجوه
وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك الكلام فيه ما علمت خلا أنه لم يذكر ها هنا أن لهم بهجة وسرورا كما ذكر في أهل النار لهم فيها زفير وشهيق لأن المقام مقام التحذير والإنذار وسعدوا بالبناء للمفعول قرءاة حمزة والكسائي وحفص ونسبت إلى ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش وقرأ جمهور السبعة سعدوا بالبناء للفاعل واختار ذلك على ابن سليمان وكان يقول عجبا من الكسائي كيف قرأ سعدوا مع علمه بالعربية وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ
(12/145)

6 - إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم مسعود وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول سعده الله تعالى بمعنى أسعده وقال الجوهري سعد بالكسرة فهو سعيد مثل قولهم سلم فهو سليم وسعد فهو مسعود وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري ورد سعده الله تعالى فهو مسعود وأسعده الله تعالى فهو مسعد وما ألطف الإشارة في - شقوا وسعدوا - على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى ومن لم يجد فلا يلومن إلا نفسه عطاءا غير مجذوذ أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم ومصدره الجذ وقد جاءت جذذت وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة وبالمعجمة أكثر ونصب عطاءا على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه ففي الجنة خالدين فيها يقتضي إعطاءا وإنعاما فكأنهم قيل يعطيهم إعطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى أنبتكم من الأرض نباتا وقيل هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة أو تمييز فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناءا ومبالغة في التأبيد ودفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع وقيل إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة - وهو إما نفس الدخول أو ما هو كاللازم البين له - لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه إن ربك فعال لما يريد للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقي غيره كما يشاء ويختار والثاني بقوله تعالى عطاء الخ بيانا لأن إحسانه لا ينقطع ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال قال عمر لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه وبما أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ فأما الذين شقوا الآية وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك قال وقال ابن مسعود ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا إلى غير ذلك من الآثار
وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم احد تصفق أبوابها كأنها أبواب المواحدين وأول البعض بعضها ومر شيء من الكلام في ذلك وانت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمين ولا عبرة بالمخالف والقواطع أكثر من أن تحصى ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدي بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي وأما التفريق ففي قوله تعالى فمنهم شقي وسعيد وأما التقسيم ففي قوله سبحانه فأما الذين شقوا الخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني
(12/146)

7 - ... لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن ...
... فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العتبى وللخائف الأمن ...
ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء فمنهم وفاء فأما الخ قيل وفي العدول عن فأما الشقي ففي النار خالدا فيها الخ وأما السعيد - أو المسعود - ففي الجنة خالدا فيها الخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي يده كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله أما تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وأن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم بيده فنبذهما وقال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير وجاء في حديث الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر للملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك وبعضهم فسر الأم بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن مردويه وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لما نزلت فمنهم شقي وسعيد قلت يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه قال بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له وقيل كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعا إيذانا بأن المراد - بشقي وسعيد - فريق شقي وفريق سعيد ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل وقيل الإفراد أولا للإشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد وجمع ثانيا لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعا جمعا وزمرة زمرة وله شواهد من الكتاب والسنة فلا تك في مرية أي في شك والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلا تك في شك بعد أن بين لك ما بين مما يعبد هؤلاء أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصت عليك سوء عاقبة عبادتهم - فمن - ابتدائية وجوز أن تكون بمعنى في وما مصدرية وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل استئناف بياني وقع تعليلا في المعنى للنهي عن المرية والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محذوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئا إلا مثل الذي عبدوه من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات ومعنى كما يعبد كما كان عبد
(12/147)

8 - فحذف لدلالة قبل عليه وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم وإنا لموفوهم يعني هؤلاء الكفرة نصيبهم حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم أو من الرزق فيكون عذرا لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل الله تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره وفي التعبير - بالنصيب - على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك وتفسير بما ذكر مروي عن ابن زيد و - بالرزق - عن أبي العالية وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر وقرأ ابن محيصن لموفوهم مخففا من أوفى غير منقوص حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى ثم وليتم مدبرين وفائدته دفع توهم التجوز وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي وقال إنه الحق
وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول وفيته شطر حقه وثلث حقه وحقه كاملا وناقصا انتهى وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملا لم أنقصه منه شيئا وأما قولك وفيته حقه كاملا فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال وأما قولك وفيته حقه ناقصا فغير صحيح للمنافاة انتهى
وقال ابن المنير إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملا كان أو بعضا فقولك وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد والأوجه أن يقال استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ ومن قال أعطيت فلانا حقه كان جديرا أن يؤكده بقوله غير منقوص انتهى وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك نصف حقه وحقه منصفا فجاز وفيته نصيبه منصفا ونصيبه ناقصا ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة فاختلف فيه أي في شأن الكتاب وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن وقولهم لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك وزعمهم إنك افتريته
وجوز رجوع الضمير إلى موسى وهو خلاف الظاهر وإن كان الاختلاف فيه عليه السلام هل هو نبي أم لا مستلزما للاختلاف في كتابه هل هو من الله تعالى أم لا وقيل إن - في - على هذا الاحتمال بمعنى على أي فاختلف قومه عليه وتعنتوا كما فعل قومك معك ولولا كلمة سبقت من ربك وهي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المعلوم على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك لقضي بينهم أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين وفي البحر إن الظاهر عود الضمير على قوم موسى قيل وليس بذاك
وقال ابن عطية عوده على القومين أحسن عندي وتعقب بأن قوله سبحانه وإن كلا الخ ظاهر في التعميم بعد التخصيص وفيه نظر والأولى عندي الأول وإنهم أي وإن كفار قومك أريد بالضمير بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس لفي شك عظيم منه أي من القرآن وإن لم
(12/148)

9 - يجر له ذكر فإن ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية يناديه نداءا غير خفي
وقيل الضمير للوعيد المفهوم من الكلام مريب أي موقع في الريبة وجوز أن يكون من أراب إذا صار ذا ريبة وإن كلا التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة وقيل إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضا أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين
وقال مقاتل يعني به كفار هذه الأمة لما ليوفينهم ربك أعمالهم أي أجزية أعمالهم ولام ليوفينهم واقعة في جواب القسم أي والله ليوفينهم ولما بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وأبي جعفر وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما قال الكسائي ما أدري ما وجه هذه القراءة واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة إن أصل لما هذه لما منونا وقد قرىء كذلك ثم بنى على فعلى وهو مأخوذ من لممته إذا جمعته ولا يقال إنها لما المنونة وقف عليها بالألف وأجرى الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه لا يعرف بناء فعلى من لم وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاء الله تعالى
وقيل لما المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئذ فالإعراب ما ستعرفه أيضا إن شاء الله تعالى وهو بعيد جدا وقيل إنها بمعنى إلا وإلا تقع زائدة كما في قوله ... حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... يمين امرىء إلا بها غير آثم ...
فلا يبعد أن لما التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا وعن المازني أن أن المشددة هنا نافية ولما بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تثقيل أن النافية ولنصب - كل - والنافية لا تنصب وقال الحوفي إن على ظاهرها ولما بمعنى إلا كما في قولك نشدتك بالله إلا فعلت وضعفه أبو علي بأن لما هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت إن زيدا إلا ضربت لم يكن تركيبا عربيا وقيل إن لما هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان وإلى هذا ذهب المهدوي وقال الفراء وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله وقد جاء هذا الأصل في قوله ... وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقى اللسان من الفم ...
واللام على هذين الوجهين قيل موطئة للقسم ونقل عن الفارسي - وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة - من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفظا أو تقديرا لتؤذن بأن الجواب له نحو والله لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم مطلقا وقيل إنها اللام الداخلة في خبر إن ومن موصولا أو موصوفا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربك ومن ومجرورها على الوجه الثاني
(12/149)

في موضع الخبر لأن والجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضا لكن لما والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك قال في البحر : وهذان الوجهان ضعيفان جدا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم : ملمال يريدون من المال وفي تفسير القاضي وغيره إن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن وفيه أيضا ما فيه ففي المعنى إن حذف هذه الميم إستثقالا لم يثبت إنتهى وقال الديماميني : كيف يستقيم تعليل الحذف بالإستثقال وقد إجتمعت في قوله تعالى : على أمم ممن معك ثماني ميمات إنتهى وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر : وإني لما أصدر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وفي الكلام حذف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله : إذا قلت : سيروا إن ليلى لعلها جرى دون ليلى مائل القرن أغضب أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وهو كما ترى وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما تنزه ساحة التنزيل على مثلها : كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية من التكلف وهو أن لما هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم : قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها والتقدير هنا وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلا عنه أنه قال : لما هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه وقد ثبت الحذف في قولهم : خرجت ولما وسافرت ولما ونحوه وهو سائغ فصيح فيكون التدير لما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ومجازاتهم ثم قال : وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستعبده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن إنتهى ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون وذلك بمعزل عن أن يراد وهو ظاهر وهذا وجه النظر الذي عناه ابن هشام في قوله معترضا على ابن الحاجب : وفي هذا التقدير نظر
وقال الجلبي : وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير مع أن المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل : إنه دال عليه وليس بذاك ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء وقرأ نافع وابن كثير أن ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت إعتبارا للأصل في العمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي وإلى ذلك ذهب البصريون وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز أعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر ونقل عن سيبويه منهم أنه قال : أخبرني الثقة أنه سمع بعض العرب يقول : إن عمرا لمنطلق
وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل وتأول الآية بجعل كلا منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلا مثلا وليس بشيء وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين وفي الإرتشاف إن الكوفيين
(12/150)

لا يجوز تخفيف المكسورة لا مهملة ولا معملة وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق و كلا إسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن والجملة القسمية وجوابها صلة وإلى هذا ذهب الفراء واختار الطبري في اللام مذهبه وفي ما كونها نكرة موصوفة والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفي عمله واختار أبو علي في اللام ما إختاراه وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما وقرأ الكسائي وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القرائتين لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكر في تخريج القراءتين قبل وقرأ أبي والحسن بخلاف عنه وأبان بن تغلب وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد وخرجت على أن أن نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره و لما بمعنى إلا أي ما كل إلا أقسم والله ليوفينهم وأنكر أبو عبيدة مجيء لما بمعنى إلا في كلام العرب وقال الفراء : إن جعلها هنا بمعنى الأوجه لا نعرفه وقد قالت العرب مع اليمين بالله : لما قمت عنا وإلا قمت عنا وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلا لا في نثر ولا في شعر ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلا زيدا ولا إلتفات إلا إنكارهما والقراءة المتواترة في وإن كل لما جميع لدينا محضرون وإن كل نفس لما عليها حافظ تثبت ما أنكراه
وقد نص الخليل وسيبويه والكسائي على مجيء ذلك ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وكون العرب خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئا فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه
وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم وإن كلا لما بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم : لممت الشيء إذا جمعته كما مر ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في ليوفينهم عند أبي البقاء وضعفه
وقال أبو علي : إنها صفة لكل ويقدر مضافا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة وكان المصدر حينئذ بمعنى إسم المفعول وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل : وإن كلا جميعا كقوله تعالى : فسجد الملائكة كلهم أجمعون وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد
وقال ابن جني : إنها منصوبة بليوفينهم على حد قولهم : قياما لا أقومن والتقدير توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم وخبر إن في ذلك جملة القسم وجوابه وروى أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلا ليوفينهم وخرج على أن أن نافية ومن زائدة
وقرأ الأعمش نحو ذلك إلا أنه أسقط من وهو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر قيل : وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين إنه بما يعملون خبير
111
- أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه والجملة قيل : توكيد للوعد والوعيد فإنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلمومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة وحينئذ تتأتى توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر
(12/151)

وقرأ ابن هرمز تعلمون على الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب فاستقم كما أمرت لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة وأطنب سبحانه في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بالإستقامة مثل الإستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلى الله عليه و سلم بوحي آخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الإستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسط بين الإفراط والتفريط وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلى الله عليه و سلم وبين سائر المؤمنين والأمور الخاصة به عليه الصلاة و السلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك وقد قالوا : إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل إلى أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالإفتقار إلى الله تعالى ونفي الحول والقوة بالكلية ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بخط يكون بين الشمس والظل ليس بشمس ولا ظل بل هو أمر فاصل بينهما ولعمري إن ذلك لدقيق ولهذا قالوا : لا يطيق الإستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ثم عصم بالتشبث بالحق ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف إشارة إلى هذا المنهج المتوسط ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم : شمروا شمروا وما رؤي بعدها ضاحكا
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آية أشد من هذه الآية ولا أشق واستدل بعض المفسرين على عسر الإستقامة بما شاع من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : شيبتني هود وأنت تعلم أن الأخبار متضافرة بضم سور أخرى إليها وإن إختلفت في تعيين المضموم كما مر أول السورة وحينئذ لا يخفى ما في الإستدلال من الخفاء ومن هنا قال صاحب الكشف : التخصيص بهود لهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الإستقامة
وذكر في قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم شبيه ذكر البعد وأهله ثم قال : ولعل الأظهر أنه عليه الصلاة و السلام شبيه ذكر أهوال القيامة وكأنه بأبي هو وأمي شاهد منه يوما يجعل الوالدان شيبا إنتهى
وبعضهم للتخصيص برؤيا أبي علي الشتري السابقة وفيه بعد تسليم صحة الرواية إن رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم وإن كانت حقا حيث أن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة و السلام إلا أنه من أين يجزم بضبط الرائي وتحقيقه ما رأى على أن مما يوهن أمر هذه الرؤيا ويقوي ظن عدم ثبوتها ما أخرجه ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي وذكر الشهاب ما يقوي إعتراض صاحب الكشف من أنه ليس في الطرق المروية في هذا الباب الإقتصار على هود بل ذكر معها أخواتها وليس فيها الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من آل حميم ثم ذكر أنه لاح له ما يدفع الإشكال وذلك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى شأنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري من تصدى لهذه المرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد لا على التسلية إذ لا يطابق المقام حسبما تقدم لك عن صاحب الكشف ولما كانت هذه السورة جامعة لإرشاده من أول أمره إلى آخرخ وهذه الآية فذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد وخاف من عدم القيام بأعبائها
(12/152)

حتى إذا لقي الله تعالى في يوم الجزاء ربما نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوفه هولها لإحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له في هذه وهذا لا ينافي عصمته عليه الصلاة و السلام وقربه لكونه الأعلم بالله تعالى والأخوف منه فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة فكأنها هي المشيبة له صلى الله عليه و سلم من بينها ولذا بدأ بها في جميع الروايات ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السور ولا لهذه السورة وحدها كما فعله من فعله ولا لتلك الآية كما وقع في تلك الرؤيا إنتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لنسبة التشييب لهذه السورة فليتأمل وذهب بعض المحققين إلى كون الكاف في كما بمعنى على كما في قولهم : كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه ومن هنا قال ابن عطية وجماعة : المعنى إستقم على القرآن وقال مقاتل : إمض على التوحيد وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : إستقم على الأخبار عن الله تعالى بصحة العزم والأظهر إبقاء ما على العموم أي إستقم على جميع ما أمرت به والكلام في حذف مثل هذا الضمير أمر شائع وقد مر التنبيه عليه وما بعضهم إلى كون الكاف للتشبيه حسبما هو الظاهر منها إلا أنه قال : إنها في حكم مثل في قولهم : مثلك لا يبخل فكأنه قيل : إستقم الإستقامة التي أمرت بها فرارا من تشبيه الشيء بنفسه ولا يخفى أنه ليس بلازم ومن الغريب ما نقل عن أبي حيان أنه قال في تذكرته : فإن قلت : كيف جاء هذا التشبيه للإستقامة بالأمر قلت : هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله فإن قلت : الإستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلا لها قلت : مطلوب الأمر كلي والمأمور جزئي فحصلت المغايرة وصح التشبيه كقولك : صل ركعتين كما أمرت وأبعد بعضهم فجعل الكاف بمعنى على واستفعل للطلب كإستغفر الله تعالى أي أطلب الغفران منه وقال : المعنى أطلب الإقامة على الدين
ومن تاب معك أي تاب من الشرك وآمن معك فالمعية بإعتبار اللازم من غير نظر إلى ما تقدمه وغيره وقد يقال : يكفي الإشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر على المثوب عنه وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة واستظهر ذلك الجلبي و من على ما اختاره أبو حيان وجماعة عطف على الضمير المستكن في واستقم وأغنى الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف وليستقم من إلخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم إحتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع
وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على أنه مفعول معه والمعنى إستقم مصاحبا لمن تاب قيل : وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه
وقيل : إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم وجوز كون الخبر معك ولا تطغوا أي لا تنحرفوا عما حد لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم وسمي ذلك طغيانا وهو مجاوزة الحد تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تؤمروا به
وقال ابن زيد : لا تعصوا ربكم وقال مقاتل : لا تخلطوا التوحيد بالشرك ولعل الأول أولى
إنه بما تعملون بصير
112
- فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل : إستقيموا ولا تطغوا
(12/153)

لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها وقيل : إنه تتميم للأمر بالإستقامة والأول أحسن وأتم فائدة وقرأ الحسن والأعمش يعملون بياء الغيبة وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضا وفي الآية على ما قال غير واحد دليل على وجوب إتباع المنصوص عليه من غير إنحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال وأما العمل بمقتضى الإجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الإستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالإجتهاد وقال الإمام : وعندي لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى : فاستقم كما أمرت والعمل بالقياس إنحراف عنه ولذا لما ورد القرآن بالأمر بالوضوء وجيء بالأعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب إعتبارها وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالإستقامة كما أمر إنتهى
وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وكذا في نحو واستعينوا بالصبر والصلاة بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حد الله تعالى لا احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أي لا تميلوا أدنى ميل والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر الذين ظلموا بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا قيل : ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي وكذا القيام لهم ونحو ذلك ومدار النهي على الظلم والجمع بإعتبار جمعية المخاطبين وقيل : إن ذلك للمبالغة في النهي من حيث أن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعة وليس فليس فتمسكم أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي النار وهي نار جهنم وإلى التفسير الثاني وما أصعبه على الناس اليوم في غالب الأعاصير من تفسير ذهب أكثر المفسرين قالوا : وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الأفضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم ويمد عينه إلى ما متعوا به زهرة الدنيا الفانية ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلا عن حقيقة ذلك ذاهلا على منتهى ما هنالك وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناءا على ما روي أن رجلا قال لسفيان : إني أخيط للظلمة فهل أعدمن أعوانهم فقال له : لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين وهو عافانا الله تعالى وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعوك الله تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم وليس
(12/154)

كذلك أخذ الله تعالى الميثاق على العلماء قال سبحانه : لتبيننه للناس ولا تكتمونه واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت إنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدونك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك إتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فدا ودينك فقد دخله سقم وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام
وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا وعن محمد بن سلمة : الذباب على العذرة أحسن من قاريء على باب هؤلاء وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم ولذا قال الحسن : جمع الدين في لاءين يعني لاتطغوا ولا تركنوا ويحكى أن الموفق أبا أحمد طلحة العباسي صلى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الظالم
هذا وخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالإستقامة للتثبيت عليها وقد تجعل تأكيدا لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات وعن أبي عمرو أنه قرأ تركنوا بكسر التاء على لغة تميم
وقرأ قتادة وطلحة والأشهب ورويت عن أبي عمرو تركنوا بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة قيس وتميم
وقال الكسائي : إنها لغة أهل نجد وشذ تركن بالفتح مضارع ركن كذلك وقرأ ابن أبي عبلة ولا تركنوا مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله وقراءة الجمهور تركنوا بفتح الكاف والماضي ركن بكسرها وهي لغة قريش وهي الفصحى على ما قال الأزهري وقرأ ابن وثاب وعلقمة والأعمش وابن مصرف وحمزة فيما يروى عنه فتمسكم بكسر التاء على لغة تميم أيضا وما لكم من دون الله من أولياء من أنصار يمنعون العذاب عنكم والمراد نفى أن يكون لكل نصير والمقام قرينة على ذلك والجملة في موضع الحال من ضمير تمسكم ثم لا تنصرون
113
- من جهته تعالى إذ قد سبق في حكمه تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقي عليكم و ثم قيل : لإستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك وأوجبه لهم وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو مدخوله ومدخول ثم عدم النصرة وليس بمستعبد وإنما المستبعد نصر الله تعالى لهم فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر الله تعالى أشد وأفظع من عدم نصرة غيره وأجيب بما لا يخلو عن تكلف وأيا ما كان فالمقام مقام الواو إلا أنه عدل عنها لما ذكر
وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الإستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحدا لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتى بالفاء التفريعية المقارنة
(12/155)

للنتائج إذ المعنى أن الله تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه فإذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف بثم الإستبعادية إلى الوجه الذي ذكره واستبعاد الوقوع يقتضي النفي والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي ودفع بذلك ما قيل عليه : إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا إلا الإستبعادية ولا يخفى قوة الإعتراض وفرق بين وجهي الإستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفي على الأول نصرة الله تعالى لهم وعلى الثاني مطلق النصرة وأقم الصلاة أي المكتوبة ومعنى إقامتها أداؤها على تمامها
وقيل : المداومة عليها وقيل : فعلها في أول وقتها طرفي النهار أي أوله وآخره وانتصابه على الظرفية لأم ويضعف كونه ظرفا ووجه إنتصابه على ذلك إضافته إلى الظرف وزلفا من الليل أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه
وقال الليث : هي طائفة من أول الليل وكذا قال ثعلب وقال أبو عبيدة والأخفش وابن قتيبة : هي مطلق ساعاته وآناؤه وكل ساعة زلفة وأنشدوا للعجاج : ناج طواه الأين مما وجفا طي الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا وهو عطف على طرفي النهار و من الليل في موضع الصفة له والمراد بصلاة الطرفين قيل : صلاة الصبح والعصر وروي ذلك عن الحسن وقتادة والضحاك واستظهر ذلك أبو حيان بناءا على أن طرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء وإلتزم أن أول النهار من الفجر وقد يطلق طرف الشيء على الملاصق لأوله وآخره مجازا فيمكن إعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول بجعل التثنية هنا مثلها في قولهم : القلم أحد اللسانين إلا أنه قيل بشذوذ ذلك
وروي عن ابن عباس واختاره الطبري أن المراد صلاة الصبح والمغرب فإن كان النهار من أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب طرف مجازا وهو حقيقة طرف الليل وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي وقال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي : الطرف الأول الصبح والثاني الظهر والعصر واختار ذلك ابن عطية وأنت تعلم أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء وإنما الظهر نصف النهار والنصف لا يسمى ظرفا إلا بمجاز بعيد والمراد بصلاة الزلف عند الأكثر صلاة المغرب والعشاء
وروي الحسن في ذلك خبرا مرفوعا عن ابن عباس أنه فسر صلاة الزلف بصلاة العتمة وهي ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق وقد تطلق على وقت صلاة العشاء الآخرة وأغرب من قال : صلاة الطرفين صلاة الظهر والعصر وصلاة الزلف صلاة المغرب والعشاء والصبح وقيل : معنى زلفا قربا وحقه على هذا كما في الكشاف أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم زلفا من الليل أي صلوات تتقرب بها إلى الله عز و جل إنتهى قيل : والمراد بها على هذا صلاة العشاء والتهجد وقد كان واجبا عليه عليه الصلاة و السلام أو العشاء والوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع وقد تفسر بصلاة المغرب والعشاء واختاره البعض وقد جاء إطلاق الجمع على الإثنين فلا حاجة إلى إلتزام أن ذلك بإعتبار أن كل ركعة قربة فتحقق قرب فوق الثلاث فيما ذكر
وقرأ طلحة وابن أبي إسحاق وأبو جعفر زلفا بضم اللام إما على أنه جمع زلفة أيضا ولكن ضمت
(12/156)

عينه إتباعا لفائه أو على أنه إسم مفرد كعنق أو جمع زليف بمعنى زلفى كرغيف ورغف وقرأ مجاهد وابن محيصن بإسكان اللام كبسر بالضم والسكون في بسرة وهو على هذا على ما في البحر إسم جنس وفي رواية عنهما أنهما قرآ زلفى كحبلى وهو بمعنى زلفة فإن تاء التأنيث وألفه قد يتعاقبان نحو قربى وقربة وجوز أن تكون هذه الألف بدلا من التنوين إجراءا للوصل مجرى الوقف إن الحسنت يذهبن السيئات أي يكفرنها ويذهبن المؤاخذة عليها وإلا فنفس السيئات أعراض وجدت فانعدمت وقيل : يمحينها من صحائف الأعمال ويشهد له بعض الآثار وقيل : يمنعن من إقترافها كقوله تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهو مع بعده في نفسه مخالف للمأثور عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم فلا ينبغي أن يعول عليه
والظاهر أن المراد من الحسنات ما يعم الصلوات المفروضة وغيرها من الطاعات المفروضة وغيرها وقيل : المراد الفرائض فقط لرواية الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن وفيه أنه قد صح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية تفرد يحيى بن نصير وهو من الثقات وما تأخر وصح أن صيام يوم عرفة تكفر السنة الماضية والمستقبلة وأخرج أبو داود في السنن بإسناد حسن عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ومن لبس ثوبا وقال : الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في تكفير أفعال ليست بمفروضة ذنوبا كثيرة وقيل : المراد بها الصلوات المفروضة لما في بعض طرق خبر سبب النزول من أن أبا اليسر من الأنصار قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبروه بما فعل فقال عليه الصلاة و السلام : إنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة قال : صلى الله تعالى عليه وسلم نعم إذهب بها فإنها كفارة لما عملت وروي هذا القول عن ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب والظاهر أن ذلك منهم إقتصار على بعض مهم من أفراد ذلك العام وسبب النزول لا يأبى العموم كما لا يخفى وفي رواية عن مجاهد أنها قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وفيه ما فيه والمراد بالسيآت عند الأكثرين الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها على ما قالوا : إلا التوبة واستدلوا لذلك بما رواه مسلم من رواية العلاء الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما أجتنبت الكبائر واستشكل بأن الصغائر مكفرة بإجتناب الكبائر بنص إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فما الذي تكفره الصلوات الخمس وأجاب البلقيني بأن ذلك غير وارد لأن المراد بالآية أن تجتنبوا في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت والذي في الحديث إن الصلوات تكفر ما بينها أي يومها إذا إجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض وتعقبه السمهودي بقوله : ولك أن تقول : لا يتحقق إجتناب الكبائر في جميع العمر إلا مع الإتيان بالصلوات الخمس فيه كل يوم فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث فما فائدة الإجتناب المذكور في الآية ثم قال : ولك أن تجيب بأن ذلك من باب فعل شيئين كل منهما مكفر وقد قال بعض العلماء : أنه إذا اجتمعت مكفرات فحكمها أنها إذا ترتبت فالمكفر السابق وإن وقعت معا فالمكفر واحد منها يشاؤه الله تعالى وأما
(12/157)

البقية فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصغائر لو وجدت وكذا غذا فعل واحدا من الأمور المكفرة ولم يكن قد إرتكب ذنبا
وفي شرح مسلم للنووي نحو ذلك غير أنه ذكر أنه صادف فعل المكفر كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر ويرد على قوله : إن المراد إن تجتنبوا في جميع العمر منع ظاهر والظاهر أن المراد من ذلك أن ثواب إجتناب الكبائر في كل وقت يكفر الصغائر الواقعة فيه وفي تفسير القاضي ما يؤيده وكذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام في الكلام على التوبة من أن حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وأن إجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله سبحانه : إن تجتنبوا كبائر ما إلخ ولكن إجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا إجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من إمرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقوع ويقتصر على النظر واللمس فإن مجاهدته نفسه في الكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا ولم يكن إمتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن إمتنع لخوف من آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا فكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له ما شربه فإجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار وهذا ظاهر يدل على أن الحسنات يذهبن السيئات ولا شك أن إجتناب الكبائر إذا قارن القصد حسنة وإنما قيدنا بذلك وإن كان الخروج عند عهدة النهي لا يتوقف عليه لأنه لا يثاب على الإجتناب بدون ذلك فالأولى في الجواب عن الأشكال أن يقال : ما اجتنبت الكبائر في الخبر ليس قيدا لأصل التكفير بل لشمول التكفير سائر الذنوب التي بين الصلوات الخمس فهو بمثابة إستثناء الكبائر من الذنوب وكأنه قيل : الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب التي بينها وتكفيرها للجميع في المدة التي إجتنبت فيها الكبائر أو مقيد بإجتناب الكبائر وإلا فليست الصلوات كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير لكن قرينة الآية دعت للعدول عنه إلى ذلك جمعا بين الأدلة ولا بد في هذا من إعتبار ما قالوا في إجتماع الأمور المكفرة للصغائر وذكر الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام البلقيني ما لفظه : وعلى تقدير ورد السؤال فالتخلص عنه سهل وذلك لأنه لا يتم إجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها إنتهى ولا يخلو عن بحث وممن صرح بأن ما اجتنبت إلخ بمعنى الإستثناء نقلا عن بعضهم المحب الطبري فقد قال في أحكامه : إختلف العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر على قولين : أحدهما نعم وهو ظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما اجتنبت الكبائر فإن ظاهره الشرطية كما يقتضيه إذا اجتنبت الآتي في بعض الروايات فإذا إجتنبت الكبائر كانت مكفرة لها وإلا فلا وإليه ذهب الجمهور على ما ذكره ابن عطية وقال بعضهم : لا يشترط والشرط في الحديث بمعنى الإستثناء والتقدير مكفرات لما بينها إلا الكبائر وهو الأظهر
هذا وقد ذكر الزركشي أنهم إختلفوا في أن التكفير هل يشترط فيه التوبة أم لا فذهب إلى الإشتراط طائفة وإلى عدمه أخرى وفي البحر أن الإشتراط نص حذاق الأصوليين ولعل الخلاف مبني على الخلاف في إشتراط الإجتناب وعدمه فمن جعل إجتناب الكبائر شرطا في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ولم يشترطه إلا من إشترطها ويدل عليه خبر أبي اليسر فإن الروايات متضافرة
(12/158)

على أنه جاء نادما والندم توبة وإن إخباره صلى الله تعالى عليه وسلم له بأن صلاة العصر كفرت عنه ما فعل إنما وقع بعد ندمه لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فإن التوبة بمجردها تجب ما قبلها فلو إشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة وقد ثبت أنها مكفرات فيسقط إعتبار التوبة معها إنتهى ملخصا مع زيادة ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى إلتزام القول بأن ندم أبي اليسر لم يكن توبة صحيحة وإلا لكان التكفير به لأنه السابق وبعض إلتزم القول بكونه توبة صحيحة إلا أنه توبة لم تقبل ولم تكفر الذنب وأنت تعلم أن في عدم تكفير التوبة الذنب مقالا والمنقول عن السبكي أنه قال : إن قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضلا وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة والمختار عند إمام الحرمين أن تكفير التوبة للذنب مظنون وادعى النووي أنه الأصح وفي شرح البرهان : الصحيح عندنا القطع بالتكفيرة وقال الحليمي : لا يجب على الله تعالى قبول التوبة لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه سبحانه وتعالى لا يرد التوبة الصحيحة فضلا منه تعالى ومثل هذا الخلاف الخلاف في التكفير بإجتناب الكبائر ونحوه هل هو قطعي أو ظني وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي وصدر الشريعة وغيرهما أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع سواء إجتنب مرتكبها الكبائر أم لا لدخولها تحت قوله تعالى : يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولقوله تعالى : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث وخالفت المعتزلة في ذلك فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا إجتنبت الكبائر واستدلوا بآية إن تجتنبوا إلخ ويجاب بأن المراد بالكبائر الكفر والجمع لتعدد أنواعه أو تعدد من إتصف به ومعنى الآية إن تجتنبوا الكفر نجعلكم صالحين لتكفير سيآتكم ولا يخفى ما في إستدلالهم من الوهن وجوابهم عن إستدلال المعتزلة لعمري أوهن منه
وذهب صاحب الذخائر إلى أن من الحسنات ما يكفر الصغائر والكبائر إذ قد صح في عدة أخبار من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفي بعضها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ومتى حملت الحسنات في الآية على الإستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه أيضا والتخصيص خلاف الظاهر وفضل الله تعالى واسع وإلى هذا مال ابن المنذر وحكاه ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له وعنى فيما قيل : أبا محدم المحدث لكن رد عليه فقال بعضهم : يقول : إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث وهو جهل بين وموافقة للمرجئة في قولهم ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى وقد أجمع المسلمون على أنها فرض وقد صح أيضا من حديث أبي هريرة الصلوات كفاراة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر إنتهى
وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا يخلو عن الإفراط إذا الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة في غاية الوضوح ولو صح أن ذلك ذهاب إلى قولهم للزمه مثله بالنسبة إلى التوبة فإنه يسلم أنها تكفر الصغائر والكبائر وهي من جملة أعمال العبد فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سببا لكتفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك وقوله : ولو كان كما زعم إلخ مردود لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضا إذ تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوع مثلا ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه
(12/159)

ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عزالدين بن عبد السلام ولا يلزم من تكفير الله تعالى ذنوب عبده سقوط التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفا مستمرا وقريب من هذا إرتفاع الإثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل والرجاء بالله تعالى شأنه قوي كذا قيل وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الإملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث
ذلك ذكرى للذاكرين
114
- أي عظة للمتعظين وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالإستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور وإلى هذا ذهب الزمخشري واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل وقيل : هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيآت وقال الطبري : إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة وقيل : إلى القرآن وبعض من جعل الإشارة إلى الإقامة فسر الذكرى بالتوبة واصبر أي على مشاق إمتثال ما كلفت به في الكشاف إن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال : وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على إمتثال ما أمرت به والإنتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلا به إنتهى
ووجه كونه كريرا إلى ما ذكر بأن الأمر بالإستقامة أمر بالثبات قولا وفعلا وعقدا وهو الصبر على طاعة الله تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر واعترض إعتبار الإنتهاء عما نهي عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الإستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الإحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلا لا إثم فيه فالأولى أن يقال : إن وجود المشقة في إمتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض وقيل : المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصبر كأنه قيل : أقم الصلاة أي أدها تامة وداوم عليها نظير قوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
115
- أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلا وعبر عن ذلك بنفي الإضاعة بيانا لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئا من ثوابهم وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص
وعن ابن عباس أنه قال : المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى والمناهي جمعت للأمة وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة و السلام عند ربه جل وعلا فلولا كان تحضيض فيه معنى التفجع مجازا أي فهلا
(12/160)

كان من القرون أي من الأقوام المقترنة في زمان واحد من قبلكم أولوا بقية أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل أو ذوو فضل على أن يكون البقية إسما للفضل والهاء للنقل وأطلق على ذلك على سبيل الإستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه ومن هنا يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم وبذلك فسر بيت الحماسة : إن تذنبوا يأتيني بقيتكم فما علي بذنب عندكم فوت ومنه قولهم : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لأنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه والظاهر أنها على هذا مصدر وقيل : إسم مصدر ويؤيد المصدرية أنه قرىء بقية بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : بقينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تأخر صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج الخبر أراد معاذ انتظرناه وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضي يرضى والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه وقريء بقية بتخفيف الياء إسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية
وقرأ أبو جعفر وشيبة بقية بضم الباء وسكون القاف ينهون عن الفساد في الأرض الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي إلا قليلا ممن أنجينا منهم إستثناء منقطع أي ولكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون وقيل أي : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي و من الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه : أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا وإلى ذلك ذهب الزمخشري ومنع إتصال الإستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لإستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضا لأولى البقية هلى النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم ثم قال : وإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان إستثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان اإتصابه على أصل الإستثناء إن كان الأفصح أن يرفع على البدل والحاصل أن في الكلام إعتبارين : التحضيض والنفي فإن اعتبر التحضيض لا يكون الإستثناء متصلا لأن المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له والتحضيض معناه لم ما نهوا ولا يجوز أن يقال : إلا قليلا فإنهم لا يقال لهم : لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت : إضرب القوم إلا زيدا فليس المعنى على أنه ليس أضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال : أولو بقية محضوضون على النهي إلا قليلا فإنهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالإستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الإستثناء أنهم غير محضوضين وذلك إما لكونهم نهوا وأو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم فإما أن يكون قد جعل إحتمال الفساد إفسادا أو إدعى أنه هو المفهوم من السياق ثم إن المدقق صاحب الكشف قال : إن ظاهر تقرير
(12/161)

كلام الزمخشري يشعر بأن ينهون خبر كان جعل من القرون خبرا آخر أو حالا قدمت لأن تخصيص أولى البقية على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة و من القرون خبرا كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فيهم أولوا بقية ناهون وإذا جعل خبرا لا يكون معنى الإستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا بل كان منهم أولو بقية ناهين إلا قليلا فإنهم نهوا وهو فاسد والإنقطاع على ما آثره الزمخشري أيضا يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم فالوجه أن يؤول بأن المقصود من ذكر الإسم الخبر وهو كالتمهيد له كأنه قيل : فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلا قليلا وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يتخلف نفي الناهي وأولو البقية إنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولى بالتحضيض والتنديم وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الإسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلا ناهيا فإذا إنتفى اللازم إنتفى الملزوم وهو من باب
ولا ترى الضب بها ينجحر
وقولك : ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لا شجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم إنتهى وهو تحقيق دقيق أنيق
وادعى بعضهم أن الظاهر أن كان تامة و أولو بقية فاعلها وجملة ينهون صفته و من القرون حال متقدمة عليه و من تبعيضية و من قبلكم حال من القرون ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناءا على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضا ونفيا والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيدا في الكلام والإستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة وفي الكنبور من غير طرب ومثله يعد من النصب واتبع الذين ظلموا وهم تاركو النهي عن الفساد
ما أترفوا فيه ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية وأصل الترف التوسع في النعمة
وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة وقيل : أترفوا أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته ففي إما سببية أو ظرفية مجازية وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا ومعنى إتباع ذلك الإهتمام به وترك غيره أي إهتموا بذلك وكانوا مجرمين
116
- أي مرتكبي جرائم غير ذلك أو كافرين متصفين بما هو أعظم الإجرام ولكل من التفسيرين ذهب بعض وحمل بعضهم الذين ظلموا على ما يعم تاركي النهي عن الفساد والمباشرين له ثم قال : وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل والجملة عند أبي حيان مستأنفة للأخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك
وجوز بعض المحققين أن تكون عطفا على مقدر دل عليه الكلام أي لم ينهوا واتبع إلخ
وقيل : التقدير إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين إلخ وأن تكون إستئنافا بترتب على قوله سبحانه : إلا قليلا أي إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه وجعل الإظهار على هذا مقتضى الظاهر وعلى الأول لإدراج المباشرين مع التاركين
(12/162)

في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب
وفي الكشاف ما يقتضي ظاهره بأن العطف على نهوا الواقع خير لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبرا أيضا مع خلوه عن الرابط وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن نهوا جملة مستأنفة استؤنفت بعد إعتبار الخبر فعطف عليها وفي ذلك ما فيه وقوله تعالى : وكانوا مجرمين عطف على اتبع الذين إلخ مع المغايرة بينهما وجوز أن يكون العطف تفسيرا على معنى وكانوا مجرمين بذلك الإتباع وفيه بعد وأن يكون على أترفوا على معنى إتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر وتعقبه صاحب التقريب بقوله : وفيه نظر لأن ما في ما أترفوا موصولة لا مصدرية لعود الضمير من فيه إليه فكيف يقدر كانوا مصدرا إلا أن يقال : يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة ظلموا فتكون ما مصدرية وأن تكون الجملة إعتراضا بناءا على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني
وقرأ أبو جعفر والعلاء بن سيابة وأبو عمرو وفي رواية الجعفي وأتبع بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الإتباع قيل : ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي إتبعوا جزاء ما أترفوا و ما إما مصدرية أو موصولة والواو للحال وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهوا المقدر والمعنى على الأول إلا قليلا نجيناهم وقد هلك سائرهم وأما قوله سبحانه : وكانوا مجرمين فقد قالوا : إنه لا يحسن جعله قيدا للإنجاء إلا من حيث أنه يجري مجرى العلة لإهلاك السائر فيكون إعتراضا أو حالا من الذين ظلموا والحال الأول من مفعول أنجينا المقدر وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا والواو للحال أيضا في القول الشائع كأنه قيل : أنجينا القليل وقد إتبع الذين ظلموا أجزاءهم فهلكوا وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل : فاعل اتبع ما اترفوا أو الكلام على القلب فتدبر وما كان ربك ليهلك القرى أي ما صح وما استقام بل إستحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي وقوله سبحانه : بظلم أي ملتبسا به قيل : هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائنا ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة وقوله جل وعلا : وأهلها مصلحون
117
- حال من المفعول والعامل فيه عامله ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لادلالته على تقييد نفي الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين وفيه من الفساد على ما قيل ما فيه بل مطلقا عن ذلك وهذا ما اختاره ابن عطية ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لا بد في إهلاكهم من أن يمضوا إلى شركهم فسادا وتباغيا وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه سبحانه ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع
قال ابن عطية : وهذا ضعيف وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل عليهم السلام أمته عنه
(12/163)

ثم عن سائر المعاصي فالوجه كما قال : حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه بكون البعض متصديا للنهي والبعض الآخر متوجها إلى الإتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد إنتهى لكن أخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسئل عن تفسير هذه الآية وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون فقال عليه الصلاة و السلام : وأهلها ينصف بعضه 4 م بعضا وأخرجه ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري ولعله لم يثبت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلا فالأمر مشكل وجعل التصدي للنهي من بعض والإتعاض من بعض آخر من إنصاف البعض البعض كما ترى فافهم ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق ونظير ذلك قوله سبحانه : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وروي عن الضحاك أن المراد لو شاء لجمعهم على هدى أو ضلالة ولا يزالون مختلفين
118
- بعضهم على الحق وبعضهم علىالباطل
أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس ولعل المراد الإختلاف في الحق والباطل من العقائد التي هي أصول الدين بقرينة المقام وقيل : المراد ما يشمل الإختلاف في العقائد والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالإستثناء في قوله سبحانه : إلا من رحم ربك متصل على الأول وهو الذي إختاره أبو حيان وجماعة وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمة الله تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق فإنهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه
ولذلك خلقهم أي الناس والإشارة كما روي عن الحسن وعطاء إلى المصدر المفهوم من مختلفين ونظيره
إذا نهى السفيه جرى إليه
كأنه قيل : وللإختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الإختلاف من كون فريق في الجنة وفريق في السعير خلقهم واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على إرتكاب الباطل كذا قال غير واحد وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء الله تعالى من تفسيرها في الذاريات وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه والتعذيب أو الإثابة ليس إلا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الإستعداد الأصلي وربما يرجح هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الإستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه ومن هنا قالوا : إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما وبذلك يندفع قولهم : ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم ولما قررناه شواهد كثيرة من الكتاب والسنة لا تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق وقيل : ضمير خلقهم لمن بإعتبار معناه والإشارة للرحمة المفهومة من رحم والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والإختلاف أي لإختلاف الجميع ورحمة بعضهم خلقهم وجاءت الإشارة لإثنين كما في قوله تعالى : عوان بين ذلك واللام على هذا قيل : بمعنى
(12/164)

مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله على معناها وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما قدمناه والقولان الآخران دونه وأما القول بأن الإشارة لما بعد وفي الكلام تقديم وتأخير أي وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم إلخ ولذلك أي لملء جهنم خلقهم فبعيد جدا من تراكيب كلام العرب ومن هذا الطرز ما قيل : إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل : إنه إشارة إلى قوله تعالى : فمنهم شقي وسعيد أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه : ينهون عن الفساد في الأرض أو إلى الجنة والنار أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها
وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق ومن الإختلاف الإختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم والمراد بمن رحم الذين هداهم الله تعالى ولم يخالفوا الحق والإشارة للإختلاف بمعنى المخالفة وضمير خلقهم للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون واللام للعاقبة كأنه قيل : ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل ولا يزالون مخالفين للحق إلا قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق ولما ذكر من الإختلاف خلق المختلفين المخالفين ولا يخفى ما فيه من إرتكاب خلاف الظاهر وإن أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتضي بعضه
ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الإختلاف الإختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضا وقال ابن بحر : المراد أن بعضهم يخلف بعضا فيكون الآتي خلفا للماضي ومنه ما اختلف الجديدان أي ما خلف أحدهما صاحبه وإلى هذا ذهب أبو مسلم إلا أنه قال : يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا وفي ذلك ما فيه وأيا ما كان فالظاهر من الناس العموم وليتأمل هذه الآية مع قوله تعالى : وما كان الناس إلا أمة واحدة وليراجع تفسير ذلك
وقال الفاضل الجلبي : ليس في هذه الآية ما يدل على عموم الناس حتى تخالف وما كان الناس إلخ وفيه نظر والجار والمجرور أعنى لذلك متعلق بخلق بعده والظاهر أن الحصر المستفاد من التقديم إذا قلنا : إن التقديم له إضافي والمضاف هو إليه مختلف حسب إختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه وهو على الأول الإتفاق وعلى ما عداه يظهر أيضا بأدنى إلتفات هذا واستدل بالآية على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل وإن ما أورده سبحانه يجب وقوعه
وذكر بعض العارفين أن منشأ تشييب سورة هود له صلى الله تعالى عليه وسلم إشتمالها على أمره عليه الصلاة و السلام بالإستقامة على الدعوة مع إخباره أنه سبحانه إنما خلق الناس للإختلاف وأنه لا يشاء إجتماعهم على الدين الحق وهو كما ترى وتمت كلمة ربك أي نفذ قضاؤه وحق أمره وقد تفسر الكلمة بالوعيد مجازا وقد يراد منها الكلام الملقى على الملائكة عليهم السلام والأول أولى والجملة متضمنة معنى القسم ولذا جيء باللام في قوله سبحانه : لأملأن جهنم من من الجنة والناس أجمعين
119
- والجنة والجن بمعنى واحد وفي تفسير ابن عطية أن الهاء في الجنة للمبالغة وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه إنتهى فيكون من المجموع التي
(12/165)

يفرض بينها وبين مفردها بالهاء ككمء وكمأة على ما ذكرناه في تعليقاتنا على الألفية وفي الآية سؤال مشهور وهو أنها تقتضي بظاهرها دخول جميع الفريقين في جهنم والمعلوم من الآيات والأخبار خلافه وأجاب عن ذلك القاضي بما حاصله أن المراد بالجنة والناس إما عصاتهما على أن التعريف للعهد والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم وأن الوعيد ليس إلا لهم وفي معنى ذلك ما قيل : المراد بالجنة والناس إتباع إبليس لقوله سبحانه في الأعراف وص : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين فاللازم دخول جمع تابعيه في جهنم ولا محذور فيه والقرآن يفسر بعضه بعضا ولا حاجة إلى تقدير عصاة مضافا إلى الفريقين كما قيل فأجمعين لإستغراق الأفراد المرادة حسبما علمت وأما ما يتبادر منهما ويراد من التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط وهذا لا يقتضي شمول أفراد كلا الفريقين ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى شيء آخر واعترض الأخير بأنه مبني على وقوع أجمعين تأكيدا للمثنى وهو خلاف ما صرحوا به وفيه أن ذلك إذا كان لمثنى حقيقي لا إذا كان كل فرد منه جمعا فإنه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا ورود لما ذكر
نعم يرد على الشق الأول أن التأكيد يقتضي دخول جميع العصاة في النار والمعلوم من النصوص خلافه اللهم إلا أن يقال : المراد العصاة الذين قدر الله تعالى أن يدخلوها وأجاب بعضهم بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل قدر ما يملأ جهنم كما إذا قيل : مل 4 أت الكيس من الدراهم لا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس ورده الجلال الدواني بأنه نظير أن يقال : ملأت الكيس من جميع الدراهم وهو بظاهره يقتضي دخول جميع الدراهم فيه والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله ثم قال : والحق في الجواب أن يقال : المراد بلفظ أجمعين تعميم الأصناف وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت : ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن فيه جميع أفراد الطعام وكقولك : إمتلأ المجلس من جميع أصناف الناس فإنه لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس بل أن يكون فيه من كل صنف فرد وهو ظاهر وعلى هذا يظهر فائدة لفظ أجمعين إذ فيه رد على اليهود وغيرهم ممن زعم أنهم لا يدخلون النار إنتهى وتعقبه ابن الصدر بقوله : فيه بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد بكل وأجمعين دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الأفراد وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل : ملأت الجراب من جميع الطعام بإسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فيه كالكلام فيما نحن فيه وأيضا ما ذكره من أن في ذلك ردا على اليهود إلخ غير صحيح لأن اليهود قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلا فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك
وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من الجنة والناس الذين بقوا في مرتبة الجنية والإنسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الإجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام إلخ فإنهم لا يستأهلون دار الله تعالى وقربه ثم قال : ولهذا ترى الله تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع وكلا أي وكل نبأ فالتنوين للتعويض عن المضاف إليه المحذوف ونصب كل على أنه مفعول به لقوله سبحانه : نقص عليك أي نخبرك به وقوله تعالى :
(12/166)

من أنبآء الرسل صفة لذلك المحذوف لا لكلا لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل و من تبعيضية وقيل : بيانية وقوله عز و جل : ما نثبت به فؤادك قيل : عطف بيان لكلا بناءا على عدم إشتراط توافق البيان والمبين تعريفا وتنكيرا والمعنى هو ما نثبت إلخ
وجوز أن يكون بدلا منه بدل كل أو بعض وفائدة ذلك التثنية على أن المقصود من الإقتصاص زيادة يقينه صلى الله تعالى عليه وسلم وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسارة واحتمال أذى الكفار وجوز أيضا أن يكون مفعول نقص وكلا حينئذ منصوب إما على المصدرية أي كل نوع من أنواع الإقتصاص نقص عليك الذي نثبت به فؤادك من أنباء الرسل وإما على الحالية من ما أو من الضمير المجرور في به على مذهب من يرى جواز تقدير حال المجرور بالحرف عليه وهو حينئذ نكرة بمعنى جميعا أي نقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعا
واستظهر أبو حيان كون كلا مفعولا به لنقص و من أنباء في موضع الصفة له وهو مضاف في التقدير إلى نكرة و ما صلة كما هي في قوله تعالى : قليلا ما تذكرون ولا يخفى ما فيه
وجاءك في هذه الحق أي الأمر الثابت المطابق للواقع والإشارة بهذه السورة كما جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وقتادة وابن جبير
وقيل : الإشارة إليها مع نظائرها وليس بذاك ككونها إشارة إلى دار الدنيا وإن جاء في رواية عن الحسن وقيل : إلى الأنباء المقتصة وهو مما لا بأس به وموعظة وذكرى للمؤمنين
120
- عطف على الحق أي جاءك الجامع المتصف بكونه حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين ولعل تحلية الوصف الأول باللام دون الأخيرين لما قيل : من أن الأول حال للشيء في نفسه والأخيران وصفان له بالقياس إلى غيره
وقال الشهاب : الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إرشاد الدعوة وتسليته بما هو معروف معهود عنده وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية ففرق بين الوصفين للفرق بين الموصوفين وفي التخصيص بهذه السورة ما يشهد له لأن مبناها على إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم على ما سمعت من صاحب الكشف وتقديم الظرف على الفاعل ليتمكن المؤخر عنه وروده أفضل تمكن ولأن في المؤخر طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم
وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم أي جهتكم وحالكم التي أنتم عليها إنا عاملون
121
- على جهتنا وحالنا التي نحن عليها وانتظروا بنا الدوائر إنا منتظرون
122
- أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة وصيغة الأمر في الموضعين للتهديد والوعيد والآيتان محكمتان
وقيل : المراد الموادعة فهما منسوختان ولله غيب السموات والأرض أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السموات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جل وعلا وإليه لا إلى غيره عز شأنه يرجع الأمر أي الشأن كله فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه وقرأ أكثر السبعة يرجع بالبناء للفاعل من رجع رجوعا فاعبده وتوكل عليه فإنه سبحانه كافيك والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع
(12/167)

الأمور كلها إليه وقيل : على ذلك وكونه تعالى عالما بكل غيب أيضا وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لأن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع
وقيل : التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة إمتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك ومن التوكل التوكل فيه كأنه قيل : إمتثل ما أمرت به ودوام على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضق صدرك منهم وما ربك بغافل عما تعملون
123
- بتاء الخطاب على تغليب المخاطب وبذلك قرأ نافع وأبو عامر وحفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبو جعفر والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الإستحقاق وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر هذا وفي زوائد الزهد لعبدالله بن أحمد بن حنبل وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة هود ولله غيب السموات والأرض إلى آخر السورة والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في الآيات يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي كامل الشقاوة ومنهم سعيد كامل السعادة فأما الذين شقوا ففي النار أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والإذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر إن ربك فعال لما يريد لا حجر عليه سبحانه وأما الذين سعدوا ففي الجنة أي جنة حصول المراد واللذات وهي جنة النفس خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الإستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها فاستقفم كما أمرت أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم ومن تاب عن إنيته وذهب وجوده معك من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء وقيل : إن الإستقامة المأمور بها صلى الله تعالى عليه وسلم فوق الإستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة و السلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألو العلم على قول ومن هنا قال الجنيد قدس سره : الإستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين والإستقامة مع الهيبة والرجاء حال المقربين والإستقامة مع الغيبة عن رؤية الإستقامة حال العارفين ولا تطغوا ولا تخرجوا عما حد لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة ولا تركنوا أي لا تميلوا أدنى ميل إلى الذين ظلموا وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل : الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لم يظلم وروي ذلك عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي الله تعالى عنهم وقيل : المعنى لا تقتدوا بالمرائين والجاهلين وقرناء السوء وقيل : لا تصحبوا الأشرار ولا تجالسوا أهل البدع وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل أمر بإقامة الصلاة المفروضة على ما علمت وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن وفي الأخبار
(12/168)

ما يدل على علو شأنها والأمر غني عن البيان إن الحسنات يذهبن السيئات قال الواسطي : أنوار الطاعات تذهب بظلم المعاصي
وقال يحيى بن معاذ : إن الله سبحانه لم يرض للمؤمن بالذنب حتى ستر ولم يرض بالستر حتى غفر ولم يرض بالغفران حتى بدل فقال سبحانه : إن الحسنات يذهبن السيآت وقال تعالى : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المشار إليها وإذهاب الحسنات السيآت ذكرى للذاكرين تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله تعالى في الصفاء والجمعية والأنس والذوق واصبر بالله سبحانه في الإستقامة ومع الله تعالى بالحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير إن الله لا يضيع أجر المحسنين الذين يشاهدونه في حال القيام بالحقوق فلو لا كان من القرون من قبلكم أو لو بقية ينهون عن الفساد في الأرض فيه حض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون قيل : القرى فيه إشارة إلى القلوب وأهلها إشارة إلى القوى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة متساوية في الأستعداد متفقة على دين التوحيد ولا يزالون مختلفين في الوجهة والإستعداد إلا من رحم ربك بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال فإنهم متفقون في المذهب والمقصد متوافقون في السيرة والطريقة قبلتهم الحق ودينهم التوحيد والمحبة وإن أختلفت عباراتهم كما قيل : عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير ولذلك الإختلاف خلقهم وذلك ليكونوا مظاهر جماله وجلاله ولطفه وقهره وقيل : ليتم نظام العالم ويحصل قوام الحياة الدنيا وتمت كلمة ربك أي أحكمت وأبرمت لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك لما إشتملت عليه من مقاساتهم الشدائد من أممهم مع ثباتهم وصبرهم وإهلاكهم أعدائهم وجاءك في هذه السورة الحق الذي لا ينبغي المحيد عنه وموعظة وذكرى للمؤمنين وتخصيص هذه السورة بالذكر كما أشرنا إليه وقيل : للتشريف وإلا فالقرآن كله كذلك والكل يغرف من بحره على ما يوافق مشربه ومن هنا قيل : العموم متعلقون بظاهره والخصوص هائمون بباطنه وخصوص الخصوص مستغرقون في تجلي الحق سبحانه فيه ولله غيب السموات على إختلاف معانيها والأرض كذلك وإليه يرجع الأمر كله أي كل شأن من الشئون فإن الكل منه فاعبده أسقط عنك حظوظ نفسك وقف مع الأمر بشرط الأدب وتوكل عليه لا تهتم بما قد كفيته واهتم بما ندبت إليه وما ربك بغافل عما تعملون فيجازي كلا حسبما تقتضيه الحكمة والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره
إنتهى ما وفقنا له من تفسير سورة هود بمن من بيده الكرم والجود ونسأله سبحانه أن ييسر لنا إتمام ما قصدناه ويوفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه والحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه ما غردت الأقلام في رياض التحرير ووردت الأفهام من حياض التفسير
(12/169)

سورة يوسف عليه السلام
12 - مكية كلها على المعتمد وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إلا ثلاث آيات من أولها واستثنى بعضهم رابعة وهي قوله سبحانه : لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه وما إعتمدناه كغيرنا هو الثابت عن الحبر وقد أخرجه النحاس وأبو الشيخ وابن مردوية عنه وأخرجه الأخير عن ابن الزبير وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع من حديث طويل يحكى فيه قدوم رافع مكة وإسلامه وتعليم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إياه هذه السورة و إقرأ باسم ربك وآياتها مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع على ما نقل عن الداني وغيره وسبب نزولها على ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أنزل القرآن على رسوله عليه الصلاة و السلام فتلاه على أصحابه زمانا فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت وقيل : هو تسلية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعلت إخوة يوسف عليه السلام به وقيل : إن اليهود سألوه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحدثهم بأمر يعقوب وولده وشأن يوسف وما إنتهى إليه فنزلت وقيل : إن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فسألوه فنزلت ويبعد القولين الأخيرين فما زعموا ما أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف فقال : يا محمد من علمكها قال : الله علمنيها فعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم : والله إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا يستمعون إلى قراءة سورة يوسف فتعجبوا وأسلموا عند ذلك وفي القلب من صحة الخبر ما فيه ووجه مناسبتها للتي قبلها إشتمالها على شرح ما قاساه بعض الأنبياء عليهم السلام من الأقارب وفي الأولى ذكر ما لقوا من الأجانب وأيضا قد وقع فيما قبل فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب وقوله سبحانه : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ووقع هنا حال يعقوب مع أولاده وما صارت إليه عاقبة أمرهم مما أقوى شاهد على الرحمة وقد جاء عن ابن عباس وجابر بن زيد أن يونس نزلت ثم هود ثم يوسف وعد هذا وجها آخر من وجوه المناسبة
بسم الله الرحمن الرحيم الر الكلام فيه وفي نظائره شهير وقد تقدم لك منه ما فيه إقناع والإشارة في قوله سبحانه : تلك آيات الكتاب إليه في قول وإلى آيات هذه السورة في آخر وأشير إليها مع أنها لم تذكر بعد لتنزيلها لكونها مترقبة منزلة المتقدم أو لجعل حضورها في الذهن بمنزلة الوجود الخارجي والإشارة بما يشار به للبعيد وأما على الثاني فلأن ما أشير إليه لما لم يكن محسوسا نزل منزلة البعيد لبعده عن حيز الإشارة أو العظمة وبعد مرتبته وعلى غيره لذلك أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار كالمتباعد
وزعم بعضهم أن الإشارة إلى ما في اللوح وهو بعيد وأبعد من ذلك كون الإشارة إلى التوراة والإنجيل أو الآيات التي ذكرت في سورة هود والمراد بالكتاب إما هذه السورة أو القرآن وقد تقدم لك في يونس ما يؤنسك تذكره هنا فتذكر المبين
1
- من أبان بمعنى بان أي ظهر فهو لازم أي الظاهر أمره في كونه
(12/170)

عند الله تعالى وفي إعجازه أو الواضح معانيه للعرب بحيثلا تشتبه عليهم حقائقه ولا تلتبس عليهم دقائقه وكأنه على المعنيين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع واستتر ولا يعد هذا من حذف الفاعل المحظور فلا حاجة إلى القول بأن الإسناد مجازي فرارا منه أو بمعنى بين أظهر فهو متعد والمفعول مقدر أي المظهر ما فيه هدى ورشد أو ما سألت عنه اليهود أو ما أمرت أن تسئل عنه من السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر أو الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص
وعن ابن عباس ومجاهد الإقتصار على الحلال والحرام وما يحتاج إليه في أمر الدين وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك : بين الله تعالى فيه الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف : الطاء والظاء والصاد والضاد والعين والحاء المهملتان والمذكور في الفرهنك وغيره من الكتب المؤلفة في اللغة الفارسية أن الأحرف الساقطة ثمانية ونظم ذلك بعضهم فقال : هشت حرفست أنكه أندر فارسي نايدهمي تايناموزي بناشي أندرين معنى معاف بشنوا كنون تاكدام أست أن حروف وياد كير ثا وحا وصاد ضاد وطاء وظا وعين وقاف ومع هذا فإن الأمر مبني على الشائع الغالب وإلا فبعض هذه الأحرف موجود في بعض كلماتهم كما لا يخفى على المتتبع ولعل الوصف على الأقوال الأول أمدح منه على القول الأخير والظاهر أن ذلك وصف له باعتبار الشرف الذاتي وقوله سبحانه : إنا أنزلناه قرآنا عربيا وصف له باعتبار الشرف الإضافي وضمير الغائب للكتاب السابق ذكره فإن كان المراد به القرآن كله كما هو الظاهر المناسب للحال فذاك وإن كان المراد به هذه السورة فتسميته قرآنا لأنه إسم جنس يقع على الكثير والقليل فكما يطلق على الكل يطلق على البعض نعم إنه غلب على الكل عند الإطلاق معرفا لتبادره وهل وصل بالغلبة إلى حد العلمية أولا فيه خلاف وإلى الأول ذهب البيضاوي قدس سره فتلزمه الألف واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأول ووقع في كتب الأصول أنه وضع تارة للكل خاصة وأخرى لما يعمه والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواترا ونظر فيه بأن الغلبة ليس لها وضع ثان وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له ولذا لزمت العلم بها اللام أو الإضافة إلا أن يدعي أن فيها وضعا تقديريا كذا قيل وممن صرح بأن التعيين بالغلبة قسيم للتعيين بالوضع العلامة الزرقاني وغيره لكن تعقبه الحمصي فقال : إن دلالة الإعلام بالغلبه على تعيين مسماها بالوضع وإن كان غير الوضع الأول فليتأمل
وعن الزجاج وابن الأنباري أن الضمير لنبأ يوسف وإن لم يذكر في النظم الكريم وقيل : هو للإنزال المفهوم من الفعل ونصبه على أنه مفعول مطلق و قرآنا هو المفعول به والقولان ضعيفان كما لا يخفى ونصب قرآنا على أنه حال وهو بقطع النظر عما بعده وعن تأويله بالمشتق حال موطئة للحال التي هي عربيا وإن أول بالمشتق أي مقروءا فحال غير موطئة و عربيا إما صفته على رأي من يجوز وصف الصفة وإما حال من الضمير المستتر فيه على رأي من يقول بتحمل المصدر الضمير إذا كان مؤولا باسم المفعول مثلا وقيل : قرآنا بدل من الضمير و عربيا صفته وظاهر صنيع أبي حيان يقتضي إختياره ومعنى كونه
(12/171)

عربيا أنه منسوب إلى العرب باعتبار أنه نزل بلغتهم وهي لغة قديمة
أخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية فلما أكل الشجرة سلبها فتكلم بالسريانية فلما تاب ردها الله تعالى عليه وقال عبدالملك بن حبيب : كان اللسان الأول الذي هبط به آدم عليه السلام من الجنة عربيا إلى أن بعد وطال العهد حرف وصار سريانيا وهو منسوب إلى أرض سورية وهي أرض الجزيرة وبها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق وكان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف وكان أيضا لسان جميع من في السفينة إلا رجلا واحدا يقال له : جرهم فإنه كان لسانه العربي الأول فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته وصار اللسان العربي في ولده عوص أبي عاد وعبيل وجائر أبي ثمود وجديس وسميت عاد باسم جرمهم لأنه كان جدهم من الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشد ابن سام إلى أن وصل إلى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنو إسماعيل عليه السلام فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي وقال ابن دحية : العرب أقسام : الأول عاربة وعرباء وهم الخلص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح وهي عاد وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار ومنهم تعلم إسماعيل عليه السلام العربية والثاني المتعربة قال في الصحاح : وهم الذين ليسوا بخلص وهم بنو قحطان والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضا وهم بنو إسماعيل وهم ولد معد بن عدنان بن أدد أه
وقال ابن دريد في الجمهرة العرب العاربة سبع قبائل : عاد وثمود وعمليق وطسم وجديس وأميم وجاسم وقد إنقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين من القبائل وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية يعرب بن قحطان وهو مراد الجوهري بقوله : إنه أول من تكلم بالعربية واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفا ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا هذه الآية إنا أنزلناه قرآنا عربيا إلخ ثم قال : ألهم إسماعيل عليه السلام هذا اللسان العربي إلهاما وقال الشيرازي في كتاب الألقاب : أخبرنا أحمد بن إسماعيل المداني أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماشي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف بن السكيت قال : حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبدالملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة وروي أيضا عن ابن عباس أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية المحضة وأريد بذلك على ما قاله الحافظ عربية قريش التي نزل بها القرآن وإلا فاللغة العربية مطلقا كانت قبل إسماعيل عليه السلام وكانت لغة حمير وقحطان وقال محمد بن سلام : أخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال : العرب كلها ولد إسماعيل إلا حميرا وبقايا جرهم وقد جاورهم وأصهر إليهم وذكر ابن كثير أن من العرب من ليس من ذريته كعاد وثمود وطسم وجديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم غيرهم لا يعلمهم
(12/172)

إلا الله سبحانه كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه وكان عرب الحجاز من ذريته وأما عرب اليمن وهم حمير فالمشهور كما قال ابن ماكولا : إنهم من قحطان واسمه مهزم وهو ابن هود وقيل : أخوه وقيل : من ذريته وقيل : قحطان هو هود وحكى ابن إسحاق وغيره أنه من ذرية إسماعيل والجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من ذريته عليه السلام وأن اللغة العربية مطلقا كانت قبله وهي إحدى اللغات التي علمها آدم عليه السلام وكان يتكلم بها وبغيرها أيضا وكثر تكلمه فيما قيل : بالسريانية وادعى بعضهم أنها أول اللغات وأن كل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفا أو إصلاحا واستدلوا على أسبقيتها وجودا بأن القرآن كلام الله تعالى وهو عربي وفيه ما فيه وهي أفضل اللغات حتى حكى شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بغيرها لمن يحسنها من غير حاجة وبعدها في الفضل على ما قيل : الفارسية الدرية حتى روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه جواز قراءة القرآن بها سواء في ذلك ما كان ثناءا كالإخلاص وغيره وسواء كانت عن عجز عن العربية أم لا وروي عن صاحبيه جواز القراءة في الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها و في النهاية والدراية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم
وقد عرض ذلك على النبي عليه الصلاة و السلام ولم ينكر عليه نعم الصحيح أن الإمام رجع عن ذلك وفي النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابه بالفارسية للشرنبلالي ما ملخصه : حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتبه بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته وحرمة مسه لغير الطاهر إتفاقا كقراءة وعدم صحة الصلاة بافتتاحها بالفارسية وعدم صحتها بالقراءة بها إذا كانت ثناءا واقتصاره عليها مع القدرة على العربية وعدم الفساد بما هو ذكر فسادها بما ليس ذكرا بمجرد قراءته ولا يخرج عن كونه أميا وهو يعلم الفارسية فقط وتصح الصلاة بدون قراءة للعجز عن العربية على الصحيح عند الإمام وصاحبيه وأطال الكلام في ذلك وفي معراج الدراية من تعمد قراءة القرآن أو كتابه بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوي والزنديق يقتل وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري ومع هذا لا ينكر فضل الفارسية ففي الحديث لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري وقد إشتهر ذلك لكن ذكر الذهبي في تاريخه عن سفيان أنه قال : بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية
وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي وآخرون عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي
وأخرج أبو الشيخ وابن مردوية عن أبي هريرة ما يعضده ولا يخفى على الخبير بمزايا الكلام أن في الكلام العربي من لطائف المعاني ودقائق الأسرار ما لا يستقل بأدائه لسان ويليه في ذلك الكلام الفارسي فإن كان هذا مدار الفضل فلا ينبغي أن يتنازع إثنان في أفضلية العربي ثم الفارسي مما وصل إلينا من اللغات وإن كان شيئا آخر فالظاهر وجوده في العربي الذي إختاره سبحانه إنزال القرآن به لا غير وقد قسم لنبينا
(12/173)

صلى الله تعالى عليه وسلم من هذا اللسان ما لم يقسم لأحد من فصحاء العرب فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : يا رسول الله مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا قال : كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها وأخرج البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبيه من حديث فيه طول قال رجل : يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك قال : حق لي فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين هذا وجوز أن يكون العربي منسوبا إلى عربة وهي ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر : وعربة أرض ما يحل حرامها من الناس إلا اللوذعي الحلاحل والمراد لغة أهل هذه الناحية واستدل جماعة منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر بوصف القرآن بكونه عربيا على أنه لا معرب فيه وشدد الشافعي النكير على من زعم وقوع ذلك فيه وكذا أبو عبيدة فإنه قال : من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول
ووجه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس : وغيره في تفسير ألفاظ منه أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية كذا بأن ذلك مما إتفق فيه توارث اللغات وقال غيره : بل كان للعرب التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لأهل سائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاورتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن
وقال آخرون : كل تلك الألفاظ عربية صرفة ولكن لغة العرب متسعة جدا ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الأجلة وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح ومن هنا قال الشافعي في الرسالة : لا يحيط باللغة إلا نبي
وذهب جمع إلى وقوع غير العربي فيه وأجابوا عن الآية بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن العربية فالقصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بلفظة عربية
وقال غير واحد : المراد أنه عربي الأسلوب واستدلوا بإتفاق النحاة على أن منع صرف نحو إبراهيم للعلمية والعجمة ورد بأن الأعلام ليست محل خلاف وإنما الخلاف في غيرها وأجيب بأنه إذا إتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس ونظر فيه واختر الجلال السيوطي القول بالوقوع واستدل عليه بما صح عن أبي ميسرة التابعي الجليل أنه قال : في القرآن من كل لسان وروي مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه
وذكر أن حكمة وقوع تلك الألفاظ فيه أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها إستعمالا للعرب وأيضا لما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرسلا إلى كل أمة ناسب أن يكون في كتابه المبعوث به من لسان كل قوم شيء وقد أشار إلى الوجه الأول ابن النقيب
وقال أبو عبدالله القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء : والمنع عن أهل العربية الصواب تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها عجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن وقد إختلطت هذه الأحرف بكلام العرب فمن قال : إنها عربية فهو صادق ومن قال : إنها عجمية فهو صادق ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجزري وآخرون وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام ما يتعلق بهذا المبحث أيضا فليتفطن وليتأمل
(12/174)

واحتج الجبائي بالآية على كون القرآن مخلوقا من أربعة أوجه : الأول وصفه بالإنزال والقديم لا يجوز عليه ذلك الثاني وصفه بكونه عربيا والقديم لا يكون عربيا ولا فارسيا الثالث أن قوله تعالى : إنا أنزلناه قرآنا عربيا يدل على أنه سبحانه قادر على إنزاله غير عربي وهو ظاهر الدلالة على حدوثه
الرابع أن قوله عز شأنه : تلك آيات الكتاب يدل على تركبه من الآيات والكلمات وكل ما كان مركبا كان محدثا ضرورة أن الجزء الثاني غير موجود حال وجود الجزء الأول
وأجاب الأشاعرة عن ذلك كله بأن قصارى ما يلزم منه أن المركب من الحروف والكلمات محدث وذلك مما لا نزاع فيه والذي ندعي قدمه شيء آخر نسميه الكلام النفسي وهو مما لا يتصف بالإنزال ولا بكونه عربيا ولا غيره ولا بكونه مركبا من الحروف ولا غيرها وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هنا فلا تغفل
لعلكم تعقلون
2
- أي لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه من البدائع أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أنه خارج عن طوق البشر مشتمل على ما يشهد له أنه منزل من عند خلاق القوى والقدر وهذا بيان لحكمة إنزاله بتلك الصفة وصرح غير واحد أن لعل مستعملة بمعنى لام التعليل على طريق الإستعارة التبعية ومراده من ذلك ظاهر وجعلها للرجاء من جانب المخاطبين وإن كان جائزا لا يناسب المقام
وزعم الجبائي أن المعنى أنزله لتعقلوا معانيه في أمر الدين فتعرفوا الأدلة الدالة على توحيده وما كلفكم به وفيه دليل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح من حصل منه ذلك ومن لم يحصل وفيه أنه بمعزل عن الإستدلال به على ما ذكر كما لا يخفى نحن نقص عليك أي نخبرك ونحدثك من قص أثره إذا إتبعه كأن المحدث يتبع ما حدث به وذكره شيئا فشيئا ومثل ذلك تلى أحسن القصص أي أحسن الإقتصاص فنصبه على المصدرية إما لإضافته إلى المصدر أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في إقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل والمفعول به محذوف أي مضمون هذا القرآن والمراد به هذه السورة وكذا في قوله عز و جل : بما أوحينا أي بسبب إيحائنا
إليك هذا القرآن والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الإقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو ولعل كلمة هذا للإيماء إلى تعظيم المشار إليه
وقيل : فيها إيماء إلى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى : قرآنا عربيا بأن يكون المراد بذلك المجموع وفيه تأمل وأحسنيته لأنه قد قص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين وجوز أن يكون هذا المذكور مفعول نقص
وصرح غير واحد أن الآية من باب تنازع الفعلين والمذهب البصري أولى هنا أما لفظا فظاهر وأما معنى فلأن القرآن كما سمعت السورة وإيقاع الإيحاء عليها أظهر من إيقاع نقص باعتبار إشتمالها على القصة وما هو أظهر بإعمال صريح الفعل فيه وفيه من تفخيم القرآن وإحضار ما فيه من الإعجاز وحسن البيان ما ليس في إعمال نقص صريحا وجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم ويجوز أن يكون أحسن مفعولا به لنقص والقصص : إما فعل بمعنى مفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمي به المفعول كالخلق والصيد أي نقص
(12/175)

عليك أحسن ما يقص من الأنباء وهي قصة آل يعقوب عليه السلام ووجه أحسنيتها إشتمالها على حاسد ومحسود ومالك ومملوك وشاهد ومشهود وعاشق ومعشوق وحبس وإطلاق وخصب وجدب وذنب وعفو وفراق ووصال وسقم وصحة ورحل وارتحال وذل وعز وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدره وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم إجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا وأن االحسد سبب الخذلان والنقصان وأن الصبر مفتاح الفرج وأن التدبير من العقل وبه يصلح أمر المعاش إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير
وقيل : إنما كانت أحسن لأن غالب من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة وقيل : المقصود أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية لا قصة آل يعقوب فقط والمراد بهذا القرآن ما إشتمل على ذلك و أحسن ليس أفعل تفضيل بل هو بمعنى حسن كأنه قيل : حسن القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي القصص الحسن والقول عليه عند الجمهور ما ذكرنا قيل : ولكونها بتلك المثابة من الحسن تتوفر الدواعي إلى نقلها ولذا لم تتكرر كغيرها من القصص وقيل : سبب ذلك من إفتتان امرأة ونسوة بأبدع الناس جمالا ويناسب ذلك عدم التكرار لما فيه من الإغضاء والستر وقد صح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف وقال الأستاذ أبو إسحاق : إنما كرر الله تعالى قصص الأنبياء وساق هذه القصة مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم : إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص وهو وجه حسن إلا أنه يبقي على أن تخصيص سورة يوسف لذلك يحتاج إلى بيان فإن سوق قصة آدم عليه السلام مثلا مساقا واحدا يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا بعين ما ذكر وقال الجلال السيوطي : ظهر لي وجه في سوقها كذلك وهو أنها نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من الإستيعاب وترويح النفس بالإحاطة ولا يخفى ما فيه وكأنه لذلك قال : وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم الحاجة داعية إلى ذلك كتكرير تكذيب الكفار للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فكلما كذبوا أنزلت قصة منذرة بحلول العذاب كما حل بالمكذبين ولهذا قال سبحانه في آيات : فقد مضت سنة الأولين أو لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك وبهذا أيضا يحصل الجواب عن تكرير قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وقصة موسى مع الخضر وقصة الذبيح ثم قال : فإن قلت : قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى عليهما السلام مرتين وليستمن قبيل ما ذكرت قلت الأولى في سورة كهيعص وهي مكية أنزلت خطابا لأهل مكة والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية أنزلت خطابا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا إتصل بهذا ذكر المحاجة والمباهلة أه
واعترض بأن قصة آدم عليه الصلام كررت مع أنه ليس المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم وأجيب بأنها وإن لم يكن المقصود بها إفادة ما ذكر إلا أن فيها من الزجر عن المعصية ما فيها فهي أشبه قصة بتلك القصص التي كررت لذلك فافهم وإن كنت من قبله أي قبل إيحائنا إليك ذلك لمن الغافلين
3
- عنه لم يخطر ببالك ولم يقرع سمعك وهذا تعليل لكونه موحي كما ذكره بعض المحققين والأكثر في مثله ترك
(12/176)

الواو والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا العدول عن لغافلا إلى ما في النظم الجليل عند بعض ويمكن أن يقال : إن الشيء إذا كان بديعا وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه قيل للمخاطب : كنت عن هذا غافلا فيجوز أن يقصد الإشارة إلى غرابة تلك القصة فيكون كالتأكيد لما تقدم إلا أنه فيه ما لا يخفى وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام فارقة وجملة كنت إلخ خبر إن إذ قال يوسف نصب بإضمار اذكر بناءا على تصرفها وذكر الوقت كناية عن ذكر ما حدث فيه والكلام شروع في إنجاز ما وعد سبحانه وحكى مكي أن العامل في إذ الغافلين
وقال ابن عطية : يجوز أن يكون العامل فيها نقص وروي ذلك عن الزجاج على معنى نقص عليك الحال إذ إلخ وهي للوقت المطلق المجرد عن إعتبار المضي وفي كلا الوجهين ما فيه
واستظهر أبو حيان بقاءها على معناها الأصلي وأن العامل فيها قال يا بني كما تقول : إذ قام زيد قام عمرو ولا يخلو عن بعد وجوز الزمخشري كونها بدلا من أحسن القصص على تقدير جعله مفعولا به وهو بدل إشتمال وأورد أنه إذا كان بدلا من المفعول يكون الوقت مقصوصا ولا معنى له وأجيب بأن المراد لازمه وهو إقتصاص قول يوسف عليه السلام فإن إقتصاص وقت القول ملزوم لإقتصاص القول
واعترض بأنه يكون بدل بعض أو كل لااشتمال وأجيب بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان الوقت بمعنى القول وهو إما عين المقصوص أو بعضه أو لو بقي على معناه وجعل مقصوصا باعتبار ما فيه فلا يرد الإعتراض
هذا ولم يجوزوا البدلية على تقدير نصب أحسن القصص على المصدرية وعلل ذلك بعدم صحة المعنى حينئذ وبقيام المانع عربية أما الأول فلأن المقصوص في ذلك الوقت لا الإقتصاص وأما الثاني فلأن أحسن الإقتصاص مصدر فلو كان الظرف بدلا وهو المقصود بالنسبة لكان مصدرا أيضا وهو جائز لعدم صحة تأويله بالفعل وأورد على هذا أن المصدر كما يكون ظرفا نحو أتيتك طلوع الشمس يكون الظرف أيضا مصدرا ومفعولا مطلقا لسده مسد المصدر كما في قوله :
لم تغتمض عيناك ليلة أرمد
فإنهم صرحوا ةكما في التسهيل وشروحه أن ليلة مفعول مطلق أي إغتماض ليلة وما ذكر من حديث التأويل بالفعل فهو من الأوهام الفارغة نعم إذا ناب عن المصدر ففي كونه بدل إشتمال شبهة وهو شيء آخر غير ما ذكر وعلى الأول أنه و إن لم يشتمل الوقت على الإقتصاص فهو مشتمل على المقصوص فلم لم تجز البدلية بهذه الملابسة ورد بأن مثل هذه الملابسة لا تصحح البدلية ونقل عن الرضي أن الإشتمال ليس كاشستمال الظرف على المظروف بل كونه دالا عليه إجمالا ومتقاضيا له يوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى الثاني منتظرة له فيجيء الثاني مبينا لما أجمل فيه فإن لم يكن كذلك يكن بدل غلظ وعلى هذا يقال في عدم صحة البدلية : إن النفس إنما تتشوق لذكر وقت الشيء لا لذكر وقت لازمه ووقت القول ليس وقتا للإقتصاص و يوسف علم أعجمي لا عربي مشتق من الأسف وسمي به لأسف أبيه عليه أو أسفه على أبيه أو أسف من يراه على مفارقته لمزيد حسنه كما قيل وإلا لانصرف لأنه ليس فيه غير العلمية ولا يتوهمن أن فيه وزن الفعل أيضا إذ ليس لنا فعل مضارع مضموم الأول والثالث وكذا يقال في يونس وقريء بفتح السين وكسرها على ما هو الشائع في الأسماء الأعجمية من التغيير لا على أنه مضارع بني للمفعول أو للفاعل من آسف لأن القراءة المشهورة شهدت بعجميته ولا يجوز أن يكون أعجميا وغير أعجمي قاله غير واحد لكن
(12/177)

وفي الصحاح أن يغفر ولد الأسود الشاعر إذا قلته بفتح الياء لم تصرفه لأنه مثل يقتل
وقال يونس : سمعت رؤبة يقول : أسود بن يعفر بضم الياء وهذا ينصرف لأنه قد زال عنه شبه الفعل أه
وصرحوا بأن هذا مذهب سيبويه وأن الأخفش خالفه فمنع صرفه لعروض الضم للإتباع وعلى هذا يحتمل أن يقال : إنه عربي ومنع من الصرف على قراءة الفتح والكسر للعلمية ووزن الفعل وكذا على قراءة الضم بناء على ما يقوله الأخفش ويلتزم كونه ضم ثالثه إتباعا لضم أوله وأجيب بأنه لو كان عربيا لوقع فيه الخلاف كما وقع في يعفر والظاهر أن أعجميته متحققة عندهم ولذا إلتزموا منعه من الصرف لها وللعلمية ولا إلتفات لذلك الإحتمال
وقرأ طلحة بن مصرف يؤسف بالهمز وفتح السين وقد جاء فيه الضم والكسر مع الهمز أيضا فيكون فيه ست لغات لأبيه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن ضوء الصباح عمودا يا أبت أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في كون كل منهما من حروف الزيادة ويضم إلى الإسم في آخره ولهذا قلبها هاءا في الوقف ابن كثير وابن عامر وخالف الباقون فأبقوها تاءا في الوقف وكسرت لأنها عوض عن الياء التي هي أخت الكسرة فحركت بحركة تناسب أصلها لا لتدل على الياء ليكون ذلك كالجمع بين عوضين أو بين العوض والمعوض وجعل الزمخشري هذه الكسرة كسرة الياء زحلقت إلى التاء لما فتح ما قبلها للزوم فتح ما قبل التأنيث وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج بفتحها لأن أصلها وهو الياء إذا حرك حرك بالفتح وقيل : لأن أصل يا أبت يا أبتا بأن قلبت الياء ألفا ثم حذفت وأبقيت فتحتها دليلا عليها وتعقب بأن يا أبتا ضعيف كيا أبتي حتى قيل : إنه يختص بالضرورة كقوله
يا أبتا علك أو عساك
وقال الفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم : إن الألف المحذوفة من يا أبتا للندبة ورد بأن الموضع ليس موضع ندبة وعن قطرب أن الأصل يا أبة بالتنوين فحذف والنداء باب حذف ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب نحو يا ضاربا رجلا وقريء بضم التاء إجراءا لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير إعتبار التعويض وأنت تعلم أن ضم المنادى المضاف شاذ وإنما لم تسكن مع أن الباء التي وقعت هي عوضا عنها تسكن لأنها حرف صحيح منزل منزلة الإسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب
وزعم بعضهم أن الياء أبدلت تاءا لأنها تدل على المبالغة والتعظيم في نحو علامة ونسابة والأب والأم مظنة التعظيم فعلى هذا لا حذف ولا تعويض والتاء حينئذ لإسم فقد صرحوا أن الإسم إذا كان على حرف واحد وأبدل لا يخرج عن الإسمية وقال الكوفيون : إن التاء لمجرد التأنيث وياء الإضافة مقدرة ويأباه عدم سماع يا أبتي في السعة وكذا سماع فتحها على ما قيل وتعقب بأن تاء لات للتأنيث عند الجمهور وكذا تاء ربت وثمت
(12/178)

وهي مفتوحة إني رأيت أي في المنام كما يقتضيه كلام ابن عباس وغيره وكذا قوله سبحانه : لا تقصص رؤياك و هذا تأويل رؤياي فإن مصدر رأى الحلمية الرؤيا ومصدر البصرية الرؤية في المشهور ولذا خطيء المتنبي في قوله
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
وذهب السهيلي وبعض اللغويين إلى أن الرؤيا سمعت من العرب بمعنى الرؤية ليلا ومطلقا واستدل بعضهم لكون رأى حلمية بأن ذلك لو وقع يقظة وهو أمر خارق للعادة لشاع وعد معجزة ليعقوب عليه السلام أو إرهاصا ليوسف عليه السلام وأجيب بأنه يجوز أن يكون في زمان يسير من الليل والناس غافلون والحق أنها حلمية ومثل هذا الإحتمال مما لا يلتفت إليه
وقرأ أبو جعفر إني بفتح الياء أحد عشر كوكبا وهي جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفيلق والمصبح والفزع ووثاب وذو الكتفين والضروج فقد روي عن جابر أن سنانا اليهودي جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال عليه الصلاة و السلام : هل أنت مؤمن إن أخبرتك قال : نعم فعد صلى الله عليه و سلم ما ذكر فقال اليهودي : أي والله إنها لأسماؤها
وأخرج السهيلي عن الحرث بن أبي أسامة نحو ذلك إلا أنه ذكر النطح بدل المصبح وأخرج الخبر الأول جماعة من المفسرين وأهل الأخبار وصححه الحاكم وقال : إنه على شرط مسلم وقال أبو زرعة وابن الجوزي : إنه منكر موضوع
وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان وغيرهما أحد عشر بسكون العين لتوالي الحركات وليظهر جعل الإسمين إسما واحدا والشمس والقمر عطف على ما قبل
وزعم بعضهم أن الواو للمعية وليس بذاك وتخصيصهما بالذكر وعدم الإندراج في عموم الكواكب لإختصاصهما بالشرف وتأخيرهما لأن سجودهما أبلغ وأعلى كعبا فهو من باب لا يعرفه فلان ولا أهل بلده وتقدم الشمس على القمر لما جرت عليه عادة القرآن إذا جمع الشمس والقمر وكان ذلك إما لكونها أعظم جرما وأسطع نورا وأكثر نفعا من القمر وإما لكونها أعلى مكانا منه وكون فلكها أبسط من فلكه على ما زعمه أهل الهيئة وكثير من غيرهم وإما لأنها مفيضة النور وعليه كما ادعاه غير واحد واستأنس له بقوله سبحانه : هو الذي جعل الشمس ضياءا والقمر نورا وإنما أورد الكلام على هذا الأسلوب ولم يطو ذكر العدد لأن المقصود الأصلي أن يتطابق المنام ومن هو في شأنهم وبترك العدد يفوت ذلك رأيتهم لي سجدين
4
- إستظهر في البحر أن رأيتهم تأكيد لما تقدم تطرية للعهد كما في قوله تعالى : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون واختار الزمخشري التأسيس وأن الكلام جواب سؤال مقدر كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها فقال : رأيتهم لي ساجدين وكأنه لا يرى أن رأى الحلمية مما تتعدى إلى مفعولين كالعلمية ليلتزم كون المفعول الثاني للفعل الأول محذوفا ويرى أنها تتعدى لواحد كالبصرية فلا حذف و ساجدين حال عنده كما يشير إليه كلامه والمشهور عند الجمهور أنها تتعدى إلى مفعولين ولا يحذف ثانيهما إقتصارا
وجوز أن يكون مذهبه القول بالتعدي إلى ما ذكر إلا أنه يقول بجواز ما منعوه من الحذف وأنت تعلم
(12/179)

أن ما استظهره في البحر سالم عن المخالفة والنظرية أمر معهود في الكتاب الجليل وإنما أجريت هذه المتعاطفات مجرى العقلاء في الضمير جمع الصفة لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود سواء كان المراد منه التواضع أو السجود الحقيقي وإعطاء الشيء الملابس لآخر من بعض الوجوه حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة والمقاربة شائع في الكلام القديم والحديث وفي الكلام على ما قيل : إستعارة مكنية بتشديد المذكورات بقوم عقلاء ساجدين والضمير والسجود قرينة أو أحدهما قرينة تخييلية والآخر ترشيح
وذهب جماعة من الفلاسفة إلى أن الكواكب أحياء ناطقة واستدل لهم بهذه الآية ونظائرها وكثير من ظواهر الكتاب والسنة يشهد لهم وليس في القول بذلك إنكار ما هو من ضروريات الدين وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والإهتمام مع ما في ضمنه على ما قيل : من رعاية الفواصل وكانت هذه الرؤيا فيما قيل : ليلة الجمعة وأخرج أبو الشيخ عن ابن منبه أنها كانت ليلة القدر ولعله لا منافاة لظهور إمكان كون ليلة واحدة ليلة القدر وليلة الجمعة واستشكل كونها في ليلة القدر بأنها من خواص هذه الأمة وأجيب بأن ما هو من الخواص تضعيف ثواب العمل فيها إلى ما قص الله سبحانه وكان عمره عليه السلام حين رأى ذلك إثنتي عشرة سنة فيما يروى عن وهب
وقيل : سبع عشرة سنة وكان قد رأى قبل وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى إقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لأخوتك وتعبير العصى لأحدى عشرة وهو بعينه تعبيرا لأحد عشر كوكبا فإن كلا منهما إشارة إلى إخوته وليس في الرؤية الأولى ما يشير إلى ما يشير إليه الشمس والقمر في الرؤية الثانية ولا ضرورة إلى التزام القول بإتحاد المنامين بأن يقال : إنه عليه السلام رأى في كل أحد عشر شيئا إلا أن ذلك في الأول عصى وفي الثاني كواكب ويكون عطف الشمس والقمر على ما قبله من قبيل عطف ميكائيل وجبريل عليهما السلام على الملائكة كما يوهمه كلام بعضهم وعبرت الشمس بأبيه والقمر بأمه إعتبارا للمكان والمكانة
وروي ذلك عن قتادة وعن السدي أن القمر خالته لأن أمه راحيل قد ماتت والقول : بأن الله تعالى أحياها بعد لتصديق رؤياه لا يخفى حاله وعن ابن جريج أن الشمس أمه والقمر أبوه وهو إعتبار للتأنيث والتذكير وقد تعبر الشمس بالملك وبالذهب وبالزوجة الجميلة والقمير بالأمير والكواكب بالرؤساء وكذا بالعلماء أيضا
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن رؤية القمر تؤول علىأحد سبعة عشر وجها ملك أو وزير أو نديم الملك أو رئيس أو شريف أو جارية أو غلام أو أمر باطل أو وال أو عالم مفسد أو رجل معظم أو والد أو والدة أو زوجة أو بعل لها أو ولد أو عظمة ولعل ذلك مبني على إختلاف الرائي وكيفية الرؤية وزعم بعضهم أنه عليه السلام لم يكن رأى الكواكب ولا الشمس والقمر وإنما رأى إخوته وأبويه إلا أنه عبر عنهم بذلك على طريقة الإستعارة التصريحة وهو خلاف الظاهر جدا ويكاد يعد من كلام النائم ويؤيد ظاهر ما نقله كثير من المفسرين أنه عليه السلام رأى الكواكب والشمس والقمر قد نزلت فسجدت له فقص ذلك على أبيه قال يا بني صغره للشفقة ويسمي النحاة مثل هذا تصغير التحبيب وما ألطف قول بعض المتأخرين :
(12/180)

قد صغر الجوهر في ثغره لكنه تصغير تحبيب ويحتمل أن يكون لذلك لصغر السن وفتح الياء قراءة حفص وقرأ الباقون بكسرها والجملة إستئناف مبني على سؤال كأنه قيل : فماذا قال الأب بعد سماع هذه الرؤية العجيبة من إبنه فقيل : قال : يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا أي فيحتالوا لإهلاكك حيلة عظيمة لا تقدر على التفصي عنها أو خيفة لا تتصدى لمدافعتها وإنما قال له ذلك لما أنه عليه السلام عرف من رؤياه أن سيبلغه الله تعالى مبلغا جليلا من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الأخوة وبغيهم فقال له ذلك صيانة لهم من الوقوع فيما لا ينبغي في حقه وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان وإن كان واثقا بأنهم لا يقدرون على تحويل ما دلت عليه الرؤيا وأنه سبحانه سيحقق ذلك لا محالة وطمعا في حصوله بلا مشقة وليس ذلك من الغيبة المحظورة في شيء والرؤيا مصدر رأى الحلمية الدالة على ما يقع في النوم سواء كان مرئيا أم لا على ما هو المشهور والرؤية مصدر رأى البصرية الدالة على إدراك مخصوص وفرق بين مصدر المعنيين بالتأنيثين ونظير ذلك القربة للتقرب المعنوي بعبادة ونحوها والقربى للتقرب النسبي وحقيقتها عند أهل السنة كما قال محي الدين النووي نقلا عن المازني : إن الله سبحانه يخلق في قلب النائم إعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه يخلق ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة وقد جعل سبحانه تلك الإعتقادات علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال ثم إن ما يكون علما على ما يسر يخلقه بغير حضرة الشيطان وما يكون علما على ما يضر يخلقه بحضرته ويسمى الأول رؤيا وتضاف إليه تعالى إضافة تشريف والثاني حلما تضاف إلى الشيطان كما هو الشائع من إضافة الشيء المكروه إليه وإن كان الكل منه تعالى وعلى ذلك جاء قوله صلى الله عليه و سلم : الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله تعالى فليحمد الله تعالى وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ومن شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره
وصح عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ولا يبعد جعل الله تعالى ما ذكر سببا للسلامة عن المكروه كما جعل الله الصدقة سببا لدفع البلاء وإن لم نعرف وجه مدخلية البصق عن اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه مثلا في السببية وقيل : هي أحاديث الملك الموكل بالأرواح إن كانت صادقة ووسوسة الشيطان والنفس إن كانت كاذبة ونسب هذا إلى المحدثين وقد يجمع بين القولين بأن مقصود القائل بأنها إعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب إلخ أنها إعتقادات تخلق كذلك بواسطة حديث الملك أو بواسطة وسوسة الشيطان مثلا والمسببات في المشهور عن الأشاعرة مخلوقة له تعالى عند الأسباب لا بها فتدبر
وقال غير واحد من المتفلسفة هي إنطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك ثم إن المتخيلة تحاكية بصورة تناسبها فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزيئة إستغنت عن التعبير وإلا احتاجت إليه
(12/181)

وذكر بعض أكابر الصوفية ما يقرب من هذا وهو : إن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط فيظهر فيه صورة تناسبها وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ وقد يكون سبب توجه النفس بالقوة الوهمية إلى إيجاد صورة من الصور كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه تخيلا قويا فتظهر صورته في خياله فيشاهده وهي أول مبادي الوحي الإلهي في أهل العناية لأن الوحي لا يكون إلا بنزول الملك وأول نزوله في الحضرة الخيالية ثم الحسية وقد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : أول ما بديء به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح والمرئي على ما قال بعضهم : سواء كان على صورته الأصلية أولا قد يكون بإرادة المرئي وقد يكون بإرادة الرائي وقد يكون بإرادتهما معا وقد يكون لا بإرادة من شيء منهما فالأول كظهور الملك على نبي من الأنبياء عليهم السلام في صورة من الصور وظهور الكمل من الأناسي على بعض الصالحين في صور غير صورهم والثاني كظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل إياه إلى عالمه ليكشف معنى ما مختصا علمه به والثالث كظهور جبريل عليه السلام للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإنزاله إياه وبعث الحق سبحانه إياه صلى الله تعالى عليه وسلم والرابع كرؤية زيد مثلا صورة عمرو في النوم من غير قصد وإرادة منهما وكانت رؤية يوسف عليه السلام من هذا القسم لظهور أنها لو كانت بإرادة الأخوة لعلموا فلم يكن للنهي عن الإقتصاص معنى ويشير إلى أنها لم تكن بقصده قوله بعد : قد جعلها ربي حقا
هذا والمنقول عن المتكلمين أنها خيالات باطلة وهو من الغرابة بمكان بعد شهادة الكتاب والسنة بصحتها ووجه ذلك بعض المحققين بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا بطل فلا ينافي حقية ذلك بمعنى كونه إمارة لبعض الأشياء كذلك الشيء نفسه أو ما يضاهيه ويحاكيه وقد مر الكلام في ذلك فتيقظ
والمشهور الذي تعاضدت فيه الروايات أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ووجه ذلك عند جمع أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بقي حسبما أشارت عائشة رضي الله تعالى عنها ستة أشهر يرى الوحي مناما ثم جاء الملك يقظة وستة أشهر بالنسبة إلى ثلاث وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءا
وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه عليه الصلاة و السلام على ستة وأربعين نوعا : مثل النفث في الروع وتمثل الملك بصورة دحية رضي الله تعالى عنها مثلا وسماعه مثل صلصلة الجرس إلى غير ذلك ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال وذكر الحافظ العسقلاني أن كون الرؤيا الصادقة جزء من كذا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك وقد تقدم لك أن في بعض الروايات ما فيه مخالفة لما في هذه الرواية من عدة الأجزاء ولعل المقصود من كل ذلك على ما قيل : مدح الرؤيا الصادقة والتنويه برفعة شأنها لا خصوصية العدد ولا حقيقة الجزيئة
وقال ابن الأثير في جامع الأصول : روى قليل أنها جزء من خمسة وأربعين جزءا له وجه مناسبة بأن عمره صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستكمل ثلاثا وستين بأن يكون توفي عليه الصلاة و السلام بأثناء السنة الثالثة والستين
(12/182)

ورواية أنها جزء من أربعين جزءا تكون محمولة على كون عمره عليه الصلاة و السلام ستين وهو رواية لبعضهم وروي أنها جزء من سبعين جزءا ولا أعلم لذلك وجها أه
وأنت تعلم أن سبعين كثيرا ما يستعمل في التكثير فلعله هو الوجه والغرض الإشارة إلى كثرة أجزاء النبوة فتدبر والمراد ياخوته ههنا على ما قيل : الأخوة الذين يخشى غوائلهم ومكايدهم من بني علانة الأحد عشر وهم يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وريالون ويشجر ودينه بنو يعقوب من ليا بنت ليان بن ناهر وهي بنت خالته ودان ويفتالي وجاد وآشر بنوه عليه السلام من سريتين له زلفة وبلهة وهم المشار إليهم بالكواكب وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف عليه السلام وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب عليه السلام بعد وفات أختها ليا أو في حياتها إذ لم يكن جمع الأختين إذ ذاك محرما فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا تتوهم مضرته ولا تخشى معرته ولم يكن معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود
وتعقب بأن المشهود أن بني علاتة عليه السلام عشرة وليس فيهم من إسمه دينه ومن الناس من ذكر ذلك في عداد أولاد يعقوب إلا أنه قال : هي أخت يوسف وبناء الكلام عليه ظاهر الفساد بل لا تكاد تدخل في الأخوة إلا بإعتبار التغليب لأنه جمع أخ فهو مخصوص بالذكور فلعل المختار أن المراد من الأخوة ما يشمل الأعيان والعلات ويعد بنيامين بدل دينه إتماما لأحد عشر عدة الكواكب المرئية والنهي عن الإقتصاص عليه وإن لم يكن ممن تخشى غوائله من باب الإحتياط وسد باب الإحتمال ومما ذاع كل سر جاوز الإثنين شاع ويلتزم القول بوقوع السجود منه كسائر أهله وإسناد الكيد إلى الأخوة باعتبار الغالب فلا إشكال كذا قيل وهو على علاته أولى مما قيل : إن المراد بإخوته ما لا يدخل تحته بنيامين ودينه لأنهما لا تخشى معرفتهما ولا يتوهم مضرتهما فهم حينئذ تسعة وتكمل العدة بأبيه وأمه أو خالته ويكون عطف الشمس والقمر من قبيل عطف جبريل وميكائيل على الملائكة وفيه من تعظيم أمرهما ما فيه أن في ذلك ما فيه ونصب يكيدوا بأن مضمرة في جواب النهي وعدي باللام مع أنه مما يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى : فكيدوني لتضمينه ما يتعدى بها وهو الإحتيال كما أشرنا إليه وذلك لتأكيد المعنى بإفادة معنى الفعلين المتضمن والمضمن جميعا ولكون القصد إلى التأكيد والمقام مقامه أكد الفعل بالمصدر وقرر بالتعليل بعد وجعل اللام زائدة كجعله مما يتعدى بنفسه وبالحرف خلاف الظاهر وقيل : إن الجار والمجرور من متعلقات التأكيد على معنى فكيدوا كيدا لك وليس بشيء وجعل بعضهم اللام للتعليل على معنى فيفعلوا لأجلك وإهلاكك كيدا راسخا أو خفيا وزعم أن هذا الأسلوب آكد من أن يقال : فيكيدوك كيدا إذ ليس فيه دلالة على كون نفس الفعل مقصود الإيقاع وفيه نوع مخالفة للظاهر أيضا فافهم
وقرأ الجمهور رؤياك بالهمز من غير إمالة والكسائي رؤياك بالإمالة وبغير همز وهي لغة أهل الحجاز إن الشيطان للإنسان أي لهذا النوع عدو مبين
5
- ظاهر العداوة فلا يألو جهدا في تسويل إخوتك وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على ما لا خير فيه وإن كانوا ناشئين في بيت النبوة والظاهر أن القوم كانوا
(12/183)

بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء والمسألة خلافية فالذي عليه الأكثرون سلفا وخلفا أنهم لم يكونوا أنبياء أصلا أما السلف فلم ينقل عن الصحابة منهم أنه قال بنبوتهم ولا يحفظ عن أحد من التابعين أيضا وأما إتباع التابعين فنقل عن ابن زيد أنه قال بنبوتهم وتابعه شرذمة قليلة وأما الخلف فالمفسرون فرق : فمنهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي وابن كثير ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي ومنهم من لم يتعرض للمسألة لكن ذكر ما يشعر بعدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبيء من بني إسرائيل والمنزل إليهم بالمنزل إلى أنبيائهم كأبي الليث السمرقندي والواحدي ومنهم من لم يذكر شيئا من ذلك ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب فحسبه ناس قولا بنبوتهم وليس نصا فيه لإحتمال أن يريد بالأولاد ذريته لإبنيه لصلبه وذكر الشيخ ابن تيمية في مؤلف له خاص في هذه المسألة ما ملخصه : الذي يدل عليه القرآن واللغة والإعتبار أن إخوة يوسف عليه السلام ليسوا بأنبياء وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل ولا عن أحد من أصحابه رضي الله تعالى عنهم خبر بأن الله تعالى نبأهم وإنما احتج من قال : بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي البقرة والنساء : والأسباط وفسر ذلك بأولاد يعقوب والصواب أنه المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته كما يقال لهم : بنو إسرائيل وكما يقال لسائر الناس : بنو آدم وقوله تعالى : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل وكل سبط أمة وقد صرحوا بأن الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل وأصل السبط كما قال أبو سعيد الضرير : شجرة واحدة ملتفة كثيرة الأغصان فلا معنى لتسمية الأبناء الأثني عشر أسباطا قبل أن ينتشر عنهم الأولاد فتخصيص الأسباط في الآية ببنيه عليه السلام لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى ومن ادعاه فقد أخطأ بينا والصواب أيضا أنهم إنما سموا أسباطا من عهد موسى عليه السلام ومن حينئذ كانت فيهم النبوة فإنه لم يعرف نبي قبله إلا يوسف ومما يؤيد ذلك أنه سبحانه لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال : ومن ذريته داود وسليمان الآيات فذكر يوسف ومن معه ولم يذكر الأسباط ولو كان إخوة يوسف قد نبئوا كما نبيء لذكروا كما ذكر وأيضا إن الله تعالى ذكر للأنبياء عليهم السلام من المحامد والثناء ما يناسب النبوة وإن كان قبلها وجاء في الحديث أكرم الناس يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم نبي ابن نبي فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم وهو سبحانه لما قص قصتهم وما فعلوا بأخيهم ذكر إعترافهم بالخطيئة وطالبهم الإستغفار من أبيهم ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة وإن كان قبلها بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عمن ذنبه دون ذنبهم ولم يذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء قبل النبوة ولا بعدها أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة من عقوق الوالد وقطيعة الرحم وإرقاق المسلم وبيعه إلى بلاد الكفر والكذب البين إلى غير ذلك مما حكاه عنهم بل لو لم يكن دليل على عدم نبوتهم سوى صدور هذه العظائم منهم لكفى لأن الأنبياء معصومون عن صدور مثل ذلك قبل النبوة وبعدها عند الأكثرين وهي أيضا أمور لا يطيقها من هو دون البلوغ فلا يصح الإعتذار بأنها صدرت منهم قبله وهو لا يمنع الإستنباء بعد وأيضا ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر وهو أيضا مات بها لكن أوصى بنقله إلى الشام فنقله موسى عليه السلام ولم يذكر في القرآن أن أهل مصر قد جاءهم نبي قبل موسى غير يوسف ولو كان منهم نبي لذكر وهذا دون ما قبله في الدلالة كما لا يخفى
(12/184)

والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم إنما جاء في ظن أنهم هم الأسباط وليس كذلك إنما الأسباط أمة عظيمة ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال سبحانه ويعقوب وبنيه فإنه أبين وأوجز لكنه عبر سبحانه بذلك إشارة إلى أن النبوة حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطا من عهد موسى عليه السلام فليحفظ
هذا ولما نبه عليه السلام على أن لرؤياه شأنا عظيما وحذره مما حذره شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه إجمالي فقال : وكذلك يجتبيك ربك أي يصطفيك ويختارك للنبوة كما روي عن الحسن أو للسجود لك كما روي عن مقاتل أو لأمور عظام كما قال الزمخشري فيشمل ما تقدم وكذا يشمل إغناء أهله ودفع القحط عنهم ببركته وغير ذلك ولعل خير الأقوال وسطها وأصل الإجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك وفسروه بالإختيار لأنه إنما يجتبي ما يختار
وذكر بعضهم أن إجتباء الله تعالى العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من المكرمات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء عليهم السلام ومن يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين والمشار إليه بذلك إما الإجتباء لمثل تلك الرؤيا فالمشبه والمشبه به متغايران وإما لمصدر الفعل المذكور وهو المشبه والمشبه به وكذلك في محل نصب صفة لمصدر مقدر وقدم تحقيق ذلك وقيل هنا : إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وليس الأمر كذلك ولا يخفى ما في ذكر الرب مضافا إلى ضمير المخاطب من اللطف وإنما لم يصرح عليه السلام بتفاصيل ما تدل عليه الرؤيا حذرا من إذاعته على ما قيل ويعلمك ذهب جميع إلى أنه كلام مبتدأ غير داخل تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيد مقالته وتحقيقها وتوطين نفس يوسف عليه السلام بما أخبر به عن طريق التعبير والتأويل أي وهو يعلمك من تأويل الأحاديث أي ذلك الجنس من العلوم أو طرفا صالحا منه فتطلع على حقيقة ما أقول ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعث على تلقي ما سيأتي بالقبول وعلل عدم دخوله تحت التشبيه بأن الظاهر أن يشبه الإجتباء بالإجتباء والتعليم غير الإجتباء فلا يشبه به ونظر فيه بأن التعليم نوع من الإجتباء والنوع يشبه بالنوع وقيل : العلة في ذلك أنه يصير المعنى ويعلمك تعليما مثل الإجتباء بمثل هذه الرؤيا ولا يخفى سماجته فإن الإجتباء وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ولم يلاحظ في التعليم ذلك
وقال بعض المحققين : لا مانع من جعله داخلا تحت التشبيه على أن المعنى بذلك الإكرام بتلك الرؤيا أي كما أكرمك بهذه المبشرات يكرمك بالإجتباء والتعليم ولا يحتاج في ذلك إلى جعله تشبيهين وتقدير كذلك وأنت تعلم أن المنساق إلى الفهم هو العطف ولا بأس فيما قرره هذا المحقق لتوجيه نعم للإستئناف وجه وجيه وإن لم يكن المنساق إلى الفهم والظاهر أن المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا إذ هي إخبارات غيبية يخلق الله تعالى بواسطتها إعتقادات في قلب النائم حسبما يشاؤه ولا حجر عليه تعالى أو أحاديث الملك إن كانت صادقة أو النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك وذكر الراغب أن التأويل من الأول وهو الرجوع وذلك رد الشيء إلى المراد منه علما كان أو فعلا فالأول كقوله سبحانه : وما يعلم تأويله إلا الله والثاني كقوله
وللنوى قبل يوم البين تأويل
وجاء الأول بمعنى السياسة التي يراعى مآلها يقال : ألنا وايل علينا أه
وشاع التأويل في إخراج الشيء عن ظاهره و الأحاديث جمع تكسير لحديث على غير قياس كما قالوا :
(12/185)

باطل وأباطيل وليس بإسم جمع له لأن النحاة قد شرطوا في إسم الجمع أن لا يكون على وزن يختص بالجمع كمفاعيل وممن صرح بأنه جمع الزمخشري في المفصل وهو مراده من إسم الجمع في الكشاف فإنه كغيره كثيرا ما يطلق إسم الجمع على الجمع المخالف للقياس فلا مخالفة بين كلاميه وقيل : هو جمع أحدوثة ورد بأن الأحدوثة الحديث المضحك كالخرافة فلا يناسب هنا ولا في أحاديث الرسول عليه الصلاة و السلام أن يكون جمع أحدوثة وقال ابن هشام : الأحدوثة من الحديث ما يتحدث به ولا تستعمل إلا في الشر ولعل الأمر ليس كما ذكروا وقد نص المبرد على أنها ترد في الخير وأنشد قول جميل وهو مما سار وغار : وكنت إذا ما جئت سعدي أزورها أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها وقيل : إنهم جمعوا حديثا على أحدوثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع أو أقطعة وأقاطيع وكون المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا هو المروي عن مجاهد والسدي وعن الحسن أن المراد عواقب الأمور وعن الزجاج أن المراد بيان معاني أحاديث الأنبياء والأمم السالفة والكتب المنزلة
وقيل : المراد بالأحاديث الأمور المحدثة من الروحانيات والجسمانيات وبتأويلها كيفية الإستدلال بها على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته والكل خلاف الظاهر فيما أرى ويتم نعمته عليك بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة أو بأن يضم إلى النبوة المستفادة من الإجتباء الملك ويجعله تتمة لها أو بأن يضم إلى التعليم الخلاص من المحن والشدائد وتوسيط ذكر التعليم لكونه من لوازم النبوة والإجتباء ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي ولأن التعليم وسيلة إلى إتمام النعمة فإن تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك صار ذريعة إلى الخلاص من السجن والإتصال بالرياسة العظمى
وفسر بعضهم الإجتباء بإعطاء الدرجات العالية كالملك والجلالة في قلوب الخلق وإتمام النعمة بالنبوة وأيد بأن إتمام النعمة عبارة عما تصير به النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلا النبوة فإن جميع مناصب الخلق ناقصة بالنسبة إليها
وجوز أن تعد نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقا لها تماما لتلك النعمة ولا يخلو عن بعد وقيل : المراد من الإجتباء إفاضة ما يستعد به لكل خير ومكرمة ومن تعليم تأويل الأحاديث تعليم تعبير الرؤيا ومن إتمام النعمة عليه تخليصه من المحن على أتم وجه بحيث يكون مع خلاصه منها ممن يخضع له ويكون في تعليم التأويل إشارة إلى إستنبائه لأن ذلك لا يكون إلا بالوحي وفيه أن تفسير الإجتباء بما ذكر غير ظاهر وكون التعليم فيه إشارة إلى الإستنباء في حيز المنع وما ذكر من الدليل لا يثبته فإن الظاهر أن إخوته كانوا يعلمون التأويل وإلا لم ينهه أبوه عليه السلام عن إقتصاص رؤياه عليهم خوف الكيد وكونهم أنبياء إذ ذاك مما لم يذهب إليه ذاهب ولا يكاد يذهب إليه أصلا نعم ذكروا أنه لا يعرف التعبير كما لا ينبغي إلا من عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي تظهر في حضرة خيالاتهم بحسبها فإن أحكام الصورة الواحدة تختلف بالنسبة إلى الأشخاص المختلفة المراتب وهذا عزيز الوجود وقد ثبت الخطأ في التعبير من علماء أكابر فقد روى أبو هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إني رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل وأرى الناس يتكففون في أيديهم
(12/186)

فالمستكثر والمستقل وأرى سببا وأصلا من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا فقال أبو بكر رضي الله تعالى : أي رسول الله بأبي أنت وأمي والله لتدعني فلأعبرها فقال عليه الصلاة و السلام : عبرها فقال : أما الظلة فظلة الإسلام وأما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته وأما الستكثر والمستقل فالمستكثر من القرآن والمستقل منه وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله تعالى ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أصبت بعضا وأخطأت بعضا فقال : أقسمت بأبي وأمي لتحدثني يا رسول الله ما الذي أخطأت فقال عليه الصلاة و السلام : لا تقسم : أه اللهم إلا أن يدعي أن المراد التعليم على الوجه الأكمل بحيث لا يخطيء من يخطيء وهو يستدعى كون الرجل بحيث يعرف المناسبات ومراتب النفوس ويلتزم القول بأن ذلك لا يكون إلا نبيا واختير أن المراد بالإجتباء الإصفاء للنبوة وبتعليم التأويل ما هو الظاهر وبإتمام النعمة تخليصه من المكاره ويكون قوله عليه السلام : يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك إشارة إجمالية منه إلى تعبير الرؤيا كما لا يخفى على من له ذوق وهو أيضا متضمن للبشارة وهذا إرداف لها بما هو أجل في نظر يوسف عليه السلام ووجه توسيط التعليم عليه لا يخفى
وحاصل المعنى كما أكرمك بهذه المبشرة الدالة على سجود إخوتك لك ورفعة شأنك عليهم يكرمك بالنبوة والعلم الذي تعرف به تأويل أمثال ما رأيت وإتمام تعمته عليك وعلى آل يعقوب بالخلاص من المكاره وهي في حق يوسف عليه السلام مما لا يخفى وفي حق آل يعقوب والمراد بهم أهله من بنيه وغيرهم وأصله أهل وقيل : أول وقد حققناه في غير ما كتاب ولا يستعمل إلا فيمن له خطر مطلقا ولا يضاف لما لا يعقل ولو كان ذا خطر بخلاف أهل فلا يقال : آل الحجام ولا آل الحرم ولكن أهل الحجام وأهل الحرم نعم قد يضاف لما نزل منزلة العاقل كما في قول عبدالمطلب
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
وفيه رد على أبي جعفر الزبيدي حيث زعم عدم جواز إضافته إلى الضمير لعدم سماعه مضافا إليه ويعقوب كابنه إسم أعجمي لا إشتقاق له فما قيل : من أنه سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه عقب أخيه العيص غير مرضي عند الجلة الفاقة والقحط وتفرق الشمل وغير ذلك مما يعم أو يخص ومنهم من فسر الآل بالبنين وإتمام النعمة بالإستنباء وجعل حاصل المعنى يمن عليك وعلى سائر أبناء يعقوب بالنبوة واستدل بذلك على أنهم صاروا بعد أنبياء
وفي إرشاد العقل السليم أن رؤية يوسف عليه السلام إخوته كواكب يهتدي بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كمالاتهم بحسب ذلك تماما لتلك النعمة لا محالة وأنت تعلم أن ما ذكر لا يصلح دليلا على أنهم صاروا أنبياء لما علمت من الإحتمالات
(12/187)

والدليل إذا طرقه الإحتمال بطل به الإستدلال ورؤيتهم كواكب يهتدي بأنوارها بمعزل عن أن تكون دليلا علىأن مصيرهم إلى النبوة وإنما تكون دليلا على أن مصيرهم إلى كونهم هادين للناس وهو مما لا يلزمه النبوة فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : أصحابي كالنجوم بأبيهم إقتديتم إهتديتم ونحن لا ننكر أن القوم صاروا هادين بعد أن من الله تعالى عليهم بالتوبة بل هم لعمري حينئذ من أجلة أصحاب نبيهم وقد يقال أيضا : إنه لو دل رؤيتهم كواكب على أن مصيرهم إلى النبوة لكانت رؤية أمه قمرا أدل على ذلك ولا قائل به
وقال بعضهم : لا مانع من أن يراد بآل يعقوب سائر نبيه و بإتمام النعمة إتمامها بالنبوة لكن لا يثبت بذلك نبوتهم بعد لجواز أن يراد يتم نعمته عليك بالنبوة وعلى آل يعقوب بشيء آخر كالخلاص من المكروه مثلا وهذا كقولك : أنعمت على زيد وعلى عمرو وهو لا يقتضي أن يكون الإنعام عليهما من نوع واحد لصدق الكلام بأن يكون قد أنعمت على زيد بمنصب وعلى عمرو بإعطائه ألف دينار أو بتخليصه من ظالم مثلا وهو ظاهر
ورجح بعضهم حمل الآل على ما يعم الأبناء بأنه لو كان المراد الأبناء لكان الأظهر الأخصر وعلى إخوتك بدل ما في النظم الجليل وقيل : إنما إختار ذلك عليه لأنه يتبادر من الإخوة الإخوة الذي نهى عن الإقتصاص عليهم فلا يدخل بنيامين والمراد إدخاله وقيل : المراد بآل يعقوب أتباعه الذين على دينه
وقيل : يعقوب خاصة على أن الآل بمعنى الشخص ولا يخفى ما في القولين من البعد وأبعدهما الأخير ومن جعل إتمام النعمة إشارة إلى الملك جعل العطف بإعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال هذا
كمآ أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق أي إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك والإسمان الكريمان عطف بيان لأبويك والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه لأشعار بكمال إرتباطه بالأنبياء عليهم السلام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة وإما بإتخاذه خليلا وإما بإتجائه من نار عدوه وإما من ذبح ولده وإما بأكثر من واحد من هذه وعلى إسحاق إما بالنبوة أو بإخراج يعقوب من صلبه أو بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح وذهب إليه غير واحد وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه وأمر التشبيه على سائر الإحتمالات سهل إذ لا يجب أن يكون من كل وجه والإقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير تعرض للإجتباء من باب الإكتفاء كما قيل فإن إتمام النعمة يقتضي سابقة النعمة المستدعية للإجتباء لا محالة ومعرفته عليه السلام ولما أخبر مما لم تدل عليه الرؤيا إما بفراسة وكثيرا ما تصدق فراسة الوالد بولده كيفما كان الوالد فما ظنك بفراسته إذا كان نبيا أو بوحي وقد يدعي أنه إستدل بالرؤيا على كل ذلك إن ربك عليم بكل شيء فيعلم من يستحق المذكورات حكيم
6
- فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة فيفعل ما يفعل جريا على سنن علمه وحكمته والجملة 2 إستئناف لتحقيق الجمل المذكورة
لقد كان في يوسف وإخوته أي في قصصهم والظاهرة أن المراد بالإخوة هنا ما أريد بالإخوة فيما مر وذهب جمع إلى أنهم هناك بنو علاته وجوز أن يراد بهم ههنا ما يشمل من كان من الأعيان لأن لبنيامين أيضا حصة من القصة ويبعده على ما قيل : قالوا الآتي آيات علامات عظيمة الشأن دالة على عظيم قدرة
(12/188)

الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة للسآئلين
7
- لكل من سأل عن قصتهم وعرفها أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها المنتفعون بها دون عداهم ممن إندرج تحت قوله تعالى : وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون فالمراد بالقصة نفس المقصوص أو على نبوته عليه الصلاة و السلام الذين سألوه عن قصتهم حسبما علمت في بيان سبب النزول فأخبرهم صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك على ما هو عليه من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب فالمراد بالقصة إقتصاصها وجمع الآيات حينئذ قيل : للإشعار بأن اقتصاص كل طائفة من القصة آية بينة كافية في الدلالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : لتعدد جهة الإعجاز لفظا ومعنى وزعم بعض الجلة أن الآية من باب الإكتفاء والمراد آيات للذين يسألون والذين لا يسألون ونظير ذلك قوله سبحانه : سواء للسائلين وحسن ذلك لقوة دلالة الكلام على المحذوف وقال ابن عطية : إن المراد من السائلين الناس إلا أنه عدل عنه تحضيضا على تعلم مثل هذه القصة لما فيها من مزيد العبر وكلا القولين لا يخلو عن بعد
وقرأ أهل مكة وابن كثير ومجاهد آية على الإفراد وفي مصحف أبي عبرة للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه بنيامين وتخصيصه بالإضافة لإختصاصه بالأخوة من جانبي الأم والأب وهي أقوى من الأخوة من أحدهما ولم يذكروه بإسمه إشعارا بأن محبة يعقوب عليه السلام له لأجل شقيقه يوسف عليه السلام ولذا لم يتعرضوه بشيء مما أوقع بيوسف عليه السلام واللام للإبتداء يوسف مبتدأ وأخوه عطف عليه وقوله سبحانه : أحب إلى أبينا منا خبر متعلق به وهو أفعل تفضيل من المبني للمفعول شذوذا ولذا عدي بإلى حسبما ذكروا من أن أفعل من الحب والبغض يعدى إلى الفاعل معنى بإلى وإلى المفعول باللام وفي تقول : زيد أحب إلي من بكر إذا كنت تكثر محبته ولي وفي إذا كان يحبك أكثر من غيره ولم يثن مع أن المخبر عنه به إثنان لأن أفعل من كذا لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلي جائز في المضاف إذا أريد تفضيله على المضاف إليه وإذا أريد تفضيله مطلقا فالفرق لازم وجيء بلام الإبتداء لتحقيق مضمون الجملة وتأكيده أي كثرة حبه لهما أمر ثابت لا شبهة فيه ونحن عصبة أي الحال أنا جماعة قادرون على خدمته والجد منفعته دونهما والعصبة والعصابة على ما نقل عن الفراء : العشرة فما زادوا سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم أي تشد فتقوى
وعن ابن عباس أن العصبة ما زاد على العشرة وفي رواية عنه أنها ما بين العشرة والأربعين وعن مجاهد أنها من عشرة إلى خمسة عشرة
وعن مقاتل هي عشرة وعن ابن جبير ستة أو سبعة وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة وقيل : إلى خمسة عشر وعن ابن زيد والزجاج وابن قتيبة هي الجماعة مطلقا ولا واحدا لها من لفظها كالنفر والرهط وقيل : الثلاثة نفر وإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة فإذا زادوا فهم عصبة ولا يقال لأقل من عشرة : عصبة وروي النزال بن سبرة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بنصب عصبة فيكون الخبر محذوفا وعصبة حال من الضمير فيه أي نجتمع عصبة وقدر ذلك ليكون في الحال دلالة على الخبر المحذوف لما فيها من معنى الإجتماع
(12/189)

وزعم ابن المنير أن الكلام على طريقة : أنا أبو النجم وشعري شعري والتقدير ونحن نحن عصبة وحذف الخبر لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظا ففي حذفه خلاص من تكرار اللفظ بعينه مع دلالة السياق على المحذوف ولا غرو في وقوع الحال بعد نحن لأنه بالتقدير المذكور كلام تام فيه من الفخامة ما فيه وقدر في هن أطهر لكم على قراءة النصب مثل ذلك وفيه أن الفخامة إنما تجيء من التكرار فلا يجوز الحذف على أن الدلالة على المحذوف غير بينة
وعن ابن الأنباري أن ذلك كما تقول العرب : إنما العامري عمته أي يتعهد ذلك والدال على المحذوف فيه عمته فإن الفعلة للحالة التي يستمر عليها الشخص فيلزم لا محالة تعهده لها والأولى أن يعتبر نظير قول الفرزدق :
يا لهذم حكمك مسمطا فإنه أراد كما قال المبرد
حكمك لك مسمطا
أي مثبت نافذ غير مردود وقد شاع هذا فيما بينهم لكن ذكروا أن فيه شذوذا من وجهين والآية على قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه أكثر شذوذا منه كما لا يخفى على المتدرب في علم العربية إن أبانا أي في ترجيحها علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل عن كفاية الأمور لفي ضلال أي خطأ في الرأي وذهاب عن طريق التعديل اللائق من تنزيل كل منا منزلته مبين
8
- ظاهر الحال وجعل الضلال ظرفا لتمكنه فيه ووصفه بالمبين إشارة إلى أن ذلك غير مناسب بزعمهم والتأكيد لمزيد الإعتناء يروى أنه عليه السلام كان أحب إليه لما يرى فيه من أن المخايل وكانت إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا تضاعفت له المحبة فكان لا يصبر عنه ويضمه كل ساعة إلى صدره ولعله أحسن قلبه بالفراق فتضاعف لذلك حسدهم حتى حملهم على ما قص الله تعالى عنهم وقال بعضهم : إن سبب زيادة حبه عليه السلام ليوسف وأخيه صغرهما وموت أمهما وحب الصغير أمر مركوز في فطرة البشر فقد قيل : لإبنة الحسن : أي بنيك أحب إليك قالت : الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم والمريض حتى يشفى وقد نظم بعض الشعراء في محبة الولد الصغير قديما وحديثا ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري من قصيدة بعث بها إلى أولاده وهو في السجن
وصغيرهم عبدالعزيز فإنني أطوي لفرقته جوى لم يصغر ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا كفأ لكم في المنتمي والعنصر إن البنان الخمس أكفاء معا والحلي دون جميعها للخنصر وإذا الفتى الشباب سماله حب البنين ولا كحب الأصغر وفيه أن منشأ زيادة الحب لو كانت ما ذكر لكان بنيامين أوفر حظا في ذلك لأنه أصغر من يوسف عليه السلام كما يدل عليه قولهم : إن أمهما ماتت في نفاسه والآية كما أشرنا إليه مشيرة إلى أن محبته لأجل شقيقه يوسف فالذي ينبغي أن يعول عليه أنه عليه السلام إنما أحبه أكثر منهم لما رأى فيه من مخايل الخير ما لم ير فيهم وزاد ذلك الحب بعد الرؤيا لتأكيدها تلك الإمارات عنده ولا لوم على الوالد في تفضيله بعض ولده على بعض في المحبة لمثل ذلك وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما تدخل تحت وسع البشر والمرء معذور فيما لم يدخل تحته نعم ظن أبناؤه أن ما كان منه عليه السلام إنما كان عن إجتهاد وأنه قد أخطأ في ذلك والمجتهد يخطيء ويصيب وإن كان نبيا وبهذا ينحل ما قيل : إنهم إن كانوا قد آمنوا بكون أبيهم رسولا حقا من عند الله تعالى فكيف إعترضوا
(12/190)

وكيف زيفوا طريقته وطعنوا فيما هو عليه وإن كانوا مكذبين بذلك فهو يوجب كفرهم والعياذ بالله تعالى وهو مما لم يقل به أحد ووجه الإنحلال ظاهر اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا الظاهر أن هذا من جملة ما حكى بعد قوله سبحانه : إذ قالوا وقد قاله بعض منهم مخاطبا للباقين وكانوا راضين بذلك إلا من قال : لا تقتلوا إلخ ويحتمل أنه قاله كل منهم مخاطبا للبقية والإستثناء وهو الإستثناء وزعم بعضهم أن القائل رجل غيرهم شاوروه في ذلك وهو خلاف الظاهر ولا ثبت له والظاهر أن القائل خيرهم بين الأمرين القتل والطرح
وجوز أن يكون المراد قال بعض : اقتلوا يوسف ويعض اطرحوه والطرح رمي الشيء وإلقاؤه ويقال : طرحت الشيء أبعدته ومنه قول عروة بن الورد : ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا من المال يطرح نفسه كل مطرح ونصب أرضا على إسقاط حرف الجر كما ذهب إليه الحوفي وابن عطية أي القوه في أرض بعيدة عن الأرض التي هو فيها وقيل : نصب على أنه مفعول ثان لإطرحوه لتضمينه معنى أنزلوه فهو كقوله تعالى : أنزلني منزلا مباركا وقيل : منصوب على الظرفية ورده ابن عطية وغيره بأن ما ينتصب على الظرفية المكانية لا يكون إلا مبهما وحيث كان المراد أرضا بعيدة عن أرضه لم يكن هناك إبهام ودفع بما لا يخلو عن نظر وحاصل المعنى اقتلوه أو غربوه فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود مع السلامة من إثمه ولعمري لقد ذكروا أمرين مرين فإن الغربة كربة أية كربة ولله تعالى در من قال : حسنوا 4 القول وقالوا غربة إنما الغربة للأحرار ذبح يخل لكم وجه أبيكم بالجزم جواب الأمر والوجه الجارحة المعروفة وفي الكلام كناية تلويحية عن خلوص المحبة ومن هنا قيل : أي يقبل عليكم إقباله واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها وقد فسر الوجه بالذات والكناية بحالها خلا أن الإنتقال إلى المقصود بمرتبتين : على الأول وبمرتبة على هذا وقيل : الوجه بمعنى الذات وفي الكلام كناية عن التوجه والتقيد بنظم أحوالهم وتدبير أمورهم لأن خلوه لهم يدل على فراغه من شغل يوسف عليه السلام فيشتغل بهم وينظم أمورهم ولعل الوجه الأوجه هو الأول وتكونوا بالجزم عطفا على جواب الأمر وبالنصب بعد الواو بإضمار أن أي يجتمع لكم خلو وجهه والكون من بعده أي بعد يوسف على معنى بعد الفراغ من أمره أو من بعد قتله أو طرحه فالضمير إما ليوسف أو لأحد المصدرين المفهومين من الفعلين
قوما صالحين
9
- بالتوبة والتنصل إلى الله تعالى عما جئتم به من الذنب كما روي عن الكلبي وإليه ذهب الجمهور فالمراد بالصرح الصلاح الديني بينهم وبين الله تعالى ويحتمل أن المراد ذلك لكن بينهم وبين أبيهم بالعذر وهو وإن كان مخالفا للدين لكونه كذبا لكنه موافق له من جهة أنهم يرجون عفو أبيهم وصفحه
(12/191)

به ليخلصوا من العقوق على ما قيل ويحتمل أن يراد الصلاح الدنيوي أي صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم وإيثار الخطاب في لكم وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن إعتناء المرء بشأن نفسه واهتمامه بتحصيل منافعه أتم وأكمل قال قائل منهم وهو يهوذا وكان رأيه فيه أهون شرا من رأي غيره وهو القائل : فلن أبرح الأرض إلخ قاله السدي
وقال قتادة وابن إسحاق : هو روبيل وعن مجاهد أنه شمعون وقيل : دان وقال بعضهم : إن أحد هذين هو القائل : اقتلوا يوسف إلخ وأما القائل لا تقتلوا يوسف فغيره ولعل الأصح أنه يهوذا
قيل : وإنما لم يذكر أحد منهم باسمه سترا على المسيء وكل منهم لم يخل عن الإساءة وإن تفاوتت مراتبها والقول بأنه على هذا لا ينبغي لأحد أن يعين أحدا منهم باسمه تأسيسا بالكتاب ليس بشيء لأن ذلك مقام تفسير وهو فيه أمر مطلوب والجملة مستأنفة إستئنافا بيانيا كأن سائلا سأل إتفقوا على ما عرض عليهم من خصلتي الصنيع أم خالفهم في ذلك أحد فقيل : قال قائل منهم : لا تقتلوا إلخ والإتيان بيوسف دون ضميره لإستجلاب شفقتهم عليه واستعظام قتله وهو هو فإنه يروى أنه قال لهم : القتل عظيم ولم يصرح بنهيهم عن الخصلة الأخرى وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله : وألقوه في غيابت الجب أي في قعره وغوره سمي به لغيبته عن عين الناظر ومنه قيل للقبر : غيابة قال المنخل السعدي : إذا أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل وقال الهروي : الغيابة في الجب شبه كهف أو طاق في البئر فوق الماء يغيب ما فيه عن العيون والجب الركية التي لم تطو فإذا طويت فهي بئر قال الأعشى : لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم ويجمع على جيب وجباب وأجباب وسمي جبا لأنه جب من الأرض أي قطع وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى الكلام في تأنيثه وتذكيره
وقرأ نافع في غيابات في الموضعين كأن لتلك الجب غيابات ففيه إشارة إلى سعتها أو أراد بالجب الجنس أي في بعض غيابات الجب وقرأ ابن هرمز غيابات بتشديد الياء التحتية وهو صيغة مبالغة ووزنه على ما نقل صاحب اللوامح يجوز أن يكون فعالات كحمامات ويجوز أن يكون فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة وقرأ الحسن غيبة بفتحات علىأنه في الأصل مصدر كالغلبة ويحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه غيبة بسكون الياء التحتية على أنه مصدر أريد به الغائب
يلتقطه أي يأخذه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الإلتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع كذا قيل وفي مجمع البيان هو أن يجد الشيء ويأخذه من غير أن يحسبه ومنه قوله
ومنهل وردته إلتقاطا
بعض السيارة أي بعض جماعة تسير في الأرض وأل في السيارة كما في الجب وما فيهما وفي البعض من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامه بموافقته لغرضهم الذي هو تنأئي يوسف عليه السلام عنهم بحيث لا يدري أثره ولا يروي خبره وقرأ الحسن تلتقطه على التأنيث بإعتبار المعنى كما في قوله : إذا بعض السنين تعرفتنا مفي الأيتام فقد أبى اليتيم
(12/192)

وجاء قطعت بعض أصابعه وجعلوا هذا من باب إكتساب المضاف من المضاف إليه التأنيث كقوله :
كما شرقت صدر القناة من الدم
إن كنتم فاعلين
10
- أي إن كنتم عازمين مصرين على أن تفعلوا به ما يفرق بينه وبين أبيه أو إن كنتم فاعلين بمشورتي ورأيي فألقوه إلخ ولم يبت القول لهم بل عرض عليهم ذلك تأليفا لقلوبهم وتوجيها لهم إلى رأيه وحذرا من سوء ظنهم به ولما كان هذا مظنة لسؤال سائل يقول : فما فعلوا بعد ذلك هل قبلوا رأيه أم لا فأجيب على سبيل الإستئناف على وجه أدرج في تضاعيفه قبولهم له بما سيجيء إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه : وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب فقيل : قالوا يا أبانا خاطبوه عليه السلام بذلك تحريكا لسلسلة النسب وتذكيرا لرابطة الأخوة ليتسببوا بذلك إستنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما أحس بحسدهم فكأنهم قالوا : مالك أي أي شيء شيء لك لاتأمنا لا تجعلنا أمناء على يوسف مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا وإنا له لناصحون
11
- مريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بذلك وجملة لا تأمنا في موضع الحال وكذا جملة وإنا له لناصحون والإستفهام بمالك فيه معنى التعجب والكلام ظاهر في أنه تقدم منهم سؤال أن يخرج عليه السلام معهم فلم يرض أبوهم بذلك
وقرأ الجمهور لا تأمنا بالإدغام والإشمال وفسر بضم الشفتين مع إنفراج بينهما إشارة إلى الحركة مع الإدغام الصريح كما يكون في الوقف وهو المعروف عندهم وفيه عسر هنا ويطلق على إشراب الكسرة شيئا من الضمة كما قالوا في قيل وعلى إشمال أحد حرفين شيئا من حرف آخر كما قالوا في الصراط وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأبو جعفر والزهري وعمرو بن عبيد بالإدغام من غير إشمال وإرادة النفي ظاهرة وقرأ ابن هرمز بضم الميم مع الإدغام وهذه الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب حركتها
وقرأ أبي والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش لا تأمننا بالإظهار وضم النون على الأصل وهو خلاف خط المصحف لأنه بنون واحدة وقرأ ابن وثاب وأبو رزين لا تيمنا بكسر حرف المضارعة على لغة تميم وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب ولم يسهل أبو رزين
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عاصم أنه قرأ بذلك بمحضر عبيد بن فضلة فقال له : لحنت فقال أبو رزين : ما لحن من قرأ بلغة قومه أرسله معنا غدا نصب على الظرفية الزمانية وهو يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل مطلقا وأصله غدو فحذفت لامه وقد جاء تاما أي ابعثه معنا غدا إلى الصحراء يرتع أي يتسع في أكل الفواكه ونحوها وأصل معنى الرتع أن تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة ويقال : رتع أقام في خصب وتنعم ويسمى الخصب رتعة بسكون التاء وفتحها وذكر الراغب أن الرتع حقيقة في أكل البهائم ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير وعلى ذلك قوله
وإذ يخلو له الحي رتع
ويلعب بالإستباق والإنتضال ونحوهما مما يتدرب به لقتال العدو وليس المراد لعب لهو وإلا لم يقرهم عليهم يعقوب عليه السلام وإنما عبروا عن ذلك به لكونه على هيئته تحقيقا لما رموه من إستصحاب يوسف عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام من صغر السن وقرأ الجمهور يرتع ويلعب بالياء
(12/193)

والجزم والإبنان وأبو عمرو بالنون والجزم وكسر العين الحرميان واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها ويروي عن ابن كثير نرتع بالنون ويلعب بالياء وهي قراءة جعفر بن محمد وقرأ العلاء بن سيابة يرتع بالياء وكسر العين مجزوما محذوف اللام ويلعب بالياء أيضا وضم الباء على أنه مستأنف أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو يلعب
وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن نرتع بنون مضمونة وعين ساكنة من أرتعنا ونلعب بالنون أيضا وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء التحتية فيهما والقراءتان على حذف المفعول أي نرتع المواشي أو غيرها والفعلان في هذه القراآت كلها مبنيان للفاعل
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يرتع ويلعب بالياء والبناء للمفعول فيهما وخرج ذلك على أن نائب الفاعل ضمير غد والأصل يرتع فيه ويلعب فيه ثم حذف الجار واتسع فعدى الفعل للضمير فصار يرتعه ويلعبه ثم بني للمفعول فاستتر الضمير الذي كان منصوبا لكونه نائبا عن الفاعل ومن كسر العين من الفعل الأول فهو عنده من المراعاة على ما روي عن مجاهد أي يراعي بعضنا بعضا ويحرسه
وقال ابن زيد : من رعي الإبل أي نتدرب في الرعي وحفظ المال أو من رعي النبات والكلأ والمراد نرعى مواشينا إلا أنه أسند ذلك إليهم مجازا أو تجوز عن أكلهم بالرعي وضعف ابن عطية القراءة بإثبات الياء وقال : إن إثباتها في مثل هذا الموضع لا يجوز إلا في الشعر كقوله : ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد وقيل : إن تقدير حذف الحركة في الياء ونحوها للجازم لغة وليس من الضرورة في شيء وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل بن حيان أنه كان يقرأ نلهو ونلعب وإنا لحافظون
12
- أي من أن يناله مكروه والجملة في موضع الحال والعامل فيها فعل الأمر أو الجواب وليس ذلك من باب الأعمال كما قال أبو حيان لأن الحال لا تضمر وذلك الباب لابد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول وقد أكدوا مقالتهم بأصناف التأكيد من إيراد الجملة إسمية وتحليتها بأن واللام وإسناد الحفظ إلى كلهم وتقديم له على الخبر إحتيالا في تحصيل مقصدهم قال إستئناف بياني كأن سائلا يقول : فماذا قال أبوهم لهم فقيل : قال إني ليحزنني أن تذهبوا به لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه واللام الداخلة على خبر إن إذا كان مضارعا قيل : تقصره على الحال وهو ظاهر كلام سيبويه وقيل : تكون له ولغيره واستدلوا بقوله تعالى : إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة وقيل : إنها للحال إن خلت عن قرينة ومعها تكون لغيره وجعلوا من ذلك ما في الآية وبعضهم جعلها هنا للحال واستشكل بأن الذهاب مستقبل فيلزم تقدم الفعل على فاعله وهو غير جائز لأنه أثره ولا يعقل الأثر على المؤثر
وأجيب بأن التقدير قصد أو توقع أن تذهبوا به فالكلام على تقدير المضاف وهو الفاعل وليس ذاك أمرا مستقبلا بل حال ولا يمتنع في ذلك حذف الفاعل لما صرحوا به أنه إنما يمتنع إذا لم يسد مسده شيء وهنا قد سد ولا يجب أن يكون الساد هو المضاف إليه كما ظن بل لو سد غيره كان الحذف جائزا أيضا ومن هنا كان تقدير قصدكم أن تذهبوا صحيحا ويحتمل أن يكون ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب وقال بعضهم :
(12/194)

إنه يمكن دفع الإشكال من غير حاجة إلى تقدير المضاف بأن يقال : إن الذهاب يحزنه باعتبار تصوره كما قيل نظيره في العلة الغائية وقال شهاب : ذلك التحقيق أظن ما قالوه في توجيه الإشكال مغلطة لا أصل لها فإن لزوم كون الفاعل موجودا عند وجود الفعل إنما هو الفاعل الحقيقي لا النحوي واللغوي فإن الفعل قد يكون قبله سواء كان حالا كما فيما نحن فيه أو ماضيا كما أنه يصح أن يكون الفاعل في مثله أمرا معدوما كما في قوله : ومن سره أن لا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا ولم يقل أحد في مثله إنه محتاج إلى التأويل فإن الحزن والغم كالسرور والفرح يكون بالشيء قبل وقوعه كما صرح به ابن هلال في فروقه ولا حاجة إلى تأويل أو تقدير أو تنزيل للوجود الذهني منزلة الخارجي على القول به أو الإكتفاء به فإنه مثله لا يعرفه أهل العربية أو اللسان فإن أبيت إلا اللجاج فيه فليكن من التجوز في النسبة إلى ما يستقبل لكونه سببا للحزن الآن أه
وأنت تعلم أنهم صرحوا بأن فعل الفاعل الإصلاحي إما قائم به أو واقع منه وقيام الشيء بما لم يوجد بعد ووقوعه منه غير معقول وحينئذ فالتأويل بما يصح القيام أو الوقوع في فاقد ذلك بحسب الظاهر واجب كذا قيل فتدبر وقرأ ابن هرمز وابن محيصن ليحزني بالإدغام وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقرأ أيضا تذهبوا به من أذهب رباعيا ويخرج كما قال أبو حيان على زيادة الباء في به كما خرج بعضهم تنبت بالدهن في قراءة من ضم التاء وكسر الباء الموحدة على ذلك أي ليحزني أن تذهبوه
وأخاف أن يأكله الذئب هو حيوان معروف وخصه بالذكر لأن الأرض على ما قيل : كانت مذئبة وقيل : لأنه سبع ضعيف حقير فنبه عليه السلام بخوفه عليه السلام عليه منه على خوفه عليه مما هو أعظم منه إفتراسا من باب أولى ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن ما بلغ في قوله : والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا وقيل : لأنه عليه السلام رأى في المنام أن ذئبا قد شد عليه فكان يحذره ولعل هذا الحذر لأن الأنبياء عليهم السلام لمناسبتهم التامة بعالم الملكوت تكون واقعاتهم بعينها واقعة وإلا فالذئب في النوم يؤول بالعدو
وادعى بعضهم أنه عليه السلام ورى بالذئب عن واحد منهم فإنه عليه السلام أجل قدرا من أن لا يعلم أن رؤياه تلك من أي أقسام الرؤيا هي فإن منها ما يحتاج للتعبير ومنها ما لا يحتاج إليه والكامل يعرف ذلك وتعقب بأنه يحتمل أن يكون الأمر قد خفي عليه كما قد خفي مثل ذلك على جده إبراهيم عليه السلام وهو بناء على ما ذكره شيخنا ابن العربي قدس سره من أن رؤياه عليه السلام ذبح ولده من الرؤيا المعبرة بذبح كبش لكنه خفى عليه ذلك ولا يخفى ما فيه والمذكور في بعض الروايات أنه عليه السلام رأى في منامه كأنه على ذروة جبل وكأن يوسف في بطن الوادي فإذا عشرة من الذئاب قد إحتوشته تريد أكله فدرأ عند واحد ثم إنشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام وأنا لم أجد لرواية الرؤيا مطلقا سندا يعول عليه ولا حاجة بنا إلى إعتبارها لتكلف الكلام فيها وبالجملة ما وقع منه عليه السلام من هذا القول كأن تلقينا للجواب من غير قصد وهو على أسلوب قوله سبحانه : ماغرك بربك الكريم والبلاء موكل بالمنطق
(12/195)

وأخرج أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا : أكله الذئب والحزن ألم القلب لفوت المحبوب والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه ولذلك أسند الأول إلى الذهاب به المفوت لإستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسف عليه السلام والثاني إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب والذئب أصله الهمزة وهي لغة الحجاز وبها قرأ غير واحد
وقرأ الكسائي وخلف وأبو جعفر وورش والأعشى وغيرهم بإبدالها ياءا لسكونها وانكسار ما قبلها وهو القياس في مثل ذلك وذكر بعضهم أنه قد همزه على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون وأبو عمرو وقفا وابن عامر وحمزة درجا وأبدلا وقفا ولعل ذلك لأن إلتقاء الساكنين في الوقف وإن كان جائزا إلا أنه إذا كان الأول حرف مد يكون أحسن
وقال نصر : سمعت أبا عمرو لا يهمزه والظاهر أنه أراد مطلقا فيكون ما تقدم رواية وهذه أخرى ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان واشتقاقه عند الزمخشري من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة
وقال الأصمعي : إن إشتقاق تذاءبت من الذئب لأن الذئب يفعله في عدوه قيل : وهو أنسب ولذا عد تذاءبت الريح من المجاز في الأساس لكن قيل عليه : إن أخذ الفعل من الأسماء الجامدة كإبل قليل مخالف للقياس وأنتم عنه غافلون
13
- لإشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه
قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة أي والحال أنا جماعة جديرة بأن تعصب بنا الأمور وتكفي بآرائنا وتدبيراتنا الخطوب واللام الداخلة على الشرط موطئة للقسم وقوله سبحانه : إنا إذا لخاسرون
14
- جواب مجزيء عن الجزاء والخسار إما بمهنى الهلاك أو تجويزا عن الضعف أو إستحقاقه أو عن إستحقاق الدعاء به أي لضعفاء عاجرون أو مستحقون للهلاك لإغناء عندنا ولا نفع في حياتنا أو مستحقون لأن يدعي علينا بالخسار والدمار فيقال : خسرهم الله تعالى ودمرهم إذ أكل الذئب أخاهم وهم معه وجوز أن يكون بمعناه الحقيقي أي إن لم نقدر على حفظه وهو أعز شيء عندنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها وإنما إقتصروا على جواب خوف أبيهم عليه السلام من أكل الذئب مع أنه ذكر في وجه عدم مفارقته أمرين : حزنه لمفارقته وخوفه عليه من الذئب لأنه السبب القوي في المنع دون الحزن لقصر زمانه بناءا على سرعة عودهم به أو لأن حزنه بالذهاب إنما هو للخوف عليه فنفي الثاني يدل على نفي الأول أو لكراهتهم لذلك لأنه سبب حسدهم له فلذلك أعاروه أذنا صماء فلما ذهبوا به وأجمعوا أي عزموا عزما مصمما على أن يجعلوه غي غيابت الجب قيل : هو بئر على ثلاث فراسخ من مفام يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن وقيل : هو بين مصر ومدين وقيل : بنفس أرض الأردن وزعم بعضهم أنها بئر بيت المقدس وتعقب بأنه يرده التعليل بالتقاط بعض السيارة ومجيئهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبيت المقدس مراحل وجواب لما محذوف إيذانا بظهوره وإشعارا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا ما فعلوا وقدره بعضهم عظمت فتنتهم وهو أولى من تقدير وضعوه فيها وقيل : لا حذف والجواب أوحينا والواو زائدة وليس بشيء
وقال وهب وغيره من أهل السير والأخبار : إن إخوة يوسف عليه السلام قالوا : أما تشتقاق أن تخرج معنا
(12/196)

إلى مواشينا فنصيد ونستبق فقال عليه السلام : بلى قالوا : فسل أباك أن يرسلك معنا فقال عليه السلام : أفعل فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا : يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا فقال يعقوب : ما تقول يا بني قال : نعم يا أبت إني أرى من أخوتي من اللين واللطف فأحب أن تأذن لي وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به جعلو يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا به إلى الصحراء ألقوه إلى الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وبسطوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه جعل ينادي يا أبتا لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك با أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك جعل يبكي بكاءا شديدا فأخذه روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله فقال له يوسف : مهلا يا أخي لا تقتلني فقال له : ياابن راحيل أنت صاحب الأحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوى عنقه فاستغاث بيهوذا وقال له : إتق الله تعالى في وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الأخوة ورق له فقال : يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به قالوا : وما هو قال : تلقونه في هذا الجب فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك واسع الأسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال : يا إخوتاه ردوا علي قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها فقال لهم يا إخوتاه أتدعوني وحيدا قالوا : ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك
وقيل : جعلوه في دلو ثم أدلوه فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة فيها
وروي أنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا رضخه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان عند يعقوب قميص إبراهيم عليه السلام الذي كساه الله تعالى إياه من الجنة حين ألقي في النار وكان قد جعله في قصبة من فضة وعلقه في عتق يوسف لما خرج مع إخوته فلما صار في البئر أخرجه ملك وألبسه إياه فأضاء له الجب وعن الحسن أنه لما ألقي فيها عذب ماؤها وكان يغنيه عن الطعام والشراب ونزل عليه جبريل عليه السلام يؤنسه فلما أمسى نهض ليذهب فقال له : إني أستوحش إذا ذهبت فقال : إذا رمت شيئا فقال : يا صريخ المستصرخين ويا غوث المستغيثين ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف عليه السلام حفته الملائكة عليهم السلام واستأنس بهم
وقال محمد بن مسلم الطائفي : إنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال : يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ويا غالبا غير مغلوب إجعل لي فرجا مما أنا فيه وقيل : كان يقول : يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إرحم ضعفي وقلة حيلتي وصغر سني وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لما ألقي يوسف في الجب أتاه جبريل عليه السلام فقال : يا غلام من ألقاك في هذا الجب قال : إخوتي قال : ولم قال : لمودة أبي إياي حسدوني قال : تريد الخروج من ههنا قال : ذاك إلى إله يعقوب قال : قل : اللهم إني أسألك باسمك المكنون المخزون يا بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام أن تغفر لي وترحمني وأن تجعل من أمري فرجا ومخرجا وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب فقالها فجعل الله تعالى له من أمره فرجا
(12/197)

ومخرجا ورزقه ملك مصر من حيث لا يتحسب ثم قال عليه الصلاة و السلام : ألظوا بهؤلاء الكلمات فإنهن دعاء المصطفين الأخيار وروي غير ذلك والروايات في كيفية إلقائه وما قال : وما قيل له كثيرة وقد تضمنت ما يلين له الصخر لكن ليس فيها ما له سند يعود عليه والله تعالى أعلم وأوحينا إليه الضمير ليوسف أي أعلمناه عند ذلك تبشيرا له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وتسلية له وكان ذلك على ما روي عن مجاهد بالإلهام وقيل : بالإلقاء في مبشرات المنام وقال الضحاك وقتادة : بإرسال جبريل عليه السلام إليه والموحي ما تضمنه قوله سبحانه : لنتبئنهم بأمرهم هذا وهو بشارة له بالخلاص أيضا أي لتخلص مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتخبرن إخوتك بما فعلوا بك وهم لا يشعرون
15
- بأنك يوسف لتباين حاليك : حالك هذا وحالك يومئذ بعلو شأنك وكبرياء سلطانك وبعد حالك من أوهامهم وقيل : لبعد العهد المبدل للهيآت المغير للأشكال والأول أدخل في التسلية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم إنطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم ثم قال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية لتنبئنهم بأمرهم إلخ نزلت إلا في ذلك وجوز أن يتعلق وهم لا يشعرون بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأنزلنا على قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسنون أنه مستوحش لا أنيس له
وروي ذلك عن قتادة وكان هذا الإيحاء وهو عليه السرم ابن ست عند الضحاك واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الحسن وسبع عشرة سنة عند ابن السائب وهو الذي يزعمه اليهود وقيل غير ذلك ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك وعلى جميع الأقوال أنه عليه السلام لم يكن بالغا الأربعين عند الإيحاء إليه نعم أكثر الأنبياء عليهم السلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحي إلى بعضهم كيحيى وعيسى عليهما السلام قبل ذلك بكثير
وزعم بعضهم أن ضمير إليه يعود على يعقوب عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى وقرأ ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف البصرة
وقرأ سلام على أنه وعيد لهم فقوله سبحانه : وهم لا يشعرون متعلق بأوحينا لا غير على ما قاله الزمخشري ومن تبعه ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضا بقوله تعالى : لننبئنهم وأن يراد بإنباء الله تعالى إيصال فعلهم به عليه السلام وهم لا يشعرون بذلك ودفع بأنه بناءا على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء الله تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلا بتأويل كتقدير لنعلمهم بعظيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشهرون بما فيه وجاءوا أباهم عشاء أي في ذلك الوقت وهو كما قال الراغب من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاآن : المغرب والعتمة
وعن الحسن أنه قرأ عشيا بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منونا وهو تصغير عشي وهو من
(12/198)

زوال الشمس إلى الصباح وعنه أنه قريء عشي بالضم والقصر كدجي فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفا وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين ولذا قيل : كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفا صحيحا ساكنا ثم حذفت بعد قلبها ألفا لإلتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كاد يضعف بصرهم لكثرة البكاء وقيل : هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال : أوظأة عشوة أي أمرا ملتبسا يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيدا لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لإبتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من العظيهة وجوز أن يكون عشاءا أي في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال والظاهر الأول وإنما جاءوا عشاء إما لأنها لا يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت وإما ليكونوا أقدر على الإعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحيباء ولذا قيل : لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذروا في النهار من ذنب فتلجلج في الإعتذار وهل جاءوا في عشاء اليوم الذي ذهبو فيه أو في عشاء يوم آخر ظاهر كلان بعضهم الأول وذهب بعضهم إلى الثاني بناءا على ما روي أنه عليه السلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام
وفي الكلام على ما في البحر حذف والتقدير وجاءوا أباهم دون يوسف عشاءا يبكون
16
- أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن حزن لكنه يشبهه وكثيرا ما يفعل بعض الكذابين كذلك أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : جاءت إمرأة إلى شريح تخاصم في شيء فجعلت تبكي فقالوا : يا أبا أمية أما تراها تبكي ! فقال : قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءا يبكون وقال الأعمش : لا يصدق أباك بعد إخوة يوسف وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال : ما بالكم أجري في الغم شيء قالوا : لا قال : فما أصابكم وأين يوسف قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي متسابقين في العدو على الأقدام على ما روي عن السدي أو في الرمي بالسهام كما قال الزجاج أو في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب أو في الصيد وأخذه كما قيل ورجح ما قاله الزجاج بقراءة عبدالله إنا ذهبنا ننتضل وأورد على الأول أنه كيف ساغ لهم الإستباق في العدو وهو من أفعال الصبيان التي لا ثمرة فيها وأجيب بالمنع وثمرته التدريب في العدو لمحاربة العدو ومدافعة الذئب مثلا وبالجملة نستبق بمعنى نتسابق وقد يشترك الإفتعال والتفاعل فيكونان بمعنى كالإنتضال والتناضل ونظائرهما وتركنا يوسف عند متاعنا أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما فأكلة الذئب عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلا في مقام يؤمن فيه من الغوائل لم يعد تركه عليه السلام عنده من باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذ لم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا : إنا لم نقصر في محافظته ولم نغفل عن مراقبته بل تركناه في مأمنا ومجمعا بمرأى منا وما فارقناه إلا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان قاله شيخ الإسلام والظاهر أنهم لم يريدوا
(12/199)

إلا أن الذئب أكل يوسف ولم يقصدوا بذلك تعريضا فما قيل : إنهم عرضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع لا يلتفت إليه لما فيه من الخروج عن الجادة من غير موجب ومآ أنت بمؤمن لنا أي ما أنت مصدق لنا في هذه المقالة ولو كنا عندك وفي إعتقادك صادقين
17
- أي موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق يقولنا قيل : ولا بد من هذا التأويل إذ لو كان المعنى ولو كنا صادقين في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم إعترافهم بكذبهم فيه وقد تقدم أن المراد في مثل ذلك تحقيق الحكم السابق على كل حال فكأنه قيل هنا : وما أنت بمؤمن لنا في حال من الأحوال فتذكر وتأمل
وجآءوا على قميصه بدم كذب أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب : هو الكذب بعينه والزور بذاته ومن ذلك ما في قوله : أفيضوا على عزابكم من بناتكم فما في كتاب الله أن يحرم الفضل وفيهن فضل قد عرفنا مكانه فهن به جود وأنتم به بخل وبعضهم يؤول كذب بمكذوب فيه فإن المصدر قد يؤول بمثل ذلك وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذبا بالنصب وخرج على أنه في موضع الحال من فاعل جاءوا بتأويل كاذبين وقيل : من دم على تأويل مكذوبا فيه وفيه أن الحال من النكرة على خلاف القياس وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي جاءوا بذلك لأجل الكذب وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها والحسن كدب بالدال المهملة وليس من قلب الذال دالا بل هو لغة أخرى بمعنى كدر أو طري أو يابس فهو من الإضداد وقال صاحب اللوامح : المعنى ذي كدب أي أثر لأن الكدب بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها فهو كالنقش ويسمى ذلك الفوغ ولم يعتبر بعض المحققين تقدير المضاف وجعل ذلك من التشبيه البليغ أو الإستعارة فإن الدم في القميص يشبه الكدب من جهة مخالفة لونه لون ما هو فيه وقوله سبحانه : على قميصه على ما ذهب إليه أبو البقاء حال من دم وفي جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف غير الزائد خلاف والحق كما قال السفاقسي : الجواز لكثرة ذلك في كلامهم وفي اللباب ولا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح نحو مررت جالسة بهند إلا أن يكون الحال ظرفا على أن الحق ما اختاره ابن مالك من جواز التقديم مطلقا وقال الزمخشري ومن تبعه : إنه في موضع النصب على الظرفية أي جاءوا فوق قميصه كما تقول : جاء على جماله بأحمال وأراد على ما في الكشف أن على على حقيقة الإستعلاء وهو ظرف لغو ومنع في البحر كون العامل فيه المجيء لأنه يقتضي أن الفوقية ظرف للجائين وأجيب بأن الظرفية ليست باعتبار الفاعل بل باعتبار المفعول
وفي بعض الحواشي أن الأولى أن يقال : جاءوا مستولين على قميصه وقوله سبحانه : بدم حال من القميص وجعل المعنى إستولوا على القميص ملتبسا بدم جائين وهو على ما قيل : أولى من جاءوا مستولين لما تقرر في التضمين والأمر في ذلك سهل فإن جعل المضمن أصلا والمذكور حالا وبالعكس كلا منهما جائز وإذا إقتضى المقام أحدهما رجح واستظهر كونه ظرفا للمجيء المتعدي والمعنى أتوا بدم كذب فوق قميصه ولا يخفى إستقامته هذا ثم إن ذلك الدم سخلة ذبحوها ولطخوا بدمها القميص كما روي عن ابن عباس ومجاهد
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أنهم أخذوا ظبيا فذبحوه فلطخوا بدمه القميص ولما جاءوا
(12/200)

به جعل يقبله فيقول : ما أرى به أثر ناب ولا ظفر إن هذا السبع رحيم وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل إبني ولم يمرق عليه قميصه وجاء أنه بكى وصاح وخر مغشيا عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ونادوه فلك يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق فقال : ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلا ببرد السحر قال بل سولت لكم أنفسكم أي زينت وسهلت أمرا من الأمور منكرا لا يوصف ولا يعرف وأصل التسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه
وقال الراغب : هو تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن
وقال الأزهري : كأن التسويل تفعيل من سوال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز وقيل : من السول بفتحتين وهو إاسترخاء في العصب ونحوه كأن المسول لمزيد حرصه استرخى عصبه وفي الكلام حذف على ما في البحر أي لم يأكله الذئب بل سولت الخ وعلمه عليه السلام بكذبهم قيل : حصل من سلامة القميص عن التمزيق وهي إحدى ثلاث آيات في القميص : ثانيتها عود يعقوب بصيرا بإلقائه على وجهه وثالثتها قده من دبر فإنه كان دليلا على براءة يوسف وينضم إلى ذلك وقوفه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علياء تنحط عنها الكواكب وقيل : من تناقضهم فإنه يروى أنه عليه السلام لما قال : ما تقدم عن قتادة قال بعضهم : بل قتله اللصوص فقال : كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله ! ولعله مع هذا العلم إنما حزن عليه السلام لما خشي عليه من المكروه والشدائد غير الموت وقيل : إنما حزن لفراقه وفراق الأحبة مما لا يطاق ولذلك قيل : لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلى أرواحنا سبلا ولا بأس بأن يقال : إنه أحزنه فراقه وخوف أن يناله مكروه فصبر جميل أي فأمري صبر جميل أو فصبري صبر جميل كما قال قطرب أو فالذي أفعله ذلك كما قال الخليل أو فهو صبر الخ كما قال الفراء وصبر في كل ذلك خبر مبتدأ محذوف أو فصبر جميل أمثل وأجمل على أنه مبتدأ خبره محذوف وهل الحذف في مثل ذلك واجب أو جائز فيه خلاف وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الإعتبار الأول أولى أم الثاني
وقرأ أبي والأشهب وعيسى بن عمر فصبرا جميلا 6 بنصبهما وكذا في مصحف أنس بن مالك وروي ذلك عن الكسائي وخرج على أن التقدير فاصبر صبرا على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلا مع الأمر والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال : صبرا جميلا على معنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا والصبر الجميل على ما روى الحسن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوب عليه السلام : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقيل : إنه عليه السلام سقط حاجباه على عينيه فكان برفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه أتشكوا إلى غيري فقال يارب خطيئة فاغفرها
وقيل : المراد من قوله : فصبر جميل أنى أتجعل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس
(12/201)

الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدا والله المستعان أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السلام للإستعانة المستمرة على ما تصفون
18
- متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعمته وهو قد يكون صدقا وقد يكون كذبا والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه : سبحان ربك رب العزة عما يصفون بل قيل : إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبا بسلامة يوسف عليه السلام والإجتماع معه فيكون ذكر الإستعانة هنا نظير عسى الله أن يأتيني بهم جميعا بعد قوله فيما بعد : فصبر جميل وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت يوم الإفك : والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن أعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل وقيل : المراد إنه تعالى المستعان على أحتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عل 4 يه السلام بعد أن قال : صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما تحصل المعونة منه جل وعلا لا تحصل الغلبة فقوله : فصبر جميل يجري مجرى إياك نعبد والله المستعان على ما تصفون يجري مجرى وإياك نستعين ولعل الأول أسلم من القال والقيل للإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث وهو : أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السلام التفتيش والسعي في تخليص يوسف عليه السلام من البلية والشدة إن كان حيا وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه بل قد يقال : إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالما بأنه حي سليم لقوله : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي وأيضا إنه عليه السلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظما في النفوس مشهورا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له وهل الصبر في هذا المقام إلا مذموم عقلا وشرعا ثم قال : والجواب أن نقول : لا جواب عن ذلك إلا أن يقال : إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة وتغليظا للأمر وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله وأيضا لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله : قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي ولئن عفوت لأعفون جللا ولئن سطوت لموهن عظمي فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلبة رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى لا سيما إن قلنا : إنه عليه السلام كان عالما بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله
(12/202)

وجاءت شروع فيما جرى على يوسف عليه السلام في الجب بعد الفراغ عن ذكر ما وقع بين إخوته وبين أبيه أي وجاءت إلى الجب سيارة رفقة تسير من جهة مدين إلى مصر وكان ذلك بعد ثلاثة أيام مضت من زمن إلقائه في قوله وقيل : في اليوم الثاني والظاهر أن الجب كان في طريق سيرهم المعتاد
وقيل : إنه كان في قفرة بعيدة من العمران فأخطأ الطريق فأصابوه فأرسلوا إليه واردهم الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالك بن ذعر الخزاعي
وقال ابن عطية : الوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى الجماعة أه والظاهر الأول والتأنيث في جاءت والتذكير في أرسلوا و واردهم باعتبار اللفظ والمعنى وفي التعبير بالمجيء إيماء إلى كرامة يوسف عليه السلام عند ربه سبحانه وحذف متعلقه وكذا متعلق الإرسال لظهوره ولذا حذف المتعلق في قوله سبحانه : فأدلى دلوه أي أرسلها إلى الجب ليخرج الماء ويقال : دلا الدلو إذا أخرجها ملائي والدلو من المؤنثات للسماعية فتصغر على دلية وتجمع على أدل ودلاء ودلي
وقال ابن الشحنة : إن الدلو التي يستقي بها مؤنثة وقد تذكر وأما الدلو مصدر دلوت وضرب مع السير فمذكر ومثلها في التذكير والتأنيث الجب عند الفراء على ما نقله عنه محمد بن الجهم وعن بعضهم أنه مذكر لا غير وأما البئر مؤنثة فقط في المشهور ويقال في تصغيرها : بويرة وفي جمعها آبار وأبآر وأبؤر وبئار وفي الكلام حذف أي فأدلى دلوه فتدلى بها يوسف فخرج قال إستئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال
يا بشرى هذا غلام نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ورفقته كأنه نزلها منزلة شخص فناداه فهو استعارة مكنية وتخييلية أي يا بشرى تعالى فهذا أوان حضورك وقيل : المنادى محذوف كما في يا ليت أي قومي أنظروا وأسمعوا بشراي وقيل : إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء
وزعم بعضهم أن بشرى إسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه وروي هذا السدي وليس بذاك وقرأ غير الكوفيين يا بشراي بالإضافة وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي وقرأ ورش بين اللفظين
وروي عن نافع أنه قرأ يا بشراي بسكون ياء الإضافة ويلزمه التقاء الساكنين على غير حده وإعتذر بأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وغيره وقيل : جاز ذلك لأن الألف لمدها تقوم مقام الحركة وقرأ أبو الطفيل والحسن وابن أبي إسحاق والجحدري يا بشرى بقلب الألف ياءا وإدغامها في ياء الإضافة وهي لغة لهذيل ولناس غيرهم ومن ذلك قول أبي ذؤيب : سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع ويقولون : يا سيدي ومولى و الغلام كثيرا ما يطلق على ما بين الحولين إلى البلوغ وقد يطلق على الرجل الكامل كما في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف الثقفي
غلام إذا هز القناة سقاها
والظاهر أن التنوين فيه للتفخيم وحق له ذلك فقد كان عليه من أحسن الغلمان وذكر البغوي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : أعطي يوسف شطر الحسن
وقال محمد بن إسحاق : ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار أنه قال : كان
(12/203)

يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوى الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه وإن تكلم رأيت شعاع النور من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه قبل أن يصيب الخطيئة ويحكى أن جوانب الجب بكت عليه حين خرج منها ولعله من باب بكت الدار لفقد فلان والظاهر أن قول الوارد يا بشرى هذا غلام كان عند رؤيته وقيل إنه حين وروده على أصحابه صاح بذاك وأسروه أي أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة حتى لا تراه فتطمع فيه وقيل : أخفوا أمره وكونه وجد في البئر وقالوا لسائر القافلة : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر وقيل : الضمير لإخوة يوسف وذلك أن بعضهم رجع ليتحقق أمره فرآه عند السيارة فأخبر إخوته فجاءوا إليهم فقالوا : هذا غلام أبق لنا فاشتروه وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه وفي رواية أنهم قالوا بالعبرانية : لا تنكر العبودية نقتلك فأقر بها واشتروه منهم وقيل : كان يهوذا يأتيه الطعام فأتاه يوم أخرج فلم يجده في الجب ووجده عند الرفقة فأخبر إخوته فأتوهم فقالوا ما قالوا وروي كون الضمير للأخوة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قيل : وهو المناسب لإفراد قال وجمع ضمير أسروا وللوعيد الآتي قريبا إن شاء الله تعالى وليس فيه اختلال في النظم ولا يخفى أن الظاهر ما أشير إليه أولا ونصب قوله سبحانه : بضاعة على الحال أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة وفي الفرائد أنه ضمن أسروه معنى جعلوه أي جعلوه بضاعة مسرين إياه فهو مفعول به
وقال ابن الحاجب : يحتمل أن يكون مفعولا له أي لأجل التجارة وليس شرطه مفقودا لاتحاد فاعله وفاعل الفعل المعلل به إذ المعنى كتموه لأجل تحصيل المال به ولا يجوز أن يكون تمييزا وهو من البضع بمعنى القطع وكأن البضاعة إنما سميت بذلك لأنها تقطع من المال وتجعل للتجارة ومن ذلك البضع بالكسر لما بين الثلاث إلى العشرة أو لما فوق الخمس ودون العشرة والبضيعة للجزيرة المنقطعة عن البر وإعتبر الراغب في البضاعة كونها قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة ولم يعتبر الكثير كونها وافرة والله عليم بما يعملون
19
- لم يخف عليه سبحانه أسرارهم وصرح غير واحد أن هذا وعيد لإخوة يوسف عليه السلام على ما صنعوا بأبيهم وأخيهم وجعلهم إياه وهو هو عرضة للإبتذال بالبيع والشراء وشروه الضمير المرفوع إما للأخوة فشري بمعنى باع وإما للسيارة فهو بمعنى اشترى كما في قوله : وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه وقوله ولو أن هذا الموت يقبل فدية شريت أبا زيد بما ملكت يدي وجوزأن يكون على هذا الوجه بمعنى باع بناءا على أنهم باعوه لما التقطوه من بعضهم بثمن بخس أي نقص وهو مصدر أريد به اسم المفعول أي منقوص وجوز الراغب أن يكون بمعنى باخس أي ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا وقال مقاتل : زيف ناقص العيار وقال قتادة : بخس ظلم لأنه ظلموه في بيعه وقال ابن عباس والضحاك في آخرين : البخس الحرام وكان ذلك حراما لأنه ثمن الحر وسمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة أي منقوصها وقوله سبحانه : درهم بدل من ثمن أي لا دنانير معدودة أي قليلة وكني بالعد عن القلة لأن الكثير يوزن عندهم وكانت عدة هذه الدراهم في كثير من الروايات عشرين درهما وفي رواية
(12/204)

عن ابن عباس اثنين وعشرين وفي أخرى عنه عشرين وحلة ونعلين وقيل : ثلاثين وحلة ونعلين وقيل : ثمانية عشر اشتروا بها أخفافا ونعالا وقيل : عشرة وعن عكرمة أنها كانت أربعين درهما ولا يأبى هذا ما ذكره غير واحد من أن عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهما إذ ليس فيه نفي أن الأربعين قد تعد وكانوا فيه أي في يوسف كما هو الظاهر من الزاهدين
20
- أي الراغبين عنه والضمير في وكانوا إن كان للإخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن وإن كان لهم وكانوا مبتاعين بأن اشتروه من بعضهم أو من الإخوة فزهدهم لأنهم إعتقدوا فيه أنه آبق فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه وقيل : ضمير فيه للثمن وزهدهم فيه لرداءته أو لأن مقصودهم ليس إلا إبعاد يوسف عليه السلام وهذا ظاهر على تقدير أن يكون ضمير كانوا للإخوة والجار على ما نقل عن ابن مالك متعلق بمحذوف يدل عليه الزاهدين أي كانوا زاهدين فيه من الزاهدين وذلك أن اللام في الزاهدين اسم موصول ولا يتقدم ما في صلة الموصول عليه ولأن ما بعد الجار لا يعمل فيما قبله وهل من الزاهدين حينئذ صفة لزاهدين المحذوف مؤكدة كما نقول : عالم من العلماء أو صفة مبينة أي زاهدين بلغ بهم الزهد إلى أن يعدوا في الزاهدين لأن الزاهد قد لا يكون عريقا في الزاهدين حتى يعد فيهم إذا عدوا أو يكون خبرا ثانيا كل ذلك محتمل وليس بدلا من المحذوف لوجود من معه وقدر بعضهم المحذوف أعني وأنا فيه من الزاهدين وقال ابن الحاجب في أماليه : إنه متعلق بالصلة والمعنى عليه بلا شبهة وإنما فروا منه لما فهموا من أن صلة الموصول لا تعمل فيما قبل الموصول مطلقا وبين صلة أل وغيرها فرق فإن هذه على صورة الحرف المنزل منزلة الجزء من الكلمة فلا يمتنع تقديم معمولها عليها فلا حاجة إلى القول بأن تعلقه بالمذكور إنما هو مذهب المازني الذي جعل أل في مثل ذلك حرف تعريف وكأنه لا يرى تقدم معمول المجرور ممتنعا وإلا لم يتم بما ذكره ارتفاع المحذور
وزعم بعضهم أنه يلزم بعد عمل اسم الفاعل من غير اعتماد من الغفلة بمكان لأن محل محل الخلاف عمله في الفاعل والمفعول به الصريح لا في الجار والمجرور الذي يكفيه رائحة الفعل وقال بعض المتأخرين : إن الصفة هنا معتمدة على اسم كانوا وهو مبتدأ في الأصل والإعتماد على ذلك معتبر عندهم ففي الرضي عند قول ابن الحاجب : والإعتماد على صاحبه ويعني بصاحبه المبتدأ إما في الحال نحو زيد ضارب أخواه أو في الأصل نحو كان زيد ضاربا أخواه وظننتك ضاربا أخواك وإن زيدا ضارب غلاماه وعلى هذا لا يحتاج في الجواب إلى إخراج الجار والمجرور عن حكم الفاعل والمفعول به الصريح وإن كان له وجه وجيه خلافا لمن أنكره ومن الناس من يتمسك بعموم يتوسع في الظرف والججار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما في دفع ما يورد على تعلق الجار هنا بالصفة المجرور الواقعة صلة لأل كائنا ما كان فليفهم
هذا والشائع أن الباعة إخوته والزاهدين هم وفي بعض الآثار أنهم حين باعوه قالوا للتاجر : إنه لص آبق فقيده ووكل به عبدا أسود فلما جاء وقت ارتحالهم بكى عليه السلام فقال له التاجر : مالك تبكي فقال : أريد أن أصل إلى الذين باعوني لأودعهم وأسلم عليهم سلام من لا يرجع إليهم فقال التاجر للعبد : خذه واذهب به إلى مواليه ليودعهم ثم ألحقه بالقافلة فما رأيت غلاما ما أبر من هذا بمواليه ولا قوما أجفى منهم فتقدم العبد به إلى إخوته وكان واحد منهم مستيقظا يحرس الأغنام فلما وصل إليه يوسف وهو يعثر في قيده انكب
(12/205)

عليه وبكى فقال له : لما جئت فقال : جئت لأودعكم وأسلم عليكم فصاح عليهم أخوهم قوموا إلى من أتاكم يسلم عليكم سلام من لا يرجو أن يراكم أبدا فويل لكم من هذا الوداع فقاموا فجعل يوسف ينكب على كل واحد منهم ويقبله ويعانقه ويقول : حفظكم الله تعالى وإن ضيعتموني آواكم الله تعالى وإن طردتم 4 وني رحمكم الله تعالى وإن لم ترحموني قيل : إن الأغنام ألقت ما في بطونها من هول هذا التوديع ثم أخذه العبد وطلب القافلة فبينما هو على الراحلة إذ مر بقبر أمه راحيل في مقابر كنعان فلما أبصر القبر لم يتمالك أن رمى بنفسه عليه فاعتنقه وجعل يبكي ويقول : يا أماه ارفعي رأسك من التراب حتى تري ولدك مقيدا يا أماه إخوتي في الجب طرحوني ومن أبي فرقوني وبأبخس الأثمان باعوني ولم يرقوا لصغر سني ولم يرحموني فأنا أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبين والدي في مستقر رحمته إنه هو أرحم الراحمين فالتفت العبد فلم يره فرجع فرآه على القبر فقال : والله لقد صدق مواليك إنك عبد آبق ثم لطمه لطمة شديدة فغشي عليه ثم أفاق فقال له : لا تؤاخذني هذا قبر أمي نزلت أسلم عليها ولا أعود بعد لما تكرهه أبدا ثم رفع عينيه إلى السماء وقد تمرغ بالتراب والدموع في وجهه فقال : اللهم إن كانت لي خطيئة أخلقت وجهي عندك فبحرمة آبائي الكرام إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تعفو عني وترحمني يا أرحم الراحمين فضجت الملائكة إلى الله تعالى عند ذلك فقال تبارك وتعالى : يا ملائكتي هذا نبيي وابن أنبيائي وقد استغاث بي وأنا مغيثه ومغيث المستغيثين يا جبريل أدركه فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا صديق الله ربك يقرئك السلام ويقول لك : مهلا عليك فقد أبكيت ملائكة السماوات السبع أتريد أن أطبق السماء على الأرض فقال : لا يا جبريل ارفق بخلق ربي فإنه حليم لا يعجل فضرب الأرض بجناحه فهبت ريح حمراء وكسفت الشمس وأظلمت الغبراء فلم ير أهل القافلة بعضهم بعضا فقال التاجر : انزلوا قبل أن تهلكوا إن لي سنين عديدة أمر بهذا الطريق فما رأيت كاليوم فمن أصاب منكم ذنبا فليتب منه فما أصابنا هذا إلا بذنب اقترفناه فأخبره العبد بما فعل مع يوسف وقال يا سيدي : إني لما ضربته رفع عينه إلى السماء وحرك شفتيه فقال له التاجر : ويحك أهلكتنا وأهلكت نفسك فتقدم إليه التاجر وقال : يا غلام إنا ظلمناك حين ضربناك فإن شئت أن تقتص منا فها نحن بين يديك فقال يوسف : ما أنا من قوم إذا ظلموا يقتصون ولكني من أهل بيت إذ ظلموا عفوا وغفروا ولقد عفوت عنكم رجاء أن يعفو الله تعالى عني فانجلت الظلمة وسكنت الريح وأسفرت الشمس وأضاءت مشارق الأرض ومغاربها فساروا حتى دخلوا مصر آمنين وكان هذا التاجر فيما قيل : مالك بن ذعر الذي أخرجه من الجب وقيل : غيره
وروي أنه حين ورد به مصر باعه بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين وقيل : أدخل السوق للبيع فترافعوا في ثمنه حتى بلغ وزنه مسكا ووزنه ورقا ووزنه حريرا فاشتراه بذلك العزيز الذي كان على خزائن مصر عند ملكها وقيل : كان خباز الملك وصاحب شرابه ودوابه وصاحب السجن المشهور والمعول عليه هو الأول واسمه قطفير أو أطفير أو قنطورا والأول مروي عن ابن عباس وهو المراد في قوله سبحانه : وقال الذي اشتراه من مصر فهذا الشراء غير الشراء السابق الذي كان بثمن بخس وزعم اتحادهما ضعيف جدا وإلا لا يبقى لقوله : من مصر كثير جدوى وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد العمليقي ومات في حياة
(12/206)

يوسف عليه السلام بعد أن آمن به فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه إلى الإيمان فأبى
وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى عليه السلام عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى : ولقد جاءكم موسى من قبل بالبينات وقيل : فرعون موسى عليه السلام من أولاد فرعون يوسف عليه السلام والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء وهو الصحيح وظاهر أمر العزيز أنه كان كافرا
واستدل في البحر على ذلك بكون الصنم في بيته حسبما يذكر في بعض الروايات
وقال مجاهد : كان مؤمنا ولعل مراده أنه آمن بعد ذاك وإلا فكونه مؤمنا يوم الإشتراء مما لا يكاد يسلم نعم إنه اعتنى بأمر يوسف عليه السلام ولذا قال : لامرأته راعيل 1 بنت رعابيل وهو المروي عن مجاهد
وقال السدي : زليخا 2 بنت تمليخا وقيل : اسمها راعيل ولقبها زليخا وقيل : بالعكس والجار الأول كما قال أبو البقاء : متعلق باشتراه كقولك اشتريته من بغداد أي فيها أو بها أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الذي أو من الضمير في اشتري أي كائنا من أهل مصر والجار الثاني متعلق بقال كما أشرنا إليه لا باشتراه ومقول القول : أكرمي مثوه أي اجعلي محل ثوائه وإقامته كريما أي حسنا مرضيا وهذا كناية عن إكرامه عليه السلام نفسه على أبلغ وجه وأتمه لأن من أكرم المحل بتنظيفه وفرشه ونحو ذلك فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به وقيل : المثوى مقحم يقال : المجلس العالي والمقام السامي والمعنى أحسني تعهده والنظر فيما يقتضيه إكرام الضيف عسى أن ينفعنا في قضاء مصالحنا إذا تدرب في الأمور وعرف مجاريها أو نتخذه ولدا أي نتبناه ونقيمه مقام الولد وكان فيما يروى عقيما ولعل الإنفصال لمنع الخلو
وزعم بعضهم أنه لمنع الجمع على معنى عسى أن نبيعه فننتفع بثمنه وليس بشيء وكان هذا القول من العزيز لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة ومن ذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فيما أخرجه سعيد بن منصور والحاكم وصححه وجماعة : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا الخ والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها : يا أبت استأجره وأبو بكر حين استخلف عمر وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أي جعلنا له فيها مكانا يقال : مكنه فيه أي أثبته فيه ومكن له فيه أي جعل له مكانا فيه ولتقاربهما وتلازمهما يستعمل كل منهما في مقام الآخر قال سبحانه : وكم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض مالم نمكن لكم والمراد بالمكان هنا المكانة والمنزلة لا البعد المجرد أو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي أو غير ذلك مما ذهب إليه من ذهب من الفلاسفة إن حقا وإن باطلا والإشارة إلى ما يفهم مما تقدم من الكلام وما فيه من معنى البعد لتفخيمه والكاف نصب على المصدرية أي كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز أو مكانا عليا في قلبه حتى أمر امرأته دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر وفسر الجعل المذكور بجعله وجيها فيما بين أهل مصر ومحببا في قلوبهم بناءا على أنه الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى : ولنعلمه من تأويل الأحاديث
(12/207)

أي بعض تعبير الرؤيا التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبي السجن وروي هذا المعنى عن مجاهد وهو الظاهر كما يرشد إليه قوله عليه السلام : ذلك مما علمني ربي سواء جعل معطوفا على غاية مقدرة ينساق إليها الكلام ويستدعيها النظام كأنه قيل : ومثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف في الأرض وجعلنا قلوب أهلها كافة محال محبته ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز ولنعلمه بعض تأويل الأحاديث فيؤدي ذلك إلى الرتبة العليا والرياسة العظمى ولعل ترك المعطوف عليه للإشعار بعدم كونه مرادا أو جعل على لمحذوف كأنه قيل : ولهذه الحكمة البالغة فعلنا ذلك التمكين لا لشيء غيرها مما ليس له عاقبة حميدة
واختار بعض المحققين كون ذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده والكاف مقحمة للدلالة على تأكيد فخامة شأن المشار إليه على ما ذكروا في وكذلك جعلناكم أمة وسطا والمراد به التمكين في قلب العزيز أو في منزله وكون ذلك تمكينا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها لما أن الذي عليه يدور تلك الأمور إنما هو التمكين في جانب العزيز وأما التمكين في جانب الناس كافة فتأديته إليها إنما هي بإعتبار إشتماله على ذلك التمكين ولا يخفى أن حمل التمكين في الأرض على التمكين في قلب العزيز أو في منزله خلاف الظاهر وكذا حمله على ما تقدم ولعل الظاهر حمله على جعله ملكا يتصرف في أرض مصر بالأمر والنهي إلا أن في جعل التعليم المذكور غاية له خفاء لأن ذلك الجعل من آثاره ونتائجه المتفرعة عليه دون العكس ولم يعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العمل بموجب الرؤيا المنبهة على الحوادث قبل وقوعها عهدا مصححا لجعله غاية لذلك وما وقع من التداول في أمر السنين فإنما هو عمل بموجب الرؤيا السابقة المعهودة وإرادة ليظهر تعليمنا له كما ترى وكأن من ذهب إلى ذلك لأنه الظاهر أراد بتعليم تأويل الأحاديث تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له في أرض مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معاني كتب الله تعالى وأحكامها ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها بين أهلها والتعليم الإجمالي لتلك الأحاديث وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى إلا أن تعليم كل معنى شخص يتفق في ضمن الحوادث والإرشاد إلى الحق في كل نازلة من النوازل متأخر عن ذلك صالح لأن يكون غاية له وأدرج بعضهم الإنجاء تحت الإشارة بذلك وفيه بحث فتدبر والله غالب على أمره لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد بل إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون ويدخل في عموم المصدر المضاف شؤونه سبحانه المتعلقة بيوسف عليه السلام دخولا لا أوليا أو متول على أمر يوسف عليه السلام فيدبره ولا يكله إلى غيره وإلى رجوع ضمير أمره إلى الله تعالى ذهب ابن جبير وإلى رجوعه إلى يوسف عليه السلام ذهب القطربي وأياما كان فالكلام على ما في الكشف تذييل أما على الأول فلجريه مجرى قوله تعالى : إن الباطل كان زهوقا من سابقه لأنه لما كان غالبا على جميع أموره لا يزاحمه أحد ولا يمتنع عليه مراد كانت إرادته تمكين يوسف وكيت وكيت والوقوع رضيعي لبان وأما على الثاني فلأن معناه أنه الغالب على أمره يتولاه بلطيف صنعه وجزيل إحسانه وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل فأين يقع كيد الإخوة وغيرهم كامرأة العزيز موقعه فهو كقوله : وعلام أركبه إذا لم أنزل من سابقه أعني فدعوا إنزال فكنت أول نازل
(12/208)

والآية على الأول صريحة في مذهب أهل السنة ولكن أكثر الناس لا يعلمون
21
- أن الأمر كذلك فيما يأتون ويذرون زعما منهم أن لهم من الأمر شيئا وأنى لهم ذلك ! وأن الأمر كله لله عز و جل أولا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله والمراد بأكثر الناس قيل : الكفار ونقل ذلك عن ابن عطية
وقيل : أهل مصر وقيل : أهل مكة وقيل : الأكثر بمعى الجميع والمراد أن جميع الناس لا يطلعون على غيبه تعالى والأولى أن يبقى على ما يتبادر منه ولا يقتصر في تفسيره على ما تضمنته الأقوال قبل بل يراد به من نفى عنه العلم بما تقدم كائنا ما كان ولا يبعد أن يندرج في عمومه أهل الإعتزال ولما بلغ أشده أي بلغ زمان إنتهاء اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف عن النمو المعتد به أعني ما بين الثلاثين والأربعين وسئل القاضي النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب الخيمي عنه فقال : هو خمس وثلاثون سنة وتمامه أربعون
وقال الزجاج : هو سبعة عشر عاما إلى نحو الأربعين وعن مجاهد وقتادة ورواه ابن جبير عن ابن عباس أنه ثلاثة وثلاثون أو ثلاثون أو أحد وعشرون وقال الضحاك : عشرون وحكى ابن قتيبة أنه ثمان وثلاثون
وقال الحسن : أربعون والمشهور أن الإنسان يقف جسمه عن النمو إذا بلغ ذلك وإذا وقف الجسم وقفت القوى والشمائل والأخلاق ولذا قيل : إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جر أسباب الحياة له العمر وقيل : أقصى الأشد إثنان وستون وإلى كون الأشد منتهى الشباب والقوة قبل أن يؤخذ في النقصان ذهب أبو عبيدة وغيره من ثقات اللغويين واستظهره بعض المحققين وهو عند سيبويه جمع واحده شدة كنعمة وأنعم وقال الكسائي والفراء : إنه جمع شد نحو صك وأصك وفلس وأفلس وهذا على ما ذكر أبو حاتم يوجب أن يكون مؤنثا لأن كل جمع على أفعل مؤنث
وزعم عن أبي عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب وقال الفراء : أهل البصرة يزعمون أنه اسم واحد لكنه على بناء ندر من المفردات وقلما رأينا إسما على أفعل إلا وهو جمع آتينه حكما أي حكمة وهي في لسان الشرع العلم النافع المؤيد بالعمل لأنه بدونه لا يعتد به والعمل بخلاف العلم سفه أو حكما بين الناس وعلما يعني علم تأويل الرؤيا وخص بالذكر لأنه غير داخل فيما قبله أو أفرد بالذكر لأنه مما له شأن وليوسف عليه السلام به إختصاص تام كذا قيل وفسر بعضهم الحكمة بالنبوة والعلم بالتفقه في الدين وقيل : الحكمة حبس النفس عن هواها وصونها لا ينبغي والعلم هو العلم النظري وقيل : أراد بالحكمة الحكم بين الناس وبالعلم العلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وإصابته في الرأي
وعن ابن عباس أن الحكم النبوة والعلم الشريعة وتنكيرهما للتفخيم أي حكما وعلما لا يكتنه كنههما ولا يقادر قدرهما وتعقب كون المراد بالعلم العلم بتأويل الأحاديث بأن قوله سبحانه : وكذلك أي مثل ذلك الجزاء العجيب نجزي المحسنين
22
- أي كل من يحسن في علمه يأباه لأن ذلك لا يصلح أن يكون جزاءا لأعماله الحسنة التي من جملتها معاناة الأحزان والشدائد إلا أن يخص بعلم تأويل رؤيا الملك فإن ذلك
(12/209)

حيث كان عند تناهي أيام البلاء صح أن يعد إيتاءه من جملة الجزاء وأما رؤيا صاحبي السجن فقد لبث عليه السلام بعد تعبيرها في السجن بضع سنين وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ما آتاه لكونه محسنا في أعماله متقنا في عنفوان أمره ومن هنا قال الحسن : من أحسن عبادة الله سبحانه في شبيبته آتاه الله تعالى الحكمة في اكتهاله واستشكل ما أفاده تعليق الحكم بالمشتق من العلية على تقدير أن يراد من الحكمة العلم المؤيد بالعمل مثلا بأن إحسان العمل لا يكون إلا بعد العلم به فلو كان العلم المؤيد به مثلا علة للإحسان بذلك لزم الدور
وأجيب بأن إحسان العمل يمكن أن يكون بطريق آخر كالتقليد والتوفيق الإلهي فيكون سببا للعلم به عن دليل عقلي أو سمعي أو المراد الأعمال الغير المتوقفة على السمع فيكون ذلك السبب للعلم بما شرع له من الأعمال وقال بعض المحققين : الظاهر تغاير العلمين كما في الأثر من عمل بما علم يسر الله تعالى له ما لم يعلم وعن الضحاك تفسير المحسنين بالصابرين على النوائب وراودته التي هو في بيتها رجوع إلى شرح ما جرى عليه عليه السلام في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه وقوله سبحانه : وكذلك مكنا ليوسف إلى هنا اعتراض جيء به أنموذجا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه عليه السلام محسن في أعماله لم يصدر عنه ما يخل بنزاهته والمراودة المطالبة برفق من راد يرود إذا ذهب وجاء لطلب شيء ومنه الرائد لطالب الكلأ والماء وباعتبار الرفق قيل : رادت الإبل في مشيتها ترود رودانا ومنه بنى المرود ويقال : أورد يورد إذا رفق ومنه بني رويد والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون ومداواة الطبيب وغير ذلك مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما قال شيخ الإسلام : وهذا باب لطيف المسك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم : كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى فإن فعل الباديء وإن لم يكن جزاء لكنه لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمه وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن حيث كانتا سببا للقيام والقراءة عير عنهما بمها فقيل : إذا قمتم إلى الصلاة فإذا قرأت القرآن وهذه قاعدة مطردة مستمرة ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة فيما نحن فيه صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها فإن مطالبة الدائن للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي من جانب الدائن وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض وكذلك مراودتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتها التي هي تلك الأفعال فبني الصيغة على ذلك وروي عن جانب الحقيقة بأن أسند الفعل إلى الفاعل وأوقع على صاحب السبب فتأمل أه
وكأنه أشار بالأمر بالتأمل إلى ما فيه مما لا يخفى على ذويه وفي الكشف المراودة منازعة في الرود بأن يكون مقصد مجيئا وذهابا وللفاعل مقصد آخر يقابله فيهما ومعنى المفاعلة ههنا إما المبالغة في رودها أو الدلالة على اختلافهما فيه فإنها طلبت منه العمل وهو طلب منها الترك وهذا أبلغ ولما كان منازعة جيء بعن في قوله
(12/210)

تعالى عن نفسه كما تقول جاذبته عن كذا دلالة على الابعاد وتحصيل الجذب البالغ ولهذا قال في الاساس ومن المجاز راوده عن نفسه خادعه عنها
وقال الزمخشري هنا أي فعلت ما يفعل المخادع بصحابه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده ولا شك أن هذا إنما يحصل من المنازعة في الرود ولهذه النكتة جعل كناية عن التمحل لموافقته إياها والعدول عن التصريح بإسمها للمحافظة على الستر ما أمكن أو للاستجهان بذكره وإيراد الموصول دون امرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ولاظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادى بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة وإضافة البيت إلى ضميرها لما أن العرب تضيف البيوت إلى النساء باعتبار أنهن القائمات بمصالحه أو الملازمات له وخرج على ذلك قوله تعالى وقرن في بيوتكن وكثر في كلامهم صاحبة البيت وربة البيت للمرأة ومن ذلك ياربة البيت قومي غير صاغة قال تعالى وغلقت الأبوات أي أبواب البيت وتشديد الفعل للتكثير في المفعول إن قلنا إن الأبواب كانت سبعة كما قيل فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرة بعد مرة أو بمغلاق بعد مغلاق وجمع الأبواب حينئذ إما لجعل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعدد إغلاقه بمنزلة تعدده وزعم بعضهم أنه لم يغلق إلا بابان باب الدار وباب الحجر التي هما فيها
وادعى بعض المتأخرين أن التشديد للتعدية وأن كونه للتكثير وهم معللا ذلك بأن غلقت الأبواب غلقا لغة رديئة متروكة حسبما ذكره الجوهري ورد بأن إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها فإن مجرد التعدية يحصل بباب الأفعال فاختيار التفعيل عليه لأحد الأمرين ولذا قال الجوهري أيضا وغلقت الأبواب شدد للتكثير اه
وهي الحواشي الشاهبية أنه لم يتنبه الراد لأن ما نقله عليه لا له لأن الردىء الذي ذكره اللغو إنما هو استعمال الثلاثي منه لا أن له ثلاثيا لازما حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعديه لازم في الثلاثي وغيره سواء كان رديئا أو فصيحا فتعين أنه للتكثير وقد قال بذل غير واحد فالواهم ابن اخت خالة الموهم فافهم وقالت هيت لك أي أسرع فهي اسم فعل أمر مبني على الفتح كأين وفسرها الكسائي والفراء بتعال وزعما أنها كلمة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها وقال أبو زيد هي عبرانية وعن ابن عباس والحسن هي سريانية وقال السدي هي قبطية
وقال مجاهد وغيره هي عربية تدعوه لها إلى نفسها وهي كلمة حث وإقبال والام للتبيين كالتي في سقيا لك فهي متعلقة بمحذوف أي إرادتي كائنة لك أو اقول لك وجوز كونها اسم فعل خبري كهيهات واللام متعلقة بها والمعنى تهيأت لك وجعلها بعضهم على هذا للتبيين متعلقة بمحذوف أي لأن اسم الفعل لا يتعلق به الجار والتاء مطلقا من بنية الكلمة وليس تفسيرها بتهيأت لكون الدال على التكلم التاء ليرد أنها
(12/211)

إذا كانت بمعنى تهيأت لا تكون إسم فعل بل تكون فعلا مسندا إلى ضمير المتكلم بل لأنه لما بينت التهيؤ بأنه له لزم كونها هي المتهيأة كما إذا قيل لك : قربني منك فقلت هيهات فإنه يدل على معنى بعدت بالقرينة
وقرأ ابن كثير وأهل مكة هيت بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء تشبيها له بحيث
وقرأ أبو الأسود وابن أبي إسحاق وابن محيصن وعيسى البصرة وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هيت بفتح الهاء وسكون الياء وكسر التاء تشبيها له بجير والكلام فيها على هاتين القرائتين كالكلام فيها على القراءة السابقة
وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان والأعرج وشيبة وأبو جعفر هيت بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وتاء مفتوحة وحكى الحلواني عن هشام أنه قرأ كذلك إلا أنه همز وتعقب ذلك الداني تبعا لأبي علي الفارسي في الحجة وقد تبعه أيضا جماعة بأن فتح التاء فيما ذكر وهم من الراوي لأن الفعل حينئذ من التهيؤ ويوسف عليه السلام لم يتهيأ لها بدليل وراودته إلخ فلا بد من ضم التاء ورد ذلك صاحب النشر بأن المعنى على ذلك تهيأ لي أمرك لأنها لم يتيسر لها الخلوة به قبل أو حسنت هيئتك و لك على المعنيين للبيان والرواية عن هشام صحيحة جاءت من عدة طرق وروي عنه أيضا أنه قرأ بكسر الهاء والهمز وضم التاء وهي رواية أيضا عن ابن عباس وابن عامر وأب عمرو أيضا وقرأ كذلك أبو رجاء وأبو وائل وعكرمة ومجاهد وقتادة وطلحة وآخرون
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنهما سهلا الهمزة وذكر النحاس أنه قريء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وكسر التاء وقريء أيضا هيا بكسر الهاء وفتحها وتشديد الياء وهي على ما قال ابن هشام : لغة في هيت وقال بعضهم : إن القراآت كلها لغات وهي فيها إسم فعل بمعنى هلم وليست التاء ضميرا وقال آخر : إنها لغات والكلمة عليها إسم فعل إلى على قراءة ضم التاء مع الهمز وتركه فإن الكلمة عليها تحتمل أن تكون فعلا رافعا لضمير المتكلم من هاء الرجل يهيء كجاء يجيء إذا حسنت هيئته أو بمعنى تهيأت يقال : هئت وتهيأت بمعنى وإذا كانت فعلا تعلقت اللام بها ونقل عن ابن عباس أيضا أنه قرأ هييت مثل حببت وهي في ذلك فعل مبني للمفعول مسهل الهمز من هيأت الشيء كأن أحدا هيأها له عليه السلام قال معاذ الله نصب على المصدر يقال : عذت عوذا وعياذا وعياذة ومعاذا أي أعوذ بالله عز و جل معاذا مما تريدين مني وهذا إجتناب منه عليه السلام على أتم الوجوه وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله جل وعلا للخلاص منه وما ذلك إلا لأنه قد علم بما أراه الله تعالى ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء وقوله تعالى : إنه ربي أحسن مثواي تعليل ببعض الأسباب الخارجة مما عسى يكون مؤثرا عندها وداعيا لها إلى إعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي التي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها والضمير للشأن وفي تصدير الجملة به من الإيذان بفخامة مضمونها ما فيه مع زيادة تقريره في الذهن أي إن الشأن الخطير هذا أي هو ربي أي سيدي العزيز أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي على أكمل وجه فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه ! وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه وإلى هذا المعنى ذهب تعالى : عن نفسه كما تقول : جاذبته عن كذا دلالة على الإبعاد وتحصيل الجذب البالغ ولهذا قال في الأساس ومن المجاز راوده عن نفسه خادعه عنها
وقال الزمخشري هنا : أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده ولا شك أن هذا إنما يحصل من المنازعة في الورد ولهذه النكتة جعل كناية عن التمحل لموافقته إياها والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على الستر ما أمكن أو للإستجهان بذكره وإيراد الموصول دون إمرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة وإضافة البيت إلى ضميرها لما أن العرب تضيف البيوت إلى النساء بإعتبار أنهن القائمات بمصالحه أو الملازمات له وخرج على ذلك قوله تعالى : وقرن في بيوتكن وكثر في كلامهم صاحبة البيت وربة البيت للمرأة ومن ذلك
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
وغلقت الأبواب أي أبواب البيت وتشديد الفعل للتكثير في المفعول إن قلنا : إن الأبواب كانت سبعة كما قيل فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرة أو بمغلاق بعد مغلاق وجمع الأبواب حينئذ إما لجعل كل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعدد إغلاقه بمنزلة تعدده وزعم بعضهم أنه لم يغلق إلا بابان : باب الدار وباب الحجرة التي هما فيها
وادعى بعض المتأخرين أن التشديد للتعدية وأن كونه للتكثير وهم معللا ذلك بأن غلقت الأبواب غلقا لغة رديئة متروكة حسبما ذكره الجوهري ورد بأن إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها فإن مجرد التعدية يحصل بباب الأفعال فإختيار التفعيل عليه لأحد الأمرين ولذا قال الجوهري أيضا : وغلقت الأبواب شدد للتكثير أه
وفي الحواشي أنه لم يتنبه المراد لأن ما نقله عليه لا له لأن الرديء الذي ذكره اللغويون إنما هو إستعمال الثلاثي منه لا أن له ثلاثيا لازما حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعديه لازم في الثلاثي وغيره سواء كان رديئا أو فصيحا فتعين أنه للتكثير وقد قال بذلك غير واحد فالواهم ابن أخت خالة الموهم فافهم
وقالت هيت لك أي أسرع فهي إسم فعل أمر مبني على الفتح كأين وفسرها الكسائي والفراء بتعال وزعما أنها كلمة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها وقال أبو زيد : هي عبرانية وعن ابن عباس والحسن هي سريانية وقال السدي : هي قبطية
وقال مجاهد وغيره هي عربية تدعوه إلى نفسها وهي كلمة حث وإقبال واللام للتبيين كالتي في سقيالك فهي متعلقة بمحذوف أي إرادتي كائنة لك أو أقول لك وجوز كونها إسم فعل خبري كهيهات واللام متعلقة بها والمعنى تهيأت لك وجعلها بعضهم على هذا للتبيين متعلقة بمحذوف أيضا لأن إسم الفعل لا يتعلق به الجار والتاء مطلقا من بنية الكلمة وليس تفسيرها بتهيأت لكون الدال على التكلم التاء ليرد أنها
(12/212)

وابن أبي إسحاق وتعقب بأن فيه إطلاق الرب على غيره تعالى فإن أريد به الرب بمعنى الخالق فهو باطل لأنه لا يمكن أن يطلق نبي كريم على مخلوق ذلك وإذا أريد به السيد فهو عليه السلام في الحقيقة مملوك له ومن هنا وإن كان فيما ذكر نظر ظاهر إختار في البحر أن الضمير لله تعالى و ربي خبر إن و أحسن مثواي خبر ثان أو هو الخبر والأول بدل من الضمير أي إنه تعالى خالقي أحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي علي فكيف أعصيه بإرتكاب تلك الفاحشة الكبيرة ! وفيه تحذير لها عن عقاب الله تعالى وجوز على تقدير أن يكون الرب بمعنى الخالق كون الضمير للشأن أيضا وأيا كان ففي الإقتصار على ما ذكر هذه الحالة من غير تعرض لإقتضائها الإمتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على إستحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا وقوله تعالى : إنه لا يفلح الظالمون
23
- تعليل غب تعليل للإمتناع المذكور والفلاح الظفر وإدراك البغية وذلك ضربان : دنيوي وأخروي فالأول الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز والثاني أربعة أشياء : بقاء بلا فناء وغنى بلا فقر وعز بلا ذل وعلم بلا جهل ولذلك قيل : لا عيش إلا عيش الآخرة ومعنى أفلح دخل في الفلاح كأصبح وأخواته ولعل المراد هنا الفلاح الأخروي وبالظالمين كل من ظلم كائنا من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر الله تعالى دخولا أوليا وقيل : الزناة لأنهم ظالمون لأنفسهم وللمزني بأهله وقيل : الخائنون لأنهم ظالمون لأنفسهم أيضا ولمن خانوه ولقد همت به أي بمخالطته إذا لهم سواء إستعمل بمعنى القصد والإرادة مطلقا أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت كما هو المراد ههنا لا يتعلق بالأعيان
والمعنى أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت مما قص الله تعالى ولعلها تصدت هنالك لأفعال أخر من بسط يدها إليه وقصد المعانقة وغير ذلك مما إضطره عليه السلام إلى الهرب نحو الباب والتأكيد لدفع ما عسى يتوهم من إحتمال إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر وهم بها أي مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية كميل الصائم في اليوم الحار إلى الماء البارد ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه عليه السلام قصدها قصدا إختياريا لأن ذلك أمر مذموم تنادي الآيات على عدم إتصافه عليه السلام به وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهه به كما قيل وقد أشير إلى تغايرهما كما قال غير واحد : حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل : ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وأكد الأول دون الثاني
لولا أن رأى برهان ربه أي حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين وقيل : المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة عن الإقدام على المنكر وقيل : رؤية ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا مكتوبا في السقف وجواب لولا محذوف يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدته البرهان لجرى على موجب ميله الجبلي لكنه حيث كان مشاهدا له إستمر على ما هو عليه من قضة البرهان هذا ما ذهب إليه بعض المحققين في معنى الآية وهو قول بإثبات هم له عليه السلام إلا أنه هم عير مذموهم
وفي البحر أنه لم يقع منه عليه السلام هم بها ألبتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : قارفت الذنب
(12/213)

لو لا أن عصمك الله تعالى ولا نقول : إن جواب لو لا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على إمتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها وقد ذهب إلى الجواز الكوفيون
ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد بل نقول : إن جواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت كذا فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ولا يدل قولهم : أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل وكذلك ههنا التقدير لو لا أن رأى برهان ربه لهم بها فكان يوجد الهم على تقدير إنتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم والمراد بالبرهان ما عنده عليه السلام من العلم الدال على تحريم ما همت به وأنه لا يمكن الهم فضلا عن الوقوع فيه ولا إلتفات إلى قول الزجاج : ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيدا فكيف مع سقوط اللام لأنه توهم أن قوله تعالى : هم بها هو جواب لو لا ونحن لم نقل بذلك وإنما قلنا إنه دليل الجواب على أنه على تقدير أن يكون نفس الجواب قد يقال : إن اللام ليست بلازمة بل يجوز أن يأتي جواب لو لا إذا كانت بصيغة الماضي باللام بدونها فيقال : لو لا زيد لأكرمتك ولو لا زيد أكرمتك فمن ذهب إلى أن المذكور هو نفس الجواب لم يبعد وكذا لا إلتفات أيضا لقول ابن عطية : إن قول من قال إن الكلام قد تم في قوله تعالى : ولقد همت به وأن جواب لو لا في قوله سبحانه : وهم بها وأن المعنى لو لا أن رأى برهان ربه لهم بها فلم يهم يوسف عليه السلام يرده لسان العرب وأقوال السلف لما في قوله : يرده لسان العرب من البحث
وقد إستدل من ذهب إلى الجواز بوجوده في لسان العرب فقد قال سبحانه : إن كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها فقوله سبحانه : إن كادت إلخ إما أن يكون هو الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل وإما أن يكون دليل الجواب على ما قررناه وأما أقوال السلف فالذي نعتقده أنه لم يصح منها شيء عنهم لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة على أن ما روي لا يساعد عليه كلام العرب لأنه يقتضي كون الجواب محذوفا لغير دليل لأنهم لم يقدروا بناءا على ذلك لهم بها وكلام العرب لا يدل إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأنه الدليل عليه هذا وممن ذهب إلى تحقق الهم القبيح منه عليه السلام الواحدي فإنه قال في كتاب البسيط : قال المفسرون الموثوقون بعلمهم المرجوع إلى روايتهم الآخذون للتأويل عمن شاهد التنزيل : هم يوسف عليه السلام أيضا بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زال كل شهوة عنه
قال أبو جعفر الباقر : رضي الله تعالى عنه بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : طمعت فيه وطمع فيها وكان طمعه فيها أن هم أن يحل التكة
وعن ابن عباس أنه حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن وعنه أيضا أنها إستقلت له وقعد بين رجليها ينزع ثيابه ورووا في البرهان روايات شتى : منها ما أخرجه أبو نعيم في الحلية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه فقال عليه السلام : أي شيء تصنعين فقالت : أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوأة فقال : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ! ثم قال : لا تناليها مني أبدا وهو البرهان الذي رأى ومنها ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه عليه السلام مثل له يعقوب عليه السلام فضرب
(12/214)

بيده على صدره ومنها ما أخرجه عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضا على إصبعيه وهو يقول : يا يوسف أتهم بعمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء ومنها ما أخرجه عن القاسم بن أبي بزة قال : نودي يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنى قعد ليس له ريش فلم يعرض للنداء وقعد فرفع رأسه فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه فقام مرعوبا إستحياءا من أبيه إلى غير ذلك وتعقب الإمام الرازي ما ذكر بأن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف وحاشاه من أقبح المعاصي وأنكرها ومثلها لو نسب إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه فكيف يجوز إسناده إلى هذا الصديق الكريم وأيضا إن الله سبحانه شهد بكون ماهية السوء وماهية الفحشاء مصر وفتين عنه ومع هذه الشهادة كيف يقبل القول بنسبة أعظم السوء والفحشاء إليه عليه السلام وأيضا إن هذا الهم القبيح لو كان واقعا منه عليه السلام كما زعموا وكانت الآية متضمنة له لكان تعقيب ذلك بقوله تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء خارجا عن الحكمة لأنا لو سلمنا أنه لا يدل على نفي المعصية فلا أقل من أن يدل على المدح العظيم ومن المعلوم أنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية وأيضا إن الأكابر كالأنبياء متى صدرت عنهم زلة أو هفوة إستعظموا ذلك واتبعوه بإظهار الندامة والتوبة والتخضع والتنصل فلو كان يوسف عليه السلام أقدم على هذه الفاحشة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بذلك ولو كان قد إتبعها لحكى وحيث لم يكن علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب أصلا وأيضا جمع من له تعلق بهذه الواقعة قد أفصح ببراءة يوسف عليه السلام عن المعصية كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ومن نظر في قوله سبحانه : إنه من عبادنا المخلصين رآه أفصح شاهد على براءته عليه السلام ومن ضم إليه قول إبليس : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وجد إبليس مقرا بأنه لم يغوه ولم يضله عن سبيل الهدى كيف وهو عليه السلام من عباد الله تعالى المخلصين بشهادة الله تعالى وقد إستثناهم من عموم لأغوينهم أجمعين
وعند هذا يقال للجهلة الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام تلك الغفلة الشنيعة : إن كانوا من أتباع الله سبحانه فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته عليه السلام وإن كانوا من أتباع إبليس فليقبلوا شهادته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر من تلامذته إلى أن تخرجنا فزدنا عليه في السفاهة كما قال الحريري : وكنت امرءا من جند إبليس فانتهى بي الحال حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي ومن أمعن النظر في الحجج وأنصف جزم أنه لم يبق في يد الواحدي ومن وافقه إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ولم يجد معهم شبهة في دعواهم المخالفة لما شهد له الآيات البينات سوى روايات واهيات
وقد ذكر الطيبي طيب الله تعالى ثراه بعد أن نقل ما حكاه محي السنة عن بعض أهل الحقائق من أن الهم همان : هم ثابت وهو ما كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم إمرأة العزيز وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير إختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام أن هذا التفسير هو الذي يجب أن نذهب إليه ونتخذه مذهبا وإن نقل المفسرون ما نقلوا لأن متابعة النص القاطع وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير إليه على أن أساطين النقل المتقنين لو يرووا في ذلك شيئا مرفوعا في كتبهم وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب أه نعم قد صحح الحاكم بعضا من الروايات التي إستند إليها
(12/215)

من نسب تلك الشنيعة إليه عليه السلام لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الإعتبار عند ذوي الإعتبار
وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل نبذة منها إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها ثم إن الإمام عليه الرحمة ذكر في تفسير الآية الكرية بعد أن منع دلالتها على الهم ما حاصله : إنا سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول : لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق الهم إذ الذوات لا تصلح له ولا يتعين ما زعموه من إيقاع الفاحشة بها بل نضمره شيئا آخر يغاير ما أضمره فنقول : المراد هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأنه الذي يستدعيه حاله عليه السلام وقد جاء هممت بفلان أي قصدته ودفعته ويضمر في الأول المخالطة والتمتع ونحو ذلك لأنه اللائق بحالها فإن قالوا لا يبقى حينئذ لقوله سبحانه : لو لا أن رأى برهان ربه فائدة قلنا : بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين
الأول أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو هم بدفعها لفعلت معه ما يوجب هلاكه فكان في الإمتناع عن ذلك صون النفس عن الهلاك الثاني أنه لو إشتغل بدفعها فلربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو كان متمزقا من قدام لكان هو الجاني ولو كان متمزقا من خلف لكانت هي الجانية فأعلمه هذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها وفر عنها حتى صارت الشهادة حجة له على براءته عن المعصية وإلى تقدير الدفع ذهب بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ففي الجواهر والدرر للشعراني : سألت شيخنا عن قوله تعالى : ولقد همت به وهم بها ما هذا الهم الذي أبهم فقد تكلم الناس فيه بما لا يليق برتب الأنبياء عليهم السلام فقال : لا أعلم قلت : قد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن مطلق اللسان يدل على أحدية المعنى ولكن ذلك أكثرى لا كلى فالحق أنها همت به عليه السلام لتقهره على ما أرادته منه وهم بها ليقهرها في الدفع عما أرادته منه فالإشتراك في طلب القهر منه ومنها والحكم مختلف ولهذا قالت : أنا راودته عن نفسه وما جاء في السورة أصلا أنه راودها عن نفسها أه وجوز الإمام أيضا تفسير الهم بالشهوة وذكر أنه مستعمل في اللغة الشائعة فإنه يقول القائل فيما لا يشتهيه : لا يهمني هذا وفيما يشتهيه : هذا أهم الأشياء إلي وهو ما أشرنا إليه أولا أنه عليه الرحمة حمل الهم في الموضعين على ذلك فقال بعد : فمعنى الآية ولقد إشتهته واشتهاها ولو لا أن رأى برهان ربه لفعل وهو مما لا داعي إليه إذ لا محذور في نسبة الهم المذموم إليها والظاهر أن الهم بهذا المعنى مجاز كما نص عليه السيد المرتضي في درره لا حقيقة كما يوهمه ظاهر كلام الإمام وقد ذهب إلى هذا التأويل أبو علي الجبائي وغيره وروي ذلك عن الحسن وبالجملة لا ينبغي التعويل على ما شاع في الأخبار والعدول عما ذهب إليه المحققون الأخيار وإياك والهم بنسبة تلك الشنيعة إلى ذلك الجناب بعد أن كشف الله سبحانه عن بصر بصيرتك فرأيت برهان ربك بلا حجاب كذلك لنصرف عنه السوء قيل : خيانة السيد والفحشآء الزنا لأنه مفرط القبح وقيل : السوء مقدمات الفحشاء من القبلة والنظر بشهوة وقيل : هو الأمر السيء مطلقا فيدخل فيه الخيانة المذكورة وغيرها والكاف على ما قيل : في محل نصب والإشارة ألى التثبيت اللازم للإراءة المدلول عليها بقوله سبحانه : لو لا أن رأى برهان ربه أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه لنصرف إلخ وقال ابن عطية : إن الكاف متعلقة بمضمر تقديره جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف وقدر أبو البقاء نراعيه كذلك والحوفي أريناه البراهين كذلك وجوز الجميع كونه في موضع رفع فقيل : أي الأمر أو عصمته مثل ذلك
(12/216)

لكن قال الحوفي : إن النصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها واختار في البحر كون الإشارة إلى الرؤيا المفهومة من رأي أو الرأي المفهوم وقد جاء مصدر الرأي كالرؤية كما في قوله : ورأى عيني الفتى أباكا يعطي الجزيل فعليك ذاكا والكاف في موضع نصب بما دل عليه قوله سبحانه : لو لا أن رأى إلخ وهو أيضا متعلق لنصرف أي مثل الرؤية أو الرأي يرى براهيننا لنصرف إلخ وقيل غير ذلك ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل : إن الجار والمجرور متعلق بهم وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره ولقد همت به وهم بها كذلك لو لا أن رأي برهان ربه لنصرف عنه إلخ ولا يخفى ما في التعبير بما في النظم الجليل دون لنصرفه عن السوء والفحشاء من الدلالة على رد من نسب إليه ما نسب والعياذ بالله تعالى
وقرأ الأعمش ليصرف بياء الغيبة وإسناد الصرف إلى ضمير الرب سبحانه إنه من عبادنا المخلصين
24
- تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى واختارهم لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها والظاهر أن المراد الحكم عليه بأنه مختار لطاعته سبحانه ويحتمل على ما قيل : أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذين قال فيهم جل وعلا : إنا أخلصناهم بخالصة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المخلصين إذا كان فيه أل حيث وقع بكسر اللام وهم الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ولا يخفى ما في التعبير بالجملة الإسمية من الدلالة على إنتظامه عليه السلام في سلك أولئك العباد الذين هم هم من أول الأمر لا أنه حدث له ذلك بعد أن لم يكن وفي هذا عند ذوي الألباب ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل الله تعالى بها من كتاب واستبقا الباب متصل بقوله سبحانه : ولقد همت به وهم بها إلخ وقوله تعالى : كذلك إلخ اعتراض جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته عليه السلام والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا أي تسابقا إلى الباب على معنى قصد كل من يوسف عليه السلام وامرأة العزيز سبق الآخر إليه فهو ليخرج وهي لتمنعه من الخروج وقيل : المراد من السبق في جانبها إثره إلا أنه عبر بذلك للمبالغة ووحد الباب هنا مع جمعه أولا لأن المراد الباب البراني الذي هو المخلص واستشكل بأنه كيف يستبقان إليه ودونه أبواب جوانية بناءا على ما ذكروا من أن الأبواب كانت سبعة
وأجيب بأنه روي عن كعب أن أقفال هاتيك الأبواب كانت تتناثر إذا قرب إليها يوسف عليه السلام وتتفتح له ويحتمل أنه لم تكن تلك الأبواب المغلقة على الترتيب بابا فبابا بل كانت في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه فاستبقا إلى باب يخرج منه ونصب الباب على الإتساع لأن أصل إستبق أن يتعدى بإلى لكن جاء كذلك على حد وغذا كالوهم واختار موسى قومه سبعين رجلا وقيل : إنه ضمن الإستباق معنى الإبتداء فعدي تعديته وقدت قميصه من دبر يحتمل أن يكون معطوفا على إستبقا ويحتمل أن يكون في موضع الحال كما قال أبو حيان أي وقد قدت والقد القطع والشق وأكثر إستعماله فيما كان طولا وهو
(12/217)

المراد هنا بناءا على ما قيل : إنها جذبته من وراء فانخرق القميص إلى أسفله ويستعمل القط فيما كان عرضا وعلى هذا جاء ما قيل في وصف علي كرم الله تعالى وجهه : إنه كان إذا إعتلى قد وإذا اعترض قط وقيل القد هنا مطلق الشق ويؤيده ما نقل عن ابن عطية أنه قرأت فرقة وقط وقد وجد ذلك في مصحف المفضل بن حرب
وعن يعقوب تخصيص القد بما كان في الجلد والثواب الصحيحين والقميص معروف وجمعه أقمصة وقمص وقمصان وإسناد القد بأي معنى كان إليها خاصة مع أن لقوة يوسف عليه السلام أيضا دخلا فيه إما لأنها الجزء الأخير للعلة التامة وإما للإئيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذل مجهودها في ذلك لفوت المحبوب أو لخوف الإفتضاح وألفيا أي وجدا وبذلك قرأ عبدالله سيدها أي زوجها وهو فيعل من ساد يسود وشاع إطلاقه على المالك وعلى الرئيس وكانت المرأة إذ ذاك على ما قيل : تقول لزوجها سيدي ولذا لم يقل سيدهما وفي البحر إنها لم يضف إليهما لأنه لم يكن مالكا ليوسف حقيقة لحريته لدا الباب أي عند الباب البراني قيل : وجداه يريد أن يدخل مع ابن عم لها قالت إستئناف مبني على سؤال سائل يقول : فماذا كان حين ألفيا السيد عند الباب فقيل قالت : ما جزآء من أراد بأهلك سوءا من الزنا ونحوه
إلآ أن يسجن أو عذاب أليم
25
- الظاهر أن ما نافية و جزاء مبتدأ و من موصولة أو موصوفة مضاف إليه والمصدر المؤول خبر و أو للتنويع خبر المبتدأ وما بعد معطوف على ذلك المصدر أي ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم والمراد به على ما قيل : الضرب بالسوط وعن ابن عباس أنه القيد وجوز أن تكون ما إستفهامية فجزاء مبتدأ أو خبر أي أي شيء جزاؤه غير ذلك أو ذلك ولقد أتت في تلك الحالة التي يدهش فيها الفطن اللوذعي حيث شاهدها زوجها على تلك الهيئة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر الحال واستنزال يوسف عليه السلام عن رأيه في إستعصائه عليها وعدم مواتاته لها على مرادها بإلقاء الرعب في قلبه من مكرها طمعا في مواقعته لها مكرها عند يأسها عن ذلك مختارا كما قالت : لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ثم إنها جعلت صدور الإرادة المذكورة عن يوسف عليه السلام أمرا محققا مفروغا عنه غنيا عن الإخبار بوقوعه وإن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائها ولم تصرح بالإسم بل أتت بلفظ عام تهويلا للأمر ومبالغة في التخويف كأن ذلك قانون مطرد في حق كل أحد كائنا من كان وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز إعظاما للخطب وإغراءا له على تحقيق ما يتوخاه بحكم الغضب والحمية كذا قرره غير واحد
وذكر الإمام في تفسيره ما فيه نوع مخالفة لذلك حيث قال : إن في الآية لطائف : أحدها أن حبها الشديد ليوسف عليه السلام حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب وأيضا إنها لم تذكر أن يوسف عليه السلام يجب أن يقابل بأحد هذين الأمرين بل ذكرت ذلك ذكرا كليا صونا للمحبوب عن الذكر بالشر والألم وأيضا قالت : إلا أن يسجن والمراد منه أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخفيف فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر عنه يهذه العبارة بل يقال : يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون كيف قال حين هدد موسى عليه السلام : لئن اتخذت إلها
(12/218)

غيري لأجعلنك من المسجونين
وثانيها أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه إستعصم منها مع أنه كان في عنفوان الشباب وكمال القوة ونهاية الشهوة عظم إعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول : إن يوسف قصدني بسوء وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل إكتفت بهذا التعريض وليت الحشوية كانوا يكتفون بمثل ما إكتفت به ولكنهم لم يفعلوه ووصفوه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بما وصفوه من القبيح وحاشاه
وثالثها أن يوسف عليه السلام أراد أن يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فقولها ما جزاء إلخ جار مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي إنتهى المراد منه وفيه من الأنظار ما فيه
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أو عذابا أليما بالنصب على المصدرية كما قال الكسائي : أي أو يعذب عذابا أليما إلا أنه حذف ذلك لظهوره وهذه القراءة أوفق بقوله تعالى : أن يسجن ولم يظهر في سر إختلاف التعبير على القراءة المشهورة ما يعول عليه والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر قال إستئناف وجواب عما يقال : فماذا قال يوسف عليه السلام حينئذ فقيل : قال : هي ؤاودتني عن نفسي أي طالبتني للمواتاة لا أني أردت بها سوءا كما زعمت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسه عن التهمة ودفع الضرر عنها لا لتفضيحها
وفي التعبير عنها بضمير الغيبة دون الخطاب أو إسم الإشارة مراعاة لحسن الأدب مع الإيماء إلى الإعراض عنها كذا قالوا وفي هذا الضمير ونحوه كلام فقد ذكر ابن هشام في بعض حواشيه على قول ابن مالك في ألفيته :
فما لذي غيبة أو حضور
إلخ لينظر إلى نحو هي راودتني فإن هي ضمير باتفاق وليس هو الغالب بل لمن بالحضرة وكذا يا أبت استأجره وهذا في المتصل وذاك في المنفصل وقول من يخاطب شخصا في شأن آخر حاضر معه قلت له : إتق الله تعالى وأمرته بفعل الخير وقد يقال : إنه نزل الضمير فيهن منزلة الغائب وكذا في عكس ذلك يبلغك عن شخص غائب شيء فنقول : ويحك يا فلان أتفعل كذا تنزيلا له منزلا من بالحضرة وحينئذ يقال : الحد المستفاد مما ذكر إنما هو للضمير بإعتبار وضعه أه
وقال السراج البلقيني في رسالته المسمات نشر العبير لطي الضمير المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستثنى بحضور مدلوله حسا أو علما فالحس نحو قوله تعالى : هي راودتني و يا أبت استأجره كما ذكره ابن مالك وتعقبه شيخنا أبو حيان بأنه ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فضمير هي راودتني عائد على الأهل في قولها : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ولما كنت عن نفسها بذلك ولم تقل بي بدل بأهلك كني هو عليه السلام عنها بضمير الغيبة فقال : هي راودتني ولم يخاطبها بأنت راودتيني ولا أشار إليها بذم راودتني وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والإستحياء في الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء عليهم السلام فأبرز الأسم في صورة ضمير الغائب تأدبا مع العزيز وحياءا منه وضمير استأجره عائد على موسى فمفسره مصرح بلفظه وكأن ابن مالك تخيل أن هذا موضع إشارة لكون صاحب الضمير حاضرا عند المخاطب فاعتقد أن المفسر يستغني عنه بحضور مدلوله حسا فجرى الضمير مجرى إسم الإشارة والتحقيق ما ذكرناه هذا كلامه
وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح مما قاله الشيخ وذلك أن الإثنين إذا وقعت بينهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم : لي على هذا كذا : فيقول المدعى عليه : هو يعلم أنه لا حق له علي فالضمير في هو إنما
(12/219)

هو لحضور مدلوله حسا لا لقوله : لي كما هو المتبادر إلى الإفهام وأيضا يرد على ما ذكره في ضمير استأجره أن موسى عليه السلام لم يسبق له ذكر عند حضوره مع بنت شعيب عليه السلام وقد قالت : يا أبت استأجره وقصدها بالضمير الرجل الحاضر الذي بان لها من قوته وأمانته الأمر العظيم ثم إن من خاصم زوجته فقال للحاضرين من أهلها أو من غيرهم : هي طالق تطلق زوجته لوجود ما قرره ابن مالك ولا يتمشى على ما قرره الشيخ كما لا يخفى وبالجملة إن التأويل الذي ذكره في الآيتين وإن سلم فيهما لكن لا يكاد يتمشى معه في غيرهما هذا فليفهم وشهد شاهد من أهلها ذهب جميع إلى أنه كان خالها وكان طفلا في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته عليه السلام فقد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم تكلم أربعة في المهد وهم صغار : ابن ماشطة ابنة فرعون وشاهد يوسف عليه السلام وصاحب جريج وعيسى ابن مريم عليهما السلام وتعقب ذلك الطيبي بقوله : يرده دلالة الحصر في حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصبي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت : أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الصبي الثدي وقال اللهم لا تجعلني مثله أه ورده الجلال السيوطي فقال : هذا منه على جاري عادته من عدم الإطلاع على طرق الأحاديث والحديث المتقدم صحيح أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وصححه من حديث ابن عباس ورواه الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة وقال صحيح على شرط الشيخين وفي حديث الصحيحين المشار إليه آنفا زيادة على الأربعة الصبي الذي كان يرضع من أمه فمر راكب إلخ فصاروا خمسة وهم أكثر من ذلك ففي صحيح مسلك تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر ونظمتها فقلت : تكلم في المهد النبي محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبري جريج ثم شاهد يوسف وطفل لذي الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم أه وفيه أنه يرد الطيبي الطعن على الحديث الذي ذكر كما توهم وإنما أراد أن بين الحديث الدال على الخضر وغيره تعارضا يحتاج إلى التوفيق وفي الكشف بعد ذكره حديث الأربعة وما تعقب به مما تقدم عن الطيبي أنه نقل الزمخشري في سورة البروج خامسا فإن ثبتت هذه أيضا فالوجه أن يجعل في المهد قيدا وتأكيدا لكونه في مباديء الصبا وفي هذه الرواية يحمل على الإطلاق أي سواء كان في المباديء أو بعيدها بحيث يكون تكلمه من الخوارق ولا يخفى أنه توفيق بعيد
وقيل : كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب وكان رجلا ذا لحية ولا ينافي هذا قول قتادة : إنه كان رجلا حكيما من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره وجوز أن يكون بعض أهلها وكان معهما في الدار بحيث لم يشعرا به فبصر بما جرى بينهما فأغضبه الله تعالى ليوسف فقال الحق وعن مجاهد أن الشاهد هو القميص
(12/220)

المقدود وليس بشيء كما لا يخفى وجعل الله تعالى الشاهد من أهلها قيل : ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها وخص هذا مما إذا لم يكن الشاهد الطفل الذي أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء وأما إذا كان ذلك فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع فإن شهادة الصبي حجة قاطعة ولا فرق فيها بين الأقارب وغيرهم وتعقب بأن كون شهادة القريب مطلقا أقوى مما لا ينبغي أن يشك فيه وسمي شاهدا لأنه أدى تأديته في أن ثبت بكلامه قول يوسف وبطل قولها وقيل : سمي بذلك من حيث دل على الشاهد وهو تخريق القميص وفسر مجاهد فيما أخرجه عنه ابن جرير الشهادة بالحكم أي وحكم حاكم من أهلها إن كان قميصه قد من قبل أي قدام يوسف عليه السلام أو من قدام القميص و إن شرطية و كان فعل الشرط وقوله سبحانه : فصدقت جواب الشرط وهو بتقدير قد وإلا فالفاء لا تدخل في مثله وعن ابن خروف أن مثل هذا على إضمار المبتدأ والجملة جواب الشرط لا الماضي وحده وفي الكشاف إن الشرطية هنا نظير قولك : إن أحسنت إلى فقد أحسنت إليك من قبل لمن يمتن عليك بإحسانه فإنه على معنى إن تمتن علي أمتن عليك وكذا هنا المراد أن يعلم أنه كان قميصه قد ونحوه وإلا فبين أن الذي للإستقبال و كان تناف قيل : وهو مبني على ما ذهب إليه البعض من أن كان قوية في الدلالة على الزمان فحرف الشرط لا يقلب ماضيها مستقبلا وإلا فكل ماض دخل عليه الشرط قلبه مستقبلا من غير حاجة إلى التأويل وتعقب بأنه لابد من التأويل ههنا وجعل حدوث العلم ونحوه جزئي الشرطية كأن يقال : إن يعلم أو يظهر كونه كذلك فقد ظهر الصدق ويقال نظيره في الشريعة الأخرى الآيتية : وإن كانت كان مما يقلب حرف الشرط ماضيها مستقبلا كسائر الأفعال الماضية لأن المعنى ليس على تعليق الصدق أو الكذب في المستقبل على كون القميص كذا أو كذا كذلك بل على تعليق ظهور أحد الأمرين الصدق والكذب على حدوث العلم بكونه كذلك وهو ظاهر وهل هذا التأويل من باب التقدير أو من غيره فيه خلاف والذي يشير إليه كلام بعض المدققين أنه ينزل في مثل ذلك العلم بالشيء منزلة إستقباله لما بينهما من التلازم كما قيل : أي شيء يخفى فقيل : ما لا يكون فليفهم ثم إن متعلق الصدق ما دل كلامها عليه من أن يوسف أراد سوءا وهو متعلق الكذب المسند إليها فيما بعد وهما كما يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها الكلام باعتبار منطوقه يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها باعتبار ما يستلزمه فكأنه قيل : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت في دعواها أن يوسف أراد بها سوءا وهو من الكاذبين
26
- في دعواه أنها راودته عن نفسه وإن كان قميصه قد من دبر أي من خلف يوسف عليه السلام أو خلف القميص فكذبت في دعواها وهو من الصادقين
27
- في دعواه والشرطيتان محكيتان : إما بقول مضمر أي شهد قائلا أو فقال إن كان إلخ كما هو مذهب البصريين وإما يشهد لأن الشهادة قول من الأقوال فجاز أن تعمل في الجمل كما هو مذهب الكوفيين والإظهار في موضع الإضمار في الشرطية الثانية ليدل على الإستقلال مع رعاية زيادة الإيضاح وجملتا وهو من الكاذبين وهو من الصادقين مركدتان لأن من قوله : فصدقت يعلم كذبه ومن قوله : فكذبت يعلم صدقه ووجه دلالة قد القميص من دبر على كذبها أنها تبعته وجذبت ثوبه فقدته وأما دلالة قده من قبل على صدقها فمن وجهين : أحدهما أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسه قدت قميصه من قدام بالدفع وثانيهما أن يسرع إليها ليلحقها فيتعثر في مقام قميصه فيشقه كذا في الكشاف
(12/221)

وتعقب ابن المنير الوجه الأول بأن ما قرر في إتباعه لها يحتمل مثله في إتباعها له فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون عليه السلام أخذ بها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة بأن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين ثم جذبت قميصه إليها من قبل بل هذا أظهر لأن الموجب لقد القميص غالبا الجذب لا الدفع والوجه الثاني بأن ما ذكر بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها بأن ينقد قميصه في إسراعه للفرار أه
وأجيب عما ذكره أولا بأنه غير وارد لأن تلك الحالة السريعة لا تحتمل إلا أيسر ما يمكن وأسرعه وعلى تقدير إتباعها له تعين القد من دبر لأنه أهون الجذبين ثم لا نفرض كر الفار ليدفعها أو كما لحقت جذبت فهذا الفرض لا وجه له هنالك فإذا ثبت دلالته في الجملة على هذا القسم تعينت وعما ذكره ثانيا بأن الظاهر على تقدير أن تكون تابعة أنه إذا تعثر الفار يتعلق به التابع متشبها وإذا كانا منفلتين بعد ذلك الإحتمال
وذكر الفاضل المتعقب أن الحق في هذا الفصل أن يقال : إن الشاهد المذكور إن كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد كما ورد في بعض الأحاديث فالآية في مجرد كلامه قل أوانه حتى لو قال صدق يوسف وكذبت لكفى برهانا على ثدقه عليه السلام كما أن مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد براهان على صدق مريم فلا تنبغي المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها لأن العمدة في الدلائل نصبها لا مناسبتها وإن كان قريبا لها بصر بها من حيث لا تشعر فهذا والله تعالى أعلم كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف عليه السلام ويكذبها ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها ووثق بأن قد قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل على علم بأنه لم ينقد كذلك حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة وينصفهما جميعا فلذا ذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده وأخرجهما مخرجا واحدا وبنى قد لما لم يسم فاعله 4 في الموضعين سترا على قده وقد أمارة صدقها في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الإمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها
والحاصل أن عمدة هذا الشاهد الأمارة الأخيرة فقط والمناسبة فيها محققة وأما الإمارة الأولى فليست مقصودة وإنما هي كالغرض ذكرت توطئة للثانية فلم يلتمس لها مناسبة مثل تلك المناسبة وأما إن كان الحكيم الذي كان الملك يرجع إلى رأيه فلا بد من التماس المنسبة في الطرفين لأنها عمدة الحكيم وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر دليل على إدباره عنها وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه ولا يخفى أن مثل هذا الوجه لا يصلح أن يكون مطمح نظر الحكيم الذي لا يلتفت إلا لليقينيات فالأولى أن يقال : يحتمل أن ذلك الحكيم كان واقفا على حقيقة الحال بطريق من الطرق الممكنة ويسهل أمر ذلك إذا قلنا : إنه كان ابن عم لها فهو متيقن بعدم مقدم الشرطية الأولى وبوجود مقدم الشرطية الثانية ومن ضروريات ذلك الجزم بانتفاء تالي الأولى ووقوع تالي الثانية فإذا هو إخبار بكذبها وصدقه عليه السلام لكنه ساق شهادته مساقا مأمونا من الجرح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددة ظاهرا بين نفعها ونفعه وأما حقيقة فلا تردد فيها قطعا كما أشير إليه وإلى كون الشرطية الأولى غير مقصودة بالذات ذهب العلامة ابن الكمال معرضا بغفلة القاضي البيضاوي حيث قال : إن قوله تعالى : إن كان قميصه قد من قبل إلخ من قبيل المساحة في أحد شقي الكلام لتعين الآخر
(12/222)

عند القائل تنزيلا للمحتمل منزلة الظاهر لأن الشق بالجذب في هذا الشق أيضا محتمل ومن غفل عن هذا قال : لأنه يدل على أنه قصدها فدفعت عن نفسها إلى آخر عبارة البيضاوي وحاصل ذلك على ما قرره بعض مشايخنا عليهم الرحمة أن القائل : يعلم يقينا وقوع الشق من دبر لكنه ذكر الشق من القبل مع أنه محتمل أن يكون يجذبها إياه إلى طرفها كما أن كونه من دفعها إياه من بعض محتملا تنزيلا لهذا المحتمل منزلة الظاهر تأكيد ومبالغة لثبوت ما دلت عليه الشرطية الثانية من صدقها وكذبها يعني أنا نحكم بصدقها وكذبه بمجرد وقوع الشق في القبل وإن كان محتملا لأسباب أخر غير دفعها لكنه ما وقع هذا الشق أصلا فلا صدق لها وذلك كما إذا قيل لك : بلغت إلى زيد الكلام الفلاني في هذا اليوم فقلت : إن كنت تكلمت في هذا اليوم مع زيد فقولكم هذا صادق مع أن تكلمك معه في هذا اليوم مطلقا لا يدل على صدق دعواهم لإحتمال أنك تكلمت معه بكلام غير ذلك الكلام قلت ذلك تحقيقا لعدم تبليغك ذلك الكلام إليه هذا وذكر شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طيب الله تعالى ثراه : أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين على ما يدل عليه من حيث موافقته لما إدعاه صاحبه فإنها كانت تقول : هو طلبني مقبلا علي فخلصت نفسي عنه بالدفع أو الفرار وهو كان يقول : هي الطالبة ففررت منها وتبعتني واجتذبت ثوبي فقدته فوقوع الشق في شق الدبر يدل على كونه مدبرا عنها لا مقبلا عليها وعكسه على عكسه ثم فرع على هذا أن ما ذكره ابن الكمال عفلة عن المخاصمة بالمقاولة وهو توجيه لطيف للآية الكريمة بيد أن دعوى وقوع المخاصمة بالمقاولة على الطرز الذي ذكره رحمه الله تعالى مما لا شاهد لها وعلى المدعي البيان على أنه يبعد عقلا أن تقول هو طلبني مقبلا فخلصت نفسي منه فانقد قميصه من قبل وهو الذي تقتضيه دعواه أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين إلخ لظهور أن ظهور كذبها حينئذ أسرع ما يكون والجملة قيل : إن إحتمالات المضعفة لهذه المشاهدة كثيرة : منها ما علمت ومنها ما تعلمه بأدنى إلتفات ومن هنا قالوا : إن ذلك من باب إعتبار الأمارة ولذلك إحتج بالآية كما قال ابن الفرس : من يرى الحكم من العلماء بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات كاللقطة والسرقة والوديعة ومعاقد الحيطان والسقوف وغير ذلك
وذكر الإمام أن علامات كذب المرأة كانت غير بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقويات والمرجحات والله تعالى أعلم
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية من قبل ومن دبر بسكون الباء فيهما والتنوين وهي لغة الحجاز وأسد وقرأ أبو يعمر وابن أبي إسحاق والعطاردي وأبو الزناد وآخرون من قبل ومن دبر بثلاث ضمات وقرأ الأولان والجارود في رواية عنهم بإسكان الباء فيهما مع بنائهما على الضم جعلوهما كقبل وبعد بعد حذف المضاف إليه ونية معناه وتعقب ذلك أبو حاتم بأن هذا رديء في العربية وإنما يقع بعد البناء في الظروف وهذان اللفظان إسمان متمكنان وليسا بظرفين وعن ابن إسحاق أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح قيل : كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الجهة فلما رءا أي السيد وقيل : الشاهد والفعل من الرؤية البصرية أو القلبيه أي فلما علم قميصه قد من دبر قال إنه
(12/223)

أي هذا القد والشق كما قال الضحاك من كيدكن أي ناشيء من إحتيالكن أيتها النساء ومكركن ومسبب عنه وهذا تكذيب لها وتصديق له عليه السلام على ألطف وجه كأنه قيل : أنت التي راودتيه فلم يفعل وفر فاجتذبتيه فشققت قميصه فهو الصادق في إسناد المراودة إليك وأنت الكاذبة في نسبة السوء إليه وقيل : الضمير للأمر الذي وقع فيه التشاجر وهو عبارة عن إرادة السوء التي أسندت إلى يوسف عليه السلام وتدبير عقوبته بقولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلخ أي إن ذلك من جنس مكركن واحتيالكن وقيل : هو للسوء وهو نفسه وإن لم يكن إحتيالا لكنه يلازمه وقال الماوردي : هو لهذا الأمر وهو طمعها في يوسف عليه السلام وجعله من الحيلة مجازا أيضا كما في الوجه الذي قبله وقال الزجاج : هو لقولها ما جزاء إلخ فقط واختار العلامة أبو السعود القيل الأول وتكلف له بما تكلف واعترض على ما بعده من الأقوال بما إعترض
ولعل ما ذكرناه أقرب للذوق وأقل مؤنة مما تكلف له وأيا ما كان فالخطاب عام للنساء مطلقا وكونه لها ولجواريها كما قيل ليس بذاك وتعميم الخطاب للتنبيه على أن الكيد خلق لهن عريق : ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها سجية نفس كل غانية هند إن كيدكن عظيم
28
- فإنه ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس ولأن ذلك قد يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال ولربات القصور منهن القدح المعلى من ذلك لأنهن أكثر تفرغا من غيرهن مع كثرة إختلاف الكيادات إليهن فهن جوامع كوامل ولعظم كيد النساء إتخذهن إبليس عليه اللعنة وسائل لإغواء من صعب عليه إغواؤه ففي الخبر ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء وحكي عن بعض العلماء أنه قال : أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا وقال للنساء : إن كيدكن عظيم ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهن به ولا يخفى أن إستدلاله بالآيتين مبني على ظاهر إطلاقهما ومثله ما تنقبض له النفس وتنبسط يكفي فيه ذلك القدر فلا يضر كون ضعف كيد الشيطان إنما هو في مقابلة كيد الله تعالى وعظم كيدهن إنما هو بالنسبة إلى كيد الرجال وما قيل : إن ما ذكر لكونه محكيا عن قطفير لا يصح للإستدلال به بوجه من الوجوه ليس بشيء لأنه سبحانه قصه من غير نكير فلا جناح في الإستدلال به كما لا يخفى يوسف حذف منه حرف النداء لقربه وكمال تفطنه للحديث وفي ندائه بإسمه تقريب له عليه السلام وتلطيف
وقرأ الأعمش يوسف بالفتح والأشبه على ما قال أبو البقاء : أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر
يا عديا لقد وقتك الأواقي
وقيل : لم تضبط هذه القراءة عن الأعمش وقيل : إنه أجرى الوقف مجرى الوصل ونقل الفاء حركة الهمزة من قوله تعالى : أعرض عن هذا أي عن هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به فقد ظهر صدقك وطهارة ثوبك وهذا كما حكى الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله بالوصل والفتح وقريء أعرض بصيغة الماضي فيوسف حينئذ مبتدأ والجملة بعده خبر ولعل المراد الطلب على أتم وجه فيؤول إلى معنى أعرض واستغفري أنت أيتها المرأة وضعف أبو البقاء هذه القراءة بأنه الأشبه عليها أن
(12/224)

يقال : فاستغفري لذنبك الذي صدر عنك وثبت عليك إنك كنت بسبب ذلك من الخاطئين
29
- أي من جملة القوم المتعمدين للذنب أو من جنسهم بقال : خطيء يخطيء خطأ وخطأ إذا أذنب متعمدا وأخطأ إذا أذنب من غير تعمد وذكر الراغب أن الخطأ العدول عن الجهة وهو أضرب : الأول أن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل ومن ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من إجتهد فأخطأ فله أجر والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطيء في الإرادة مصيب في الفعل ولا يخفى أن المعنى الذي ذكرناه راجع إلى الضرب الأول من هذه الضروب والجملة المؤكيدة في موضع التعليل للأمر والتذكير لتغليب الذكور على الإناث واحتمال أن يقال : المراد إنك من نسل الخاطئين فمنهم سرى ذلك العرق الخبيث فيك بعيد جدا وهذا النداء قيل : من الشاهد الحكيم وروي ذلك عن ابن عباس وحمل الإستغفار على طلب المغفرة والصفح من الزوج ويحتمل أن يكون المراد به طلب المغفرة من الله تعالى ويقال : إن أولئك القوم وإن كانوا يعبدون الأوثان إلا أنهم مع ذلك يثبتون الصانع ويعتقدون أن للقبائح عاقبة سوء من لديه سبحانه إذا لم يغفرها واستدل على أنهم يثبتون الصانع أيضا بأن يوسف عليه السلام قال لهم : أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار والظاهر أن قائل ذلك هو العزيز ولعله كما قيل : كان رجلا حليما وروي ذلك عن الحسن ولذا إكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها وروي أنه كان قليل الغيرة وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام وفي البحر أن تربة إقليم قطفير إقتضت ذلك وأين هذا مما جرى لبعض ملوك المغرب أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجارية تغنيهم من وراء ستر فاستعاذ بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعا في طست وقال له الملك : إستعد البيتين من هذا الرأس فسقط في يد المستعيد ومرض مدة حياة الملك وقال نسوة المشهور وإليه ذهب أبو حيان أنه جمع تكسير للقلة كصبية وغلمة وليس له واحد من لفظه بل من معناه وهو إمرأة
وزعم ابن السراج أنه إسم جمع وعلى كل فتأنيثه غير حقيقي ولا إلتفات إلى كون ذلك المفرد مؤنثا حقيقيا لأنه مع طرو ما عارض ذلك ليس كسائر المفردات ولذا لم يؤنث فعله وفي نونه لغتان : الكسر وهي المشهورة والضم وبه قرأ المفضل والأعمش والسلمي كما قال القرطبي فلا عبرة بمن أنكر ذلك وهو إذ ذاك إسم جمع بلا خلاف ويكسر للكثرة على نساء ونسوان وكن فيما روي عن مقاتل خمسا : إمرأة الخباز وامرأة الساقي وامرأة البواب وامرأة السجان وامرأة صاحب الدواب
وروى الكلبي أنهن كن أربعا بإسقاط إمرأة البواب في المدينة أريد بها مصر والجار والمجرور في موضع الصفة لنسوة على ما استظهره بعضهم ووصفن بذلك لأن إغاظة كلامهن بهذا الإعتبار لإتصافهن بما يقوي جانب الصدق أكثر فإن كلام البدويات لبعدهن عن مظان الإجتماع والإطلاع على حقيقة أحوال الحضريات القصريات لا يلتفت إلى كلامهن فلا يغيظ تلك الإغاظة والكثير على إختيار تعلقه بقال ومعنى كون قولهن في المدينة إشاعته وإفشاؤه فيها وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر امرأت العزيز هو في الأصل الذي يقهر ولا يقهر كأنه مأخوذ من عز أي حصل في عزاز وهي الأرض الصلبة التي يصعب وطؤها
(12/225)

ويطلق على الملك ولعلهم كانوا يطلقونه إذ ذاك فيما بينهم على كل من ولاه الملك على بعض مخصوص من الولايات التي لها شأن فكأن من خواصه ذوي القدر الرفيع والمحل المنيع وهو بهذا المعنى مراد هنا لأنه أريد به قطفير وهو في المشهور كما علمت إنما كان على على خزائن الملك وكان الملك الريان بن الوليد وقيل : المراد به الملك وكان قطفير ملك مصر واسكندرية وإضافتهن لها إليه بهذا العنوان دون أن يصرحن بإسمها أو إسمه ليظهر كونها من ذوات الأخطار فيكون عونا على إشاعة الخبر بحكم أن النفوس إلى سماع أخبار ذوي الأخطار أميل وقيل وهو الأولى إن ذاك لقصد المبالغة في لومها بقولهن تراود فتاها عن نفسه أي تطلب مواقعته إياها وتتمحل في ذلك وإيثارهن صيغة المضارع للدلالة على دوام المراودة كأنها صارت سجية لها والفتى من الناس الطري من الشبان وأصله فتى بالياء لقولهم في التثنية وهي ترد الأشاء إلى أصولها فتيان وفالفتوة على هذا شاذ وجمعه فتية وفتيان وقيل : إنه يأئي وواوي ككنوت وكنيت وله نظائر كثيرة ويطلق على المملوك والخادم لما أن جل الخدمة شبان
وفي الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وأطلق على يوسف عليه السلام هنا لأنه كان يخدمها وقيل : لأن زوجها وهبه لها فهو مملوكها بزعم النسوة وتعبيرهن عنه عليه السلام بذلك مضافا إليها لا إلى العزيز لإبانة ما بينهما من التباين البين الناشيء عن الخادمية والمخدومية أو المالكية والمملوكية وكل ذلك لتربية ما مر من المبالغة في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوج دنيء قد تعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علو الجناب وأما التي لها زوج وأي زوج فمراودتها لغيره لاسيما لمن لم يكن بينها وبينه كفاءة لها وتماديها في ذلك غاية الغي ونهاية الضلال قد شغفها حبا أي شق حبه شغاف قلبها وهو حجابه
وقيل : هو جلدة رقيقة يقال لها : لسان القلب حتى وصل إلى فؤادها وبهذا يحصل المبالغة في وصفها بالحب له وقيل : الشغاف سويداء القلب فالمبالغة حينئذ ظاهرة وإلى هذا يرجع ما روي عن الحسن من أن الشغاف باطن القلب وما حكي عن أبي علي من أنه وسطه والفعل مفتوح الغين المعجمة عند الجمهور
وقرأ ثابت للبناني بكسرها وهي لغة تميم وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر رضي الله تعالى عنهما والشعبي وعوف الأعرابي شعفها بفتح العين المهملة وهي رواية عن قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري وروي عن ثابت البناني أنه قرأ كذلك أيضا إلا أنه كسر العين وهو من شعف البعير إذ هنأه فأحرقه بالقطران فالمعنى وصل حبه إلى قلبها فكاد يحترق ومن هذا قول الأعشى : يعصي الوشاة وكان الحب آونة مما يزين للمشعوف ما صنعا وذكر الراغب أنه من شعفة القلب وهي رأسه عند معلق النياط ويقال : لأعلى الجبل شعفة أيضا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أن الشغف الحب القاتل والشعف حب دون ذلك وأخرجا عن الشعبي أن الشغف الحب والشعف الجنون وأخرجا أيضا عن ابن زيد أن الشغف في الحب والشغف في البغض وهذا المعنى ممتنع الإرادة هنا على هذه القراءة وفي كتاب أسرار البلاغة في فصل ترتيب الحب
(12/226)

أن أول مراتب الحب الهوى ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب ثم الكلف وهو شدة الحب ثم العشق وهو إسم لما فضل عن المقدار المسمى بالحب ثم الشغف بالمهملة وهو إحتراق القلب مع لذة يجدها وكذلك اللوعة واللاعج ثم الشغف بالمعجمة وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب ثم الجوى وهو الهوى الباطن ثم التيم وهو أن يستعبده الحب ثم التبل هو أن يسقمه الحب ثم التدله وهو ذهاب العقل من الحب ثم الهيوم وهو أن يذهب الرجل على وجهه لغلبة الهوى عليه أه
ورتب بعضهم ذلك على طرز أخر والله تعالى أعلم وأيا ما كان فالجملة إما خبر ثان أو حال من فاعل تراود أو من مفعوله والمقصود منها تكرير اللوم وتأكيد العذل ببيان إختلاف أحوالها القلبية كأحوالها القالبية وجوز أبو البقاء كونها إستئنافية فهي حينئذ على ما قيل : في موضع التعليل لدوام المراودة وليس بذاك لأنه إن اعتبر من حيث الإنية كان مصيره إلى الإستدلال بالأخفى على الأجلى وإن إعتبر من حديث اللمية كان فيه ميل تمهيد العذر من قبلها وليس المقام له وانتصاب حبا على التمييز هو محول عن الفاعل إذ الأصل قد شغفها حبه كما أشير إليه وأدغم النحويان وحمزة وهشام وابن محيصن دال قد في شين شغفها
إنا لنراها أي نعلمها فالرؤية قلبية واستعمالها بمعنى العلم حقيقة كاستعمالها بمعنى الإحساس بالبصر وإذا أريد منها البصرية ثم جوز بها عن العلمية كان أبلغ في إفادة كونها فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة في ضلال عظيم عن طريق الرشد والصواب أو سنن العقل مبين
30
- واضح لا يخفى كونه ضلالا على أحد أو مظهر لأمرها بين الناس فالتنوين للتفخيم والجملة مقررة لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيل عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم وإنما لم يقلن : إنها لفي ضلال مبين إشعارا كما قيل : بأن ذلك الحكم غير صادر منهن مجازفة بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه وصح اللوم على الشغف قيل : لأنه إختياري باعتبار مباديه كما يشير إليه قوله : مازحته فعشقته والعشق أوله مزاح وإلا فما ليس باختياري لا ينبغي اللوم عليه كما أشار إليه البوصيري بقوله : يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلم وقيل : اللوم عليه باعتبار الإسترسال معه وترك علاجه فإنهم صرحوا بأن ذلك من جملة الأدواء وذكروا له من المعالجة ما ذكروا ومن أحسن ما ذكر له من ذلك تذكر مساوي المحبوب والتفكر في عواقبه فقد قيل : لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله فلما سمعت بمكرهن أي بإغتيابهن وسوء مقالتهن وتسمية ذلك مكرا لشبهه له في الإخفاء وقيل : كانت إستكتمتهن سرها فأفشينه وأطلعن على أمرها وقيل : إنهن قصدن بتلك المقالة إغضايها حتى تعرض عليهن يوسف لتبدي عذرها فيفزن بمشاهدته والمكر على هذين القولين حقيقة أرسلت إليهن تدعوهن قيل : دعت أربعين إمرأة منهن الخمس أو الأربع المذكورات وروي ذلك عن وهب والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها واعتدت أي هيأت لهن متكئا
(12/227)

أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد كما روي عن ابن عباس وهو من الإتكاء الميل إلى أحد الشقين وأصله موتكأ لأنه من توكأت فأبدلت الواو تاءا وأدغمت في مثلها وروي عن الحبر أيضا أن المتكأ مجلس الطعام لأنهم كانوا يتكؤن كعادة المترفين المتكبرين ولذلك نهي عنه فقد أخرج ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله وأن يأكل متكئا وقيل : أريد به نفس الطعام قال العتبي : يقال : إتكأنا عند فلان أي أكلنا ومن ذلك قول جميل : فظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله وهو على هذا إسم مفعول أي متكئا له أو مصدر أي إتكاء وعبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف عن ذلك مجازا وقيل : هو من باب الكناية وعن مجاهد أنه الطعام يحز حزا بالسكين واختلفوا في تعيينه فقيل : كان لحما وكانوا لا ينهشون اللحم وإنما يأكلونه حزا بالسكاكين وقيل : كان أترجا وموزا وبطيخا وقيل : الزماورد وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره أو شيء شبيه بالأترج وكأنه إنما سمي ما يقطع بالسكين بذلك لأن عادة من يقطع شيئا أن يعتمد عليه فيكون متكأ عليه وقرأ الزهري وأبو جعفر وشيبة متكى مشدد التاء غير همز بوزن متقى وهو حينئذ إما أن يكون من الإتكاء وفيه تخفيف الهمزة كما قالوا في توضأت : توضيت أو يكون مفتعلا من أوكيت السقاء إذا شددته بالوكاء والمعنى أعتدت لهن ما يشتد عليه بالإتكاء أو بالقطع بالسكين وقرأ الأعرج متكأ على وزن مفعلا من تكأ يتكأ إذا إتكأ وقرأ الحسن وابن هرمز متكأ بالمد والهمز وهو مفتعل من الإتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف وهو كثير في كلامهم ومنه قوله : وأنت من الغوائل حين ترمي وعن ذم الرجال بمنتزاح وقوله : ينباع من ذفري عضوب حسرة زيافة مثل الفنيق المكرم وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة وآخرون متكأ بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف وجاء ذلك عن ابن هرمز أيضا وهو الأترج عند الأصمعي وجماعة والواحد متكة وأنشد : فأهدت متكة لبني أبيها تخب بها العثمثمة الوقاح وقيل : هو إسم يعم جميع ما يقطع بالسكين كالأترج وغيره من الفواكه وأنشد : نشرب الاثم بالصواع جهارا ونرى المتك بيننا مستعارا وهو من متك الشيء بمعنى بتكه أي قطعه وعن الخليل تفسير المتك مضموم الميم بالعسل وعن أبي عمرو تفسيره بالشراب الخالص وحكى الكسائي تثليث ميمه وفسره بالفالوذج وكذا حكى التثليث المفضل لكن فسره بالزماورد وذكر أنه بالضم المائدة أو الخمر في لغة كندة وبالفتح قرأ عبدالله ومعاذ رضي الله تعالى عنهما وفي الآية على سائر القراءات حذف أي فجئن وجلسن وأتت كل واحدة منهن سكينا
قال بعض المحققين : لا يبعد أن تسمي هذه الواو فصيحة وإنما أعطت كل واحدة ذلك لتستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن لتبكتهن بالحجة
وقيل : غرضها ذاك والتهويل على يوسف عليه السلام مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في
(12/228)

أيديهن الخناجر توهمه أنهن يثبن عليه فيكون خائفا من مكرها دائما فلعله يجيبها إلى مرادها والسكين مذكر عند السجستاني قال : وسألت أبا زيد الأنصاري والأصمعي وغيرهم ممن أدركناه فكلهم يذكره وينكر التأنيث فيه وعن الفراء أنه يذكر ويؤنث وذلك حكى عن اللحياني ويعقوب ومنع بعضهم أن يقال : سكينة وأنشد عن الكسائي ما يخالف ذلك وهو قوله : الذئب سكينته في شدقه ثم قرابا نصلها في حلقه وقالت ليوسف عليه السلام وهن مشغولات بمعالجة السكاكين وإعمالها فيما بأيديهن والعطف بالواو ربما يشير إلى أن قوله : اخرج عليهن أي أبرز لهن لم يكن عقيب ترتيب أمورهن ليتم غرضها بهن
والظاهر أنها تأمره بالخروج إلا لمجرد أن يرينه فيحصل مرامها وقيل : أمرته بالخروج عليهن للخدمة أو للسلام وقد أضمت مع ذلك ما أشمرت يحكى أنها ألبسته ثيابا بيضا في ذلك اليوم لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض فلما رأينه عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه وإنما حذف على ما قيل : تحقيقا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن وفيه إيذان بسرعة إمتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من أفاعيل ونظير هذا آت كما مر آنفا أكبرنه أي أعظمنه ودهشن برؤية جماله الفائق الرائع الرائق فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب
وأخرج ابن جرير وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر وحكى أنه عليه السلام كان إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس وجاء عن الحسن أنه أعطي ثلث الحسن وفي رواية عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام أعطي هو وأمه شطر الحسن وتقدم خبر أنه عليه السلام كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى أكبرن حضن ومن ذلك قوله : يأتي النساء على أطهارهن ولا يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا وكأنه إنما سمي الحيض إكبارا لكون البلوغ يعرف به فكأنه يدخل الصغار سن الكبر فيكون في الأصل كناية أو مجازا والهاء على هذا إما ضمير المصدر فكأنه قيل : أكبرن إكبارا وإما ضمير يوسف عليه السلام على إسقاط الجار أي حضن لأجله من شدة شبقهن والمرأة كما زعم الواحدي إذا إشتد شبقها حاضت ومن هنا أخذ المتنبي قوله : خف الله واستر ذا الجمال ببرقع إذا لحت حاضت في الخدور العواتق وقيل : إن الهاء للسكت ورد بأنها لا تحرك ولا تثبت في الوصل وإجراء الوصل مجرى الوقف وتحريكها تشبيها بالضمير كما في قوله :
واحر قلباه ممن قلبه شم
على تسليم صحته ضعيف في العربية
واعترض في الكشف التخريجين الأولين فقال : إن نزع الخافض ضعيف لأنه إنما يجري في الظروف
(12/229)

والصفات والصلات وذلك لدلالة الفعل على مكان الحذف وأما في مثل هذا فلا والمصدر ليس مجازه إذ ليس المقام للتأكيد وزعم أن الوجه هو الأخير وكل ما ذكره في حيز المنع كما لا يخفى
وأنكر أبو عبيدة مجيء أكبرن بمعنى حضن وقال : لا نعرف ذلك في اللغة والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر ونقل مثل ذلك عن الطبري وابن عطية وغير واحد من المحققين ورواية ذلك عن ابن عباس إنما أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبدالصمد وهو وإن روي ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس لا يعول عليه فقد قالوا : إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم
وعن الكميت الشاعر تفسير أكبرن بأمنين ولعل الكلام في ذلك كالكلام فيما تقدم تخريجا وقبولا وأنا لا أرى الكميت من خيل هذا الميدان وفرسان ذلك الشأن وقطعن أيديهن أي جرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الإختيار حتى لم يعلمن بما عملن ولم يشعرن بمألم ما نالهن وهذا كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي وهو معنى حقيقي للتقطيع عند بعض
في الكشف إنه معنى مجازي على الأصح والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات وإما بالنسبة لكثرة القطع في يد كل واحدة منهن
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه فسر التقطيع بالإبانة والمعنى الأول أسرع تبادرا إلى الذهن وحمل الأيدي على الجوارح المعلومة مما لا يكاد يفهم خلافه ومن العجيب ما روي عن عكرمة من أن المراد بها الأكمام وأظن أن منشأ هذا محض إستبعاد وقوع التقطيع على الأيدي بالمعنى المتبادر ولعمري لو عرض ما قاله أدنى الإفهام لإستبعدته وقلن تنزيها لله سبحانه عن صفات التقصير والعجز وتعجبا من قدرته جل وعلا على مثل ذلك الصنع البديع حاش لله أصله حاشا الله بالألف كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا وهو على ما قيل : حرف وضع للإستثناء والتنزيه معا ثم نقل وجعل إسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الإستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه وكثيرا ما يراعون ذلك ألا تراهم قالوا : جلست من عن يمينه فجعلوا عن إسما ولم يعربوه وقالوا : غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتي في فتاه كل ذلك مراعاة للأصل واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف ورد في البحر دعوى إفادته والتنزيه في الإستئناف بأن ذلك غير معروف عند النحاة ولا فرق بين قام القوم إلا زيدا وحاشا زيدا وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون إسما إلا إذا نقل وسمي به وجعل علما وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب ولذا جعله ابن الحاجب إسم فعل بمعنى بريء الله تعالى من السوء ولعل دخول اللام كدخولها في هيهات هيهات لما توعدون وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل : إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن الزجاج نعم ذهب المبرد وأبو علي وابن عطية وجماعة إلى أنه فعل ماض بمعنى جانب وأصله من حاشيته الشيء وحشيه أي جانبه وناحيته وفيه ضمير يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به الله تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته والمراد تنزيهه وبعده كأن صار في جانب عما اتهم به لما رؤي فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة و السلام ولا يخفى أنه على هذا بفوت معنى التعجب واستدل على إسميتها بقراءة أبي السمال
(12/230)

حاشا الله بالتنوين وهو في ذلك على حد : سقيا لك وجوز أن يكون إسم فعل والتنوين كما في صه وكذا بقراءة أبي وعبدالله رضي الله تعالى عنهما حاشا الله بالإضافة كسبحان الله وزعم الفارسي أن حاشا في ذلك حرف جر مرادا به الإستثناء كما في قوله حاشا أبي ثوبان إن أبا ثوبان ليس ببكمة فدم ورد بأنه لم يتقدم هنا ما يستثنى منه وجاء في رواية عن الحسن أنه قرأ حاش لله بسكون الشين وصلا ووفقا مع لام الجر في الإسم الجليل على أن الفتحة أتبعت الألف في الإسقاط لأنها كالعرض اللاحق لها وضعفت هذه القراءة بأن فيها إلتقاء الساكنين على غير حده وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ حاش الإله وقرأ الأعمش حشا لله بحذف الألف الأولى هذا واستدل المبرد وابن جني والكوفيون على أن حاش قد تكون فعلا بالتصرف فيها بالحذف كما علمت في هذه القراءات وبأنه قد جاء المضارع منها كما في قول النابغة : ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ولا أحاشي من الأقوام من أحد ومقصودهم الرد على س وأكثر البصرية حيث أنكروا فعليتها وقالوا : إنها حرف دائما بمنزلة إلا لكنها تجر المستثنى وكأنه لم يبلغهم النصب بها كما في قوله
حاشا قريشا فإن الله فضلهم
وربما يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم : أما والله وأم والله نعم رد عليهم أيضا بأنها تقع قبل حرف الجر ويقابل هذا القول ما ذهب إليه الفراء من أنها لا تكون حرفا أصلا بل هي فعل دائما ولا فاعل لها والجر الوارد بعدها كما في
حاشاي إني مسلم معذور
والبيت المار آنفا بلام مقدرة والحق أنها تكون فعلا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام أو المصدر المفهوم من الفعل ولذا لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث وحرفا أخرى ويجر ما بعدها ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند ابن هشام أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض ولا تدخل عليها إلا كما إذا كانت فعلا خلافا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا جرت وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت إسم مصدر مرادفا للتنزيه وتمام الكلام في محله ما هذا بشرا نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني وقصرهن على الملكية بقولهن : إن هذا أي ما هذا إلا ملك كريم
31
- أي شريف كثير المحاسن بناءا على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد وأنشدوا لبعض العرب : فلست لأنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب وكثر في شعر المحدثين ما هو من هذا الباب ومنه قوله : ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا وغرضهن من هذا وصفه بأنه في أقصى مراتب الحسن والكمال الملائم لطباعهن ويعلم مما قرر أن الآية لا تقوم دليلا على أن الملك أفضل من بني آدم كما ظن أبو علي الجبائي وأتباعه وأيده الفخر ولا فخر له بما أيده وذهب غير واحد إلى أن الغرض تنزيهه عليه السلام عما رمى به على أكمل وجه وافتتحوا ذلك بحاشا لله
(12/231)

على ما هو الشائع في مثل ذلك ففي شرح التسهيل الإستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء إبتدأو تبرئة الله سبحانه من السوء ثم يبرئون من أرادوا تبرئته على معنى أن الله تعالى منزه عن أن لا يطهره مما يضيمه فيكون آكد وأبلغ والمنصور ما أشير إليه أولا وهو الذي يقتضيه السياق والسباق نعم هذا الإستعمال ظاهر فيما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى عن النسوة : حاش لله ما علمنا عليه من سوء و ما عاملة عمل ليس وهي لغة للحجازيين لمشابهتها لها في نفي الحال على ما هو المشهور في ليس من أنها لذلك أو في مطلق النفي بناءا على ما قال الرضي من أنها ترد لنفي الماضي والمستقبل والغالب على لغتهم جر الخبر بالباء حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدا على النصب في أشعارهم غير قوله : وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم قوادها أبناؤها متكنفون أباهم حنقوا الصدور وما هم أولادها والزمخشري يسمي هذه اللغة : اللغة القدمى الحجازية ولغة بني تميم في مثل ذلك الرفع وعلى هذا جاء قوله : ومهفهف الأعطاف قلت له أنتسب فأجاب ما قتل المحبل حرام وبلغتهم قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وزعم ابن عطية أنه لم يقرأ بها أحد هنا وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي ما هذا بشرى بالباء الجارة وكسر الشين على أن شرى كما قال صاحب اللوائح مصدر أقيم مقام المفعول به أي ما هذا بمشرى أي ليس ممن يشتري بمعنى أنه أعز من أن يجري عليه ذلك
وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو وأيضا إلا أنه روي عنه أنه مع ذلك كسر اللام من ملك وروى الكسر ابن عطية عن الحسن ابي الحويرث أيضا والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضا ملك بكسر اللام فقال : لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشتري لئيم وعلى التقديرين لا يقال : إن هذه القراءة مخالفة لمقتضى المقام نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه
قالت فذلكن الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة حسبما يقتضيه الظاهر إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراتب البشرية والإقتصار على الملكية أو بعنوان ما ذكر مع الأخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضا فإسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية أو الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو الذي لمتنني فيه أي عيرتنني في الإفتتان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن : إمرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني فإسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه والموصول صفة إسم الإشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فيه وفي ما قلتن فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا وقيل : أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني
(12/232)

الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الإفتتان به والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل : رفعا لمنزلته في الحسن واستبعادا لمحله فيه وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله
وقيل : إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرا فإن جعلت الإشارة إليه بإعتبار الزمان الأول كانت على أصلها وإن لوحظ الثاني كان قريبا وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد
وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام وضمير فيه عائد إليه وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه ولقد راودته عن نفسه وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها أي والله لقد راودته حسبما قلتن وسمعتن فاستعصم قال ابن عطية : أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني
وفي الكشاف أن الإستعصام بناءا مبالغة يدل على الإمتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الإستزادة منها ونحوه إستمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب أه
وفي البحر والذي ذكره الصوفيون في استعصم أنه موافق لإعتصم وأما إستمسك واستوسع واستجمع فاستفعل فيه أيضا موافقة لإفتعل والمعنى إمتسك واتسع واجتمع وأما إستفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو إستكبر وتكبر فالمعنى فإمتنع عما أرادت منه وبالإمتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة قيل : وعنث بذلك فراره عليه السلام منها فإنه إمتنع منها أولا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادا كما لا يخفى وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار إبتهاجها بذلك
وقيل : إنه بإعتبار المعطوف وهو الإستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه السلام في عنفوان الشباب ومزيد إختلاطه معها ومراودتها إياه مع إرتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس وليت السدي لو كان قد سد فاه عن قوله : فاستعصم بعد حل سراويله ثم إنها بعد أن إعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت : ولئن لم يفعل ما ءامره أي الذي أمره به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فما موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع أمر كقوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
ومفعول أمر الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم إمتثال ما أمرت به مطلقا كما قيل وإما محذوف لدلالة يفعل عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به
(12/233)

وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به ويعتبر الحذف تدريجا لإشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبا وكذا يقال في أمثال ذلك
وقال ابن المنير في تفسيره : إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلا منصوبا مفصولا كأنه قيل : أمر يوسف إياه لتعذر إتصال ضميرين من جنس واحد ويجوز أن تكون ما مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري إياه ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهار لجريان حكومتها عليه واقتضاءا للإمتثال لأمرها ليسجنن بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريا على رسم الملوك
وجوز أن يكون إيهاما لسرعة ترتب ذلك على عدم إمتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل
وليكونا بالمخففة من الصاغرين
32
- أي الأذلال المهانين وهو من صغر كفرح ومصدر صغر بفتحتين وصغرا بضم فسكون وصغار بالفتح وهذا في القدر وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم ومصدره صغر كعنب وجعل بعضهم الصغار مصدرا لهذا أيضا وكذا الصغر بالتحريك والمشهور الأول وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل : لتحققه وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق
وقيل : لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة وقرأت فرقة بالتثقيل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون سمت فيه بالألف كنسفعا على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
وذلك في الحقيقة لشبهها بالتنوين لفظا لكونها نونا ساكنة مفردة تلحق الآخر واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه ساد مسد الجوابين ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرا عظيما في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجر إليه : قيل : ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هو من فروعه ومستتبعاته وقيل : إن قولها : ليكونا من الصاغرين إنما أتت به بدل قولها هناك : عذاب أليم ذله بالقيد أو بالقرب أو بغير ذلك لكن يحتمل أنها أرادت بالذل والعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط أو ما يكون به أو بغيره أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب وبالعذاب الأليم ما يكون به أو بغيره أو بالعكس وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظم مما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هنا وأو هناك ولعلها إنما بالغت في ذلك بمحضر من تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بل غليلها ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد فيضيق عليه الحيل ويعي به العلل وينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر قال إستئناف بياني كأن سائلا يقول : فماذا صنع يوسف حينئذ فقيل : قال مناجيا لربه عز و جل رب السجن الذي وعدتني بالإلقاء فيه وهو إسم للمحبس وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب السجن بفتح السين على أنه مصدر
(12/234)

سجنه أي حبسه وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده وقرأ رب بالضم و السجن بكسر السين والجر على الإضافة فرب حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر والمعنى على ما قيل : لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره أحب إلي أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافدة إثرها راحات كثيرة أبدية مما يدعونني إليه من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفا من الحبس والإقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل وقيل : إكتفى عليه السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طعمها عن المساعدة خوفا مما توعدته لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناءا على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى وفيه منع ظاهر وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزين له مطاوعتها فقد روي أنهن قلن له : أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم وروي أن كلا منهن طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرا تسأله الزيارة فإسناد ذلك إليهن لأنهن أيضا دعونه إلى أنفسهن صريحا أو إشارة
وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه السلام لما قال : رب السجن أحب إلي إلخ أوحى الله تعالى إليه : يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت : العافية أحب إلي عوفيت ولذلك رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على من كان يسأل الصبر فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة و السلام أنه سمع رجلا وهو يقول : اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : سألت الله تعالى البلاء فاسأله العافية
وإلا تصرف أي وإن لم تدفع عني كيدهن في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة أصب إليهن أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن بمواتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريا على سنن الأنبياء عليهم السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في إستدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث : أدركني وإلا هلكت لا أنه عليه السلام يطلب الإجبار الإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السوء كذا قرره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب وغيره : إنه فرار إلى الإعتزال وإشارة إلى جواب إستدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى وقد قرر ذلك الإمام بما قرره فليراجع وليتأمل وأصل إلا إن لا فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية كما أشرنا إليه وقد أدغمت فيه النون باللام و أصب من صبا يصبوا وصبوة إذا مال إلى الهوى ومنه الصبا للريح المخصومة لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها مضارع مجزوم على أنه جواب الشرط والجملة الشرطية عطف على قوله : السجن أحب وجيء بالأولى إسمية دون الثانية لأن أحبيته السجن مما يدعونه إليه كانت ثابتة مستمرة ولا كذلك الصرف المطلوب وقريء أصب من صبيت صبابة
(12/235)

إذا عشقت وفي البحر الصبابة إفراط الشوق كأن صاحبها ينصب فيما يهوى والفعل مضمن معنى الميل أيضا ولذا عدي بإلى أي أصب مائلا إليهن وأكن من الجاهلين
33
- أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح فالجهل بمعنى السفاهة ضد الحكمة لا بمعنى عدم العلم ومن ذلك قوله : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فاستجاب له ربه أي أجاب له على أبلغ وجه دعاءه الذي تضمنه قوله : وإلا تصرف عني كيدهن إلخ فإنه في قوة قوله : أصرفه عني بل أقوي منه في إستدعاء الصرف على ما علمت وفي إسناد الإستجابة إلى الرب مضافا إلى ضميره عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف وزاد حسن موقع ذلك إفتتاح كلامه عليه السلام بندائه تعالى بعنوان الربوبية فصرف عنه كيدهن حسب دعائه بأن ثبته على العصمة والعفة وحال بينه وبين المعصية إنه هو السميع لدعاء المتضرعين إليه العليم
34
- بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم وبما يصلحهم لا غيره سبحانه ثم بدا لهم أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدين للحل والعقد ربما إكتفوا بأمر يوسف عليه السلام بالكتمان والإعراض عن ذلك من بعد ما رأوا الآيات الصارفة لهم عن ذلك البدا وهي الشواهد الدالة على براءته عليه السلام وطهارته من قد القميص وقطع النساء أيديهن وعليهما إقتصر قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير وفيه إطلاق الجمع على إثنين والأمر فيه هين وعن مجاهد الإقتصار على القد فقط لأن القطع ليس من الشواهد الدالة على البراءة في شيء حينئذ للتعظيم ويحمل الجمع حينئذ على التعظيم أو أل على الجنسية وهي تبطل معنى الجمعية كذا قيل وهو كما ترى ووجه بعضهم عد القطع من الشواهد بأن حسنه عليه الصلاة و السلام الفاتن للنساء في مجلس واحد وفي أول نظرة يدل على فتنتها بالطريق الأولى وأن الطلب منها لا منه وعد بعضهم إستعصامه عليه السلام عن النسوة إذ دعونه إلى أنفسهن فإن العزيز وأصحابه قد سمعوه وتيقنوا به حتى صار كالمشاهد لهم دلالة ذلك على البراءة ظاهرة
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الآيات فقال : ما سألني عنها أحد قبلك من الآيات : قد القميص وأثرها في جسده وأثر السكين فعد رضي الله تعالى عنه الأثر من الآيات ولم يذكر فيما سبق ومن هنا قيل : يجوز أن يكون هناك آيات غير ما ذكر ترك ذكرها كما ترك ذكر كثير من معجزات الأنبياء عليهم السلام وفاعل بدا ضمير يعود إما للبداء مصدر الفعل المذكور أو بمعنى الرأي كما في قوله : لعلك والموعود حق لقاؤه بدا لك في تلك القلوص بداء وإما للسجن بالفتح المفهوم من قوله سبحانه : ليسجننه وجملة القسم وجوابه إما مفعول لقول مضمر وقع حالا من ضميرهم وإلى ذلك ذهب المبرد وإما مفسرة للضمير المستتر في بدا فلا موضع لها
وقيل : إن جملة ليسجننه جواب لبدا لأنه من أفعال القلوب والعرب تجريها مجرى القسم وتتلقاها بما يتلقى به وزعم بعضهم أن مضمون الجملة هو فاعل بدا كما قالوا في قوله سبحانه : أو لم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من
(12/236)

القرون وقوله تعالى : وتبين لكم كيف فعلنا بهم أن الفاعل مضمون الجملة أي كثرة إهلاكنا وكيفية فعلنا وظاهر كلام ابن مالك في شرح التسهيل أن الفاعل في ذلك الجملة لتأويلها بالمفرد حيث قال : وجاز الإسناد في هذا الباب بإعتبار التأويل كما جاز في باب المبتدأ نحو سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم وجمهور النحاة لا يجوزون ذلك كما حقق في موضعه
واختار المازني في الفاعل الوجه الأول قيل : وحسن بدا لهم بداء وإن لم يحسن ظهر لهم ظهور لأن البداء قد أستعمل في غير المصدرية كما علمت واختار أبو حيان الوجه الأخير وكونه ضمير السجن السابق على قراءة من فتح السين والأولى كونه ضمير السجن المفهوم من الجملة أي بدا لهم سجنه المحتوم قائلين : والله ليسجننه وكان ذلك البداء بإستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها وحبه إياها وجعله زمام أمره بيدها
وروي أنه عليه السلام لما إستعصم عنها ويئست منه قالت للعزيز : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودته عن نفسه فأبى ويصف الأمر حسبما يختار وأنا محبوسة محجوبة فأما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس وأكذبه وإما أن تحبسه كما أني محبوسة فحبس قال ابن عباس : إنه أمر به عليه السلام فحمل على حمار وضرب معه الطبل ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني راود سيدته فهذا جزاؤه وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما قال أبو صالح : كلما ذكر هذا بكى وأرادت بذلك تحقيق وعيدها لتلين به عريكته وتنقاد لها قرونته لما إنصرمت حبال رجائها عن إستتباعه بعرض الجمال بنفسها وبأعوانها
وقرأ الحسن لتسجننه على صيغة الخطاب بأن خاطب بعضهم العزيز ومن يليه أو العزيز وحده على وجه التعظيم أو خاطب به العزيز ومن عنده من أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس حتى حين
35
- قال ابن عباس : إلى انقطاع المقال وما شاع في المدينة من الفاحشة وهذا بادي الرأي عند العزيز وأما عندها فحتى يذلله السجن ويسخره لها ويحسب الناس أنه المجرم وقيل : الحين ههنا خمس سنين وقيل : بل سبع
وقال مقاتل : إنه عليه السلام حبس إثنتي عشرة سنة والأولى أن لا يجزم بمقدار وإنما يجزم بالمدة الطويلة والحين عند الأكثرين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل وقد إستعمل في غير ذلك كما ذكرناه في شرح القادرية
وقرأ ابن مسعود عتى بإبدال حاء حتى عينا وهي لغة هذيل وقد أقرأ رضي الله تعالى عنه بذلك إلى أن كتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أن يقريء بلغة قريش حتى بالحاء ودخل معه السجن فتيان غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد : أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه وكان قد غضب عليهما الملك بسبب أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فضمنوا لهما مالا على أن يسماه في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر بين يدي الملك قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم وقال الخباز : لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال للساقي : إشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز : كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك لدابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما فاتفق أن أدخلا معه السجن ولعله إنما عبربدخل الظاهر في كون الدخول
(12/237)

بالإختيار مع أنه لم يكن كذلك للإشارة على ما قيل : إلى أنهما لما رأيا يوسف هان عليهما أمر السجن لما وقع في قلوبهما من محبته
وهوى كل نفس حيث حبيبها
فقد أخرج غير واحد عن ابن إسحق أنهما لما رأياه قالا له : يا فتى لقد والله أحببناك حين رأيناك فقال لهما عليه السلام : أنشدكما الله تعالى أن لا تحباني فو الله ما أحبني أحد قط إلا دخل على من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء ثم أحبني أبي فدخل علي من حبه بلاء ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل علي بحبها إياي بلاء فلا تحباني بارك الله تعالى فيكما فأبيا إلا حبه والله حيث كان وقيل : عبر بذلك لما أن ذكر معه يفيد اتصافه عليه السلام بما ينسب إليهما والمناسب في حقه نسبة الدخول لمكان قوله عليه السلام : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه لا الادخال المفيد لسلب الإختيار ولو عبر بأدخل لأفاد ذلك نسبة الإدخال إليه فلم يكن بد من التعبير بالدخول ترجيحا لجانبه عليه السلام والظاهر أن مع تدل على الصحبة والمقارنة لفاعل الفعل في ابتداء تلبسه بالفعل فتفيد أن دخولهما مصاحبين وأنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة وتعقب بأن هذا منتقض بقوله سبحانه : وأسلمت مع سليمان حكاية عن بلقيس إذ ليس إسلامهما مقارنا لابتداء إسلام سليمان عليه السلام وأجيب بأن الحمل على المجاز هنالك للمصارف ولا صارف فيما نحن فيه فيحمل على الحقيقة ويشهد لذلك ما ذكره الزمخشري في قوله سبحانه : فلما بلغ معه السعي من أنه بيان متعلق بمحذوف لتعذر التعلق ببلغ أو السعي معنى أو لفظا
وقال صاحب الكشف : إنه لا يتعين المحكي عنها المعية الفاعل فجاز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا وتقديم مع للإشعار بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها كانت مسلمة فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يتعد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف نحو مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المعية ومطلق الجمع معلوم بالضرورة أه
وفرق بعضهم بين الفعل الممتد كالإسلام وغيره كالدخول بأن الأول لا يقتضي مقارنتهما في ابتدائه بخلاف الثاني وهو على ما قيل : راجع إلى الجمع وليس من المعية في شيء على أنه حينئذ لا يحتاج إلى تأويل في آية ولما بلغ معه السعي واختير أن المقارنة هي الأصل ولا يعدل عنها ما أمكنت فتأمل
وتأخير الفاعل عن المفعول لما من غير مرة من الإهتمام بالمقدم والتسويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده فضل تمكن ولعل تقديم الظرف على السجن لأن الإهتمام بأمر المعية أشد من الإهتمام بأمره لما أنها المنشأ لما كان وقيل : إنما قدم لأن تأخيره يوهم أن يكون خبرا مقدما على المبتدأ وتكون الجملة حالا من فاعل دخل وتعقب بأن حاصل التركيب الأول مصاحبة الفتيين له عند دخولهما وحاصل الثاني مصاحبة الفتيين له عند دخوله ويؤول الأمران إلى دخولهما ودخوله متصاحبين فافهم
والجملة على ما قيل : معطوفة على محذوف ينساق إليه الذهن كأنه قيل : فلما بدا لهم ذلك سجنوه ودخل معه الخ وقرأ السجن بفتح السين على معنى موضع السجن قال استئناف مبني على سؤال من يقول : ما صنعا بعدما دخلا فأجيب بأنه قال أحدهما وهو الشرابي واسمه بنو إني أراني أي رأيتني في المنام والتعبير بالمضارع لاستحضار الصور الماضية أعصر خمرا أي عنبا وروي أنه قال : رأيت حبلة
(12/238)

من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك وسماه بما يؤول إليه لأن الخمر مما لا يعصر إذ عصر الشيء إخراج ما فيه من المائع بقوة وكون العنب يؤول إلى الخمر وكون الذي يؤول إليه ماؤه لاجرمه لا يضر لأنه المقصود منه فما عداه غير منظور إليه فليس فيه تجوزان بالنظر إلى المتعارف فيه وقيل : الخمر بلغة غسان اسم للعنب وقيل : في لغة أذرعان وقرأ أبي وعبد الله أعصر عنبا قال في البحر : وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته لسواد المصحف والثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمرا انتهى وقد أخرج القراءة كذلك الثاني البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية من طرق وذكروا أنه قال : والله لقد أخذتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هكذا فافهم
وقال ابن عطية : يجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة لأن العصر من أجلها فليس ذلك من مجاز الأول والمشهور أنه منه كما قال الفراء : مؤنثة وربما بما ذكرت وعن السجستاني أنه سمع التذكير ممن يوثق به من الفصحاء ورأى الحلمية جرى مجرى أفعال القلوب في جواب كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ولا يجوز ذلك في غير ما ذكر فلا يقال : اضربني ولا أكرمني وحاصله أرى نفسي أعصر خمرا وقال الأخر وهو الخباز واشمه مجلث إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا وفي مصحف ابن مسعود ثريدا
تأكل الطير منه وهذا كما قيل أيضا : تفسير لا قراءة روي أنه قال : رأيت أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلاسل فيها خبز والطير وتأكل من أعلاه والخبز معروف وجمعه أخباز وهو مفعول أحمل والظرف متعلق بأحمل وتأخيره عنه لما مر وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا منه وجملة تأكل الخ صفة له أو استئناف مبني على السؤال نبئنا أي أخبرنا بتأويله بتعبيره وما يؤول إليه أمره والضمير للرؤيتين بتأويل ما ذكر أو ما رؤي وقد أجرى الضمير مجرى ذلك بطريق الإستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما مرت الإشارة إليه غير مرة هذا إذا قالاه معا أو قاله أحدهما من جهتها معا وأما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالمرجع غير متعدد ولا يمنع من هذا الإحتمال صيغة المتكلم مع الغير لاحتمال أن تكون واقعة في الحكاية دون المحكي على طريقة قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات فإنهم لم يخاطبوا دفعة بل خوطب كل واحد في زمان بصيغة مفردة خاصة به إنا نراك تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارهما منه عليه السلام أي إنا نعتقدك من المحسنين
36
- أي من الذين يحسنون تأويل الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤولها تأويلا حسنا وكان عليه السلام حين دخل السجن قد قال : إني أعبر الرؤيا وأجيد
(12/239)

أو من العلماء كما في قول علي كرم الله تعالى وجهه : قيمة كل امريء ما يحسنه وذلك لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة قال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا إن لهذا لأجرا فقالوا : يا فتى بارك الله تعالى فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بروك لنا في جوارك ما نحب أنا كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا من الأجر والكفارة والطهارة فمن أنت يا فتى قال : أنا يوسف بن صفي الله تعالى يعقوب بن ذبيح الله تعالى إسحاق بن خليل الله تعالى إبراهيم فقال له عامل السجن : يا فتى لو استطعت خليت سبيلك ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت أو نت المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادرا على ذلك وإلى هذا ذهب الضحاك أخرج سعيد بن منصور والبيهقي وغيرهما عنه أنه سئل ما كان إحسان يوسف فقال : كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه وإذا ضاق عليه مكان أوسع له وإذا احتاج جمع له قال لايأتيكما طعام ترزقانه في الحبس حسب عادتكما المطردة إلا نبأتكما بتأويله استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته وكيفيته وسائر أحواله قبل أن يأتيكما وحاصله لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما قبل إتيانه لإياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت وإطلاق التأويل على ذلك مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الإستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنسبة إلى ما رؤي في المنام وشبيه له
ويحسن هذه الإستعارة ما في ذلك من المشاكلة لما وقع في عبارتهما من قولهما : نبئنا بتأويله وكون المراد بالتأويل الأمر الآيل المآل بناءا على أنه في الأصل جعل شيء آيلا إلى شيء آخر وكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول ويكون المعنى إلا نبأتكما يؤول إليه من الكلام والخبر المطابق للواقع في غاية البعد بل لا يكاد يلتفت إليه كما لا يخفى على المنصف وكأنه عليه السلام أراد أن يعرض عليهما التوحيد ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك بالله تعالى قبل أن يجيبهما عما سألاه من تعبير رؤياهما ثم يجيبهما عن ذلك
وهذه طريقة على كل ذي عقل أن يسلكها مع الجهلة والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والنصيحة أولا ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه ولعل ذلك كان مفترضا عليه عليه السلام فوصف نفسه أولا بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالمغيبات وجعله تخلصا لما أراد كالتخلصات المعروفة عندهم فإن الإخبار بالغيب يناسب ما سألاه من تأويل رؤياهما وأن من كان هكذا لا محالة يكون بغيره صادقا ويقوي أمر المناسبة تخصيص الطعام بالذكر من بين سائر المغيبات كما لا يخفى ويناسب ما أراده من الدعوة إلى التوحيد لأنه ثبت صدقه ونبوته وكونه من المرتضين عند الله تعالى في أقوالهم وأفعالهم وفي حكاية الله تعالى إرشاد لمن كان له قلب وقد أدمج فيه أن وصف العالم نفسه لينتفع به لا يحرم ولا يعد ذلك من التزكية المحظورة وإلى ما ذكرنا من حمل الإتيان على الإتيان في اليقظة ذهب غير واحد من الأجلة وروي عن ابن جريج وحمله بعضهم على الإتيان مناما قال السدي وابن إسحاق : إنه عليه السلام لما علم من رؤية الخباز أنه يقتل أخذ من حديث آخر تنسية لهما أمر المنام وطماعية في إيمانهما ليأخذ المقتول
(12/240)

بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته فقال بعظيم علمه بالتعبير : إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما ترزقانه إلا أعلمتكما بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك ولا يخفى أن حديث الطماعية المذكورة مما لا بأس إلا أن حديث التنسية لا يخلو عن منع وجاء في رواية أخرى عن ابن جريج أخرجها ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه ما يقرب من هذا الحديث من وجه فإنه قال : إنه عليه السلام كره العبارة لهما فأجابهما بأن له علما بما يأتيهما من الطعام ولم يصرح بما تدل عليه رؤياهما شفقة على الهالك منهما وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما فأرسل به فلما لم يكتفيا بذلك وطلبا منه التعبير أيضا دعاهما إلى التوحيد كراهة للعبارة أيضا فلما لم يكتفيا عبر لهما وأوضح ما تدل عليه رؤياهما وهو كما ترى وأياما كان فالضمير في تأويله يعود على الطعام وجوز على ما قصاه عليه من الرؤيتين على معنى لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما على قبل أن يأتيكما ذلك الطعام المؤقت والمراد الإخبار بالإستعجال بالتنبئة وفيه أنه خلاف الظاهر مع أن الأخبار بالإستعجال مما ليس فيه كثير مناسبة لما هو بصدده وقد يقال : يجوز عود الضمير إلى ما قصاه ويكون المراد من الطعام المرزوق ما رأياه في النوم ولا يخفى ما فيه أيضا لكن التأويل على هذين الوجهين لا يحتاج إلى التأويل بل يراد منه ما أريد من تأويله في كلاهما وكذا الضمير المستتر في يأتيكما يعود على الطعام وعوده على التأويل وإن كان أقرب بعيد ثم إنه عليه السلام أخبرهما بأن ذلك ليس من علوم الكهنة والمنجمين بل هو فضل إلهي يؤتيه من يشاء فقال : ذلكما ويروى أنهما قالا له : من أين لك ما تدعيه من العلم وأنك لست بكاهن ولا منجم ! وقيل : قالا إن هذا كهانة أو تنجيم فقال ذلك التأويل والكشف عن المغيبات ومعنى البعد في ذلك للإشارة إلى بعد منزلته وعلو درجته مما علمني ربي بالوحي أو بنحو ذلك مما يحصل به العلم كما يكون للأولياء أهل الكشف رضي الله تعالى عنهم واقتصر بعضهم على الأول وادعى أن الآية دليل على أنه عليه السلام كان إذ ذاك نبيا وأيا ما كان فالمراد أن ذلك بعض ما علمنيه الله تعالى أو من ذلك الجنس الذي لا يناله إلا الأصفياء ولقد دلهما بذلك على أن له علوما جمة ما سمعاه قطرة من تيارها وزهرة من أزهارها وقوله : إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما تقدم وتعليلا له كأنه قيل : لما علمك ربك تلك العلوم الجليلة الشأن فقال : لأني تركت دين الكفر الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان
وقيل : تعليل للتعليم الواقع صلة وهو يؤدي إلى معنى أنه علمني ربي لهذا السبب دون غيره وليس بمراد
وقيل : لمضمون الجملة الخبرية وفيه أن ما ذكر ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضا مما علمه ربه أو لكونه من جنسه بل لنفس التعليم والمراد بالترك الإمتناع فإنه لم يتلوث بتلك قط كما يفصح عنه ما يأتي من كلامه عليه السلام قريبا إن شاء الله تعالى لكن عبر به ذلك استجلابا لهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها على أحسن وجه والتعبير عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به سبحانه للتنصيص على أن
(12/241)

عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليس بإيمان به تعالى كما يزعمون وأراد بأولئك القوم المتصفين بعنوان الصلة حيث كانوا وقيل : أهل مصر فإنهم كانوا عبدة إذ ذاك وهم بالآخرة وما فيها من الجزاء هم كافرون
37
- أي على الخصوص دون غيرهم من الكنعانيين الذين هم على ملة إبراهيم عليه السلام على ما يفيده توسيط ضمير الفعل هنا عند البعض وذكر أن تقديم الضمير للتخصيص وتكريره للتأكيد ولعله إنما أكيد إنكارهم للمعاد لأنه كان أشد من إنكارهم للمبدأ فتأمل
واتبعت ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب داخل في حيز التعليل كأنه قال : إنما فزت بما فزت بسبب أني لم أتبع ملة قوم كفروا بالمبدأ والمعاد واتبعت ملة آبائي الكرام المؤمنين بذلك وإنما قاله عليه السلام ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال وقد ذكر تركه لما تهم على ذكر اتباعه لملة آبائه عليهم السلام لأن التخلية مقدمة على التحلية
وجوز بعضهم أن لا يكون هناك تعليل وإنما الجملة الأولى مستأنفة ذكرت تمهيدا للدعوة والثانية إظهارا لأنه من بيت النبوة لتقوى الرغبة فيه وفي كلام أبي حيان ما يقتضي أنه الظاهر وليس بذاك وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون آبائي بإسكان الياء وهي مروية عن أبي عمرو ما كان ما صح وما استقام فضلا عن الوقوع لنا معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا وقيل : أي أهل البيت لوفور عناية الله تعالى بنا أن نشرك بالله من شيء أي شيئا أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي ضلا عن الصنم الذي لا يسمع ولا يبصر فمن زائدة في المفعول به لتأكيد العموم ويجوز أن يكون المعنى شيئا من الإشراك قليلا كان أو كثيرا فيراد من شيء المصدر وأمر العموم بحاله ويلزم من عموم ذلك عموم المتعلقات ذلك أي التوحيد المدلول عليه بنفي صحة الشرك من فضل الله علينا أي ناشيء من تأييده لنا بالنبوة والوحي بأقسامه والمراد أنه فضل علينا بالذات وعلى الناس بواسطتنا ولكن أكثر الناس لا يشكرون
38
- أي لا يوحدون وحيث عبر عن ذلك بذلك العنوان عبر عن التوحيد الذي يوجبه بالشكر لأنه مع كونه من آثار ما ذكر من التأييد شكر لله عز و جل ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع إلى الناس لزيادة التوضيح والبيان ولقطع توهم رجوعه إلى مجموع الناس وما كني عنه بنا الموهم لعدم اختصاص غير الشاكر بالناس وفيه من الفساد ما فيه وجوز أن يكون المعنى ذلك التوحيد ناشيء من فضل الله تعالى علينا حيث نصب لنا أدلة ننظر فيها ونستدل بها على الحق وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس أيضا من غير تفاوت ولكن أكثرهم لا ينظرون ولا يستدلون بها اتباعا لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين والفضل على هذا عقلي وعلى الأول سمعي وجوز المولى أبو السعود أن يقال : المعنى ذلك التوحيد من فضل الله تعالى علينا حيث أعطانا عقولا ومشاعر نستعملها في دلائل التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاق وقد أعطى سائر الناس أيضا مثلها ولكن أكثرهم لا يشكرون أي لا يصرفون تلك القوى والمشاعر إلى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الآفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية انتهى ولك أن تقول : يجوز أن تكون الإشارة إلى ما أشير إليه
(12/242)

بذلكما ويراد ما يفهم مما قبل من عمله بتأويل الرؤيا و من في قوله من فضل الله تبعيضية ويكون قد أخبر عنه أولا بأنه مما علمه إياه ربه وثانيا بأنه بعض فضل الله تعالى عليه وعلى آبائه بالذات وعلى الناس بواسطتهم لأنهم يعبرون لهم رؤياهم فيكشفون ما أبهم عليهم ويزلون عنهم ما أشغل أذهانهم مع ما في ذلك من النفع الذي لا ينكره إلا نائم أو متناوم ومن وقف على ما ترتب على تعبير رؤيا الملك من النفع الخاص والعام لم يشك في أن علم التعبير من فضل الله تعالى على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون فضل الله تعالى مطلقا أو فضله عليهم بوجود من يرجعون إليه في تعبير رؤياهم ويكون ذلك نظير قولك لمن سألم عن زيد : ذلك أخي ذلك حبيبي لكنه وسط ههنا ما وسط وتفنن في التعبير فأتي باسم الإشارة أولا مقرونا بخطابهما ولم يأت به ثانيا كذلك وأتي بالرب مضافا إلى ضميره أولا وبالاسم الجليل ثانيا ويجوز أن يكون المشار إليه في الموضعين الإخبار بالمغيبات مطلقا والكلام في سائر الآية عليه لا أظنه مشكلا وعلى الوجهين لا ينافي تعليل نيل الكرامة بتركه ملة الكفرة واتباعه ملة آبائه الكرام الإخبار بأن ذلك من فضل الله تعالى عليه وعلى من معه كما لا يخفى نعم إن حمل الإشارة على ما ذكر وتوجيه الآية عليه بما وجهت لا يخلو عن بعد
ومن الناس من جعل الإشارة إلى النبوة وفيه ما فيه أيضا هذا وأوجب الإمام كون المراد في قوله : لا يشكرون لا يشكرون الله تعالى على نعمة الإيمان ثم قال : وحكى أن واحدا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر فقال : هل تشكر الله تعالى على الإيمان أم لا فإن قلت : لا فقد خالفت الإجماع وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلا له ! فقال بشر : إنا نشكره على أن أعطانا القدرة والعقل والآلة وأما أن نشكره على الإيمان مع أنه ليس فعلا له فذلك باطل وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس فقال : إنا لا نشكر الله تعالى على الإيمان بل الله تعالى يشكره علينا كما قال سبحانه : فأولئك كان سعيهم مشكورا فقال بشر : لما صعب الكلام سهل وتعقب ذلك عليه الرحمة بأن الذي التزمه ثمامة باطل وهو على طرف الثمام بنص هذه الآية لأنه سبحانه بين فيها أن عدم الإشتراك من فضل الله تعالى ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة وقد ذكر سبحانه ذلك على سبيل الذم فدل على أنه يجب على مؤمن أن يشكر الله تعالى على الإيمان لئلا يدخل في الذم وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة أه
ولعل الوجه في الآية ما تقدم فليفهم يا صاحبي السجن أي يا صاحبي فيه إلا أنه أضيف إلى الظرف توسعا كما في قولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ولعله إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته ويجوز أن يراد بالصحبة السكنى كما يقال : أصحاب النار وأصحاب الجنة لملازمتهم لهما والإضافة من باب إضافة الشيء إلى شبه المفعول عند أبي حيان وإلى المفعول عند غيره ولا اتساع في ذلك وقيل : بل هناك اتساع أيضا وأنه أضافهما إلى السجن دونه لكونهما كافرين وفيه نظر ولعل في ندائهما بذلك على هذا الوجه حثا لهما على الإقرار بالحق كأنه قال لهما : يا ساكني هذا المكان الشاق والمحل الضنك إني ذاكر لكم أمرا فقولوا : الحق فيه ولا تزيغوا عن ذلك فأنتم تحت شدة ولا ينبغي لمن كان كذلك أن يزيغ عن الحق وإنما حمل الصاحب على ما سمعت لأن صاحب السجن في الإستعمال المشهور السجان أو الملك والنداء بيا بناءا على الشائع من أنها للبعيد للإشارة
(12/243)

إلى غفلتهما وهيمانهما في أودية الضلال وقد تلطف عليه السلام بهما في ردهما إلى الحق وإرشادهما إلى الهدى حيث أبرز لهما ما يدل على بطلان ما هما عليه بصورة الإستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بإبطال ما ألفاه دهرا طويلا ومضت عليه أسلافهما جيلا فجيلا فقال : أرباب متفرقون متعددون متكثرون يستعبدكما منهم هذا وهذا والكلام على ما صرح به أبو حيان على حذف مضاف أي أعبادة أرباب متفرقين خير لكما أم الله أي أم عبادة الله سبحانه الواحد المنفرد بالألوهية القهار
39
- الغالب الذي لا يغالبه أحد جل وعلا وهو أولى مما قاله الخطابي من أنه الذي قهر الجبابرة بالعقوبة والخلق بالموت
وذكر الزمخشري إن هذا ضرب لعبادة الله تعالى وحده ولعبادة الأصنام واعترضه القطب بأن ذلك إنما يصح لو نسبا تارة إلى أرباب شتى وأخرى إلى رب واحد كما في قوله تعالى : ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء الآية لكنهما نسبا إلى أرباب وإلى الله تعالى فكيف يكون مثلا ! وأجاب بأنه يفسر الله تعالى برب واحد لأنه في مقابلة أرباب وإنما عبر عن رب واحد بالله تعالى لانحصاره فيه جل جلاله
وقال الطيبي أيضا : إن في ذلك إشكالا لأن الظاهر من الآية نفي استواء الأصنام وعبادتها بالله تعالى وعبادته فأين المثل ثم قال : لكن التقدير أسادات شتى تستعبد مملوكا واحدا خير من شيد واحد قهار فوضع موضع الرب والسيد الله لكونه مقابلا لقوله : أأرباب فيكون كقوله تعالى : ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء الآية
وقرر في الكشف ما ادعى معه ظهور كونه مثلا طهورا لا إشكال فيه والحق أنه ظاهر في نفي الإستواء وإن جعله مثلا يحتاج إلى تأويل حسبما سمعت عن الطيبي إلا أنه لا يخلو عن لطف ولعله الأولى وإن أحوج إلى ما أحوج وحمل التفرق في العدد والتكاثر مما ذهب إليه غي واحد وحمله بعضهم على الإختلاف في الكبر والصغر والشكل ونحو ذلك مما يحصل لها بواسطة تأثير الغير فيها وجعله إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة
وأما التعدد فيشير إليه جمع أرباب باعتبار أنه جمع فيكون ذكر الواحد على هذا في مقابلة ما أشير إليه من التعدد والقهار في مقابلة ما أشير إليه من المقهورية والعجز والمعنى أمتعددون سميتموهم أربابا عجز مقهورون متأثرون من غيرهم خير أم الله أي صاحب هذا الأسم الجليل الواحد الذي يستحيل عليه التكثير بوجه من الوجوه القهار الذي لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز في قبضته
وقيل : المراد من متفرقون مختلفو الأجناس والطبائع كالملك والجن والجماد مثلا ويجوز أن يراد منه من لا ارتباط بينهم ولا اتفاق وكثيرا ما يكنى بذلك عن العجز واختلال الحال وقد استنبط الإمام من الآية غير ما حجة بطلان عبادة الأصنام وظاهر كلامه أنه لم يعتبرها مثلا فليتأمل ثم إنه عليه السلام زاد في الإرشاد ببيان سقوط آلهتهما عن درجة الإعتبار رأسا فضلا عن الألوهية وأخرج ذلك على أتم وجه فقال معمما للخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر كما هو الظاهر وقيل : مطلقا وقيل : من معهما من أهل السجن : ما تعبدون من دونه أي من دون الله تعالى شيئا إلا أسماء أي ألفاظا فارغة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الإسم عليه لا وجود له أصلا فكانت عبادتهم لتلك الألفاظ فقط سميتموها جعلوها أسماء أنتم وآباؤكم بمحض الجهل والضلالة ما أنزل الله بها أي بتلك التسمية
(12/244)

المستتبعة للعبادة من سلطان أي حجة تدل على صحتها وقيل : كانوا يطلقون على معبوداتهم الباطلة اسم الآلهة ويزعمون الدليل على ذلك فردوا بأنكم سميتم مالم يدل على استحقاقه هذا الاسم عقل ولا نقل ثم أخذتم تعبدون ذلك باعتبار ما تطلقونه عليه وإنما لم يذكر المسميات تربية لما يقتضيه المقام من إسقاطها عن مرتبة الوجود وإيذانا بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود ويلحق بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى وهم يتخيلونه سبحانه جسما عظيما جالسا فوق العرش أو نحو ذلك ينزهه العقل وانتقل عنه تعالى تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا لأن ما وضع له الاسم الجليل في نفسه الأمر ليس هو الذي تخيلوه بل هو أمر وراء ذلك وهو المستحق للعبادة وما وضعوه هم ليس بآله في نفس الأمر ولا مستحق للعبادة وهو الذي عبدوه فما عبدوا في الحقيقة إلا اسما مطابق له في الخارج لأن ما في الخارج أمر وما وضعوا الاسم له أمر آخر إن الحكم أي ما الحكم في شأن العبادة المتفرعة على تلك التسمية وفي صحتها إلا لله عن سلطانه لأنه المستحق لها بالذات إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل والمالك لأمره أمر ألا تعبدوا أي بأن لا تعبدوا أحدا إلا إياه حسبما يقتضي به قضية العقل أيضا والجملة استئناف مبني على سؤال ناشيء من الجملة السابقة كأنه قيل : فماذا حكم الله في هذا الشأن فقيل : أمر الخ وفي موضع التعليل لمحذوف كأنه قيل : حيث لم يكن الحكم في أمر العبادة إلا له فلا تكون العبادة إلا له سبحانه أو لمن يأمر بعبادته وهو لا يأمر بذلك ولا يجعله لغيره سبحانه أمر أن لا تعبدوا إلا إياه وهو خلاف الظاهر
وجوز أن يكون سرد هذه الجمل على هذا الطرز لسد الطرق في توجيه صحة عبادة الأصنام عليهم أحكم سد فإنهم إن قالوا : إن الله تعالى قد أنزل حجة في ذلك ردوا بقوله : ما أنزل الله بها من سلطان وإن قالوا : حكم لنا بذلك كبراؤنا ردوا بقوله : إن الحكم إلا لله وإن قالوا : حيث لم ينزل حجة في ذلك ولم يكن حكم لغيره بقي الأمر موقوفا إذ عدم إنزال حجة تدل على الصحة لا يستلزم إنزال حجة على البطلان ردوا بقوله : أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك أي تخصيصه تعالى بالعبادة الدين القيم الثابت الذي دلت عليه البراهين العقلية والنقلية ولكن أكثر الناس لا يعلمون
40
- أن ذلك هو الدين القيم لجهلهم تلك البراهين أو لا يعلمون شيئا أصلا فيعبدون أسماء سموها من عند أنفسهم معرضين عما يقتضيه العقل ويسوق إليه شائق النقل ومنشأ هذا الإعراض الوقوف عند المألوف والتقيد بالحسيات وهو مركوز في أكثر الطباع ومن ذلك جاء التشبيه والتجسيم ونسبة الحوادث الكونية إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب ونحو ذلك ثم إنه عليه السلام بعد تحقيق الحق وبيانه لهما مقدار علمه الواسع شرع في إنبائهما عما استنبآه عنه ولكونه بحثا مغايرا لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال : يا صاحبي السجن أمآ أحدكما أراد به الشرابي وإنما لم يعنيه عليه السلام ثقة بدلالة التعبير مع ما فيه من رعاية حسن الصحبة فيسقي ربه أي سيده خمرا روي أنه عليه السلام قال له : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلة ما كنت عليه وقريء فيسقى بضم الياء والبناء للفاعل من أسقى قال صاحب اللوامح : يقال : سقي وأسقي بمعنى وقريء في السبعة نسقيكم و نسقيكم بالفتح والضم والمعروف
(12/245)

أن سقاه ناوله ليشرب وأسقاه جعل له سقيا ونسب ضم الياء لعكرمة والجحدري وذكر بعضهم أن عكرمة قرأ فيسقى بالبناء للمفعول و ريه بالياء المثناة والراء المكسورة والمراد به ما يروى به وهو مفعول ثان ليسقى والمفعول الأول الضمير النائب عن الفاعل العائد على أحد ونصب خمرا حينئذ على التمييز وأما الآخر وهو الخباز فيصلب فتأكل الطير من رأسه روي أنه عليه السلام قال له : ما رأيت من السلال الثلاث ثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب قضي أتم وأحكم الأمر الذي فيه تستفتيان
41
- وهو ما يؤول إليه حالكما وتدل عليه رؤياكما نجاة أحدكما وهلاك الآخر ومعنى استفتائهما فيه سؤالهما عنه أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما تحالما ليجربا علمه فلما أول رؤياهما قالا : إنما كنا نلعب ولم نر شيئا فقال عليه السلام : قضي الأمر الخ يقول : وقعت العبارة أه وقيل : المراد بالأمر ما اتهما به والكلام حينئذ على حذف مضاف أي عاقبة ذلك
وذهب بعض المحققين إلى أن المراد به ما رأياه من الرؤيتين ونفى أن يكون المراد ما يؤول إليه أمرهما قال : لأن الإستفتاء إنما يكون في الحادثة لا في حكمها يقال : استفتى الفقيه في الحادثة أي طلب منه بيان حكمها ولا يقال : استفتاه في حكمها وكذا الإفتاء يقال : أفتى في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال : أفتى في حكمها بكذا ومما هو علم في ذلك قوله تعالى : يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي ومعنى استفتائها فيه طلبها لتأويله بقولهما نبئنا بتأويله وعبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويله بالإستفتاء تهويلا لأمره وتفخيما لشأنه إذ الإستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم المبهمة الجواب وإيثار صيغة المضارع لما أنهما بصدد الإستفتاء إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره وإسناد القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة وأما توحيده مع تعدد رؤياهما فوارد على حسب ما وحداه في قولهما : نبئنا بتأويله لا لأن الأمر ما اتهما به وسجنا لأجله من سم الملك فإنهما لم يستفتيانه ولا فيما هو صورته بل فيما هو صورة لمآله وعاقبته فتأمل أه
وتعقب بأنه لا مانع من أن يراد بالأمر المآل كما يقتضيه ظاهر إسناد القضاء إليه وإليه ذهب الكثير وتجعل في للسببية مثلها في قوله عليه الصلاة و السلام : إن امرأة دخلت النار في هرة ويكون معنى الإستفتاء فيه الإستفتاء بسببه أي طلب بيان حكم الرؤيتين لأجله وهما إنما طلبا ذلك لتعرف حالهما ومآل أمرهما
وإن أبيت ذلك فأي مانع من أن يكون الإستفتاء في الأمر مع أن الإستفتاء إنما يكون في الحادثة وهي هنا الرؤيتان لما أن بين الأمر وتلك الحادثة اتحادا كما ادعاه هو ووجه به إسناد القضاء إلى الأمر بالمعنى الذي حمله عليه مع أنه من أحوال مآله وليس له أن يقول بصحة اعتبار العينية في إسناد القضاء وعدم صحة اعتبارها في تعلق الإستفتاء إذ بعد اعتبار العينية بين شيئين يكون صحة نسبة ما هو من أحوال أحدهما إلى الآخر دون صحبة نسبة ما هو من أحوال ذلك الآخر إليه ترجيحا بلا مرجح ومنع ذلك مكابرة ويرجح ما ذهب إليه الكثير أن فيه سلامة من نزع الخف قبل الوصول إلى الماء كما لا يخفى على من تيمم كعبة الإنصاف ما ذكره في تعليل عدم صحة تفسير الأمر بما اتهما به وسجنا لأجله لا يخلو عن دغدغة على أن ذلك كان تعريضا بصاحب الكشاف
(12/246)

وهو على ما قال الطيبي : ما عنى بالأمر إلا العاقبة نعم صدر كلامه ظاهر فيما ذكر والأمر فيه سهل ولعل وجه الأمر بالتأمل في كلام هذا المحقق مجموع ما ذكرناه فتأمل ثم إن هذا الإخبار كما يحتمل أن يكون للرد عليهما حسبما ورد في الأثر يحتمل أن يكون تحقيقا لتعبيره وتأكيدا له ولا يشكل على الأول أنه لا داعي لجحود الشرابي لأنا نقول على تقدير كذبهما في ذلك : يحتمل أن يكون لمراعاة جانب صاحبه الخباز
وجاء في بعض الآثار إن الذي جحد هو الخباز فحينئذ الأمر واضح واستدل بذلك على ما هو المشهور من أن الرؤيا تقع كما تعبر ولذا قيل : المنام على جناح طائر إذا قص وقع وقال أي يوسف عليه السلام
للذي ظن أنه ناج أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيد قوله : قضي الأمر الخ وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال : للذي ظنه ناجيا منهما أي من صاحبيه وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدا لمناطق التوصية بالذكر بما يدور عليه الإمتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك والظان هو يوسف عليه السلام لأصحابه وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظن الناجي بل على ظن يوسف عليه اليلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ونظائره
ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبيء عنه قوله : قضي الأمر الخ وقيل : هو بمعناه والتعبير بالإجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضا اجتهادي واستدل به من قال : إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي والجار والمجرور إما في موضع الصفة لناج أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقا بناج لأنه ليس المعنى عليه اذكرني بما أنا عليه من الحال والصفة
عند ربك سيدك روي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له : أوصني بحاجتك فقال عليه السلام : حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها غأنسه الشيطان أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالا حتى يذهل عن الذكر وإلا فالإنسان حقيقة لله تعالى والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للإستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه ذكر ربه أي ذكر يوسف عليه السلام عند الملك والإضافة لأدنى ملابسة ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه فلبث أي فمكث يوسف عليه السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء في السجن بضع سنين
42
- البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى السبع وقال أبو عبيدة : من الواحد إلى العشرة ولا يذكر على ما قال الفراء : إلا مع العشرات دون المائة والألف وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فيما صححه البعض وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول ولا يأبى ذلك فإن السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر وقيل : إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول وقد لبث قبلها خمسا فجميع المدة اثنتا عشرة سنة ويدل عليه خبر رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل : اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا بعد
(12/247)

خمس وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الثابت في عدة روايات ما لبث في السجن طول ما لبث وهو لا يدل على المدعى وروي ابن حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع ههنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره والأولى أن لا يجوز بمقدار معين كما قدمنا وكون هذا اللبث مسببا عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي روي عن أنس قال : أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك قال : أنت يارب قال : فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه قال : أنت يا رب قال : فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك ة قال : أنت يا رب قال : فما بالك نسيتني وذكرت آدميا قال : يا رب كلمة تكلم بها لساني قال : وعزتي لأدخلنك في السجن بضع سنين وغير ذلك من الأخبار ولا يشكل على هذا أن الإستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به فقد قال سبحانه : وتعاونوا على البر والتقوى فكيف عوتب عليه السلام في ذلك لأن ذلك مما يختلف باختلاف الأشخاص واللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم واختار أبو حيان أن يوسف عليه السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه بالله تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه وإن ذلك ليس من باب الإستعانة بغير الله تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر وموجب للطعن من غير ما خبر نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة و السلام
وجوز بعضهم كون ضمير أنساه و ربه عائدين على يوسف عليه السلام وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو ترك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لكان الفاء ولقوله تعالى الآتي : واذكر بعد أمة وقال الملك وهو الريان وكان كافرا ففي إطلاق ذلك عليه دلالة على ما قيل : على جواز تسمية الكافر ملكا ومنعه بعضهم وكذا منع أن يقال : له أمير احتجاجا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى هرقا عظيم الروم ولم يكتب ملك الروم أو أميرهم لما فيه من إيهام كونه على الحق وجعل هذا حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زقته ومثله لا يضر أي قال لمن عنده : إني أرى أي رأيت وإيثار صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية سبع بقرات سمان ممتلئات لحما وشحما من سمن كسمع سمانة بالفتح وسمنا كعنبا فهو سامن وسمين وذكر أن سمينا وسمينة تجمع على سمان فهو ككرام جمع كريم وكريمة يقال : رجال كرام ونسوة كرام يأكلهن أي أكلهن والعدول إلى المضارع لاستحضار الصورة تعجيبا والجملة حال من البقرات أو صفة لها سبع عجاف أي سبع بقرات مهزولة جدا من قولهم : نصل أعجف أي دقيق وهو جمع عجفاء على خلاف القياس والقياس عجف كحمراء وحمر فإن فعلاء وأفعل لا يجمع على فعال لكنهم بنوه على سمان وهم قد يبنون الشيء على ضده كقولهم : عدوة بالهاء لمكان صديقه وفعول بمعنى فاعل لا تدخله الهاء وأجرى سمان على المميز فجر على أنه وصف له ولم ينصب على أن يكون صفة للعدد المميز لأن وصف تمييزه وصف له معنى وقد ذكروا أنه إذا وصف التمييز كان التمييز بالنوع وإذا وصف المميز كان التمييز بالجنس ولا شك أن الأول أولى وأبلغ لاشتمال النوع على الجنس فهو أزيد في رفع الإبهام المقصود من التمييز فلهذا رجح ما في النظم الكريم على فيره ولم يقل :
(12/248)

سبع عجاف بالإضافة وجعله صفة للتمييز المقدر على قياس ما قبله لأن التمييز لبيان الجنس والحقيقة والوصف لا يدل عليه بل على شيء ماله حال وصفة فلذا ذكروا أن التمييز يكون باسم الجنس الجامد ولا يكون بالوصف المشتق في فصيح الكلام فتقول : عندي ثلاثون قرشيون ولا تقول قرشيين بالإضافة وأما قولك : ثلاثة فرسان وخمسة ركبان فلجريان الفارس والراكب مجرى الأسماء لاستعمالها في الأغلب من غير موصوف
واعترض صاحب الفرائد بأن الأصل في العدد التمييز بالإضافة فإذا وصف السبع بالعجاف فلا بد من تقدير المضاف إليه وكل واحد من الوصف وتقدير المضاف إليه خلاف الأصل أما إذا أضيف كانت الصفة قائمة مقام الموصوف فقولنا : سبع عجاف في قوة قولنا : سبع بقرات عجاف فالتمييز المطلوب بالإضافة حاصل بالإضافة إلى الصفة لقيامها مقام الموصوف فكما يجوز سبع بقرات عجاف يجوز سبع عجاف وإنما لم يضف لأنه قائم مقام البقرات وهي موصوفة بعجاف فكانت من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وهي غير جائزة إلا بتأويل وتعقب ذلك القطب بأنه هب أن الأصل في العدد التمييز بالإضافة لكن لما سبق ذكر سبع بقرات سمان تبين أن السبع العجاف بقرات فهذا السبع مميز بما تقدم فقد حصل التمييز بالإضافة فلو أضيف إلى العجاف لكان العجاف قائما مقام البقرات في التمييز فيكون التمييز بالوصف وهو خلاف الأصل وأما إن السبع قائم مقام البقرات فإنما يكون إذا وصف بالعجاف أما إذا أضيف بكون العجاف قائمة مقام البقرات فلا يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة أه وفيه تأمل
وذكر العلامة الطيبي في هذا المقام أنه يمكن أن يقال : إن المميز إذا وصف ثم رفع به الإبهام والإجمال من العدد آذن بأنهما مقصودان في الذكر بخلافه إذا ميز ثم وصف بل الوصف ادعى لأن المميز إنما استجلب للوصف ومن ثم ترك التمييز في القرائن الثلاث والمقام يقتضي ذلك لأن المقصود بيان الإبتلاء بالشدة بعد الرخاء وبيان الكمية بالعدد والكيفية بالبقرات تابع فليفهم ويعلم من ذلك وجه العدول إلى ما في النظم الكريم عن أن يقال : إني أرى سبع بقرات عجاف يأكلن سبعا سمانا الأخضر منه
وقيل : ن التعبير بذلك بأنه أول ما رأى السمان فقد روي أنه رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ثم خرج عقيبهن سبع بقرات عجاف فابتلعت السمان ولم يتبين عليها منهن شيء
وسبع سنبلات خضر قد انعقد حبها واخضر أي وسبعا أخر يابسات قد أدركت والتوت على الخضر حتى غلبتها ولم يبق من خضرتها شيء على ما روي ولعل عدم التعريض لذكر العدد للإكتفاء بما ذكر من حال البقرات ولا يجوز عطف أخر على سنبلات لأن العطف على المميز يقتضي أن يكون المعطوف والمعطوف عليه بيانا للمعدود سواء قيل : بالإنسحاب أو بتكرير العامل لأن المعنى على القولين لا يختلف وإنما الإختلاف في التقدير اللفظي وحينئذ يلزم التدافع في الآية لأن العطف يقتضي أن تكون السنبلات خضرها ويابسها سبعا ولفظ أخر يقتضي أن يكون غير السبع وذلك لأن تباينها في الوصف أعني الخضرة واليبس منطوق واشتراكهما في السنبلية فيكون مقتضى لفظ أخر تغايرهما في العدد ولزم التدافع وعلى هذا يصح أن تقول : عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر لأنك ميزت سبعة رجال موصوفين بالقيام والقعود على أن بعضهم كذا وبعضهم كذا ولا يصح سبعة رجال قيام وآخرين قعود لما علمت فالآية والمثال في هذا المبحث على وزان واحد كما يقتضيه كلام الكشاف ونظر في ذلك صاحب الفرائد فقال : إن الصحيح
(12/249)

أن العطف في حكم تكرير العامل لا الإنسحاب فو عطف آخرين على رجال قيام لكان سبعة مكررة في المعطوف أي وسبعة آخرين أي رجال آخرين قعود ويفسد المعنى لأن المفروض أن الرجال سبعة وأما الآية فلو كرر فيها وقيل : وسبع أخر أي وسبع سنبلات أخر استقام لأن الخضر سبع واليابسات سبع نعم لو خرج ذلك على المرجوح وهو الإنسحاب أدى إلى أن السبع المذكورة مميزة بسنبلات خضر وسنبلات أخر يابسات وفسد إذ المراد أن كلا منهما سبعة لا أنها سبعة فالمثال والآية ليسا على وزان إذ هو على تكرير العامل يفسد وعلى الإنسحاب يصح والآية بالعكس ثم بنى على ما زعمه من أن الصحيح قول التكرير جواز العطف
وادعى أن الأولى أن يكون العطف على خضر لا على يابسات ليدل على موصوف آخر وهو سنبلات ولا يقدر موصوفها بقرينة السياق ولا يخفى أن الكلام إنما هو على تقدير أن يكون مميز السبع ما علمت وعلى ذلك يلزم التدافع ولا يبنى على فرض أنهم سبعة أو أربعة عشر فيصح في الآية ولا يصح في المثال فإنه وهم
ومن ذلك يظهر أنه لا مدخل للتكرير ولا الإنسحاب في هذا الفرض ثم إن المختار قول الإنسحاب على ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب وحققه في غير موضع وأما الإستدلال بالآية على الإنسحاب لا التقدير وإلا لكان لفظ أخر تطويلا يصان كلام الله تعالى المعجز عنه فغير سديد على ما في الكشف لأن القائل بالتقدير يدعى الظهور في الإستقلال وكذلك القائل بالإنسحاب يدعي الظهور في المقابل على ما نص عليه أئمة العربية فلا يكون التأكيد بأخر لإرادة النصوص تطويلا بل إطنابا يكون واقعا في حاق موقعه هذا يأيها الملأ خطاب للأشراف ممن يظن به العلم يروى أنه جمع السحرة والكهنة والمعبرين فقال لهم : يا أيها الملأ
أفتوني في رياي هذه أي عبروها وبينوا حكمها وما تؤول إليه من العاقبة
وقيل : هو خطاب لجلسائه وأهل مشورته والتعبير عن التعبير بالإفتاء لتشريفهم وتفخيم أمر رؤياه إن كنتم للرؤيا تعبرون
43
- أي تعلمون عبارة جنس الرؤيا علما مستمرا وهي الإنتقال من الصورة المشاهدة في المنام إلى ما هي صورة ومثال لها من الأمور الآفاقية والأنفسية الواقعة في الخارج من العبور وهو المجاوزة تقول : عبرت النهر إذا قطعته وجاوزته ونحوه أولتها أي ذكرت ما تؤول إليه وعبرت الرؤيا بالتخفيف عبارة أقوى وأعرف عند أهل اللغة من عبرت بالتشديد تعبيرا حتى أن بعضهم أنكر التشديد ويرد عليه ما أنشده المبرد في الكامل لبعض الأعراب وهو : رأيت رؤيا ثم عبرتها وكنت للحلام عبارا والجميع بين الماضي والمستقبل للدلالة على الإستمرار كما أشير إليه واللام قيل : متعلقة بمحذوف والمقصود بذاك البيان كأنه لما قيل : تعبرون قيل : لأي شيء فقيل : للرؤيا فهي للبيان كما في سقيا له إلا أن تقديم البيان على المبين لا يخلو عن شيء وقيل واختاره أبو حيان إنها لتقوية الفعل المذكور لأنه ضعف بالتأخير ويقال لها : لام التقوية وتدخل في الفصيح على المعمول إذا تقدم على عامله مطلقا وعلى معمول غير الغعل إذا تأخر كزيد ضارب لعمرو وفي كونها زائدة أولا خلاف وقيل : إنه جيء بها لتضمين الفعل المتعدي معنى فعل قاصر يتعدى باللام أي إن كنتم تنتدبون لعبارتها وجوز أن يكون للرؤيا خبر كان كما تقول : كان
(12/250)

فلان لهذا الأمر إذا كان مستقبلا به متمكنا منه وجملة تعتبرون خبر آخر أو حال ولا يخفى ما في ذلك من التكلف وكذا فيما قبله
وقرأ أبو جعفر بالإدغام في الرؤيا وبابه بعد قلب الهمزة واوا ثم قلب الواو ياءا لسبقها إياها ساكنة ونصوا على شذوذ ذلك لأن الواو بدل غير لازم قالوا استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال الملأ للملك إذ قال لهم ذلك فقيل : قالوا : هي أضغاث أحلام أي هي أضغاث الخ وهي جمع ضغث وهو أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من أخلاط النبات وقد يطلق على ما كان من جنس واحد كما في قوله : خود كأن فراشها وضعت به أضغاث ريحان غداة شمال وجعل من ذلك ما في قوله تعالى : فخذ بيدك ضغثا فاضرب به فقد روي أن أيوب عليه السلام أخذ عثكالا من النخل فضرب به وفي الكشاف أن أضغاث الأحلام تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان وقد استعيرت لذلك وأصلها ما جمع من أخلاط النبات وحزمه وإضافتها على معنى من أي أضغاث من أحلام وأورد عليه أن الأضغاث إذا استعيرت للأحلام الباطلة والأحلام مذكورة ولفظ هي المقدر عبارة عن رؤيا مخصوصة فقد ذكر المستعار والمستعار له وذلك مانع من الإستعارة على الصحيحين عندهم وقد أجاب الكثير عن ذلك بما لا يخلو عن بحث وذكر بعض المحققين في تقرير ذاك وجهين
الأول أنه يريد أن حقيقة الأضغاث أخلاط النبات فشبه به التخاليط والأباطيل مطلقا سواء كانت أحلاما أم غيرها ويشهد له قول الصحاح والأساس : ضغث الحديث خلطه ثم أريد هنا بواسطة الإضافة أباطيل مخصوصة فطرفا الإستعارة أخلاط النبات والأباطيل الملفقات فالأحلام ورؤيا الملك خارجان عنهما فلا يضر ذكرهما كما إذا قلت : رأيت أسد قريش فهو قرينة أو تجريد وقوله : تخاليطها تفسير له بعد التخصيص وقوله : وقد استعيرت لذلك إشارة إلى التخاليط
الثاني أن الأضغاث استعيرت للتخاليط الواقعة في الرؤيا الواحدة فهي أجزاؤها لا عينها فالمستعار منه حزم النبات والمستعار له أجزاء الرؤيا وهذا كما إذا استعرت الورد للخد ثم قلت : شممت ورد هند مثلا فإنه لا يقال : إنه ذكر فيه الطرفان أه ولا يخفى ما فيه من التكلف وارتكاب غير الظاهر
واستظهر بعضهم كون أضغاث أحلام من قبيل لجين الماء ولا يخفى أنه سالم عما أورد على الزمخشري إلا أن صاحب الأساس قد صرح بأن ذلك من المجاز والمتبادر منه المجاز المتعارف الذي لا يطلق على ما ذكره ولعل الأمر في ذلك سهل والأحلام جمع حلم بضمة وبضمتين المنامات الباطلة على ما نص عليه جمع وقال بعضهم : الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم مطلقا لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن وغلب الحلم على خلافه وفي الحديث الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان وقال التوربشتي : الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا والتفريق من الإصطلاحات التي سنها الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم للفصل بين الحق والباطل كأنه كره أن يسمي ما كان من الله تعالى وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح لما فيها من الدلالة على مشاهدة الشيء بالبصر والبصيرة وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان لأن أصل
(12/251)

الكلمة لم تستعمل إلا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له أه وهو كلام حسن ومما يشهد له في دعوى كون الحلم يستعمل عند العرب استعمال الرؤيا البيت السابق الذي أنشده المبرد كما لا يخفى وإنما قالوا أضعاف أحلاف بالجمع مع أن الرؤيا ما كانت إلا واحدة للمبالغة في وصف ذلك بالبطلان وهذا كما يقال : فلأن يركب الخيل ويلبس عمائم الخز لمن لا يركب إلا فرسا واحدا وماله إلا عمامة فردة
وفي الفرائد لما كانت أضغاث أحلام مستعارة لما ذكر وهي تخاليطها وأباطيلها وهي متحققة في رؤيا واحدة بحسب أنها متركبة من أشياء كل منها حلم فكانت أحلاما قال الشهاب : وهو واه وإن استحسنه العلامة الطيبي نعم ليس هذا من إطلاق الجمع على الواحد لوجود ذلك في هذا الجنس إذ الإضافة على معنى في ثم نقل عن الرضي أنه قال في شرح الشافية إن جمع القلة ليس بأصل في الجمع لأنه لا يذكر إلا حيث يراد بيان القلة فلا يستعمل لمجرد الجمعية والجنسية كما يستعمل له جمع الكثرة يقال : فلأن حسن الثياب في معنى حسن الثوب ولا يحسن حسن الثوب وكم عندك من الثوب أو من الثياب ولا يحسن من الأثواب أه ثم قال : وقد ذكره الشريف في شرح المفتاح وهو مخالف لما ذكروه هنا فتأمله ولعل ما ذكر بعد تسليمه إنما هو في جمع القلة الذي معه جمع كثرة كما ذكره في المثال لا في ذلك وجمع القلة الذي ليس معه جمع كثرة كما هنا فأنا لم نجد في كتب اللغة جمعا لمفرد هذا الجمع غير هذا الجمع وقد ذكر غير واحد أن جمع القلة إذا لم يوجد معه جمع كثرة يستعمل استعمال جمع الكثرة ثم لا يخفى حسن موقع الأضغاث مع السنابل فيا لله در شأن التنزيل ما أبدع رياض بلاغته
وما نحن بتأويل الأحلام أي المنامات الباطلة بعالمين
44
- لأنها لا تأويل لها وإنما التأويل للمنامات الصادقة وهذا إما لشيوع الأحلام في أباطيلها وإما لكون اللام للعهد والمعهود الأضغاث منها والكلام وارد على أسلوب
على لا حب لا يهتدى بمناره
وهو إشارة إلى كبرى قياس ساقوه للعذر عن جهلهم كأنهم قالوا هذه رؤيا باطلة وكل وؤيا كذلك لا نعلم تأويلها أي لا تأويل لها حتى نعلمه ينتج هذه رؤيا لا تأويل لها
وجوز أن يكون المراد من الأحلام الرؤى مطلقا وأل فيه للجنس والكلام اعتراف منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير في تأويل الرؤي مع أن لها تأويلا واختاره ابن المنير وادعى أنه الظاهر وأن قول الملك لهم أولا إن كنتم للرؤيا تعتبرون دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة الشك فجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين وأن الفتى : أنا أنبئكم بتأويله إلى قوله : لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون دليل على ذلك أيضا
وذكر بعض المحققين أنه يشعر به عدو لهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المعبرة عن مجرد الإنتقال من الدال إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام أو عبارتها إلى التأويل المنبيء عن التصرف والتكلف في ذلك لما بين الآيل والمآل من البعد واعترض بأنه على هذا يبقى قولهم : أضعاف أحلام ضائعا إذ لا دخل له في العذر وأجيب بأنه يمكن أن يكون المقصود منه إزالة خوف الملك من تلك الرؤيا فلا يبقى ضائعا
وقال صاحب الكشف : إن وجه ذلك أن يجعل الأول جوابا مستقلا والثاني كذلك أي ههنا أمران : أحدهما من جانب الرائي والثاني من جانب المعبر ووجه تقدير الظرف على عامله إنا أصحاب الآراء والتدابير
(12/252)

وعلمنا بذلك رصين لا بتأويل الرؤى ووجهه على الأول ظاهر وادعى أن المقام يطابقه ووروده على ذلك الأسلوب مقوله لا موهن خلافا لما في الإنتصاف ويقوي عند اختيار الوجه الثاني إذا كان الخطاب لجلسائه وأهل مشورته من أهل الحل والعقد لأن الأغلب على أمثالهم الجهل بمثل هذا العلم الذي لا يعلمه إلا أفراد من الناس وقال الذي نجا منهما أي صاحبي يوسف عليه السلام وهو الشرابي واكر بالدال غير المعجمة عند الجمهور وأصله إذتكر أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فيها
وقرأ الحسن اذكر بابدال التاء ذالا معجمة وإدغام الذال المعجمة فيها والقراءة الأولى أفصح والمعنى على كليهما تذكر ما سبق له مع يوسف عليه السلام بعد أمة أي طائفة من الزمان ومدة طويلة
وقرأ الأشهب العقيلي إمة بكسر الهمزة وتشديد الميم أي نعمة عليه بعد نعمة والمراد بذلك خلاصه من القتل والسجن وإنعام ملكه عليه وعلى هذا جاء قوله : ألا لا أرى ذا إمة أصبحت به فتتركه الأيام وهي كما هي وقال ابن عطية : المراد بعد نعمة أنعم الله تعالى بها على يوسف عليه السلام وهي تقريب إطلاقه ولا يخفى بعده وقرأ ابن عباس وزيد بن علي رض الله تعالى عنهم وأمة وأمه بفتح الهمزة والميم المخففة وهاء منونة من أمه يأمه أمها إذا نسي وجاء في المصدر أمه بسكون الميم أيضا فقد روي عن مجاهد وعكرمة وشبيل ابن عزرة البعي أنهم قرأوا بذلك ولا عبرة بمن أنكر والجملة اعتراض بين القول والمقول وجوز أن تكون حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة ويحتاج ذلك إلى تقدير قد على المشهور وقيل : معطوفة على نجا وليس بشيء كما قال بعض المحققين لأن حق كل من الصلة والصفة أن تكون معلومة الإنتساب إلى الموصول والموصوف عند المخاطب كما عند المتكلم ومن هنا قيل : الأوصاف قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف وأنت تعلم أن تذكره بعد أمة إنما علم بهذه الجملة فلا معنى لنظمه مع نجاته المعلومة من قبل في سلك الصلة أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم بتأويل ذلك الذي خفى أمره بالتلقي ممن عنده علمه لا من تلقاء نفسي ولذك لم يقل أفتيكم في ذلك وعقبه بقوله : فأرسلون
45
- إلى من عنده علمه وأراد به يوسف عليه السلام وإنما لم يصرح به حرصا على أن يكون هو المرسل إليه فإنه لو ذكره فلربما أرسلوا غيره وضمير الجمع إما لأنه أراد الملك وحده لكن خاطبه بذلك على سبيل التعظيم كما هو المعروف في خطاب الملوك ويؤيده ما روي أنه لما سمع مقالة القوم جثى بين يدي الملك وقال : إن في السجن رجلا عالما يعبر الرؤيا فابعثوني إليه فبعثوه وكان السجن على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في غير مدينة الملك وقيل : كان فيها قال أبو حيان ويرسم الناس اليوم سجن يوسف عليه السلام في موضع النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه كان يقرأ أنا آتيكم مضارع أتى من الإتيان فقيل له : إنما هو أنا أنبئكم فقال : أهو كان ينبئهم ! وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي أنه قرأ أيضا كذلك
(12/253)

وقال في البحر أنه كذا في الإمام أيضا يوسف أيها الصديق في الكلام حذف أي فأرسلوه فأتاه فقال : يا يوسف ووصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجرب أحواله في مدة إقامته معه في السجن لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره فهو من باب براعة الإستهلال وفيه إشارة إلا أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي واستدل بذلك على أنهما لم يكذبا على يوسف في منامهما وأنهما كذبا في قولهما : كذبنا إن ثبت
أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات أي في رؤيا ذلك وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث أن مثله لا يقع في عالم الشهادة والمعنى بين لنا مآل ذلك وحكمه وعبر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولا نبئنا بتأويله تفخيما لشأنه عليه السلام حين عاين رتبته في الفضل ولم يقل : أفتني مع المستفتي وحده إشعارا بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه في ذلك معبر وسفير ولذا لم يغير لفظ الملك ويؤذن بهذا قوله : لعلي أرجع إلى الناس أي إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد فأنبئهم بما أفتيت لعلهم يعلمون
46
- ذلك ويعلمون بمقتضاه أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه والجملة عند أبي حيان على الأول كالتعليل للرجوع وعلى الثاني كالتعليل لاقتنا وإنما لم يبت القول بل قال : لعلي و لعلهم مجاراة معه عليه السلام على نهج الأدب واحترازا عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع : فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه إما لعدم فهمهم أو لعدم اعتمادهم قال مستأنف على قياس غير مرة تزرعون سبع سنين دأبا قرأ حفص بفتح الهمزة والجمهور بإسكانها وقريء دابا بألف من غير همز على التخفيف وهو في كل ذلك مصدر لدأب وأصل معناه التعب ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ من مداومة العمل اللازم له التعب وانتصابه على الحال من ضمير تزرعون أي دائبين أو ذوي دأب وأفراد لأن المصدر الأصل فيه الإفراد أو على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أي تدأبون دأبا
والجملة حالية أيضا وعند المبرد مفعول مطلق لتزرعون وذلك عنده نظير قعد القرفصاء وليس بشيء وقد أول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف اليابسات بسنين مجدبة فأخبرهم بأنهم يواظبون على الزراعة سبع سنين ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأولها وقيل : المراد الأمر بالزراعة كذلك فالجملة خبر لفظا أمر معني وأخرج على صورة الخبر مبالغة في إيجاب إيجاده حتى كأنه وقع وأخبر عنه وأيد بأن قوله تعالى : فما حصدتم أي في كل سنة
فذروه في سنبله ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها إذا مضى عليها نحو عامين ولعله استدل على ذلك بالسنبلات الخضر يناسب كونه أمرا مثله قيل : لأنه لو لم يؤول ذلك بالأمر لزم عطف الإنشاء على الخبر لأن ما إما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط وعلى كل حال فلكون الجزاء إنشاء
(12/254)

تكون إنشائية معطوفة على خبرية
وأجيب بأنا لا نسلم أن الجملة الشرطية التي جوابها إنشائي إنشائية ولو سلم فلا نسلم العطف بل الجملة مستأنفة لنصحهم وإرشادهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه حيث لم يكن معتادا لهم كما كان الزرع كذلك أو هي جواب شرط مقدر أي إن زرعتم فما حصدتم الخ وأيضا يحتمل الأمر عكس ما ذكروه بأن يكون ذروه بمعنى تذروه وأبرز في صورة الأمر لأنه بإرشاده فكأنهم أمرهم به والتحقيق ما في الكشف من أن الأظهر أن تزرعون على أصله لأنه تأويل المنام بدليل قوله الآتي : ثم يأتي وقوله : فما حصدتم فذروه اعتراض اهتماما منه عليه السلام بشأنهم قبل تتميم التأويل وفيه ما يؤكد أمر السابق واللاحق كأنه قد كان فهو يأمرهم بما فيه صلاحهم وهذا هو النظم المعجز انتهى
وذكر بعضهم أن ما حصدتم الخ على تقدير كون تزرعون بمعنى ازرعوا داخل في العبارة فإن أكل السبع العجاف السبع السمان وغلبة السنبلات اليابسات الخضر دال على أنهم يأكلون في السنين المجدبة ما حصل في السنين المخصبة وطريق بقائه تعلموه من يوسف عليه السلام فبقي لهم في تلك المدة وقيل : إن تزرعون على هذا التقدير وكذا ما بعده خارج عن العبارة والكل كما ترى إلا قليلا مما تأكلون
47
- أي اتركوا ذلك في السنبل إلا ما لا غنى عنه من القليل الذي تأكلونه في تلك السنين وفيه إرشاد إلى التقليل في الأكل
وقرأ السلمي مما يأكلون بالياء على الغيبة أي يأكل الناس والإقتصار على استثناء المأكول دون البذر لكون ذلك معلوما من قوله عليه السلام : تزرعون سبع سنين ثم يأتي من بعد ذلك أي من بعد السنين السبع المذكورات وإنما لم يقل من بعدهن قصدا إلى تفخيم شأنهن شبع شداد أي سبع سنين صعاب على الناس وحذف التمييز لدلالة الأول عليه يأكلن ما قدمتم لهن أي ما ادخرتم في تلك السنين من الحبوب المتروكة في سنابلها لأجلهن وإسناد الأكل إليهن مع أنه حال الناس فيهن مجازي كما في قوله تعالى : والنهار مبصرا واللام في لهن ترشيح لذلك وكان الداعي إليه التطبيق بين المعبر والمعبر به ويجوز أن يكون التعبير بذلك للمشاكلة لما وقع في الواقعة
وفسر بعضهم الأكل بالإفناء كما في قولهم : أكل السير لحم الناقة أي أفناه وذهب به إلا قليلا مما تحصنون
48
- أي تحرزونه وتخبئونه لبروز الزراعة مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ ثم يأتي من بعد ذلك أي السنين الموصوفة بما ذكر من الشدة وأكل المدخر من الحبوب عام هو كالسنة لكن كثيرا ما يستعمل فيما فيه الرخاء والخصب والسنة فيما فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة وكأنه تحاشيا عن ذلك وتنبيها من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق عبر به دون السنة فيه يغاث الناس أي يصيبهم غيث أي مطر كما قال ابن عباس ومجاهد والجمهور فهو من غاث الثلاثي اليائي ومنه قول الأعرابية :
(12/255)

غثنا ماشيتنا وقول بعضهم أذى البراغيث إذا البراغيث وقيل : هو من الغوث أي الفرج يقال : أغاثنا الله تعالى إذا أمدنا برفع المكاره حين أظلتنا فهو رباعي واوي وفيه يعصرون
49
- من العصر المعروف أي يعصرون ما من شأنه أي يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها والتعرض لذكره كما قال بعض المحققين مع جواز الإكتفاء عنه بذكر الغيث المستلزم له عادة كما اكتفى به عنه ذكر تصريفهم في الحبوب : إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكورات يتوقف صلاحها على أمور أخرى غير المطر وإما لمراعاة جانب المستفتي عنه باعتبار حالته الخاصة به بشارة له وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس في قراءة حمزة والكسائي بالفوقانية
وعن ابن عباس تفسير ذلك بيحلبون وكأنه مأخوذ من العصر المعروف لأن في الحلب عصر الضرع ليخرج الدر وتكرير فيه إما كما قيل : للإشعار باختلاف ما يقع فيه زمانا وعنوانا وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام ولأجله قدم في الموضعين على العامل فإن المقام بيان أنه يقع في ذلك العام هذا وذاك لا بيان أنهما يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير وجوز أن يكون التقديم للعصر على معنى أن غيثهم في تلك السنين كالعدم بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصل وفي الأول حاله
وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما والأعرج وعيسى البصرة يعصرون على البناء للمفعول وعن عيسى تعصرون بالفوقانية مبنيا للمفعول أيضا من عصره الله تعالى إذا أنجاه أي ينجيهم الله سبحانه مما هم فيه من الشدة وهو مناسب لقوله : يغاث الناس وعن أبي عبيدة وغيره أخذ المبني للفاعل من العصر بمعنى النجاة أيضا وفي البحر تفسير العصر والعصرة بالضم بالمنجا وأنشد قول أبي زبيد في عثمان رضي الله تعالى عنه : صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود وقال ابن المنير : معناه عصيرون من أعصرت السحابة عليهم أي حان وقت عصر الرياح لها لتمطر فعلى صلة الفعل كما عصرت الليمون على الطعام فحذفت وأوصل الفعل بنفسه أو تضمن أعصرت معنى مطرت فتعدى تعديته وفي الصحاح عصر القوم أي أمطروا ومنه قراءة بعضهم وفيه يعصرون وظاهر وأن اللفظ موضوع لذلك فلا يحتاج إلى التضمين عليه وحكى النقاش أنه قريء يعصرون بضم الياء وكسر الصاد وتشديدها من عصر مشددا للتكثير وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وفيه تعصرون بكسر التاء والعين والصاد وتشديدها وأصله يعتصرون فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين وأتبع حركة التاء لحركة العين واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه أو من اعتصر بمعنى نجا ومن ذلك قوله : لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري ثم إن أحكام هذا العام المبارك كما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة علم آتاه الله تعالى علمه لم يكن فيما سئل عنه وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعنيا أن ذلك بالوحي وهو الظاهر ولقد أتى عليه السلام بما يدل على فضله في آخر فتواه على عكس ما فعل أولا عند الجواب عن رؤيا صاحبيه حيث أتى بذلك في أولها ووجه ذلك ظاهر وقيل : إن هذه البشارة منه عليه السلام لم تكن عن وحي بل لأن العادة جارية بأن انتهاء الجدب الخصب أو لأن السنة الآلهية على أن يوسع على عباده سبحانه بعد ما يضيق عليهم
(12/256)

وفيه أنه لو كان كذلك لأجمل في البشارة وإن حصر الجدب يقتضي تغييره بخصب ما لا على ما ذكره خصوصا على ما تقتضيه بعض القراآت من إغاثة بعضهم بعضا فإنها لا تعلم إلا بالوحي ثم إنه عليه السلام بعد أن أفتاهم وأرشدهم وبشرهم كان يتوقع وقوع ما أخبر به فقد أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان بعد ذلك يصنع لرجل طعام اثنين فيقربه إلى الرجل فيأكل نصفه ويدع نصفه حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله فقال عليه السلام : هذا أول يوم من الشداد واستدل البلخي بتأويله لذلك على بطلان قول من يقول : إن الرؤيا على ما عبرت أولا فإنهم كانوا قد قالوا : أضغاث أحلام فلو كان ما قالوه مؤثرا شيئا لأعرض عليه السلام عن تأويلها وفيه بحث فقد روي أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين الرؤيا على جناح طائر مالم تعبر فإذا عبرت وقعت ولا تقصها إلا على واد وذي رأي ولعله إذا صح هذا يلتزم القول بأن الحكم على الرؤيا بأنها أضغاث أحلام وأنها لا ذيل لها ليس من التعبير في شيء وإلا فالجميع بين ما هنا وبين الخبر مشكل
وقال ابن العربي : إنه ينبغي أن يخص ذلك بما يحتمل من الرؤيا وجوها فيعبر بأحدها فيقع عليه واستدلوا بذلك أيضا على صحة رؤيا الكافر وهو ظاهر وقد ذكروا للإستفتاء عن الرؤيا آدابا : منها أن لا يكون ذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو في الليل وقالوا : إن تعبيرها مناما هو تعبيرها في نفس الأمر فلا يحتاج إلى تعبير بعد وأكثروا القول فيما يتعلق القول بها وأكثر ما قيل مما لا يظهر لي سره ولا أدري بعض ذلك إلا كأضغاث أحلام وقال الملك بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقمطير
ائتوني به لما رأى من علمه وفضله وأخباره عما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير فلما جاءه أي يوسف عليه السلام الرسول وهو صاحبه الذي استفتاه وقال له : إن الملك يريد أن تخرج إليه
قال ارجع إلى ربك أي سيدك وهو الملك فسئله ما بال النسوة الاتي قطعن أيديهن أي فتشه عن شأنهن وحالهن وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثا للملك على الجد في التفتيش لتتبين براءته وتتضح نزاهته فإن السؤال عن شيء مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث لأنه يأنف من الجهل ولو قال : سله أن يفتش لكان تهييجا له عن الفحص عن ذلك وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ولم يلتفت إليه وإنما لم يتعرض السلال لامرأة العزيز مع أنها الأصيل لما لا قاه تأدبا وتكرما ولذا حملها ذلك على الإعتراف بنزاهته وبراءة ساحته وقيل : احترازا عن مكرها حيث اعتقدها باقية في ظلالها القديم وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودهن له واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله : إن ربي بكيدهن عليم
50
- مجاملة معهن واحترازا عن سوء مقالتهن وانتصابهن عند رفعهن إلى الملك للخصومة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد وفي الكشاف أنه عليه السلام أراد بهذا أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله تعالى أو استشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه بريء مما قرف به أو أراد الوعيد لهن أي عليم بكيدهن فمجازيهن عليه انتهى
وكان الحصر على الأول من قربه من زيد يعلم وصلوحه لإفادته عنده أو من اقتضاء المقام لأنه إذا
(12/257)

حمله على السؤال ثم أضاف علمه إلى الله تعالى دل به عظمته وأن الكنه غير مأمول الوصول لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله وهذا هو الوجه وفيه زيادة تشويق وبعث إلى تعرف الأمر فالجملة عليه تتميم لقوله : فاسأله الخ والكيد اسم لما كدنه به وعلى الوجه الثاني تكون تذييلا كأنه قيل : احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن الله سبحانه يعلم أن ذلك كان كيدا منهن وإذا كان كيدا يكون لا محالة بريئا والكيد هو الحدث وعلى الثالث تحتملهما والمعنى بعث الملك على الغضب له والإنتقام منهن وإلا لم يتلاءم الكلام ولا يطابق كرم يوسف عليه السلام الذي عجب منه نبينا عليه الصلاة و السلام فقد أخرج غير واحد عن ابن عباس وابن مسعود عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال : ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر أن كان حليما ذا أناة ودعاؤه له صلى الله تعالى عليه وسلم قيل : إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة وهي تقديم حق الله تعالى بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه وجعله العلامة الطيبي من قبيل قولك لمن تعظمه : رضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي وقيل : يمكن أن يقال : إن في براءته النفس من حق الله تعالى ما فيها فإنها إذا تحققت عندهم وقع ما تلاها موقع القبول وقد ذكر أن الإجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم
وأخرج مسلم من رواية أنس أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه وقال : هذه زوجتي فقال : يا رسول الله من كنت أظن به فلم أكن أظن بك ! فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وكأنه لهذا كان الزمخشري وكان ساقط الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في جناية ولا فساد بل سقطت من ثلج أصابها في بعض الأسفار وكان يظهر مكتوب القضاة في كل بلد دخله خوفا من تهمة السوء فلعله عليه السلام خشي أن يخرج ساكتا عن أمر ذنبه غير متضحة براءة ساحته عما سجن فيه وقرف به من أن يتسلق الحاسدون إلى تقبيح أمره ويجعلوه سلما إلى حط قدره ونظر الناس إليه بعين الإحتقار فلا يعلق كلامه في قلوبهم ولا يترتب على دعوته قبولهم وفي ذلك من تعري التبليغ عن الثمرة ما فيه وما ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم ولو كنت مكانه الخ كان تواضعا منه عليه الصلاة و السلام لا أنه لو كان مكانه بادر وعجل وإلا فحمله صلى الله تعالى عليه وسلم وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه قبول الخلق أو أوامر الحق سبحانه وتعالى أمر معلوم لدى الخواص والعموم وزعم ابن عطية أنه يحتمل أن يكون عليه السلام أراد بالرب العزيز كما في قوله : إنه ربي أحسن مثواي ففي ذلك استشهاد به وتقريع له وليس بشيء ومثله ما قيل : إن ضمير كيدهن ليس عائدا على النسوة المذكورات بل عائد على الجنس فافهم
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية النسوة بضم النون وقرأت فرقة اللائي بالياء وهو كاللاء
(12/258)

جمع التي قال استئناف مبني على السؤال كما سبق كأنه قيل : فما كان بعد ذلك فقيل : قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن : ما خطبكن أي شأنكن وأصله الأمر العظيم الذي يحق لعظمته أن يكثر فيه التخاطب ويخطب له إذ راودتن يوسف وخادعتنه عن نفسه ورغبتنه في طاعة مولاته هل وجدتن فيه ميلا إليكن قلن حاشا لله تنزيها له وتعجيبا من نزاهته عليه السلام وعفته وما علمنا عليه من سوء بالغن في نفي جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة من وفي الكشف في توجيه كون السؤال المقدر في نظم الكلام عن وجدانهن فيه الميل وذلك لأنه سؤال عن شأنهن معه عند المراودة وأوله الميل ثم ما يترتب عله وحمله على السؤال يدعي النزاهة الكلية فيكون سؤال الملك منزلا عليه إذ لا يمكن ما بعده إلا إذا سلم الميل وجوابهن عليه ينطبق لتعجبهن عن نزاهته بسبب التعجب من قدرة الله تعالى على خلق عفيف مثله ليكون التعجب منها على سبيل الكناية فيكون أبلغ وأبلغ ثم نفيهن العلم مطلقا وطرفا أي طرف دهم من سوء أي سوء فضلا عن شهود الميل معهن أه وهو من الحسن بمكان
وما ذكره ابن عطية من أن النسوة قد أجبن بجواب جيد يظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف عليه السلام بعض براءة وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودنه قلن جوابا عن ذلك وتنزيها لأنفسهن : حاش لله ويحتمل أن يكون في جهته عليه السلام وقولهن : ما علمنا الخ ليس بإبراء تام وإنما هو شرح القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن ناشيء عن الغفلة عما قرره المولى صاحب الكشف قالت امرأت العزيز وكانت حاضرة المجلس قيل : أقبلت النسوة عليها يقررنها وقيل : خافت أن يشهد عليها بما قالت يوم قطعن أيديهن فأقرت قائلة : الآن حصحص الحق أي ظهر وتبين بعد خفاء قاله الخليل وهو مأخوذ من الحصة وهي القطعة من الجملة أي تبينت حصة الحق من حصة الباطل والمراد تميز هذا عن هذا وإلى ذلك ذهب الزجاج أيضا وقيل : هو من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه وعلى ذلك قوله : قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع ويرجع هذا إلى الظهور أيضا وقيل : هو من حصحص البعير إذا ألقى مباركه ليناخ قال حميد بن ثور الهلالي يصف بعيرا : فحصحص في صم الصفا ثفناته وناء بسلمى نوءة ثم صمما والمعنى الآن ثبت الحق واستقر وذكر الراغب وغيره أن حص وحصحص ككف وكفكف وكب وكبكب وقريء بالبناء للمفعول على معنى أقر الحق في مقره ووضع في موضعه و الآن ألألإألأةلإ اسم للوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو الحاضر بعضه كما في هذه الآية وقوله سبحانه : الآن خفف الله عنكم وقد يخرج عند ابن مالك عن الظرفية كخبر فهو يهوى في النار الآن حين انتهى إلى مقرها فإن الآن فيه في موضع رفع على الإبتداء و حين خبره وهو مبني لإضافته إلى جملة صدرها ماض وألفه منقلبة عن واو لقولهم في معناه : الأوان وقيل : عن ياء لأنه من
(12/259)

آن يئين إذا قرب وقيل : أصله أوان قلبت الواو ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد والسواد وقيل : حذفت الألف وغيرت الواو إليها كما في راح ورواح استعملوه مرة على فعل وأخرى على فعال كزمن وزمان واختلفوا في علة بنائه فقال الزجاج : بني لتضمنه معنى الإشارة لأن معناه هذا الوقت ورد بأن المتضمن معنى الإشارة بمنزلة اسم الإشارة وهو لا تدخله أل وقال أبو علي : لتضمنه معنى لام التعريف لأنه استعمل معرفة وليس علما وأل فيه زائدة وضعف بأن تضمن اسم معنى حرف اختصارا ينافي زيادة ما لا يعتد به هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه وقال المبرد وابن السراج : لأنه خالف نظائره إذ هو نكرة في الأصل استعمل من أول وضعه باللام وبابها أن تدخل على النكرة وإليه ذهب الزمخشري ورده ابن مالك بلزوم بناء الجماء الغفير ونحوه مما وقع في أول وضعه باللام وبأنه لو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحرف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيره وهو باطل بإجماع واختار أنه نبي لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد لأنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر بخلاف حين ووقت وزمان ومدة ورده أبو حيان بما رد هو به على من تقدم وقال الفراء : إنما بني لأنه نقل من فعل ماض وهو آن بمعنى حان فبقي على بنائه استصحابا على حد أنهاكم عن قيل وقال ورد بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه أل كما لا تدخل على ما ذكر وجاز فيه الإعراب كما جاز فيه وذهب بعضهم إلى أنه معرب منصوب على الظرفية واستدل بقوله :
كأنهما ملآن لم يتغيرا
بكسر النون أي من الآن فحذفت النون والهمزة وجر فدل على أنه معرب وضعف باحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء ويكون في بناء الآن لغتان : الفتح والكسر كما في شتان إلا أن الفتح أكثر وأشهر وفي شرح الألفية لابن الصائغ أن الذي قال : إن أصله أوان يقول : بإعرابه كما أن وأنا معرب
واختار الجلال السيوطي القول بإعرابه لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة فهو عنده منصوب على الظرفية وإن دخلت من جر وخروجه على الظرفية غير ثابت وفي الإستدلال بالحديث السابق مقال وأياما كان فهو هنا متعلق بحصحص أي حصحص الحق في هذا الوقت أنا راودته عن نفسه لا أنه راودني عن نفسي وإنما قالت ذلك بعد اعترافها تأكيدا لنزاهته عليه السلام وكذا قولها : وإنه لمن الصادقين
51
- أي في قوله حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي قيل : إن الذي دعاها لذلك كله التوخي لمقابلة الإعتراف حيث لا يجدي الإنكار بالعفو وقيل : إنها لما تناهت في حبه لم تبال بانتهاك سترها وظهور سرها وفي إرشاد العقل السليم أنها لم ترد بقولها : الآن الخ مجرد ظهور ما ظهر بشهادة النسوة من مطلق نزاهته عليه السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه السلام في محل النزاع وخيانتها ولهذا قالت : أنا راودته الخ وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن أه فافهم وتأمل هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم يتمالك الخصماء من الشهادة بها على أتم وجه
والفضل ما شهدت به الخصماء
وليت من نسب السوء وحاشاه كان عنده عشر معشار ما كان
(12/260)

عند أولئك النسوة الشاهدات من الإنصاف ذلك ليعلم الذي ذهب إليه غير واحد أن ذلك إشارة إلى التثبت مع ما تلاه من القصة أجمع فهو من كلام يوسف عليه السلام جعله فذلكة منه لما نهض له أولا من التشمر لطهارة ذيله وبراءة ساحته وقد حكى الله تعالى ما وقع من ذلك طبق الوجود مع رعاية ما عليه دأب القرآن من الإيجاز كحذف فرجع إلى ربه فأنهاه مقالة يوسف فأحضرهن سائلا قال : ما خطبكن الخ وكذلك كما قيل في قالت امرأة العزيز الخ وكذلك هذا أيضا لأن المعنى فرجع إليه الرسول قائلا فتش الملك عن كنه الأمر وبان له جلية الجق من عصمتك وأنك لم ترجع في ذلك المقام الدحض بمس ملام فعند ذلك قال عليه السلام : ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في حرمته بالغيب أي بظهر الغيب وقيل : ضمير يعلم للملك وضمير أخنه للعزيز وقيل : للملك أيضا لأن خيانة وزيره خيانة له والباء إما للملابسة أو للظرفية وعلى الأول هو حال من فاعل أخنه أي تركت خيانته وأنا غائب عنه أو من مفعوله أي وهو غائب عني وهما متلازمان وجوز أن يكون حالا منهما وليس بشيء وعلى الثاني فهو ظرف لغو لما عنده أي لم أخنه بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة ويحتمل الحالية أيضا وأن الله أي وليعلم أن الله تعالى
لا يهدي كيد الخآئنين
52
- أي لا ينفذه ولا يسدده بل يبطله ويزهقه فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه ويجوز أن يكون المراد لا يهدي الخائنين بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على الكيد وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى وفيه تعريض بارأة العزيز في خيانتها أمانته وبه في خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعدما رأوا الآيات الدالة على نزاهته عليه السلام ويجوز أن يكون مع ذلك تأكيدا لأمانته عليه السلام على معنى لو كنت خائنا لما هدى الله تعالى كيدي ولا سدده وتوهم عبارة بعضهم عدم اجتماع التأكيد والتعريض والحق لا مانع من ذلك وأراد بكيده تشمره وثباته ذلك وتسميته كيدا على فرض الخيانة على بابها حقيقة كما لا يخفى فما في الكشف من أنه سماه كيدا استعارة أو مشاكلة ليس بشيء وقيل : إن ضمير يعلم و لم أخنه لله تعالى أي ذلك ليعلم الله تعالى أني لم أعصه أي ليظهر أني غير عاص ويكرمني به ويصير سبب رفع منزلتي وليظهر أن كيد الخائن لا ينفذ وأن العاقبة للمطيع لا للعاصي فهو نظير قوله تعالى : لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب وله نظائر أخر في القرآن كثيرة إلا أن الله تعالى أخبر عن نفسه بذلك وأما غيره فلم يرد في الكتاب العزيز وفيه نوع إيهام التحاشي عنه أحسن على أن المقام لما تقدم ادعى
تم الجزء الثاني عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر وأوله وما أبريء نفسي 13
(12/261)

بسم الله الرحمن الرحيم وما أبرئ نفسي أي لاأنزهها عن السوء قال ذلك عليه السلام : هضما لنفسه البرية عن كل سوء وتواضعا لله تعالى وتحاشيا عن التزكية والاعجاب بحالها على أسلوب قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر 1 أو تحديثا بنعمة الله تعالى وابرازا لسره المكنون في شأن أفعال العباد أي لاأنزهها من حيث هي هي ولا أسند هذه الفضيلة اليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله سبحانه بل إنما ذلك بتوفيقه جل شأنه ورحمته وقيل : إنه أشار بذلك إلى أن عدم التعرض لم يكن لعدم الميل الطبيعي بل لخوف الله تعالى إن النفس البشرية التي من جملتها نفسي في حد ذاتها لأمارة لكثيرة الأمر بالسوء أي بجنسه والمراد أنها كثيرة الميل الى الشهوات مستعملة في تحصيلها القوى والآلات وفي كثير من التفاسير أنه عليه السلام حين قال : ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل عليه السلام : ولا حين هممت فقال : وما أبرئ نفسي الخ وقد أخرجه الحاكم في تاريخه وابن مردويه بلفظ قريب من هذا عن أنس مرفوعا وروى ذلك عن ابن عباس وحكيم بن جابر والحسن وغيرهم وهو إن صح يحمل الهم فيه على الميل الصادر عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق العزم والقصد وقيل : لا مانع من أن يحمل على الثاني ويقال : إنه صغيرة وهي تجوز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة ويلتزم أنه عليه السلام لم يكن إذ ذاك نبيا والزمخشري جعل ذلك وماأشبهه من تلفيق المبطلة وبهتهم على الله تعالى ورسوله وارتضاه وهو الحري بذلك ابن المنير وعرض بالمعتزلة بقوله : وذلك شأن المبطلة من كل طائفة إلا مارحم ربي قال ابن عطية : الجمهور على أن الاستثناء منقطع و ما مصدرية أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف عنها السوء على حد ما جوز في قوله سبحانه : ولا هم ينقذون إلا رحمة منا وجوز أن يكون استثناء من أعم الأوقات و ما مصدرية ظرفية زمانية أي هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت رحمة ربي وعصمته والنصب على الظرفية لا على الاستثناء كما توهم لكن فيه التفريغ في الاثبات والجمهور على أنه لايجوز إلا بعد النفي أو شبهه نعم أجازه بعضهم في الاثبات ان استقام المعنى كقرأت الا يوم الجمعة وأورد على هذا بأنه يلزم عليه كون نفس يوسف وغيره من الأنبياء عليهم السلام مائلة إلى الشهوات في أكثر الأوقات إلا أن يحمل ذلك على ماقبل النبوة بناءا على جواز ماذكر قبلها أو يراد جنس النفس لاكل واحدة
وتعقب بأن الأخير غير ظاهر لأن الاستثناء معيار العموم ولا يرد ماذكر رأسا لأن المراد هضم النوع البشري اعترافا بالعجز لولا العصمة على أن وقت الرحمة قد يعم العمر كله لبعضهم أه ولعل الأولى الاقتصار على ما في حيز العلاوة فتأمل وأن يكون استثناء من النفس أو من الضمير المستتر في أمارة الراجع إليها
(13/2)

أي كل نفس أمارة بالسوء إلا التي رحمها الله تعالى وعصمها عن ذلك كنفسي أومن مفعول أمارة المحذوف أي أمارة صاحبها إلا ماC تعالى وفيه وقوع ما على من يعقل وهو خلاف الظاهر ولينظر الفرق في ذلك بينه وبين انقطاع الاستثناء إن ربي غفور رحيم
35
- عظيم المغفرة فيغفر ما يعتري النفوس بمقتضى طباعها ومبالغ في الرحمة فيعصمها من الجريان على موجب ذلك والاظهار في مقام الاضمار مع التعرض لعنوان الربوبية لتربية مبادئ المغفرة والرحمة ولعل تقديم ما يفيد االأولى على ما يفيد الثانية لأن التخلية مقدمة على التحلية وذهب الجبائي واستظهره أبو حيان إلى أن ذلك ليعلم إلى هنا من كلام امرأة العزيز والمعنى ذلك الاقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف إني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال غيبته وما ابرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت ماقلت وفعلت به ما فعلت إن كل نفس امارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله تعالى بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام إن ربي غفور لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيم له وتعقب ذلك صاحب الكشف بأنه ليس موجبه إلا ماتوهم من الاتصال الصوري وليس بذاك ومن أين لها أن تقول : وما أبرئ نفسي بعد ما وضح ولا كشية الأبلق أنها أمها يرجع اليها طمها ورمها
ومن الناس من انتصر له بأن أمر التعليل ظاهر عليه وهو على تقدير جعله من كلامه عليه السلام غير ظاهر لأن علم العزيز بأنه لم يكن منه ما قرف به إنما يستدعي التفتيش مطلقا لاخصوص تقديمه على الخروج حين طلبه الملك والظاهر على ذلك التقدير جعله له وأجيب بأن المراد ليظهر علمه على أتم وجه وهو يستدعي الخصوص ويساعد على إرادة ظهور العلم أن أصل العلم كان حاصلا للعزيز قبل حين شهد شاهد من أهلها وفيه نظر ويمكن أن يقال : إن في التثبت وتقديم التفتيش على الخروج من مراعاة حقوق العزيز ما فيه حيث لم يخرج من جنسه قبل ظهور بطلان ما جعله سببا له مع أن الملك دعاه اليه ويترتب على ذلك علمه بأنه لم يخنه في شيء من الاشياء أصلا عن خيانته في أهله لظهور أنه عليه السلام إذا لم يقدم على ما عسى أن يتوهم أنه نقض لما أبرمه مع قوة الداعي وتوفر الدواعي فهو بعدم الاقدام على غيره أجدر وأحرى فالعلة للتثبت مع ماتلاه من القصة هي قصد حصول العلم بأنه عليه السلام لم يكن منه مايخون به كائنا ما كان مع ماعطف عليه وذلك العلم إنما يترتب على ماذكر لاعلى التفتيش ولو بعد الخروج كما لايخفى أو يقال : إن المراد ليجري على موجب العلم بما ذكر بناء على التزام أنه كان قبل ذلك عالما به لكنه لم يجر على موجب علمه وإلا لما حبسه عليه السلام فيتلافى تقصيره بالاعراض عن تقبيح أمره أو بالثناء عليه ليحظى عند الملك ويعظمه الناس فتينع من دعوته أشجارها وتجري في أودية القلوب أنهارها ولا شك أن هذا مما يترتب على تقديم التفتيش كما فعل وليس ذلك مما لايليق بشأنه عليه السلام بل الأنبياء عليهم السلام كثيرا مايفعلون مثل ذلك في مبادى أمرهم وقد كان نبينا صلى الله عليه و سلم يعطي الكافر إذا كان سيد قومه ما يعطيه ترويجا لأمره وإذا حمل قوله عليه السلام لصاحبه الناجي اذكرني عند ربك على مثل هذا كما فعل أبو حيان تناسب طرفا الكلام أشد تناسب وكذا لو حمل ذاك على ما اقتضاه ظاهر الكلام وتظافرت عليه الأخبار
وقيل هنا : إن ذلك لئلا يقبح العزيز أمره عند الملك تمحلا لإمضاء ما قضاه ويكون ذلك من قبيل السعي في تحقيق المقتضى لخلاصه وهذا من قبيل التشمير لرفع المانع لكنه مما لايليق بجلالة شأنه عليه السلام
(13/3)

ولعل الدعاء بالمغفرة في الخبر السالف على هذا إشارة إلى ماذكر ويقال : إنه عليه السلام إنما لم يعاتب عليه كما عوتب على الأول لكونه دونه مع أنه قد بلغ السيل الزبى ولا يخفى أن عوده عليه السلام لما يستدعي أدنى عتاب بالنسبة إلى منصبه بعد أن جرى ما جرى في غاية البعد ومن هنا قيل : الأولى أن يجعل ما تقدم كما تقدم ويحمل هذا على أنه عليه السلام أراد به تمهيد أمر الدعوة الى الله تعالى جبرا لما فعل قبل واتباعا لخلاف الأولى بالنظر إلى مقامه بالأولى وقيل : في وجه التعليل غير ذلك وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أن هذا من تقديم القرآن وتأخيره وذهب إلى أنه متصل بقوله : فاسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن الخ ويرد على ظاهره ما لايخفى فتأمل جميع ماذكرناه لتكون على بصيرة من أمرك وفي رواية البزي عن ابن كثير وقالون عن نافع أنهما قرآ بالسو على قلب الهمزة واوا والادغام وقال الملك ائتوني به أستخلصه أجعله خالصا لنفسي وخاصا بي فلما كلمه في الكلام إيجاز أي فأتوا به فلما الخ وحذف ذلك للايذان بسرعة الاتيان فكأنه لم يكن بينه وبين الأمر باحضاره عليه السلام والخطاب معه زمان أصلا ولم يكن حاضرا مع النسوة في المجلس كما زعمه بعض وجعل المراد من هذا الأمر قربوه إلي والضمير المستكن في كلمه ليوسف عليه السلام والبارز للملك أي فلما كلم يوسف عليه السلام الملك اثر ماأتاه فاستنطقه ورأى حسن منطقه بما صدق الخبر الخبر واستظهر في البحر كون الضمير الأول للملك والثاني ليوسف أي فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته قال إنك اليوم لدينا مكين ذو مكانة ومنزلة رفيعة أمين
45
- مؤتمن على كل شيء وقيل : آمن من كل مكروه والوصف بالامانة هو الابلغ في الاكرام و اليوم ليس بمعيار للمكانة والأمانة بل هو آن التكلم والمراد تحديد مبدئهما احترازا عن كونهما بعد حين وفي اختيار لدي على عند ما لايخفى من الاعتناء بشأنه عليه السلام وكذا في اسمية الجملة وتأكيدها روى أن الرسول جاءه فقال له : أجب الملك الآن بلا معاودة وألق عنك ثياب السجن واغتسل والبس ثيابا جددا ففعل فلما قام ليخرج دعا لأهل السجن اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الاخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد ثم خرج فكتب على الباب هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء فلما وصل إلى باب الملك قال : حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره ثم سلم عليه بالعربية فقال له الملك : ماهذا اللسان فقال : لسان عمي اسمعيل ثم دعاله بالعبرانية فقال له : وما هذا اللسان أيضا فقال : هذا لسان آبائي وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك فحكاها عليه السلام له طبق ما رأى لم يخرج منها حرفا فقال الملك : أعجب من تأويلك إياها معرفتك لها فأجلسه معه على السرير وفوض إليه أمره وقيل : إنه أجلسه قبل أن يقص الرؤيا وأخرج ابن جرير عن ابن اسحق قال : ذكروا أن قطفير هلك 1 في تلك الليالي وأن الملك زوج 2 يوسف أمرأته راعيل فقال لها حين ادخلت عليه : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين فقالت : أيها الصديق لاتلمني فاني كنت أمرأة
(13/4)

كما ترى حسناء جملاء ناعمة في ملك ودنيا وكان صاحبي لايأتي النساء وكنت كما جعلك الله تعالى في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي على مارأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء فأصابها فولدت له رجلين أفراثيم وميشا
أخرج الحكيم الترمذي عن وهب قال : أصابت امرأة العزيز حاجة فقيل لها : لو أتيت يوسف بن يعقوب فسألتيه فأستشارت الناس في ذلك فقالوا : لاتفعلي فانا نخافه عليك قالت : كلا إني لاأخاف ممن يخاف الله تعالى فأدخلت عليه فرأته في ملكه فقالت : الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ثم نظرت إلى نفسها فقالت : الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بمعصيته فقضى لها جميع حوائجها ثم تزوجها بكرا الخبر
وفي رواية أنها تعرضت له في الطريق فقالت ما قالت فعرفها فتزوجها فوجدها بكرا وكان زوجها عنينا وشاع عند القصاص أنها عادت شابة بكرا إكراما له عليه السلام بعد ما كانت ثيبا غير شابة وهذا مما لاأصل له وخبر تزوجها أيضا مما لايعول عليه عند المحدثين وعلى فرض ثبوت التزويج فظاهر خبر الحكيم أنه إنما كان بعد تعيينه عليه السلام لما عين له من أمر الخزائن قيل : ويعرب عنه قوله تعالى : قال اجعلني على خزائن الأرض أي أرض مصر وفي معناه قول بعضهم أي أرضك التي تحت تصرفك وقيل : أراد بالأرض الجنس وبخزائنها الطعام الذي يخرج منها و على متعلقة على ماقيل بمستول مقدر والمعنى ولني على أمرها من الايراد والصرف إني حفيظ لها ممن لايستحقها عليم
55
- بوجوه التصرف فيها وقيل : بوقت الجوع وقيل : حفيظ للحساب عليم بالألسن وفيه دليل على جواز مدح الانسان نفسه بالحق إذا جهل أمره : وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل واجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلا وكان متعينا لذلك وما في الصحيحين من حديث عبدالرحمن بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ياعبد الرحمن لا تسأل الأمارة فانك إن أوتيتها عن مسألة وكلت اليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وارد في غير ماذكر وعن مجاهد أنه أسلم على يده عليه السلام ولعل إيثاره عليه السلام لتلك الولاية خاصة إنما كان للقيام بما هو أهم أمور السلطنة إذ ذاك من تدبير أمر السنين لكونه من فروع تلك الولاية لا لمجرد عموم الفائدة كما قيل
وجاء في رواية أن الملك لما كلمه عليه السلام وقص رؤياه له قال : ما ترى أيها الصديق قال : تزرع في سني الخصب زرعا كثيرا فانك لو زرعت فيها على حجر نبت وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فانه أبقى له ويكون القصب علفا للدواب فاذا جاءت السنون بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العمل فيه فقال : اجعلني على خزائن الأرض الخ والظاهر أنه أجابه لذلك حين سأله وإنما لم يذكر إجابته له عليه السلام إيذانا بأن ذلك أمر لامرد له غنى عن التصريح به لاسيما بعد تقديم ما تندرج تحته أحكام السلطنة جميعها وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يرحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة ثم أنه كما روى عن ابن عباس وغيره توجه وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع
(13/5)

ووضع عليه الفرش وضرب عليه حلة من استبرق فقال عليه السلام : أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال : قد وضعته إجلالا لك واقرارا بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض اليه الملك أمره وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الاولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق منها شيء وفي الثانية بالحلي والجواهر وفي الثالثة بالدواب والمواشي وفي الرابعة بالعبيد والجواري وفي الخامسة بالضياع والعقار وفي السادسة بالاولاد وفي السابعة بالرقاب حتى استرقهم جميعا وكان ذلك مما يصح في شرعهم فقالوا : ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع الله تعالى فيما خولني فما ترى في هؤلاء فقال الملك : الرأي رأيك ونحن لك تبع فقال : اني أشهد الله تعالى وأشهدك أني قد أعتقتهم ورددت اليهم أملاكهم
ولعل الحكمة في ذلك اظهار قدرته وكرمه وانقيادهم بعد ذلك لأمره حتى يخلص ايمانهم ويتبعوه فيما يأمرهم به فلا يقال : ما الفائدة في تحصيل ذلك المال العظيم ثم اضاعته وكان عليه السلام في تلك المدة فيما يروى لايشبع من الطعام فقيل له : أتجوع وخزائن الأرض بيدك فقال : أخاف إن شبعت أنسى الجائع وأمر عليه السلام طباخي الملك أن يجعلوا غذاءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق طعم الجوع قلا ينسى الجياع قيل : ومن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار وقد أشار سبحانه الى ما آتاه من الملك العظيم بقوله جل وعلا : وكذلك أي مثل التمكين البديع مكنا ليوسف أي جعلنا له مكانا في الأرض أي أرض مصر روى أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين وفي التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين في الارض مسندا الى ضميره تعالى من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايته والاشارة الى حصول ذلك من أول الامر لا أنه حصل بعد السؤال ما لايخفى واللام في ليوسف على ما زعم أبو البقاء يجوز أن تكون زائدة أي مكنا يوسف وأن لاتكون كذلك والمفعول محذوف أي مكنا له الامور وقد مر لك ما يتضح منه الحق يتبوء منها ينزل من قطعها وبلادها حيث يشاء ظرف ليتبوأ وجوز أن يكون مفعولا به كما في قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته و منها متعلق بما عنده وقيل : بمحذوف وقع حالا من حيث وتعقب بأن حيث لايتم الا بالمضاف اليه وتقديم الحال على المضاف اليه لايجوز والجملة في موضع الحال من يوسف وضمير يشاء له وجوز أن يكون لله تعالى ففيه التفات ويؤيده أنه قرأ ابن كثير والحسن وبخلاف عنهم أبو جعفر وشيبة ونافع نشاء بالنون فان الضمير على ذلك لله تعالى قطعا نصيب برحمتنا بنعمتنا وعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم وقيل : المراد بالرحمة النبوة وليس بذاك من نشاء بمقتضى الحكمة الداعية للمشيئة ولا نضيع أجر المحسنين 65 بل نوفى لهم أجورهم في الدنيا لاحسانهم والمراد به على ما قيل : الايمان والثبات على التقوى فان قوله سبحانه : ولأجر الآخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون
75
- قد وضع فيه الموصول موضع ضمير المحسنين وجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل تنبيها على ذلك والمعنى ولأجرهم في الآخرة خير والاضافة
(13/6)

فيه للملابسة وجعل في تعقيب الجملة المثبتة بالجملة المنفية اشعار بأن مدار المشيئة المذكورة احسان من تصيبه الرحمة المذكورة وفي ذكر الجملة الثالثة المؤكدة بعد دفع توهم انحصار ثمرات الاحسان فيما ذكر من الاجر العاجل ويفهم من ذلك أن المراد ممن نشاء من نشاء أن نصيبه بالرحمة من عبادنا الذين آمنوا واستمروا على التقوى وتعقب بأنه خلاف الظاهر ولعل الظاهر حمل من على ماهو أعم مما ذكروا حينئذ لايبعد أن يراد بالرحمة النعمة التي لاتكون في مقابلة شيء من الاعمال وبالاجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك يبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل : نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء ونوفى أجور المؤمنين المستمرين على التقوى منهم ونعطيهم في الدنيا ما نعطيهم في مقابلة ايمانهم واستمرارهم على التقوى وما نعطيهم في مقابلة ذلك في الآخرة من النعيم العظيم المقيم خير لهم مما نعطيهم في الدنيا لعظمه ودوامه
واعترض بأن فيه إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من نحو الملك والغنى مع أنه ليس برحمة كما يشعر به كثير من الآيات ويقتضيه قولهم : ليس لله تعالى نعمة على كافر وأجيب بأن قولهم : في الرحمن أنه الذي يرحم المؤمن والكافر في الدنيا ظاهر في صحة إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من ذلك وكذا قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ظاهر في صحة القول بكون الكافر مرحوما في الجملة وأمر الاشعار سهل وقولهم : ليس لله تعالى نعمة على كافر إنما قاله البعض بناءا على أخذ يحمد عاقبتها في تعريفها وإن أبيت ولاأظن فلم لايجوز أن يقال : إنه عبر عما ذكر بالرحمة رعاية لجانب من اندرج في عموم من من المؤمنين
نعم يرد على تفسير الرحمة هنا بالنعمة التي لاتكون في مقابلة شيء من الاعمال والاجر بما كان ما روى عن سفيان ابن عيينة أنه قال : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق وتلا الآية فانه ظاهر في أن ما يصيب الكافر مما تقدم في مقابلة عمل له وأن في الآية ما يدل على ذلك وليس هو الا نصيب برحمتنا من نشاء وقد يجاب بأنه لعله حمل المحسنين على ما يشمل الكفار الفاعلين لما يحسن كصلة الرحم ونصرة المظلوم وإطعام الفقير ونحو ذلك فحصر الدلالة فيما ذكر ممنوع نعم إن هذا الأثر يعكر على التفسير السابق عكرا بينا إذا الآية عليه لاتعرض فيها للكافر أصلا فلا معنى لتلاوتها إثر ذلك الكلام
وعمم بعضهم الأوقات في نصيب ولا نضيع فقال نصيب في الدنيا والآخرة ولا نضيع أجر المحسنين بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا وأيد بأنه لا موجب للتخصيص وأن خبر سفيان يدل على العموم وتعقب بأن من خص ذلك بالدنيا فانما خصه ليكون مابعده تأسيسا وبأنه لادلالة للخبر على ذلك لأنه ماخوذ من مجموع الآية وفيه ما فيه وعن ابن عباس تفسير المحسنين بالصابرين ولعله رضي الله تعالى عنه على تقدير صحة الرواية رأي ذلك أوفق بالمقام وأيا ما كان في الآية إشارة أن ما أعد الله تعالى ليوسف عليه السلام من الأجر والثواب في الآخرة أفضل مما أعطاه في الدنيا من الملك
وجاء إخوة يوسف ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر وقد كان حل بآل يعقوب عليه السلام ما آل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم : يابني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع
(13/7)

الطعام فتجهزوا اليه واقصدوه تشتروا منه ما تحتاجون اليه فخرجوا حتى قدموا مصر فدخلوا عليه عليه السلام وهو في مجلس ولايته فعرفهم لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة أحوالهم يوم المفارقة لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيآتهم وزيهم في الحالين ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لاسيما في زمن القحط ولعله عليه السلام كان مترقبا مجيئهم اليه لما يعلم من تأويل رؤياه وروى أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم وأمر بانزالهم ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا اليه وتعقب ذلك في الانتصاف بأن توسيط الفاء بين دخولهم عليه ومعرفته لهم يأبى كلام الحسن ويدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبه المعرفة بلا مهلة وفيه تأمل
وهم له منكرون
85
- أي والحال أنهم منكرون له لنسيانهم له بطول العهد وتباين ما بين حاليه في نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك وقيل : إنما لم يعرفوه لأنه عليه السلام أوقفهم موقف ذوي الحاجات بعيدا منه وكلمهم بالواسطة وقيل : إن ذلك لمحض أنه سبحانه لم يخلق العرفان في قلوبهم تحقيقا لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم وهم لايشعرون فكان ذلك معجزة له عليه السلام وقابل المعرفة بالانكار على ما هو الاستعمال الشائع فعن الراغب المعرفة والعرفان معرفة الشيء بتفكر في اثره فهو أخص من العلم وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته ويضاد المعرفة الانكار والعلم والجهل وحيث كان إنكارهم له عليه السلام أمرا مستمرا في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه السلام إياهم
ولما جهزهم بجهازهم أصلحهم بعدتهم وأوقر ركابئهم بما جاؤا لأجله ولعله عليه السلام إنما باع كل واحد منهم حمل بعير لما روى أنه عليه السلام كان لايبيع أحدا من الممتارين أكثر من ذلك تقسيطا بين الناس وفيما يأتي أن شاء الله تعالى من قولهم : ونزداد كيل بعير ما يؤيده وأصل الجهاز ما يحتاج اليه المسافر من زاد ومتاع وجهاز العروس ماتزف به إلى زوجها والميت ما يحتاج اليه في دفنه وقرئ بكسر الجيم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ولم يقل بأخيكم مبالغة في اظهار عدم معرفته لهم كأنه لايدري من هو ولو أضافه اقتضى معرفته لاشعار الاضافة به ومن هنا قالوا في أرسل غلاما لك : الغلام غير معروف وفي أرسل غلامك معروف بينك وبين مخاطبك عهد فيه ولعله عليه السلام إنما قال ذلك لما قيل : من أنهم سألوه حملا زائدا على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرط عليهم أن يأتوه به مظهرا لهم أنه يريد أن يعلم صدقهم وقيل : انهم لما رأوه فكلموه بالعبرية قال لهم : من أنتم فاني أنكركم فقالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال : لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي قالوا : معاذ الله نحن أخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الانبياء اسمه يعقوب قال : كم أنتم قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد فقال : كم أنتم ههنا قالوا : عشرة قال : فأين الحادي عشر قالوا : هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك قال : فمن يشهد لكم انكم لستم عيونا وان ما تقولون حق قالوا : نحن ببلاد لايعرفنا فيها أحد فيشهد لنا قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون وقيل : إنه عليه السلام هو الذي اختاه لأنه كان أحسنهم رأيا فيه والمشهور ان الاحسن يهوذا فخلفوه عنده ومن هذا يعلم سبب هذا القول وتعقب بأنه لا يساعده ورود الامر بالاتيان به
(13/8)

عند التجهيز ولا الحث عليه بايفاء الكيل ولا الاحسان في الانزال ولا الاقتصار على منع الكيل من غير ذكر الرسالة على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل وقال بعضهم : إنه يضعف الخبر اشتماله على بهت اخوته يجعلهم جواسيس إلا أن يقال : إن ذلك كان عن وحي
وقال ابن المنير : إن ذلك غير صحيح لأنه اذا ظنهم جواسيس كيف يطلب منهم واحدا من إخوتهم وما في النظم الكريم يخالفه وأطال في ذلك وتعقب بأنه ليس بشيء لأنهم لما قالوا له : إنهم أولاد يعقوب عليه السلام طلب أخاهم وبه يتضح الحال وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنهم لما دخلوا عليه عليه السلام فعرفهم وهم له منكرون جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن وينقره ويطن فقال : إن هذا الجام ليخبرني خبرا هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وكان أبوه يحبه دونكم وانكم انطلقتم به فالقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب قال : فجعل بعضهم ينظر الى بعض ويعجبون أن الجام يخبر بذلك وفيه مخالفة للخبر السابق وفي الباب أخبار أخر وكلها مضطربة فليقصر على ما حكاه الله تعالى مما قالوا ليوسف عليه السلام وقال : ألا ترون أني أوف الكيل أتمه لكم وايثار صيغة الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز للدلالة على أن ذلك عادة مستمرة وأنا خير المنزلين
95
- جملة حالية أي ألا ترون أني أوف الكيل لكم ايفاء مستمرا والحال اني في غاية الاحسان في انزالكم وضيافتكم وكان الامر كذلك ويفهم من كلام بعضهم التعميم في الجملتين بحيث يندرج في ذلك المخاطبون وتخصيص الرؤية بالايفاء لوقوع الخطاب في أثنائه وأما الاحسان في الانزال فقد كان مستمرا فبما سبق ولحق ولذلك أخبر عنه بالجملة الاسمية ولم يقل ذلك عليه السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به والاقتصار في الكيل على ذكر الايفاء لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجب العدل وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم في ذلك بما يشاء قاله شيخ الاسلام فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ايعاد لهم على عدم الاتيان به والمراد لاكيل لكم في المرة الاخرى فضلا عن ايفائه ولا تقربون
6
- أي لا تقربوني بدخول بلادي فضلا عن الاحسان في الانزال والضيافة وهو إما نهي أو نفي معطوف على التقديرين على الجزاء وقيل : وهو على الأول استئناف لئلا يلزم عطف الانشاء على الخبر وأجيب بأن العطف مغتفر فيه لأن النهي يقع جزاء وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتياز مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوما ماله عليه السلام والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي والا فالبر يقتضي أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله سبحانه أراد تكميل أجر يعقوب في محنته وهو الفعال لما يريد في خليفته قالوا سنراود عنه أباه أي سنخادعه ونستميله برفق ونجتهد في ذلك وفي تنبيه على عز المطلب وصعوبة مناله وإنا لفاعلون
16
- أي أنا لقادرون على ذلك لا نتعايا به وانا لفاعلون ذلك لا محالة ولا نفرط فيه ولا نتوانا والجملة على الاول تذييل يؤكد مضمون الجملة الأولى ويحقق حصول الموعود من إطلاق المسبب أعني الفعل على السبب أعني
(13/9)

القدرة وعلى الثاني هي تحقيق للوفاء بالوعد وليس فيه مايدل على أن الموعود يحصل أولا
وقال يوسف عليه السلام لفتيانه لغلمانه الكيالين كما قال قتادة وغيره أو لأعوانه الموظفين لخدمته كما قيل وهو جمع فتى أو اسم جمع له على قول وليس بشيء وقرأ أكثر السبعة لفتيه وهو جمع قلة له ورجحت القراءة الاولى بأنها أوفق بقوله : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم فان الرحال فيه جمع كثرة ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فينبغي أن يكون في مقابلة صيغة جمع الكثرة وعلى القراءة الاخرى يستعار أحد الجمعين للآخر روى أنه عليه السلام وكل بكل رحل رجلا يعني فيه بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام وكانت نهالا وادما وأصل البضاعة قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة والمراد بها هنا ثمن ما اشتروه
والرحل ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره كما في البحر وقال الراغب : هو ما يوضع على البعير للركوب ثم يعبر به تارة عن البعير وأخرى عما يجلس عليه في المنزل ويجمع في القلة على أرحلة والظاهر أن هذا الامر كان بعد تجهيزهم وقيل : قبلة ففيه تقديم وتأخير ولا حاجة اليه وإنما فعل عليه السلام ذلك تفضلا عليهم وخوفا أن لايكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيهم كما يؤذن به قوله : لعلهم يعرفونها أي يعرفون حق ردها والتكرم بذلك فلعل على ظاهرها وفي الكلام مضاف مقدر ويحتمل أن يكون المعنى لكي يعرفوها فلا يحتاج إلى تقدير وهو ظاهر التعلق بقوله : إذا انقلبوا أي رجعوا إلى أهلهم فان معرفتهم لها مقيدة بالرجوع وتفريغ الاوعية قطعا وأما معرفة حق التكرم في ردها وإن كانت في ذاتها غير مقيدة بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قيدت به لعلهم يرجعون
26
- حسبما طلبت منهم فان التفضل باعطاء البدلين ولا سيما عند أعواز البضاعة من أقوى الدواعي إلى الرجوع وقيل : إنما فعله عليه السلام لما أنه لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه واخوته ثمنا وهو الكريم ابن الكريم وهو كلام حق في نفسه ولكن يأباه التعليل المذكور ومثله في هذا مازعمه ابن عطية من وجوب صلتهم وجبرهم عليه عليه السلام في تلك الشدة إذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة وأغرب منه ماقيل : إنه عليه السلام فعل ذلك توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة ووجه بعضهم عليه الجعل المذكور للرجوع بأن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لاحتمال أنه لم يقع ذلك قصدا أو قصدا للتجربة فيرجعون على هذا أما لازم وإما متعد والمعنى يرجعونها أي يردونها وفيه أن هيئة التعبية تنادى بأن ذلك بطريق التفضل فاحتمال غيره في غاية البعد ألا ترى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلا على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبرا إن شاء الله تعالى
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا ياأبانا منع منا الكيل أي حكم بمنعه بعد اليوم أن لم نذهب بأخينا بنيامين حيث قال لنا الملك إن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي والتعبير بذلك عما ذكر مجاز والداعي لارتكابه أنه لم يقع منع ماض وفيه دليل على كون الامتياز مرة بعد أخرى كان معهودا بينهم وبينه عليه السلام وقيل : ان الفعل على حقيقته والمراد منع أن يكال لأخيهم الغائب حملا آخر ورد بعيره غير محمل بناء على رواية أنه عليه السلام لم يعط له وسقا فأرسل معنا أخانا بنيامين الى مصر وفيه إيذان بأن مدار المنع على عدم
(13/10)

كونه معهم نكتل أي من الطعام ما نحتاج إليه وهو جواب الطلب قيل : والأصل يرفع المانع ونكتل فالجواب هو يرفع إلا أنه رفع ووضع موضعه يكتل لأنه لما علق المنع من الكيل بعدم اتيان أخيهم كان إرساله رفعا لذلك المانع ووضع موضعه ذلك لأنه المقصود وقيل : انه جيء بآخر الجزأين ترتبا دلالة على أولهما مبالغة وأصل هذا الفعل نكتيل على وزن نفعيل قلبت الياء الفا لتحركها وانفتاح ماقبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين ومن الغريب أنه نقل السجاوندي أنه سأل المازني ابن السكيت عند الواثق عن وزن نكتل فقال : تفعل فقال المازني : فاذا ماضيه كتل فخطأه على أبلغ وجه
وقرأ حمزة والكسائي يكتل بياء الغيبة على اسناده للاخ مجازا لأنه سبب للاكتيال أو يكتل أخونا فينضم اكتياله الى اكتيالنا وقوى أبو حيان بهذه القراءة القول ببقاء منع على حقيقته ومثله الامام وإنا له لحفظون
36
- من أن يصيبه مكروه وهذا سد لباب الاعتذار وقد بالغوا في ذلك كما لايخفى وفي بعض الأخبار ولا يخفى حاله أنهم لما دخلوا على أبيهم عليه السلام سلموا عليه سلاما ضعيفا فقال لهم : يا بني مالكم تسلمون علي سلاما ضعيفا ومالي لاأسمع فيكم صوت شمعون فقالوا : ياأبانا جئناك من عند أعظم الناس ملكا ولم ير مثله علما وحكما وخشوعا وسكينة ووقارا ولئن كان لك شبه فانه يشبهك ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء إنه اتهمنا وزعم أنه لايصدقنا حتى ترسل معنا بنيامين برسالة منك تخبره عن حزنك وما الذي أحزنك وعن سرعة الشيب اليك وذهاب بصرك وقد منع منا الكيل فيما يستقبل إن لم نأته بأخينا فأرسله معنا نكتل وإنا له لحافظون حتى نأتيك به قال هل ءامنكم عليه استفهام إنكاري و آمنكم بالمد وفتح الميم ورفع النون مضارع من باب علم وأمنه وائتمنه بمعنى أي ماائتمنكم عليه إلا كما أمنتكم أي الا ائتمانا مثل ائتماني إياكم على أخيه يوسف من قبل وقد قلتم أيضا في حقه ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض أمري إلى الله تعالى فالله خير حفظا وهو أرحم الراحمين
46
- فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع علي مصيبتين وهذا كما ترى ميل منه عليه السلام إلى الأذن والارسال لما رأى فيه من المصلحة وفيه أيضا من التوكل على الله تعالى ما لايخفى ولذا روى أن الله تعالى قال : وعزتي وجلالي لأردهما عليك اذ توكلت علي ونصب حافظا على التمييز نحو لله دره فارسا وجوز غير واحد أن يكون على الحالية وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لما فيه من تقييد الخيرية بهذه الحالة ورد بأنها حال لازمه مؤكدة لامبينة ومثلها كثير مع أنه قول بالمفهوم وهو غير معتبر ولو اعتبر ورد على التمييز وفيه نظر وقرأ أكثر السبعة حفظا ونصبه على ما قال أبو البقاء على التمييز لاغير وقرأ الأعمش خير حافظ على الاضافة وافراد حافظ وقرأ أبو هريرة خير الحافظين على الاضافة والجمع ونقل ابن عطية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ فالله خير حافظا وهو خير الحافظين قال أبو حيان : وينبغي أن تجعل جملة وهو خير الخ تفسيرا للجملة التي قبلها لا أنها قرآن وقد مر تعليل ذلك ولما فتحوا متاعهم قال الراغب : المتاع كل ماينتفع به على وجه وهو في الآية الطعام وقيل : الوعاء وكلاهما متاع وهما متلازمان فان الطعام كان في الوعاء والمعنى على أنهم لما فتحوا أوعية طعامهم وجدوا بضاعتهم التي كانوا أعطوها ثمنا للطعام ردت إليهم أي تفضلا وقد علموا ذلك بما مر من دلالة الحال وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش
(13/11)

ردت بكسر الراء وذلك أنه نقلت حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة وهي لغة لبني ضبة كما نقلت العرب في قيل وبيع وحكى قطرب النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو ضرب زيد
قالوا استئناف بياني كأنه قيل : ماذا قالوا حينئذ فقيل : قالوا لأبيهم ولعله كان حاضرا عند الفتح يا أبانا مانبغي إذا فسر البغي بمعنى الطلب كما ذهب اليه جماعة فما يحتمل أن تكون استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول مقدم لنبغي فالمعنى ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من احسان الملك الينا وكرمه الداعي الى امتثال أمره والمراجعة اليه في الحوائج وقد كانوا أخبروه بذلك على ما روى أنهم قالوا له عليه السلام : إنا قدمنا على خير رجل وأنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته وقوله تعالى : هذه بضاعتنا ردت الينا جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الانكار من بلوغ اللطف غايته كأنهم قالوا : كيف لا وهذه بضاعتنا ردها الينا تفضلا من حيث لا ندري بعد ما من علينا بما يثقل الكواهل من المنن العظام وهل من مزيد على هذا فنطلبه ومرداهم به أن ذلك كاف في استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء اليه في استجلاب المزيد ولم يريدوا أنه كاف مطلقا فينبغي التقاعد عن طلب نظائره وهو ظاهر
وجملة ردت في موضع الحال من بضاعتنا بتقدير قد عند من يرى وجوبها في أمثال ذلك والعامل معنى الاشارة وجعلها خبر هذه و بضاعتنا بيانا له ليس بشيء وإيثار صيغة البناء للمفعول قيل : للأيذان بكمال الاحسان الناشيء عن كمال الاخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعروا به ولا بفاعله وقيل : للأيذان بتعين الفاعل وفيه من مدحه أيضا مافيه وقوله تعالى : ونمير أهلنا أي نجلب لهم الميرة وهي بكسر الميم وسكون الياء طعام يمتاره الانسان أي يجلبه من بلد إلى بلد وحاصله نجلب لهم الطعام من عند الملك معطوف على مقدر ينسحب عليه رد البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا من المكاره حسبما وعدنا وتفرعه على ماتقدم باعتبار دلالته على إحسان الملك فانه مما يعين على الحفظ ونزداد أي بواسطته ولذلك وسط الاخبار به بين الأصل والمزيد كيل بعير أي وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا على قضية التقسيط المعهود من الملك والبعير في المشهور مقابل الناقة وقد يطلق عليها وتكسر في لغة باؤه ويجمع على أبعرة وبعران وأباعر وعن مجاهد تفسيره هنا بالحمار وذكر أن بعض العرب يقول للحمار بعير وهو شاذ
وقوله تعالى ذلك كيل أي مكيل يسير
56
- أي قليل لايقوم بأودنا يحتمل أن يكون اشارة الى ما كيل لهم أولا والجملة استئناف جيء بها للجواب عما عسى أن يقال لهم : قد صدقتم فيما قلتم ولكن ما الحاجة إلى التزام ذلك وقد جئتم بالطعام فكأنهم قالوا : أن ما جئنا به غير كاف لنا فلابد من الرجوع مرة أخرى وأخذ مثل ذلك مع زيادة ولا يكون ذلك بدون استصحاب أخينا ويحتمل أن يكون إشارة إلى ماتحمله أباعرهم والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق من الأزدياد كأنه قيل : أي حاجة الى الأزياد فقيل : إن ماتحمله أباعرنا قليل لايكفينا وقيل : المعنى ان ذلك الكيل الزائد قليل لايضايقنا فيه الملك أوسهل عليه لا يتعاظمه وكأن الجملة على هذا استئناف جيء به لدفع ما يقال : لعل الملك لايعطيكم فوق العشرة شيئا
(13/12)

ويرى ذلك كثيرا أو صعبا عليه وهو كما ترى وجوز أن يكون ذلك إشارة الى الكيل الذي هم بصدده وتضمنه كلامهم وهو المنضم اليه كيل البعير الحاصل بسبب أخيهم المتعهد بحفظه كأنهم لما ذكروا ما ذكروا وصرحوا بما يفهم منه مبالغة في استنزال أبيهم فقالوا : ذلك الذي نحن بصدده كيل سهل لامشقة فيه ولا محنة تتبعه وقد يبقى الكيل على معناه المصدري والكلام على هذا الطرز إلا يسيرا
وجوز بعضهم كون ذلك من كلام يعقوب عليه السلام والاشارة الى كيل البعير أي كيل بعير واحد شيء قال لا يخاطر لمثله بالولد وكان الظاهر على هذا ذكره مع كلامه السابق أو اللاحق وقيل : معنى ما نبغي أي مطلب نطلب من مهماتنا والجمل الواقعة بعده توضيح وبيان لما يشعر به الانكار من كونهم فائزين ببعض المطالب أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا : هذه بضاعتنا حاضرة فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا من المكروه ونزداد بسببه غير ما نكتاله لأنفسنا كيل بعير فأي شيء نبغي وراء هذه المباغي وما ذكرنا من العطف على المقدر هو المشهور وفي الكشف لك أن تقول : إن نمير وما تلاه معطوف على مجموع ما نبغي والمعنى اجتماع هذين القولين منهم في الوجود ولا يحتاج الى جامع وراء ذلك لكونهما محكمين قولا لهم على أنه حاصل لاشتراك الكل في كونه لاستنزال يعقوب عليه السلام عن رأيه وأن الملك اذا كان محسنا كان الحفظ أهون شيء والاستفهام لرجوعه الى النفي لايمنع العطف ووافقه في ذلك بعضهم
وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة ما تبغي بتاء الخطاب وروت عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والخطاب ليعقوب عليه السلام والمعنى أي شيء وراء هذه المباغي المشتملة علىسلامة أخينا وسعة ذات ايدينا أو وراء ما فعل الملك من الاحسان داعيا الى التوجه اليه والجملة المستأنفة موضحة أيضا لذلك أو أي شيء تبغي شاهدا على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه والجملة المذكورة عبارة عن الشاهد المدلول عليه بفحوى الانكار ويحتمل أن تكون ما نافية ومفعول نبغي محذوف أن ما نبغي شيئا غير ما رأيناه من احسان الملك في وجوب المراجعة اليه أو ما نبغي غير هذه المباغي والقول بأن المعنى ما نبغي منك بضاعة أخرى نشتري بها ضعيف والجملة المستأنفة على كل تقدير تعليل للنفي وإما اذا فسر البغي بمجاوزة الحد فما نافية فقط والمعنى ما نبغي في القول ولا نكذب فيما فيما وصفنا لك من احسان الملك الينا وكرمه الموجب لما ذكر والجملة المستأنفة لبيان ما ادعوا من عدم البغي وقوله : ونمير الخ عطف على مانبغي أي لانبغي فيما نقول ونمير ونفعل كيت وكيت فاجتمع أسباب الاذن في الارسال والأول كالتمهيد والمقدمة للبواقي والتناسب من هذا الوجه لأن الكل متشاركة في أن المطلوب يتوقف عليها بوجه ما على أنه لو لم يكن غير الاجتماع في المقولية لكفي على ما مر آنفا عن الكشف
وجوز 1 كونه كلاما ما مبتدأ أي جملة تذييلية اعتراضية كقولك : فلان ينطق بالحق والحق أبلج كأنه قيل : وينبغي أن نمير ووجه التأكيد الذي يقتضيه التذييل أن المعنى أن الملك محسن ونحن محتاجون ففيم التوقف في الارسال وقد تأكد موجباه وقال العلامة الطيبي : إنما صح التأكيد والتذييل لأن الكلام في الامتياز وكل من الجمل بمعناه أو المعنى مانبغي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من ارسال
(13/13)

أخينا معنا والجمل كلها للبيان أيضا إلا أن ثم محذوفا ينساق اليه الكلام أي بضاعتنا حاضرة نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت وهو على ماقيل : وجه واضح حسن يلائم ما كانوا فيه مع أبيهم فتأمل هذا وقرأت عائشة وأبو عبدالرحمن السلمي ونمير بضم النون وقد جاء مار عياله وأمارهم بمعنى كما في القاموس
قال لن أرسله معكم بعد أن عاينت منكم ما أجرى المدامع حتى تؤتون موثقا من الله أي حتى تعطوني ماأتوثق به من جهته فالموثق مصدر ميمي بمعنى المفعول وأراد عليه السلام أن يحلفوا له بالله تعالى وإنما جعل الحلف به سبحانه موثقا منه لأنه مما تؤكد العهود به وتشدد وقد أذن الله تعالى بذلك فهو إذن منه تعالى شأنه لتأتنني به جواب قسم مضمر إذ المعنى حتى تحلفوا بالله وتقولوا والله لنأتينك به
وفي مجمع البيان نقلا عن ابن عباس أنه عليه السلام طلب منهم أن يحلفوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين والظاهر عدم صحة الخبر وذكر العمادى أنه عليه السلام قال لهم : قولوا بالله رب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لنأتينك به إلا أن يحاط بكم أي الا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو الا أن تهلكوا جميعا وكلاهما مروى عن مجاهد وأصله من احاطة العدو واستعماله في الهلاك لأن من أحاط به العدو فقد هلك غالبا والاستثناء قيل مفرغ من أعم الأحوال والتقدير لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم ورد بأن المصدر من أن والفعل لايقع موقع الحال كالمصدر الصريح فيجوز جئتك ركضا أي راكضا دون جئتك أن تركض وإن كان في تأويله لما أن الحال عندهم نكرة و أن مع ما في حيزها معرفة في رتبة الضمير وأجيب بأنه ليس المراد بالحال الحال المصطلح عليها بل الحال اللغوية ويؤل ذلك الى نصب المصدر المؤول على الظرفية وفيه نظر وفي البحر أنه لو قدر كون أن والفعل في موقع المصدر الواقع ظرف زمان أي لتأتنني به في كل وقت إلاإحاطة بكم أي إلا وقت إحاطة بكم لم يجز عند ابن الأنباري لأنه يمنع وقوع المصدر المؤول ظرفا ويشترط المصدر الصريح فيجوز خرجنا صياح الديك دون خرجنا أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وجاز عند ابن جني المجوز لذاك كما في قول أبي ذؤيب الهذلي : وتالله ماإن شهلة 1 أم واحد
بأوجد مني أن يهان صغيرها وقيل : من أعم العلل على تأويل الكلام بالنفي الذي ينساق اليه أي لتأتنني ولا تمتنعن من الاتيان به الا الاحاطة بكم كقولهم : أقسمت عليك الا فعلت أي ما أطلب الا فعلك والظاهر اعتبار التأويل على الوجه الأول أيضا فان الاستثناء فيه مفرغ كما علمت وهو لايكون في الاثبات إلا إذا كان صح وظهر ارادة العموم فيه نحو قرأت الا يوم الجمعة لإمكان القراءة في كل يوم غير الجمعة وهنا غير صحيح لأنه لايمكن لاخوة يوسف عليه السلام أن يأتوا بأخيهم في كل وقت وعلى كل حال سوى وقت الاحاطة بهم لظهور أنهم لايأتون به له وهو في الطريق أو في مصر اللهم إلا أن يقال : إنه من ذلك القبيل وأن العموم والاستغراق فيه عرفي أي في كل حال يتصور الاتيان فيها وتعقب المولى أبو السعود تجويز الأول بلا تأويل بقوله : وأنت تدري أنه حيث لم يكن الاتيان من الافعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما في قولك : لألزمنك إلا أن تقضيني حقي ولم يكن مراده عليه السلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت : صل إلا أن تكون محدثا
(13/14)

بل مجرد تحققه ووقوعه من غير اخلال به كما في قولك : لأحجن العام إلا أن أحصر فان مرادك إنما هو الاخبار بعدم منع ما سوى حال الاحصار عن الحج لا الاخبار بمقارنته لتلك الاحوال على سبيل البدل كما هو مرادك في مثال الصلاة كان اعتبار الاحوال معه من حيث عدم منعها منه فآل المعنى إلى التأويل المذكور اه
وبحث فيه واحد من الفضلاء بثلاثة أوجه الأول أنه لو كان المراد من قوله : لتأتنني به الاخبار بمجرد تحقق الاتيان ووقوعه من غير اخلال به لم يحتج إلى التأويل المذكور أعني التأويل بالنفي كما لايخفى على المتأمل فكلامه يفيد خلاف مراده الثاني أنا سلمنا أن ليس مراد القائل من قوله : لأحجن الخ الاخبار بمقارنة الحج لما عدا حال الاحصار على سبيل البدل لكن لانسلم أن ليس مراده منه الا الاخبار بعدم منع ما سوى حال الاحصار عنه غايته أن بينهما ملازمة وذاك لايستلزم الاحتياج إلى التأويل بالنفي الثالث أنه إن أراد من قوله : كان اعتبار الاحوال الخ أن الاتيان به لم يكن معه اعتبار الاحوال كما هو الظاهر فممنوع وإن أراد أن اعتبار الأحوال معه يستلزم حيثية عدم منعها منه فمسلم لكن لايلزم منه الاحتياج إلى التأويل المذكور أيضا وليس المدعى الاذاك اه وهو كما ترى فتبصر ثم انهم أجابوه عليه السلام إلى مااراد فلما ءاتوه موثقهم عهدهم من الله تعالى حسبما أراد عليه السلام قال عرضنا لثقته بالله تعالى وحثا لهم على مراعاة حلفهم به عز و جل الله على ما نقول في أثناء طلب الموثق وايتائه من الجانبين وايثار صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة المؤدى إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته وكيل
66
- أي مطلع رقيب فان الموكل بالامر يراقبه ويحفظه قيل : والمراد أنه سبحانه مجاز على ذلك
وقال ناصحا لهم لما عزم على إرسالهم جميعا يا بني لاتدخلوا مصر من باب واحد نهاهم عليه السلام عن ذلك حذرا من اصابة العين فانهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة وقد اشتهروا بين أهل مصر بالزلفى والكرامة التي لم تكن لغيرهم عند الملك فكانوا مظنة لأن يعانوا اذا دخلوا كوكبة واحدة وحيث كانوا مجهولين مغمورين بين الناس لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى وجوز أن يكون خوفه عليه السلام عليهم من العين في هذه الكرة بسبب أن فيهم محبوبه وهو بنيامين الذي يتسلى به عن شقيقه يوسف عليه السلام ولم يكن فيهم في المرةالأولى فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف والقول أنه عليه السلام نهاهم عن ذلك أن يستراب بهم لتقدم قول أنتم جواسيس ليس بشيء أصلا ومثله ماقيل : إن ذلك كان طمعا أن يتسمعوا خبر يوسف عليه السلام والعين حق كما صح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصح أيضا بزيادة ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا وقد ورد أيضا إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يعوذ الحسنين رضي الله تعالى عنهما بقوله : أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة وكان يقول : كان أبوكما يعوذ بهما إسماعيل واسحق عليهم السلام
ولبعضهم في هذا المقام كلام مفصل مبسوط لابأس باطلاعك عليه وهو أن تأثير شيء في آخر إما نفساني أو جسماني وكل منهما إما في نفساني أو جسماني فالانواع أربعة يندرج تحتها ضروب الوحي والمعجزات
(13/15)

والكرامات والالهامات والمنامات وأنواع السحر والأعين والنيرنجات ونحو ذلك أما النوع الأول أعني تأثير النفساني في مثله فكتأثير المبادئ العالية في النفوس الانسانية بافاضة العلوم والمعارف ويندرج في ذلك صنفان
أحدهما ما يتعلق بالعلم الحقيقي بأن يلقى إلى النفس المستعدة لذلك كما العلم من غير واسطة تعليم وتعلم حتى تحيط بمعرفة حقائق الأشياء على ماهي عليه بحسب الطاقة البشرية كما ألقى إلى نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم علوم الأولين والآخرين مع أنه عليه الصلاة و السلام ما كان يتلو من قبل كتابا ولا يخطه بيمينه
وثانيهما مايتعلق بالتخيل القوي بأن يلقى الى من يكون مستعدا له ما يقوى به على تخيلات الامور الماضية والاطلاع على المغيبات المستقبلة والمنامات والالهامات داخلة أيضا تحت هذا النوع وقد يدخل تحته نوع من السحر وهو تأثير النفوس البشرية القوية فيها قوتا التخيل والوهم في نفوس بشرية أخرى ضعيفة فيها هاتان القوتان كنفوس البله والصبيان والعوام الذين لم تقو قوتهم العقلية فتتخيل ماليس بموجود في الخارج موجودا فيه وما هو موجود فيه على ضد الحال الذي هو عليها وقد يستعان في هذا القسم من السحر بأفعال وحركات يعرض منها للحس حيرة وللخيال دهشة ومن ذلك الاستهتار في الكلام والتخليط فيه وأما النوع الثاني أعني ثأثير النفساني في الجسماني فكتأثير النفوس الانسانية في الابدان من تغذيتها وإنمائها وقيامها وقعودها إلى غير ذلك ومن هذا القبيل صنف من المعجزات وهو ما يتعلق بالقوة المحركة للنفس بأن تبلغ قوتها إلى حيث تتمكن من التصرف في العالم تمكنها من التصرف في بدنها كتدمير قوم بريح عاصفة أو صاعقة أو زلزلة أو طوفان وربما يستعان فيه بالتضرع والابتهال إلى المبادىء العالية كأن يستقي للناس فيسقون ويدعو عليهم فيهلكون ولهم فينجون ويندرج في هذا صنف من السحر أيضا كما في بعض النفوس الخبيثة التي تقوى فيها القوة الوهمية بسبب من الأسباب كالرياضة والمجاهدة مثلا فيسلطها صاحبها على التأثير فيمن أراده بتوجه تام وعزيمة صادقة إلى أن يحصل المطلوب الذي هو تأثره بنحو مرض وذبول جسم ويصل ذلك إلى الهلاك وأما النوع الثالث وهو تأثير الجسماني في الجسماني فكتأثير الأدوية والسموم في الأبدان ويدخل فيه أنواع النيرنجات والطلسمات فانها بتأثير بعض المركبات الطبيعية في بعض بسبب خواص فيها كجذب المغناطيس للحديد واختطاف الكهرباء التبن وقد يستعان في ذلك بتحصين المناسبات بالاجرام العلوية المؤثرة في عالم الكون والفساد كما يشاهد في صور أشكال موضوعة في أوقات مخصوصة على أوضاع معلومة في مقابلة بعض الجهات ومسامته بعض الكواكب يستدفع بها كثير من أذية الحيوانات وأما النوع الرابع وهو تأثير الجسماني في النفساني فكتأثير الصور المستحسنة أو المستقبحة في النفوس الانسانية من استمالتها اليها وتنفيرها عنها وعد من ذلك تأثير أصناف الأغاني والرقص والملاهي في بعض النفوس وتأثير البيان فيمن له ذوق كما يشير اليه قوله عليه الصلاة و السلام : إن من البيان لسحرا إذا تمهد هذا فاعلم أنهم اختلفوا في إصابة العين فأبوا على الجبائي أنكرها انكارا بليغا ولم يذكر لذلك شبهة فضلا عن حجة وأثبتها غيره من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك فقال الجاحظ : إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه تأثير السم في الابدان فالتأثير عنده من تأثير الجسماني في الجسماني
وضعف ذلك القاضي بأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن تؤثر العين في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيرها فيما يستحسن وتعقبه الامام بأنه تضعيف ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن العائن شيأ فاما أن
(13/16)

يحب بقاءه كما إذا استحسن ولده مثلا وإما أن يكره ذلك كما إذا أحس بذلك المستحسن عند عدوه الحاسد هو له فان كان الأول فانه يحصل عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله وهو يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جدا ويحصل في الروح الباصر كيفية قوية مسخنة وان كان الثاني فانه يحصل عند ذلك الاستحسان هم شديد وحزن عظيم بسبب حصول ذلك المستحسن لعدوه وذلك أيضا يوجب انحصار الروح وحصول الكيفية القوية المسخنة وفي الصورتين يسخن شعاع العين فيؤثر ولا كذلك في عدم الاستحسان فبان الفرق ولذلك السبب أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم العائن بالوضوء ومن أصيب بالاغتسال اه وما أشار اليه من أن العائن قد يصيب ولده مثلا مما شهدت له التجربة لكن أخرج الامام أحمد في مسنده عن أبي هريرة وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال : العين حق يضرها الشيطان وحسد ابن آدم وظاهره يقتضي خلاف ذلك وأما ما ذكره من الامر بالوضوء والاغتسال فقد جاء في بعض الروايات وكيفية ذلك أن يغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبيته وأطراف رجليه وداخل ازاره أي ما يلي جسده من الازار وقيل وركيه : وقيل : مذاكيره ويصب الغسالة على رأس المعين وقد مر اذا استغسلتم فاغسلوا وهو خطاب للعائنين أي إذا طلب منكم ما اعتيد من الغسل فافعلوا والأمر للندب عند بعض وقال الماوردي تبعا للجماعة : للوجوب فيجب على العائن أن يغسل ثم يعطي الغسالة للمعين لأنه الذي يقتضيه ظاهر الأمر ولأنه قد جرب ذلك وعلم البرء به ففيه تخليص من الهلاك كاطعام المضطر وذكر أن ذلك أمر تعبدي وهو مخالف لما أشار اليه الامام من كون الحكمة فيه تبريد تلك السخونة وهو مأخوذ من كلام ابن القيم حيث قال في تعليل ذلك : لأنه كما يؤخذ درياق لسم الحية من لحمها يؤخذ علاج هذا الأمر من أثر الشخص العائن وأثر تلك العين كشعلة نار أصابت الجسد ففي الاغتسال اطفاء لتلك الشعلة وهو 1 على علاته أوفى من كلام الامام ويرد على ماقرره في الانتصار للجاحظ أنه لايسد عنه باب الاعتراض على ما ذكره في كيفية إصابة العين إذ يرد عليه ما ثبت من أن بعض العائنين قد يصيب ما يوصف له ويمثل ولو كان بينه وبينه فراسخ والتزام امتداد تلك الأجزاء الى حيث المصاب مما لايكاد يقبل 2 كما لايخفى على ذي عين وقال الحكماء واختاره بعض المحققين من أهل السنة : إن ذلك من تأثير النفساني بالجسماني وبنوه على أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسيا محضا كما يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل عرض اذا كان موضوعا على الأرض يقدر كل انسان على المشي عليه ولو كان موضوعا بين جدارين مرتفعين لم يقدر كل أحد على المشي عليه وماذاك الا لأن الخوف من السقوط منه يوجب السقوط وأيضا إن الانسان إذا تصور أن فلانا مؤذيا له حصل في قلبه غضب وتسخن مزاجه فمبدأ ذلك ليس إلا التصور النفساني بل مبدأ الحركات البدنية مطلقا ليس الا التصورات النفسانية ومتى ثبت أن تصور النفس
(13/17)

يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الابدان وأيضا جواهر النفوس مختلفة فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث تؤثر في تغير بدن حيوان آخر بشرط أن تراه أو ترى مثاله على مانقل وتتعجب منه ومتى ثبت أن ذلك غير ممتنع وكانت التجارب شاهدة بوقوعه وجب القول به من غير تلعثم ولأن وقوع ذلك أكثري عند اعمال العين والنظر بها إلى الشيئ منسب التأثير إلى العين والا فالمؤثر إنما هو النفس ونسبة التأثير اليها كنسبة الاحراق إلى النار والري إلى الماء ونحو ذلك والفاعل للآثار في الحقيقة هو الله عز سلطانه بالاجماع لكن جرت عادته تعالى على خلقها بالاسباب من غير توقف عقلي عليها كما يظن جهلة الفلاسفة على ما نقل عن السلف أو عند الاسباب من غير مدخلية لها بوجه من الوجوه على ما شاع عن الاشعري
فمعنى قوله عليه الصلاة و السلام : العين حق أن اصابة النفس بواسطتها أمر كائن مقضي به في الوضع الالهي لاشبهة في تحققه وهو كسائر الآثار المشاهدة لنحو النار والماء والأدوية مثلا وأنت تعلم أن مدار كل شيء المشيئة الالهية فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وحكمة خلق الله تعالى التأثير في مسئلة العين أمر مجهول لنا وزعم أبو هاشم وأبو القاسم البلخي أن ذلك مما يرجع إلى مصلحة التكليف قالا : لايمتنع أن تكون العين حقا على معنى أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله تعالى ذلك الشيء حتى لايبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به ثم لايبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الاعجاب وسأل ربه سبحانه بقاء ذلك تتغير المصلحة فيبقيه الله تعالى ولا يفنيه وهو كما ترى ثم ان ما أشار اليه من نفع ذكر الله تعالى والالتجاء اليه سبحانه حق فقد صرحوا بأن الادعية والرقي من جملة الأسباب لدفع أذى العين بل إن من ذلك ما يكون سببا لرد سهم العائن اليه فقد أخرج ابن عساكر أن سعيد الساحي قيل له : احفظ ناقتك من فلان العائن فقال : لاسبيل له اليها فعانها فسقطت تضطرب فاخبر الساحي فوقف عليها فقال : حبس حابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس اليه وعلى كبده وكليتيه رشيق وفي ماله يليق فارجع البصر هل ترى من فطور الآية فخرجت حدقتا العائن وسلمت الناقة
ويدل على نفع الرقية من العين مشروعيتها كما تدل عليه الآثار وقد جاء في بعضها أنه صلى الله عليه و سلم قال : لارقية الامن عين أو حمة والمراد منه أنه لارقية أولى وانفع من رقية العين والحمة والا فقد رقى صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه من غيرهما وينبغي لمن علم من نفسه أنه ذو عين أن لاينظر إلى شيء نظر اعجاب وأن يذكر الله تعالى عند رؤية ما يستحسن فقد ذكر غير واحد من المجربين أنه إذا فعل ذلك لايؤثر ونقل الاجهوري أنه يندب أنه يعوذ المعين فيقول اللهم بارك فيه ولا تضره ما شاء الله لاقوة الا بالله وفي تحفة المحتاج أن من أدويتها أي العين المجربة التي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بها أن يتوضأ العائن إلى آخر ماذكرناه آنفا وأن يدعو للمعين وأن يقول المعين ماشاء الله لاقوة الا بالله حصنت نفسي بالحي القيوم الذي لايموت ابدا ودفعت عنها السوء بألف لاحول ولا قوة إلا بالله ويسن عند القاضي لمن رأى نفسه سليمة واحواله معتدلة أني قول ذلك وفي شرح مسلم عن العلماء أنه على السلطان منع من عرف بذلك من مخالطة الناس ويرزقه من بيت المال إن كان فقيرا فان ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله تعالى عنه من مخالطة الناس ورأيت لبعض أصحابنا أيضا القول بندب
(13/18)

ذلك وأنه لا كفارة على عائن قيل : لأن العين لاتعد مهلكا عادة على أن التأثير يقع عندها لا بها حتى بالنظر للظاهر وهذا بخلاف الساحر فانهم صرحوا بأنه يقتل إذا أقر أن سحره يقتل غالبا ونقل عن المالكية أنه لافرق بين الساحر والعائن فيقتلان إذا قتلا ثم إن العين على ما نقل عن الرازي لا تؤثر ممن له نفس شريفة لما في ذلك من الاستعظام للشيء وفيما أخرجه الامام أحمد في مسنده مايؤيد المدعي واعترض بما رواه القاضي أن نبيا استكثر قومه فمات منهم في ليلة مائة الف فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال له سبحانه وتعالى : إنك استكثرتهم فعنتهم هلا حصنتهم إذا استكثرتهم فقال : يارب كيف أحصنهم قال : تقول حصنتكم بالحي القيوم إلى آخر ما تقدم وقد يجاب بأن ماذكر الرازي هو الأغلب بل يتعين تأويل هذا إن صح بأن ذلك النبي عليه السلام لما غفل عن الذكر عند الاستكثار عوتب فيهم ليسأل فيعلم فهو كالاصابة بالعين لا أنه عان حقيقة هذا والله تعالى أعلم ثم إنه عليه السلام لم يكتف بالنهي عن الدخول من باب واحد بل ضم اليه قوله : وادخلوا من أبواب متفرقة بيانا للمراد به وذلك لأن عدم الدخول من باب واحد غير مستلزم للدخول من أبواب متفرقة وفي دخولهم من بابين أو ثلاثة بعض ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماع مصحح لوقوع المحذور وإنما لم يكتف بهذا الامر مع كونه مستلزما للنهي السابق إظهارا لكمال العناية به وإيذانا بأنه المراد بالأمر المذكور لاتحقيق شيء آخر وما أغني عنكم أي لاأنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري من الله من شيء أي من قضائه تعالى عليكم شيئا فانه لايغني حذر من قدر ولم يرد بهذا عليه السلام كما قيل الغاء الحذر بالمرة كيف وقد قال سبحانه : خذوا حذركم وقال عز قائلا : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة بل هو تدبير وتشبث بالاسباب العادية التي لاتؤثر الا باذنه تعالى وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه اليه إن الحكم أي ما الحكم مطلقا إلا لله لايشاركه أحد ولا يمانعه شيء عليه سبحانه دون غيره توكلت في كل ما آتي به وأذر وفيه دلالة على أن ترتيب الاسباب غير مخل بالتوكل وفي الخبر اعقلها وتوكل
وعليه عز سلطانه دون غيره فليتوكل المتوكلون
76
- أي المريدون للتوكل قيل : جمع بين الواو والفاء في عطف الجملة على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص ليفيد بالواو عطف فعل غيره من تخصيص التوكل بالله تعالى شانه على فعل نفسه وبالفاء سببية فعله لكونه نبيا لفعل غيره من المقتدين به وهي على ما صرح به بعضهم زائدة حيث قال : ولا بد من القول بزيادة الفاء وإفادتها السببية ويلتزم أن الزائد قد يدل على معنى غير التوكيد وذكر أنه لو اكتفى بالفاء وحدها وقيل : فعليه فليتوكل الخ أفاد تسبب الاختصاص لا أصل التوكل وهو المقصود وكل ذلك لايخلو عن بحث واختار بعضهم أنه جيء بالفاء افادة للتأكيد فقط كما هو الأمر الشائع في الحروف الزائدة فتدبر وأيا ما كان فيدخل بنوه عليه السلام في عموم الأمر دخولا أوليا وفي هذا الأسلوب ما لا يخفى من حسن هدايتهم وارشادهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله تعالى شأنه غير متعمدين على ما وصاهم به من التدبير ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم من الأبواب المتفرقة من البلد قيل : كانت له أربعة أبواب فدخلوا منها وانما اكتفى بذكره لا ستلزامه الانتهاء عما نهوا عنه
(13/19)

وحاصله لما دخلوا متفرقين ما كان ذلك الدخول يغنى عنهم من الله من جهته سبحانه من شيء أي شيئا مما قضاه عليهم جل شأنه والجملة قيل : جواب لما والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقق المقارنة الواجبة بين جواب لما ومدخولها فان عدم الاغناء بالفعل انما يتحقق عند نزول المحذور لا وقت الدخول وانما المتحقق حينئذ ماأفاده الجمع المذكور من عدم كون الدخول مغنيا فيما سيأتي وليس المراد بيان سببية الدخول لعدم الاغناء كما في قوله تعالى : فلما جاءهم نذير مازادهم الا نفورا فان مجيء النذير هناك سبب لزيادة نفورهم بل بيان عدم سببيته للاغناء مع كونها متوقعة في بادئ الرأي حيث أنه وقع حسبما وصاهم به عليه السلام وهو نظير قولك : حلف أن يعطي حقي عند حلول الأجل فلما حل لم يعطني شيئا فان المراد بيان عدم سببية حلول الأجل للأعطاء مع كونها مرجوة بموجب الحلف لا بيان سببيته لعدم الاعطاء فالمال بيان عدم ترتب الغرض المقصود على التدبير المعهود مع كونه مرجو الوجود لا بيان ترتب عدمه عليه ويجوز أن يراد ذلك أيضا بناء على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيته من أنه لايغني عنهم تدبيره من الله تعالى شيئا فكأنه قيل : ولما فعلوا ما وصاهم به لم يفدهم ذلك شيئا ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقوا ما لقوا فيكون من باب وقوع المتوقع اه والى كون الجواب ماذكر ذهب أبو حيان وقال : إن فيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى حين إذ لو كان كذلك ما جاز أن يكون معمولا لما بعد ما النافية ولعل من يذهب إلى ظرفيتها أحدهما أنه آوى وهو جواب لما الأولى والثانية كقولك : لما جئتك وكلمتك أجبتني وحسن ذلك أن دخولهم على يوسف عليه السلام تعقب دخولهم من الأبواب والثاني أنه محذوف أي امتثلوا أو قضوا حاجة أبيهم وإلى الوجه الأخير ذهب ابن عطية أيضا ولا يخفى أنه عليه وعلى ماقبله ترتفع غائلة توجيه أمر الترتب وما أشار اليه صاحب القيل في ثاني وجهيه هو الذي يقتضيه ظاهر كلام كثير من المفسرين حيث ذكروا أن هذا منه تعالى تصديق لما أشار اليه يعقوب عليه السلام في قوله : ولا أغنى عنكم من الله شيئا
واعترض القول بعدم ترتب الغرض على التدبير بأن الغرض ليس الا دفع اصابة العين لهم وقد تحقق بدخولهم متفرقين وهو وارد أيضا على ماذكر في الوجه الأخير كما لايخفى وأجيب بأن المراد بدفع العين أن لايمسهم سوء ما وإنما خصت إصابة العين لظهورها وقيل : إن ماأصابهم من العين أيضا فلم يترتب الغرض على التدبير بل تخلف ماأراده عليه السلام عن تدبيره وتعقب بأنه تكلف واستظهر أن المراد أنه عليه السلام خشى عليهم شر العين فأصابهم شر أخر لم يخطر بباله فلم يفد دفع ما خافه شيئا وحينئذ يدعى أن دخولهم من حيث أمرهم أبوهم كان مفيدا لهم من حيث أنه دفع العين عنهم إلا أنه لما أصابهم ماأصابهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك مع أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم لم يعد ذلك فائدة فكأن دخولهم لم يفدهم شيئا واعترض أيضا ماذكر في توجيه الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل بأن المشهور أن الغرض منه افادة الاستمرار كما مرت الاشارة اليه غير مرة وظاهر ذلك لايدل عليه قيل : وإذا كان الغرض هنا ذاك احتمل الكلام وجهين نفي استمرار الاغناء واستمرار نفيه وفيه
(13/20)

تأمل فتأمل جدا هذا وما أشرنا اليه من زيادة من في المنصوب هو أحد وجهين ذكرهما الرازي في الآية ثانيهما جواز كونها زائدة في المرفوع وحينئذ ليس في الكلام ضمير الدخول كما لايخفى قيل : ولو اعتبر على هذا الوجه كون مرفوع كان ضمير الشأن لم يبعد أي ما كان الشأن يغني عنهم من الله تعالى شيء إلا حاجة استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها أي أظهرها ووصاهم بها دفعا للخطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيرا في تغير التقدير والمراد بالحاجة شفقته عليه السلام وحرازته من أن يعانوا
وذكر الراغب أن الحاجة إلى الشيء الفقر اليه مع محبته وجمعه حاج وحاجات وحوائج وحاج يحوج احتاج ثم ذكر الآية وأنكر بعضهم مجيء الحوائج جميعا لها وهو محجوج بوروده في الفصيح وفي التصريح باسمه عليه السلام إشعار بالتعطف والشفقة والترحم لأنه عليه السلام قد اشتهر بالحزن والرقة وجوز أن يكون ضمير قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب عليه السلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئا لكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب لوقوعه حسب ارادته والاستثناء منقطع أيضا وجملة قضاها صفة حاجة وجوز أن يكون خبر إلا لأنها بمعنى لكن وهي يكون لها اسم وخبر فاذا أولت بها فقد يقدر خبرها وقد يصرح به كما نقله القطب وغيره عن ابن الحاجب وفيه أن عمل إلا بمعنى لكن عملها مما لم يقل به أحد من أهل العربية وجوز الطيبى كون الاستثناء متصلا على أنه من باب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
فالمعنى ما أغنى عنهم ما وصاهم به أبوهم شيئا إلا شفقته التي في نفسه ومن الضرورة أن شفقة الأب مع قدر الله تعالى كالهباء فاذن ما أغنى عنهم شيئا أصلا وإنه لذو علم جليل لما علمناه أي لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر أو حيث بت القول بأنه لايغني عنهم من الله تعالى شيئا فكانت الحال كما قال فاللام للتعليل و ما مصدرية والضمير المنصوب ليعقوب عليه السلام وجوز كون ما موصولا اسميا والضمير لها واللام صلة علم والمراد به الحفظ أي إنه لذو حفظ ومراقبة للذي علمناه إياه وقيل : المعنى إنه لذو علم لفوائد الذي علمناه وحسن اثارة وهو إشارة إلى كونه عليه السلام عاملا بما علمه وما أشير اليه أولا هو الأولى ويؤيد التعليل قراءة الأعمش مما علمناه وفي تأكيد الجملة بان واللام وتنكير علم وتعليله بالتعليم المسند إلى ضمير العظمة من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لايخفى ولكن أكثر الناس لايعلمون
86
- سر القدر ويزعمون أنه يغني عنه الحذر وقيل : المراد لايعلمون إيجاب الحذر مع أنه لاينبغي شيئا من القدر وتعقب بأنه يأباه مقام بيان تخلف المطلوب عن المبادى
وقيل : المراد لايعلمون أن يعقوب عليه السلام بهذه المثابة من العلم ويراد بأكثر الناس حينئذ المشركون فانهم لايعلمون أن الله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة وفيه أنه بمعزل عما نحن فيه
(13/21)

وجعل المفعول سر القدر هو الذي ذهب اليه غير واحد من المحققين وقد سعى في بيان المراد منه وتحقيق إلغاء الحذر بعض أفاضل المتأخرين المتشبثين بأذيال الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فقال : إن لنا قضاء وقدرا وسر قدر وسر سره وبيانه أن الممكنات الموجودة وإن كانت حادثة باعتبار وجودها العيني لكنها قديمة باعتبار وجودها العلمي وتسمى بهذا الاعتبار مهيئات الأشياء والحروف العالية والأعيان الثابتة ثم أن تلك الأعيان الثابتة صور نسبية وظلال شؤنات ذاتية لحضرة الواجب تعالى فكما أن الواجب تعالى والشؤن الذاتية له سبحانه مقدسة عن قبول التغير أزلا وأبدا كذلك الأعيان الثابتة التي هي ظلالها وصورها يمتنع عليها أن تتغير عن الأحكام التي هي عليها في حد نفسها فالقضاء هو الحكم الكلي على أعين الموجودات بأحوال جارية وأحكام طارئة عليها من الأزل إلى الأبد والقدر تفصيل هذا الحكم الكلي بتخصيص إيجاد الأعيان وإظهارها بأوقات وأزمان يقتضي استعدادها الوقوع فيها وتعليق كل حال من أحوالها بزمان معين وسبب مخصوص وسر القدر هو أن يمتنع أن يظهر عين من الأعيان إلا على حسب ما يقتضيه استعداده وسر سر القدر هو أن تلك الاستعدادات أزلية غير مجعولة بجعل الجاعل لكون تلك الأعيان ظلال شؤنات ذاتية مقدسة عن الجعل والانفعال ولا شك أن الحكم الكلي على الموجودات تابع لعلمه تعالى بأعيانها الثابتة وعلمه سبحانه بتلك الأعيان تابع لنفس تلك الأعيان إذ لاأثر للعلم الأزلي في المعلوم باثبات أمر له لايكون ثابتا أو بنفي أمر عنه يكون ثابتا بل علمه تعالى بأمر ما إنما يكون على وجه يكون هو في حد ذاته على ذلك الوجه وأما الاعيان فقد عرفت أنها ظلال لأمور أزلية مقدسة عن شوائب التغير فكانت أزلا فالله تعالى علم بها كما كانت وقضى وحكم كما علم وقدر وأوجد كما قضى وحكم فالقدر تابع للقضاء التابع للعلم التابع للمعلوم التابع لما هو ظل له فإليه سبحانه يرجع الأمر كله فيمتنع أن يظهر خلاف ما علم فلذا يلغو الحذر لكن أمر به رعاية للأسباب فان تعطيلها مما يفوت انتظام أمر هذه النشأة ولذا ورد أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام ترك تعاطي أسباب تحصيل الغذاء وقال : لاأسعى في طلب شيء بعد أن كان الله تعالى هو المتكفل برزقي ولا آكل ولا أشرب ما لم يكن سبحانه هو الذي يطعمني ويسقيني فبقى أياما على ذلك حتى كادت تغيظ نفسه مما كابده فأوحى اليه سبحانه يافلان لو بقيت كذلك إلى يوم القيامة ولم تتعاط سببا ما رزقتك أتريد أن تعطل أسبابي
وقال بعض المحققين : إن سبب إيجاب الحذر أن كثيرا من الأمور قضى معلقا ونيط تحصيله بالأفعال الأختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه فيمكن أن يكون الحفظ عن المكروه من جملة ما نيط بفعل اختياري وهو الحذر وهو لايأبى ما قلناه كما لايخفى هذا
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القدر مرتبة بين الذات والمظاهر ومن علم الله تعالى علمه ومن جهله سبحانه جهله والله تعالى شأنه لايعلم فالقدر أيضا لايعلم وإنما طوى علمه حتى لايشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الاحاطة بها إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الاحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ولا يلزمنا على هذا الاستواء فيما علم منه فان الكلام فيما علم كذلك فان العبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما ومن المعلومات العلم بالعلم وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لايعلمه إلا هو سبحانه
(13/22)

فلو علم القدر علمت ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء وما احتاج اليه سبحانه في شيء وكان له الغني على الاطلاق وسر القدر عين تحكمه في الخلائق وأنه لاينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم
وقد ورد النهي عن طلب علم القدر وفي بعض الآثار أن عزيرا عليه السلام كان كثير السؤال عنه الى أن قال الحق سبحانه له : ياعزير لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ويقرب من ذلك السؤال عن علل الأشياء في مكنوناتها فان أفعال الحق لاينبغي أن تعلل فان ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود والأزل لايقبل السؤال عن العلل والسؤال عن ذلك لايصدر إلا عن جاهل بالله تعالى فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك ولما دخلوا على يوسف ءاوى أي ضم اليه أخاه بنيامين قال المفسرون : إنهم لما دخلوا عليه السلام قالوا : أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم : أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي وبلغوه رسالة أبيهم فانه عليه السلام لما ودعوه قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له : إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا وقال أبو منصور المهراني : إنه عليه السلام خاطبه بذلك في كتاب فلما قرأه يوسف عليه السلام بكى ثم أنهأكرمهم وأنزلهم وأحسن نزلهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحيدا فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف عليه السلام : بقى أخوكم وحده فقالوا له : كان له أخ فهلك قال : فأنا أجلسه معه على مائدة وجعل يؤاكله فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك وقال : ينام كل اثنين منكم على فراش فبقي بنيامين وحده فقال : هذا ينام عندي على فراشي فنام مع يوسف عليه السلام على فراشه فجعل يوسف عليه السلام يضمه اليه ويشم ريحه حتى أصبح وسأله عن ولده فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال : من يجد أخا مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام اليه وعانقه وتعرف اليه عند ذلك قال اني أنا أخوك يوسف فلا تبتئس أي فلا تحزن بما كانوا يعملون
96
- بنا فيما مضى فان الله تعالى قد أحسن الينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك والقول بأنه عليه السلام تعرف اليه وأعلمه بأنه أخوه حقيقة هو الظاهر وروى عن ابن عباس وابن اسحاق وغيرهما إلا أن ابن إسحق قال : إنه عليه السلام قال له بعد أن تعرف اليه : لا تبال بكل ماتراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بما كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيانه عليه السلام من أمر السقاية ونحو ذلك وهو لعمري مما لايكاد يقول به من له أدنى معرفة بأساليب الكلام وقال وهب : إنما أخبر عليه السلام أنه قائم مقام أخيه الذاهب في الود ولم يكشف اليه الأمر ومعنى لاتبتئس الخ لاتحزن بما كنت تلقاه منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم وروى أنه قال ليوسف عليه السلام : أنا لاأفارقك قال : قد علمت اغتمام والدي فاذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلي مالا يجمل قال : لا أبالي فافعل مابدا لك قال : فاني أدس صاعي في
(13/23)

رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم قال : افعل فلما جهزهم بجهازهم ووفى لهم الكيل وزاد كلا منهم على ما روى حمل بعير جعل السقاية هي إناء يشرب به الملك وبه كان يكال الطعام للناس وقيل : كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحبوب وكانت من فضة مرصعة بالجواهر على ما روى عن عكرمة أو بدون ذلك كما روى عن ابن عباس والحسن وعن ابن زيد أنها من ذهب وقيل : من فضة مموهة بالذهب وقيل : كانت إناء مستطيلة تشبه المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم يروى أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك والظاهر أن الجاعل هو يوسف عليه السلام نفسه ويظهر من حيث كونه ملكا أنه عليه السلام لم يباشر الجعل بنفسه بل أمر أحدا فجعلها في رحل أخيه بنيامين من حيث يشعر أولايشعر
وقرئ وجعل بواو وفي ذلك احتمالان الأول أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين وما بعدها هو جواب لما والثاني أن تكون عاطفة على محذوف وهو الجواب أي فلما جهزهم أمهلهم حتى انطلقوا وجعل ثم أذن مؤذن نادى مسمع كما في مجمع البيان وفي الكشاف وغيره نادى مناد
وأورد عليه أن النحاة قالوا : لايقال قام قائم لأنه لافائدة فيه وأجيب بأنهم أرادوا أن ذلك المنادي من شأنه الاعلام بما نادى به بمعنى أنه موصوف بصفة مقدرة تتم بها الفائدة أي أذن رجل معين للأذان أيتها العير إنكم لسارقون
7
- وقد يقال : قياس مافي النظم الجليل على المثال المذكور ليس في محله وكثيرا ما تتم الفائدة بما ليس من أجزاء الجملة ومنه صلى الله تعالى عليه وسلم : لايزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن والعير الإبل التي عليها الأحمال سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء وهو اسم جمع لذلك لا واحد له والمراد هنا أصحاب العير كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ياخيل الله اركبي وذلك أما من باب المجاز أو الاضمار الا أنه نظر الى المعنى 1 في الآية ولم ينظر اليه في الحديث صلى الله عليه و سلم وقيل : العير قافلة الحمير ثم توسع 3 فيها حتى قيلت لكل قافلة كأنها جمع عير بفتح العين وسكون الياء وهو الحمار وأصلها عير بضم العين والياء استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم كسرت العين لثقل الياء بعد الضمة كما فعل في بيض جمع أبيض وغيد جمع أغيد وحمل العير هنا على قافلة الابل هو المروي عن الأكثرين وعن مجاهد أنها كانت قافلة حمير والخطاب بانكم لسارقون أن كان بأمر يوسف عليه السلام فلعله أريد بالسرقة أخذهم له من أبيه على وجه الخيانة كالسراق ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب أو أريد سرقة 4 السقاية ولا يضر لزوم الكذب لأنه اذا تضمن مصلحة رخص فيه واما كونه برضا أخيه فلا يدفع ارتكاب الكذب وانما يدفع تأذى الأخ منه أو يكون المعنى على الاستفهام أي أئنكم لسارقون ولا يخفى مافيه من البعد والا فهو من قبل المؤذن بناء على زعمه قيل والاول هو الأظهر الأوفق للسياق وفي البحر الذي يظهر أن هذا التحيل ورمى البراء بالسرقة وادخال الهم على يعقوب عليه
(13/24)

السلام بوحي من الله تعالى لما علم سبحانه في ذلك من الصلاح ولما أراد من محنتهم بذلك ويؤيده قوله سبحانه : وكذلك كدنا ليوسف وقرأ اليماني إنكم سارقون بلا لام قالوا أي الاخوة وأقبلوا عليهم أي على طالبي السقاية المفهوم من الكلام أو على المؤذن إن كان أريد منه جمع كأنه عليه السلام جعل مؤذنين ينادون بذلك على مافي البحر والجملة في موضع الحال من ضمير قالوا جيء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم أي قالوا مقبلين عليهم ماذا تفقدون
17
- أي أي شيء تفقدون أوما الذي تفقدونه والفقد كما قال الراغب : عدم الشيء بعد وجوده فهو أخص من العدم فانه يقال له ولما لم يوجد أصلا وقيل : هو عدم الشيء بأن يضل عنك لا بفعلك وحاصل المعنى ما ضاع منكم وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة
وقرأ السلمي تفقدون بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيدا نحو أحمدته إذا وجدته محمودا وضعف أبو حاتم هذه القراءة ووجهها ما ذكر وعلى القراءتين فالعدول عما يقتضيه الظاهر من قولهم : ماذا سرق منكم على ما قيل لبيان كمال نزاهتهم باظهار أنه لم يسرق منهم شيء فضلا عن أن يكونوا هم السارقين له وإنما الممكن أن يضيع منهم شيء فيسألونهم ماذا وفيه إرشاد لهم إلى مراعاة حسن الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البراء إلى ما لا خير فيه لاسيما بطريق التأكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث قالوا في جوابهم : قالوا نفقد صواع الملك ولم يقولوا سرقتموه أو سرق وقيل : كان الظاهر أن يبادروا بالانكار ونفي أن يكونوا سارقين ولكنهم قالوا ذلك طلبا لاكمال الدعوى إذ يجوز أن يكون فيها ما تبطل به فلا تحتاج إلى خصام وعدلوا عن ماذا سرق منكم إلى ما في النظم الجليل لما ذكر آنفا والصواع بوزن غراب المكيال وهو السقاية ولم يعبر بها مبالغة في الافهام والافصاح ولذا أعاد الفعل وصيغة المستقبل لما تقدم أو للمشاكلة
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن جبير فيما نقل ابن عطية كما قرأ الجمهور إلا أنهم كسروا الصاد وقرأ أبو هريرة ومجاهد صاع بغير واو على وزن فعل فالألف فيه بدل من الواو المفتوحة وقرأ أبو رجاء صوع بوزن قوس
وقرأ عبدالله بن عون بن أبي أرطبان صوع بضم الصاد وكلها لغات في الصاع وهو مما يذكر ويؤنث وأبو عبيدة لم يحفظ التأنيث وقرأ الحسن وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح صواغ بالغين المعجمة على وزن غراب أيضا وقرأ يحيى بن يعمر كذلك إلا أنه حذف الألف وسكن الواو وقرأ زيد بن علي صوغ على أنه مصدر من صاغ يصوغ أريد به المفعول وكذا يراد من صواغ وصوغ في القراءتين أي نفقد مصوغ الملك ولمن جاء به أي أتى به مطلقا ولو من عند نفسه وقيل : من دل على سارقه وفضحه حمل بعير أي من الطعام جعلا له والحمل على ما في مجمع البيان بالكسر لما انفصل وبالفتح لما اتصل وكأنه أشار إلى ماذكره الراغب من أن الحمل بالفتح يقال في الاثقال المحمولة في الباطن كالولد في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة وأنا به زعيم
27
- أي كفيل أؤديه اليه وهو قول المؤذن
واستدل بذلك كما في الهداية وشروحها على جواز تعليق الكفالة بالشروط لأن مناديه علق الالتزام
(13/25)

بالكفالة بسبب وجوب المال وهو المجيء بصواع الملك وندائه بأمر يوسف عليه السلام وشرع من قبلنا شرع لنا إذا مضى من غير إنكار وأورد عليه أمران الأول ماقاله بعض الشافعية من أن هذه الآية محمولة على الجعالة لما يأتي به لا لبيان الكفالة فهي كقول من أبق عبده من جاء به فله عشرة دراهم وهو ليس بكفالة لأنها إنما تكون إذا التزم عن غيره وهنا قد التزم عن نفسه الثاني أن الآية متروكة الظاهر لأن فيها جهالة المكفول له وهي تبطل الكفالة وأجيب عن الأول بأن الزعم حقيقة في الكفالة والعمل بها مهما أمكن واجب فكأن معناه قول المنادي للغير : إن الملك قال : لمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم فيكون ضامنا عن الملك لا عن نفسه فتتحقق حقيقة الكفالة وعن الثاني بأن في الآية ذكر أمرين الكفالة مع الحمالة للمكفول له وإضافتها إلى سبب الوجوب وعدم جواز أحدهما بدليل لايستلزم عدم جواز الآخر
وفي كتاب الأحكام أنه روى عن عطاء الخراساني زعيم بمعنى كفيل فظن بعض الناس أن ذلك كفالة إنسان وليس كذلك لأن قائله جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله : وأنا به زعيم أي ضامن فألزم نفسه ضمان الأجرة لرد الصاع وهذا أصل في جواز قول القائل : من حمل هذا المتاع لموضع كذا فله درهم وأنه إجارة جائزة إن لم يشارط رجلا بعينه وكذا قال محمد بن الحسن في السير الكبير : ولعل حمل البعير كان قدرا معلوما فلا يقال : إن الاجارة لاتصح إلا بأجر معلوم كذا ذكره بعض المحققين
وقال الامام : إن الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم وقد حكم بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله الزعيم غارم وليست كفالة بشيء مجهول لأن حمل بعير من الطعام كان معلوما عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهي كفالة لما لم يجب لأنه لايحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة
ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم وتعقب بأنه لادليل على أن الراد هو من علم أنه الذي سرق ليحتاج إلى التزام القول بصحة ذلك في دينهم وتمام البحث في محله قالوا تالله أكثر النحويين على أن التاء بدل من الواو كما أبدلت في تراث وتوراة عند البصريين وقيل هي بدل من الباء وقال السهيلي : إنها أصل برأسها وقال الزجاج : إنها لايقسم بها إلا في الله خاصة وتعقب بالمنع لدخولها على الرب مطلقا أو مضافا للكعبة وعلى الرحمن 1 وقالوا تحياتك أيضا وأياما كان ففي القسم بها معنى التعجب كأنهم تعجبوا من رميهم بما ذكر مع ما شاهدوه من حالهم فقد روى أنهم كانوا يعكمون 2 أفواه إبلهم لئلا تنال من زروع الناس وطعامهم شيئا واشتهر أمرهم في مصر بالعفة والصلاح والمثابرة على فنون الطاعات ولذا قالوا : لقد علمتم علما جاز ما مطابقا للواقع ما جئنا لنفسد في الأرض أي لنسرق فان السرقة من أعظم أنواع الافساد أو لنفسد فيها أي إفساد كان فضلا عما نسبتمونا اليه من السرقة ونفي المجيء للإفساد وإن لم يكن مستلزما لما هو مقتضى المقام من نفي الافساد مطلقا لكنهم جعلوا المجيء الذي يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئا لغرض الافساد مفعولا لأجله ادعاء إظهارا لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة
(13/26)

صدوره عنهم فكأنهم قالوا : إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه كذا قيل
وقيل : إنهم أرادوا نفي لازم المجيء للافساد في الجملة وهو تصور الافساد مبالغة في نزاهتهم عن ذلك فكأنهم قالوا : ما مر لنا الافساد ببال ولا تعلق بخيال فضلا عن وقوعه منا ولايخفى بعده وما كنا سارقين
37
- أي ما كنا نوصف بالسرقة قط والظاهر دخول هذا في حيز العلم كالأول ووجهه أن العلم بأحوالهم المشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الفائتة والحلف في الحقيقة على الأمرين اللذين في حيز العلم لا على علم المخاطبين بذلك إلا أنهم ذكروه للاستشهاد وتأكيد الكلام ولذا أجرت العرب العلم مجرى القسم كما في قوله : ولقد علمت لتأتين منيتي
إن المنايا لاتطيش سهامها وفي ذلك من إلزام الحجة عليهم وتحقيق أمر التعجب المفهوم من تاء القسم من كلامهم كما فيه وذكر بعضهم أنه يجوز أن يكون كما جئنا الخ متعلق العلم وأن يكون جواب القسم أو جواب العلم لتضمنه معناه وهو لا يأبى ما تقدم قالوا أي أصحاب يوسف عليه السلام فما جزاؤه أي الصواع والكلام على حذف مضاف أي ما جزاء سرقته : الضمير لسرق أو للسارق والجزاء إلى الجناية حقيقة وإلى صاحبها مجازا وقد يقال : بحذف المضاف فافهم والمراد فما جزاء ذلك عندكم وفي شريعتكم إن كنتم كاذبين
47
- أي في ادعاء البراءة كما هو الظاهر وفي التعبئة بإن مراعاة لجانبهم قالوا أي الأخوة جزاؤه من وجد أي أخذ من وجد الصواع في رحله واسترقاقه وقدر المضاف لأن المصدر لايكون خبرا عن الذات ولأن نفس ذات من وجد في رحله ليست جزاء في الحقيقة واختاروا عنوان الوجدان في الرحل دون السرقة مع أنه المراد لأن كون الأخذ والاسترقاق سنة عندهم ومن شريعة أبيهم عليه السلام إنما هو بالنسبة إلى السارق دون من وجد عنده مال غيره كيفما كان إشارة إلى كمال نزاهتهم حتى كأن أنفسهم لا تطاوعهم وألسنتهم لا تساعدهم على التلفظ به مثبتا لأحدهم بأي وجه وكأنهم تأكيدا لتلك الاشارة عدلوا عمن وجد عنده إلى من وجد في رحله فهو جزاؤه أي فأخذه جزاؤه وهو تقدير للحكم السابق باعادته كما في قولك : حق الضيف أن يكرم فهو حقه وليس مجرد تأكيد فالغرض من الأول إفادة الحكم ومن الثاني إفادة حقيته والاحتفاظ بشأنه كأنه قيل : فهذا ما تلخص وتحقق للناظر في المسألة لا مرية فيه قيل : وذكر الفاء في ذلك لتفرغه على ما قبله ادعاء وإلا فكان الظاهر تركها لمكان التأكيد ومنه يعلم أن الجملة المؤكدة قد تعطف لنكتة وإن لم يذكره أهل المعاني وجوز كون من موصولة مبتدأ وهذه الجملة خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجملة المبتدأ وخبره خبر جزاؤه وأن تكون من شرطية مبتدأ ووجد في رحله فعل الشرط وجزاؤه فهو جزاؤه والفاء رابطة والشرط وجزاؤه خبر أيضا كما في احتمال الموصولة واعترض على ذلك بأنه يلزم خلو الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ عن عائد اليه لأن الضمير المذكور لمن لا له وأجيب بأنه جعل الاسم الظاهر وهو الجزاء الثاني قائما مقام الضمير والربط كما يكون بالضمير يكون بالظاهر والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو أي فهو الجزاء وفي العدول ما علم من التقرير السابق وإزالة اللبس والتفخيم لاسيما في مثل هذا الموضع فهو كاللازم وقد
(13/27)

صرح الزجاج بأن الاظهار هنا أحسن من الأضمار وعلله ببعض ماذكر وانشد : لاأرى الموت يسبق الموت شيء
نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وبذلك يندفع ما في البحر اعتراضا على هذا الجعل من أن وضع الظاهر موضع الضمير للربط إنما يفصح إذا كان المقام مقام تعظيم كما قال سيبويه فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك وأن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف تقديره المسؤول عنه جزاؤه فهو حكاية قول السائل ويكون من وجد الخ بيانا وشروعا في الفتوى وهذا علىما قيل كما يقول من يستفتي في جزاء صيد المحرم : جزاء صيد المحرم ثم يقول : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فان قول المفتي : جزاء صيد الحرم بتقدير مااستفتيت فيه أو سألت عنه ذلك وما بعده بيان للحكم وشرح للجواب وليس التقدير ماأذكره جزاء صيد الحرم لأن مقام الجواب والسؤال ناب عنه نعم إذا ابتدأ العالم بإلقاء مسألة فهنالك يناسب هذا التقدير
وتعقب ذلك أبو حيان بأنه ليس في الاخبار عن المسؤول عنه بذلك كثير فائدة إذ قد علم أن المسؤول عنه ذلك من قولهم : فما جزاؤه وكذا يقال في المثال وأجيب بأنه يمكن أن يقال : إن فائدة ذلك إعلام المفتي المستفتي أنه قد أحاط خبره بسؤاله ليأخذ فتواه بالقبول ولا يتوقف في ذلك لظن الغفلة فيها عن تحقيق المسؤول وهي فائدة جليلة
وزعم بعضهم أن الجملة من الخبر والمبتدأ المحذوف على معنى الاستفهام الانكاري كأن المسؤول ينكر أن يكون المسؤول عنه ذلك لظهور جوابه ثم يعود فيجيب وهو كما ترى كذلك أي مثل ذلك الجزاء الأوفى نجزي الظالمين
57
- بالسرقة والظاهر أن هذا من تتمة كلام الاخوة فهو تأكيد للحكم المذكور غب تأكيد وبيان لقبح السرقة وقد فعلوا ذلك ثقة بكمال براءتهم عنها وهم عما فعل بهم غافلون وقيل : هو من كلام أصحاب يوسف عليه السلام وقيل : كلامه نفسه أي مثل الجزاء الذي ذكرتموه نجزي السارقين
فبدأ قيل المؤذن ورجح بقرب سبق ذكره وقيل : يوسف عليه السلام فقد روى أن إخوته لما قالوا ما قالوا قال لهم أصحابه : لابد من تفتيش رحالكم فردوهم بعد أن ساروا منزلا أو بعد أن خرجوا من العمارة اليه عليه السلام فبدأ بأوعيتهم أي بتفتيش أوعية الاخوة العشرة ورجح ذلك بمقاولة يوسف عليه السلام فانها تقتضي ظاهرا وقوع ماذكر بعد ردهم اليه ولا يخفى أن الظاهر أن إسناد التفتيش اليه عليه السلام مجازي والمفتش حقيقة أصحابه بأمره بذلك قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين لنفي التهمة
روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال : ماأظن هذا أخذ شيئا فقالوا : والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فانه أطيب لنفسك وأنفسنا ففعل ثم استخرجها أي السقاية أو الصواع لأنه كما علمت مما يؤنث ويذكر عند الحفاظ وقيل : الضمير للسرقة المفهومة من الكلام أي ثم استخرج السرقة من وعاء أخيه لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصدا إلى زيادة كشف وبيان والوعاء الظرف الذي يحفظ فيه الشيء وكأن المراد به هنا ما يشمل الرحل وغيره لأنه الأنسب بمقام التفتيش ولذا لم يعبر بالرحال على ماقيل وعليه يكون عليه السلام قد فتش كل ما يمكن أن يحفظ الصواع فيه مما كان معهم
(13/28)

من رحل وغيره
وقولهم : مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كما قال المدقق أبو القاسم السمرقندي لايقتضي أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء كما في ركب القوم دوابهم يجوز أن يكون على التفاوت كما في باع القوم دوابهم فانه يفهم معه أن كلا منهم باع ماله من دابة وقد مر التنبيه على هذا فيما سبق وحينئذ يحتمل أن يراد من وعاء أخيه الواحد والمتعدد
وقرأ الحسن وعاء بضم الواو وجاء كذلك عن نافع وقرأ ابن جبير إعاء بابدال الواو المكسورة همزة كما قالوا في وشاح اشاح وفي وسادة اسادة وقلب الواو المكسورة في أول الكلمة همزة مطرد في لغة هذيل كذلك أي مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الأخوة إلى الافتاء المذكور بأجرائه على ألسنتهم وحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا كدنا ليوسف أي صنعنا ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس السقاية وما يتلوه فالكيد مجاز لغوي في ذلك والا فحقيقته وهي أن توهم غيرك خلاف ماتخفيه وتريده على ماقالوا محال عليه تعالى وقيل : إن ذلك محمول على التمثيل وقيل : إن في الكيد اسنادين بالفحوى إلى يوسف عليه السلام وبالتصريح اليه سبحانه والاول حقيقي والثاني مجازي والمعنى فعلنا كيد يوسف وليس بذاك وفي درر المرتضى ان كدنا بمعنى أردنا وأنشد
كادت وكدت وتلك خير ارادة
لو عاد من لهو الصبابة ما مضى واللام للنفع لا كاللام في قوله تعالى : فيكيدوا لك كيدا فانها للضرر على ماهو الاستعمال الشائع
ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك أي في سلطانه على ما روى عن ابن عباس أو في حكمه وقضائه كما روى عن قتادة والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد كأنه قيل : لماذا فعل ذلك فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد لأن جزاء السارق في دينه على ما روى عن الكلبي وغيره أن يضاعف عليه العزم وفي رواية ويضرب دون أن يؤخذ ويسترق كما هو شريعة يعقوب عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بما نسب اليه من السرقة بحال من الاحوال
إلا أن يشاء الله أي الا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن ذلك الكيد أو إلا حال مشيئته تعالى للأخذ بذلك الوجه وجوز أن يكون المراد من ذلك الكيد الارشاد المذكور ومباديه المؤدية اليه جميعا من ارشاد يوسف عليه السلام وقومه إلى ماصدر عنهم من الأفعال والأقوال حسبما شرح مرتبا وأمر التعليل كما هو بيد أن المعنى على هذا الاحتمال مثل ذلك الكيد البالغ الى هذا الحد كدنا ليوسف عليه السلام ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بايجاد ما يجري فجرى الجزاء الصوري من العلة التامة وهو إرشاد اخوته الى الافتاء المذكور فالقصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذ بالنسبة الى البعض وكذا يقال في تفسير من فسر كدنا ليوسف بقوله علمناه إياه وأوحينا اليه أي مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح علمناه دون بعض من ذلك فقط الخ والاستثناء على كل حال من أعم الاحوال وجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب أي لم يكن ليأخذ أخاه في دين الملك لعلة من العلل
(13/29)

وسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى وأياما كان فهو متصل لأن أخذ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده دينا لاسيما عند رضاه وافتائه به ليس مخالفا لدين المالك فلذلك لم ينازعه الملك وأصحابه في مخالفة دينهم بل لم يعدوه مخالفة
وقيل : إن جملة ما كان الخ في موضع البيان والتفسير للكيد وأن معنى الاستثناء إلا أن يشاء الله تعالى أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك وفيه بحث وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله سبحانه وإذنه في دين غير دين الملك نرفع درجات أي رتبا كثيرة عالية من العلم وانتصابها على مانقل عن أبي البقاء على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات وجوز غير واحد النصب على المصدرية وأياما كان فالمفعول به قوله تعالى : من نشاء أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف عليه السلام وإيثار صيغة الاستقبال للاشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة والجملة مستأنفة لامحل لها من الاعراب وفوق كل ذي علم من أولئك المرفوعين عليم
67
- لاينالون شأوه
قال المولى المحقق شيخ الاسلام قدس سره في بيان ربط الآية بما قبل : إنه إن جعل الكيد عبارة عن إرشاد الاخوة إلى الافتاء وحملهم عليه أو عبارة عن ذلك مع مباديه المؤدية اليه فالمراد برفع يوسف عليه السلام مااعتبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى ما يتم من قبله من المبادي المفضية إلى استبقاء أخيه والمعنى أرشدنا إخوته إلى الافتاء لأنه لم يكن متمكنا من غرضه بدونه أو أرشدنا كلا منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قبل يوسف لأنه لم يكن متمكنا من غرضه بمجرد ذلك
وحينئذ يكون قوله تعالى : نرفع إلى عليم توضيحا لذلك على معنى أن الرفع المذكور لايوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لايغيب عن علمه شيء بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداد وفوق كل واحد منهم عليم لايقادر قدره يرفع كلا منهم إلى مايليق به من معارج العلم وقد رفع يوسف إلى ذلك وعلم أن : ما حواه دائرة علمه لايفي بمرامه فأرشد إخوته إلى الافتاء المذكور فكان ما كان وكأنه عليه السلام لم يكن على يقين من صدور ذلك منهم وإن كان على طمع منه فان ذلك إلى الله تعالى شأنه وجودا وعدما والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية وفي صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه عن شأنه وجلالة مقدار علمه المحيط جل جلاله ما لايخفى وإن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للافتاء فالرفع عبارة عن ذلك التعليم والافتاء وإن كان لم يكن داخلا تحت قدرته عليه السلام لكنه كان داخلا تحت علمه بواسطة الوحي والتعليم والمعنى مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه ولم نقتصر على تعليم ما عدا الافتاء الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكنا من غرضه في أخيه إلا بذلك وحينئذ يكون قوله تعالى : نرفع درجات من نشاء توضيحا لقوله سبحانه : كدنا وبينا لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم ومدحا ليوسف عليه السلام برفعه إليها وفوق الخ تذليلا له أي نرفع درجات عالية من نشاء رفعه وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى والمعنى أن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف أفضل منهم اه والذي اختاره الزمخشري على ماقيل حديث التذييل إلا أنه أوجز في كلامه حتى خفى مغزاه وعد ذلك من المداحض حيث قال : وفوق كل ذي علم عليم فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليم
(13/30)

هم دونه في العلم وهو الله عز وعلا وبيان ذلك على ما في الكشف أن غرضه أن يبين وجه التذييل بهذه الجملة فأفاد أنه إما على وجه التأكيد لرفع درجة يوسف عليه السلام على إخوته في العلم أي فاقهم علما لأن فوق كل ذي علم عليم أرفع درجة منه وفيه مدح له بأن الذين فاقهم علماء أيضا وإما على تحقيق أن الله تعالى رفعه درجات وهو اليه لامنازع له فيه فقال : وفوق العلماء كلهم عليم هم دونه يرفع من يشاء يقربه اليه بالعلم كما رفع يوسف عليه السلام وذكر أن مايقال : من أن الكل على الثاني مجموعي وعلى الأول بمعنى كل واحد كلام غير محصل لأن الداخل على النكرة لايكون مجموعيا وأصل النكتة في الترديد أنه لو نظر إلى العلم ولا تناهيه كان الأول فيرتقي إلى مالا نهاية لعلمه بل جل عن النهاية من كل الوجوه ولا بد من تخصيص في لفظ كل والمعنى وفوق كل واحد من العلماء عالم وهكذا إلى أن ينتهي ولو نظر إلى العالم وإفادته إياه كان الثاني والمعنى وفوق كل واحد عالم واحد فأولى أن يكون فوق كلهم لأن الثاني معلول الأول ولظهور المعنى عليه قدر وفوق العلماء كلهم وكلا الوجهين يناسب المقام اه
ولعل اعتبار كون الجملة الأولى مدحا ليوسف عليه السلام وتعظيما لشأن الكيد وكون الثانية تذليلا هو الأظهر فتأمل وقد استدل بالآية من ذهب إلى أنه تعالى شأنه عالم بذاته لا بصفة علم زائدة على ذلك وحاصل استدلالهم أنه لو كان له سبحانه صفة علم زائدة على ذاته كان ذا علم لاتصافه به وكل ذي علم فوقه عليم للآية فيلزم أن يكون فوقه وأعلم منه جل وعلا عليم آخر وهو من البطلان بمكان وأجيب بأن المراد بكل ذي علم المخلوقات ذوو العلم لأن الكلام في الخلق ولأن العليم صيغة مبالغة معناه أعلم من كل ذي علم فيتعين أن يكون المراد به الله تعالى فما يقابله يلزم كونه من الخلائق لئلا يدخل فيما يقابله وكون المراد من العليم ذلك هو احدى روايتين عن الحبر فقد أخرج عبدالرزاق وجماعة عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فحدث بحديث فقال رجل عنده : وفوق كل ذي علم عليم فقال ابن عباس : بئسما قلت الله العليم وهو فوق كل عالم وإلى ذلك ذهب الضحاك فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال بعد أن تلا الآية يعني الله تعالى بذلك نفسه على أنه لو صح ماذكره المستدل لم يكن الله تعالى عالما بناء على أن الظاهر اتفاقه معنا في صحة قولنا فوق كل العلماء عليم وذلك أنه يلزم على تسليم دليله إذا كان الله تعالى عالما أن يكون فوقه من هو أعلم منه فأن أجاب بالتخصيص في المثال فالآية مثله
وقرأ غير واحد من السبعة درجات من نشاء بالأضافة قيل : والقراءة الأولى أنسب بالتذييل حيث نسب فيها الرفع إلى من نسب اليه الفوقية لا إلى درجته والأمر في ذلك هين وقرأ يعقوب بالياء في يرفع و يشاء وقرأ عيسى البصرة نرفع بالنون و درجات منونا و من يشاء بالياء قال صاحب اللوامح : وهذه قراءة مرغوب عنها ولا يمكن انكارها وقرأ عبدالله الحبر وفوق كل ذي عالم عليم فخرجت كما في البحر على زيادة ذي أو على أن عالم مصدر بمعنى علم كالباطل أو على أن التقدير كل ذي شخص عالم والذي في الدر المنثور أنه رضى الله تعالى عنه قرأ وفوق كل عالم عليم بدون ذي ولعله إلا ثبت والله تعالى العليم قالوا أي الأخوة إن يسرق يعنون بنيامين فقد سرق أخ له من قبل يريدون به يوسف عليه السلام وماجرى عليه من جهة عمته فقد أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان أول مادخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته كانت تحضنه وكانت أكبر ولد إسحق عليه السلام وكانت اليها منطقة ابيها وكانوا يتوارثونها
(13/31)

بالكبر فكانت لاتحب أحدا كحبها إياه حتى إذا ترعرع وقعت نفس يعقوب اليه فأتاها فقال : يا اختاه سلمى إلى يوسف فوالله ماأقدر علي أن يغيب عني ساعة فقالت والله ماأنا بتاركته فدعه عندي أياما أنظر اليه لعل دلك يسليني فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها عمدت إلى تلك المنطقة فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه ثم قالت : فقدت منطقة أبي اسحق فانظروا من أخذها فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام فقالت : والله إنه لسلم لي اصنع فيه ماشئت فاتاها يعقوب فاخبرته الخبر فقال لها : أنت وذاك إن كان فعل فامسكته فما قدر عليه حتى ماتت
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية : سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره أخوته بذلك وأخرج غير واحد عن زيد بن أسلم قال : كان يوسف عليه السلام غلاما صغيرا مع أمه عند خال له وهو يلعب مع النعمان فدخل كنيسة لهم فوجد تمثالا صغيرا من ذهب فأخذه وذلك الذي عنوه بسرقته وقال مجاهد : إن سائلا جاءه يوما فأخذ بيضة فناولها اياه : وقال سفيان بن عيينة : أخذ دجاجة فأعطاها السائل وقال وهب : كان عليه السلام يخبأ الطعام من المائدة للفقراء وقيل وقيل وعن ابن المنير أن ذلك تصلف لايسوغ نسبة مثله الى بيت النبوة بل ولا الى أحد من الأشراف فالواجب تركه واليه ذهب مكي وقال بعضهم : المعنى إن يسرق فقد سرق مثله من بني آدم وذكر له نظائر في الحديث قيل : وهو كلام حقيق بالقبول
وأنت تعلم أن في عد كل ماقيل في بيان المراد من سرقة الأخ تصلفا فان فيه مالابأس في نسبته الى بيت النبوة وان ادعى أن دعوى نسبتهم السرقة الى يوسف عليه السلام مما لايليق نسبة مثله اليهم لأن ذلك كذب اذ لاسرقة في الحقيقة وهم أهل بيت النبوة الذين لايكذبون جاء حديث أكله الذئب وهم غير معصومين أولا وآخرا وما قاله البعض وقيل : انه كلام حقيق بالقبول مما يأباه ما بعد كمالا يخفى على من له ذوق على أن ذلك في نفسه بعيد ذوقا وأتوا بكلمة إن لعدم جزمهم بسرقته بمجرد خروج السقاية من رحله فقد وجدوا من قبل بضاعتهم في رحالهم ولم يكونوا سارقين وفي بعض الروايات أنهم لما رأوا اخراج السقاية من رحله خجلوا فقالوا : ياابن راحيل كيف سرقت هذه السقاية فرفع يده الى السماء فقال : والله ما فعلت فقالوا : فمن وضعها في رحلك قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم فان كان قولهم : إن يسرق الخ بعد هذه المقاومة فالظاهر أنها هي التي دعتهم لأن وأما قولهم : إن ابنك سرق فبناء على الظاهر ومدعى القوم وكذا علمهم مبنى على ذلك وقيل : إنهم جزموا بذلك وإن لمجرد الشرط ولعله الاولى لظاهر ما يأتي ان شاء الله تعالى تحقيقه ويسرق لحكاية الحال الماضية والمعنى ان كان سرق فليس ببدع لسبق مثله من أخيه وكأنهم أرادوا بذلك دفع المعرة عنهم واختصاصها بالشقيقين وتنكير أخ لأن الحاضرين لا علم لهم به وقرأ أحمد بن جبير الانطاكي وابن ابي سريج عن الكسائي والوليد بن حسان وغيرهم فقد سرق بالتشديد مبنيا للمفعول أي نسب الى السرقة فأسرها يوسف الضمير لما يفهم من الكلام والمقام أي أضمر الحزازة التي حصلت له عليه السلام مما قالوا وقيل : أضمر مقالتهم أو نسبة السرقة اليه فلم يجبهم عنها في نفسه لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى : وأسررت لهم إسرارا
(13/32)

ولم يبدها أي يظهرها لهم لا قولا ولا فعلا صفحا لهم وحلما وهو تأكيد لما سبق قال أي في نفسه وهو استئناف مبنى على سؤال نشأ من الأخبار بالاسرار المذكور كأنه قيل : فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك فقيل : قال أنتم شر مكانا أي منزلة في السرق وحاصله أنكم أثبت في الاتصاف بهذا الوصف وأقوى فيه حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء وقال الزجاج : إن الاضمار هنا على شريطة التفسير لأن قال أنتم الخ بدل من الضمير والمعنى فأسر يوسف في نفسه قوله : أنتم شر مكانا والتأنيث باعتبار أنه جملة أو كلمة وتعقب ذلك أبو علي بأن الاضمار على شريطة التفسير على ضربين أحدهما أن يفسر بمفرد نحو نعم رجلا وربه رجلا وثانيهما أن يفسر بجملة كقوله تعالى : قل هو الله أحد وأصل هذا أن يقع في الابتداء ثم يدخل عليه النواسخ نحو انه من يأت ربه مجرما فانها لاتعمى الابصار وليس منها شفاء النفس مبذول وغير ذلك وتفسير المضمر في كلا الموضعين متصل بالجملة التي قبلها المتضمنة لذلك المضمر ومتعلق بها ولا يكون منقطعا عنها والذي ذكره الزجاج منقطع فلا يكون من الإضمار على شريطة التفسير وفي أنوار التنزيل أن المفسر بالجملة لا يكون الا ضمير الشأن واعترض عليه بالمنع وفي الكشف أن هذا ليس من التفسير بالجمل في شيء حتى يعترض بأنه من خواص ضمير الشأن الواجب التصدير وانما هو نظير ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يابني الخ
وتعقب بأن في تلك الآية تفسير جملة بجملة وهذه فيها تفسير ضمير بجملة وفي الكشاف جعل أنتم شر مكانا هو المفسر وفيه خفاء لأن ذلك مقول القول واستدل بعضهم بالآية على اثبات الكلام النفسي بجعل قال الخ بدلا من أسر ولعل الأمر لايتوقف على ذلك لما أشرنا اليه من أن المراد قال في نفسه نعم قال أبو حيان : إن الظاهر أنه عليه السلام خاطبهم وواجههم به بعد أن أسر كراهية مقالتهم في نفسه وغرضه توبيخهم وتكذيبهم ويقويه أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم وعدلوا الى الشفاعة له بأبيه وفيه نظر وقرأ عبدالله وابن أبي عبلة فأسره بتذكير الضمير والله أعلم بما تصفون
773 - أي عالم علما بالغا الى اقصى المراتب بأن الامر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا فصيغة أفعل لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه تعالى على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم قاله غير واحد وقال أبو حيان : ان المعنى أعلم بما تصفون به منكم لأنه سبحانه عالم بحقائق الامور وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه فأفعل حينئذ على ظاهره واعترض بأنه لم يكن فيهم علم والتفضيل يقتضي الشركة وأجيب بأنه تكفي الشركة بحسب زعمهم فانهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم ألا ترى قولهم : فقد سرق أخ له من قبل جزما
قالوا عندما شاهدوا مخايل أخذ بنيامين مستعطفين يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالة به يتعلل عن شقيقه الهالك وقيل : أرادوا مسنا كبيرا في القدر والوصف على القولين محط الفائدة والا فالإخبار بأن له أبا معلوم مما سبق فخذ أحدنا مكانه بدله فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة إنا نراك من المحسنين
87
- الينا فأتم احسانك فما الانعام الا بالاتمام أو من
(13/33)

عادتك الاحسان مطلقا فاجر على عادتك ولا تغيرها معنا فنحن أحق الناس بذلك فالاحسان على الأول خاص وعلى الثاني عام والجملة على الوجهين اعتراض تذييلي على ماذهب اليه بعض المدققين وذهب بعض آخر إلى أنه إذا أريد بالاحسان اليهم تكون مستأنفة لبيان ماقبل إذ أخذ البدل احسان اليهم وإذا أريد أن عموم ذلك من دأبك وعادتك تكون مؤكدة لما قبل وذكر أمر عام على سبيل التذييل أنسب بذلك
قال معاذ الله أي نعوذ بالله تعالى معاذا من أن نأخذ فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول به وحذف حرف الجر كما في أمثاله إلا من وجدنا متاعنا عنده لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الاخلال بموجبها إنا إذا أي إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه لظلمون
97
- في مذهبكم وشرعكم ومالنا ذلك وإيثار صيغة المتكلم مع الغير مع كون الخطاب من جهة اخوته على التوحيد من باب السلوك إلى سنن الملوك وللأشعار بأن الأخذ والاعطاء ليس مما يستبد به بل هو منوط بآراء أهل الحل والعقد وإيثار من وجدنا متاعنا عنده على من سرق متاعنا الاخصر لأنه أوفق بما وقع في الاستفتاء والفتوى أو لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فانهم لايحملون وجدان الصواع عنده على محمل غير السرقة والمتاع اسم لما ينتفع به وأريد به الصواع وما ألطف استعماله مع الأخذ المراد به الاسترقاق والاستخدام وكأنه لهذا أوثر على الصواع والظاهر أن الأخذ في كلامهم محمول على هذا المعنى أيضا حقيقة
وجوز ابن عطية أن يكون ذلك مجازا لأنهم يعلمون أنه لايجوز استرقاق حر غير سارق بدل من قد أحكمت السنة رقه فقولهم ذلك كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وأنت لاتريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله ثم قال : وعلى هذا يتجه قول يوسف عليه السلام : معاذ الله لأنه تعوذ من غير جائز ويحتمل أن لايريدوا هذا المعنى وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك الحمالة أي خذ أحدنا وأبقه عندك حتى ينصرف اليك صاحبك ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه فيعرفه جلية الحال اه وهو كلام لايعول عليه اصلا كما لايخفى ولجواب يوسف عليه السلام معنى باطن هو أن الله عز و جل إنما أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها سبحانه في ذلك فلو أخذت غيره كنت ظالما لنفسي وعاملا بخلاف الوحي فلما استيئسوا منه أي يئسوا من يوسف عليه السلام واجابته لهم وإلى مرادهم فاستفعل بمعنى فعل نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب على مافي البحر وقال غير واحد : إن السين والتاء زائدتان للمبالغة أي يئسوا يأسا كاملا لأن المطلوب المرغوب مبالغ في تحصيله ولعل حصول هذه المرتبة من اليأس لهم لما شاهدوه من عوذه بالله تعالى مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله تعالى منه ومن تسميته ذلك ظلما بقوله : إنا اذا لظالمون
وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا تذكروا عهدهم مع أبيهم استشاط من بينهم روبيل 1 غضبا وكان لايقوم لغضبه شيء ووقف شعره حتى خرج من ثيابه فقال : أيها الملك لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لايبقين بها في مصر حامل إلا وضعت فقال يوسف عليه السلام لولد له صغير : قم إلى هذا فمسه أوخذ بيده وكان إذا مسه من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه فلما
(13/34)

فعل الولد سكن غضبه فقال لأخوته : من مسني منكم فقالوا : مامسك أحد منا فقال : لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه السلام ثم قال لأخوته كم عدد الأسواق بمصر قالوا : عشرة قال : أكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو أكفوني أنتم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فلما أحس يوسف عليه السلام بذلك قام اليه وأخذ بتلابيبه وصرعه وقال : أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة فعند ذلك خضعوا وقالوا : ياأيها العزيز الخ ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين
وجوز بعضهم كون ضمير منه لبنيامين وتعقب بأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ استأيسوا من أيس يعقوب 1 يئس ودليل القلب على مافي البحر عدم انقلاب ياء أيس ألفا لتحركها وانفتاح ماقبلها وحاصل المعنى 2 لما انقطع طمعهم بالكلية خلصوا انفردوا عن غيرهم واعتزلوا الناس
وقول الزجاج : انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر نجيا أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة و السلام وإنما وحده وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع لأنه مصدر بحسب الأصل كالتناجي أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأن فعيلا من أبنية المصادر هو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس وكعشير 3 بمعنى معاشر أي مناج بعضهم بعضا فيكونون متناجين وجمعه أنجية قال لبيد : وشهدت أنجية الخلافة عاليا كعبي وأرداف الملوك شهود 4 وأنشد الجوهري : إني إذا ماالقوم كانوا أنجيه واضطربوا مثل اضطراب الارشيه
هناك أوصيني ولا توصي بيه
وهو على خلاف القياس إذ قياسه في الوصف افعلاء كغني وأغنياء قال كبيرهم أي رئيسهم وهو شمعون قاله مجاهد أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله قتادة أو كبيرهم في العقل وهو يهوذا قاله وهب والكلبي وعن محمد بن إسحق أنه لاوى ألم تعلموا كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكرا عليهم : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله عهدا يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه منه تعالى لأنه بإذنه فكأنه صدر منه تعالى أو هو من جهته سبحانه فمن ابتدائية ومن قبل أي من قبل هذا والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : مافرطتم في يوسف أي قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه وقد قلتم ماقلتم و ما مزيدة والجملة حالية وهذا على ماقيل أحسن الوجوه في الآية وأسلمها وجوز أن تكون ما مصدرية ومحل المصدرالنصب عطفا على مفعول تعلموا أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا عليكم وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه السلام وأورد عليه أمران الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه وفي جوازهما خلاف للنحاة والصحيح الجواز خصوصا بالظرف المتوسع فيه وقيل :
(13/35)

بجواز العطف على اسم أن ويحتاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأول لايصح أن يكون خبرا له فهو في يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائنا في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل
واعترض بان مقتضى المقام إنما هو الاخبار بوقوع ذلك التفريط لايكون تفريطهم السابق واقعا في شأن يوسف عليه السلام كما هو مفاد الأول ولا يكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعا من قبل كما هو مفاد الثاني
وفيه أيضا ماذكره أبو البقاء وتبعه أبو حيان من أن الغايات لاتقع خبرا ولا صلة 1 ولا صفة ولا حالا وقد صرح بذلك سيبويه سواء جرت أم لم تجر فنقول : يوم السبت يوم مبارك والسفر بعده ولا تقول والسفر بعد وأجاب عنه في الدر المصون بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف اليه المحذوف فينبغي الجواز إذا كان المضاف اليه معلوما مدلولا عليه كما في الآية الكريمة ورد بأن جواز حذف المضاف اليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلك المحذوف على ماصرح به الرضى فدل على أن الامتناع ليس معللا بما ذكر
وقال الشهاب : 2 أن ماذكروه ليس متفقا عليه فقد قال الامام المرزوقي في شرح الحماسة : إنها تقع صفات وأخبارا وصلات وأحوالا ونقل هذا الاعراب المذكور هنا عن الرماني وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب ثم إن في تعرفها بالاضافة باعتبار تقدير المضاف اليه معرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلافا والمشهور أنها 3 معارف وقال بعضهم : نكرات وإن التقدير من قبل شيء كما في شرح التسهيل والفاضل صاحب الدر سلك مسلكا حسنا وهو أن المضاف إليه إذا كان معلوما مدلولا عليه بأن يكون مخصوصا معينا صح الإخبار لحصول الفائدة فان لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص وقدر من قبل شيء لم يصح الاخبار ونحوه إذ ما شىء الا وهو قبل شيء ما فلا فائدة في الاخبار فحينئذ يكون معرفة ونكرة ولا مخالفة بين كلامه وكلام الرضى مع أن كلام الرضى غير متفق عليه انتهى وهو كما قال تحقيق نفيس وقيل : محل مصدر الرفع على الابتداء والخبر من قبل وفيه البحث السابق وقيل : ما موصولة ومحلها من الاعراب ماتقدم من الرفع أو النصب وجملة فرطتم صلتها والعائد محذوف والتفريط بمعنى التقديم من الفرط لابمعنى التقصير أي ماقدمتموه من الجناية
وأورد عليه أنه يكون قوله تعالى : من قبل تكرارا فان جعل خبرا يكون الكلام غير مفيد وإن جعل متعلقا بالصلة يلزم مع التكرار تقديم متعلق الصلة على الموصول وهو غير جائز وقيل : ما نكرة موصوفة ومحلها ماتقدم وفيه مافيه فلن أبرح الأرض مفرع على ماذكره وذكر به و برح تامة وتستعمل إذا كانت كذلك بمعنى ذهب وبمعنى ظهر كما في قولهم : برح الخفاء وقد ضمنت هنا معنى فارق فنصبت الأرض على المفعولية ولايجوز أن تكون ناقصة لأن الأرض لايصح أن تكون خبرا عن المتكلم هنا وليست منصوبة على الظرفية ولا بنزع الخافض وعنى بها أرض مصر أي فلن أفارق أرض مصر جريا على قضية الميثاق حتى يأذن لي أبي
(13/36)

في البراح بالانصراف اليه أويحكم الله لي بالخروج منها على وجه لايؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب قال في البحر : إنه غيا ذلك بغايتين خاصة وهي اذن أبيه وعامة وهي حكم الله تعالى له وكأنه بعد أن غيا بالأولى رجع وفوض الامر الى من له الحكم جل شأنه وأراد حكمه سبحانه بما يكون عذرا له ولو الموت والظاهر أن أحب الغايتين اليه الأولى فلذا اقدم لي فيها وأخره في الثانية فليفهم وهو خير الحاكمين
8
- إذ لا يحكم سبحانه إلا بالحق والعدل
ارجعوا إلى أبيكم فقولوا له ياأبانا إن ابنك سرق الظاهر أن هذا القول من تتمة كلام كبيرهم وقيل : هو من كلام يوسف عليه السلام وفيه بعد كما أن الظاهر أنهم أرادوا أنه سرق في نفس الأمر
وما شهدنا عليه إلا بما علمنا من سرقته وتبقيناه حيث استخرج صواع الملك من رحله
وما كنا للغيب حفظين
18
- وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق أو ماعلمنا أنك ستصاب به كما أصبت بيوسف وقرأ الضحاك سارق باسم الفاعل
وقرأ ابن عباس وأبو رزين والكسائي في رواية سرق بتشديد الراء مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة فمعنى وما شهدنا الخ وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق وما كنا للأمر الخفي بحافظين أسرق بالصحة أم دس الصواع في رحله ولم يشعر واستحسنت هذه القراءة لما فيها من التنزيه كذا قالوا والظاهر أن القول باستفادة اليقين من استخراج الصواع من رحله مما لايصح فكيف يوجب اليقين واحتمال أنه دس فيه من غير شعور قائم جعل مجرد وجود الشيء في يد المدعى عليه بعد إنكاره وجبا للسرق في شرعهم أولا قيل : فالوجه أن الظن البين قائم مقام العلم ألا ترى أن الشهادة تجوز بناء على الاستصحاب ويسمى علما كقوله تعالى : فان علمتموهن مؤمنات وانما جزموا بذلك لبعد الاحتمالات المعارضة عندهم وإذ جعل الحكم بالسرقة وكذا علمهم أيضا مبنيا على ما شاهدوا من ظاهر الأمر اتحدت القراءتان ويفسر وما كنا الخ بما فسر به على القراءة الأخيرة وقيل : معنى ماشهدنا الخ ما كانت شهادتنا في عمرنا على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هي خبر عن صنيع ابنك بزعمهم وما كنا الخ كما هو وهو ذهاب أيضا إلى أنهم غير جازمين وفي الكشف الذي يشهد له الذوق انهم كانوا جازمين وقولهم : إن يسرق فقد سرق تمهيد بين وادعاء العلم لايلزم العلم فان كان لبعد الاحتمالات المعارضة فلا يكون كذبا محرما وإلا فغايته الكذب في دعوى العلم وليس بأول كذباتهم وكان قبل أن تنبؤا ولهذا خونهم الأب في هذه أيضا على أن قولهم : جزاؤه من وجد في رحله مؤكدا ذلك التأكيد يدل على أنهم جعلوا الوجدان في الرحل قاطعا وإلا كان عليهم أن يقولوا : جزاؤه من وجد في رحله متعديا أو سارقا ونحوه فان يحتمل عنهم الحزم هنالك فلم لا يحتمل ههنا اه وفيه مخالفة لبعض مانحن عليه وكذا لما ذكرناه في تفسير جزاؤه الخ ولعل الأمر في هذا هين : ومن غريب التفسير أن معنى قولهم : للغيب لليل وهو بهذا المعنى في لغة حمير وكأنهم قالوا : وماشهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله وما كنا لليل حافظين أي لاندري مايقع فيه فلعله سرق فيه أو دلس عليه وأنا لاأدري ما الداعي إلى هذا التفسير المظلم مع تبلج صبح المعنى المشهور وأياما كان
(13/37)

فلام للغيب للتقوية والمراد حافظين الغيب واسئل القرية التي كنا فيها يعنون كما روى عن ابن عباس وقتادة والحسن مصر وقيل : قرية بقربها لحقهم المنادى بها والأول ظاهر على القول بأن المفتش لهم يوسف عليه السلام والثاني الظاهر على القول بأنه المؤذن وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازا في القرية لاطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضا عند سيبويه وجماعة وفي المحصول وغيره أن الاضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسما من الآخر والأكثرون على المقابلة بينهما وأياما كان فالمسؤل عنه محذوف للعلم به وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسألهم عن القصة والعير التي أقبلنا فيها أي أصحابها الذين توجهنا فيهم وكنا معهم فان القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام وقيل : من أهل صنعاء والكلام هنا في التجوز والاضمار كالكلام سابقا
وقيل : لاتجوز ولا اضمار في الموضعين والمقصود احالة تحقيق الحال والاطلاع على كنه القصة على السؤال من الجمادات والبهائم أنفسها بناء على أنه عليهم السلام نبي فلا يبعد أن تنطق وتخبره بذلك على خرق العادة وتعقب بأنه مما لاينبغي أن يكون مرادا ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد اظهار المعجزة وقال بعض الأجلة : الأولى ابقاء القرية والعبر على ظاهرهما وعدم اضمار مضاف اليهما ويكون الكلام مبنيا على دعوى ظهور الامر بحيث أن الجمادات والبهائم قد علمت به وقد شاع مثل ذلك في الكلام قديما وحديثا ومنه قول ابن الدمينة : سل القاعة الوعسا من الاجرع الذي به البان هل حييت اطلال دارك وقوله : سلوا مضجعي عني وعنها فاننا رضينا بما يخبرن عنا المضاجع وقوله : واسأل نجوم الليل هل زار الكرى جفني وكيف يزور من لم يعرف ولا يخفى أن مثل هذا لايخلو عن ارتكاب مجاز نعم هو معنى لطيف بيد أن الجمهور على خلافه وأكثرهم على اعتبار مجاز الحذف وإنا لصادقون
28
- فيما أخبرناك به وليس المراد اثبات صدقهم بما ذكر حتى يكون مصادرة بل تأكيد صدقهم بما يفيد ذلك من الاسمية وإن واللام وهو مراد من قال : إنه تأكيد في محل القسم ويحتمل على ماقيل أن يريد أن هنا قسما مقدرا وقيل : المراد الاثبات ولا مصادرة على معنى أنا قوم عادتنا الصدق فلا يكون ماأخبرناك به كذبا ولا نظنك في مرية من عدم قبوله قال أي أبوهم عليه السلام وهو استئناف مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل : فماذا كان عند قول ذلك القائل للأخوة ما قال فقيل : قال أبوهم عندما رجعوا اليه فقالوا له ما قالوا : بل سولت لكم أنفسكم أمرا وانما حذف للايذان بأن مسارعتهم الى قبول كلام ذلك القائل ورجوعهم به الى أبيهم أمر مسلم غني عن البيان وانما المحتاج اليه جوابه يروى أنهم لما عزموا على الرجوع الى أبيهم قال لهم يوسف عليه السلام : اذا أتيتم أباكم فاقرؤا عليه السلام وقولوا له : ان ملك مصر يدعو لك ان لاتموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله فساروا حتى وصلوا اليه فأخبروه بجميع ما كان فبكى وقال ما قال وبل للأضراب
(13/38)

وهو على ماقيل اضراب لا عن صريح كلامهم فانهم صادقون فيه بل عما يتضمنه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزلبه ونه لميصدر عه ماأدى الى ذلك من قول أو فعل كأنه لم يكن الأمر كذلك بل زينت وسهلت لكم أنفسكم أمرا من الامور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته وليس ذلك من دين الملك
وقال أبو حيان إن هنا كلاما محذوفا وقع الاضراب عنه والتقدير ليس حقيقة كما أخبرتم بل سولت الخ وهو عند ابن عطية وادعى أنه الظاهر على حد ما قال في قصة يوسف عليه السلام ظن سومبهم خلا أنه عليه السلام صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا وذكر ابن المنير في توجيه هذا القول ههنا مع أنهم لم يعتمدوا في حق بنيامين سوأ ولا أخبروا أباهم الا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر الا مغلوبين عن استصحابه انهم كانوا عند أبيهم عليه السلام حينئذ متهمين وهم قمن باتهامه لما اسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها وهو اخذ الملك له في السرقة ولم يكن ذلك إلا من دينه لا من دينه ولا من دين غيره من الناس فظن أنهم الذين افتوه بذلك بعد ظهور السرقة التي ذكروها تعمدا ليتخلف دونهم واتهام من هو بحيث يتطرق اليه التهمة لاجرح فيه لاسيما فيما يرجع الى الوالد مع الولد ثم قال : ويحتمل أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم وهذا في شرعنا لايثبت السرقة على من ادعيت عليه فان كان في شرعهم أيضا كذلك ففي عدم تحرير الفتوى اشعار بأنهم كانوا حراصا على أخذه وهو من التسويل وان اقتضى ذلك في شرعهم فالعمدة على الجواب الاول هذا والتنوين في أمرا للتعظيم أي أمرا عظيما فصبر جميل أي فأمري ذلك أو فصبر جميل أجمل وقد تقدم تمام الكلام فيه فتذكر
عسى الله أن يأتيني بهم جميعا بيوسف وأخيه بنيامين والمتوقف بمصر إنه هو العليم بحالي وحالهم الحكيم
38
- الذي يبتلي ويرفع البلاء حسب الحكمة البالغة قيل : انما ترجى عليه السلام للرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله تعالى لاسيما بعد أن بلغ الشظاظ الوركين وجاوز الحزام البيين فانه قد جرت سنته تعالى ان الشدة اذا تناهت يجعل وراءها فرجا عظيما وانضم الى ذلك ماأخبر به عن ملك مصر أنه يدعو أن لايموت حتى يرى ولده وتولى أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤا به وقال ياأسفي على يوسف الأسف أشد الحزن على مافات والظاهر أنه عليه السلام أضافة إلى نفسه والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف والمعنى ياأسفي تعال فهذا أوانك وقيل : الألف ألف الندبة والهاء محذوفة والمعول عليه الأول وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن رزأه كان قاعدة الارزاء عنده وإن تقادم عهده أخذا بمجاميع قلبه لاينساه ولايزول عن فكره أبدا ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكاح القرح بالقرح أوجع ولا يرد أن هذا مناف لمنصب النبوة إذ يقتضي ذلك معرفة الله تعالى ومن عرفه سبحانه أحبه ومن أحبه لم يتفرغ قلبه لحب ماسواه لما قيل : إن هذه محبة طبيعية ولا تأبى الاجتماع مع حبه تعالى وقال الامام : إن مثل هذه المحبة الشديدة تزيل عن القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع اليه تعالى كثير الدعاء والتضرع
(13/39)

فيصير ذلك سببا لكمال الاستغراق وسيأتي أن شاء الله تعالى ما للصوفية قدس الله تعالى اسرارهم في هذا المقام في باب الاشارة وقيل : لأنه عليه السلام كان واثقا بحياتهما عالما بمكانهما طامعا بايابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه مايحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله تعالى وفضله وفيه بحث
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن سعيد بن جبير لم تعط أمة من الأمم إنا لله وانا اليه راجعون الا أمة محمد صلى الله عليه و سلم أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم ألا يرى إلى يعقوب عليه السلام حين أصابه ماأصابه لم يسترجع وقال ما قال وفي أسفا ويوسف تجنيس نفيس من غير تكلف وهو مما يزيد الكلام الجليل بهجة وابيضت عيناه من الحزن أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لابيضاض عينه فان العبرة اذا كثرت محقت سواد العين وقلبته الى بياض كدر فاقيم سبب السبب مقامه لظهوره والابيضاض قيل انه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى : فارتد بصيرا وهو يقاتل بالأعمى وقيل : ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك ادراكا ضعيفا وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة الى الانبياء عليهم السلام وكان الحسن ممن يرى جوازه
فقد أخرج عبدالله بن أحمد في زوائده وابن جرير وابو الشيخ عنه قال : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليه السلام الى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الاخير ويدل عليه ماأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له : أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب قال : نعم قال : ما فعل قال : ابيضت عيناه من الحزن عليك قال : فما بلغ من الحزن قال : حزن سبعين مشكلة قال : هل له على ذلك من أجر قال : نعم أجر مائة شهيد وقرأ ابن عباس ومجاهد من الحزن بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب ولعل الكف عن أمثال ذلك لايدخل تحت التكليف فانه قل من يملك نفسه عند الشدائد
وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه و سلم بكى على ولده ابراهيم وقال : إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول الا ما يرضى ربنا وإنا لفراقك ياابراهيم لمحزونون وانما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رفع اليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فاقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة و السلام فقال سعد : يارسول الله ماهذا فقال : هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء وفي الكشاف أنه قيل له عليه الصلاة و السلام : تبكي وقد نهيتنا عن البكاء قال ما نهيتكم عن البكاء وانما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال : مارأيت الله تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام فهو كظيم
48
(13/40)

أي مملوء من الغيظ على اولاده ممسك له في قلبه لايظهره وقيل : مملوء من الحزن ممسك له لايبديه وهو من كظم السقاء إذا شده بعد مثله ففعيل بمعنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه السلام إذ نادى وهو مكظوم ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كقوله تعالى والكاظمين من كظم الغيظ اذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه الى أحد قط وأصله من كظم البعير جرته اذا ردها في جوفه فكأنه عليه السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحدا عليه وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين مالا يخفى ورجح الأخير منهما بأن فعيلا بمعنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلا بمعنى مفعول قالوا أي الاخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليه السلام تالله تفتؤ أي لاتفتأ ولا تزال تذكر يوسف تفجعا عليه فحذف حرف النفي كما في قوله : فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الاثبات كان على النفي وعلامة الاثبات هي اللام ونون التأكيد وهما يلزمان جواب القسم المثبت فاذا لم يذكرا دل على أنه منفي لأن المنفى لايقارنهما ولو كان المقصود ههنا الاثبات لقيل لتفتأن ولزوم اللام والنون مذهب البصريين وقال الكوفيون والفارسي : يجوز الاقتصار على أحدهما وجاء الحذف فيما اذا كان الفعل حالا كقراءة ابن كثير لأقسم بيوم القيامة وقوله : لأبغض كل أمرىء يزخرف قولا ولا يفعل ويتفرغ على هذا مسألة فقهية وهي أنه إذا قال : والله أقوم يحنث إذا قام وإن لم يقم لا ولا فرق بين كون القائل عالما بالعربية أولا على ما أفتى به خير الدين الرملي وذكر ان الحلف بالطلاق كذلك فلو قال : على الطلاق بالثلاث تقومين الآن تطلق إن قامت ولا تطلق إن لم تقم وهذه المسئلة مهمة لابأس بتحقيق الحق فيها وإن أدى إلى الخروج عمانحن بصدده فنقول : قال غير واحد : إن العوام لو أسقطوا اللام والنون في جواب القسم المثبت المستقبل فقال أحدهم : والله أقوم مثلا لايحنث بعدم القيام فلا كفارة عليه وتعقبه المقدسي بأنه ينبغي أن تلزمهم الكفارة لتعارفهم الحلف كذلك ويؤيده مافي الظهيرية أنه لو سكن الهاء أو نصب في بالله يكون يمينا مع أن العرب مانطقت بغير الجر وقال أيضا : أنه ينبغي أن يكون ذلك يمينا وإن خلا من اللام والنون ويدل عليه قوله في الولوالجية : سبحان الله أفعل لاإله إلا الله أفعل كذا ليس بيمين إلا أن ينويه واعترضه الخير الرملي بأن مانقله لايدل لمدعاه أما الأول فلأنه تغيير إعراب لايمنع المعنى الموضوع فلا يضر التسكين والرفع والنصب لما تقرر من أن اللحن لايمنع الانعقاد وأما الثاني فلأنه ليس من المتنازع فيه إذ هو الاثبات والنفي لا انه يمين وقد نقل ماذكرناه عن المذهب والنقل يجب اتباعه ونظر فيه
أما أولا فبأن اللحن كما في المصباح وغيره الخطأ في العربية وأما ثانيا فبأن ما في الولوالجية من المتنازع فيه فانه أتى بالفعل المضارع مجردا من اللام والنون وجعله يمينا مع النية ولو كان على النفي لوجب أن يقال : إنه مع النية يمين على عدم الفعل كما لايخفى وإنما اشترط في ذلك النية لكونه غير متعارف
وقال الفاضل الحلبي : إن بحث المقدسي وجيه والقول بأنه يصادم المنقول يجاب عنه بأن المنقول في
(13/41)

المذهب كان على عرف صدر الإسلام قبل أن تتغير اللغة وأما الآن فلا يأتون باللام والنون في مثبت القسم أصلا ويفرقون بين الاثبات والنفي بوجود لا ولا وجودها وما اصطلاحهم على هذا إلا كاصطلاح الفرس ونحوهم في أيمانهم وغيرها اه ويؤيد هذا ماذكره العلامة قاسم وغيره من أنه يحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفة وعادته سواء وافق كلام العرب أم لا ومثله في الفتح وقد فرق النحاة بين بلى ونعم في الجواب أن بلى لايجاب مابعد النفي ونعم للتصديق فاذا قيل : ماقام زيد فان قلت : بلى كان المعنى قد قام وإن نعم كان ما قام ونقل في شرح المنار عن التحقيق أن المعتبر في أحكام الشرع العرف حتى يقام كل واحد منهما مقام الآخر ومثله في التلويح وقول المحيط والحلف بالعربية أن يقول في الاثبات والله لأفعلن إلى آخر ماقال بيان للحكم على قواعد العربية وعرف العرب وعادتهم الخالية عن اللحن وكلام الناس اليوم إلا ماندر خارج عن هاتيك القواعد فهو لغة اصطلاحية لهم كسائر اللغات الأعجمية التي تصرف فيها أهلها بما تصرفوا فلا يعاملون بغير لغاتهم وقصدهم إلا من التزم منهم الإعراب أو قصد المعنى فينبغي أن يدين ومن هنا قال السائحاني : إن أيماننا الآن لاتتوقف على تأكيد فقد وضعناها نحن وضعا جديدا واصطلحنا عليها اصطلاحا حادثا وتعارفناها تعارفا مشهورا فيجب معاملتنا على هذا ما قالوه : من أنه لو اسقطت الفاء الرابطة لجواب الشرط فهو تنجيز لاتعليق حتى لو قال : إن دخلت الدار أنت طالق تطلق في الحال وهو مبني على قواعد العربية أيضا وهو خلاف المتعارف الآن فينبغي بناؤه على العرف فيكون تعليقا وهو المروى عن أبي يوسف
وفي البحر أن الخلاف مبني على جواز حذفها اختيارا وعدمه فأجازه أهل الكوفة وعليه فرع أبو يوسف ومنعه أهل البصرة وعليه تفرع المذهب وفي شرح نظم الكنز للمقدسي أنه ينبغي ترجيح قول أبي يوسف لكثرة حذف الفاء في الفصيح ولقولهم : العوام لايعتبر منهم اللحن في قولهم : أنت واحدة بالنصب الذي لم يقل به أحد اه هذا ثم أن ما ذكر انما هو في القسم بخلاف التعليق وهو وان سمي عند الفقهاء حلفا ويمينا لكنه لايسمى قسما فان القسم خاص باليمين بالله تعالى كما صرح به القهستاني فلا يجرى فيه اشتراط اللام والنون في المثبت منه لا عند الفقهاء ولا عند اللغويين ومنه الحرام يلزمني وعلى الطلاق لا أفعل كذا فانه يراد به في العرف ان فعلت كذا فهي طالق فيجب امضاؤه عليهم كما صرح به في الفتح وغيره قال الحلبي : وبهذا يندفع ما توهمه بعض الافاضل من أن في قول القائل : على الطلاق أجيء اليوم أن جاء في اليوم وقع الطلاق والا فلا لعدم اللام والنون وأنت خبير بأن النحاة انما اشترطوا ذلك في جواب القسم المثبت لا في جواب الشرط وكيف يسوغ لعاقل فضلا عن فاضل أن يقول ان إن قام زيد أقم على معنى أن زيد لم أقم على أن أجيء ليس جواب الشرط بل هو فعل الشرط لأن المعنى ان لم أجيء اليوم فانت طالق وقد وقع هذا الوهم لكثير من المفتين كالخير الرملي وغيره وقال السيد أحمد الحموي في تذكرته الكبرى : رفع إلي سؤال صورته رجل اغتاظ من ولد زوجته فقال : على الطلاق بالثلاث اني أصبح اشتكيك من النقيب فلما أصبح تركه ولم يشتكه ومكث مدة فهل والحالة هذه يقع عليه الطلاق أم لا الجواب 1 اذا ترك شكايته ومضت مدة بعد حلفه لايقع عليه الطلاق لأن الفعل المذكور وقع في جواب اليمين وهو مثبت فيقدر النفي حيث لم يؤكد
(13/42)

ثم قال : فأجبت أنا بعد الحمد الله تعالى ما أفتى به هذا المجيب من عدم وقوع الطلاق معللا بما ذكر فمنبىء عن فرط جهله وحمقه وكثرة مجازفته في الدين وخرقه اذ ذاك في الفعل اذا وقع جوابا للقسم بالله تعالى نحو تفتأ لا في جواب اليمين بمعنى التعليق بما يشق من طلاق وعتاق ونحوهما وحينئذ اذا أصبح الحالف ولم يشتكه وقع عليه الطلاق الثلاث وبانت زوجته منه بينونة كبرى اه ولنعم ما قال ولله تعالى در القائل
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب فلولا رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب وفتىء هذه من أخوات كان الناقصة كما أشرنا اليه ويقال فيها : فتأ كضرب وأفتأ كأكرم وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وفتر فتكون تامة وعلى ذلك جاء تفسير مجاهد للاتفتأ بلا تفتر عن حبه وأوله الزمخشري بأنه عليه الرحمة جعل الفتوء والفتور أخوين أي متلازمين لاأنه بمعناه فان الذي بمعنى فتر وسكن هو فثأ بالمثلثة كما في الصحاح من فثأت القدر اذا سكن غليانها والرجل اذا سكن غضبه ومن هنا خطأ أبو حيان ابن مالك فيما زعمه وادعى أنه من التصحيف وتعقب بأن الأمر ليس كما قاله فان ابن مالك نقله عن الفراء وقد صرح به السرقسطي ولايمتنع اتفاق مادتين في معنى وهو كثير وقد جمع ذلك ابن مالك في كتاب سماه ما اختلف اعجامه واتفق افهامه ونقله عنه صاحب القاموس واستدل بالآية على جواز الحلف بغلبة الظن وقيل : إنهم علموا ذلك منه ولكنهم نزلوه منزلة المنكر فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم بالله تعالى لاتزال ذاكر يوسف متفجعا عليه حتى تكون حرضا مريضا مشفيا على الهلاك وقيل : الحرض من اذابه هم أو مرض وجعله مهزولا نحيفا وهو في الأصل مصدر حوض فهو حرض بكسر الراء وجاء أحرضني كما في قوله
اني أمرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم ولكونه كذلك في الأصل لايؤنث ولا يثني ولا يجمع لأن المصدر يطلق على القليل والكثير وقال ابن إسحق : الحرض الفاسد الذي لاعقل له وقرىء حرضا بفتح الحاء وكسر الراء
وقرأ الحسن البصري حرضا بضمتين ونحوه من الصفات رجل جنب وغرب 1 أو تكون من الهالكين
58
- أي الميتين و أو قيل : يحتمل أن تكون بمعنى بل أو بمعنى فلا يرد عليه أن حق هذا التقديم على حتى تكون حرضا فان كانت للترديد فهي لمنع الخلو والتقديم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى : لاتأخذه سنة ولا نوم أو لأنه أكثر وقوعا قال إنما أشكو بثي البث في الاصل اثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب واستعمل في الغم الذي لايطيق صاحبه عليه كأنه ثقل عليه فلا يطيق حمله وحده فيفرقه على من يعينه فهو مصدر بمعنى المفعول وفيه استعارة تصريحية وجوز أن يكون بمعنى الفاعل أي الغم الذي بث الفكر وفرقه وأياما كان فالظاهر أن القوم قالوا ما قالوا بطريق التسلية والاشكاء فقال في جوابهم : إني لاأشكو مابي اليكم أو إلى غيركم حتى تتصدو لتسليتي وإنما أشكو غمي وحزني الى الله تعالى متلجئا إلى جنابه متضرعا في دفعه لدى بابه فانه القادر على ذلك وفي الخبر عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كنوز البر اخفاء الصدقة وكتمان المصائب والامراض ومن بث لم يصبر قرأ الحسن وعيسى حزني بفتحتين وقرأ قتادة بضمتين
(13/43)

وأعلم وأعلم من الله أي من لطفه ورحمته مالا تعلمون
68
- فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي فالكلام على حذف مضاف و من بيانية قدمت على المبين وقد جوزه النحاة وجوز أن تكون ابتدائية أي أعلم وحيا أو الهاما أو بسبب من أسباب العلم من جهته تعالى ما لاتعلمون من حياة يوسف عليه السلام
قيل : إنه عليه السلام علم ذلك من الرؤيا حسبما تقدم وقيل إنه رأى ملك الموت في المنام فأخبره أن يوسف حي ذكره غيره واحد ولم يذكروا له سندا والمروي عن ابن أبي حاتم عن النضر أنه قال : بلغني أن يعقوب عليه السلام مكث أربعة وعشرين عاما لايدري يوسف عليه السلام حي أم ميت حتى تمثل له ملك الموت عليه السلام فقال له : من أنت قال : أنا ملك الموت فقال : أنشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف قال : لا فعند ذلك قال عليه السلام : يابني اذهبوا فتحسسوا أي فتعرفوا وهو تفعل من الحس وهو في الاصل الادراك بالحاسة وكذا أصل التحسس طلب الاحساس واستعماله في التعرف استعمال له في لازم معناه وقريب منه التجسس بالجيم وقيل : إنه به في الشر وبالحاء في الخير ورد بأنه قريء هنا فتجسسوا بالجيم أيضا وقال الراغب : أصل الجس مس العرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والمرض وهو أخص من الحس فانه تعرف مايدركه الحس والجس تعرف حال ما من ذلك من يوسف وأخيه أي من خبرهما ولم يذكر الثالث لأن غيبته اختيارية لايعسر إزالتها وعلى فرض ذلك الداعية فيهم للتحسس منه لكونه أخاهم قوية فلا حاجة لأمرهم بذلك والجار متعلق بما عنده وهو بمعنى عن بناء على ما نقل عن ابن الانباري أنه لايقال : تحسست من فلان وإنما يقال : تحسست عنه وجوز أن تكون للتبعيض على معنى تحسوا خبرا من أخبار يوسف وأخيه
ولا تيأسوا من روح الله أي لاتقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه وأصل معنى الروح بالفتح كما قال الراغب التنفس يقال : أراح الانسان إذا تنفس ثم استعير للفرج كما قيل : له تنفيس من النفس
وقرأ عمر بن عبدالعزيز والحسن وقتادة روح بالضم وفسر بالرحمة على أنه استعارة من معناها المعروف لأن الرحمة سبب الحياة كالروح وإضافتها إلى الله تعالى لأنها منه سبحانه وقال ابن عطية كأن معنى هذه القراءة لاتيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فان كل من بقيت روحه يرجى ومن هذا قوله :
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
وقول عبيد بن الأبرص : وكل ذي غيبة يؤب وغائب الموت لايؤب وقرأ أبي من رحمة الله وعبدالله من فضل الله وكلاهما عند أبي حيان تفسير لاقراءة وقريء تأيسوا وقرأ الأعرج تيئسوا بكسر التاء والأمر والنهي على ما قيل إرشاد لهم إلى بعض ماأبهم في قوله : وأعلم من الله مالا تعلمون ثم إنه عليه السلام حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله : انه أي الشأن لاييأس من روح الله إلا القوم الكفرون
78
- لعدم علمهم بالله تعالى وصفاته فان العارف لايقنط في حال من الأحوال أو تأكيدا لما يعلمونه من ذلك قال ابن عباس : إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه
(13/44)

في البلاء ويحمده في الرخاء
وذكر الامام أن اليأس لايحصل إلا إذا اعتقد الانسان أن الاله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أوليس بكريم واعتقاد كل من هذه الثلاث يوجب الكفر فاذا كان اليأس لايحصل إلا عند حصول أحدها وكل منها كفر ثبت أن اليأس لايحصل إلا لمن كان كافرا واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن الياس من رحمة الله تعالى كفر وادعى أنها ظاهرة في ذلك
وقال الشهاب : ليس فيها دليل على ذلك بل هو ثابت بدليل آخر وجمهور الفقهاء على أن اليأس كبيرة ومفاد الآية أنه من صفات الكفار لا أن من ارتكبه كان كافرا بارتكابه وكونه لايحصل إلا عند حصول أحد المكفرات التي ذكرها الامام مع كونه في حيز المنع لجواز أن ييأس من رحمة الله تعالى اياه مع ايمانه بعموم قدرته تعالى وشمول علمه وعظم كرمه جل وعلا لمجرد استعظام ذنبه مثلا واعتقاده عدم اهليته لرحمة الله تعالى من غير أن يخطر له ادنى ذرة من تلك الاعتقادات السيئة الموجبة للكفر لايستدعي أكثر من اقتضائة سابقية الكفر دون كون ارتكابه نفسه كفرا كذا قيل وقيل : الاولى التزام القول بأن اليأس قد يجامع الايمان وان القول بأنه لايحصل الا بأحد الاعتقادات المذكورة غير بين ولا مبين
نعم كونه كبيرة مما لاشك فيه بل جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أكبر الكبائر وكذا القنوط وسوء الظن وفرقوا بينها بأن اليأس عدم أمل وقوع شيء من أنواع الرحمة له والقنوط هو ذاك مع انضمام حالة هي أشد منه في التصميم على عدم الوقوع وسوء الظن هو ذاك مع انضمام أنه مع عدم رحمته له يشدد له العذاب كالكفار وذكر ابن نجيم في بعض رسائله ما به يرجع الخلاف بين من قال : إن اليأس كفر ومن قال : إنه كبيرة لفظيا فقال : قد ذكر الفقهاء من الكبائر الأمن من مكر الله تعالى واليأس من رحمته وفي العقائد واليأس من رحمة الله تعالى كفر فيحتاج الى التوفيق والجواب أن المراد باليأس انكار سعة الرحمة للذنوب ومن الأمن الاعتقاد أن لا مكر ومراد الفقهاء من اليأس الياس لاستعظام ذنوبه واستبعاد العفو عنها ومن الأمن الأمن لغلبة الرجاء عليه بحيث دخل في حد الأمن ثم قال والاوفق بالسنة طريق الفقهاء لحديث الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا حيث عدها من الكبائر وعطفها على الاشراك بالله تعالى اه وهو تحقيق نفيس فليفهم فلما دخلوا عليه أي على يوسف عليه السلام بعد ما رجعوا الى مصر بموجب أمر أبيهم وإنما لم يذكر ايذانا بمسارعتهم الى ما أمروا به واشعارا بأن ذلك أمر محقق لايفتقر إلى الذكر والبيان وأنكر اليهود رجوعهم بعد أخذ بنيامين الى أبيهم ثم عودهم الى مصر وزعموا أنهم لما جاؤا أولا للميرة اتهمهم بأنهم جواسيس فاعتذروا وذكروا أنهم أولاد نبي الله تعالى يعقوب وأنهم كانوا اثنى عشر ولدا هلك واحد منهم وتخلف أخوه عند أبيهم يتسلى به عن الهالك حيث أنه كان يحبه كثيرا فقال : ائتوني به لأتحقق صدقكم وحبس شمعون عنده حتى يجيؤا فلما أتوا به ووقع ما وقع من أمر السرقة أظهروا الخضوع والانكسار فلم يملك عليه السلام نفسه حتى تعرف اليهم ثم أمرهم بالعود الى أبيهم ليخبروه الخبر ويأتوا به وهو الذي تضمنته توراتهم اليوم وما بعد الحق الا الضلال قالوا يا أيها العزيز خاطبوه بذلك تعظيما له على حد خطابهم السابق به على ماهو ظاهر وهل كانوا يعرفون اسمه أم لا لم أر من تعرض
(13/45)

لذلك فان كانوا يعرفونه ازداد أمر جهالتهم غرابة والمراد على ما قال الامام وغيره ياأيها الملك القادر المنيع مسنا وأهلنا الضر الهزال من شدة الجوع والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة وغيرها وجئنا ببضاعة مزجية مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا من أزجيته اذا دفعته وطردته والريح تزجى السحاب وأنشدوا لحاتم : ليبك على ملحان ضيف مدفع وأرملة تزجى مع الليل أرملا وكنى بها عن القليل أو الرديء لأنه لعدم الاعتناء يرمى ويطرح قيل : كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء 1 وروى ذلك عن أبي صالح وزيد بن أسلم وقيل : سويق المقل والاقط وقيل : قديد وحش وقيل : حبالا واعدالا وأحقابا وقيل : كانت دراهم زيوفا لاتؤخذ إلا بوضيعة وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمروي عن الحسن تفسيرها بقليلة لاغير وعلى كل فمزجاة صفة حقيقية للبضاعة وقال الزجاج : هي من قولهم : فلان يزجى العيش أي يدفع الزمان بالقليل والمعنى إنا جئنا ببضاعة يدفع بها الزمان وليست مما ينتفع به والتقدير على هذا ببضاعة مزجاة بها الأيام أي تدفع بها ويصبر عليها حتى تنقضي كما قيل : درج الايام تندرج وبيوت الهم لاتلج وماذكر أولا هو الأولى وعن الكلبي أن مزجاة من لغة العجم وقيل : من لغة القبط وتعقب ذلك ابن الانباري بأنه لاينبغي أن يجعل لفظ معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى غير لغة العرب فالنسبة إلى ذلك مزجاة
وقرأ حمزة والكسائي مزجية بالامالة لأن أصلها الياء والظاهر أنهم إنما قدموا هذا الكلام ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة ثم قالوا : فأوف لنا الكيل أي أتممه لنا ولا تنقصه لقلة بضاعتنا أور رداءتها واستدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه وتصدق علينا ظاهره بالايفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها
وقال الضحاك وابن جريج إنهم أرادوا تصدق علينا برد أخينا بنيامين على أبيه قيل : وهو الأنسب بحالهم بالنسبة إلى أمر أبيهم وكأنهم أرادوا تفضل علينا بذلك لأن رد الأخ ليس بصدقة حقيقة وقد جاءت الصدقة بمعنى التفضل كما قيل : ومنه تصدق الله تعالى على فلان بكذا وأما قول الحسن لمن سمعه يقول : اللهم تصدق على إن الله تعالى لايتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل : اللهم اعطني أو تفضل علي أو ارحمني فقد رد بقوله صلى الله عليه و سلم : صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته وأجيب عنه مجازا ومشاكلة وإنما رد الحسن على القائل لأنه لم يكن بليغا كما في قصة المتوفي وادعى بعضهم تعين الحمل على المجاز أيضا إذا كان المراد طلب الزيادة على ما يعطى بالثمن بناء على أن حرمة أخذ الصدقة ليست خاصة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كما ذهب اليه سفيان بن عيينة بل هي عامة له عليه الصلاة و السلام ولمن قبله من الانبياء عليهم السلام وآلهم كما ذهب اليه البعض والسائلون من إحدى الطائفتين لا محالة وتعقب بأنا لو سلمنا العموم لانسلم أن المحرم
(13/46)

أخذ الصدقة مطلقا بل المحرم إنما هو أخذ الصدقة المفروضة وما هنا ليس منها والظاهر كما قال الزمخشري : أنهم تمسكنوا له عليه السلام بقولهم : مسنا الخ وطلبوا اليه أن يتصدق عليهم بقولهم : تصدق علينا فلو لم يحمل على الظاهر لما طابقه ذلك التمهيد ولا هذا التوطيد أعني إن الله يجزي المتصدقين
88
- بذكر الله تعالى وجزائه الامان على ذلك وإن فاعله منه تعالى بمكان
قال النقاش : وفي العدول عن إن الله تعالى يجزيك بصدقتك الى ما في النظم الكريم مندوحة عن الكذب فهو من المعاريض فانهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا وروى مثله عن الضحاك ووجه عدم بدءهم بما أمروا به على القول بخلاف الظاهر في متعلق التصدق بأن فيما سلكوه استجلابا للشفقة والرحمة فكأنهم أرادوا أن يملأوا حياض قلبه من نميرها ليسقوا به أشجار تحسسهم لتثمر لهم غرض أبيهم ووجهه بعضهم بمثل هذا ثم قال : على أن قولهم وتصدق الخ كلام ذو وجهين فانه يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه السلام حمله على طلب الرد ولذلك قال مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ الا أنه عليه السلام تعرض لما فعل به أيضا لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما فان المراد بذلك افرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لايستطيع أن يكلمهم الا بعجز وذلة والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الارادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله : إذ أنتم جاهلون
98
- أي هل علمتم قبح 1 ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا وفيه من ابداء عذرهم وتلقينهم اياه ما فيه كما في قوله تعالى : ما غرك بربك الكريم والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفيا بل حث على الاقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي الى حق الله تعالى على وجه يتضمن حق الأخوتين أيضا والتلطف في اسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف قيل : ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم عما حقهم ووظيفتهم من الاعراض عن جميع المطالب والتمخض لطلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الالهام على وصية أبيه عليه السلام وارساله اياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال والظاهر أنه عليه السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق الله تعالى قلبا وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال
روى عن ابن إسحق أنهم لما استعطفوه رق لهم ورحمهم حتى أنه أرفض دمعه باكيا ولم يملك نفسه فشرع في التعرف لهم وأراد بما فعلوه به جميع ما جرى وبما فعلوه بأخيه أذاهم له وجفاءهم إياه وسوء معاملتهم له وإفرادهم كما سمعت ولم يذكر لهم ما آذوا به أباهم على ماقيل تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه مع أن ذلك من فروع ما ذكر وقيل : إنهم أدوا اليه كتابا من أبيهم وصورته كما في الكشاف من يعقوب اسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فانا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما وأما
(13/47)

أبي فوضع على قفاه السكين ليقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب الاولاد إلى فذهب به اخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا : قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن كان اخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق وانك حبسته لذلك وإنا أهل بيت لانسرق ولا نلد سارقا فان رددته على والا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي روق نحوه فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا هذا وما أشرنا اليه من كون المراد إثبات الجهل لهم حقيقة هو الظاهر وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم وترك مقتضى العلم من صنيع الجهال سماهم جاهلين وقيل : المراد جاهلون بما يؤل اليه الامر وعن ابن عباس والحسن جاهلون صبيان قبل أن تبلغوا أو أن الحلم والرزانة وتعقب بأنه ليس بالوجه لأنه لايطابق الوجود وينافي ونحن عصبة فالظاهر عدم صحة الاسناد وزعم في التحرير أن قول الجمهور : إن الاستفهام للتقرير والتوبيخ ومراده عليه السلام تعظيم الواقعة أي ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وأخيه كما يقال : هل تدري من عصيت وقيل : هل بمعنى قد كما في هل أتى على الانسان حين من الدهر والمقصود هو التوبيخ أيضا وكلا القولين لايعول عليه والصحيح ما تقدم ومن الغريب الذي لايصح البتة ما حكاه الثعلبي أنه عليه السلام حين قالوا له ماقالوا غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا فرق لهم وقال : هل علمتم الخ قالوا ائنك لانت يوسف استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيقي ولعلهم قالوه استغرابا وتعجبا وقرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن إنك بغير همزة استفهام قال في البحر : والظاهر أنها مراده ويبعد حمله على الخبر المحض وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر ان اتحد القائلون وهو الظاهر فان قدر أن بعضا استفهم وبعضا أخبر ونسب كل الى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد و أنت في القراءتين مبتدأ و يوسف خبره والجملة في موضع الرفع خبر إن ولا يجوز أن يكون أنت تأكيدا للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام وقرأ أبي أئنك أو أنت يوسف وخرج ذلك ابن جني في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أئنك لغير يوسف أو أنت يوسف وكذا الزمخشري إلا أنه قدره أئنك يوسف أو أنت يوسف ثم قال : وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق قال في الكشف : وما قدره أولى لقلة الاضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجرى على قانون الاستفهام ولعل الأنسب أن يقدر أئنك أنت أو أنت يوسف تجهيلا لنفسه أن يكون مخاطبة يوسف أي أئنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزا وفيه قلة الاضمار أيضا مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين
فان قيل : ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الاوجه كلها أن الاستفهام غير جار على الحقيقة على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضا مع زيادة افادة ذكر موجب استبعادهم وهوكلام يلوح عليه مخايل التحقيق واختلفوا في
(13/48)

تعيين سبب معرفتهم اياه عليه السلام فقيل : عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم اليه ولم يدنهم من قبل وقيل : كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف اليهم رفعه فعرفوه وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضيء ما حواليه من نور تبسمه وقيل : أنه عليه السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا الى علامة بقرنه كان ليعقوب واسحق وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك وينضم الى كل ذلك علمهم أن ما خاطبهم به لايصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ 1 ابراهيم لا عن بعض أعزاء مصر وزعم بعضهم أنهم انما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه قال أنا يوسف والمعول عليه ماتقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليه قوله : وهذا أخي أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه قال بعض المدققين : إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب انه ليس اياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكدا ولهذا لم يقل عليه السلام : بلى أو أنا هو فأعاد صريح الأسم وهذا أخي بمنزلة أنا يوسف لاشبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله : قد من الله علينا وجوز الطيبي أن يكون ذلك جاريا على الاسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف أجاب لاتسألوا عن ذلك فانه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل الله تعالى بك من الامتنان والاعزاز وكذلك بأخي وليس من ذلك في شيء كما لايخفى وفي ارشاد العقل السليم ان في زيادة الجواب مبالغة وتفخيما لشأن الاخ وتكملة لما أفاده قوله : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه حسبما يفيده قد من الخ فكأنه قال : هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والاذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله تعالى علينا بالخلاص عما ابتليناه والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والانس بعد الوحشة ولا يبعد أن يكون فيه اشارة الى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لاأخوكم فلا وجه لطلبكم انتهى وفيه مافيه وجملة قد من الخ عند أبي البقاء مستأنفة وقيل : حال من يوسف و أخي وتعقب بأن فيه بعدا لعدم العامل في الحال حينئذ ولا يصح أن يكون هذا لأنه اشارة الى واحد وعلينا راجع اليهما جميعا إنه أي الشأن من يتق أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه ويصبر على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس فان الله لايضيع أجر المحسنين
9
- 2 أي أجرهم وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالاحسان والجملة في موضع العلة للمن واختار أبو حيان عدم التخصيص في التقوى والصبر وقال مجاهد المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن والنخعي من يتق الزنا ويصبر على العزوبة وقيل : من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس وقال الزمخشري : المراد من يخف الله تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك الى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال : من يتق من يحترز عن ترك ماأمر به وارتكاب مانهى عنه ويصبر في
(13/49)

المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام ويجوز أن يكون ذلك لارادة الثبات على التقوى كأنه قيل : من يتق ويثبت على التقوى انتهى
والوجه الأول ميل لما ذكره أبو حيان وتعقب ذلك الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض باخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عز و جل وطاعة أبيهم وعن المعصية اذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر وقرأ قنبل من يتقي باثبات الياء فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء اشباع وقيل : جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكموا ذلك لغة وقيل : هو مرفوع و من موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن من شرطية و يتقي مجزوم وقيل : ان يصبر مرفوع كيتقي الا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وان كان ذلك في كلمتين كما سكنت في يأمركم و يشعركم ونحوهما أو للوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف والاحسن من هذه الاقوال كما في البحر أن يكون يتقي مجزوما على لغة وان كانت قليلة وقول أبي علي : إنه لايحمل على ذلك لأنه انما يجيء في الشعر لايلتفت اليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظما ونثرا قالوا تالله لقد ءاثرك الله علينا أي اختارك وفضلك علينا بالتقوى والصبر وقيل : بالملك وقيل : بالصبر والعلم ورويا عن ابن عباس وقيل : بالحلم والصفح ذكره سليمان الدمشقي وقال صاحب الغنيان : بحسن الخلق والخلق والعلم والحلم والاحسان والملك والسلطان والصبر على أذانا والأول أولى
وإن أي والحال أن الشان كنا لخطئين
19
- أي لمتعمدين للذنب إذ فعلنا ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا فالواو حالية و إن مخففة اسمها ضمير الشان واللام التي في خبر كان هي المزحلقة وخاطئين من خطيء إذا تعمد وأما اخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له وفي قولهم : هذا من الاستنزال لاحسانه عليه السلام والاعتراف بما صدر منهم في حقه مع الاشعار بالتوبة مالايخفى ولذلك قال لاتثريب أي لا تأنيب ولا لوم عليكم وأصله من الثرب وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش وصيغة التفعيل للسلب أي ازالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى ازالة الجلد والقرع واستعير للوم الذي يمزق الاعراض ويذهب بهاء الوجه لأنه بازالة الشحم يبدو الهزال ومالايرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال وازالة ما به الكمال والجمال وهو اسم لا و عليكم متعلق بمقدر وقع خبرا وقوله تعالى : اليوم متعلق بذلك الخبر المقدر أو بالظرف أي لاتثريب مستقر عليكم اليوم وليس التقييد به لافادة وقوع التثريب في غيره فانه عليه السلام اذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره فبعده بطريق الاولى وقال المرتضى : إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله : اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا كانه أريد بعد اليوم وجوز الزمخشري تعلقه بتثريب وتعقبه أبو حيان قائلا : لايجوز ذلك لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله بعليكم وهو اما خبر أو صفة ولايجوز الفصل بينهما بنحو ذلك لأن
(13/50)

معمول المصدر من تمامه وأيضا لو كان متعلقا به لم يجز بناؤه لأنه حينئذ من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى المطول والممطول فيجب أن يكون معربا منونا ولو قيل : الخبر محذوف و عليكم متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب وذلك المحذوف هو العامل في اليوم والتقدير لاتثريب عليكم اليوم كما قدروا في لا عاصم اليوم من أمر الله أي لاعاصم يعصم اليوم لكان وجها قويا لأن خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ولم يلفظ به بنو تميم وكذا منع ذلك أبو البقاء وعالمه بلزوم الاعراب والتنوين أيضا واعترض بأن المصرح به في متون النحو بأن شبيه المضاف سمع فيه عدم التنوين نحو لا طالع جبلا ووقع في الحديث لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت باتفاق الرواة فيه وانما الخلاف فيه هل هو مبني أو معرب ترك تنوينه وفي التصريح نقلا عن المغني أن نصب الشبيه بالمضاف وتنوينه هو مذهب البصريين وأجاز البغداديون لا طالع جبلا بلا تنوين أجروه في ذلك مجرى المضاف كما اجروه مجراه في الاعراب وعليه يتخرج الحديث لامانع الخ
فيمكن أن يكون مبنى ماقاله ابو حيان وغيره مذهب البصريين والحديث المذكور لايتعين كما قال الدنوشري أخذا من كلام المغني في الجهة الثانية من الباب الخامس حمله على ماذكر لجواز كون اسم لا فيه مفردا واللام متعلقة بالخبر والتقدير لا مانع لما اعطيت وكذا فيما بعده وذكر الرضي أن الظرف بعد النفي لايتعلق بالمنفي بل بمحذوف وهو خبر وأن اليوم في الآية معمول عليكم ويجوز العكس واعترض أيضا حديث الفصل بين المصدر ومعمول بما فيه مافيه وقيل : عليكم بيان كلك في سقيالك فيتعلق بمحذوف و اليوم خبر
جوز أيضا كون الخبر ذاك و اليوم متعلقا بقوله : يغفر الله لكم ونقل عن المرتضى أنه قال في الدرر : قد ضعف هذا قوم من جهة أن الدعاء لاينصب ماقبله ولم يشتهر ذلك وقال ابن المنير : لو كان متعلقا به لقطعوا بالمغفرة باخبار الصديق ولم يكن كذلك لقولهم : ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا وتعقب بأنه لاطائل تحته لأن المغفرة وهي ستر الذنب يوم القيامة حتى لايؤاخذوا به ولا يقرعوا إنما يكون ذلك الوقت وأما قبله لحاصل هو الاعلام به والعلم بتحقق وقوعه بخبر الصادق لايمنع الطلب لأن الممتنع طلب الحاصل لا طلب ما يعلم حصوله على أنه يجوز أن يكون هضما للنفس واعتبر باستغفار الانبياء عليهم السلام ولا فرق بين الدعاء والاخبار هنا انتهى
وقد يقال أيضا : إن الذي طلبوه من أبيهم مغفرة ما يتعلق به ويرجع إلى حقه ولم يكن عندهم علم بتحقق ذلك على أنه يجوز أن يقال : إنهم لم يعتقدوا إذ ذاك نبوته وظنوه مثلهم غير نبي فانه لم يمض وقت بعد معرفة أنه يوسف يسع معرفة أنه نبي أيضا وما جرى من المفاوضة لايدل على ذلك فافهم وإلى حمل الكلام على الدعاء ذهب غير واحد وذهب جمع أيضا إلى كونه خبرا والحكم بذلك مع أنه غيب قيل : لأنه عليه السلام صفح عن جريمتهم حينئذ وهم قد اعترفوا بها أيضا فلا محالة أنه سبحانه يغفر لهم ما يتعلق به تعالى وما يتعلق به عليه السلام بمقتضى وعده جل شأنه بقبول توبة العباد وقيل : لأنه عليه السلام قد أوحى اليه بذلك وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على اليوم وهو ظاهر في عدم تعلقه بيغفر وهو اختيار الطبري وابن اسحق وغيرهم واختاروا كون الجملة بعد دعائية وهو الذي يميل اليه الذوق والله تعالى أعلم وهو أرحم الرحمين
29
- فان كل من يرحم سواه جل وعلا فانما يرحم برحمته سبحانه مع كون ذلك مبنيا على جلب نفع أو دفع ضر ولا أقل من دفع ما يجده في نفسه من التألم الروحاني مما يجده في المرحوم وقيل : لأنه تعالى يغفر الصغائر
(13/51)

والكبائر التي لايغفرها غيره سبحانه ويتفضل على التائب بالقبول والجملة اما بيان للوثوق باجابة الدعاء أو تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فالله تعالى اولى بالعفو والرحمة لهم هذا
ومن كرم يوسف عليه السلام ما روى أن أخوته أرسلوا اليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه السلام : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلى بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم أخوتي وأني من حفدة ابراهيم عليه السلام والظاهر أنه عليه السلام أنه حصل بذلك من العلم للناس مالم يحصل قبل فانه عليه السلام على مادل عليه بعض الآيات السابقة والاخبار قد أخبرهم أنه ابن من وممن
وكذا ماأخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قال الملك يوما ليوسف عليه السلام اني أحب أن تخالطني في كل شيء الا في أهلي وأنا آنف أن تأكل معي فغضب يوسف عليه السلام فقال : أنا أحق أن آنف أنا ابن ابراهيم خليل الله وأنا ابن اسحق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبي الله لكن لم يشتهر ذلك أو لم يفد الناس علما وفي التوراة التي بأيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم اليه وقال : لايشق عليكم أن بعتموني والى هذا المكان أوصلتموني فان الله تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ماأوصلني به الى هذا المكان والمكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم ويكون ذلك سببا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها وقد مضت من سني الجدب سنتان وبقى خمس سنين وأنا اليوم قد صيرني الله تعالى مرجعا لفرعون وسيد لأهله وسلطانا على جميع أهل مصر فلا يضق عليكم أمركم إذهبوا بقميصي هذا هو القميص الذي كان عليه حينئذ كما هو الظاهر وعن ابن عباس وغيره أنه القميص الذي كساه الله تعالى ابراهيم عليه السلام حين ألقى في النار وكان من قمص الجنة جعله يعقوب حين وصل اليه في قصبة فضة وعلقة في عنق يوسف وكان لايقع على عاهة من عاهات الدنيا الا برأها باذن الله تعالى وضعف هذا بأن قوله : إني لأجد ريح يوسف يدل على أنه عليه السلام كان لابسا له في تعويذته كما تشهد به الاضافة الى ضميره وهو تضعيف ضعيف كما لايخفى وقيل هو القميص الذي قد من دبر وأرسله ليعلم أنه عصم من الفاحشة ولا يخفى بعده وأياما كان فالباء اما للمصاحبة أو للملابسة أي أذهبوا مصحوبين أو ملتبسين به أو للتعدية على ماقيل أي أذهبوا قميصي هذا فألقوه على وجه أبي يات بصيرا أي يصر بصيرا ويشهد له فارتد بصيرا أو يأت الي وهو بصير وينصره قوله : وأتوني بأهلكم أجمعين
39
- من النساء والذراري وغيرهم مما ينتظمه لفظ الأهل كذا قالوا
وحاصل الوجهين كما قال بعض المدققين أن الاتيان في الاول مجاز عن الصيرورة ولم يذكر اتيان الاب اليه لالكونه داخلا في الاهل فانه يجل عن التابعية بل تفاديا عن أمر الاخوة بالاتيان لأنه نوع اجبار على من يؤتى به فهو الى اختياره وفي الثاني على الحقيقة وفيه التفادي المذكور والجزم بأنه من الآتين لامحالة وثوقا بمحبته وان فائدة الالقاء اتيانه على ما أحب من كونه معافى سليم البصر وفيه أن صيرورته بصيرا أمر
(13/52)

مفروغ عنه مقطوع إنما الكلام في تسبب الالقاء لاتيانه كذلك فهذا الوجه أرجح وان كان الأول من الخلافة بالقبول بمنزل وفيه دلالة على أنه عليه السلام قد ذهب بصره وعلم يوسف عليه السلام بذلك يحتمل أن يكون باعلامهم ويحتمل أن يكون بالوحي وكذا علمه بما يترتب على الالقاء يحتمل أن يكون عن وحي أيضا أو عن وقوف من قبل على خواص ذلك القميص بالتجربة أو نحوها إن كان المراد بالقميص الذي كان في التعويذة ويتعين الاحتمال الأول إن كان المراد غيره على ما هو الظاهر وقال الامام : يمكن أن يقال : لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه الا من كثرة البكاء وضيق القلب فاذا ألقى عليه قميصه فلابد وأن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالعقل فان القوانين الطبية تدل على صحته وأنا لا أرى ذلك قال الكلبي : وكان أولئك الأهل نحوا من سبعين انسانا 1 وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنهم اثنان وسبعون من ولده وولد ولده وقيل : ثمانون وقيل : تسعون وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن مسعود أنهم ثلاثة وتسعون وقيل : ست وتسعون وقد نموا في مصر فخرجوا منها مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمي وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف على ما قيل
ولما فصلت العير خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريبا من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لايعول عليه يقال : فصل من البلد يفصل فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلا إذا فرقه وهو متعد وقرأ ابن عباس ولما انفصل العير قال أبوهم يعقوب عليه السلام لمن عنده إني لأجد ريح يوسف أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه الله تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليه السلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روى عن ابن عباس وقال الحسن وابن جريج من ثمانين فرسخا وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يوما وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال وقد استأذنت الريح على ما روى عن أبي أيوب الهروي في أيصال عرف يوسف عليه السلام فأذن الله تعالى لها وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت يعقوب عليه السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قال ويبعد ذلك الأضافة فانها حينئذ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضا إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لايخفى لولا أن تفندون
49
- أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل بمعنى الفساد 2 كما في قوله : إلا سليمان إذ قال الاله له
قم في البرية فاحددها عن الفند وبمعنى ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن ويقال : فند الرجل إذا نسبه إلى الفند وهو على ماقيل مأخوذ من الفند وهو الحجر كأنه جعل حجرا لقلة فهمه كما قيل :
(13/53)

إذا أنت لم تعشق ولم تدري ما الهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلد ثم اتسع فيه فقيل فنده إذا ضعف رأيه ولامه على مافعل قال الشاعر : ياعاذلي دعا لومي وتفنيدي
فليس ما قلت من أمر بمردود وجاء أفند الدهر فلانا أفسده قال ابن مقتل دع الدهر يفعل ماأراد فانه
إذا كلف الافناد بالناس أفندا ويقال : شيخ مفند إذا فسد رأيه ولا يقال : عجوز مفندة لأنها لارأي لها في شبيبتها حتى يضعف قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة وذكره الزمخشري في الكشاف وغيره واستغربه السمين ولعل وجهه أن لها عقلا وإن كان ناقصا يشتد نقصه بكبر السن فتأمل وجواب لولا محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني أو لقلت : إن يوسف قريب مكانه أو لقاؤه أو نحو ذلك والمخاطب قيل : من بقى من ولده غير الذين ذهبوا يمتارون وهم كثير وقيل : ولد ولده ومن كان بحضرته من ذوي قرابته وهو المشهور قالوا أي أولئك المخاطبون تالله إنك لفي ضللك القديم
59
- أي لفي ذهابك عن الصواب قدما بالافراط في محبة يوسف والاكثار من ذكره والتوقع للقائه وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الضلال هنا بمعنى الحب وقال مقاتل : هو الشقاء والعناء وقيل : الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لايليق وكأنه لتفسير بمثل ذلك قال قتادة : لقد قالوا كلمة غليظة لاينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليه السلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات
فلما أن جاء البشير قال مجاهد هو يهوذا روى أنه قال لأخوته قد علمتم أني ذهبت الى أبي بقميص الترحة فدعوني أذهب اليه بقميص الفرحة فتركوه وفي رواية عن ابن عباس أنه مالك بن ذعر والرواية الشهيرة عنه ما تقدم و أن صلة وقد أطردت زيادتها بعد لما وقرأ ابن مسعود وعد ذلك قراءة تفسير وجاء البشير من بين يدي العير ألقيه أي ألقى البشير القميص على وجهه أي وجه يعقوب عليه السلام وقيل : فاعل ألقى ضمير يعقوب عليه السلام أيضا والأول أوفق بقوله : فألقوه على وجه أبي وهو يبعد كون البشير مالكا كما لايخفى والثاني قيل : هو الأنسب بالأدب ونسب ذلك الى فرقد قال : إنه عليه السلام أخذه فشمه ثم وضعه على بصره فارتد بصيرا والظاهر أنه اريد بالوجه كله وقد جرت العادة أنه متى وجد الانسان شيئا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه وقيل : عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه وقيل : عبر بالكل عن البعض وارتد عند بعضهم من أخوات كان وهي بمعنى صار فبصيرا خبرها وصحح أبو حيان أنها ليست من اخواتها فبصيرا حال والمعنى أنه رجع الى حالته الاولى من سلامة البصر
وزعم بعضهم أن في الكلام ما يشعر بأن بصره صار أقوى مما كان عليه لأن فعيلا من صيغ المبالغة وما عدل من يفعل اليه الا لهذا المعنى وتعقب بأن فعيلا هنا ليس للمبالغة أذ ما يكون لها هو المعدول عن فاعل وأما بصير هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريفت ولو كان
(13/54)

كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضا لأن فعيلا بمعنى مفعل ليس للمبالغة نحو أليم وسميع وأياما كان الظاهر أن عوده عليه السلام بصيرا بالقاء القميص على وجهه ليس الا من باب خرق العادة وليس الخارق بدعا في هذه القصة وقيل إن ذاك لما أنه عليه السلام انتعش حتى قوى قلبه وحرارته الغريزية فأوصل نوره الى الدماغ وأداه الى البصر ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهب عليهم من جهة أرض المعشوق كما قال
واني لأستشفي بكل غمامة يهب بها من نحو أرضك ريح وقال آخر ألا يانسيم الصبح مالك كلما تقربت منا فاح نشرك طيبا كأن سليمي نبئت بسقامنا فأعطتك رياها فجئت طبيبا الى غير ذلك مما لا يحصى وهو قريب مما سمعته آنفا عن الامام هذا وجاء في بعض الاخبار أنه عليه السلام سأل البشير كيف يوسف قال : ملك مصر فقال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال : على الاسلام قال : الآن تمت النعمة وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : لما جاء البشير اليه عليه السلام قال : ما وجدت عندنا شيئا وما اختبزنا منذ سبعة أيام ولكن هون الله تعالى عليك سكرات الموت وجاء في رواية أنه قال له : ماأدري ما أثيبك اليوم ثم دعا له بذلك قال ألم أقل لكم يحتمل أن يكون خطابا لمن كان عنده من قبل أي ألم أقل لكم أني لأجد ريح يوسف ويحتمل أن يكون خطابا لبنيه القادمين أي ألم أقل لكم لاتيأسوا من رحمة الله وهو الانسب بقوله : إني أعلم من الله مالا تعلمون
69
- فان مدار النهي العلم الذي أوتيه عليه السلام من جهة الله سبحانه والجملة على الاحتمالين مستأنفة على الاخير يجوز أن تكون مقول القول أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم الى مصر وامرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله تعالى أني أعلم من الله مالا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام واستظهر في البحر كونها مقول القول وهو كذلك
قالوا ياأبانا أستغفر لنا ذنوبنا طلبوا منه عليه الاسلام الاستغفار ونادوه بعنوان الابوة تحريكا للعطف والشفقة وعللوا ذلك بقولهم : انا كنا خاطئين
79
- أي ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له : وكأنهم كانوا على ثقة من عفوه ولذلك اقتصروا على طلب الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار وقيل : حيث نادوه بذلك أرادوا ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فانه لولا ذلك لكنا هالكين لتعمد الاثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا وليس بذاك قال سوف أستغفر لكم ربي أنه هو الغفور الرحيم
89
- روى عن ابن عباس مرفوعا أنه عليه السلام أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأن الدعاء فيه مستجاب وروى عنه أيضا كذلك أنه أخره إلى ليلة الجمعة 1 وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه وقيل : سوفهم إلى قيام الليل وقال ابن جبير وفرقة : إلى الليالي البيض فان الدعاء فيها يستجاب وقال الشعبي : أخره حتى يسأل يوسف عليه السلام فان عفا عنهم استغفر لهم وقيل أخر ليعلم حالهم في صدق التوبة وتعقب بعضهم بعض هذه الأقوال بأن سوف تأبى ذلك لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ذلك السين ورد بما في المغني من أن
(13/55)

ماذكر مذهب البصريين وغيرهم يسوى بينهما وقال بعض المحققين : هذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأن التنفيس التأخير مطلقا ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر مثلا ومضى ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف وقيل : أراد عليه السلام الدوام على الاستغفار لهم وهو مبني على أن السين وسوف يدلان على الاستمرار في المستقبل وفيه كلام للنحويين نعم جاء في بعض الأخبار ما يدل على أنه عليه السلام استمر برهة من الزمان يستغفر لهم أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال إن الله تعالى لما جمع شمله ببنيه وأقر عينه خلا ولده نجيا فقال بعضهم لبعض : لستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقى منكم يوسف قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم واستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنبه فقالوا ياأبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال : ما لكم يا بني قالوا ألست قد علمت ما كان منا اليك وما كان منا إلى أخينا يوسف قالا بلى قالوا أفلستما قد عفوتما قالا بلى قالوا فان عفوتما كما لاينبغي عنا شيئا إن كان الله تعالى لم يعف عنا قال فما تريدون يابني قالوا : نريد أن تدعو الله سبحانه فاذا جاءك الوحي من عند الله تعالى بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا قال فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف عليه السلام خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب عليهما السلام فقال : إن الله تعالى بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأنه قد عفا عما صنعوا وأنه قد عقد مواثيقهم من بعدك على النبوة قيل : وهذا إن صح دليل على نبوتهم وإن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم والحق عدم الصحة وقد مر تحقيق بما فيه كفاية فتذكر
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عائشة قال : ماتيب على ولد يعقوب إلا بعد عشرين سنة وكان أبوهم بين يديهم فما تيب عليهم حتى نزل جبريل عليه السلام فعلمه هذا الدعاء يارجاء المؤمنين لاتقطع رجاءنا يا غياث المؤمنين أغثنا يامعين المؤمنين أعنا يا محب التوابين تب علينا فأخره إلى السحر فدعا به فتيب عليهم وأخرج أبو عبيد وغيره عن ابن جريج ان ما سيأتي إن شاء الله متعلق بهذا وهو من تقديم القرآن وتأخيره والاصل سوف استغفر لكم ربي إن شاء الله وأنت تعلم أن هذا مما لاينبغي الالتفات اليه فان ذاك من كلام يوسف عليه السلام بلا مرية ولا أدري ما الداعي إلى أرتكابه ولعله محض الجهل
واعلم أنه ذكر بعض المتأخرين في الكلام على هذه الآية أن الصحيح أن استغفر متعد إلى مفعولين يقال : إستغفرت الله الذنب وقد نص على ذلك ابن هشام وقد حذف من استغفر لنا أولهما وذكر ثانيهما وعكس الأمر في سوف أستغفر ولعل السر والله سبحانه أعلم أن حذف الأول من الأول لإرادة التعميم أي استغفر لنا كل من أذنبنا في حقه ليشمله سبحانه وتعالى ويشمل يوسف وبنيامين وغيرهما ولم يحذف الثاني أيضا تسجيلا على أنفسهم باقتراف الذنوب لأن المقام مقام الاعتراف بالخطأ والاستعطاف لما سلف فالمناسب هو التصريح وأما إثباته في الثاني فلأنه الأصل مع التنبيه على أن الأهم الذي ينبغي أن يصرف اليه الهم ويمحض له الوجه هو استغفار الرب واستجلاب رضاه فانه سبحانه اذا رضى أرضى على أن يوسف وأخاه قد ظهرت منهما مخايل العفو وأدركتهما رقة الأخوة وأما حذف الثاني منه فللايجاز لكونه معلوما من الأول مع قرب العهد بذكره اه ولعل التسويف على هذا ليزداد انقطاعهم إلى الله تعالى فيكون ذلك أرجى
(13/56)

لحصول المقصود فتأمل فلما دخلوا على يوسف روى أنه عليه السلام جهز إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز اليه بمن معه وفي التوراة أنه عليه السلام أعطى لكل من إخوته خلعة وأعطى بنيامين ثلثمائة درهم وخمس خلع وبعث لأبيه بعشرة حمير موقرة بالتحف وبعشرة أخرى موقرة برا وطعاما
وجاء في بعض الاخبار أنه عليه السلام خرج هو والملك 1 في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم لاستقباله فتلقوه عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر قال : لا يا أبت ولكن هذا ابنك يوسف قيل له : إنك قادم فتلقاك بما ترى فلما لقيه ذهب يوسف عليه السلام ليبدأه بالسلام فمنع ذلك ليعلم أن يعقوب أكرم على الله تعالى منه فاعتنقه وقبله وقال : السلام عليك ايها الذاهب بالاحزان عني وجاء أنه عليه السلام قال لأبيه : ياأبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا قال : بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك
وفي الكلام إيجاز والتقدير فرحل يعقوب عليه السلام بأهله وساروا حتى أتوا يوسف فلما دخلوا عليه وكان ذلك فيما قيل يوم عاشوراء ءاوى اليه أبويه أي ضمهما اليه واعتنقهما والمراد بهما أبوه وخالته ليا وقيل : راحيل وليس بذاك والخالة تنزل منزلة الأم لشفقتها كما ينزل العم منزلة الأب ومن ذلك قوله : واله آبائك إبراهيم واسماعيل واسحق وقيل : انه لما تزوجها بعد أمه صارت رابة ليوسف عليه السلام فنزلت منزلة الأم لكونها مثلها في زوجية الأب وقيامها مقامها والرابة تدعى أما وإن لم تكن خالة وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال بعضهم : المراد أبوه وجدته أم أمه حكاه الزهراوي وقال الحسن وابن اسحاق : إن أمه عليه السلام كانت بالحياة فلا حاجة إلى التأويل لكن المشهور أنها ماتت في نفاس بنيامين وعن الحسن وابن اسحاق القول بذلك أيضا إلا أنهما قالا : إن الله تعالى أحياها له ليصدق رؤياه والظاهر أنه لم يثبت ولو ثبت مثله لاشتهر وفي مصحف عبدالله آوى اليه أبويه واخوته وقال ادخلوا مصر وكأنه عليه السلام ضرب في الملتقى خارج البلد مضربا فنزل فيه فدخلوا عليه فيه فآواهما اليه ثم طلب منهم الدخول في البلدة فهناك دخولان : أحدهما دخول عليه خارج البلدة والثاني دخول في البلدة وقيل : إنهم إنما دخلوا عليه عليه السلام في مصر وأراد بقوله : ادخلوا مصر تمكنوا منها واستقروا فيها إن شاء الله ءامنين
99
- أي من القحط وسائر المكاره والاستثناء مافي التيسير داخل في الأمن لافي الأمر بالدخول لأنه إنما يدخل في الوعد لافي الامر وفي الكشاف أن المشيئة تعلقت بالدخول المكيف بالأمن لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم فكأنه قيل : أسلموا وآمنوا في دخولكم إن شاء الله والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين فحذف الجزاء لدلالة الكلام ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال اه وكأنه أشار بقوله : فكأنه قيل الخ إلى أن في التركيب معنى الدعاء وإلى ذلك ذهب العلامة الطيبي وقال في الكشف : ان فيه اشارة إلى أن الكيفية مقصودة بالامر كما إذا قلت : ادخل ساجدا كنت آمرا بهما وليس فيه اشارة إلى أن
(13/57)

في التركيب معنى الدعاء فليس المعنى على ذلك والحق مع العلامة كما لايخفى وزعم صاحب الفرائد أن التقدير ادخلوا مصر إن شاء الله دخلتم آمنين فآمنين متعلق بالجزاء المحذوف وحينئذ لايفتقر إلى التقديم والتأخير وإلى أن يجعل الجزائية معترضة وتعقب بأنه لاارتياب أن هذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشروع فيه للتيمن والتبرك واستعماله مع الجزاء كالشريعة المنسوخة فحسن موقعه في الكلام أن يكون معترضا فافهم ورفع أبويه عند نزولهم بمصر على العرش على السير كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما تكرما لهما فوق ما فعله بالاخوة وخروا له أي أبواه واخوته وقيل : الضمير للاخوة فقط وليس بذاك فان الرؤيا تقتضي أن يكون الابوان والاخوة خروا له سجدا أي على الجباه كما هو الظاهر وهو كما قال أبو البقاء حال مقدرة لأن السجود يكون بعد الخرور وكان ذلك جائزا عندهم وهو جار مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل ونحوها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير قال قتادة : كان السجود تحية الملوك عندهم وأعطى الله تعالى هذه الامة السلام تحية أهل الجنة كرامة منه تعالى عجلها لهم وقيل : ما كان ذلك الا ايماء بالرأس وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض وقيل : المراد به التواضع ويراد بالخرور المرور كما في قوله تعالى : والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا فقد قيل : المراد لم يمروا عليها كذلك وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في السقوط وقيل : ونسب لابن عباس أن المعنى خروا لأجل يوسف سجدا لله شكرا على ماأوزعهم من النعمة وتعقب بأنه يرده قوله تعالى : وقال ياأبت هذا تأويل رءياي إذ فيها رأيتهم لي ساجدين ودفع بان القائل به يجعل اللام للتعليل فيهما وقيل : اللام فيهما بمعنى إلى كما في صلى للكعبة قال حسان : ماكنت أعرف أن الدهر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالأشياء والسنن وذكر الامام أن القول بأن السجود كان لله تعالى لا ليوسف عليه السلام حسن والدليل عليه أن قوله تعالى : ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا مشعر بأنهم صعدوا ثم سجدوا ولو كان السجود ليوسف عليه السلام كان قبل الصعود والجلوس لأنه أدخل في التواضع بخلاف سجود الشكر لله تعالى ومخالفة ظاهر الترتيب ظاهر المخالفة للظاهر ودفع مايرد عليه مما علمت بما علمت ثم قال : وهو متعين عندي لأنه يبعد من عقل يوسف عليه السلام ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة وأجيب بأن تأخير الخرور عن الرفع ليس بنص في المقصود لأن الترتيب الذكري لايجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيره عنه ليتصل به ذكر كونه تعبيرا لرؤياه وما يتصل به وبأنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد أمر يعقوب بذلك لحكمة لايعلمها الا هو وكان يوسف عليه السلام عالما بالأمر فلم يسعه الا السكوت والتسليم وكأن في قوله : ياأبت الخ اشارة الى ذلك كأنه يقول : ياأبت لايليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك الا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فان رؤيا الانبياء حق كما أن رؤيا ابراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب الذبح في اليقظة ولذا جاء عن
(13/58)

ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه غعليه السلام لما رأى سجود أبويه واخوته له هاله ذلك واقشعر جلده منه ولا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب عليه السلام كأنه قيل له : أنت كنت دائم الرغبة في وصاله والحزن على فراقه فاذا وجدته فاسجد له ويحتمل أيضا أنه عليه السلام انما فعله مع عظم قدره لتتبعه الاخوة فيه لأن الافة ربما حملتهم على الأنفة منه فيجر الى ثوران الاحقاد القديمة وعدم عفو يوسف عليه السلام ولا يخفى أن الجواب عن الاول لايفيد لما علمت أن مبناه موافقة الظاهر والاحتمالات المذكورة في الجواب عن الثاني قد ذكرها أيضا الامام وهي كما ترى وأحسنها احتمال أن الله تعالى قد أمره بذلك لحكمة لايعلمها الا هو ومن الناس من ذهب الى أن ذلك السجود لم يكن الا من الاخوة فرارا من نسبته الى يعقوب عليه السلام لما علمت وقد رد بما اشرنا اليه أولا من أن الرؤيا تستدعي العموم وقد أجاب عن ذلك الامام بأن تعبير الرؤيا لايجب أن يكون مطابقا للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الاكابر من الناس له عليه السلام ولا شك أن ذهاب يعقوب واولاده من كنعان الى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير كالاصل حذو القذة بالقذة فلم يوجبه أحد من العقلاء اه والحق أن السجود بأي معنى كان وقع من الأبوين والاخوة جميعا والقلب يميل ألى أنه كان انحناء كتحية الاعاجم وكثير من الناس اليوم ولا يبعد أن يكون ذلك بالخرور ولا بأس في أن يكون من الابوين وهما على سرير ملكه ولا يأبى ذلك رؤياه عليه السلام من قبل أي من قبل سجودكم أو من قبل هذه الحوادث والظرف متعلق برؤياي وجوز تعلقها بتأويل لأنها أولت بهذا قبل وقوعها وجوز أبو البقاء كونه متعلقا بمحذوف وقع حالا من رؤياي وصحة وقوع الغايات حالا تقدم الكلام فيها قد جعلها ربي حقا أي صدقا والرؤيا توصف بذلك ولو مجازا وأعربه جمع على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير وجوز أن يكون حالا أي وضعها صحيحة وان يكون صفة مصدر محذوف أي جعلا حقا وأن يكون مصدرا من غير لفظ الفعل بل من معناه لأن جعلها في معنى حققها و حقا في معنى تحقيق والجملة على ماقال أبو البقاء حال مقدرة أو مقارنة وقد أحسن بي الأصل كما في البحر أن يتعدى الاحسان بإلى أو اللام كقوله تعالى : وأحسن كما أحسن الله اليك وقد يتعدى بالباء كقوله تعالى : وبالوالدين احسانا وكقول كثير عزة : اسيئي بنا او أحسني لاملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت وحمله بعضهم على تضمين أحسن معنى لطف ولا يخفى مافيه من اللطف الا أن بعضهم أنكر تعدية لطف بالباء وزعم أنه لايتعدى الا باللام فيقال : لطف الله تعالى له أي أوصل اليه مراده بلطف وهذا مافي القاموس لكن المعروف في الاستعمال تعديه بالباء وبه صرح في الاساس وعليه المعول وقيل : الباء بمعنى الى وقيل : المفعول محذوف أي أحسن صنعه بي فالباء متعلقة بالمفعول المحذوف وفيه حذف المصدر وابقاء معموله وهو ممنوع عند البصريين وقوله إذ أخرجني من السجن منصوب بأحسن أو بالمصدر المحذوف عند من يرى جواز ذلك واذا كانت تعليلية فالاحسان هو الاخراج من السجن بعد أن ابتلى به
(13/59)

وما عطف عليه واذا كانت ظرفية فهو غيرهما ولم يصرح عليه السلام بقصة الجب حذرا من تثريب اخوته وتناسيا لما جرى منهم لأن الظاهر حضورهم لوقوع الكلام عقيب خرورهم سجدا ولأن الاحسان انما تم بعد خروجه من السجن لوصوله للملك وخلوصه من الرق والتهمة واكتفاء بما يتضمنه قوله : وجاء بكم من البدو أي البادية وأصله 1 البسيط من الارض وانما سمي بذلك لأن مافيه يبدو للناظر لعدم مايواريه ثم أطلق على البرية مطلقا وكان منزلهم على ماقيل : بأطراف الشام ببادية فلسطين وكانوا أصحاب ابل وغنم وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع وزعم بعضهم أن يعقوب عليه السلام انما تحول الى البادية بعد النبوة لأن الله تعالى لم يبعث نبيا من البادية وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كان يعقوب عليه السلام قد تحول الى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها : قال ابن الانباري : إن بدا اسم موضع معروف يقال : هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميل 2 بقوله : وأنت الذي حببت شعبا الى بدا الى وأوطاني بلاد سواهما فالبدو على هذا قصد هذا الموضع يقال : بدا القوم بدوا اذا أتوا بدا كما يقال : أغاروا غورا اذا أتوا الغور فالمعنى أتى بكم من قصد بدا فهم حينئذ حضريون 3 كذا قاله الواحدي في البسيط وذكره القشيري وهو خلاف الظاهر جدا من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي أي أفسد وحرش وأصله من نزع الرابض الدابة اذا نخسها وجملها على الجري وأسند ذلك الى الشيطان مجازا لأنه بوسوسته والقائه وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا وذكره تعظيما لأمر الاحسان لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا واستدل الجبائي والكعبي والقاضي بالآية على بطلان الجبر وفيه نظر أن ربي لطيف لما يشاء أي لطيف التدبير له اذ ما من صعب الا وتنفذ فيه مشيئته تعالى ويتسهل دونها كذا قاله غير واحد وحاصله أن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الامور المدبر لها والمسهل لصعابها ولنفوذ مشيئته سبحانه فاذا أراد شيئا سهل أسبابه أطلق عليه جل شأنه اللطيف لأن ما يلطف يسهل نفوذه والى هذا يشير كلام الراغب حيث قال : اللطيف ضد الكثيف ويعبر باللطيف عن الحركة الخفيفة وتعاطي الامور الدقيقة فوصف الله تعالى به لعلمه بدقائق الامور ورفقه بالعباد فاللام متعلقة بلطيف لأن المراد مدبر لما يشاء على ما قاله غير واحد وقال بعضهم : إن المعنى لأجل مايشاء وهو على الأول متعد باللام وعلى الثاني غير متعد بها وقد تقدم آنفا مافي ذلك إنه هو العليم بوجوه المصالح الحكيم
1
- الذي يفعل كل شيء على وجه الحكمة لاغيره روى أن يوسف طاف بأبيه عليهما السلام في خزائنه فلما أدخله خزينة القرطاس قال : يابني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت الى على ثمان مراحل قال : أمرني جبريل قال : أو ما تسأله قال : أنت أبسط مني اليه فسأله قال : جبريل عليه السلام الله تعالى أمرني بذلك لقولك : وأخاف أن يأكله الذئب قال : فهلا خفتني
(13/60)

وهذا عذر واضح ليوسف عليه السلام في عدم اعلام أبيه بسلامته وقد صرح غير واحد بأنه عليه السلام أوحى اليه باخفاء الامر على أبيه الى أن يبلغ الكتاب أجله لكن يبقى السؤال بأن يعقوب عليه السلام كان من أكابر الانبياء نفسا وأبا وجدا وكان مشهورا في أكناف الأرض ومن كان كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لابد وان تبلغ في الشهرة الى حيث يعرفها كل أحد لاسيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وهو في ذلك الحزن الذي تضرب فيه الامثال ويوسف عليه السلام ليس بمكان بعيد عن مكانه ولا متوطنا زوايا الخفاء ولا خامل الذكر بل كان مرجع العام والخاص وداعيا الى الله تعالى في السر والعلن وأوقات السرور والمحن فكيف غم أمره ولم يصل الى أبيه خبره
وأجيب عن ذلك بأنه ليس الا من باب خرق العادة واختلفوا في مقدار المدة بين الرؤيا وظهور تأويلها فقيل : ثماني عشرة سنة وأخرج عبدالله بن أحمد في زاوئد الزهد عن الحسن أن المدة ثمانون سنة وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها سبع وتسعون سنة وعن حذيفة أنها سبعون سنة وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنها خمس وثلاثون سنة وأخرج جماعة عن سلمان الفارسي انها أربعون سنة وهو قول الاكثرين قال ابن شداد : والى ذلك ينتهي تأويل الرؤيا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور
رب قد ءاتيتني من الملك أي بعضا عظيما منه فمن للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام وبعضهم قدر عظيما في النظم الجليل على أنه مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن الملك ما يعم مصر وغيرها ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لاينافي قوله تعالى : مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء لأنه لم يكن مستقلا فيه وان كان ممكنا وفيه تأمل وقيل : أراد ملك نفسه من انفاذ شهوته وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة ونيل الاماني وليس بذاك وعلمتني من تأويل الأحاديث أي بعضا من ذلك كذلك والمراد بتأويل الأحاديث أما تعليم تعبير الرؤيا وهو الظاهر واما تفهيم غوامض أسرار الكتب الالهية ودقائق سنن الانبياء وعلى التقديرين لم يؤت عليه السلام جميع ذلك والترتيب على غير الظاهر ظاهر واما على الظاهر فلعل تقديم ايتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه من التعليم المذكور وان كان ذلك ايضا نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل 1 وقرأ عبدالله وابن ذر آتيتن وعلمتن بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة وحكى ابن عطية عن الاخير آتيتني بغير قد فاطر السموت والأرض أي مبدعهما وخالقهما ونصبه على أنه نعت لرب أو بدل أو بيان أو منصوب بأعنى أو منادى ثان ووصفه تعالى به بعدو صفة بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادىء ما يعقبه من قوله : أنت ولي متولى أموري ومتكفل بها أو موال لي وناصر في الدنيا والآخرة فالولي أما في الولاية أو الموالاة وجوز أن يكون بمعنى المولى كالمعطي لفظا ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا
(13/61)

والآخرة توفني أقبضني مسلما والحقني بالصالحين
101
- من آبائي على ما روى عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل واعترض بأن يوسف عليه السلام من كبار الانبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلب اللحاق بمن هو في البداية وأجيب بأنه عليه السلام طلبه هضما لنفسه فسبيله سبيل استغفار الانبياء عليهم السلام ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب واسحق وابراهيم عليهم السلام وقال الامام : ههنا وههنا مقام آخر في الآية على لسان اصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا اشرقت بالأنوار الالهية واللواء مع القدسية فاذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملائمة والمجانسة فعظمت تلك الانوار وتقوت هاتيك الاضواء ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفا متى اشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الاشراق والبريق إلى حد لاتطيقه الابصار الضعيفة فكذلك ههنا انتهى وهو كما ترى والحق أن يقال : إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفا والمقام يقتضي أنه عليه السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع اليه
بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه السلام تمنى للموت وطلب منه أم لا فالكثير منهم على أنه طلب وتمنى لذلك قال الامام : ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس الا لله تعالى فيبقى في قلق لايزيله الا الموت فيتمناه وأيضا يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة الا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لاترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام فلذة الاكل عبارة عن دفع ألم الجوع ولذة النكاح عبارة عن دفع الالم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المنى في أوعيته وكذا الامارة والرياسة يدفع بها الالم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج اليه على أن عمدة الملاذ الدنيوية الاكل والجماع والرياسة والكل في نفسه خسيس معيب فان الاكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولاشك أنه مستقذر في نفسه ثم حينما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة والتعفن ومع ذا يشارك الانسان فيه الحيوانات الخسيسة فيلتذ الجعل بالروث التذاذ الانسان باللوزينج وقد قال العقلاء : من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه والجماع نهاية ما يقال فيه : إنه اخراج فضلة متولدة من الطعام بمعونة جلدة مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك وفيه أيضا تلك المشاركة وغاية ما يرجى من ذلك تحصيل الولى الذي يجر إلى شغل البال والتحيل لجمع المال ونحو ذلك والرياسة إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازع فيها ويطمح نظره اليها فصاحبها لم يزل خائفا وجلا من ذلك لكفاها عيبا وقد يقال أيضا : إن النفس خلقت مجبولة على طلب اللذات والعشق الشديد لها والرغبة التامة في الوصول اليها فما دام في هذه الحياة الجسمانية يكون طالبا لها وما دام كذلك فهو في عين الآفات ولجة الحسرات وهذا اللازم مكروه والملزوم مثله فلهذا يتمنى العاقل زوال هذه الحياة الجسمانية ليستريح من ذلك النصب ولله تعالى قول من قال :
(13/62)

ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد وقال : تعب كلها الحياة فما اعجب الا من راغب في ازدياد ان حزنا في ساعة الفوت أضعا ف سرور في ساعة الميلاد وقد ذكر غير واحد أن تمني الموت حبا للقاء الله تعالى مما لابأس به وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها من أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه الحديث نعم تمنى الموت عند نزول البلاء منهي عنه ففي الخبر لايتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقال قوم : انه عليه السلام لم يتمن الموت وانما عدد نعم الله تعالى عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الاسلام وألحقه بالصالحين
والحاصل أنه عليه السلام انما طلب الموافاة على الاسلام لا الوفاة ولا يرد على القولين أنه من المعلوم أن الانبياء عليهم السلام لايموتون الا مسلمين أما لأن الاسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه الله تعالى أو لأن ذلك بيان لأنه وان لم يتخلف ليس الا بارادة الله تعالى ومشيئته 1 والذاهبون الى الاول قالوا أنه عليه السلام لم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله تعالى وكان الحسن يذهب الى القول الثاني ويقول : انه عليه السلام عاش بعد هذا القول سنين كثيرة وروى المؤرخون ان يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة ثم توفى وأوصى أن يدفن بالشام الى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثمت وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة وقيل : أكثر ثم تاقت نفسه الى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله تعالى طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى همموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ففعلوا ثم أراد موسى عليه السلام نقله إلى مدفن آبائه فاخرجه بعد أربعمائة سنة على ماقيل : من صندوق المرمر لثقله وجعله في تابوت من خشب ونقله إلى ذلك وكان عمره مائة وعشرين سنة وقيل : مائة وسبع سنين وقد ولد له من امرأة العزيز أفراثيم وهو جد يوشع عليه السلام وميشا ورحمة زوجة أيوب عليه السلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه عليهم السلام إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام فكان ما كان
وفي التوراة أن يوسف عليه السلام أسكن أباه وإخوته في مكان يقال له عين شمس من أرض السدير وبقي هناك سبع عشرة سنة وكان عمره حين دخل مصر مائة وثلاثين سنة ولما قرب أجله دعا يوسف عليه السلام فجاء ومعه ولده 2 منشأ وهو بكره وافرايم فقدمهما اليه ودعا لهما ووضع يده اليمنى على رأس الاصغر واليسرى على رأس الأكبر وكان يوسف يحب عكس ذلك فكلم أباه فيه فقال : يابني إني لأعلم أن ما يتناسل من هذا الأصغر أكثر مما يتناسل من هذا الأكبر ودعا ليوسف عليه السلام وبارك عليه وقال : يا بني إني ميت كان الله تعالى معكم وردكم إلى بلد أبيكم يابني إذا أنا مت فلا تدفنني في مصر وادفني في مقبرة آبائي وقال : نعم ياأبت وحلف له ثم دعا سائر بنيه وأخبرهم بما ينالهم في أيامهم ثم أوصاهم بالدفن عند آبائه في الأرض التي اشتراها إبراهيم عليه السلام من عفرون الختى في أرض الشام وجعلها مقبرة وبعد أن فرغ من وصيته عليه السلام توفى فانكب يوسف عليه السلام عليه يقبله ويبكي وأقام له حزنا عظيما وحزن عليه أهل مصر كثيرا ثم ذهب به يوسف
(13/63)

واخوته وسائر آله سوى الأطفال ومعهم قواد الملك ومشايخ أهل مصر ودفنوه في المكان الذي أراد ثم رجعوا وقد توهم إخوة يوسف منه عليه السلام أن يسيء المعاملة معهم بعد موت أبيهم عليه السلام فلما علم ذلك منهم قال لهم : لاتخافوا إني أخاف الله تعالى ثم عزاهم وجبر قلوبهم ثم أقام هو وآل أبيه بمصر وعاش مائة وعشر سنين حتى رأى لأفرايم ثلاثة بنين وولد بنو ماخير بن منشا في حجره أيضا ثم لما أحس بقرب أجله قال لأخوته : إني ميت والله سبحانه سيذكركم ويردكم إلى البلد الذي اقسم أن يملكه إبراهيم وإسحق ويعقوب فاذا ذكركم سبحانه وردكم إلى ذلك البلد فاحملوا عظامي معكم ثم توفى عليه السلام فحنطوه وصيروه في تابوت بمصر وبقي إلى زمن موسى عليه السلام فلما خرج حمله حسبما أوصى عليه السلام 1 ذلك إشارة إلى ماذكر من أنباء يوسف عليه السلام وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا والخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم وهو مبتدأ وقوله تعالى : من أنباء الغيب الذي لايحوم حوله أحد خبره وقوله سبحانه : نوحيه إليك خبر بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر وجوز أن يكون ذلك اسما موصولا مبتدأ و من انباء الغيب صلته و نوحيه اليك خبره وهو مبني على مذهب مرجوح من جعل سائر اسماء الاشارة موصولات
وما كنت لديهم يريد اخوة يوسف عليه السلام إذ أجمعوا أمرهم وهو جعلهم اياه في غيابة الجب وهم يمكرون
201
- به ويبغون له الغوائل والجملة قيل : كالدليل على كون ذلك من أنباء الغيب وموحى اليه عليه الصلاة و السلام والمعنى أن هذا النبأ غيب لم تعرفه الا بالوحي لأنك لم تحضر أخوة يوسف عليه السلام حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب وهم يمكرون به ومن المعلوم الذي لايخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلمته منه وهذا من المذهب الكلامي على مانص عليه غير واحد وإنما حذف الشق الأخير مع أن الدال على ماذكر مجموع الأمرين لعلمه من آية أخرى كقوله تعالى : ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل وقال بعض المحققين : إن هذا تهكم بمن كذبه وذلك من حيث أنه تعالى جعل المشكوك فيه كونه عليه السلام حاضرا بين يدي أولاد يعقوب عليه السلام ماكرين فنفاه بقوله : وما كنت لديهم وانما الذي يمكن أن يرتاب فيه المرتاب قبل التعرف هو تلقيه من أصحاب هذه القصة وكان ظاهر الكلام أن ينفى ذلك فما جعل الكشوك مالا ريب فيه لأن كونه عليه الصلاة و السلام لم يلق أحدا ولا سمع كان عندهم كفلق الفجر جاء التهكم البالغ وصار حاصل المعنى قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهدا لمن مضى من القرون الخالية وانكاركم لما أخبر به يفضي الى أن تكابروا بأنه قد شاهد من مضى منهم وهذا كقوله تعالى : أم كنتم شهداء اذ وصاكم الله بهذا ومنه يظهر فائدة العدول عن أسلوب ما كنت تعلمها أنت ولا قومك الى هذا الاسلوب وهو أبلغ مما ذكر أولا وذكر لترك ذلك نكتة أخرى أيضا وهي أن المذكور مكرهم
(13/64)

وما دبروه وهو مما أخفوه حتى لايعلمه غيرهم فلا يمكن تعلمه من الغير ولا يخلو عن حسن وأياما كان ففي الآية إيذان بأن ماذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع وما ينقله أهل الكتاب ليس على ماهو عليه : وما أكثر الناس الظاهر العموم وقال ابن عباس : إنهم أهل مكة ولو حرصت أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك عليهم بمؤمنين
301
- لتصميمهم على الكفر واصرارهم على العناد حسما اقتضاه استعدادهم و حرص من باب ضرب وعلم كلاهما لغة فصيحة وجواب لو محذوف للعلم به والجملة معترضة بين المبتدأ والخبر قال ابن الانباري : سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قصة يوسف عليه السلام فنزلت مشروحة شرحا وافيا فأمل عليه الصلاة و السلام أن يكون ذلك سبب اسلامهم وقيل : إنهم وعدوه أن يسلموا فلما لم يفعلوا عزاه تعالى بذلك وقيل : إنها نزلت في المنافقين وقيل : في النصارى وقيل : في المشركين فقط وقيل : في أهل الكتاب فقط وقيل : في الثنوية وما تسألهم عليه أي هذا الانباء أو جنسه أو القرآن وأيا ما كان فالضمير عائد على ما يفهم مما قبله 1 والمعنى ما تطلب منهم على تبليغه من أجر اي جعل ما كما يفعله حملة الأخبار إن هو إلا ذكر أي ماهو الا تذكير وعظة من الله تعالى للعالمين
401
- كافة والجملة كالتعليل لما قبلها 2 لأن الوعظ العام ينافي أخذ الأجرة من البعض لأنه لايختص بهم وقيل : اريد أنه ليس الا عظة من الله سبحانه امرت أن أبلغها فوجب على ذلك فكيف أسأل أجرا على اداء الواجب وهو خلاف الظاهر وعليه تكون الآية دليلا على حرمة أخذ الاجرة على اداء الواجبات وقرأ مبشر بن عبيد وما نسألهم بالنون
وكأين من ءاية أي وكم من آية قال الجلال السيوطي : إن كأي اسم ككم التكثيرية الخبرية في المعنى مركب من كاف التشبيه وأي الاستفهامية المنونة وحكيت ولهذا جاز الوقف عليها بالنون لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ولذا رسم في المصحف نونا ومن وقف عليها بحذفه أعتبر حكمه في الاصل وقيل : الكاف فيها هي الزائدة قال ابن عصفور : ألا ترى أنك لاتريد بها معنى التشبيه وهي مع ذا لازمه وغير متعلقة بشيء وأي مجرورها وقيل : هي اسم بسيط واختاره أبو حيان قال : ويدل على ذلك تلاعب العرب بها في اللغات وإفادتها للاستفهام نادر حتى أنكره الجمهور ومنه قول أبي لابن مسعود : كأين تقرأ سورةالأحزاب آية فقال : ثلاثا وسبعين والغالب وقوعها خبرية ويلزمها الصدر فلا تجر خلافا لابن قتيبة وابن عصفور ولا يحتاج إلى سماع والقياس على كم يقتضي أن يضاف اليها ولا يحفظ ولا يخبر عنها الا بجملة فعليه مصدرة بماض أو مضارع كما هنا قال أبو حيان : والقياس أن تكون في موضع نصب على المصدر أو الظرف أو خبر كان كما كان ذلك في كم وفي البسيط أنها تكون مبتدأ وخبرا ومفعولا ويقال فيها : كائن بالمذ بوزن اسم الفاعل من كان ساكنة النون وبذلك قرأ ابن كثير وكأ بالقصر بوزن عم وكأي
(13/65)

بوزن رمى وبه قرأ ابن محيصن وكيء بتقديم الياء على الهمزة وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ وكي بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد و آية في موضع التمييز و من زائدة وجر تمييز كأين بها دائمي أو أكثري وقيل : هي مبينة للتمييز المقدر والمراد من الآية الدليل على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته وهي وإن كانت مفردة لفظا لكنها في معنى الجمع أي آيات لمكان كائن والمعنى وكأي عدد شئت من الآيات الدالة على صدق ما جئت به غير هذه الآية في السموات والأرض أي كائنة فيهما من الاجرام الفلكية ومافيها من النجوم وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر مافي الارض من العجائب الفائتة للحصر : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد يمرون عليها يشاهدونها وهم عنها معرضون
501
- غير متفكرين فيها ولا معتبرين بها وفي هذا من تأكيد تعزية صلى الله عليه و سلم وذم القوم مافيه والظاهر أن في السموات والارض في موضع الصفة لآية وجملة يمرون خبر كأين كما أشرنا اليه سابقا وجوز العكس وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد والأرض بالرفع على أن في السموات هو الخبر لكأين والارض مبتدأ خبره الجملة بعده ويكون ضمير عليها للأرض لا للآيات كما في القراءة المشهورة وقرأ السدي والأرض بالنصب على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره يمرون وهو من الاشتغال المفسر بما يوافقه في المعنى وضمير عليها كما هو فيما قبل أي ويطؤون الارض يمرون عليها وجوز أن يقدر يطؤن ناصبا للأرض وجملة يمرون حال منها أو من ضمير عاملها
وقرأ عبدالله والأرض بالرفع و يمشون بدل يمرون والمعنى على القراآت الثلاث أنهم يجيئون ويذهبون في الأرض ويرون آثار الامم الهالكة وما فيها من الآيات والعبر ولا يتفكرون في ذلك
وما يؤمن أكثرهم بالله في اقرارهم 1 بوجوده تعالى وخالقيته إلا وهم مشركون
601
- به سبحانه والجملة في موضع الال من الاكثر أي مايؤمن أكثرهم الا في حال اشراكهم قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة : هم أهل مكة آمنوا وأشركوا كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك لبيك لاشريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك ومن هنا كان صلى الله عليه و سلم اذا سمع احدهم يقول : لبيك لاشريك لك يقول له : قط قط أي يكفيك ذلك ولا تزد الا شريكا الخ وقيل : هم أولئك آمنوا لما غشيهم الدخان في سني القحط وعادوا الى الشرك بعد كشفه وعن ابن زيد وعكرمة وقتادة ومجاهد أيضا أن هؤلاء كفار العرب مطلقا أقروا بالخالق الرازق المميت وأشركوا بعبادة الاوثان والاصنام وقيل : أشركوا بقولهم : الملائكة بنات الله سبحانه وعن ابن عباس أيضا أنهم أهل الكتاب أقروا بالله تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أو من حيث عبدوا عزيزا والمسيح عليهما السلام
وقيل : أشركوا بالتبني واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا وقيل : هم الكفار الذين يخلصون في الدعاء عند الشدة ويشركون اذا نجوا منها وروى ذلك عن عطاء وقيل : هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة وقيل :
(13/66)

هم المنافقون جهروا بالايمان واخفوا الكفر ونسب ذلك للبلخي وعن الحبر أنهم المشبهة آمنوا مجملا وكفروا مفصلا وعن الحسن أنهم المراؤون بأعمالهم والرياء شرك خفي وقيل : هم المناظرون الى الاسباب المعتمدون عليها وقيل : هم الذين يطيعون الخلق بمعصية الخالق وقد يقال نظرا الى مفهوم الآية : إنهم من يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلا وكان مرتكبا مايعد شركا كيفما كان ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها وهم اليوم أكثر من الدود واحتجت الكرامية بالآية على أن الايمان مجرد الاقرار باللسان وفيه نظر أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أي عقوبة تغشاهم وتشملهم والاستفهام انكار فيه معنى التوبيخ والتهديد كما في البحر والكلام في العطف ومحل الاستفهام في الحقيقة مشهور وقد مر غير مرة والمراد بهذه العقوبة ما يعم الدنيوية والاخروية على ما قيل وفي البحر ما هو صريح في الدنيوية للمقابلة بقوله سبحانه : أو تأتيهم الساعة بغتة فجأة من غير سابقة علامة وهو الظاهر وهم لايشعرون
701
- باتيانها غير مستعدين لها قل هذه سبيلي أي هذه السبيل التي هي الدعوة الى الايمان والتوحيد سبيلي كذا قالوا والظاهر أنهم أخذوا الدعوة الى الايمان من قوله تعالى وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين لإفادة أنه يدعوهم الى الايمان بجد وحرص وان لم ينفع فيهم والدعوة الى التوحيد من قوله سبحانه : وما يؤمن أكثرهم لدلالته على أن كونه ذكرا لهم لاشتماله على التوحيد لكنهم لايرفعون له رأسا كسائر آيات الآفاق والانفس الدالة على توحده تعالى ذاتا وصفات وفسر ذلك بقوله تعالى : أدعوا الى الله أي أدعوا الناس الى معرفته سبحانه بصفات كماله ونعوت جلاله ومن جملتها التوحيد فالجملة لامحل لها من الاعراب وقيل : ان الجملة في موضع الحال من الياء والعامل فيها معنى الاشارة وتعقب بأن الحال في مثله من المضاف اليه مخالفة للقواعد ظاهرا وليس ذلك مثل أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا واعترض أيضا بأن فيه تقييد الشيء بنفسه وليس ذاك على بصيرة أي بيان وحجة واضحة غير عمياء والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير أدعو وزعم أبو حيان أن الظاهر تعلقه بأدعو وقوله تعالى : أنا تأكيد لذلك الضمير أو للضمير الذي في الحال وقوله تعالى : ومن اتبعني عطف على ذي الحال ونسبة أدعو اليه من باب التغليب كما قرر في قوله تعالى : اسكن أنت وزوجك الجنة ومنهم من قدر في مثله فعلا عاملا في المعطوف ولم يعول عليه المحققون ومنع عطفه على أنا لكونه تأكيدا ولا يصح في المعطوف كونه تأكيدا كالمعطوف عليه واعترض بأن ذلك غير لازم كما يقتضيه كلام المحققين وجوز كون من مبتدأ خبره محذوف أي ومن اتبعني كذلك أي داع وأن يكون عل بصيرة خبرا مقدما وأنا مبتدأ ومن عطف عليه وقوله تعالى وسبحان الله أي وأنزهه سبحانه وتعالى تنزيها من الشركاء وهو داخل تحت القول وكذا وما أنا من المشركين
801
- في وقت من الاوقات والكلام مؤكد لما سبق من الدعوة الى الله تعالى وقرأ عبدالله قل هذا سبيلي على التذكير والسبيل تؤنث وقد تذكر وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا رد لقولهم : لو شاء ربك لأنزل ملائكة نفي له وقيل : المراد نفي استنباء النساء ونسب ذلك الى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وزعم
(13/67)

بعضهم أن الآية نزلت 1 في سجاح بنت المنذر المنبئة التي يقول فيها الشاعر : أمست نبيتنا أنثى تطوف بها ولم تزل أنبياء الله ذكرانا فلعنة الله والاقوام كلهم على سجاح ومن بالافك أغرانا أعني مسيلمة الكذاب لاسقيت اصداؤه ماء مزن أينما كانا وهو مما لاصحة له لأن ادعاءها النبوة كان بعد النبي صلى الله عليه و سلم وكونه أخبارا بالغيب لا قرينة عليه نوحي اليهم كما أوحينا اليك وقرا أكثر السبعة يوحى بالياء وفتح الحاء مبنيا للمفعول وقراءة النون وهي قراءة حفص وطلحة وأبي عبدالرحمن موافقة لأرسلنا من أهل القرى لأن أهلها كما قال ابن زيد وغيره : وهو مما لاشبهة فيه أعلم وأحلم من أهل البادية ولذا يقال : لأهل البادية أهل الجفاء وذكروا أن التبدي مكروه الا في الفتن وفي الحديث من بدا جفا قال قتادة : مانعلم أن الله تعالى أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى ونقل عن الحسن أنه قال : لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن وقوله تعالى : وجاء بكم من البدو قد مر الكلام فيه آنفا
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من المكذبين بالرسل والآيات من قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح وسائر من عذبه الله تعالى فيحذروا تكذيبك وروى هذا عن الحسن وجوز أن يكون المراد عاقبة الذين من قبلهم من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا ويكفوا عن حبها وكأنه لاحظ المجوز ماسيذكر والاستفهام على مافي البحر للتقريع والتوبيخ ولدار الآخرة من إضافة الصفة إلى الموصوف عند الكوفية أي ولا الدار الآخرة وقدر البصري موصوفا أي ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة وهو المختار عند التكثير في مثل ذلك خير للذين أتقوا الشرك والمعاصي : أفلا تعقلون
901
- فتستعملوا عقولكم لتعرفوا خيرية دار الآخرة فتتوسلوا اليها بالاتقاء قيل : إن هذا من مقول قل أي قل لهم مخاطبا أفلا تعقلون فالخطاب على ظاهره وقوله سبحانه : وما أرسلنا من قبلك إلى من قبلهم أو اتقوا اعتراض بين مقول القول واستظهر بعضهم كون هذا التفاتا وقرأ جماعة يعقلون بالياء رعيا لقوله سبحانه : أفلم يسيروا حتى أذا استيئس الرسل غاية لمحذوف دل عليه السياق والتقدير عند بعضهم لايغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فان من قبلهم قد أمهلوا حتى يئس الرسل من النصر عليهم في الدنيا أو من إيمانهم لأنهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع وقال أبو الفرج بن الجوزي : التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الخ وقال القرطبي : التقدير وما أرسلنا من قبلك الا رجالا ثم لم نعاقب اممهم حتى إذا استيأس الخ وقال الزمخشري : التقدير وما أرسلنا من قبلك الا رجالا فتراخى النصر حتى إذا الخ ولعل الأول أولى وان كان فيه كثرة حذف والاستفعال بمعنى المجرد كما أشرنا
(13/68)

اليه وقد مر الكلام في ذلك وظنوا أنهم قد كذبوا بالتخفيف والبناء للمفعول وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وأبى وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والاعمش والكوفيين واختلف في توجيه الآية على ذلك فقيل : الضمائر الثلاثة للرسل والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الاصلي ولا بمعناه المجازي أعني اليقين وفاعل كذبوا المقدر إما أنفسهم أو رجاؤهم فانه يوصف بالصدق والكذب أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون أو كذبهم رجاؤهم النصر والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا جاءهم نصرنا فجأة وقيل : الضمائر كلها للرسل والظن بمعناه وفاعل كذبوا المقدر من أخبرهم عن الله تعالى وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج الطبراني وغيره عن عبدالله بن أبي مليكة قال : إن ابن عباس قرأ قد كذبوا مخففة ثم قال : يقول اختلفوا وكانوا بشرا وتلا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله قال ابن أبي مليكة : فذهب ابن عباس الى أنهم يئسوا أو ضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا وروى ذلك عنه البخاري في الصحيح واستشكل هذا بأن فيه مالايليق نسبته الى الانبياء عليهم السلام بل الى صالحي الامة ولذا نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك فقد أخرج البخاري والنسائي وغيرهمامن طريق عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية قال : قلت أكذبوا أم كذبوا فقالت عائشة بل كذبوا يعني فقلت : لعله وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة قالت : معاذ الله تعالى لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت : فما هذه الآية قالت : هم اتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى اذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر الله تعالى عند ذلك
وأجاب بعضهم بأنه يمكن أن يكون أراد رضي الله تعالى عنه بالظن مايخطر بالبال ويهجس بالقلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها أيضا إلى الرسل مائلا إلى ما روى عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته فان الالقاء في قلبه وفي لسانه وفي عمله من باب واحد والله تعالى ينسخ مايلقي الشيطان ثم قال : والظن لايراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما فقد قال صلى الله عليه و سلم : إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث وقال سبحانه : إن الظن لايغني عن الحق شيئا فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم وهذا قد يكون ذنبا يضعف الايمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما قال عليه الصلاة و السلام : إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يارسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى الله عليه و سلم : أوقد وجدتموه قالوا : نعم قال : ذلك صريح الايمان وفي حديث آخر إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال : الحمد لله
(13/69)

الذي رد كيده إلى الوسوسة ونظير هذا ماصح من قوله صلى الله عليه و سلم : نحن أحق بالشك من ابراهيم عليه السلام إذ قال له ربه : أولم تؤمن قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي فسمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم التفاوت بين الايمان والاطمئنان شكا باحياء الموتى وعلى هذا يقال : الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمنا بانجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه كذب فالشك وظن أنه كذب من باب واحد وهذه الامور لاتقدح في الايمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب فالانبياء عليهم السلام معصومون من الاقرار على ذلك كما في أفعالهم على ماعرف من أصول السنة والحديث وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين عليهم السلام فانهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلى من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالانبياء ومن هنا قال سبحانه : لقد كان في قصصهم عبرة ولو كان المتبوع معصوما مطلقا لايتأتى الإتساء فانه يقول : التابع أنا لست من جنسه فانه لايذكر بذنب فاذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ماإذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فانه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل : أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم
ومن يشابه أبه فما ظلم
ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الامر بالاقتداء بهم فيما أقروا ليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ماأمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه
ولا يخفى أن ماذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الانبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقروا على ذلك والقول به جهل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم على أن في كلامه بعد مافيه وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فانه ما لابأس به وكذا لابأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ماهو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فان ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الانبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بان شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزم كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر وقيل : ان الضمائر الثلاثة للمرسل اليهم لأن ذكر الرسل متقاض ذاك ونظير ذلك قوله : أمنك البرق أرقبه فهاجا وبت اخاله دهما خلاجا فان ضمير اخاله للرعد ولم يصرح به بل اكتفى بوميض البرق عنه وان شئت قلت : ان ذكرهم قد جرى في قوله تعالى : أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم فيكون الضمير للذين من قبلهم ممن كذب الرسل عليهم السلام والمعنى ظن المرسل اليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة وفيما وعدوا به من لم يؤمن من العقاب وروى ذلك عن ابن عباس أيضا فقد أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي وابن جرير وغيرهم من طرق عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ كذبوا مخففة ويقول : حتى إذا يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم ان الرسل قد
(13/70)

كذبوهم فيما جاؤا به جاء الرسل نصرنا وروى ذلك أيضا عن سعيد بن جبير أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ربيعة بن كلثوم قال : حدثني أبي أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير فقال : ياأبا عبدالله آية قد بلغت مني كل مبلغ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا فان الموت أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مثقلة أو تظن أنهم قد كذبوا مخففة فقال سعيد : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبتهم جاءهم نصرنا فقام مسلم اليه فاعتنقه وقال : فرج الله تعالى عنك كما فرجت عني وروى أنه قال ذلك بمحضر من الضحاك فقال له : لو رحلت في هذه الى اليمن لكان قليلا وقيل : ضمير ظنوا للمرسل اليهم وضمير أنهم و كذبوا للرسل عليهم السلام أي وظنوا أن الرسل عليهم السلام اخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الامر عليهم وقرأ غير واحد من السبعة والحسن وقتادة ومحمد ابن كعب وأبو رجاء وابن أبي مليكة والاعرج وعائشة في المشهور كذبوا بالتشديد والبناء للمفعول والضمائر على هذا للرسل عليهم عليهم السلام أي ظن الرسل أن اممهم كذبوهم فيما جاءوا به لطول البلاء عليهم فجاءهم نصر الله تعالى عند ذلك وهو تفسير عائشة رضي الله تعالى عنها الذي رواه البخاري عليه الرحمة والظن بمعناه أو بمعنى اليقين أو التوهم وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنهم قرؤوا كذبوا مخففا مبنيا للفاعل فضمير ظنوا للأمم وضمير أنهم قد كذبوا للرسل أي ظن المرسل اليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوهم به من النصر أو العقاب وجوز أن يكون ضمير ظنوا للرسل وضمير أنهم قد كذبوا للمرسل اليهم أي ظن الرسل عليهم السلام أن الأمم كذبتهم فيما وعدوهم به من أنهم يؤمنون والظن الظاهر كما قيل : إنه بمعنى اليقين وقريء كما قال أبو البقاء : كذبوا بالتشديد والبناء للفاعل وأول ذلك بأن الرسل عليهم السلام ظنوا أن الأمم قد كذبوهم في وعدهم هذا والمشهور استشكال الآية من جهة أنها متضمنة ظاهرا على القراءة الأولى نسبة مالايليق من الظن إلى الانبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام واستشكل بعضهم نسبة الاستيآس اليهم عليهم السلام أيضا بناء على أن الظاهر أنهم استيأسوا مما وعدوا به وأخبروا بكونه فان ذلك أيضا مما لايليق نسبته اليهم وأجيب بأنه لايراد ذلك وإنما يراد أنهم استيأسوا من إيمان قومهم
واعترض بأنه يبعده عطف وظنوا أنهم قد كذبوا الظاهر في أنهم ظنوا كونهم مكذوبين فيما وعدوا به عليه
وذكر المجد في هذا المقام غير ماذكره أولا وهو أن الاستيآس وظن أنهم مكذوبين كليهما متعلقان بما ضم للموعود به اجتهادا وذلك أن الخبر عن استيآسهم مطلق وليس في الآية مايدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا بكونه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الله تعالى إذا وعد الرسل بنصر مطلق كما هو غالب اخباراته لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق تعالى بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما اعتقد طائفة من الصحابة رضي الله عنهم إخبار النبي صلى الله عليه و سلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية لأن النبي صلى الله عليه و سلم خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى فلما استيئسوا من ذلك ذلك العام لما صدهم المشركون حتى قاضاهم عليه الصلاة و السلام على الصلح المشهور بقى في قلب بعضهم شيء قال عمر رضي الله تعالى عنه مع أنه كان
(13/71)

من المحدثين : ألم تخبرنا يارسول الله أنا ندخل البيت وتطوف قال : بلى أفاخبرتك إنك تدخله هذا العام قال : لا قال : إنك داخله ومطوف به وكدلك قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه فبين له أن الوعد منه عليه الصلاة و السلام كان مطلقا غير مقيد بوقت وكونه صلى الله عليه و سلم سعى في ذلك العام إلى مكة وقصدها لايوجب تخصيصا لوعده تعالى بالدخول في تلك السنة ولعله عليه الصلاة و السلام إنما سعى بناء على ظن أن يكون الامر كذلك فلم يكن ولا محذور في ذلك فليس من شرط النبي صلى الله عليه و سلم أن يكون كل ماقصده بل من تمام نعمة الله تعالى عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية ولايضر أيضا خروج الامر على خلاف مايظنه عليه الصلاة و السلام فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة و السلام قال في تأبير النخل : إنما ظننت ظنا فلا تؤاخدوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله تعالى شيئا فخذوا به فانى لن أكذب على الله تعالى ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم في حديث ذي اليدين : ما قصرت الصلاة ولانسيت ثم تبين النسيان وفي قصة الوليد بن عقبة النازل فيها إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية وقصة بني أبيرق النازل فيها إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله ولا تكن للخائنين خصيما مافيه كفاية في العلم بأنه صلى الله عليه و سلم قد يظن الشيء فيبينه الله تعالى على وجه آخر وإذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو هو هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الاحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك لكن لايقرون عليه فانه لاشك أن هذا دون الخطأ في ظن ماليس من الاحكام الشرعية في شيء وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال : إن أولئك عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتا حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية لدخول مكة فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزما له أصلا فلا محذور وأنت تعلم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول حمى ما لايليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم صلى الله تعالى عليهم وسلم والله تعالى أعلم والظاهر أن ضمير جاءهم على سائر القراآت والوجوه للرسل وقيل : إنه راجع اليهم وإلى المؤمنين جاء الرسل ومن آمن بهم نصرنا فنجى من نشاء أنجاه وهم الرسل والمؤمنون بهم وإنما لم يعينوا للاشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم
وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب فنجى بنون واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنه ماض مبني للمفعول و من نائب الفاعل وقرأ مجاهد والحسن والجحدري وطلحة وابن هرمز كذلك إلا أنهم سكنوا الياء وخرجت على أن الفعل ماض أيضا كما في القراءة التي قبلها إلا أنه سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء مطلقا ومنه قراءة من قرأ ما تطعمون أهليكم بسكون الياء وقيل : الاصل ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم ورده أبو حيان بأنها لاتدغم فيها وتعقب بأن بعضهم قد ذهب إلى جواز ادغامها ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع وقرأت فرقة كما قرأ باقي السبعة بنونين مضارع أنجى إلا أنهم فتحوا الياء ورواها هبيرة عن حفص عن عاصم وزعم ابن عطية أن ذلك غلط من هبيرة إذ لاوجه للفتح وفيه أن الوجه ظاهر فقد ذكروا أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا باضمار أن بعد الفاء كقراءة
(13/72)

من قرأ وإن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر بنصب يغفر ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة
وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة وابن السميقع وعيسى البصرة وابن محيصن وكذا الحسن ومجاهد في رواية فنجا ماضيا مخففا و من فاعله وروى عن ابن محيصن أنه قرأ كذلك إلا أنه شدد الجيم والفاعل حينئذ ضمير النصر و من مفعوله وقد رجحت قراءة عاصم ومن معه بأن المصاحف اتفقت على رسمها بنون واحدة وقال مكي : أكثر المصاحف عليه فأشعر بوقوع خلاف في الرسم وحكاية الاتفاق نقلت عن الجعبري وابن الجزري وغيرهما وعن الجعبري أن قراءة من قرأ بنونين توافق الرسم تقديرا لأن النون الثانية ساكنة مخفاة عند الجيم كما هي مخفاة عند الصاد والظاء في لننصر والاخفاء لكونه سترا يشبه الادغام لكونه تغييبا فكما يحذف عند الادغام يحذف عند الاخفاء بل هو عنده أولى لمكان الاتصال وعن أبي حيوة أنه قرأ فنجى من يشاء بياء الغيبة أي من يشاء الله تعالى نجاته ولايرد بأسنا عذابنا عن القوم المجرمين
11
- إذا نزل بهم وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين وقرأ الحسن بأسه بضمير الغائب أي بأس الله تعالى ولا يخفى مافي الجملة من التهديد والوعيد لمعاصري النبي صلى الله عليه و سلم لقد كان في قصصهم أي قصص الانبياء عليهم السلام وأممهم وقيل : قصص يوسف وأبيه وأخوته عليهم السلام وروى ذلك عن مجاهد وقيل : قصص أولئك وهؤلاء والقصص مصدر بمعنى المفعول ورجح الزمخشري الأول بقراءة أحمد بن جبير الانطاكي عن الكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو قصصهم بكسر القاف جمع قصة ورد بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة على أنه قد يطلق الجمع على الواحد وفيه أنه كما قيل الا أنه خلاف المتبادر المعتاد فانه يقال في مثله قصة لاقصص واقتصر ابن عطية على القول الثالث وهو ظاهر في اختياره عبر لأولى الالباب أي لذوي العقول المبرأة عن الاوهام الناشئة عن الالف والحس وأصل اللب الخالص من الشيء ثم انطلق على ما زكا من العقل فكل لب عقل وليس كل عقل لبا وقال غير واحد : إن اللب هو العقل مطلقا وسمي بذلك لكونه خالص مافي الانسان من قواه ولم يرد في القرآن الا جمعا والعبرة كما قال الراغب الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد الى ما ليس بمشاهد وفي البحر أنها الدلالة التي تعبر بها الى العلم ما كان أي القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة واستظهر أبو حيان عود الضمير الى القصص فيما قبل واختار بعضهم الأول لأنه يجري على القراءتين بخلاف عوده الى المتقدم فانه لايجري على قراءة القصص بكسر القاف لأنه كان يلزم تأنيث الضمير وجوز بعضهم عوده الى القصص في القراءة به واليه في ضمن المكسور في القراءة به وكذا الى المكسور نفسه والتذكير باعتبار الخبر وهو كما ترى حديثا يفترى أي يختلق ولكن تصديق الذي بين يديه من الكتب السماوية وتفصيل أي تبين كل شيء قيل : أي مما يحتاج اليه في الدين اذ ما من أمر ديني الا وهو يستند الى القرآن بالذات أو بواسط وقال ابن الكمال : إن كل للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم
(13/73)

كما في قوله تعالى : و أوتيت من كل شيء ومن لم ينتبه لهذا احتاج إلى تخصيص الشيء بالذي يتعلق بالدين ثم تكلف في بيانه فقال : إذ مامن أمر الخ ولم يدر أن عبارة التفضيل لاتتحمل هذا التأويل ورد بأنه متى أمكن حمل كلمة كل على الاستغراق الحقيقي لايحمل على غيره والتخصيص مما لابأس به على أنه نفسه قد ارتكب ذلك في تفسير قوله تعالى : وتفصيلا لكل شيء وكون عبارة التفصيل لاتتحمل ذلك التأويل في حيز المنع ومن الناس من حمل كل على الاستغراق من غير تخصيص ذاهبا إلى أن القرآن تبين كل شيء من أمور الدين والدنيا وغير ذلك مما شاء الله تعالى ولكن مراتب التبيين متفاوتة حسب تفاوت ذوي العلم وليس ذلك بالبعيد عند من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وقيل : المراد تفصيل كل شيء واقع ليوسف وأبيه واخوته عليهم السلام مما يهتم به وهو مبني على أن الضمير في كان لقصصهم وهدى من الضلالة ورحمة ينال بها خير الدارين لقوم يؤمنون
111
- يصدقون تصديقا به وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك ونصب تصديق على أنه خبر كان محذوفا أي ولكن كان تصديق والاخبار بالمصدر لايخفى أمره
وقرأ حمران بن أعين وعيسى الكوفة فيما ذكر صاحب اللوامح وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية تصديق بالرفع وكذا برفع ماعطف عليه على تقدير ولكن هو تصديق الخ وقد سمع من العرب في مثل ذلك الرفع والنصب ومنه قول ذي الرمة : وما كان مالي من تراث ورثته ولا دية كانت ولا كسب مأثم ولكن عطاء الله من كل رحلة الى كل محجوب السرداق خضرم فانه روى بنصب عطاء ورفعه هذا والله تعالى الهادي إلى سوء السبيل
ومن باب الاشارة في هذه السورة قال سبحانه : نحن نقص عليك أحسن القصص وهو اقتصاص ماجرى ليوسف عليه السلام وأبيه واخوته عليهم السلام وإنما كان ذلك أحسن القصص لتضمنه ذكر العاشق والمعشوق وذلك مما ترتاح له النفوس أو لما فيه من بيان حقائق محبة المحبين وصفاء سر العارفين والتنبيه على حسن عواقب الصادقين والحث على سلوك سبيل المتوكلين والاقتداء بزهد الزاهدين والدلالة على الانقطاع إلى الله تعالى والاعتماد عليه عند نزول الشدائد والكشف عن أحوال الخائنين وقبح طرائق الكاذبين وابتلاء الخواص بأنواع المحن وتبديلها بأنواع الالطاف والمنن مع ذكر مايدل على سياسة الملوك وحالهم مع رعيتهم إلى غير ذلك وقيل : لخلو ذلك من الأوامر والنواهي التي يشغل سماعها القلب إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين هذه أول مبادى الكشوف فقد ذكروا أن أحوال المكاشفين أوائلها المنامات فاذا قوى الحال تصير الرؤيا كشفا قيل : إنه عليه السلام قد سلك به نحوا مما سلك برسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك أنه بدىء بالرؤيا الصادقة كما بدىء رسول الله صلى الله عليه و سلم بها فكان لايرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح ثم حبب اليه الخلاء على مايشير اليه قوله : رب السجن أحب إلي كما حبب إلي رسول الله عليه الصلاة و السلام فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد وفيه أن حديث السجن بعد إيتاء النبوة فتدبر
وذكر بعض الكبار أن يوسف عليه السلام كان آدم الثاني لما كان عليه من كسوة الربوبية ما كان
(13/74)

على آدم عليه السلام وهو مجلى الحق للخلق لو يعلمون فلما رأت الملائكة مارأت من آدم سجدوا له وههنا سجد ليوسف من سجد وهم الشمس والقمر والكواكب المعدودة المشار بهم إلى أبويه وإخوته الذين هم على القول بنبوتهم خير من الملائكة عليهم السلام ولا بدع إذ سجدوا لمن يتلألأ من وجهه الأنوار القدسية والاشعة السبوحية
لويسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة ركعا وسجودا وقد يقال : إن إبراهيم عليه السلام لما رأى في وجنة الكوكب ونقطة حال القمر وأسرة جبين الشمس أمارت الحدثان وصرف وجهه عنها متوجها إلى ساحة القدم المنزهة عن التغير المصونة عما يوجب النقص قائلا : إني بريء مما تشركون أسجد الله تعالى الشمس والقمر واسجد بدل الكواكب كواكب لبعض بنيه اعظاما لأمره ومبالغة في تنزيه جلال الكبرياء وحيث تأخرت البراءة إلى الثالث تأخر أمر الاسجاد إلى ثالث البنين وليس المقصود من هذا الا بيان بعض من أسرار تخصيص المذكور بالاراءة مع احتمال أن يكون هناك مايصلح أن يكون رؤياه ساجدا معبرا بسجود أبويه واخوته له عليهم السلام في عالم الحسن فتدبر
قال يابني لاتقصص رؤياك على إخوتك فيه إشارة إلى بعض آداب المريدين فقد قالوا : انه لاينبغي لهم أن يفشوا سر المكاشفة الا لشيوخهم والا يقعوا في ورطة ويكونوا مرتهنين بعيون الغيرة
بالسر ان باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح فيكيدوا لك كيدا هذا من الالهامات المجملة وهي انذارات وبشارات ويجوز أن يكون علم عليه السلام ذلك من الرؤيا قال بعضهم : إن يعقوب دبر ليوسف عليهما السلام في ذلك الوقت خوفا عليه فوكل إلى تدبيره فوقع به ماوقع ولو ترك التدبير ورجع إلى التسليم لحفظ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين وذلك كسواطع نور الحق من وجهه وظهور علم الغيب من قبله ومزيد الكرم من أفعاله وحسن عقبى الصبر من عاقبته وكسوء حال الحاسد وعدم نقض ماأبرمه الله تعالى وغير ذلك وقال بعضهم : إن من الآيات في يوسف عليه السلام أنه حجة على كل من حسن الله تعالى خلقه أن لايشوهه بمعصيته ومن لم يراع نعمة الله تعالى فعصى كان أشبه شيء بالكنيف المبيض والروث المفضض
وقال ابن عطاء : من الآيات أن لايسمع هذه القصة محزون مؤمن بها إلا استروح وتسري به مافيه وجاؤا أباهم عشاءا يبكون قيل : إن ذلك كان بكاء فرح بظفرهم بمقصودهم لكنهم أظهروا أنه بكاء حزن أجرا في الظلمة على الاعتذار أو ليدلسوا على أبيهم ويوهموه أن ذلك بكاء حقيقة لاتباك فانهم لو جاؤا ضحى لافتضحوا
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فصبر جميل وهو السكون إلى موارد القضاء سرا وعلنا وقال يحيى بن معاذ : الصبر الجميل أن يتلقى البلاء بقلب رحيب ووجه مستبشر وقال الترمذي : هو أن يلقى العبد عنانه إلى مولاه ويسلم اليه نفسه مع حقيقة المعرفة فاذا جاء حكم من أحكامه ثبت له مسلما ولا يظهر لوروده جزعا ولا يرى لذلك مغتما وأنشد الشبلي في حقيقة الصبر
(13/75)

عبرات خططن في الخد سطرا فقراه من لم يكن قط يقرا صابر الصبر فاستغاث به الصبر فصاح المحب بالصبر صبرا قال يابشرى هذا غلام قال جعفر : كان لله تعالى في يوسف عليه السلام سر فغطى عليهم موضع سره ولو كشف للسيارة عن حقيقة ماأودع في ذلك البدر الطالع من برج دلوهم لما اكتفى قائلهم بذلك ولما اتخذوه بضاعة ولهذا لما كشف للنسوة بعض الامر قلن : ماهذا بشرا ان هذا الا ملك كريم ولجهلهم أيضا بماأودع فيه من خزائن الغيب باعوه بثمن بخس وهو معنى قوله سبحانه : وشروه بثمن بخس قال الجنيد قدس سره : كل ما وقع تحت العد والاحصاء فهو بخس ولو كان جميع مافي الكونين فلا يكن حظك البخس من ربك فتميل اليه وترضى به دون ربك جل جلاله وقال ابن عطاء : ليس ما باع اخوة يوسف من نفس لايقع عليها البيع بأعجب من بيع نفسك بأدنى شهوة بعد أن بعتها من ربك بأوفر الثمن قال الله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين الآية فبيع ماتقدم بيعه باطل وانما باع يوسف أعداؤه وأنت تبيع نفسك من أعدائك وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه قيل : أي لاتنظري اليه نظر الشهوة فان وجهه مرآة تجلى الحق في العالم أولا تنظري اليه بنظر العبودية ولكن انظري اليه بنظر المعرفة لتري فيه أنوار الربوبية أو اجعلي محبته في قلبك لافي نفسك فان القلب موضع المعرفة والطاعة والنفس موضع الفتنة والشهوة عسى أن ينفعنا قيل : أي بأن يعرفنا منازل الصديقين ومراتب الروحانيين ويبلغنا ببركة صحبته الى مشاهدة رب العالمين وقيل : أراد حسنى صحبته في الدنيا لعله أن يشفع لنا في العقبى وراودته التي هو في بيتها حيث غلب عليها العشق وغلقت الابواب قطعت الاسباب وجمعت الهمة إليه أو غلقت ابواب الدار غيرة أن يرى أحد أسرارهما ولقد هممت به قال ابن عطاء : هم شهوة وهم بها هم زجر عما همت به بضرب أو نحوه لولا أن رأى برهان ربه وهو الواعظ الالهي في قلبه كذلك لنصرف عنه السوء والخواطر الرديئة والفحشاء الافعال القبيحة وقيل : البرهان هو انه لم يشاهد في ذلك الوقت الا الحق سبحانه وتعالى وقيل : هو مشاهدة أبيه يعقوب عليه السلام عاضا على سبابته وجعل ذلك بعض أجلة مشايخنا أحد الأدلة على أن للرابطة المشهورة عند ساداتنا النقشبندية أصلا أصيلا وهو على فرض صحته بمراحل عن ذلك واستبقا الباب فرارا من محل الخطر : قيل : لو فر الى الله تعالى لكفاه ولما ناله بعد ما عناه وألفيا سيدها لدى الباب قالت ماجزاء من أراد بأهلك سوءا نفت عن نفسها الذنب لأنها علمت إذ ذاك أنها لو بينت الحق لقتلت وحرمت من حلاوة محبة يوسف والنظر الى وجهه
لحبك أحببت البقاء لمهجتي فلا طال إن أعرضت عني بقائيا وإنما عرضت بنسبة الذنب اليه لعلمها بانه عليه السلام لم يبق في البؤس ولا يقدر أحد على أن يؤذيه لما أن وجهه سالب القلوب وجالب الأرواح
له في طرفه لحظات سحر يميت بها ويحيى من يريد ويسبي العالمين بمقلتيه كأن العالمين له عبيد وقال ابن عطاء : إنها إذ ذاك لم تستغرق في محبته بعد فلذا لم تخبر بالصدق وآثرت نفسها عليه ولهذا لما استغرقت في المحبة آثرت نفسه على نفسها فقالت : الآن حصحص الحق الآية ثم أنه عليه السلام لم يسعه بعد تهمتها
(13/76)

له الا الذب عن ساحة النبوة التي هي أمانة الله تعالى العظمى فقال : هي راودتني عن نفسي والا فاللائق بمقام الكرم السكوت عن جوابها لئلا يفضحها وقيل : إنها ادعت محبة يوسف وتبرأت منها عند نزول البلاء أراد يوسف عليه السلام أن يلزمها ملامة المحبة فان الملامة شعار المحبين ومن لم يكن ملوما في العشق لم يكن متحققا فيه أن كيدكن عظيم عظم كيدهن لأنهن إذا ابتلين بالحب أظهرن مما يجلب القلب ما يعجز عنه ابليس مع مساعدة الطبيعة الى الميل اليهن وقوة المناسبة بين الرجال وبينهن كما يشير اليه قوله تعالى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها فما في العالم فتنة أضر على الرجال من النساء قد شغفها حبا قال الجنيد قدس سره : الشغف أن لايرى المحب جفاء له جفاء بل يراه عدلا منه ووفاء
وتعذيبكم عذب لدى وجوركم على بما يقضى الهوى لكم عدل إنا لنراها في ضلال مبين قال ابن عطاء : في عشق مزعج فلما رأينه أكبرنه عظمنه لما رأين في وجهه نور الهيبة وقطعن أيديهن لاستغراقهن في عظمته وجلاله ولعله كشف لهن مالم يكشف لزليخا قال ابن عطاء : دهشن في يوسف وتحيرن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بالالم وهذه غلبة مشاهدة مخلوق لمخلوق فكيف بمن يحظى بمشاهدة من الحق فينبغي أن لاينكر عليه إن تغير وصدر عنه ماصدر وأعظم من يوسف عليه السلام في هذا الباب عند ذوي الابصار السليمة النور المحمدي المنقدح من النور الالهي والمتشعشع في مشكاة خاتم الرسل عليه الصلاة و السلام فانه لعمري أبو الأنوار وما نور يوسف بالنسبة الى نوره عليه الصلاة و السلام الا النجم وشمس النهار
لواحي زليخا لو رأين جبينه لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي وقلن : ماهذا بشرا إن هذا الا ملك كريم قلن ذلك اعظاما له عليه السلام من أن يكون من النوع الانساني قال محمد بن علي رضى الله تعالى عنهما : أردن ماهذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة بل مثله من يكرم وينزه عن مواضع الشبه والاول أوفق بقولها : فذلكن الذي لمتنني فيه أرادت أن لو مكن لم يقع في محزه وكيف يلام من هذا محبوبه وكأنها أشارت إلى أنها مجبورة في ذلك الوله معذورة في مزيد حبها له : خليلي إني قلت بالعدل مرة ومنذ علاني الحب مذهبي الجبر وفي ذلك اشارة أيضا إلى أن اللوم لايصدر الا عن خلي ولذا لم تعاتبهن حتى رأت ماصنع الهوى بهن وما أحسن ماقيل : وكنت إذا ما حدث الناس بالهوى ضحكت وهم يبكون في حسرات فصرت إذا ماقيل هذا متيم تلقيتهم بالنوح والعبرات وقال سلطان العاشقين : دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى فاذا عشقت فبعد ذلك عنف قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه قيل : لأن السجن مقام الانس والخلوة والمناجاة والمشاهدات والمواصلات وفيما يدعونه اليه مايوجب البعد عن الحضرة والحجاب عن مشاهدة القربة وقيل : طلب السجن ليحتجب عن زليخا فيكون ذلك سببا لأزدياد عشقها وانقلابه روحانيا قدسيا كعشق أبيه له وقال ابن عطاء : ماأراد عليه السلام بطلب ذلك إلا الخلاص من الزنا ولعله لو ترك الاختيار لعصم من غير امتحان كما عصم في
(13/77)

وقت المراودة ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس قال أبو علي : أحسن الناس حالا من رأى نفسه تحت ظل الفضل والمنة لاتحت ظل العمل والسعي ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار دعاء إلى التوحيد على أتم وجه وحكى أن رجلا قال للفضيل : عظني فقرأ له هذه الآية وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك كان ذلك على ماقيل غفلة منه عليه السلام عما يقتضيه مقامه ويشير اليه كلامه ولهذا أدبه ربه باللبث في السجن ليبلغ أقصى درجات الكمال والانبياء مؤاخذون بمثاقيل الذر لمكانتهم عند ربهم وقد يحمل كلامه هذا على مالايوجب العتاب كما ذهب اليه بعض ذوي الالباب يوسف أيها الصديق قال أبو حفص : الصديق من لايتغير عليه باطن أمره من ظاهره وقيل : الذي لايخالف قاله حاله وقيل : الذي يبذل الكونين في رضا محبوبه وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربي اشارة إلى أن النفس بطبعها كثيرة الميل إلى الشهوات قال أبو حفص : النفس ظلمة كلها وسراجها التوفيق فمن لم يصحبه التوفيق كان في ظلمة وقد تخفى دسائس النفس إلى حيث تتأمر بخير وتضمر فيه شرا ولا يفطن لدسائسها الا لوذعى : فخالف النفس والشيطان واعصمها وإن هما محضاك النصح فانهم وذكر بعض السادة أن النفس تترقى بواسطة المجاهدة والرياضة من مرتبة كونها أمارة إلى مرتبة أخرى من كونها لوامة وراضية مرضية ومطمئنة وغير ذلك وجعلوا لها في كل مرتبة ذكرا مخصوصا وأطنبوا في ذلك فليرجع اليه قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم قيل : خزائن الأرض رجالها أي اجعلني عليهم أمينا فاني حفيظ لما يظهرونه عليم بما يضمرونه وقيل : أراد الظاهر إلا أنه أشار أنه متمكن من التصرف مع عدم الغفلة أي حفيظ للأنفاس بالذكر وللخواطر بالفكر عليم بسواكن الغيوب وخفايا الاسرار وجاء أخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون قال بعضهم : لما جفوه صار جفاؤهم حجابا بينهم وبين معرفتهم اياه وكذلك المعاصي تكون حجابا على وجه معرفة الله تعالى قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم كأنه عليه السلام أمر بذلك ليكمل لأبيه عليه السلام مقام الحزن الذي هو كما قال الشيخ الأكبر قدس سره : من أعلى المقامات وقال بعضهم : إن علاقة المحبة كانت بين يوسف ويعقوب عليهما السلام من الجانبين فتعلق أحدهما بالآخر كتعلق الآخر به كما يرى ذلك في بعض العشاق مع من يعشقونه وانشدوا : لم يكن المجنون في حالة الا وقد كنت كما كانا لكنه باح بسر الهوى وانني قد ذبت كتمانا فغار عليه السلام أن ينظر أبوه الى أخيه نظره اليه فيكونا شركين في ذلك والمحب غيور فطلب أن يأتوه به لذلك والحق أن الأمر كان عن وحي لحكمة غير هذه وإنه لذو علم لما علمناه اشارة الى العلم اللدني وهو على نوعين ظاهر الغيب وهو علم دقائق المعاملات والمقامات والحالات والكرامات والفراسات وباطن الغيب وهو علم بطون الافعال ويسمى حكمة المعرفة وعلم الصفات ويسمى المعرفة الخاصة وعلم الذات ويسمى التوحيد والتفريد والتجريد وعلم أسرار القدم ويسمى علم الفناء والبقاء وفي الأولين للروح مجال وفي الثالث للسر والرابع لسر السر وفي المقام تفصيل وبسط يطلب من محله ولما دخلوا على يوسف آوى اليه أخاه كأنه عليه السلام إنما فعل ذلك ليعرفه الحال بالتدريج حتى يتحمل أثقال السرور إذ المفاجأة في مثل ذلك ربما
(13/78)

تكون سبب الهلاك ومن هنا كان كشف سجف الجمال للسالكين على سبيل التدريج فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه قيل : إن الله تعالى أمره بذلك ليكون شريكا لاخوته في الايذاء بحسب الظاهر فلا يخجلوا بين يديه إذا كشف الأمر وحيث طلب قلب بنيامين لعين برؤية يوسف احتمل الملامة وكيف لايحتمل ذلك وبلاء العالم محمول بلمحة رؤية المعشوق والعاشق الصادق يؤثر الملامة ممن كانت في هوى محبوبه
أجد الملامة في هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمني اللوم وفي الآية على ماقيل اشارة لطيفة إلى أن من اصطفاه الله تعالى في الأزل لمحبته ومشاهدته وضع في رحله صاع ملامة الثقلين ألا ترى الى مافعل بآدم عليه السلام صفيه كيف اصطفاه ثم عرض عليه الامانة التي لم يحملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها فحملها ثم هيج شهوته الى حبة حنطة ثم نادى عليه بلسان الازل فعصى آدم ربه فغوى وذلك لغاية حبه له حتى صرفه عن الكون ومافيه ومن فيه اليه ولولا أن كشف جماله له لم يتحمل بلاء الملامة وهذا كما فعل يوسف عليه السلام بأخيه آواه اليه وكشف جماله له وخاطبه بما خاطبه ثم جعل السقاية في رحله ثم نادى عليه بالسرقة ليبقيه معه نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم أي نرفع درجاتهم في العلم فلا يزال السالكون يترقون في العلم وتشرب أطيار أرواحهم القدسية من بحار علومه تعالى على مقادير حواصلها وتنتهي الدرجات بعلم الله تعالى فان علوم الخلق محدودة وعلمه تعالى غير محدود والى الله تعالى تصير الامور قالوا أن يسرق فقد سرق أخ له من قبل قال بعض السادات : لما كان بنيامين بريئا مما رمى به من السرقة أنطقهم الله تعالى حتى رموا يوسف عليه السلام بالسرقة وهو بريء منها فكان ذلك من قبيل واحدة بواحدة ليعلم العالمون أن الجزاء واجب
وقال بعض العارفين : إنهم صدقوا بنسبة السرقة الى يوسف عليه السلام ولكنها سرقة ألباب العاشقين وأفئدة المحبين بما أودع فيه من محاسن الأزل قال معاذ الله أن نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده الاشارة في ذلك من الحق عز و جل أن لانفشي أسرارنا وندني الى حضرتنا الا من كان في قلبه استعداد قبول معرفتنا أولا نختار لكشف جمالنا الا من كان في قلبه شوق الى وصالنا وقال بعض الخراسانين : الاشارة فيه انا لانأخذ من عبادنا أشد أخذ الا من ادعى فينا أو أخبر عنا ما لم يكن له الاخبار عنه والادعاء فيه وقال بعضهم : الا من مد يده الى مالنا وادعاه لنفسه وقال أبو عثمان : الاشارة انا لانتخذ من عبادنا وليا الا من ائتمناه على ودائعنا فحفظها ولم يخن فيها ولطيفة الواقعة أنه عليه السلام لم يرض أن يأخذ بدل حبيبه أذ ليس للحبيب بديل في شرع المحبة
أبى القلب الا أحب ليلى فبغضت الى نساء مالهن ذنوب ان ابنك سرق قال بعضهم : انهم صدقوا بذلك لكنه سرق أسرار يوسف عليه السلام حين سمع منه في الخلوة ماسمع ولم يبده لهم عسى الله أن يأتيني بهم جميعا أنه هو العليم الحكيم كأنه عليه السلام لما رأى اشتداد البلاء قوى رجاؤه بالفرج فقال ماقال
اشتدى أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج وكان لسان حاله يقول
(13/79)

دنا وصال الحبيب واقتربا واطربا للوصال واطربا وقال ياأسفي على يوسف قال بعض العارفين : إن تأسفه على رؤية جمال الله تعالى من مرآة وجه يوسف عليه السلام وقد تمتع بذلك برهة من الزمان حتى حالت بينه وبينه طوارق الحدثان فتأسف عليه السلام لذلك واشتاقت نفسه لما هنالك
سقى الله أياما لنا ولياليا مضت فجرت من ذكرهن دموع فياهل لها يوما من الدهر أوبة وهل لي الى أرض الحبيب رجوع وابيضت عيناه من الحزن حيث بكى حتى أضر بعينيه وكان ذلك حتى لايرى غير حبيبه لما تيقنت اني لست أبصركم غمضت عيني فلم أنظر الى أحد قال بعض العارفين : الحكمة في ذهاب بصر يعقوب وبقاء بصر آدم وداود عليهما السلام مع أنهما بكيا دهرا طويلا ان بكاء يعقوب كان بكاء حزن معجون بألم الفراق حيث فقد تجلى جمال الحق من مرآة وجه يوسف ولا كذلك بكاء آدم وداود فانه كان بكاء الندم والتوبة وأين ذلك المقام من مقام العشق وقال أبو سعيد القرشي : انما لم يذهب بصرهما لأن بكاءهما كان من خوف الله تعالى فحفظا وبكاء يعقوب كان لفقد لذة فعوتب وقيل : يمكن أن يكون ذهاب بصره عليه السلام من غيرة الله تعالى عليه حين بكى لغيره وان كان واسطة بينه وبينه ولهذا جاء أن الله تعالى أوحى اليه يا يعقوب أتتأسف على غيري وعزتي لآخذن عينيك ولا أردهما عليك حتى تنساه واختار بعض العارفين أن ذلك الاسف والبكاء ليسا الا لفوات ما انكشف له عليه السلام من تجلى الله تعالى في مرآة وجه يوسف عليه السلام ولعمري أنه لو كان شاهد تجليه تعالى في أول التعينات وعين أعيان الموجودات صلى الله تعالى عليه وسلم لنسي مارأى ولما عراه ماعرا ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول : لو أسمعوا يعقوب بعض ملاحة في وجهه نسي الجمال اليوسفي قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين هذا من الجهل بأحوال العشق وما عليه العاشقون فان العاشق يتغذى بذكر معشوقه
فان تمنعوا ليلى وحسن حديثها فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا واذا لم يستطع ذكره بلسانه كان مستغرقا بذكره اياه بجنانه
غاب وفي قلبي له شاهد يولع اضماري بذكراه مثلت الفكرة لي شخصه حتى كأني أتراآه وكيف يخوف العاشق بالهلاك في عشق محبوبه وهلاكه عين حياته كما قيل : ولكن لدى الموت فيه صبابة حياة لمن أهوى على بها الفضل ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ماجنت النحل قال انما أشكو بني وحزني الى الله وأعلم من الله مالا تعلمون أي أنا لاأشكو الى غيره فاني أعلم غيرته سبحانه وتعالى على أحبابه وأنتم لاتعلمون ذلك وأيضا من انقطع اليه تعالى كفاه ومن أناخ ببابه أعطاه وأنشد ذو النون
(13/80)

إذا ارتحل الكرام اليك يوما ليلتمسوك حالا بعد حال فان رحالنا حطت رضاء بحكمك عن حلول وارتحال فسسنا كيف شئت ولا تكلنا إلى تدبيرنا ياذا المعالي وعلى هذا درج العاشقون إذا اشتد بهم الحال فزعوا إلى الملك المتعال ومن ذلك إلى الله أشكو مالقيت من الهجر ومن كثرة البلوى ومن ألم الصبر ومن حرق بين الجوانح والحشا كجمر الغضا لابل أحر من الجمر وقد يقال : إنه عليه السلام إنما رفع قصة شكواه إلى عالم سره ونجواه استرواحا مما يجده بتلك المناجاة كما قيل : إذا ما تمنى الناس روحا وراحة تمنيت أن أشكو اليه فيسمع يابني اذهبوفتحسسوا من يوسف وأخيه كأنه عليه السلام تنسم نسائم الفرج بعد أن رفع الأمر إلى مولاه عز و جل فقال ذلك : ولا تيأسوا من روح الله من رحمته بارجاعهما إلي أو من رحمته تعالى بتوفيق يوسف عليه السلام برفع خجالتكم إذا وجدتموه قالوا ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر أرادوا ضر المجاعة ولو أنهم علموا وأنصفوا لقصدوا ضر فراقك فانه قد أضر بأبيهم وبهم وبأهلهم لو يعلمون
كفى حزنا بالواله الصب أن يرى منازل من يهوى معطلة قفرا وأعلم أن فيما قاله إخوة يوسف له عليه السلام من هنا إلى المتصدقين تعليم آداب الدعاء والرجوع إلى الأكابر ومخاطبة السادات فمن لم يرجع إلى باب سيده بالذلة والافتقار وتذليل النفس وتصغير مايبدو منها وير أن ما من سيده اليه على طريق الصدفة والفضل لا على طريق الاستحقاق كان معبدا مطرودا وينبغي لعشاق جمال القدم إذا دخلوا الحضرة أن يقولوا : ياأيها العزيز مسنا وأهلنا من ضر فراقك والبعد عن ساحة وصالك مالايحتمله الصم الصلاب
خليلي ماألقاه في الحب إن يدم على صخرة صماء ينفلق الصخر ويقولوا : جئنا ببضاعة مزجاة من أعمال معلولة وأفعال مغشوشة ومعرفة قليلة لم تحط بذرة من أنوار عظمتك وكل ذلك لايليق بكمال عزتك وجلال صمديتك فأوف لنا كيل قربك من بيادر جودك وفضلك وتصدق علينا بنعم مشاهدتك فانه إذا عومل المخلوق بما عومل فمعاملة الخالق بذلك أولى قالوا أئنك لأنت يوسف خاطبوه بعد المعرفة بخطاب المودة لابخطاب التكلف وفيه من حسن الظن فيه عليه السلام مافيه
إذا صفت المودة بين قوم ودام ولاؤهم سمج الثناء ويمكن أن يقال : إنهم لما عرفوه سقطت عنهم الهيبة وهاجت الحمية فلم يكلموه على النمط الأول وقوله : قال أنا يوسف وهذا أخي جواب لهم لكن زيادة وهذا أخي قيل : لتهوين حال بديهة الخجل وقيل : للإشارة إلى أن اخوتهم لاتعد إخوة لأن الاخوة الصحيحة مالم يكن فيها جفاء ثم أنه عليه السلام لما رأى
(13/81)

اعترافهم واعتذارهم قال : لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وهذا من شرائط الكرم فالكريم إذا قدر عفا
والعذر عند كرام الناس مقبول
وقال شاه الكرماني : من نظر إلى الخلق بعين الحق لم يعبأ بمخالفتهم ومن نظر اليهم بعينه أفنى أيامه بمخاصمتهم ألا ترى يوسف عليه السلام لما علم مجاري القضاء كيف عذر أخوته اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا لما علم عليه السلام أن أباه عليه السلام لايحتمل الوصال الكلي بالبديهة جعل وصاله بالتدريج فأرسل اليه بقميصه ولما كان مبدأ الهم الذي أصابه من القميص الذي جاؤا عليه بدم كذب عين هذا القميص مبدأ للسرور دون غيره من آثاره عليه السلام ليدخل عليه السرور من الجهة التي دخل عليه الهم منها وأتوني بأهلكم أجمعين كان كرم يوسف عليه السلام يقتضي أن يسير بنفسه إلى أبيه ولعله إنما لم يفعل لعلمه أن ذلك يشق على أبيه لكثرة من يسير معه ولايمكن أن يسير اليه بدون ذلك أو لأن في ذلك تعطل أمر العامة وليس هناك من يقوم به غيره ويحتمل أن يكون أوحى اليه بذلك لحكمة أخرى وقيل : إن المعشوقية اقتضت ذلك ومن رأى معشوقا رحيما بعاشقه وفيه مالايخفى ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف يقال : إن ريح الصبا سألت الله تعالى فقالت : يارب خصني أن أبشر يعقوب عليه السلام بابنه فأذن لها بذلك فحملت نشره إلى مشامه عليه السلام وكان ساجدا فرفع رأسه وقال ذلك وكان لسان حاله يقول : أيا جبلى نعمان بالله خليا نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها أجد بردها أو تشف مني حرارة على كبد لم يبق إلا صميمها فان الصبا ريح إذا ماتنسمت على نفس مهموم تجلت همومها وهكذا عشاق الحضرة لايزالوان يتعرضون لنفحات ريح وصال الازل وقد قال عليه الصلاة و السلام : إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن ويقال : المؤمن المتحقق يجد نسيم الايمان في قلبه وروح المعرفة السابقة له من الله تعالى في سره وإنما وجد عليه السلام هذا الريح حيث بلغ الكتاب أجله ودنت أيام الوصال وحان تصرم أيام الهجر والبلبال والا فلم لم يجده عليه السلام لما كان يوسف في الجب ليس بينه وبينه إلا سويعة من نهار وما ذلك إلا لأن الامور مرهونة بأوقاتها وعلى هذا كشوفات الأولياء فانهم آونة يكشف لهم على ماقيل اللوح المحفوظ وأخرى لايعرفون ماتحت أقدامهم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا فيه إشارة الى أن العاشق الهائم المنتظر لقاء الحق سبحانه اذا ذهبت عيناه من طول البكاء يجيء اليه بشير تجليه فيلقى عليه قميص أنسه في حضرات قدسه فيرتد بصيرا بشم ذلك فهنالك يرى الحق بالحق وينجلي الغين عن العين ويقال : إنه عليه السلام إنما ارتد بصيرا حين وضع القميص على وجهه لأنه وجد لذة نفحة الحق تعالى منه حيث كان يوسف عليه السلام محل تجليه جل جلاله وكان القميص معبقا بريح جنان قدسه فعاد لذلك نور بصره عليه السلام الى مجاريه فأبصر قال سوف أستغفر لكم ربي انه هو الغفور الرحيم وعدهم الى أن يتعرف منهم صدق التوبة أو حتى يستأذن ربه تعالى في الاستغفار لهم فيأذن سبحانه لئلا يكون مردودا فيه كما رد نوح عليه السلام في ولده بقوله تعالى : إنه ليس من أهلك وقال بعضهم : وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ بعد من استبشاره الى استغفاره وقيل : إنما أسرع يوسف بالاستغفار لهم ووعد
(13/82)

يعقوب عليهما السلام لأن يعقوب كان أشد حبا لهم فعاتبهم بالتأخير ويوسف لم يرهم أهلا للعتاب فتجاوز عنهم من أول وهلة أو اكتفى بما أصابهم من الخجل وكان خجلهم منه أقوى من خجلهم من أبيهم وفي المثل كفى للمقصر حياء يوم اللقاء فلما دخلوا على يوسف آوى اليه أبويه لأنهما ذاقا طعم مرارة الفراق فخصهما من بينهم بمزيد الدنو يوم التلاق ومن هنا يتبين أين منازل العاشقين يوم الوصال وخروا له سجدا حيث بان لهم أنواع جلال الله تعالى في مرآة وجهه عليه السلام وعاينوا ماعاينت الملائكة عليهم السلام من آدم عليه السلام حين وقعوا له ساجدين وما هو إذ ذاك إلا كعبة الله تعالى التي فيها آيات بينات مقام ابراهيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما مفوضا اليك شأني كله بحيث لايكون لي رجوع الى نفسي ولا الى سبب من الاسباب بحال من الأحوال وألحقني بالصالحين بمن أصلحتهم لحضرتك وأسقطت عنهم سمات الخلق وأزلت عنهم رعونات الطبع ولا يخفى مافي تقديمه عليه السلام الثناء على الدعاء من الأدب وهو الذي يقتضيه المقام ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال غير واحد من الصوفية : من التفت إلى غير الله تعالى فهو مشرك وقال قائلهم : ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي قل هذه سبيلي ادعوا الى الله على بصيرة بيان من الله تعالى وعلم لا معارضة للنفس والشيطان فيه انا ومن اتبعني وذكر بعض العارفين أن البصيرة أعلى من النور لأنها لاتصح لاحد وهو رقيق الميل الى السوى وفي الآية اشارة الى أنه ينبغي للداعي الى الله تعالى أن يكون عارفا بطريق الايصال اليه سبحانه عالما بما يجب له تعالى وما يجوز وما يمتنع عليه جل شأنه والدعاة الى الله تعالى اليوم من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم الى الارشاد بزعمهم أجهل من حمار الحكيم توما وهم لعمري في ضلالة مدلهمة ومهامه يحار فيها الخريت وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ماكانوا يصنعون لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وهم ذوو الأحوال من العارفين والعاشقين والصابرين والصادقين وغيرهم وفيها أيضا عبرة للملوك في بسط العدل كما فعل يوسف عليه السلام ولأهل التقوى في ترك ما تراودهم النفس الشهوانية عليه وللمماليك في حفظ حرم السادة ولا أحد أغير من الله تعالى ولذلك حرم الفواحش وللقادرين في العفو عمن أساء اليهم ولغيرهم في غير ذلك ولكن أين المعتبرون أشباح ولا أرواح وديار ولا ديار فانا لله وانا اليه راجعون هذا
وقد أول بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يوسف بالقلب المستعد الذي هو في غاية الحسن ويعقوب بالعقل والاخوة بني العلات بالحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة الشهوانية وبنيامين بالقوة العاقلة العملية وراحيل أم يوسف اللوامة وليا بالنفس الامارة والجب بعقر الطبيعة البدنية والقميص الذي ألبسه يوسف في الجب بصفة الاستعداد الاصلي والنور الفطري والذئب بالقوة الغضبية والدم الكذب بأثرها وابيضاض عين يعقوب بكلال البصيرة وفقدان نور العقل وشراؤه من عزيز مصر بثمن بخس بتسليم الطبيعة له الى عزيز الروح الذي في مصر مدينة القدس بما يحصل للقوة الفكرية من المعاني الفائضة عليها من الروح وامرأة العزيز بالنفس اللوامة وقد القميص من دبر بخرقها لباس الصفة النورية التي هي من قبل الاخلاق الحسنة والاعمال الصالحة ووجد ان السيد بالباب بظهور نور الروح عند اقبال
(13/83)

القلب اليه بواسطة تذكر البرهان العقلي وورد الواردالقدسي عليه والشاهد بالفكر الذي هو ابن عم امرأة العزيز أو بالطبيعة الجسمانية الذي هو ابن خالتها والصاحبين بقوة المحبة الروحية وبهوى النفس والخمر بخمر العشق والخبز باللذات والطير بطير القوى الجسمانية والملك بالعقل الفعال والبقرات بمراتب النفس والسقاية بقوة الادراك والمؤذن بالوهم الى غير ذلك وطبق القصة على ماذكر وتكلف له أشد تكلف وما أغناه عن ذلك والله تعالى الهادي الى سواء السبيل لارب غيره ولا يرجى الا خيره
سورة الرعد
31
- جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس وعلي بن أبي طلحة أنها مكية وروى ذلك عن سعيد بن جبير قال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال : سألت ابن جبير عن قوله تعالى : ومن عنده أم الكتاب هل هو عبدالله بن سلام فقال : كيف وهذه السورة مكية وأخرج مجاهد عن ابن الزبير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس ومن طريق ابن جريج وعثمان عن عطاء عنه وأبو الشيخ عن قتادة أنها مدنية الا أن في رواية الاخير استثناء قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة الآية فانها مكية وروى أن أولها الى آخر ولو أن قرآنا الآية مدني وباقيها مكي وفي الاتقان يؤيد القول بأنها مدنية ماأخرجه الطبراني وغيره عن أنس أن قوله تعالى : الله يعلم ماتحمل كل أنثى الى قوله سبحانه : وهو شديد المحال نزل في قصة اربد بن قيس وعامر بن الطفيل حين قدما المدينة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال : والذي يجمع به بين الاختلاف انها مكية الا آيات منها وهي ثلاث واربعون آية في الكوفي وأربع في المدني وخمس في البصري وسبع في الشامي ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه قال فيما تقدم : وكأي من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون فأجمل سبحانه الآيات السماوية والارضية ثم فصل جل شأنه ذلك هنا أتم تفصيل وأيضا أنه تعالى قد أتى هنا مما يدل على توحيده عز و جل مايصلح شرحا لما حكاه عن يوسف عليه السلام من قوله : أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار وأيضا في كل من السورتين مافيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم هذا مع اشتراك آخر تلك السورة وأول هذه فيما فيه وصف القرآن كما لايخفى وجاء في فضلها ماأخرجه ابن أبي شيبة والمرزوي في الجنائز أنه كان يستحب اذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فان ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه وجاء في ذلك اخبار أخر نصوا على وضعها والله تعالى أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم ألمر أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أن معنى ذلك أنا الله أعلم وأرى وهو أحد أقوال مشهورة في مثل ذلك تلك ءايات الكتاب جعل غير واحد الكتاب بمعنى السورة وهو بمعنى المكتوب صادق عليها من غير اعتبار تجوز والاشارة الى آياتها باعتبار أنها لتلاوة بعضها والبعض الآخر في معرض التلاوة صارت كالحاضرة أو لثبوتها في اللوح أو مع الملك والمعنى تلك الآيات السورة الكاملة العجيبة في بابها واستفيد هذا على ماقيل من اللام وذلك أن الاضافة بيانية فالمآل ذلك الكتاب والخبر إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة وأن هذا المحكوم عليه اكتسب من الفضيلة مايوجب
(13/84)

جعله نفس الجنس وأنه ليس نوعا من أنواعه وحيث أنه في الظاهر كالممتنع أريد ذلك
وجوز أن يكون المراد بالكتاب القرآن تلك إشارة إلى آيات السورة والمعنى آيات هذه السورة آيات القرآن الذي هو الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف بذلك المعروف به من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب والظاهر ان المراد جميعه وجوز أن يراد به المنزل حينئذ ورجح ارادة القرآن بأنه المتبادر من مطلق الكتاب المستغني عن النعت وبه يظهر جميع ماأريد من وصف الآيات بوصف ماأضيفت اليه من نعوت الكمال بخلاف ماإذا جعل عبارة عن السورة فانها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف وفيه بحث وأياما كان فلا محذور في حمل آيات الكتاب على تلك كما لايخفى وقيل : الاشارة بتلك إلى ماقص سبحانه عليه عليه الصلاة و السلام من أنباء الرسل عليهم السلام المشار اليها في آخر السورة المتقدمة بقوله سبحانه : ذلك من أنباء الغيب وجوز على هذا أن يراد بالكتاب مايشمل التوراة والانجيل واخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد وقتادة
وجوز ابن عطية هذا على تقدير أن تكون الاشارة إلى المر مرادا بها حروف المعجم أيضا وجعل ذلك مبتدأ أولا و تلك مبتدأ ثانيا و آيات خبره والجملة خبر الأول والرابط الاشارة وأما قوله سبحانه وتعالى : والذي أنزل اليك من ربك الحق فالظاهر أن الموصول فيه مبتدأ وجملة أنزل من الفعل ومرفوعه صلته ومن ربك متعلق بأنزل والحق خبر والمراد بالموصول عند كثير القرآن كله والكلام استدراك على وصف السورة فقط بالكمال وفي اسلوبه قول فاطمة الأنمارية وقد قيل لها : أي بنيك أفضل ربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل والله انهم كالحلقة المفرغة لايدري أين طرفاها وذلك كما أنها نفت التفاضل آخرا باثبات الكمال لكل واحد دلالة على ان كمال كل لايحيط به الوصف وهو إجمال بعد التفصيل لهذا الغرض كذلك لما أثبت سبحانه لهذه السورة خصوصا الكمال استدركه بأن كل المنزل كذلك لايختص به سورة دون أخرى للدلالة المذكورة وهو على ماقيل معنى بديع ووجه بليغ ذكره صاحب الكشاف وقيل : إنه لتقرير ماقبله والاستدلال عليه لأنه اذا كان كل المنزل عليه حقا فذلك المنزل أيضا حق ضرورة أنه من كل المنزل فهو كامل لأنه لا أكمل من الحق والصدق ولخفاء أمر الاستدلال قال العلامة البيضاوي أنه كالحجة على ماقبله ولعل الاول أولى ومع ذا لايخلو عن خفاء أيضا ولو قيل : المراد بالكمال فيما تقدم الكمال الراجع الى الفصاحة والبلاغة ويكون ذلك وصفا للمشار اليه بالاعجاز من جهة ذلك ويكون هذا وصفا له بخصوصه على تقدير أن يكون فيه وضع الظاهر موضع الضمير أو لما يشمله وغيره على تقدير أن لايكون فيه ذلك بكونه حقا مطابقا للواقع إذ لاتستدعي الفصاحة والبلاغة الحقية كما يشهد به الرجوع الى المقامات الحريرية لم يبعد كل البعد فتدبر وجوز الحوفي كون من ربك هو الخبر و الحق خبر مبتدإ محذوف أي هو الحق أو خبر بعد خبر أوكلاهما خبر واحد كما قيل في الرمان حلو حامض وهو إعراب متكلف وجوز أيضا كون الموصول في محل خفض عطفا على الكتاب و الحق حينئذ خبر مبتدإ محذوف لاغير
قيل : والعطف من عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى كما قالوا في قوله :
(13/85)

هو الملك القرم وابن الهمام
البيت وبعضهم يجعله من عطف الكل على الجزء أو من عطف أحد المترادفين على الآخر ولكل وجهة وإذا أريد بالكتاب ماروى عن مجاهد وقتادة فأمر العطف ظاهر وجوز أبو البقاء كون الذي نعتا للكتاب بزيادة الواو في الصفة كما في أتاني كتاب أبي حفص والفاروق والنازلين والطيبين وتعقب بأن الذي ذكر في زيادة الواو للالصاق خصه صاحب المغني بما إذا كان النعت جملة ولم نر من ذكره في المفرد
وأجاز الحوفي أيضا كون الموصول معطوفا على آيات وجعل الحق نعتا له وهو كما ترى ثم المقصود على تقدير أن يكون الحق خبر مبتدأ مذكور أو محذوف قصر الحقية على المنزل لعراقته فيها وليس في ذلك مايدل على أن ماعداه ليس بحق أصلا على أن حقيته مستتبعة لحقية سائر الكتب السماوية لكونه مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه وساق بعض نفاة القياس هذه الآية بناء على تضمنها الحصر في معرض الاستدلال على نفي ذلك فقالوا : الحكم المستنبط بالقياس غير منزل من عند الله تعالى وإلا لكان من يحكم به كافرا لقوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكل ما ليس منزلا من عند الله تعالى بحق لهذه الآية لدلالتها على أن لاحق إلا ما أنزله الله تعالى والمثبتون لذلك أبطلوا ماذكروه في المقدمة الأولى بأن المراد بعدم الحكم الانكار وعدم التصديق أو المراد من لم يحكم بشيء أصلا مما أنزله الله تعالى ولا شك انه من شأن للكفرة أو المراد بما أنزله هناك التوراة بقرينة ماقبله ونحن غير متعبدين بها فيختص باليهود ويكون المراد الحكم بكفرهم إذ لم يحكموا بكتابهم ونحن نقول بموجبه كما بين في شرح المواقف وما ذكروه في المقدمة الثانية بأن المراد بالمنزل من الله تعالى مايشمل الصريح وغيره فيدخل فيه القياس لاندرجه في حكم المقيس عليه المنزل من عنده سبحانه وقد جاء في المنزل صريحا فاعتبروا ياأولي الأبصار وهو دال على ماحقق في محله على حسن اتباع القياس على أنك قد علمت المقصود من الحصر
ويحتمل أيضا على ماقيل أن يكون المراد هو الحق لاغيره من الكتب الغير المنزلة أو المنزلة إلى غيره بناء على تحريفها ونسخها وقد يقال : إن دليلهم منقوض بالسنة والاجماع والجواب الجواب ولايخفى مافي التعبير عن القرآن بالموصول وإسناد الانزال إليه بصيغة مالم يسم فاعله والتعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة و السلام من الدلالة على فخامة المنزل وتشريف المنزل والايماء إلى وجه بناء الخبر مالايخفى ولكن أكثر الناس قيل هم كفار مكة وقيل : اليهود والنصارى والأولى أن يراد أكثرهم مطلقا لايؤمنون
1
- بذلك الحق المبين لاخلالهم بالنظر والتأمل فيه فعدم إيمانهم كما قال شيخ الاسلام متعلق بعنوان حقيته لأنه المرجع للتصديق والتكذيب لابعنوان كونه منزلا كما قيل ولأنه وارد على سبيل الوصف دون الاخبار الله الذي رفع السموات أي خلقهن مرتفعات على طريقة سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه سبحانه رفعها بعد إن لم تكن كذلك بغير عمد أي دعائم وهو اسم جمع عند الأكثر والمفرد عماد كاهاب وأهب يقال : عمدت الحائط أعمده عمدا إذا دعمته فاعتمد واستند وقيل : المفرد عمود وقد جاء أديم وأدم وقصيم وقصم وفعيل وفعول يشتركان في كثير من الأحكام وقيل : إنه جمع ورجح الأول بما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا
(13/86)

وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب عمد بضمتين وهو جمع عماد كشهاب وشهب أو عمود كرسول ورسل ويجمعان في القلة على أعمدة والجمع لجمع السموات لا لأن المنفي عن كل واحدة منها العمد لا العماد والجار والمجرور في موضع الحال أي رفعها خالية عن عمد ترونها استئناف لامحل له من الاعراب جيء به للإستشهاد على كون السموات مرفوعة كذلك كأنه قيل : ماالدليل على ذلك فقيل : رؤيتكم لها بغير عمد فهو كقولك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني
ويحتمل أن يكون الاستئناف نحويا بدون تقدير سؤال وجواب والأول أولى وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من السموات أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأن المخاطبين حين رفعها لم يكونوا مخلوقين وأياما كان فالضمير المنصوب للسموات
وجوز كون الجملة صفة للعمد فالضمير لها واستدل لذلك بقراءة أبي ترونه لأن الظاهر أن الضمير عليها للعمد وتذكيره حينئذ لائح الوجه لأنه اسم جمع فلوحظ أصله في الافراد ورجوعه إلى الرفع خلاف الظاهر وعلى تقدير الوصفية يحتمل توجه النفي إلى الصفة والموصوف على منوال
ولا ترى الضب بها يتجحر
لأنها لو كانت لها عمد كانت مرئية وهذا في المعنى كالاستئناف ويحتمل توجهه الى الصفة فيفيد أن لها عمدا لكنها غير مرئية وروى ذلك عن مجاهد وغيره والمراد بها قدرة الله تعالى وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض فيكون العمد على هذا استعارة وأخرج ابن حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك وزعم بعضهم أن العمد جبل قاف فانه محيط بالأرض والسماء عليه كالقبة وتعقبه الامام بأنه في غاية السقوط وسيأتي أن شاء الله تعالى مايمكن أن يكون مراده في وجه ذلك وأنا لاأرى ماقبله يصح عن ابن عباس فالحق أن العمد قدره الله تعالى وهذا دليل على وجود الصانع الحكيم تعالى شأنه وذلك لأن ارتفاع السموات على سائر الأجسام المساوية لها في الجرمية كما تقرر في محله واختصاصها بما يقتضي ذلك لابد وأن يكون لمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بارادته
ورجح في الكشف استئاف الجملة بأن الاستدلال برفع هذه الأجرام دون عمد كاف والاستشهاد عليه بكونه مشاهدا محسوسا تأكيد للتحقيق ثم لايخفى أن الضمير المنصوب في ترونها اذا كان راجعا الى السموات المرفوعة اقتضى ظاهرا الآية أن المرئى هو السماء وقد صرح الفلاسفة بأن المرئي هو كرة البخار وثخنها كما قال صاحب التحفة أحد وخمسون ميلا وتسع وخمسون دقيقة والمجموع سبعة عشر فرسخا وثلث فرسخ تقريبا وذكروا أن سبب رؤيتها زرقاء انها مستضيئة دائما بأشعة الكواكب وما وراءها لعدم قبوله الضوء كالمظلم بالنسبة اليها فاذا نفذ نور البصر من الأجزاء المستنيرة بالأشعة إلى الأجزاء التي هي كالمظلم رأى الناظر مافوقه من المظلم بما يمازجه من الضياء الأرضي والضياء الكوكبي لونا متوسطا بين الظلام والضياء وهو اللون اللازوردي وذلك كما اذا نظرنا من جسم أحمر مشف الى جسم أخضر فانه يظهر لنا لون مركب من الحمرة والخضرة وأجمعوا أن السموات التي هي الأفلاك لاترى لأنها شفافة لالون لها لأنها لاتحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فانه يحجب عن ذلك وتعقب ذلك الامام الرازي بأنا لانسلم أن كل ملون حاجب فان الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لايحجبان فان قيل : فيهما حجب عن الابصار الكامل قلنا : وكيف عرفتم أنكم أدركتم هذه الكواكب إدراكا تاما انتهى على أن ماذكروه لايتمشى في المحدد إذ
(13/87)

ليس وراءه شيء حتى يرى ولا في الفلك الذي يسمونه بفلك الثوابت أيضا اذ ليس فوقه كوكب مرئي وليس لهم أن يقولوا لو كان كل منهما ملونا لوجب رؤيته لأنا نقول جاز أن يكون لونه ضعيفا كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا : لم لايجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه وما ذكر أولا فيها دون اثباته كرة النار وما يقال : إنها أمر يحسن في الشفاف اذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قربا وبعد فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لايجدي نفعا لأن الزرقة كما تكون لونا متخيلا قد تكون أيضا لونا حقيقيا قائما بالأجساد وما الدليل على أنها لاتحدث الا بذلك الطريق التخيلي فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لونا حقيقيا لأحد الفلكين كذا قال بعض المحققين وأنت تعلم أنه لا مانع عند المسلمين من كون المرئي هو السماء الدنيا المسماة بفلك القمر عند الفلاسفة بل هو الذي تقتضيه الظواهر ولا نسلم أن مايذكرونه من طبقات الهواء مانعا وهذه الزرقة يحتمل أن تكون لونا حقيقيا لتلك السماء صبغها الله تعالى به حسبما اقتضته حكمته وعليه الأثريون كما قال القسطلاني ويؤيده ظاهر ماصح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : وما أظلت الخضراء ولا أفلت الغبراء وفي رواية الأرض من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ويحتمل أن يكون لونا تخيليا في طبقة من طبقات الهواء الشفاف الذي ملأ الله به مابين السماء والأرض ويكون لها في نفسها لون حقيقي الله تعالى أعلم بكيفيته ولا بعد في أن يكون أبيض وهو الذي يقتضيه بعض الأخبار لكنا نحن نراها من وراء ذلك الهواء بهذه الكيفية كما نرى الشيء الأبيض من وراء جام أخضر أخضر ومن وراء جام أزرق أزرق وهكذا وجاء في بعض الآثار أن ذلك من انعكاس لون جبل قاف عليها
وتعقب بأن جبل قاف لاوجود له وبرهن عليه بما يرده كما قال العلامة ابن حجر ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق أخرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل وخرج بعض أولئك عن عبدالله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء وعن مجاهد مثله ونقل صاحب حل الرموز ان له سبع شعب وأن لكل سماء منها شعبة وفي القلب من صحة ذلك مافيه بل أنا أجزم بأن السماء ليست محمولة إلا على كاهل القدرة والظاهر انها محيطة بالارض من سائر جهاتها كما روى عن الحسن وفي الزرقة الاحتمالان بقي الكلام في رؤية باقي السموات وظاهر الآية يقتضيه وأظنك لاترى ذلك وظاهر بعض الآيات يساعدك فتحتاج إلى القول بأن الباقي وإن لم يكن مرئيا حقيقة لكنه في حكم المرئي ضرورة أنه إذا لم يكن لهذا عماد لايتصور أن يكون لما وراءه عماد عليه بوجه من الوجوه ويؤل هذا إلى كون المراد ترونها حقيقة أو حكما بغير عمد وجوز أن يكون المراد ترون رفعها أي السموات جميعا بغير ذلك وفي الكشف مايشير اليه وإذا جعل الضمير للعمد فالأمر ظاهر فتدبر ومن البعيد الذي لانراه زعم بعضهم أن ترونها خبر في اللفظ ومعناه الامر روها وانظروا هل لها من عمد ثم استوى سبحانه استواء يليق بذاته على العرش وهو المحدد بلسان الفلاسفة وقد جاء في الاخبار من عظمه مايبهر العقول وجعل غير واحد من الخلف الكلام استعارة
(13/88)

تمثيلية للحفظ والتدبير وبعضهم فسر استوى باستولى ومذهب السلف في ذلك شهير ومع هذا قدمنا الكلام فيه وأياما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش كما قالوا في قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات لأن ايجاده قبل إيجاد السموات ولا حاجة الى ارادة ذلك مع القول بسبق الايجاد وحمل ثم على التراخي في الرتبة نعم قال بعضهم : إنها للتراخي الرتبي لا لأن الاستواء بمعنى القصد المذكور وهو متقدم بل لأنه صفة قديمة لائقة به تعالى شأنه وهو متقدم على رفع السموات أيضا وبينهما تراخ في الرتبة وسخر الشمس والقمر ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما كل من الشمس والقمر يجري يسير في المنازل والدرجات لأجل مسمى أي وقت معين فان الشمس تقطع الفلك في سنة والقمر في شهر لايختلف جرى كل منهما في قوله تعالى : والشمس تجري لمستقر لها
والقمر قدرناه منازل وهو المروي عن ابن عباس وقيل : أي كل يجري لغاية مضروبة دونها سيره وهي إذا الشمس كورت واذا النجوم انكدرت وهذا مراد مجاهد من تفسير الاجل المسمى بالدنيا قيل : والتفسير الحق ما روى عن الحبر وأما الثاني فلا يناسب الفصل به بين التسخير والتدبير ثم أن غايتهما متحدة والتعبير بكل يجري صريح في التعدد وما للغاية الى دون اللام ورد بأنه ان أراد أن التعبير بذلك صريح في تعدد ذي الغاية فمسلم لكن لايجديه نفعا وان أراد صراحته في تعدد الغاية فغير مسلم واللام تجيء بمعنى الى كما في المعنى وغيره وأنت تعلم لايفيد أكثر من صحة التفسير الثاني فافهم وما أشرنا اليه من المراد من كل هو الظاهر وزعم ابن عطية أن ذكر الشمس والقمر قد تضمن ذكر الكواكب فالمراد من كل منهما ومما هو في معناهما من الكواكب والحق ما علمت يدبر الأمر أي أمر العالم العلوي والسفلي والمراد أنه سبحانه يقضي ويقدر ويتصرف في ذلك على أكمل الوجوه والا فالتدبير بالمعنى اللغوي لاقتضائه التفكر في دبر الامور مما لايصح نسبته اليه تعالى : يفصل الآيات أي ينزلها ويبينها مفصلة والمراد بها آيات الكتب المنزلة أو القرآن على ماهو المناسب لما قبل أو المراد بها الدلائل المشار اليها فيما تقدم وبتفصيلها تبيينها وقيل احداثها على ماهو المناسب لما بعد
والجملتان جوز أن يكونا مستأنفتين وأن يكونا حالين من ضمير استوى وسخر من تتمته بناء على أنه جيء به لتقرير معنى الاستواء وتبيينه أو جملة مفسرة له وجوز أن يكون يدبر حالا من فاعل سخر و يفصل حالا من فاعل يدبر و الله الذي الخ على جميع التقادير مبتدأ وخبر وجوز أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والموصول صفته وجملة يدبر خبره وجملة يفصل خبرا بعد خبر ورجح كون ذلك مبتدأ وخبرا في الكشف بأن قوله تعالى الآتي : وهو الذي مد الارض عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات وفي المقابل تتعين الخبرية فكذلك في المقابل ليتوافقا ولدلالته على أن كونه كذلك هو المقصود بالحكم لاأنه ذريعة إلى تحقيق الخبر وتعظيمه كما في الوجه الآخر ثم قال : وهو على هذا جملة مقررة لقوله سبحانه : والذي أنزل إليك من ربك هو الحق وعدل عن ضمير الرب الى الاسم المظهر الجامع لترشيح التقرير كأنه قيل : كيف لايكون منزل من هذه افعاله الحق الذي لاأحق منه وفي الاتيان بالمبتدأ والخبر
(13/89)

معرفتين مايفيد تحقيق إن هذه الافعال أفعاله دون مشاركة لاسيما وقد جعلت صلات للموصول وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيدا تحقيق كونه تعالى مدبرا مفصلا مع التعظيم لشأنهما كما في قول الفرزدق : إن الذي سمك السماء بني لنا بيتا دعائمه أعز وأطول وتقدم ذكر الآيات ناصر ضعيف لأن الآيات في الموضعين مختلفة الدلالة ولأن المناسب حينئذ تأخره عن قوله تعالى : وهو الذي مد الخ على أن سوق تلك الصفات أعني رفع السموات وما تلاه للغرض المذكور وسوق مقابلاتها لغرض آخر منافر وفي الأول روعي لطيفة في تعقيب الاوائل بقوله سبحانه : يدبر يفصل للايقان والثواني بقوله تعالى : إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أي من فضل السوابق لافادتها اليقين واللواحق ذرائع الى حصوله لأن الفكر آلته والاشارة الى تقديم الثواني بالنسبة الينا مع التأخر رتبة وذلك فائت على الوجه الآخر اه وهو من الحسن بمكان فيما أرى ولا تنافي كما قال الشهاب بين الوجهين باعتبار أن الوصفية تقتضي المعلومية والخبرية تقتضي خلافها لأن المعلومية عليهما والمقصود بالافادة قوله تعالى : لعلكم بلقاء ربكم توقنون
2
- أي لعلكم تتفكروا وتحققوا كمال قدرته سبحانه فتعلموا أن من قدر على ذلك قدر على الاعادة والجزاء وحاصله أنه سبحانه فعل كل ذلك لذلك وعلى الوجه الآخر فعل الأخيرين لذلك مع أن الكل له ثم قال : وهذا مما يرجح الوجه الأول أيضا كما يرجحه أنه ذكر تبيين الآيات وهي الرفع وما تلاه فانه ذكرها ليستدل بها على قدرته تعالى وعلمه ولا يستدل بها الا إذا كانت معلومة فيقتضي كونها صفة
فان قيل : لابد في الصلة أن تكون معلومة سواء كانت صفة أو خبرا يقال : إذا كان ذلك صلة دل على انتساب الآيات الى الله تعالى وإذا كان خبرا دل على انتسابها الى موجود مبهم وهو غير كاف في الاستدلال فتأمل وقرأ النخعي وأبو رزين وأبان بن تغلب عن قتادة ندبر نفصل بالنون فيهما وكذا روى أبو عمرو الداني عن الحسن ووافق في نفصل بالنون الخفاف وعبدالوهاب عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص وقال صاحب اللوامح : جاء عن الحسن والأعمش نفصل بالنون وقال المهدوي : لم يختلف في يدبر وليس كما قال لما سمعت ثم أنه تعالى لما ذكر من الشواهد العلوية ماذكر أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال عز شأنه : وهو الذي مد الأرض أي بسطها طولا وعرضا قال الأصم : البسط المد الى مالا يرى منتهاه ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها وقيل : كانت مجتمعة فدحاها من مكة من تحت البيت وقيل : كانت مجتمعة عند بيت المقدس فدحاها وقال سبحانه لها : اذهبي كذا وكذا وهو المراد بالمد ولا يخفى أنه خلاف مايقتضيه المقام واستدل بالآية على أنها مسطحة غير كرية والفلاسفة مختلفون في ذلك فذهب فريق منهم الى أنها ليست كرية وهؤلاء طائفتان فواحدة تقول : إنها محدبة من فوق مسطحة من أسفل فهي كقدح كب على وجه الماء وأخرى تقول بعكس ذلك وذهب الاكثرون منهم الى أنها كرية أما في الطول فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لاعرض لها كلما كانت أقرب الى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخرا بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك الا في الكرة وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه بحسب ايغاله فيه على نسبة واحدة بحيث يراه قريبا من سمت رأسه وكذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الكواكب الجنوبية والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك وأما فيما بينهما فلتركب
(13/90)

الأمرين وأورد عليهم الاختلاف المشاهد في سطحها فأجابوا عنه بأن ذلك لايقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر فان نسبة ارتفاع أعظم الجبال على ما استقر عليه استقراؤهم وانتهت اليه آراؤهم وهو جبل دماوند فيما بين الري وطبرستان أو جبل في سرنديب الى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة الى ذراع
واعترض ذلك بأنه هب أن ماذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور في الماء فان قالوا : اذا كان الظاهر كريا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة قلنا : فالمرجع حينئذ الى البساطة واقتضاؤها الكرية الحقيقية ولاشك أنه يمنعها التضاريس وان لم تظهر للحس لكونها في غاية الصغر لكن أنت تعلم أن ارباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع الى البساطة والحق الذي لاينكره الا جاهل أو متجاهل ان ماظهر منها كرى حسا ولذلك كرية الفلك تختلف اوقات الصلاة في البلاد فقد يكون الزوال ببلد ولا يكون ببلد آخر وهكذا الطلوع والغروب وغير ذلك وكرية ما عدا ماذكر لايعلمها الا الله تعالى نعم انها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح وهكذا كل دائرة عظيمة وبذلك يعلم أنه لاتنافي بين المد وكونها كروية وزعم ابن عطية أن ظاهر الشريعة يقتضي أنها مسطحة وكأنه يقول بذلك وهو خلاف مايقتضيه الدليل وهي عندهم ثلاث طبقات الطبقة الصرفة المحيطة بالمركز ثم الطبقة الطينية ثم الطبقة المخالطة التي تتكون فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات والصرفة منها غير ملونة عند بعضهم ومال ابن سينا الى أنها ملونة واحتج عليه بأن الأرض الموجودة عندنا وان كانت مخلوطة بغيرها ولكنا قد نجد فيها ما يكون الغالب عليه الارضية فلو كانت الارض البسيطة شفافة لكان يجب أن نرى في شيء من أجزاء الأرض مما ليس متكونا تكونا معدنيا شيأ فيه اشفاف ولكان حكم الأرض في ذلك حكم الماء والهواء فانهما وان امتزجا الا انهما ما عدما الاشفاف بالكلية واختلف القائلون بالتلون فمنهم من قال : إن لونها هو الغبرة ومنهم من زعم أنه السواد وزعم أن الغبرة انما تكون اذا خالطت الاجزاء الارضية اجزاء هوائية فبسببها ينكسر ويحصل الغبرة وأما اذا اجتمعت تلك الاجزاء بحيث لايخالطها كثير هوائية اشتد السواد وذلك مثل الفحم قبل أن يترمد فان النار لا عمل لها الا في تفريق المختلفات فهي لما حللت ما في الخشب من الهوائية واجتمعت الاجزاء الأرضية من غير أن يتخللها شيء غريب ظهر لون اجزائها وهو السواد ثم اذا رمدته اختلطت بتلك الاجزاء أجزاء هوائية فلا جرم أبيضت مرة أخرى ولذلك صح في الخبر وقد سبق اطلاق الغبراء على الارض وهو محتمل لأن تكون سائر طبقاتها كذلك ولأن يكون وجهها الاعلى كذلك نعم جاء في بعض الآثار ان في أسفل الأرض ترابا أبيض وما ذكر من الطبقات مما لايصادم خبرا صحيحا في ذلك وكونها سبع طبقات بين كل طبقة وطبقة كما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفي كل خلق غير مسلم ومن الأرض مثلهن لايثبته كما ستعلم ان شاء الله تعالى والخبر في ذلك غير مسلم الصحة أيضا ومثل ذلك فيما أرى ماروى عن كعب أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ان الله تعالى جعل مسيرة مابين المشرق والمغرب خمسمائة سنة فمائة سنة في المشرق لايسكنها شيء من الحيوان لاجن ولا انس ولا دابة وليس في ذلك شجرة ومائة سنة في المغرب كذلك وثلثمائة سنة فيما بين المشرق والمغرب يسكنها الحيوان وكذا ما أخرجه ابن
(13/91)

حاتم عن عبدالله بن عمر من ان الدنيا مسيرة خمسمائة عام أربعمائة عام خراب ومائة عمران والمقرر عند أهل الهندسة والهيئة غير هذا فقد ذكر القدماء منهم أن محيط دائرة الأرض الموازية لدائرة نصف النهار ثمانية الآف فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة واحدة وهي عندهم اثنان وعشرون فرسخا وتسعا فرسخ في ثلثمائة وستين محيط الدائرة العظمى على الأرض والمتأخرون أن ذلك ستة آلاف وثمانمائة فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة وهي عندهم تسعة عشر فرسخا الا تسع فرسخ في المحيط المذكور وعلى القولين التفاوت بين ما يقوله المهندسون ومن معهم وما نسب لغيرهم ممن تقدم أمر عظيم والحق في ذلك مع المهندسين
وزعموا أن الموضع الطبيعي هو الوسط من الفلك وأنها بطبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء ساكنة في حاق الوسط منه لكن لما حصل في جانب منها تلال وجبال ومواضع عالية وفي جانب آخر ضد ذلك لاسباب ستسمعها بعد ان شاء الله تعالى وكان من طبع الماء أن يسيل من المواضع العالية الى المواضع العميقة لاجرم انكشف الجانب المشرف من الأرض وسال الماء الى الجوانب العميقة منها وللكواكب في زعمهم تأثير في ذلك بحسب المسامتات التي تتبدل عند حركاتها خصوصا الثوابت والاوجات والحضيضات المتغيرة في أمكنتها وحكم أصحاب الارصاد أن طول البر المنكشف نصف دور الارض وعرضه أحد أرباعها الى ناحية الشمال وفي تعيين أي الربعين الشماليين منكشفت تعذر أو تعسر كما قال صاحب التحفة وأما ما عدا ذلك فقال الإمام : لم يقم دليل على كونه مغمورا في الماء ولكن الاشبه ذلك اذا الماء أكثر من الأرض أضعافا لأن كل عنصر يجب أن يكون بحيث لو استحال بكليته الى عنصر آخر مثله والماء يصغر حجمه عند الاستحالة أرضا ومع ذلك لو كان في بعض المواضع من الارباع الثلاثة عمارة قليلة لايعتد بها وأما تحت القطبين فلا يمكن أن يكون عمارة لاشتداد البرد : وانما حكموا بأن المعمور الربع لأنهم لم يجدوا في ارصاد الحوادث الفلكية كالخسوفات وقرانات الكواكب التي لا اختلاف منظر لها تقدما في ساعات الواغلين في المشرق لتلك الحوادث على ساعات الواغلين في المغرب زائدا على اثنتي عشرة ساعة مستوية وهي نصف الدور لأن كل ساعة خمسة عشر جزأ من أجزاء معدل النهار تقريبا وضرب خمسة عشر في اثني عشر مائة وثمانون ونحن نقول بوجود الخراب وانه أكثر من المعمور بكثير واكثر المعمور شمالي ولا يوجد في الجنوب منه الا مقدار يسير لكنا نقول : ما زعموه سببا للانكشاف غير مسلم ونسند كون الارض بحيث وجدت صالحة لسكنى الحيوانات وخروج النبات الى قدرته تعالى واختياره سبحانه والا فمن أنصف علم أن لاسبيل للعقل الى معرفة سبب ذلك على التحقيق وقال : انه تعالى فعل ذلك في الأرض لمجرد مشيئته الموافقة للحكمة
وجعل فيها رواسي أي جبالاثوابت في أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لاغناء غلبة الوصف بها عن ذلك وفواعل يكون جمع فاعل اذا كان صفة مؤنث كحائض أوصفة ما لايعقل مذكر كجعل بازل وبوازل أو اسما جامدا أو ماجرى مجراه كحائط وحوائط وانحصار مجيئه جمعا لذلك في فوارس وهوالك ونواكس إنما هو في صفات العقلاء لا مطلقا والجمع هنا في صفة مالايعقل قيل : فلا حاجة إلى جعل المفرد هنا راسية صفة لجمع القلة أعني أجبلا ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالا انتظامه لطائفة من جموع القلة وينزل كل منها منزلة مفردة كما قيل على أنه لامجال لذلك لأن جمعية كل من صيغتي الجمعين إنما هي
(13/92)

لشمول الافراد لاباعتبار شمول جمع القلة للافراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أن جبالا جمع أجبل أهم وتعقب بأنه لعل من قال : إن الرواسي هنا جمع راسية صفة أجبل لايلتزم ماذكروا أنه إذا صح إطلاق أجبل راسية على جبال قطر مثلا صح إطلاق الجبال على جبال جميع الاقطار من غير اعتبار جعل الجبال جمعا لجموع القلة نعم لايصح أن يكون جبال جمع أجبل لأنه يصير حينئذ جمع الجمع وهو خلاف ماصرح به أهل اللغة وجعل راسية صفة جبل لاأجبل والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كما في علامة يرد عليه أن تاء المبالغة في فاعلة غير مطرد
وقال أبو حيان : إنه غلب على الجبال وصفها بالرواسي ولذا استغنوا بالصفة عن الموصوف وجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وهو مما لاحاجة اليه لما سمعت وأورد عليه أيضا أن الغلبة تكون بكثرة الاستعمال والكلام في صحته من أول الأمر ففيما ذكره دور وأجيب بأن كثرة استعمال الرواسي غير جار على موصوف يكفي لمدعاه وفيه تأمل وكذا لاحاجة الى ماقيل : إنه جمع راسية صفة جبل مؤنث باعتبار البقعة وكل ذلك ناشيء من الغفلة عما ذكره محققو علماء العربية هذا والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها وفي الخبر لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تميد فخلق الله تعالى الجبال عليها فاستقرت فقالت الملائكة : ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال قال : نعم الحديد فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الحديد قال : نعم النار فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من النار قال : نعم الماء فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الماء قال : نعم الهواء فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الهواء قال نعم ابن آدم يتصدق الصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله وأول جبل وضع على الأرض كما أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء أبو قيس ومجموع مايرى عليها من الجبال مائة وسبعة وثمانون جبلا 1 وأبي الفلاسفة كون استقرار الارض بالجبال واختلفوا في سبب ذلك فالقائلون بالكرية منهم من جعله جذب الفلك لها من جميع الجوانب فيلزم أن تقف في الوسط كما يحكى عن ضم حديدي في بيت مغناطيس الجوانب كلها فانه وقف في الوسط لتساوي الجذب من كل جانب ورد بأن الاصغر أسرع انجذابا إلى الجاذب من الاكبر فما بال المدرة لاتنجذب إلى الفلك بل تهرب عنه إلى المركز وأيضا إن الأقرب أولى بالانجذاب من الأبعد فالمدرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب على أصلهم فكان يجب أن لاتعود ومنهم من جعله دفع الفلك بحركته لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قارورة كرية ثم أديرت على قطبيها ادارة سريعة فانه يعرض وقوف التراب في وسطها لتساوي الدفع من كل جانب ورد بأن الدفع إذا كانت قوته هذه القوة فما باله لايحس به وأيضا مابال هذا الدفع لايجعل حركة الرياح والسحب إلى جهة بعينها وأيضا ما باله لم يجعل انتقالنا إلى المغرب أسهل من انتقالنا إلى المشرق وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل كلما كان أعظم أيضا لأن اندفاع الأعظم من الدافع أبطأ من اندفاع الأصغر وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل النازل ابتداء أسرع من حركته انتهاء لأنه عند الابتداء أقرب الى الفلك وغير القائلين بها منهم من جعلها غير متناهية من جانب السفل وسبب سكونها عندهم انها لم يكن لها مهبط تنزل فيه ويرد دليل تناهي الاجسام ومنهم من قال بتناهيها وجعل السبب طفوها على الماء مع كون محدبها فوق مسطحها أسفل واما مع العكس ورد بأن مجرد الطفو لايقتضي السكون على أن فيه عند الفلاسفة بعد مافيه وذهب
(13/93)

محققوهم الى أن سكونها لذاتها لالسبب منفصل قال في المباحث الشرقية : والوجه المشترك في إبطال ماقالوا في سبب السكون أن يقال : جميع ماذكرتموه من الجذب والدفع وغيرهما أمور عارضة وغير طبيعية ولا لازمة للماهية فيصح فرض ماهية الأرض عارية عنها فاذا قدرنا وقوع هذا الممكن فاما أن تحصل في حيز معين أولا تحصل فيه وحينئذ أما أن تحصل في كل الاحياز أو لاتحصل في شيء منها والاخيران ظاهرا الفساد فتعين الأول وهو أن تختص بحيز معين ويكون ذلك لطبعها المخصوص ويكون حينئذ سكونها في الحيز لذاتها لالسبب منفصل واذا عقل ذلك فليعقل في اختصاصها بالمركز أيضا ثم ذكر في تكون الجبال مباحث الاول الحجر الكبير انما يتكون لأن حرا عظيما يصادف طينا لزجا أما دفعة أو على سبيل التدريج
وأما الارتفاع فله سبب بالذات وسبب بالعرض أما الأول فكما اذا نقلت الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض وجعلتها تلا من التلال وأما الثاني فان يكون الطين بعد تحجره مختلف الاجزاء في الرخاوة والصلابة وتتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب فتحفر الأجزاء الرخوة وتبقى الصلبة ثم لاتزال السيول والرياح تؤثر في تلك الحفر الى أن تغور غورا شديدا ويبقى ما تنحرف عنه شاهقا والاشبه أن هذه المعمورة وقد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف 1 وتكونت الجبال ومما يؤيد هذا الظن في كثير من الاحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالاصداف ثم لما حصلت الجبال وانتقلت البحار حصل الشهوق إما لأن السيول حفرت مابين الجبال وإما لأن ما كان من هذه المنكشفات أقوى تحجرا وأصلب طينة إذا أنهد مادونه بقى أرفع وأعلى إلا أن هذه أمور لاتتم في مدة تفي التواريخ بضبطها والثاني سبب عروق الطين في الجبال يحتمل أن يكون من جهة ماتفت منها وتترب وسالت عليه المياه ورطبته أو خلطت به طينها الجيد وأن يكون من جهة أن القديم من طين البحر غير متفق الجوهر منه مايقوى تحجره ومنه مايضعف وان يكون من جهة أنه يعرض للبحر أن يفيض قليلا قليلا على سهل وجبل فيعرض للسهل أن يصير طينا لزجا مستعدا للتحجر القوي وللجبل أن يتفتت كما إذا نقعت آجرة وترابا في الماء ثم عرضت الآجرة والطين على النار فانه حينئذ تتفتت الآجرة ويبقى الطين متحجرا والثالث قد نرى بعض الجبال منضودا ساقا فساقا فيشبه أن يكون ذلك لأن طينته قد ترتبت هكذا بأن كان ساق قد ارتكم أولا ثم حدث بعده في مدة أخرى ساق آخر فارتكم وكان قد سال على كل ساق من خلاف جوهره فصار حائلا بينه وبين الساق الآخر فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن أنتثر عما بين الساقين هذا وتعقب ماذكروه في سبب التكون بأنه لايخفى أن اختصاص بعض من اجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعا للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الاجزاء الرخوة والصلبة يستدعى سببا مخصصا وعند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار جل شأنه فليت شعري لم لم يفعل ذلك أولا حذفا
(13/94)

للمؤنة نعم لايبعد أن يكون ذلك من أسباب تكونها بارادة الله تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عند الاشاعرة إذ الكل عندهم مستند اليه سبحانه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأيهم وما ذكر من الاسباب أمور لاتفيد الا ظنا ضعيفا وحديث رؤية أجزاء الحيوانات المائية كالاصداف كذلك أيضا فانا كثيرا ما نرى في ذلك مواضع المطر وقد أخبرني من أثق به أنه شاهد ضفادع وقعت في المطر على أن ذلك لايتم على تقدير أن يكون المكشوف من الارض قد انكشف في مبدأ الفطرة ولم يكن مغمورا بالماء ثم انكشفت وهو مما ذهب اليه بعض محققي الفلاسفة أيضا واعترضوا على القائلين بأن الانكشاف قد حصل بعد بأن أقوى أدلته أن حضيص الشمس في جانب الجنوب فقرب الشمس الى الارض هناك أكثر من جانب الشمال بقدر ثخن المتمم من ممثلها فتشتد بذلك الحرارة هناك فانجذب الماء من الشمال إلى الجنوب لأن الحرارة جذابة للرطوبة فلذا انكشف الربع الشمالي فاذا انتقل الحضيض الى جانب الشمال انعكس الأمر ويرد عليه أنه لو كان كذلك لكان الربع الشمالي الآخر أيضا مكشوفا إذ لافرق بين الربعين في ذلك وفي التزام ذلك بعد على أنه لم يلتزمه أحد
ثم إن وجود الجبال في المغمور وجودها في المعمور يستدعي أنه كان معمورا وأن الحضيض كان في غير جهته اليوم وهو قول بأن البر لايزال يكون بحرا والبحر لايزال يكون برا بتبدل جهتي الاوج والحضيض فيكون المنكشف تارة جانب الشمال وأخرى جانب الجنوب وحيث إن ذلك إنما يكون على سبيل التدريج يقتضي أن نشاهد اليوم شيئا من جانب الجنوب منكشفا ومن جانب الشمال مغمورا ولا تظن وجود ذلك ولو كان لاشتهر فان أوج الشمس اليوم في عاشرة السرطان وحركته في كل سنة دقيقة تقريبا فيكون من الوقت الذي انتقل فيه من الجانب الشمالي إلى اليوم آلاف عديدة من السنين يغمر فيها كثير ويعمر كثير نعم يحكى أن جزيرة قبرس كانت متصلة بالبر ثم حال البحر بينهما لكنه على تقدير ثبوته ليس مما نحن فيه ولا نسلم أن يكي دنيا مما حدث انكشافها لجواز أن تكون منكشفة من قبل فالحق أن هذا البر بعد أن وجد لم يصر بحرا وهذا البحر المحيط بعد أن أحاط لم يصر برا وهو الذي تقتضيه الاخبار الالهية والآثار النبوية نعم جاء في بعض الآثار ماظاهره أن الأرض المسكونة كانت مكشوفة في مبدأ الفطرة كأثر الياقوتة وفي بعض آخر منها ماظاهره أنها كانت مغمورة كخبر ابن عباس أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق أمر الريح فأبدت عن حشفة ومنها دحيت الارض ماشاء الله تعالى في الطول والعرض فجعلت تميد فجعل عليها الجبال الرواسي وفي التوراة ماهو نص في ذلك ففي أول سفر الخليقة منها أول ما خلق الله تعالى السماء والأرض وكانت غامرة مستبحرة وكان هناك ظلام وكانت رياح الاله تهب على وجه الماء فشاء الله تعالى أن يكون نور فكان ثم ذكر فيه أنه لما مضى يوم ثان شاء الله تعالى أن يجتمع الماء من تحت السماء إلى موضع واحد ويظهر اليبس فكان كذلك وسمى الله سبحانه اليبس أرضا ومجتمع الماء بحارا وفيه ايضا إن خلق النيرين كان في اليوم الثالث وهو آب عن جعل سبب الانكشاف ماسمعت عن قرب من قرب الشمس وما أشارت اليه هذه الآية ونطق به غيرها من الآيات من كون الجبال سببا لاستقرار الأرض وانها لولاها لمادت أمر لايقوم على أصولنا دليل يأباه فنؤمن به وإن لم نعلم ما وجه ذلك على التحقيق ويحتمل أن يكون وجهه أن الله تعالى خلق الأرض حسبما اقتضته حكمته صغيرة بالنسبة إلى سائر الكرات وجعل لها مقدارا من الثقل معينا ووضعها في المكان الذي وضعها فيه من
(13/95)

الماء وأظهر منها ماأظهر وليس ذلك الا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لالأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ماثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها مايثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال اليها النسبة السابقة لايضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والنقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير ولا يقال : إن خلقها ابتداء بحيث لاتزحزحها الامواج كان ممكنا فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الامواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم وهذا السؤال نظير أن يقال : إن خلق الانسان ابتداء بحيث لايؤثر فيه الجوع والعطش مثلا شيئا كان ممكنا فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر بعد كثيرة وليس ذلك إلا ناشئا عن الغفلة عما يترتب على ماصدر منه تعالى من الحكم ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم السلام فان ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا مارأوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال الخ
ويقال لمن يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الانسان ونحوه محتاجا وخلق مايزيل احتاجه دون خلقه ابتداء على وجه لايحتاج معه إلى شيء فان بين شيئا قلنا بمثله فيما نحن فيه ثم إنا نقول : ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتادا للأرض وسببا لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لايعلمها إلا الله تعالى
وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا : إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فاذن لاتجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لايدع شيئا من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لايكون إلا إذا كانت الأرض صلبة وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فوجوه أحدها أن في باطن الجبال من النداوات مالايكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيهما : أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلاجرم يبقى على ظاهرها من الانداء والثلوج ما لايبقى على ظاهر الأرضين وثالثهما : إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر إقامتها في مواضع لاتنفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لاتحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ماذكر وسمعت من بعض 1 العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض
(13/96)

وذلك لاحتباس الأبخرة الطالبة لجهة العلو فيها وهويقتضي أن الأرض قبلها كانت مغمورة وهو خلاف مايقتضيه ظاهر قوله عليه الصلاة و السلام لما خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت على أنه يتراءى المنافاة بين جعلها أوتادا المصرح به في الآيات وكونها جاذبة للأرض إلى جهة العلو ولايرد على ماذكر في توجيه كونها سببا لاستقرار الأرض أن كونها فيها كشرع في سفينة ينافيه إذ يقتضي ذلك أن تتحرك الأرض إلى خلاف جهة مهب الهواء لأنا من وراء منع حدوث الهواء على وجه يحركها بسببه كذلك
وهذا كله إذا حكمنا العقل في البين وتقيدنا بالعاديات وأما إذا أسندنا كل ذلك إلى قدرة الفاعل المختار جل شأنه وقلنا : إنه سبحانه خلق الأرض مائدة وجعل عليها الجبال وحفظها عن الميد لحكم علمها تحار فيها الأفكار ولايحيط بها إلا من أوتى علما لدنيا من ذوي الأبصار ارتفعت عنا جميع المؤن وزالت سائر المحن ولا يلزمنا على هذا أيضا القول بأن الأرض وسط العالم كما هو رأي أكثر الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين
ولم يخالف من الاولين الا شرذمة زعموا أن أكره النار في الوسط لأنها أشرف من الأرض لكونها مضيئة لطيفة حسنة اللون وكون الأرض كثيفة مظلمة قبيحة اللون وحيز الاشرف يجب أن يكون أشرف الاحياز وهو الوسط فاذن هي في الوسط وهذا من الاقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أنا لانسلم شر أفة النار على الأرض مطلقا فانها ان ترجحت عليها باللطافة وما معها فالارض راجحة بأمور أحدها أن النار مفرطة الكيفية مفسدة والارض ليست كذلك وثانيها أنها لاتبقى في المكان الغريب مثل ماتبقى الارض وثالثهما أن الارض حيز الحياة والنشوء والنار ليست كذلك وماذكر من استحسان الحس البصري للنار يعارضه استحسان الحس اللمسي للأرض بالنسبة اليها على أنا لو سلمنا الاشرفية فهي لاتقتضي إلا الوسط الشرفي لا المقداري اذ لاشرف له وذلك ليس هو الا حيزها الذي يزعمه جمهور المتقدمين لها لأنه متوسط بين الأجرام العنصرية والاجرام الفلكية ولم يخالف من الآخرين الا شرذمة قليلة هم هرشل وأصحابه زعموا أن الشمس ساكنة في وسط العالم وكل ماعداها يتحرك عليها لأنها جرم عظيم جدا وكل الاجرام دونها لاسيما الارض فانها بالنسبة اليها كلا شيء والحكمة سكون الاكبر وتحرك الاصغر وهذا ايضا من الاقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أن سكون الاصغر لاسيما بين أمواج ورياح وحركة الأكبر لاسيما مثل الحركة التي يثبتها الجمهور للشمس أبلغ في القدرة وتعليلهم ذلك أيضا بأنا لانرى للشمس ميلا عما يقال له منطقة البروج فيقتضي أن تكون ساكنة بخلاف غيرها لايخفى مافيه والذي يميل اليه كثير من الناس أن تحت الارض ماء وانها فيه كبطيخة خضراء في حوض وجاء في بعض الأخبار أن الأرض على متن ثور والثور على ظهر حوت والحوت في الماء ولا يعلم ما تحت الماء الا الذي خلقه وذكر غير واحد أن زيادة كبد ذلك الحوت هو الذي يكون أول طعام أهل الجنة فحملوا الحوت فيما صح من قوله صلى الله عليه و سلم : أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت على ذلك الحوت وبينوا حكمة ذلك الأكل أنه اشارة الى خراب الدنيا وبشارة بفساد اساسها وامن العود اليها حيث أن الارض التي كانوا يسكنونها كانت مستقرة عليه وخص الاكل بالزائدة لما بينه الاطباء من أن العلة اذا وقعت في الكبد دون الزائدة رجى برؤه فان وقعت في الزائدة هلك العليل فأكلهم من ذلك أدخل في البشرى ومنع بعضهم صحة الاخبار الدالة على أنها ليست على الماء بلا واسطة لاسيما الخبر الطويل الذي
(13/97)

ذكره البغوي في سورة ن ولم ينكر صحة الخبر في ان أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت الا أنه قال : المراد بالحوت فيه حوت مابدليل مارواه سلطان المحدثين البخاري أول مايأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت يأكل منه سبعون الفا بتنكير لفظ حوت ونظير ذلك في صحيح مسلم حيث ذكر فيه أنه تكون الارض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وان ادامهم ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا وذكر حال الأرض فيه لايعين مراد الخصم فانه يجوز أن يكون الجمع بين ذلك للاشارة الى خراب الدنيا وانقطاع أمر الاستعداد للمعاش وانصرام الحياة العنصرية المائية أما الاشارة الى الأول فظاهر وأما إلى الثاني فبالاستيلاء على الثور وأكل زائدة كبده فانه عمدة عدة الحارث المهتم لأمر معاشه وفي الخبر كلكم حارث وكلكم همام وأما الإشارة إلى الثالث فبالاستيلاء على الحوت وأكل زائدة كبده أيضا فانه حيوان عنصري مائي لايمكن أن يحيا سويعة إذا فارق الماء وبهذا يظهر المناسبة التامة بين ما اشتمل عليه الخبر ولا يبعد أن يكون ظهور الحياة الدنيوية بصورة الحوت وما يحتاج اليه فيها من أسباب الحراثة الضرورية في أمر المعاش بصورة الثور وكل الصيد في جوف الفرا ويكون ذلك من قبيل ظهور الموت في صورة الكبش الاملح في ذلك اليوم وقال بعض العارفين في سر تخصيص الكبد : إنه بيت الدم وهو بيت الحياة ومنه تقع قسمتها في البدن الى القلب وغيره وبخار ذلك الدم هو النفس المعبر عنه بالروح الحيواني ففي كونه طعاما لأهل الجنة بشارة بأنهم أحياء لايموتون وذكر أنه يستخرج من الثور الطحال وهو في الحيوان بمنزلة الاوساخ في البدن فانه يجتمع فيه أوساخ البدن مما يعطيه البدن من الدم الفاسد فيعطي لأهل النار يأكلونه وكان ذلك من الثور لأنه بارد يابس كطبع الموت وجهنم على صورة جاموس والغذاء لأهل النار من طحاله أشد مناسبة منه فلما فيه من الدمية لايموت أهل النار ولما أنه من أوساخ البدن ومن الدم الفاسد المؤلم لايحيون ولا ينعمون فمايزيدهم أكله الا مرضا وسقما
ونقل عن الغزالي والعهدة على الناقل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل تارة ماتحت الأرض فقال : الحوت وسئل أخرى فقال : الثور وعنى عليه الصلاة و السلام بذلك البرجين الذين هما من البروج الاثني عشر المعلومة وقد كان كل منهما وتد الارض وقت السؤال ولو كان الوتد إذ ذاك العقرب مثلا لقال عليه الصلاة و السلام العقرب تحت الأرض وأنت تعلم أن ذلك بمعزل عن مقاصد الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم ولايتم على ما وقفت عليه من أن الأرض على متن الثور والثور على ظهر الحوت والحوت على الماء والقول بأن المراد أن الأرض فوق الثور باعتبار أنه وتدها حين الأخبار والثور فوق الحوت باعتبار أنه من البروج الشمالية والحوت من البروج الجنوبية والبروج الشمالية في غالب المعمورة تعد فوق البروج الجنوبية والحوت فوق الماء باعتبار أنه ليس بينه وبينه حائل يرى لايقدم عليه الا ثور أو حمار وبعضهم يؤول خبر الترتيب بأن المراد منه الاشارة الى أن عمارة الارض موقوفة على الحراثة وهي موقوفة على السعي والاضطراب وذلك الثور من مبادى الحراثة والحوت لايكاد يسكن عن الحركة في الماء وهو كما ترى والذي ينبغي أن يعول عليه الايمان بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صح فليس وراءه عليه الصلاةوالسلام حكيم والترتيب الذي يذكره الفلاسفة لم يأتوا له ببرهان مبين وليس عندهم فيه سوى مايفيد الظن وحينئذ فيمكن القول
(13/98)

بترتيب آخر نعم لاينبغي القول بترتيب يكذبه الحس ويأباه العقل الصريح وإن جاء مثل ذلك عن الشارع وجب تأويله كما لايخفى 1 وذكر بعض الفضلاء أنه لم يجيء في ترتيب الاجرام العلوية والسفلية وشرح أحوالها كما فعل الفلاسفة عن الشارع صلى الله عليه و سلم لما أن ذلك ليس من المسائل المهمة في نظره عليه الصلاة و السلام وليس المهم الا التفكر فيها والاستدلال بها على وحدة الصانع وكماله جل شأنه وهو حاصل بما يحس منها فسبحان من رفع السماء بغير عمد ومد الارض وجعل فيها رواسي وأنهرا جمع نهر وهو مجرى الماء الفائض وتجمع أيضا على نهر ونهور وأنهر وتطلق على المياه السائلة على الأرض وضمها الى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث أن الجبال سبب لتكونها على ما قيل وتعقب بأنه مبني على ماذهب اليه بعض الفلاسفة من أن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت اليها الابخرة احتسبت فيها وتكاملت فتنقلب مياها وربما خرقتها فخرجت وذكر أن الذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء لكن لما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيرا ماتخرج الانهار منها ويكفي هذا لتشريكهما في عامل واحد وجعلهما جملة واحدة وكأنهم عنوا بالنزول من السماء على الجبال نزول ماء المطر من السماء التي هي أحد الأجرام العلوية عليها والأكثرون أن النزول من السحاب والمراد من السماء جهة العلو وهو الذي تحكم به المشاهدة وقد أسلفنا لك مايتعلق بذلك أول الكتاب فتذكر
والانهار التي جعلها الله تعالى في الارض كثيرة وذكر بعضهم أنها مائة وستة وتسعون نهرا 2 وقيل : هي أكثر من ذلك وجاء في أربعة منها أنها من الجنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة والأولان بالألف بعد الحاء وهما نهران في أرض الأردن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنة وقول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام غلط أو أنه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الارمن وهي مجاورة للشام وهما غير سيحون وجيحون بالواو فان سيحون نهر الهند وهو يجري من جبال بأقاصيها مما يلي العين إلى أن ينصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند ومقدار جريه أربعمائة فرسخ وجيحون نهر بلخ يجري من أعين إلى أن يأتي خوارزم فيتفرق بعضه في أماكن ويمضي باقيه إلى البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرجانية أسفل خوارزم يجري منه اليها السفن طولها مسيرة شهر وعرضها نحو ذلك وأما قول القاضي عياض هذه الانهار الاربعة أكبر أنهار بلاد الاسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان فقد قال النووي : إن فيه إنكارا من أوجه أحدها قوله : الفرات بالعراق وليست بالعراق وإنما هي فاصلة بين الشام والجزيرة الثاني قوله : سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الاسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس والثالث قوله : ببلاد خراسان إنما سيحان وجيحان ببلاد الارمن بقرب الشام انتهى
وقد يجاب عن الاول بنحو ماأجيب به عن الجوهري ولا يخفى أنه بعد زعم الترادف يصح الحكم بأنهما ببلاد خراسان كما يصح الحكم بأنهما ببلاد الأرمن وفي كون هذه الانهار من الجنة تأويلان الأول أن المراد تشبيه مياهها
(13/99)

بمياه الجنة والاخبار بامتيازها على ماعداها ومثله كثير في الكلام والثاني ماذكره القاضي عياض ان الايمان عم بلادها وأن الاجسام المتغذية منها صائرة إلى الجنة وهذا ليس بشيء ولورد إلى اعتبار التشبيه أي أنها مثل أنهار الجنة في أن المتغذين من مائها المؤمنون لكان أوجه وقال النووي : الاصح أن الكلام على ظاهره وأن لها مادة من الجنة وهي موجودة اليوم عند أهل السنة
ويأبى التأويل الأول مافي صحيح مسلم أيضا من حديث الاسراء وحدث نبي الله صلى الله عليه و سلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت : ياجبريل ماهذه الأنهار فقال : أما النهران الباطنان فنهران في الجنة 1 وأما الظاهران فالفرات والنيل وضمير أصلها السدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره
والقاضي عياض قال هنا : إن هذا الحديث يدل على ان أصل سدرة المنتهى في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها وتعقبه النووي بأن ذلك ليس بلازم بل معناه أن الانهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى خرج من الارض وتسير فيها وهذا لايمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير اليه قيل : ولعل الله تعالى يوصل مياه هاتيك الانهار بقدرته الباهرة إلى محالها التي يشاهد خروجها منها من حيث لايراها أحد وماذلك على الله بعزيز والظاهر أن المراد أصل مياهها الخارجة من محالها لاهي وما ينظم اليها من السيول وغيرها وكأني أرى بعض الناس ليسنى يلتزم ذلك في جميع مايجري في هاتيك الانهار وبعضهم أيضا يجعل الاخبار في هذا الشأن اشارات إلى أمور أنفسية فقط وليس مما ترتضيه الانفس المرضية نعم أنا لا أمنع التأويل مع بقاء الامر أفاقيا وليس عدم اعتقاد الظاهر مما يخل بالدين كما لايخفى على من لاتعصب عنده
وللأخباريين في هذه الانهار كلام طويل تمجه أسماع ذوي الالباب ولا يجري في أنهار قلوبهم ولا أراه يصلح الا للالقاء في البحر
وجاء في بعض الأخبار مرفوعا نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة وجيحون وحمل ذلك على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم شبه النهرين الأولين لنفعهما بسهولة بالمؤمن والنهرين الأخيرين بالكافر لعدم نفعهما كذلك أنهما إنما يخرج في الأكثر ماؤهما بآلة ومشقة وإلا فوصف ذلك بالايمان والكفر على الحقيقة غير ظاهر ثم ان أفضل الأنهار كما قال غير واحد النيل وباقيها على السواء وزاد بعضهم في عداد ماهو من الجنة دجلة وروى في ذلك خبرا عن مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وليس مما يعول عليه والله تعالى أعلم ومن كل الثمرات متعلق يجعل في قوله تعالى : جعل فيها زوجين اثنين أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم ان المراد بذلك الشفعان اذ يطلق الزوج على المجموع لكن اثنينية ذلك اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين إما في اللون كالابيض والاسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وماأشبه ذلك
وقيل : المعنى خلق في الأرض من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجينحين مدها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت وتعقب أنه دعوى بلا دليل مع أن الظاهر خلافه فان النوع الناطق المحتاج إلى زوجين خلق ذكره
(13/100)

أولاأولا فكيف في الثمرات وتكون واحد من كل أولا كاف في التكون والوجه ماذكر أولا وجوز أن يتعلق الجار بجعل الاول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية الجعل
وزعم بعضهم أن المراد بالزوجين على تقدير تعلق الجار بجعل السابق الشمس والقمر وقيل : الليل والنهار وكلا القولين ليس بشيء يغشي الليل والنهار أي يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا ففيه اسناد ما لمكان الشيء اليه وفي جعل الجو مكانا للنهار تجوز لأن الزمان لا مكان له والمكان إنما هو للضوء الذي هو لازمه وجوز في الآية استعارة كقوله تعالى : يكور الليل على النهار يجعله مغشيا للنهار ملفوفا عليه كاللباس على الملبوس قيل : والاول أوجه وأبلغ واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أن اللفظ يحتملها إلا أن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وان كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار ظهوره في الأرض
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر يغشى بالتشديد وقد تقدم تمام الكلام في ذلك إن في ذلك أي فيما ذكر من مد الارض وجعل الرواسي عليها وإجراء الانهار فيها وخلق الثمرات واغشاء الليل النهار وفي الاشارة بذلك تنبيه على عظم المشار اليه في بابه لآيت باهرة قيل : هي آثار الافاعيل البديعة جلت حكمة صانعها ففي على معناها فان تلك الآثار مستقرة في تلك الافاعيل منوطة بها وجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الافاعيل لقوم يتفكرون
3
- فان التفكر فيها يؤدي إلى الحكم بأن يكون كل من ذلك على هذا النمط الرائق والاسلوب اللائق لابد له من مكون قادر حكيم يفعل مايشاء ويحكم مايريد والفكرة كما قال الراغب قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للأنسان دون الحيوان ولا يقال : إلا فيما لايمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روى تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في الله تعالى إذ كان الله سبحانه منزها أن يوصف بصورة
وقال بعض الادباء : الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الامور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها والمشهور أنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول وقد تقدم وجه جعل هذا مقطعا في الآية وذكر الامام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلي أن يجعل مقطعها إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الاشكالات الكوكبية فرده الله تعالى بقوله : لقوم يتفكرون لأن من تفكر فيها علم أنه لايجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر
وفي الأرض قطع جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الاوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لاتنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة لا للزرع الى غير ذلك متجاورات أي متلاصقة والمقصود الاخبار بتفاوت أجزاء الارض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الاكثرين وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الارض قرى قريب بعضها من بعض واخرج عن
(13/101)

الحسن انه فسر ذلك بالاهواز وفارس والكوفة والبصرة ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد سرابيل تقيكم الحر والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات وفي بعض المصاحف وقطعا متجاورات بالنصب أي وجعل في الارض قطعا وجنات أي بساتين كثيرة 1 من أعناب أي من أشجار الكرم وزرع من كل نوع من أنواع الحبوب وافراده لمراعاة أصله حيث كان مصدرا ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الاعناب مما يبهر العقول ما لايخفى ولو لم يكن فيها الا انها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى أن منها شفافا لايحجب البصر عن ادراك مافي جوفه لكفى ومن هنا جاء في بعض الاخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنات في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها وتأخير قوله تعالى : ونخيل لئلا يقع بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى : صنوان وغير صنوان فاصلة أو يطول الفصل بين المتعاطفين وصنوان جمع صنو وهو الفرع الذي يجمعه وآخر اصل واحد وأصله المثل ومنه قيل : للعم صنو وكثر الصاد في الجمع كالمفرد هو اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور ولغة تميم وقيس صنوان بالضم كذئب وذؤبان وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والسلمي وابن مصرف ونقله الجعبري في شرح الشاطبية عن حفص
وقرأ الحسن وقتادة بالفتح وهو على ذلك اسم جمع كالسعدان لاجمع تكسير لأنه ليس من أبنتيه وقرأ الحسن جنات بالنصب عطفا عند بعض على زوجين مفعول جعل و من كل الثمرات حينئذ حال مقدمة لاصلة جعل لفساد المعنى عليه أي جعل فيها زوجين حال كونه من كل الثمرات وجنات من أعناب ولا يجب هنا تقييد المعطوف عليه
وزعم بعضهم أن العطف على رواسي وقال أبو حيان : الأولى اضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين أو بالجر عطفا على كل الثمرات على أن يكون هو مفعولا بزيادة من في الاثبات و زوجين اثنين حالا منه والتقدير وجعل فيها من كل الثمرات حال كونها صنفين فلعل عدم نظم قوله تعالى : وفي الأرض قطع متجاورات في هذا السلك مع أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض خلق الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها على ماقيل الايماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع وقرأ جمع من السبعة وزرع ونخيل بالجر على أن العطف على أعناب وهو كما في الكشف من باب متقلدا سيفا ورمحا أو المراد أن في الجنات فرجا مزروعة بين الاشجار والا فلا يقال للمزرعة وحدها جنة وهذا أحسن منظرا وأنزه وادعى أبو حيان أن في جعل الجنة من الاعناب تجوز لأن الجنة في الحقيقة هي الأرض التي فيها الاعناب ويسقى أي ماذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرأ أكثر السبعة بالتأنيث مراعاة للفظ وهي قراءة الحسن وأبي جعفر قيل : والاول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي بماء واحد لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي من ماء الامطارا ومن ماء الانهار وقيل : إن الثاني أوفق بقوله سبحانه : ونفضل أي مع وجود أسباب التشابه بمحض قدرتنا واحساننا
(13/102)

بعضها على بعض آخر منها في الأكل لمكان التأنيث وأمال فتحة القاف حمزة والكسائي والأكل بضم الهمزة والكاف وجاء تسكينها مايؤكل وهو هنا الثمر والحب وقول بعضهم : أي في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما من باب التغليب وقرأ حمزة والكسائي يفضل بالياء على بناء الفاعل ردا على يدبر و يفصل و يغشى وقرأ يحيى بن يعمر وهو أول من نقط المصحف وأبو حيوة والحلبي عن عبدالوارث بالياء على بناء المفعول ورفع بعضها وفيه مالايخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر مغن عن بناء الفعل للفاعل إن في ذلك الذي فصل من أحوال القطع وغيرها لآيات كثيرة عظيمة باهرة لقوم يعقلون
4
- يعملون على قضية عقولهم فان من عقل هاتيك الاحوال العجيبة وخروج الثمار المختلفة في الاشكال والالوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتلاصقة مع اتخاذ ما تسقى به بل وسائر أسباب نموها لايتلعثم في الجزم بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لها لا يعجزه شيء وقيل : المراد أن من عقل ذلك لايتوقف في الجزم بأن من قدر على ابداع ماذكر قادر على اعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس ولعل ماذكره أولى ثم أن الاحوال وإن كانت هي الآيات أنفسها لا انها فيها إلا أنها قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونه آية ففي تجريدية مثلها في قوله تعالى : لهم فيها دار الخلد على المشهور وجوز أن يكون المشار اليه الاحوال الكلية والايات افرادها الحادثة شيئا فشيئا في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والامكنة المشاهدة لأهلها ففي على معناها ومنهم من فسر الآيات بالدلالات لتبقى في على ذلك وهو كما ترى وحيث كانت دلالة هذه الاحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق سبحانه كونها آيات بمحض التعقل كما قال أبو حيان وغيره ولذلك على ماقيل لم يتعرض جل شأنه لغير تفضيل بعضها على بعض في الاكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لاحاجة إلى التفكر في ذلك أيضا وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين ولبعض الرجاز فيما تشير اليه الآية : والارض فيها عبرة للمعتبر تخبر عن صنع مليك مقتدر تسقى بماء واحد اشجارها وبقعة واحدة قرارها والشمس والهواء ليس يختلف وأكلها مختلف لا يأتلف لو أن ذا من عمل الطبائع أو أنه صنعة غير صانع لم يختلف وكان شيئا واحدا هل يشبه الاولاد إلا الوالدا الشمس والهواء يا معاند والماء والتراب شيء واحد فما الذي أوجب ذا التفاضلا الا حكيم لم يرده باطلا وأخرج ابن جرير عن الحسن في هذه الآية أنه قال : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم كانت الارض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها فصارت قطعا متجاورة فينزل عليها الماء فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد فلو كان الماء ملحا قيل إنما استسبخت هذه من قبل الماء كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل عليهم من السماء
(13/103)

تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع وتقسو قلوب فتلهو وتسهو ثم قال : والله ما جالس القرآن أحد الاقام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين الا خسارا أه قال أبو حيان وهو شبيه بكلام الصوفية وإن تعجب أي إن يقع منك عجب يامحمد فعجب قولهم بعد مشاهدة الآيات الدالة على عظيم قدرته تعالى أي فليكن عجبك من قولهم : أءذا كنا ترابا إلى آخره فانه الذي ينبغي أن يتعجب منه ورفع عجب على أنه خبر مقدم و قولهم مبتدأ مؤخر وقدم الخبر للقصر والتسجيل من أول الامر بكون قولهم أمرا عجيبا وفي البحر أنه لابد من تقدير صفة لعجب لأنه لايتمكن المعنى بمطلق فيقدر والله تعالى أعلم فعجب أي عجب أو فعجب غريب وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ للمسوغ وهو الوصف ولا يضر كون الخبر معرفة وذلك كما قال سيبويه في كم مالك ان كم مبتدأ لوجود المسوغ فيه وهو الاستفهام وفي نحو اقصد رجلا خير منه أبوه إن خبر مبتدأ للمسوغ أيضا وهو العمل ونقل أبو البقاء القول بأن عجب بمعنى معجب ثم قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به
وتعقب بأنه لايجوز ذلك لأنه لايلزم من كون شيء بمعنى شيء أن يكون حكمه في العمل حكمه فمعجب يعمل و عجب لايعمل ألا ترى أن فعلا كذبح وفعلة كقبض وفعلة كغرفة بمعنى مفعول ولا يعمل عمله فلا تقول مررت برجل ذبح كبشه أو قبض ماله أو غرفة ماؤه بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومغروف ماؤه وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا العمل عن المفعول وحصر النحويون مايرفع الفاعل في أشياء ولم يعدوا المصدر اذا كان بمعنى اسم الفاعل منها
والظاهر أن أئذا كنا الى آخره في محل نصب مقول لقول محكى به والاستفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار وجوز أن يكون في محل رفع على البدلية من قولهم على أنه بمعنى المقول وهو على ما قال أبو حيان : اعراب متكلف وعدول عن الظاهر وعليه فالعجب تكلمهم بذلك وعلى الاول كلامهم ذلك والعامل في إذا ما دل عليه قوله تعالى : إنا لفي خلق جديد وهو نبعث إو نعاد والجديد ضد الخلق والبالي ويقال : ثوب جديد أي كما فرغ من عمله وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه قطع من نسجه وتقديم الظرف لتقوية الانكار بالبعث بتوجيهه اليه في حالة منافية له وتكرير الهمزة في أئنا لتأكيد الانكار وليس مدار انكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونهم ترابا بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لايخفى قال أبو البقاء : ولايجوز أن ينتصب اذا بكنا لأنها مضافة اليها ولا بجديد لأن ما بعد أن لا يعمل فيها قبلها وكذا الاستفهام ورد الاول في المغنى بأن إذا عند من يقول بأن العامل فيها شرطها وهو المشهور غير مضافة كما يقوله الجميع اذا جزمت كما في قوله :
وإذا تصبك خصاصة فتحمل
قيل : فالوجه في رد ذلك أن عمله فيها موقوف على تعيين مدلولها وتعيينه ليس إلا بشرطها فيدور ونظر فيه الشهاب بأنها عندهم بمنزلة متى وأيان غير معينة بل مبهمة كما ذكره القائلون به وبه صرح في المغنى أيضا
وقيل : معنى الآية إن تعجب يا محمد من قولهم في انكار البعث فقولهم عجيب حقيق أن يتعجب منه
(13/104)

وتعقبه في البحر بأنه ليس مدلول اللفظ لأنه جعل فيه متعلق عجبه صلى الله عليه و سلم هو قولهم في انكار البعث وجواب الشرط هو ذلك القول فيتحد الشرط والجزاء إذ تقديره إن تعجب من انكارهم البعث فاعجب من قولهم في انكار البعث وهو غير صحيح ورد بأن ذلك مما اتحد فيه الشرط والجزاء صورة وتغايرا حقيقة كما في قوله صلى الله عليه و سلم : من كانت هجرته الى الله تعالى ورسوله فهجرته الى الله تعالى ورسوله وقرأ قولهم : من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى وهو أبلغ في الكلام لأن معناه أنه أمر لايكتنه كنهه ولا تدرك حقيقته وأنه أمر عظيم
وذهب بعض الى أن الخطاب في إن تعجب عام والمعنى إن تعجب يا من نظر مافي هذه الآيات وعلم قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجبا ممن ينكر مع هذا قدرته على البعث وهو أهون شيء عليه وقيل : المعنى إن تجدد منك التعجب لانكارهم البعث فاستمر عليه فان انكارهم ذلك من الاعاجيب وقيل : المراد إن كنت تريد أيها المريد عجبا فهلم فان من أعجب العجب انكارهم البعث واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا هذا وفي المؤمنين والعنكبوت والنمل والسجدة والواقعة والنازعات وبني اسرائيل في موضعين وكذا في الصافات فقرأ نافع والكسائي بجعل الاول استفهاما والثاني خبرا إلا في العنكبوت والنمل فعكس نافع وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت وأما في النمل فعلى أصله الا أنه زاد نونا
وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرا والثاني استفهاما الا في النمل والنازعات فعكس وزاد في النمل نونا كالكسائي وإلا في الواقعة فقرأ باستفهامين وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب إلا ابن كثير وحفصا فانهما قرأ في العنكبوت بالخبر في الاول والاستفهام في الثاني وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين أولئك مبتدأ والموصول خبره أي أولئك المنكرون للبعث ريثما عاينوا من آيات ربهم الكبرى مايرشدهم الى الايمان لو كانوا يبصرون الذين كفروا بربهم وتمادوا في ذلك فان انكار قدرته عز و جل انكار له سبحانه لأن الاله لايكون عاجزا مع ما في ذلك من تكذيبه جل شأنه وتكذيب رسله المتفقون عليه عليهم السلام وأولئك مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : الأغلال في أعناقهم وفيه احتمالان : الأول أن يكون المراد وصفهم بذلك في الدنيا فهو تشبيه وتمثيل لحالهم في امتناعهم عن الايمان وعدم الالتفات الى الحق بحال طائفة في أعناقهم أغلال وقيود لايمكنهم الالتفات معها كقوله : كيف الرشاد وقد خلفت في نفر لهم عن الرشد أغلال وأقياد كأنه قيل : أولئك مقيدون بقيود الضلالة لا يرجى خلاصهم الثاني أن يكون وصفهم به في الآخرة والكلام أما باق على حقيقته قال سبحانه : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل وروى ذلك عن الحسن قال : إن الاغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكنما جعلت في أعناقهم لكي إذا طغا بهم اللهب أرستهم في النار وأما مخرج مخرج التشبيه لحالهم بحال من يقدم للسياسة وقيل : المراد من الاغلال اعمالهم الفاسدة التي تقلدوها كالاغلال وهو جار على احتمال أن يكون ذلك في الدنيا أو في الآخرة والاول ناظر الى ما قيل والثاني الى قوله تعالى : أولئك أي الموصوفون بما ذكر
(13/105)

أصحاب النار هم فيها خلدون
5
- لاينفكون عنها قيل : وتوسيط الفصل ليس لتخصيص الخلود بمنكري البعث خاصة بل بالجميع المدلول عليه بقوله تعالى : أولئك الذين كفروا بربهم
وأورد على ذلك أن هم ليس ضمير فصل لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر يكون اسما معرفة أو مثل المعرفة في أنه لايقبل حرف التعريف كأفعل التفضيل وهذا ليس كذلك وأجيب بأن المراد بالفصل الضمير المنفصل وأنه أتى به وجعل الخبر جملة مع أن الاصل فيه الافراد لقصد الحصر والتخصيص المذكور كما في هو عارف
وقال بعضهم : لعل القائل بما ذكر لايتبع النحاة في الاشتراط المذكور كما أن الجرجاني والسهيلي جوزا ذلك إذا كان الخبر مضارعا واسم للفاعل مثله ويستعجلونك بالسيئة بالعقوبة التي هددوا بها على الاصرار على الكفر استهزاءا وتكذيبا قبل الحسنة أي العافية والسلامة منها والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة انه قال في الآية : هؤلاء مشركوا العرب استعجلوا بالشر قبل الخير فقالوا : اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم وقد خلت من قبلهم المثلات جمع مثلة كسمرة وسمرات وهي العقوبة الفاضحة وفسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالعقوبة المستأصلة للعضو كقطع الاذن ونحوه سميت بها لما بين العقاب والمعاقب به من المماثلة كقوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها أو هي ماخوذة من المثال بمعنى القصاص يقال : أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته بمعنى واحد أو هي من المثل المضروب لعظمها
والجملة في موضع الحال لبيان ركاكة رأيهم في الاستعجال بطريق الاستهزاء أي يستعجلونك بذلك مستهزئين بانذارك منكرين لوقوع ماأنذرتهم اياه والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين وقرأ مجاهد والأعمش المثلات بفتح الميم والثاء وعيسى بن عمرو في رواية الاعمش : وأبو بكر بضمهما وهو لغة أصلية ويحتمل أنه أتبع فيه العين للفاء وابن وثاب بضم الميم وسكون الثاء وهي لغة تميم وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء وهي لغة الحجازيين وإن ربك لذو مغفرة عظيمة للناس على ظلمهم أنفسهم بالذنوب والمعاصي والجار والمجرور في موضع الحال من الناس والعامل فيها هو العامل في صاحبها وهو مغفرة أي أنه تعالى لغفور للناس مع كونهم ظالمين : قيل : وهذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة وهو جواز مغفرة الكبائر والصغائر بدون توبة لأنه سبحانه ذكر المغفرة مع الظلم أي الذنب ولا يكون معه الا قبل التوبة لأن التائب من الذنب كمن لاذنب له وأول ذلك المعتزلة بأن المراد مغفرة الصغائر لمجتنب الكبائر أو مغفرتها لمن تاب أو المراد بالمغفرة معناها اللغوي وهو الستر بالامهال وتأخير العقاب الى الآخرة كأنه قيل : انه تعالى لايعجل للناس العقوبة وان كانوا ظالمين بل يستر عليهم بتأخيرها واعترض التأويل بالتخصيص بأنه تخصيص للعام من غير دليل واجيب بأن الكفر قد خص بالاجماع فيسري التخصيص الى ذلك وتعقب الأخير بأنه في غاية البعد لأنه كما قال الامام لايسمى مثله مغفرة والا لصح ان يقال : الكفار مغفورون ورد بأن المغفرة حقيقتها في اللغة الستر وكونهم مغفورين بمعنى
(13/106)

مؤخر عذابهم الى الآخرة لامحذور فيه وهو المناسب لاستعجالهم العذاب وأجيب بأن المراد أن ذلك مخالف للظاهر ولإستعمال القرآن وذكر العلامة الطيبي أنه يجب تأويل الآية بأحد الأوجه الثلاثة لأنها بظاهرها كالحث على الظلم لأنه سبحانه وعد المغفرة البالغة مع وجود الظلم وتعقب ذلك في الكشف فقال : فيه نظر لأن الأسلوب يدل على أنه تعالى بليغ المغفرة لهم مع استحقاقهم لخلافها لتلبسهم بما العقاب أولى بهم عنده والظاهر أن التأويل بناء على مذهب الاعتزال وأما على مذهب أهل السنة فانما يؤول لو عم الظلم الكفر ثم قال : والتأويل بالستر ولامها أحسن فيكون قوله تعالى : وإن ربك لشديد العقاب
6
- لتحقيق الوعيد بهم وإن كانوا تحت ستره وإمهاله ففيه اشارة الى أن ذلك إمهال لا اهمال والمراد بالناس اما المعهودون وهم المستعجلون المذكورون قبل أو الجنس دلالة على كثرة الهالكين لتناولهم وأضرابهم وهذا جار على المذهبين وكذا اختار الطيبي هذا التأويل وقال هو الوجه والآية على وزان قوله تعالى : قل انزله الذي يعلم السر في السموات والارض إنه كان غفورا رحيما على ماذكره الزمخشري في تفسيره وأنت قد سمعت ماله وما عليه فتدبر واختار غير واحد ارادة الجنس من الناس وهو مراد أيضا في شديد العقاب
والتخصيص بالكفار غير مختار ويؤيد ذلك ماأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية وإن ربك الخ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لولا عفو الله تعالى وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد ويقول الذين كفروا وهم المستعجلون كما روى عن قتادة وكأنه إنما عبر عنهم بذلك نعيا عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال حيث لم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من جنس الآيات وقالوا : لولا أنزل عليه ءاية من ربه مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام من قلب العصا حية واحياء الموتى عنادا أو مكابرة والا ففي أدنى آية أنزلت عليه عليه الصلاة و السلام غنية وعبرة لأولي الالباب والتعبير بالمضارع استحضارا للحال الماضية وجوز أن يكون اشارة الى أن ذلك القول ديدنهم وتنوين آية للتعظيم وجوز أن يكون للوحدة
إنما أنت منذر مرسل للانذار من سوء عاقبة ما نهى الله تعالى عنه كدأب من قبلك من الرسل وليس عليك إلا الاتيان بما يعلم به نبوتك وقد حصل بما لامزيد عليه ولا حاجة إلى الزامهم والقامهم الحجر بالاتيان بما اقترحوه ولكل قوم هاد
7
- أي نبي داع إلى الحق مرشد اليه بآية تليق به وبزمانه والتنكير للابهام وروى هذا عن قتادة أيضا ومجاهد وعليه فقوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى استئناف جوابا عن سؤال من يقول : لماذا لم يجابوا إلى المقترح فتنقطع حجتهم ولعلهم يهتدون بأن ذلك أمر مدبر ببالغ العلم ونافذ القدرة لا عن الجزاف واتباع آرائهم السخاف وجوز أن يراد بالهادي هو الله تعالى وروى ذلك عن ابن عباس والضحاك وابن جبير فالتنوين فيه للتفخيم والتعظيم وتوجيه الآية على ذلك أنهم لما أنكروا الآيات عنادا لكفرهم الناشيء عن التقليد ولم يتدبروا الآيات قيل : إنما أنت منذر لاهاد مثبت للأيمان في صدورهم صاد لهم عن جحودهم فان ذلك إلى الله تعالى وحده وهو سبحانه القادر عليه وعلى هذا قيل : يجوز أن يكون قوله سبحانه : الله خبر مبتدأ محذوف أي هو الله ويكون ذلك تفسيرا لهاد و يعلم جملة مقررة
(13/107)

لاستقلاله تعالى بالهداية كالعلة لذلك ويجوز أن يكون جملة الله يعلم مقررة ويكون من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كأنه هو تعالى يعلم أي ذلك الهادي والأول بعيد جدا وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن جرير عن عكرمة وأبي الضحى أن المنذر والهادي هو رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجه ذلك بأن هاد عطف على منذر و لكل قوم متعلق به قدم عليه للفاصلة وفي ذلك دليل على عموم رسالته صلى الله عليه و سلم وشمول دعوته وفيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجار والمجرور والنحويون في جوازه مختلفون وقد يجعل هاد خبر مبتدأ مقدر أي وهو هاد أو وأنت هاد وعلى الأول فيه التفات وقال أبو العالية : الهادي العمل وقال علي بن عيسى : هو السابق إلى الهدى ولكل قوم سابق سبقهم الى الهدى قال أبو حيان : وهذا يرجع إلى أن الهادي هو النبي لأنه الذي يسبق الى ذلك وعن ابي صالح أنه القائد الى الخير أو إلى الشر والكل كما ترى وقالت الشيعة : إنه على كرم الله تعالى وجهه ورووا في ذلك أخبارا وذكر ذلك القشيري منا وأخرج ابن جرير وابن مردويه والديلمي وابن عساكر عن ابن عباس قال : لما نزلت إنما أنت منذر الآية وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على صدره فقال : أنا المنذر وأومأ بيده الى منكب على كرم الله تعالى وجهه فقال : أنت الهادي ياعلي بك يهتدي المهتدون من بعدي وأخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في الاوسط والحاكم وصححه وابن عساكر أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المنذر وأنا الهادي وفي لفظ والهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه
واستدل بذلك الشيعة على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا فصل وأجيب بأنا لانسلم صحة الخبر وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند أهل الاثر وليس في الآية دلالة على ما تضمنه بوجه من الوجوه على أن قصارى ما فيه كونه كرم الله تعالى وجهه به يهتدي المهتدون بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لايستدعي إلا إثبات مرتبة الارشاد وهو أمر والخلافة التي نقول بها أمر لاتلازم بينهما عندنا
وقال بعضهم : إن صح الخبر يلزم القول بصحة خلافة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم حيث دل على أنه كرم الله تعالى وجهه على الحق فيما يأتي ويذر وأنه الذي يهتدى به وهو قد بايع أولئك الخلفاء طوعا ومدحهم وأثنى عليهم خيرا ولم يطعن في خلافتهم فينبغي الاقتداء به والجري على سننه في ذلك ودون اثبات خلاف ماأظهر خرط القتاد وقال أبو حيان : إنه صلى الله عليه و سلم على فرض من صحة الرواية إنما جعل عليا كرم الله تعالى وجهه مثالا من علماء الامة وهداتها إلى الدين فكأنه عليه الصلاة و السلام قال : يا علي هذا وصفك فيدخل الخلفاء الثلاث وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل وسائر علماء الامة وعليه فيكون معنى الآية إنما أنت منذر ولكل قوم في القديم والحديث إلى ماشاء الله تعالى هداة دعاة إلى الخير اه وظاهره أنه لم يحمل تقديم المعمول في خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحصر الحقيقي وحينئذ لا مانع من القول بكثرة من يهتدي به ويؤيد عدم الحصر ماجاء عندنا من قوله صلى الله عليه و سلم : واقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وأخبار أخر متضمنة لاثبات من يهتدي به غير علي كرم الله تعالى وجهه وأنا أظنك لاتلتفت إلى التأويل ولا تعبأ بما قيل وتكتفي بمنع صحة الخبر وتقول ليس في الآية مما يدل عليه عين ولا أثر هذا و ما يحتمل أن تكون مصدرية أي يعلم حمل كل أنثى من أي الاناث كانت والحمل على هذا بمعنى المحمول وأن تكون موصولة والعائد محذوف أي
(13/108)

الذي تحمله في بطنها من حين العلوق إلى زمن الولادة لابعد تكامل الخلق فقط وجوز أن تكون نكرة موصوفة و يعلم قيل متعدية إلى واحد فهي عرفانية ونظر فيه بان المعرفة لايصح استعمالها في علم الله تعالى وهو ناشيء من عدم المعرفة بتحقيق ذلك وقد تقدم وجوز أن تكون استفهامية معلقة ليعلم وهي مبتدأ أو مفعول مقدم والجملة سادة مسد المفعولين أي يعلم أي شيئ تحمل وعلى أي حال هو من الاحوال المتواردة عليه طورا فطورا ولا يخفى ان هذا خلاف الظاهر المتبادر وكما جوز في ما هذه هذه الأوجه جوزت في بعدها أيضا ووجه مناسبة الآية لما قبلها قد علم مما سبق وقيل : وجهها أنه لما تقدم إنكارهم البعث وكان من شبههم تفرق الاجزاء واختلاط بعضها ببعض بحيث لايتهيأ الامتياز بينها نبه سبحانه بهذه الآية على احاطة علمه جل شأنه ازاحة لشبهتهم وقيل : وجهها أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه عز و جل على احاطة علمه تعالى ليفيد أنه جلت حكمته إنما ينزل العذاب حسبما يعلم من المصلحة والحكمة وفي مصحف أبي ومر ما قيل في نظيره ماتحمل كل أنثى وما تضع وما تغيض الأرحام وما تزداد أي ما تنقصه وما تزداده في الجثة كالخديج والتام وروى ذلك عن ابن عباس وفي المدة كالمولود في أقل مدة الحمل والمولود في أكثرها وفيما بينهما وهو رواية أخرى عن الحبر قيل : إن الضحاك ولد لسنتين وان هرم 1 بن حيان لأربع ومن ذلك سمى هرما وإلى كون أقصى مدة الحمل أربع سنين ذهب الشافعي وعند مالك أقصاها خمس وعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أقصاها سنتان وهو المروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها فقد أخرج ابن جرير عنها لايكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما تتحرك فلكة مغزل وفي العدد كالواحد فما فوق قيل : ونهاية ماعرف أربعة فانه يروى أن شريك 2 بن عبدالله ابن أبي نمير القرشي كان رابع أربعة وهو الذي وقف عليه امامنا الاعظم رضي الله تعالى عنه وقال الشافعي عليه الرحمة : أخبرني شيخ باليمن أن أمرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة وهذا من النوادر وقد اتفق مثله لكن مازاد على اثنين لضعفه لايعيش الا نادرا
ومايحكى أنه ولد بعضهم أربعون في بطن واحدة كل منهم مثل الاصبع وأنهم عاشوا كلهم فالظاهر أنه كذب وقيل : المراد نقصان دم الحيض وازدياده وروى ذلك عن جماعة وفيه جعل الدم في الرحم كالماء في الأرض يغيض تارة ويظهر أخرى وغاض جاء متعديا ولازما كنقص وكذا أزداد وهو مما اتفق عليه أهل اللغة فان جعلتهما لازمين لايجوز أن تكون ما موصولة أو موصوفة لعدم العائد واسناد الفعلين كيفما كانا إلى الارحام فانهما على اللزوم لما فيها وعلى التعدي لله جل شأنه وعظم سلطانه وكل شيء من الأشياء عنده سبحانه بمقدار
8
- بقدر لايجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى : انا كل شيء خلقناه بقدر فان كل حادث من الاعراض والجواهر له في كل مرتبة من مراتب التكوين ومباديها وقت معين وحال مخصوص لايكاد يجاوزه ولعل حال المعدوم معلوم بالدلالة إذا قلنا : إن الشيء هو الموجود و عند ظرف متعلق بمحذوف وقع صفة لشيء أولكل و بمقدار خبر كل وجوز أن يكون الظرف متعلقا بمحذوف وقع حالا من مقدار وهو في الاصل صفة له لكنه لما قدم أعرب حالا وفاء بالقاعدة وأن يكون ظرفا لما يتعلق به الجار والمراد بالعندية الحضور العلمي بل العلم الحضوري على ماقيل فان تحقق الاشياء في أنفسها في أي مرتبة كانت من مراتب الوجود
(13/109)

والاستعداد لذلك علم بالنسبة اليه تعالى وقيل : معنى عنده في حكمه عالم الغيب أي الغائب عن الحس والشهادة أي الحاضر له عبر عنهما بهما مبالغة
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الغيب السر والشهادة العلانية وقيل : الأول المعدوم والثاني الموجود ونقل عن بعضهم أنه قال : إنه سبحانه لايعلم الغيب على معنى ان لاغيب بالنسبة اليه جل شأنه والمعدومات مشهودة له تعالى بناء على القول برؤية المعدوم كما برهن عليه الكوراني في رسالة ألفها لذلك ولايخفى مافي ذلك من مزيد الجسارة على الله تعالى والمصادمة لقوله جل شأنه : عالم الغيب ولا ينبغي لمسلم أن يتفوه بمثل هذه الكلمة التي تقشعر من سماعها أبدان المؤمنين نسأل الله تعالى أن يوفقنا للوقوف عند حدنا ويمن علينا بحسن الادب معه سبحانه ورفع عالم على أنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما عالم بالنصب على المدح وهذا الكلام كالدليل على ماقبله من قوله تعالى : الله يعلم الخ الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المتعال
9
- المستعلي على كل شيء في ذاته وعلمه وسائر صفاته سبحانه وجوز أن يكون المعنى الكبير الذي يجل عما نعته به الخلق من صفات المخلوقين ويتعالى عنه فعلى الأول المراد تنزيهه سبحانه في ذاته وصفاته عن مداناة شيء منه وعلى هذا المراد تنزيهه تعالى عما وصفه الكفرة به فهو رد لهم كقوله جل شأنه : سبحان الله عما يصفون قال العلامة الطيبي : إن معنى الكبير المتعال بالنسبة الى مردوفه وهو عالم الغيب والشهادة هو العظيم الشأن الذي يكبر عن صفات المخلوقين ليضم مع العلم العظمة والقدرة بالنظر الى ماسبق من قوله تعالى : ماتحمل من أنثى الى آخر مايفيد التنزيه عما يزعمه النصارى والمشركون ورفع الكبير على أنه خبر بعد خبر وجوز أن يكون عالم مبتدأ وهو خبره سواء منكم من أسر القول أخفاه في نفسه ولم يتلفظ به وقيل : تلفظ به بحيث لم يسمع نفسه دون غيره ومن جهر به من يقابل ذلك بالمعنيين ومن هو مستخف مبالغ في الاخفاء كأنه مختف بالليل وطالب للزيادة وسارب بالنهار
1
- أي ظافر فيه كما روى عن ابن عباس وهو ما قال جمع في الأصل اسم فاعل من سرب إذا ذهب في سربه أي طريقه ويكون بمعنى تصرف كيف شاء قال الشاعر : إني سربت وكنت غير سروب وتقرب الاحلام غير قريب وقال الآخر : وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب أي فهو متصرف كيف شاء لايدفع عن جهة يفتخر بعزة قومه فما ذكره الحبر لازم معناه وقرينته وقوعه في مقابلة مستخف والظاهر من كلام بعضهم أنه حقيقة في الظاهر ورفع سواء على أنه خبر مقدم و من مبتدأ مؤخر ولم يثن الخبر لأنه في الاصل مصدر وهو الآن بمعنى مستو ولم يجيء تثنيته في أشهر اللغات وحكى أبو زيد هما سواآن و منكم حال من الضمير المستتر فيه لافي أسر و جهر لأن مافي حيز الصلة والصفة لايتقدم على الموصول والموصوف وجوز أبو حيان كون سواء مبتدأ لوصفه بمنكم وما بعده الخبر وكذا أعرب سيبويه قول العرب : سواء عليه الخير والشر وقول ابن عطية : إن سيبويه ضعف ذلك
(13/110)

بأنه ابتداء بنكرة لايصح و سارب عطف على من كأنه قيل : سواء منكم انسان هو مستخف وآخر سارب والنكتة في زيادة هو في الاول أنه الدال على كمال العلم فناسب زيادة تحقيق وهو النكتة في حذف الموصوف عن سارب أيضا والوجه في تقديم أسر واعماله في صريح القول على جهره واعماله في ضميره وجوز أن يكون على مستخف واستشكل بأن سواء يقتضي ذكر شيئين فاذا كان سارب معطوفا على جزء الصلة أو الصفة لايكون هناك الاشيء واحد ولا يجيء هذا على الاول لأن المعنى ما علمت وأجيب بأن من عبارة عن الاثنين كما في قوله : تعال فان عاهدتني لاتخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان فكأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار قال في الكشف : وعلى الوجهين من موصوفة لاموصولة فيحمل الاوليان ايضا على ذلك ليتوافق الكل وإيثارها على الموصولة دلالة على أن المقصود الوصف فان ذلك متعلق العلم وأما لو قيل : سواء الذي أسر القول والذي جهر به فان أريد الجنس من باب
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فهو والاول سواء لكن الأول نص وإن أريد المعهود حقيقة أو تقديرا لزم ايهام خلاف المقصود لما مر وقيل : في الكلام موصول محذوف والتقدير ومن هو سارب كقول أبي فراس : فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب وقول حسان : أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء وهو ضعيف جدا لما فيه من حذف الموصول مع صدر الصلة وقد ادعى الزمخشري أن أحد الحذفين سائغ لكن اجتماعهما منكر من المنكرات بخلاف البيتين وقال أبو حيان : إن حذف من هنا وإن كان للعلم به لايجوز 1 عند البصريين ويجوز عند الكوفيين وزعم بعضهم أن المقصود استواء الحالتين سواء كانتا لواحد أو لاثنين والمعنى سواء استخفاؤه وسرو به بالنسبة إلى علم الله تعالى فلا حاجة إلى توجيه الآية بما مر وكذا حال ماتقدمه فعبر بأسلوبين والمقصود واحد
وتعقب بأنه لاتساعده العربية لأن من لاتكون مصدرية ولاسابك في الكلام وزعم ابن عطية جواز أن تكون الآية متضمنة ثلاثة أصناف فالذي يسر طرف والذي يجهر طرف مضاد للأول والثالث متلون يعصي بالليل مستخفيا ويظهر البراءة بالنهار وهو كما ترى ومن الغريب مانقل عن الاخفش وقطرب تفسير المستخفى بالظاهر فانه وإن كان موجودا في كلامهم بهذا المعنى لكن يمنع عنه في الآية مايمنع ثم أن في بيان علمه تعالى بماذكر بعد بيان شمول علمه سبحانه الاشياء كلها مالايخفى من الاعتناء بذلك
له الضمير راجع الى من تقدم ممن أسر بالقول وجهر به الى آخره باعتبار تأويله بالمذكور واجرائه مجرى اسم الاشارة وكذا المذكورة بعده معقبات ملائكة تعتقب في حفظه وكلائته جمع معقبة من عقب مبالغة في عقبة اذا جاء على عقبه وأصله من العقب وهو مؤخر الرجل ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة
(13/111)

كأن أحدهم يطأ عقب الآخر فالتفعيل للتكثير وهو اما في الفاعل أو في الفعل لا للتعدية لأن ثلاثية متعد بنفسه ويجوز أن يكون اطلاق المعقبات على الملائكة عليهم السلام باعتبار أنهم يعقبون أقوال الشخص وأفعاله أي يتبعونها ويحفظونها بالكتابة وقال الزمخشري : أن اصله معتقبات فهو من باب الافتعال فادغمت التاء في القاف كقوله تعالى : وجاء المعذرون أي المعتذرون وتعقب بأنه وهم فاحش فان التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين وقد نص الصرفيون على أن القاف والكاف كل منهما لايدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما والتاء في معقبة للمبالغة كتاء نسابة لأن الملائكة عليهم السلام غير مؤنثين وقيل : هي للتأنيث بمعنى أن معقبة صفة جماعة منهم فمعنى معقبات جماعات كل جماعة منها معقبه وليس معقبة جمع معقب وذكر الطبري أنه جمعه وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات وهو كما ترى لكن أوله أبو حيان بأنه أراد بقوله : جمع معقب أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وان كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب فصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد وتشبيه ذلك بماذكر من حيث المعنى لا من حيث صناعة النحو فبين أن معقبة من حيث اريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع وان معقبات من حيث استعمل جمعا لمعقبة المستعمل في الجمع كرجالات الذي هو جمع رجال
وقرأ أبي وإبراهيم معاقيب وهو جمع كما قال الزمخشري جمع معقب أو معقبة بتشديد القاف فيهما والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير وقال ابن جني : إنه تكسير معقب كمطعم ومطاعيم ومقدم ومقاديم كأنه جمع على معاقبة ثم حذفت الهاء من الجمع وعوضت الياء عنها ولعله الأظهر وقريء معتقبات من اعتقب من بين يديه ومن خلفه متعلق بمحذوف وقع صفة لمعقبات أو حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا له فالمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه أو هو متعلق بمعقبات و من لابتداء الغاية فالمعنى أن المعقبات تحفظ ماقدم وأخر من الأعمال اي تحفظ جميع أعماله وجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى : يحفظونه والجملة صفة معقبات أو حال 1 من الضمير في الظرف
وقرأ أبي من بين يديه ورقيب من خلفه وابن عباس ورقباء من خلفه وروى مجاهد عنه أنه قرأ له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه من أمر الله متعلق بما عنده و من للسبيبة أي يحفظونه من المضار بسبب أمر الله تعالى لهم بذلك ويؤيد ذلك أن عليا كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وزيد بن علي وجعفر بن محمد وعكرمة رضي الله تعالى عنهم قرؤا بأمر الله بالباء وهي ظاهرة في السببية
وجوز أن يتعلق بذلك أيضا لكن على معنى يحفظونه من بأسه تعالى متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له أي يحفظونه باستدعائهم من الله تعالى أن يمهله ويؤخر عقابه ليتوب أو يطلبون من الله تعالى أن يغفر له ولا يعذبه أصلا وقال في البحر : إن معنى الكلام يصير على هذا الوجه إلى التضمين أي يدعون له بالحفظ من نقمات الله تعالى
وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن
(13/112)

خلفه وروى هذا عن مجاهد والنخعي وابن جريج فيكون من أمر الله متعلقا بمحذوف وقع صفة لمعقبات أي كائنة من أمره تعالى وقيل : إنه لايحتاج في هذا المعنى إلى دعوى تقديم وتأخير بأن يقال : إنه سبحانه وصف المعقبات بثلاث صفات احداها كونها كائنة من بين يديه ومن خلفه وثانيتها كونها حافظة له وثالثتها كونها كائنة من أمره سبحانه وإن جعل من بين يديه متعلقا بيحفظونه يكون هناك صفتان الجملة والجار والمجرور وتقديم الوصف بالجملة على الوصف به سائغ شائع في الفصيح وكأن الوصف بالجملة الدالة على الديمومة في الحفظ لكونه آكد قدم على الوصف الآخر وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أن المراد بالمعقبات الحرس الذين يتخذهم الأمراء لحفظهم من القتل ونحوه وروى مثله عن عكرمة ومعنى يحفظونه من أمر الله أنهم يحفظونه من قضاء الله تعالى وقدره ويدفعون عنه ذلك في توهمه لجهله بالله تعالى ويجوز أن يكون من باب الاستعارة التهكمية على حد مااشتهر في قوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم فهو مستعار لضده وحقيقته لايحفظونه وعلى ذلك يخرج قول بعضهم : ان المراد لايحفظونه لا على أن هناك نفيا مقدرا كما يتوهم والأكثرون على أن المراد بالمعقبات الملائكة
وفي الصحيح يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر وذكروا أن مع العبد غير الملائكة الكرام الكاتبين ملائكة حفظة فقد أخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي الدنيا وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لكل عبد حفظة يحفظونه لايخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة حتى إذا جاء القدر الذي قدر له خلت عنه الحفظة فأصابه ماشاء الله تعالى أن يصيبه
وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني والصابوني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكل بالمؤمن 1 ثلثمائة وستون ملكا يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف ومالو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل كلهم باسط يديه فاغر فاه وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين
وأخرج ابن جرير عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يارسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال : ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال إذا عملت حسنة كتبت عشرا فاذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب قال : لا لعله يستغفر الله تعالى ويتوب فاذا قال ثلاثا قال : نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله سبحانه وأقل استحياءه منه تعالى يقول الله جل وعلا : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وملكان من بين يديك وملكان من خلفك يقول الله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله وملك قابض على ناصيتك فاذا تواضعت لله تعالى رفعك وإذا تجبرت على الله تعالى قصمك وملك قائم على فيك لايدع أن تدخل الحية فيه وملكان على عينك فهؤلاء عشرة أملاك ينزلون على كل بني آدم في النهار وينزل مثلهم في الليل
والاخبار في هذا الباب كثيرة واستشكل أمر الحفظ بأن المقدر لابد من أن يكون وغير المقدر لايكون
(13/113)

بدا فالحفظ من أي شيء وأجيب بأن من القضاء والقدر ماهو معلق فيكون الحفظ منه ولهذا حسن تعاطي لاسباب والا فمثل ذلك وارد فيها بأن يقال : إن الأمر الذي نريد أن تتعاطاه أما أن يكون مقدرا وجوده فلا بد أن يكون أو مقدرا عدمه فلابد أن لايكون فما الفائدة في تعاطيه والتشبث بأسبابه وتعقب هذا أن ماذكر انما حسن منا لجهلنا بان ما نطلبه من المعلق أو من غيره والمسألة المستشكلة ليست كذلك وأنت تعلم أن الله تعالى جعل في المحسوسات أسبابا محسوسة وربط بها مسبباتها حسبما تقضيه حكمته الباهرة ولو شاء لأوجد المسببات من غير اسباب لغناه جل شأنه الذاتي ولا مانع من أن يجعل في الامور الغير محسوسة اسبابا يربط بها المسببات كذلك وحينئذ يقال : إنه جلت عظمته جعل أولئك الحفظة أسبابا للحفظ كما جعل في الحسوس نحو الجفن للعين سببا لحفظها مع انه ليس سببا الا للحفظ مما لم يبرم من قضائه وقدره جل جلاله والوقوف على الحكم بأعيانها مما لم نكلف به والعلم بأن أفعاله تعالى لاتخلو عن الحكم والمصالح على الاجمال مما يكفي المؤمن ويقال نحو هذا في أمر الكرام الكاتبين فهم موجودون بالنص وقد جعلهم الله تعالى حفظة لأعمال العبد كاتبين لها ونحن نؤمن بذلك وإن لم نعلم ماقلمهم وما مدادهم وما قرطاسهم وكيف كتابتهم وأين محلهم وما حكمة ذلك مع أن علمه تعالى كاف في الثواب والعقاب عليها وكذا تذكر الانسان لها وعلمه بها يوم القيامة كاف في دفع ما عسى أن يختلج في صدره عند معاينة مايترتب عليها ومن الناس من خاض في بيان الحكمة وهو أسهل من بيان ما معها
وذكر الامام الرازي في جواب السؤال عن فائدة جعل الملائكة عليهم السلام موكلين علينا كلاما طويلا فقال : إعلم أن ذلك غير مستبعد لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة ولا شك أن لتلك الكواكب أرواحا عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الارواح في الحقيقة وكذا القول في تدبير الهيلاج والكدخداه على مايقولون وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور على ألسنتهم فانهم يقولون : أخبر الطباع التام بكذا ومرادهم به أن لكل انسان روحا فلكية تتولى صلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته وإذا كان هذا متفقا عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الاحكام فكيف يستبعد مجيئه في الشرع
وتمام التحقيق فيه ان الارواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها حرة وبعضها نذلة وبعضها قوية القهر وبعضها ضعيفة وكما أن الامر في الأرواح البشرية كذلك فكذلك القول في الارواح الفلكية ولا شك أن الارواح الفلكية في كل باب وصفة أقوى من الارواح البشرية وكل طائفة من الارواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة وتكون في مرتبة روح من الارواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية فتكون تلك الارواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي واذا كان الامر كذلك فان ذلك الروح الفلكي يكون معينا على مهماتها ومرشدا لها إلى مصالحها وعاصما اياها عن صنوف الآفات وهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة وبذلك يعلم أن ما وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فلا يمكن استنكاره اه
ولعل مقصوده بذلك تنظير أمر الحفظة مع العبد بأمر الارواح الفلكية معه على زعم الفلاسفة في الجملة والا فما يقوله المسلمون في أمرهم وما يقوله الفلاسفة في أمر تلك الارواح امر آخر وهيهات هيهات أن نقول بما قالوا فانه بعيد عما جاء عن الشارع عليه الصلاة و السلام بمراحل ثم ذكر عليه الرحمة من فوائد الحفظة للأعمال
(13/114)

أن العبد اذا علم أن الملائكة عليهم السلام يحضرونه ويحصون عليه أعماله وهم هم كان أقرب إلى الحذر عن ارتكاب المعاصي كمن يكون بين يدي أناس اجلاء من خدام الملك موكلين عليه فانه لايكاد يحاول معصية بينهم وقد ذكر ذلك غيره ولا يخلو عن حسن ثم نقل عن المتكلمين في فائدة الصحف المكتوبة أنها وزنها يوم القيامة فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ويظهر كل من الامرين للخلائق
وتعقبه القاضي بأن ذلك بعيد لأن الادلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الاشقياء والعياذ بالله تعالى فلا يجوز توقف حصول المعرفة على الميزان ثم أجاب بأنه لايمتنع أيضا ماذكرناه لأمر يرجع إلى حصول سرور العبد عند الخلق العظيم بظهور أنه من أولياء الله تعالى لهم وحصول ضد ذلك لمن كان من أعداء الله تعالى ولا يخفى أن هذا بني على أن الذي يوزن هو الصحف وهو أحد أقوال في المسئلة نعم ذهب اليه جمع من الأجلة لحديث البطاقة والسجلات المشهور وكذا على أن الكتابة على معناها الظاهر وهو الذي ذهب اليه أهل الحديث بل وغيرهم فيما أعلم ونقل 1 عن حكماء الاسلام معنى آخر فقال : إن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف بعض المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني بأعيانها وذواتها كانت تلك الكتابة أقوى وأكمل وحينئذ نقول : إن الانسان إذا أتى بعمل من الاعمال مرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب ذلك ملكة قوية راسخة فان كانت تلك الملكة ملكة في اعمال نافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بعد الموت وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الاحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد ثم قال : إذا ثبت هذا فنقول : إن التكرير الكثير إن كان سببا لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من تلك الاعمال أثر في حصول تلك الملكة وذلك الاثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة وإذا عرف هذا ظهر أنه لايحصل للأنسان لمحة ولا حركة ولا سكون الا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو آثار الشقاوة قل أو كثر وهذا هو المراد من كتب الاعمال عند حكماء الاسلام والله تعالى العالم بحقائق الامور انتهى وقد رأيت ذلك لبعض الصوفية
وأنت تعلم أنه خلاف مانطقت به الآيات والاخبار ونحن في أمثال هذه الامور لانعدل عن الظاهر ماأمكن والحق أبلج وما بعد الحق إلا الضلال هذا ومن الناس من جعل ضمير له لمن الاخير والاول أولى ومنهم من جعله لله تعالى وما بعده لمن وفيه تفكيك للضمائر من غير داع ومنهم من جعله للنبي صلى الله عليه و سلم وهو عليه الصلاة و السلام معلوم من السياق وقد تقدم الاخبار عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى : ويقولون لولا أنزل عليه آية الآية واستدل على ذلك بما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد
ابن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فانتهيا اليه وهو عليه الصلاة و السلام جالس فجلسا بين يديه فقال عامر : ما تجعل لي إن أسلمت قال النبي صلى الله عليه و سلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال : أتجعل لي إن أسلمت الأمر بعدك فقال عليه الصلاة و السلام : ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال : فاجعل لي الوبر ولك المدر فقال صلى الله عليه و سلم : لا فلما قفى من عنده قال : لأملأنها عليك خيلا ورجلا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يمنعك الله تعالى وفي رواية وابناء قيلة يريد الأوس والخزرج فلما خرجا قال عامر : ياأربد
(13/115)

أني سألهي محمدا عنك بالحديث فاضربه بالسيف فان الناس إذا قتلته لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد : افعل فأقبلا راجعين فقال عامر : يا محمد قم معي أكلمك فقام عليه الصلاة و السلام معه فخليا إلى الجدار ووقف عامر يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده عليه يبست على قائمة فلم يستطع سله وأبطأ على عامر فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما وقال عامر لأربد : مالك قال : وضعت يدي على قائم سيفي فيبست فلما خرجا حتى إذا كانا بالرقم نزلا فخرج اليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فوقع بهما أسيد قال : أشخصا ياعدوي الله تعالى لعنكم الله تعالى فقال عامر : من هذا يا سعد فقال : هذا أسيد بن حضير الكتائب فقال : أما والله إن كان حضير صديقا لي ثم إن الله سبحانه أرسل على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بوادي الجريد أرسل الله تعالى عليه قرحة فأدركه الموت وفي رواية أنه كان يصيح يا لعامر أعدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فأنزل الله تعالى فيهما الله يعلم ما تحمل كل أنثى الى قوله سبحانه : له معقبات إلى آخره ثم قال : المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا صلى الله عليه و سلم وجاء في رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : هذه للنبي عليه الصلاة و السلام خاصة والاكثرون على اعتبار العموم وسبب النزول لايأبى ذلك والله تعالى أعلم ثم انه سبحانه بعد أن ذكر إحاطة علمه بالعباد وان لهم معقبات يحفظونهم من أمره جل شأنه نبه على لزوم الطاعة ووبال المعصية فقال عز من قائل : إن الله لايغير مابقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم ماتصف به ذواتهم من الاحوال الجميلة لا ما أضمروه ونووه فقط والمراد بتغيير ذلك تبديله بخلافه لامجرد تركه وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا يقول الله تعالى : وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي مامن أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ماكرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي الا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي وما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي الا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي الى مايكرهون من عذابي أخرجه ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه
واستشكل ظاهر الآية حيث أفادت أنه لايقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك خلاف ماقررته الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ومنه قوله سبحانه : واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وقوله عليه الصلاة و السلام وقد سئل : أنهلك وفينا الصالحون نعم إذا كثر الخبث وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله سبحانه بعقاب في أشياء كثيرة وأيضا قد ينزل الله تعالى بالعبد مصائب يزيد بها أجره وقد يستدرج المذنب بترك ذلك
وأولها أبن عطية لذلك بأن المراد حتى يقع تغيير ما منهم أو ممن هو منهم كما غير سبحانه بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم والحق ان المراد أن ذلك عادة الله تعالى الجارية في الاكثر لا أنه سبحانه لايصيب قوما الا بتقدم ذنب منهم فلا اشكال قيل : ولك أن تقول : إن قوله سبحانه : وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له تتميم لتدارك ماذكر وفيه تأمل والسوء يجمع كل مايسوء من مرض وفقر وغيرهما من أنواع البلاء و مرد مصدر ميمي أي فلا رد له والعامل في اذا ما دل
(13/116)

عليه الجواب لأن معمول المصدر وكذا ما بعد الفاء لايتقدم عليه والتقدير كما قال أبو البقاء وقع أو لم يرد أو نحو ذلك والظاهر أن اذا للكلية وقد جاءت كذلك في أكثر الآيات وما لهم من دونه سبحانه من وال
11
- يلي امورهم من ضر ونفع ويدخل في ذلك دخولا أوليا دفع السوء عنهم وقيل : الاول اشارة الى نفي الدافع بالدال وهذا اشارة الى نفي الرافع بالراء لئلا يتكرر ولا حاجة الى ذلك كما لايخفى واستدل بالآية على أن خلاف مراد الله تعالى محال واعترض بأنها تدل على أنه تعالى إذا أراد بقوم سوءا وجب وقوعه ولا تدل على ان كل مراد له تعالى كذلك ولا على استحالة خلافه بل على عدم وقوعه وأجيب بأنه لا فرق بين ارادة السوء وارادة غيره لكن اقتصر على ارادة الاول لأن الكلام في الانتقام من الكفار وهو أبلغ في تخويفهم فاذا امتنع رد السوء فغيره كذلك والمراد بالاستحالة عدم الامكان الوقوعي لا الذاتي ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ومن أعجب ماقيل : ان الجمهور احتجوا بالآية على ان المعاصي مما يشملها السوء وانها بخلقه تعالى ومن الناس من جعل الآية متعلقة بقوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة الى آخره وبين ذلك أبو حيان بما لايرتضيه انسان وقيل : إن فيها ايذانا بأنهم بما باشروه من انكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا مافي أنفسهم من الفطرة فاستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى هذا ووقف ابن كثير على هاد وكذا واق حيث وقع وعلى وال هنا و باق في النحل باثبات الياء وباقي السبعة وقفوا بحذفها وفي الاقناع لأبي جعفر ابن الباذش عن ابن مجاهد الوقف في جميع الباب لابن كصير بالياء وهذا لايعرفه المكيون وفيه ايضا عن أبي يعقوب الازرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب بين أن يقف بالياء وان يقف بحذفها كذا في البحر وفيه أنه أثبت ابن كثير وأبو عمرو في رواية ياء المتعال وقفا ووصلا وهو الكثير في لسان العرب وحذفها الباقون وصلا ووقفا لأنها كذلك رسمت في الامام
واستشهد سيبويه لحذفها في الفواصل والقوافي وأجاز غيره حذفها مطلقا ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين وأل معاقبة له اجراء المعاقب مجرى المعاقب هو الذي يريكم البرق خوفا من الصاعقة وطمعا في الغيث قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال : خوفا لأهل البحر وطمعا لأهل البر وعن قتادة خوفا للمسافر من أذى المطر وطمعا للمقيم في نفعه وعن الماوردي خوفا من العقاب وطمعا في الثواب والمراد من البرق معناه المتبادر وعن ابن عباس أن المراد به الماء فهو مجاز من باب اطلاق الشيء على ما يقارنه غالبا
ونصب خوفا وطمعا على أنهما مفعول له ليريكم واتحاد فاعل العلة والفعل المعلل ليس شرطا للنصب مجمعا ففي شرح الكافية للرضي وبعض النحاة لايشترط تشاركهما في الفاعل وهو الذي يقوى في ظني وإن كان الأغلب هو الأول واستدل على جواز عدم التشارك بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف
وفي همع الهوامع وشرط الاعلم والمتأخرون المشاركة للفعل في الوقت والفاعل ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين واحتاج المشترطون إلى تأويل هذا للأختلاف في الفاعل فان فاعل الاراءة هو الله تعالى وفاعل الطمع والخوف غيره سبحانه فقيل : في الكلام مضاف مقدر وهو إرادة أي يريكم ذلك إرادة أن تخافوا وتطعموا فالمفعول له المضاف المقدر وفاعله وفاعل الفعل المعلل به واحد وقيل : الخوف والطمع موضوعان
(13/117)

موضع الاخافة والاطماع كما وضع النبات موضع الانبات في قوله تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا والمصادر ينوب بعضها عن بعض أوهما مصدران محذوفا الزوائد كما في شرح التسهيل وقيل : إنهما مفعول له باعتبار أن المخاطبين رائين لأن اراءتهم متضمنة لرؤيتهم والخوف والطمع من أفعالهم فهم فعلوا الفعل المعلل بذلك وهو الرؤية فيرجع إلى معنى قعدت عن الحرب جبنا وهذا على طريقة قول النابغة الذبياني : وحلت بيوتي في يفاع ممنع يخال به راعي الحمولة طائرا حذارا على أن لاتنال مقادتي ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا حيث قيل : إنه على معنى أحللت بيوتي حذارا ورد ذلك المولى أبو السعود بأنه لاسبيل اليه لأن ما وقع في معرض العلة الغائية لاسيما الخوف لايصلح علة لرؤيتهم وتعقبه عزمي زاده وغيره بأن كلام واه لأن القائل صرح بأنه من قبيل قعدت عن الحرب جبنا ويريد أن المفعول له حامل على الفعل وموجود قبله وليس مما جعل في معرض العلة الغائية كما قالوا في ضربته تأديبا فلا وجه للرد عليه بماذكر وقيل : التعليل هنا مثله في لام العاقبة لاأن ذلك من قبيل قعدت عن الحرب جبنا كما ظن لأن الجبن باعث على القعود دونهما للرؤية وهو غير وارد لأنه باعث بلا شبهة واعترض عليه العزمي بأن اللام المقدرة في المفعول له لم يقل أحد بأنها تكون لام العاقبة ولا يساعده الاستعمال وهو ليس بشيء كيف وقد قال النحاة كما في الدر المصون : إنه كقول النابغة السابق وقال أيضا : بقي ههنا بحث وهو أن مقتضى جعل الآية نحو قعدت إلى آخره على ماقاله ذلك القائل أن يكون الخوف والطمع مقدمين في الوجود على الرؤية وليس كذلك بل هما إنما يحصلان منها ويمكن أن يقال : المراد بكل من الخوف والطمع على ماقاله ماهو من الملكات النفسانية كالجبن في المثال المذكور ويصح تعليل الرؤية من الاراءة بهما يعني أن الرؤية التي تقع باراءة الله سبحانه إنما كانت لما فيهم من الخوف والطمع إذ لو لم يكن في جبلتهم ذلك لما كان لتلك الرؤية فائدة اه ولا يخفى ما فيه من التعسف وقد علمت انه غير وارد وقيل : إن النصب على الحالية من البرق أو المخاطبين بتقدير مضاف أو تأويل المصدر باسم المفعول أو الفاعل أو ابقاء المصدر على ماهو عليه للمبالغة كما قيل في زيد عدل وينشيء السحاب أي الغمام المنسحب في الهواء الثقال
21
- بالماء وهي جمع ثقيلة وصف بها السحاب لكونه اسم جنس في معنى الجمع ويذكر ويؤنث فكأنه جمع سحابة ثقيلة لاأنه جمع أو اسم جنس جمعى لاطلاقه على الواحد وغيره
ويسبح الرعد قيل : هو اسم للصوت المعلوم والكلام على حذف مضاف أي سامعو الرعد أو الاسناد مجازى من باب الاسناد للحامل والسبب والباء في قوله سبحانه : بحمده للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي يسبح السامعون لذلك الصوت ملتبسين بحمد الله تعالى فيضجون بسبحان الله والحمد لله
وقيل : لاحذف ولاتجوز في الاسناد وإنما التجوز في التسبيح والتحميد حيث شبه دلالة الرعد بنفسه على تنزيهه تعالى عن الشريك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي ودلالته على فضله جل شأنه ورحمته بحمد الحامد لما فيهما من الدلالة على صفات الكمال وقيل : إن مجاز مرسل استعمل في لازمه وقيل : الرعد اسم ملك فاسناد التسبيح والتحميد اليه حقيقة
(13/118)

قال في الكشف : والاشبه في الآية الحمل على الاسناد المجازى ليتلاءم الكلام فان الرعد في المتعارف يقع على الصوت المخصوص وهو الذي يقرن بالذكر مع البرق والسحاب والكلام في اراءة الآيات الدالة على القدرة الباهرة وإيجادها وتسبيح ملك الرعد لايلائم ذلك أما حمل الصوت المخصوص للسامعين على التسبيح والحمد فتشديد الملائمة جدا وإذا حمل على الاسناد حقيقة فالوجه أن يكون اعتراضا دلالة على اعتراف الملك الموكل بالسحاب وسائر الملائكة بكمال قدرته سبحانه جلت قدرته وجحود الانسان ذلك وانت تعلم أن تسبيح الملائكة على ماادعى أنه الاشبه يبقى كالاعتراض في البين والذي اختاره أكثر المحدثين كون الاسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : أخبرنا ما هذا الرعد فقال عليه الصلاة و السلام : ملك من ملائكة الله تعالى موكل بالسحاب بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمرهالله تعالى قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع قال عليه الصلاة و السلام : صوته فقالوا : صدقت والاخبار في ذلك كثيرة واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره وقد نكر في البقرة وأجيب بأن له إطلاقين ثانيهما اطلاقه على نفس الصوت والتنكير على هذا الاطلاق وقال ابن عطية : وقيل : إن الرعد ريح تخفق بين السحاب وروى ذلك عن ابن عباس وتعقبه أبو حيان بقوله : وهذا عندي لايصح فان ذلك من نزعات الطبيعيين وغيرهم
وقال الامام : إن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية وللسحاب روح معين من الارواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وسائر الآثار العلوية وهو عين ما قلنا : من أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ماذكره المحققون من الحكماء فكيف يليق بالعاقل الانكار اه وتعقبه أبو حيان أيضا بأن غرضه جريان مايتخيله الفلاسفة على مناهج الشريعة ولن يكون ذلك أبدا ولقد صدق رحمه الله تعالى في عدم صحة التطبيق بين ماجاءت به الشريعة وما نسجته عناكب أفكار الفلاسفة نعم إن ذلك ممكن في أقل قليل من ذاك وهذا والمشهور عن الفلاسفة أن الريح تحتقن في داخل السحاب ويستولي البرد على ظاهره فيتجمد السطح الظاهر ثم ان ذلك الريح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولد من ذلك حركة عنيفة وهي موجبة للسخرية وليس البرق والرعد الا ما حصل من الحركة وتسخينها وأما السحاب فهو أبخرة متصاعدة قد بلغت في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء لكن لما لم يقو البرد تكاثفت بذلك القدر من البرد واجتمعت وتقاطرت ويقال للمتقاطر مطر ورد الأول بأنه خلاف المعقول من وجوه أحدها أنه لو كان الامر كما ذكر لوجب أن يكون كلما حصل البرق حصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزيق السحاب ومعلوم أنه كثيرا مايحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد
ثانيهما أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة بالطبيعة المائية الموجبة للبرد وعند حصول هذا المعارض القوي كيف تحدث النارية بل يقال : النيران العظيمة تنطفيء بصب الماء عليها والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية ثالثهما أن من مذهبكم أن النار الصرفة لالون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكة الحاصلة في أجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر ورد الثاني بأن الامطار مختلفة فتارة تكون قطراتها كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة واخرى تكون متباعدة إلى غير
(13/119)

ذلك من الاختلافات وذلك مع أن طبيعة الأرض واحدة وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة يأبى أن يكون ذلك كما قرروا وأيضا التجربة دالة على أن للتضرع والدعاء في انعقاد السحاب ونزول الغيث أثرا عظيما وهو يأبى أن يكون ذلك للطبيعة والخاصية فليس كل ذلك الا باحداث محدث حكيم قادر يخلق مايشاء كيف يشاء وقال بعض المحققين : لايبعد أن يكون في تكون ماذكر أسباب عادية كما في الكثير من أفعاله تعالى وذلك لاينافي نسبته إلى المحدث الحكيم القادر جل شأنه ومن أنصف لم يسعفه إنكار الاسباب بالكلية فان بعضها كالمعلوم بالضرورة وبهذا أنا أقول وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام
وكان صلى الله عليه و سلم كما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة إذا هبت الريح أو سمع صوت الرعد تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه الشريف ثم يقول للرعد : سبحان من سبحت له وللريح اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : اللهم لاتقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك
وأخرج أبو داود في مراسيله عن عبيد الله بن أبي جعفر أن قوما سمعوا الرعد فكبروا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اذا سمعتم الرعد فسبحوا ولا تكبروا وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه عليه الصلاة و السلام كان يقول إذا سمع الرعد : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وأخرج ابن مردويه وابن جرير عن أبي هريرة قال : كان صلى الله عليه و سلم إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته أي ويسبح الملائكة عليهم السلام من هيبته تعالى وإجلاله جل جلاله وقيل : الضمير يعود على الرعد والمراد بالملائكة أعوانه جعلهم الله تعالى تحت يده خائفين خاضعين له وهو قول ضعيف ويرسل الصواعق جمع صاعقة وهي كالصاعقة في الأصل الهدة الكبيرة إلا أن الصقع يقال في الاجسام الارضية والصعق في الاجسام العلوية والمراد بها هنا النار النازلة من السحاب مع صوت شديد فيصيب سبحانه بها من يشاء اصابته بها فيهلكه قيل : وهذه النار قيل تحصل من احتكاك أجزاء السحاب واستدل بما أخرجه ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : الرعد ملك اسمه الرعد وصوته هذا تسبيحه فاذا اشتد زجره احتك السحاب واصطدم من خوفه فتخرجه الصواعق من بينه وقال الفلاسفة : إن الدخان المحتبس في جوف السحاب اذا نزل ومزق السحاب قد يشتعل بقوة التسخين الحاصل من الحركة الشديدة والمصاكة العنيفة وإذا اشتعل فلطيفه ينطفيء سريعا وهو البرق وكثيفه لاينطفيء حتى يصل الى الأرض وهو الصاعقة وإذا وصل اليها فربما صار لطيفا ينفذ في المتخلخل ولا يحرقه بل يبقى منه أثر سواد ويذيب ما يصادمه من الأجسام الكثيفة المندمجة فيذيب الذهب والفضة في الصرة مثلا ولا يحرقها الا ما أحرق من المذوب وقد أخبر أهل التواتر بأن صاعقة وقعت منذ زمان بشيراز على قبة الشيخ الكبير أبي عبدالله بن خفيف قدس سره فأذابت قنديلا فيها ولم تحرق شيئا منها وربما كان كثيفا غليظا جدا فيحرق كل شيء أصابه وكثيرا ما يقع على الجبل فيدكه دكا وقد يقع على البحر فيغوص فيه ويحرق ما فيه من الحيوانات وربما كان جرم الصاعقة دقيقا جدا مثل السيف فاذا وصل الى شيء قطعه بنصفين ولايكون مقدار الانفراج الا قليلا ويحكى أن صبيا كان نائما بصحراء فأصابت الصاعقة ساقيه فسقطت رجلاه ولم يخرج دم لحصول
(13/120)

الكي من حرارتها وهذا الذي قالوه في سبب تكوينها ليس بالبعيد عما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في ذلك ومادتها على ما نقل بعضهم عن ابن سينا أجسام نارية فارقتها السخونة وصارت لاستيلاء البرودة على جوهرها متكافئة وقال الامام في شرح الاشارات : الصواعق على ما نقل عن الشيخ تشبه الحديد تارة والنحاس تارة والحجر تارة وهو ظاهر في أن مادتها ليست كذلك الا لما اختلفت ومن هنا قيل : إن مادتها الابخرة والادخنة الشبيهة بمواد هذه الاجسام وقيل : انها نار تخرج من فم الملك الموكل بالسحاب اذا اشتد زجره واخرج ابن أبي حاتم وابو الشيخ عن أبي عمران الجوني قال : إن بحورا من نار دون العرش يكون منها الصواعق واذا صح ماروى عن الحبر لايعدل عنه
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فان أصابته صاعقة فعلي ديته وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبي جعفر قال : الصاعقة تصيب المؤمن والكافر ولا تصيب ذاكرا وفي خبر مرفوع مايؤيده وقد أهلكت أربد كما علمت وقد أشار إلى ذلك اخوه لأمه لبيد العامري بقوله يرثيه : اخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والاسد فجعني البرق والصواعق بالفارس يوم الكريهة النجد وفي تلك القصة على ما قال ابن جريج وغيره نزلت الآية وعن مجاهد أن يهوديا ناظر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت وقيل : إنه عليه الصلاة و السلام بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال : أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أم من ذهب أم من نحاس فنزلت عليه صاعقة فأهلكته فنزلت
و من مفعول يصيب والكلام على مافي البحر من باب الاعمال وقد أعمل فيه الثاني اذ كل من يرسل و يصيب يطلب من ولو اعمل الاول لكان التركيب ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو اعمال الثاني ثم انه تعالى بعد ان ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده تعالى وما دل على قدرته الباهرة ووحدانيته قال جل شأنه : وهم أي الذين كفروا وكذبوا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأنكروا آياته يجادلون في الله حيث يكذبون مايصفه الصادق به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالالوهية واعادة الناس ومجازاتهم فالمراد بالمجادلة فيه تعالى المجادلة في شأنه سبحانه وماأخبر به عنه جل شأنه وهي من الجدل بفتحتين أشد الخصومة وأصله من الجدل بالسكون وهو فتل الحبل ونحوه لأنه يقوى به ويشد طاقاته
وقال الراغب : اصل ذلك من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه وقيل : الاصل في الجدال الصراع واسقاط الانسان صاحبه على الجدالة وهي الارض الصلبة والى تفسير الآية بما ذكر ذهب الزمخشري قال في الكشف : وفي كلامه إشارة الى أن في الكلام التفاتا لأن قوله تعالى : سواء منكم هو الذي يريكم فيه التفات من الغيبة الى الخطاب وان شئت فتأمل من قوله تعالى : أولئك الذين كفروا بربهم الى قوله سبحانه : الكبير المتعال ثم التفت من الخطاب الى
(13/121)

الغيبة وحسن موقعها أما الاول فما فيه من تخصيص الوعيد المدمج في سواء منكم ولهذا ذيل بقوله تعالى : ان الله لايغير مابقوم الى من وال وفيه من التهديد مالايخفى على ذي بصيرة والحث على طلب النجاة زيادة التقريع في قوله تعالى : هو الذي يريكم وفي مجيء سواء منكم
هو الذي يريكم بعد قوله تعالى : الله يعلم هكذا من دون حرف النسق لأن الأول مقرر لقوله سبحانه : الله يعلم مع زيادة الادماج المذكور تحقيقا للعلم والثاني مقرر لما ضمن من الدلالة على القدرة في قوله تعالى : وكل شيء عنده بمقدار مع رعاية نمط التعديد على أسلوب الرحمن علم القرآن مايبهر الالباب ويظهر للتأمل في وجه الاعجاز التنزيلي العجب العجاب وأما الثاني 1 فما فيه من الدلالة على أنهم مع وضوح الآيات وتلاوتها عليهم والتنبيه البالغ ترغيبا وترهيبا لم يبالوا بها بالة فكأنه يشكوا جنايتهم الى من يستحق الخطاب أو كمن يدمدم في نفسه أني أصنع بهم وأفعل كيت وكيت جزاء ماارتكبوه ليرى مايريد أن يوقع بهم وعلى هذا فقوله تعالى : هم إلى آخره معطوف على قوله تعالى : ويقول الذي كفروا لولا أنزل المعطوف على ويستعجلونك والعدول عن الفعلية إلى الاسمية وطرح رعاية التناسب للدلالة على أنهم ماازدادوا بعد الآيات الا عنادا وأما الذين كفروا فزادتهم رجسا إلى رجسهم وجاز أن يقال : إنه معطوف على هو الذي يريكم على معنى هو الذي يريكم هذه الآيات الكوامل الدالة على القدرة والرحمة وأنتم تجادلون فيه سبحانه وهذا أقرب مأخذا والأول أملا بالفائدة اه ومخايل التحقيق ظاهرة عليه وزعم الطيبي أن الأنسب لتأليف النظم أن يكون هذا تسلية لحبيبه صلى الله عليه و سلم فانه تعالى لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات كآيات موسى وعيسى عليهما السلام وإنكارهم كون الذي جاء عليه الصلاة و السلام آيات سلاه جل شأنه بماذكر كأنه قال : هون عليك فانك لست مختصا بذلك فانه مع ظهور الآيات البينات ودلائل التوحيد يجادلون في الله تعالى باتخاذ الشركاء واثبات الاولاد ومع شمول علمه تعالى وكمال قدرته جل جلاله ينكرون الحشر والنشر ومع قهر سلطانه وشديد سطوته يقدمون على المكايدة والعناد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فليتأمل ولا يستحسن العطف على يرسل الصواعق لعدم الاتساق وجوز أن تكون الجملة حالا من مفعول يصيب أي يصيب بها من يشاء في حال جداله أو من مفعول يشاء على ماقيل وهو كما ترى ولايعين سبب النزول الحالية كما لايخفى وهو سبحانه وتعالى شديد المحال
31
- أي المماحلة وهي المكايدة من محل بفلان بالتخفيف إذا كاده وعرضه للهلاك ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه فهو مصدر كالقتال وقيل : هو اسم لامصدر من المحل بمعنى القوة وحمل على ذلك قول الاعشى : فرع نبل يهتز في غصن المج
د عظيم الندى شديد المحال وقول عبد المطلب : لايغلبن صليبهم ومحالهم عدوا محالك
وكأن أصله من المحل بمعنى القحط وكلا التفسيرين مروى على ابن عباس وقيل : هو مفعل لافعال من الحول بمعنى القوة وقال ابن قتيبة هو كذلك من الحيلة المعروفة وميمه زائدة كميم مكان وغلطه الأزهري بأنه لو كان مفعلا لكان كمرود ومحور واعتذر عن ذلك بأنه أعل على غير قياس وأيد دعوى الزيادة بقراءة الضحاك والأعرج المحال بفتح الميم
(13/122)

على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال لأن الاصل توافق القراءتين ويقال للحيلة أيضا المحالة ومنه المثل المرء يعجز لا المحالة وقال أبو زيد : هو بمعنى النقمة وكأنه أخذه من المحل بمعنى القحط أيضا وقال ابن عرفة : هو الجدال يقال : ما حل عن أمره أي جادل وقيل : هو بمعنى الحقد وروى عن عكرمة وحملوه على التجوز
وجوز أن يكون المحال بالفتح بمعنى الفقار وهو عمود الظهر وقوامه قال في الاساس : يقال فرس قوي المحال أي الفقار الواحدة محالة والميم أصلية ويكون ذلك مثلا في القوة والقدرة كما جاء في الحديث الصحيح 1 فساعد الله تعالى أسد وموساه أحد لأن الشخص إذا اشتد محاله كان منعوتا بشدة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى الى قولهم : فقرته الفواقر وهو مثل لتوهين القوى وبهذا الحمل لايلزم اثبات الجسمية له تعالى والجملة في موضع الحال من الاسم الجليل له أي الله تعالى دعوة الحق أي الدعاء والتضرع الثابت الواقع في محله المجاب عند وقوعه والاضافة للايذان بملابسة الدعوة للحق واختصاصها به وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضلال والضياع كما يقال : كلمة الحق والمراد ان إجابة ذلك له تعالى دون غيره ويؤيد ما بعد كما لايخفى 2 وقيل : المراد بدعوة الحق الدعاء عند الخوف فانه لايدعى فيه الا الله تعالى كما قال سبحانه : ضل من تدعون الا اياه وزعم الماوردي أن هذا أشبه بسياق الآية وقيل : الدعوة : بمعنى الدعاء أي طلب الاقبال والمراد به العبادة للاشتمال والاضافة على طرز ما تقدم وبعضهم يقول : إن هذه الاضافة من اضافة الموصوف الى الصفة والكلام فيها شهير وحاصل المعنى أن الذي يحق أن يعبد هو الله تعالى دون غيره
ويفهم من كلام البعض على ماقيل أن الدعوة بمعنى الدعاء ومتعلقها محذوف أي للعبادة والمعنى أنه الذي يحق أن يدعى إلى عبادته دون غيره ولا يخفى مابين المعنيين من التلازم فانه إذا كانت الدعوة الى عبادته سبحانه حقا كانت عبادته جل شأنه حقا وبالعكس وعن الحسن أن المراد من الحق هو الله تعالى وهو كما في البحر ثاني الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري والمعنى عليه كما قال : له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب والأول ماأشرنا اليه أولا وجعل الحق فيه مقابل الباطل
وبين صاحب الكشف حاصل الوجهين بأن الكلام مسوق لاختصاصه سبحانه بأن يدعى ويعبد ردا لمن يجادل في الله تعالى ويشرك به سبحانه الانداد ولابد من أن يكون في الاضافة اشعار بهذا الاختصاص فان جعل الحق في مقابل الباطل فهو ظاهر وإن جعل اسما من أسمائه تعالى كان الأصل لله دعوته تأكيدا للاختصاص من اللام والاضافة ثم زيد ذلك باقامة الظاهر مقام المضمر معادا بوصف ينبىء عن اختصاصها به أشد الاختصاص فقيل : له دعوة المدعو الحق والحق من أسمائه سبحانه يدل على أنه الثابت بالحقيقة وما سواه باطل من حيث هو وحق بتحقيقه تعالى اياه فيتقيد بحسب كل مقاما للدلالة على أن مقابلة لاحقيقة له وإذا كان المدعو من دونه بطلانه لعدم الاستجابة فهو الحق الذي يسمع فيجيب انتهى وبهذا سقط ما قاله أبو حيان في الاعتراض على الوجه الثاني من أن مآله الى الله دعوة الله وهو نظير قولك : لزيد دعوة زيد ولايصح ذلك واستغنى عما قال العلامة الطيبي
(13/123)

في تأويله : من أن المعنى ولله تعالى الدعوة التي تليق أن تنسب وتضاف إلى حضرته جل شأنه لكونه تعالى سميعا بصيرا كريما لايخيب سائله فيجيب الدعاء فان ذلك كما ترى قليل الجدوى ويعلم مما في الكشف وجه تعلق هذه الجملة بما تقدم وقال بعضهم : وجه تعلق هذه والجملة التي قبلها أعني قوله تعالى : وهو شديد المحال ان كان سبب النزول قصة أربد وعامر أن اهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله تعالى وإجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه و سلم فقد روى أنه عليه الصلاة و السلام قال : اللهم احبسهما عني بماشئت أو دلالة على رسوله صلى الله عليه و سلم على الحق وإن لم يكن سبب النزول ذلك فالوجه أن ذلك وعيد للكفرة على مجادلتهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم باجابة دعائه عليه الصلاة و السلام أن دعا عليهم أو بيان ضلالتهم وفساد رأيهم في عبادة غير الله تعالى ويعلم مما ذكر وجه التعلق على بعض التفاسير إذا قلنا : إن سبب النزول قصة اليهودي أو الجبار فتأمل
والذين يدعون أي الاصنام الذين يدعونهم أي المشركون وحذف عائد الموصول في مثل ذلك كثير وجوز أن يكون الموصول عبارة عن المشركين وضمير الجمع المرفوع عائد اليه ومفعول يدعون محذوف أي الاصنام وحذف لدلالة قوله تعالى : من دونه عليه لأن معناه متجاوزين له وتجاوزه إنما هو بعبادتها ويؤيد الوجه الأول قراءة البزدوي عن أبي عمرو تدعون بتاء الخطاب وضمير لايستجيبون عليه عائد على الذين وعلى الثاني عائد على مفعول يدعون وعلى كل فالمراد لايستجيب الاصنام لهم أي للمشركين بشيء من طلباتهم إلا كبسط كفيه إلى الماء أي لايستجيبون شيئا من الاستجابة وطرفا منها إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه اليه من بعيد يطلبه ويدعوه ليبلغ أي الماء بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه فاه وماهو أي الماء ببالغه أي ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لايشعر بعطشه وبسط يديه اليه وجوز أبو حيان كون هو ضمير الفم والهاء في بالغه ضمير الماء أي وما فوه ببالغ الماء لأن كلا منهما لايبلغ الآخر على هذه الحال
وجوز بعضهم كون الأول ضمير باسط والثاني ضمير الماء قال أبو البقاء : ولايجوز أن يكون الأول عائدا على باسط والثاني عائدا على الفم لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له لزم إبراز الفاعل فكان يجب على ذلك أن يقال : وماهو ببالغه الماء والجمهور على ماسمعت أولا والغرض كما قال بعض المدققين ففي الاستجابة على البت بتصوير أنهم احوج مايكون اليها لتحصيل مباغيهم أخيب مايكون أحد في سعيه لما هو مضطر اليه والحاصل أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة وبقائهم لذلك في الخسار بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه اليه يناديه عبارة وإشارة فهو لذلك في زيادة الكباد والبوار والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل أبرز في معرض التهكم حيث أثبت أنهما استجابتان زيادة في التخسير والتحسير فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر كما أشرنا اليه والظاهر أن الاستجابة هناك مصدر من المبني للفاعل وهو الذي يقتضيه الفعل الظاهر وجوز أن يكون من المبنى للمفعول ويضاف إلى الباسط بناءا على استلزام المصدر من المبنى للفاعل للمصدر من المبني
(13/124)

للمفعول وجودا وعدما فكأنه قيل : لايستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم استجابة كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قول الفرزدق : وعض زمان ياابن مروان لم يدع من المال الا مسحت 1 أو مجلف أي لم يدع فلم يبق الا مسحت 2 أو مجلف وأبو البقاء يجعل الاستجابة مصدر المبني للمفعول واضافته الى باسط من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كما في قوله تعالى لايسأم الانسان من دعاء الخير والفاعل ضمير الماء على الوجه الثاني في الموصول وقد يراد من بسط الكفين إلى الماء بسطهما أي نشر أصابيعهما ومدها لشربه لا للدعاء والاشارة اليه كما أشرنا اليه فيما تقدم وعلى هذا قيل : شبه الداعون لغير الله تعالى بمن أراد أن يعرف الماء بيديه فبسطهما ناشرا اصابعه في انهما لايحصلان على طائل وجعل بعضهم وجه الشبه قلة الجدوى ولعله أراد عدمها لكنه بالغ بذكر القلة وارادة العدم دلالة على هضم الحق وإيثار الصدق ولاشمام طرف من التهكم والتشبيه على هذا من تشبيه المفرد المقيد كقولك لمن لايحصل من سعيه على شيء : هو كالراقم على الماء فان المشبه هو الساعي مقيدا بكون سعيه كذلك والمشبه به هو الراقم مقيدا بكونه على الماء كذلك فيما نحن فيه وليس من المركب العقلي في شيء على ماتوهم نعم وجه الشبه عقلي اعتباري والاستثناء مفرغ عن اعم عام الاحوال أي لايستجيب الآلهة لهؤلاء الكفرة الداعين الا مشبهين أعني الداعين بمن بسط كفيه ولم يقبضهما وأخرجهما كذلك فلم يحصل على شيء لأن الماء يحصل بالقبض لا بالبسط وروى عن علي كرم الله تعالى وجهه أن ذلك تشبيه بعطشان على شفير بئر بلا رشاء ولا يبلغ قعر البئر ولا الماء يرتفع اليه وهو راجع إلى الوجه الأول وليس مغايرا له كما قيل وعن أبي عبيدة أن ذلك تشبيه بالقابض على الماء في أنه لايحصل على شيء ثم قال : والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لايدركه بذلك وأنشد قول الشاعر : فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد وقوله : وإني وإياكم وشوقا اليكم كقابض ماء لم تسعه أنامله وهو راجع إلى الوجه الثاني خلا أنه لايظهر من باسط معنى قابض فان بسط الكف ظاهر في نشر الاصابيع ممدودة كما في قوله : تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضا لم تطعه أنامله وكيفما كان فالمراد بباسط شخص باسط أي شخص كان وما يقتضيه ظاهر ماروى عن بكير بن معروف من أنه قابيل حيث أنه لما قتل أخاه جعل الله تعالى عذابه أن أخذ بناصيته في البحر ليس بينه وبين الماء الا اصبع فهو يريده مما لاينبغي أن يعول عليه وقريء كباسط كفيه بالتنوين أي كشخص يبسط كفيه وما دعاء الكفرين الا في ضلال
41
- أي في ضياع وخسار وباطل والمراد بهذا الدعاء إن كان دعاء آلهتهم فظاهر أنه كذلك لكنه فهم من السابق وحينئذ يكون مكرر للتأكيد وإن كان دعاءهم الله تعالى فقد استشكلوا ذلك بأن دعاء الكافر قد يستجاب وهو المصرح به في الفتاوى واستجابة دعاء إبليس وهو رأس الكفار
(13/125)

نص في ذلك وأجيب بأن المراد دعاهم الله تعالى بما يتعلق بالآخرة وعلى هذا يحمل ماروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن أصوات الكفار محجوبة عن الله تعالى فلا يسمع دعاؤهم وقيل : يجوز أن يراد دعاؤهم مطلقا ولايقيد بما أجيبوا به ولله وحده يسجد يخضع وينقاد لا لشيء غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا فالقصر ينتظم القلب والافراد من في السموات والأرض من الملائكة والثقلين كما يقتضيه ظاهر التعبير بمن وتخصيص انقياد العقلاء مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة وانقيادهم دليل انقياد غيرهم على أن فيما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانا لذلك وقيل : المراد مايشمل أولئك وغيرهم والتعبير بمن للتغليب طوعا وكرها نصب على الحال فان قلنا بوقوع المصدر حالا من غير تأويل فهو ظاهر والا فهو بتأويل طائعين وكارهين أي أنهم خاضعون لعظمته تعالى منقادون لاحداث ماأراد سبحانه فيهم من أحكام التكوين والاعدام شاؤا أو أبوا من غير مداخلة حكم غيره جل وعلا بل غير حكمه تعالى في شيء من ذلك
وجوز أن يكون النصب على العلة فالكره بمعنى الاكراه وهو مصدر المبني للمفعول ليتحد الفاعل بناء على اشتراط ذلك في نصب المفعول لأجله وهو عند من لم يشترط على ظاهره وما قيل عليه من أن اعتبار العلية في الكره غير ظاهر لأنه الذي يقابل الطوع وهو الاباء ولا يعقل كونه علة للسجود فمدفوع بأن العلة مايحمل على الفعل أو مايترتب عليه لا مايكون غرضا له وقد مر عن قرب فتذكره وقيل : النصب على المفعولية المطلقة أي سجود طوع وكره وظلالهم أي وتنقاد له تعالى ظلال من له ذلك منهم وهم الانس فقط أو مايعمهم وكل كثيف
وفي الحواشي الشهابية ينبغي أن يرجع الضمير لمن في الأرض لأن من في السماء لاظل له الا أن يحمل على التغليب أو التجوز ومعنى انقياد الظلال له تعالى أنها تابعة لتصرفه سبحانه ومشيئته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال وأصل الظل كما قال الفراء مصدر ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم وهو اما معكوس أو مستو ويبني على كل منهما احكام ذكروها في محلها بالغدو والآصال
51
- ظرف للسجود المقدر والباء بمعنى في وهو كثير والمراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأييد قيل : فلا يقال لم خص بالذكر وكذا يقال : اذا كانا في موضع الحال من الظلال وبعضهم يعلل ذلك بأن امتدادها وتقلصها في ذينك الوقتين أظهر
والغدو جمع غداة كقنى وقناة والآصال جمع أصيل وهو مابين العصر والمغرب وقيل : هو جمع أصل جمع أصيل وأصله أأصال بهمزتين فقلبت الثانية ألفا وقيل : الغدو مصدر وأيد بقراءة ابن مجلز الايصال بكسر الهمزة على أنه مصدر آصلنا بالمد أي دخلنا في الاصيل كما قاله ابن جنى هذا وقيل : إن المراد حقيقة السجود فان الكفرة حالة الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى : وكرها يخصون السجود به سبحانه قال تعالى : واذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال افهاما وعقولا بها تسجد لله تعالى شأنه كما خلق جل جلاله ذلك للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهرت فيها آثار التجلي كما قاله ابن الانباري : وجوز أن يراد بسجودها مايشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها وهذا على ماقيل : مبني على ارتكاب عموم المجاز في السجود المذكور في الآية بأن يراد به الوقوع على الأرض فيشمل سجود الظلال بهذا المعنى أو تقدير فعل مؤد ذلك رافع الظلال أو خبر له كذلك أو التزام أن
(13/126)

ارادة ماذكر لايضر في الحقيقة لكونه بالتبعية والعرض أو أن الجمع بين ارادة ماذكر لايضر في الحقيقة لكونه بالتبعية والعرض أو أن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز ولا يخفى مافي بعض الشقوق من النظر وعن قتادة أن السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وقد عبر بالطوع عن سجود الملائكة عليهم السلام والمؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف الى الاسلام فيسجد كرها أما نفاقا أو يكون الكره أول حاله فيستمر عليه الصفة وان صح ايمانه بعد وقيل : الساجد طوعا من لايثقل عليه السجود والساجد كرها من يثقل عليه ذلك وعن ابن الانباري الاول من طالت مدة اسلامه فألف السجود والثاني من بدأ بالاسلام الى أن يألف وأيا ما كان فمن عام أريد به مخصوص اذ يخرج من ذلك من لايسجد وقيل : هو عام لسائر انواع العقلاء والمراد بيسجد يجب ان يسجد لكن عبر عن الوجوب بالوقوع مبالغة
واختار غير واحد في تفسير الآية ماذكرناه أولا ففي البحر والذي يظهر أن مساق الآية انما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى خاضع لما أراد سبحانه منه مقصور على مشيئته لايكون منه الا ما قدر جل وعلا فالذين تعبدونهم كائنا ماكانوا داخلون تحت القهر لايستطيعون نفعا ولا ضرا ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود وهي ليست أشخاصا يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها سبحانه حسبما أراد اذ هي من العالم والعالم جواهره واعراضه داخلة تحت قهر ارادته تعالى كما قال سبحانه : أولم يروا الى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وكون المراد بالظلال الاشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه ماقاله ابن الانباري وقياسها على الجبال ليس بشيء لأن الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لايتصور قيام الحياة به وإنما معنى سجودها ميلها من جانب الى جانب واختلاف أحوالها كما أراد سبحانه وتعالى وفي ارشاد العقل السليم بعد نقل ما قيل أولا وأنت خبير بأن بأن اختصاص سجود الكافر حالة الاضطرار والشدة لله تعالى لايجدي فان سجوده للصنم حالة الاختيار والرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل في الابداع والاعدام له تعالى ادخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه سبحانه وتعالى من تحقيق سجودهم له تعالى اه وفي تلك الأقوال بعد مالايخفى على الناقد البصير
قل من رب السموت والأرض تحقيق كما قال بعض المحققين لأن خالقهما ومتولي أمرهما مع مافيهما على الاطلاق هو الله تعالى وقيل : إنه سبحانه بعد أن ذكر انقياد المظروف لمشيئته تعالى ذكر ماهو كالحجة على ذلك من كونه جل وعلا خالق هذا الظرف العظيم الذي يبهر العقول ومدبره أي قل يامحمد لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا من دونه أولياء من رب هذه الاجرام العظيمة العلوية والسفلية قل الله أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالجواب اشعارا بأنه متعين للجوابية فهو عليه الصلاة و السلام والخصم في تقريره سواء ويجوز أن يكون ذلك تلقينا للجواب ليبين لهم ما هم عليه من مخالفتهم لما علموه وقيل : إنه حكاية لاعترافهم والسياق يأباه
وقال مكي : إنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهته صلى الله عليه و سلم فأمر باعلامهم به ويبعده أنه تعالى قد أخبر بعلمهم في قوله سبحانه : ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وحينئذ كيف يقال : انهم جهلوا الجواب فطلبوه نعم قال البغوي : روى أنه لما قال صلى الله عليه و سلم ذلك للمشركين عطفوا عليه فقالوا : أجب أنت فأمره الله تعالى بالجواب وهو بفرض صحته لايدل على جهلهم كما لايخفى قل الزاما لهم وتبكيتا أفاتخذتم لأنفسكم من دونه أولياء عاجزين لايملكون لأنفسهم وهي أعز عليهم
(13/127)

منكم نفعا يستجلونه ولاضرا يدفعونه عنها فضلا عن القدرة على جلب النفع للغير ودفع الضرر عنه والهمزة للانكار والمراد بعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء في غاية العجز عن نفعكم فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم سبب الاشراك فالفاء عاطفة للتسبب والتفريع دخلت الهمزة عليه لأن المنكر الاتخاذ بعد العلم لا العلم ولاهما معا ووصف الأولياء بما ذكر مما يقوى الانكار ويؤكده ويفهم على ماقيل من كلام البعض أن هذا دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن ينفعوهم واختلف في الدليل الأول فقيل : هو ما يفهم من قوله تعالى : قل أفاتخذتم من دونه أولياء وقيل : هو مايفهم من قوله سبحانه : والذين يدعون من دونه الخ فتدبر قل تصويرا لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس هل يستوي الأعمى الذي هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها والبصير الذي هو الموحد العالم بذلك والى هذا ذهب مجاهد وفي الكلام عليه استعارة تصريحية وكذا على ماقيل : ان المراد بالأول الجاهل بمثل هذه الحجة وبالثاني العالم بها وقيل : إن الكلام على التشبيه والمراد لايستوي المؤمن والكافر كما لايستوي الاعمى والبصير فلا مجاز ومن الناس من فسر الأول بالمعبود الغافل 1 والثاني بالمعبود العالم بكل شيء وفيه بعد أم هل تستوي الظلمات التي هي عبارة عن الكفر والضلال والنور الذي هو عبارة عن الايمان والتوحيد وروى ذلك عن مجاهد أيضا وجمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر ككفر النصارى وكفر المجوس وكفر غيرهم وكون الكفر كله ملة واحدة أمر آخر
و أم كما في البحر منقطعة وتقدر ببل والهمزة على المختار والتقدير بل أهل تستوي وهل وإن نابت عن الهمزة في كثير من المواضع فقد جامعتها أيضا كما في قوله
أهل رأونا بوادي القف ذي الاكم
وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى ويجوز فيها بعد أم هذه أن يؤتي بها لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الاصالة فيه كما في قوله تعالى : أم من يملك السمع والابصار ويجوز أن لايؤتى بها لأن أم متضمنة للاستفهام وقد جاء الامران في قوله : هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم أم هل كبير بكى لم يقض عبرته أثر الاحبة يوم البين مشكوم وقرأ الاخوان وأبو بكر أم هل يستوي بالباء التحتية ثم إنه تعالى أكد مااقتضاه الكلام السابق من تخطئة المشركين فقال سبحانه : أم جعلوا أي بل أجعلوا لله جل وعلا شركاء خلقوا كخلقه سبحانه وتعالى والهمزة لانكار الوقوع وليس المنكر هو الجعل لأنه واقع منهم وإنما هو الخلق كخلقه تعالى والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم بسبب ذلك وقالوا : هؤلاء خلقوا كخلق الله تعالى واستحقوا بذلك العبادة كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأ لخطئهم بل انما جعلوا له شركاء عاجزين لايقدرون على مايقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق والمقصود
(13/128)

بالانكار والنفي هو القيد والمقيد على مانص عليه غير واحد من المحققين وفي الانتصاف أن خلقوا كخلقه في سياق الانكار جيء به للتهكم فان غير الله تعالىلايخلق شيئا لامساويا ولا منحطا وقد كان يكفي في الانكار لولا ذلك أن الآلهة التي اتخذوها لاتخلق
وتعقبه الطيبي بأن اثبات التهكم تكلف فانه ذكر الشيء وارادة نقيضه استحقارا للمخاطب كما في قوله تعالى : فبشرهم بعذاب اليم وههنا كخلقه جيء به مبالغة في إثبات العجز لآلهتهم على سبيل الاستدراج وارخاء العنان فانه تعالى لما أنكر عليهم أولا اتخاذهم من دونه شركاء ووصفها بأنها لاتملك لأنفسها نفعا ولاضرا فكيف تملك ذلك لغيرها أنكر عليهم ثانيا على سبيل التدرج وصف الخلق أيضا يعني هب أن أولئك الشركاء قادرون على نفع أنفسهم وعلى نفع عبدتهم فهل يقدرون على أن يخلقوا شيئا وهب أنهم قادرون على خلق بعض الاشياء فهل يقدرون على مايقدر عليه الخالق من خلق السموات والارض اه والحق أن الآية ناعية عليهم متهكمة بهم فان من لايملك لنفسه شيئا من النفع والضر أبعد من أن يفيدهم ذلك وكيف يتوهم فيه أنه خالق وأن يشتبه على ذي عقل فينبه على نفيه وهذا المقدار يكفي في الغرض فافهم قل تحقيقا للحق وارشادا لهم الله خالق كل شيء من الجواهر والاعراض ويلزم هذا أن لاخالق سواه لئلا يلزم التوارد وهو المقصود ليدل على المراد وهو نفي استحقاق غيره تعالى للعبادة والالوهية أي لاخالق سواه فيشاركه في ذلك الاستحقاق
وبعموم الآية استدل اهل السنة على أن افعال العباد مخلوقة له تعالى والمعتزلة تزعم التخصيص بغير افعالهم ومن الناس من يحتج أيضا لما ذهب اليه أهل الحق بالآية الاولى وهو كما ترى وهو الواحد المتوحد بالالوهية المنفرد بالربوبية القهار
61
- الغالب على كل ماسواه ومن جملة ذلك آلهتهم فكيف يكون المغلوب شريكا له تعالى وهذا على ماقيل كالنتيجة لما قبله وهو يحتمل أن يكون من مقول القول وأن يكون جملة مستأنفة
أنزل من السماء أي من جهتها على ماهو المشاهد وقيل : منها نفسها ولا تجوز في الكلام واستدل له بآثار الله تعالى أعلم بصحتها وقيل : أنزل منها نفسها ماء أي كثيرا أو نوعا منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الاجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز في من فسالت بذلك أودية دافعة في مواقعه لاجميع الاودية اذ الامطار لاتستوعب الاقطار وهو جمع واد
قال أبو علي الفارسي : ولا يعلم أن فاعلا جمع على افعلة ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير ثم ان وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر وأطيار ووزن فعيل يجمع على أفعلة كجريب وأجربة ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لاجرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال : واد وأودية ويجمع فعيل جمع فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف اه ونظير ذلك ناد وأندية وناج وانجية قيل : ولا رابع لها وفي شرح التسهيل مايخالفه والوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على الماء الجاري فيه وهو اسم فاعل من ودى اذا سال فان اريد الاول فالاسناد مجازى أو الكلام على تقدير مضاف كما قال الامام أي مياه أودية وان أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالاسناد حقيقي وايثار التمثيل بالأودية على
(13/129)

الانهار المستمرة الجريان لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير اليه إن شاء الله تعالى بقدرها أي بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرا وكبرا لابكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعي لكثرة الموارد فان موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير هذا اذا أريد بالاودية مايسيل فيها أما أن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياهها بقدر تلك الأودية على نحو ماعرفته آنفا أو يراد بضميرها مياهها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ماذكر أولا من المعنين قاله شيخ الاسلام والجار والمجرور على مانقل عن الحوفي متعلق بسالت وقال أبو البقاء : إنه في موضع الصفة لأودية وجوز أن يكون متعلقا بأنزل وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والاشهب العقيلي وأبو عمرو في رواية بقدرها بسكون الدال وهي لغة في ذلك
فاحتمل أي حمل وجاء افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر السيل أي الماء الجاري في تلك الاودية والتعريف لكونه معهودا مذكورا بقوله تعالى : أودية ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الاصل وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عنى به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة الا انه اذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة وكذا يضمر اذا عاد على مادل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرا له أي الكذب ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من سالت اه
وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به مافهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت وأجيب بأنه بطريق الاستخدام ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر حقيقيا كان أو مجازيا وهذا ليس كذلك لأن الاول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك فكيف يتصور فيه الاستخدام نعم ماذكروه أغلبي لايختص بما ذكر فان مثل الضمير اسم الاشارة وكذا الاسم الظاهر 1 اه
وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل زبدا هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أمواجه على ماقاله أبو الحجاج الاعلم وهو معنى قول ابن عيسى : إنه وضر الغليان وخبثه قال الشاعر : وما الفرات إذا جاشت غواربه ترمى أواذيه العبرين 2 بالزبد رابيا أي عاليا منتفخا فوق الماء ووصف الزبد بذلك قيل : بيانا لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون المحمول غير طاف كالاشجار الثقيلة وانما لم يدفع ذلك بأن يقال فاحتمل السيل زبدا فوقه للايذان بأن تلك الفوقية مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقا للمماثلة بينه وبين مامثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادي الرأي من غير مداخلة في الحق ومما يوقدون ابتداء جملة كما روى عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب
(13/130)

مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الايقاد عليه وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره وقرأ أكثر السبعة وأبو جعفر والأعرج وشيبة توقدون بتاء الخطاب والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى : في النار عند أبي البقاء والحوفي قال أبو علي : قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى : فأوقد لي ياهامان على الطين فان الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها وقال مكي وغيره : إن في النار متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أي كائنا أو ثابتا فيها ومنعوا تعلقه بتوقدون قالوا : لأنه لايوقد على شيء الا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى وقال أبو حيان : لو قلنا : إنه لايوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضا التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه وقيل : إن زيادة ذلك للاشعار بالمبالغة في الاعتمال للاذابة وحصول الزبد والمراد بالموصول نحو الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالايقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها اظهارا لكبريائه جل شأنه على ماقيل وهو لاينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الاشارة إلى كونه مرغوبا فيه بقوله تعالى : ابتغاء حلية أو متاع فوفى كل من المقامين حقه فما قيل : إن الحمل على التهاون لايناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لايناسب ساقط فتأمل
ونصب ابتغاء على أنه مفعول كما هو الظاهر وقال الحوفي : إنه مصدر في موضع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي مايتزين ويتجمل به كالحلي المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الاواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات زبد خبث مثله أي مثل ماذكر من زبد الماء في كونه رابيا فوقه رفع زبد على أنه مبتدأ خبره مما توقدون و من لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئا منه واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل وإنما لم يتعرض لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان انزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى كما أن للعنوان السابق دخلا فيه بل له اخلال بذلك كذلك أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة : يضرب الله الحق والباطل أي مثل الحق ومثل الباطل والحذف للابناء 1 على كمال التماثل بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل فأما الزبد من كل من السيل وما يوقدون عليه وأفرد ولم يثن وإن تقدم زبد ان لاشتراكهما في مطلق الزبد فهما واحد باعتبار القدر المشترك فيذهب جفاءا مرميا به يقال : جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به ويقال : أجفأ أيضا بمعناه وقال ابن الانباري : جفاء أي متفرقا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته ويقال : جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف وقريء جفالا باللام بدل الهمزة وهو بمعنى متفرقا أيضا أخذا من جفلت الريح الغيم كجفأت ونسبت هذه القراءة الى رؤبة قال ابن أبي حاتم : ولايقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان اعرابيا جافيا
(13/131)

وعنه ولاتعتبر قراءة الاعراب في القرآن والنصب على الحالية وأما ماينفع الناس أي من الماء الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث فيمكث يبقى في الأرض أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلي ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والادوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ماهو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فان المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لاقبله وقيل : النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره والآية من الجمع والتقسيم كما لايخفى
وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظا وعلى الالسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية ومايتلوها من الملكات السنية والاعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها سيلانا مقدرا بمقدار اقتضته الحكمة في احياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الابدية ومتاعا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والادوات وتبقى منتفعا بها مدة طويلة ومثل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما واخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا
وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن مثل مابعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به وقال ابن عطية : صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرغ من ذلك جعله مثالا للحق والباطل والايمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه وكأنه أراد بعطف الايمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة الى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين كذلك أي مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال
71
- في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الارشاد وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه : يضرب الله الحق والباطل إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الاول أو بجعل ذلك إشارة اليهما جميعا
وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقال سبحانه : للذين استجابوا لربهم إذ دعاهم الى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فان له لما فيمن تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيرا بليغا في تسخير
(13/132)

والنفوس والجار والمجرور خبر مقدم وقوله سبحانه : الحسنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة وغيره وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لايشوبها كدر أصلا وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لاإله إلا الله وفيه من البعد مالايخفى مبتدأ مؤخر والذين لم يستجيبوا له سبحانه وعاندوا الحق الجلي لو أن لهم مافي الأرض من أصناف الأموال جميعا بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان ومثله معه لافتدوا به أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه جميعا ليتخلصوا عما بهم وفيه من تهويل ما يلقاهم مالا يحيط به البيان والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ماقيل واقعة موقع السوأى المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل : وللذين لم يستجيبوا له السوأى وتعقب بأن الشرطية وان دلت على سوء حالهم لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوبا باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى : أولئك لهم سوء الحساب وحيث كان اسم الاشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبرا عن الموصول في الحقيقة ومبينا لابهام مضمون الشرطية الواقعة خبرا عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل : والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن لو أن لهم مافي الأرض جميعا إلى آخر الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى : للذين استجابوا لربهم الحسنى تقتضي أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولايزداد على ذلك لكنه جيء بقوله سبحانه : لو أن لهم الخ بدل ماذكر ولعل في كلام الطيبي ما يستأنس به لذلك والى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضا صاحب الكشف قال : ان قوله تعالى لو أن لهم في مقابلة الحسنى بدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير وأوثر الاجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لايدخل تحت الوصف فتدبر والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيء على ما روى عن ابراهيم النخعي والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لايغفر لهم منها شيء وهو المعنى بالمناقشة وعن ابن عباس هو ان يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيآتهم ومأواهم أي مرجعهم جهنم بيان لمؤدى ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة وبئس المهاد
81
- أي المستقر والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم
وقال الزمخشري : اللام في قوله تعالى : للذين استجابوا متعلقة يضرب الله الامثال وقوله سبحانه : الحسنى صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى وقوله عز و جل : والذين لم يستجيبوا معطوف على الموصول الاول وقوله جل وعلا : لو أن لهم الخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب والمعنى كذلك يضرب الله تعالى الامثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى قال أبو حيان : والتفسير الاول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين والله تعالى قد ضرب امثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقا وانما
(13/133)

هو نفي الاستجابة الحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقا ولأنه حينئذ يكون لو أن لهم الخ كلاما مفلتا أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الامثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم الخ ولو كان هناك حرف يربط لو بما قبلها زال التفلت وأيضا أنه يوهم الاشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما : وتعقب بأنه لاكلام في أولوية التفسير الاول لكن كون ماذكر وجها لها محل كلام اذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الامثال عموما بمثل هذين ألا ترى قوله تعالى : كذلك ثم ان فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضا ألا يرى الى القصر المستفاد من تقديم الظرف وأيضا قوله تعالى : الحسنى صفة كاشفة لامفهوم لها فان الاستجابة لله تعالى لاتكون الا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه : لو أن لهم الخ مفلتا وقد قالوا : أنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون انه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الاشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلوما انتهى قال بعض المحققين : إن ماذكر متوجه بحسب باديء الرأي والنظرة الأولى أما اذا نظر بعين الانصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فان قوله تعالى : كذلك يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الامثال فيقتضي أن ماجرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك وماذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر وأما قوله : إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمنا والعلم صراحة وأما أن الصفة مؤكدة أو لامفهوم لها فخلاف الاصل أيضا وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما بعد نقل التفسير الاخير وحمل الامثال فيه على الامثال السابقة : وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لامناسبة بينه وبين مايدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضا كما في قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون ونظائره على أن بعض الامثال المضروبة لاسيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبا لهم أيضا بأن يجعل في حكم أن يقال : كذلك يضرب الله الامثال للناس اذ لاوجه حينئذ لتنويعهم الى المستجيبين وغير المستجيبين ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال : إن جعل للذين استجابوا من تتمة الامثال لامن صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالاصالة ومن صلة يضرب أبعد لأن الأمثال انما ضربت لمن يعقل
ثم ان كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ماتقدم كان أمثالا والمشهور أنه مثلان نعم أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد وبعد هذا كله لاشك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وانه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امريء القيس : ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الاصباح منك بأمثل عن قول المتنبي إذا كان مدحا فالنسيب المقدم أكل فصيح قال شعرا متيم وهو الذي فهمه السلف من الآية ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويتبدءون بقوله تعالى : للذين استجابوا وقال صاحب المرشد : انه وقف تام والوقف على الحسنى حسن وكذا على لافتدوا به
(13/134)

والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه والله تعالى أعلم
ومن باب الاشارة المر أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة تلك آيات علامات الكتاب الجامع الذي هو الوجود المطلق الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الانسان الكامل وقيل : النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبقة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لايختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه وقيل : رفع سموات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها ثم استوى على العرش بالتأثير والتقويم وقيل : عرش القلب بالتجلي وسخر الشمس شمس الروح بادراك المعارف الكلية واستشراف الانوار العالية والقمر قمر القلب بادراك مافي العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات كل يجري لأجل مسمى وهو كماله بحسب الفطرة يدبر الامر في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب المبادي يفصل الآيات في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات لعلكم بلقاء ربكم عند مشاهدة آيات التجليات توقنون عين اليقين
وقال ابن عطاء : يدبر الامر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن الله تعالى الذي يجري تلك الأحوال لابد لكم من الرجوع اليه سبحانه وهو الذي مد الأرض أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة وجعل فيها رواسي المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها أنهارا من علوم الحقائق ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة يغشي الليل النهار تجلي الجلال وتجلي الجمال إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون في آيات الله تعالى قال أبو عثمان : الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير وقيل : تصفيته لوارد الفوائد وقيل : الاشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الاخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يتفكرون في صنع الله تعالى وتطابق عالميه الاصغر والاكبر وفي الارض قطع متجاورات فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقلوب العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين وقيل : في ارض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الانوار والرابعة أشجار نور العلم وفيها جنات من أعناب أي أعناب العشق وزرع أي زرع دقائق المعرفة ونخيل أي نخل الإيمان صنوان في مقام الفرق وغير صنوان في مقام الجمع وقيل : صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه يسقى بماء واحد وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق ويفضل بعضها على بعض في الاكل في الطعم الروحاني وقيل : أشير أيضا إلى أن في ارض الجسد قطعا متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والانسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الانسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والاذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الادراكات
(13/135)

والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وهكذا وإن تعجب فعجب قولهم بعد ظهور الآيات أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحي الموتى
وقيل : إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الانسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأسره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيآت والأحوال والأوضاع والصور وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جديد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره فعنده الجوهر وكذا العرض لايبقى زمانين كما أن العرض عند الاشعري كذلك وهذا عند الشيخ قدس سره مبني على أن الجواهر والاعراض كلها شؤنه تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن وأكثر الناس ينكرون على الاشعري قوله بتجدد الاعراض والشيخ قدس سره زاد في الشطرنج جملا ولا يكاد يدرك مايقوله بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا أولئك الذين كفروا بربهم فلم يعرفوا عظمته سبحانه وأولئك الاغلال في أعناقهم فلا يقدرون أن يرفعوا رؤسهم المنتكسة الى النظر في الآيات وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لعظم ماأتوا به ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة بمناسبة استعدادهم للشر وقد خلت من قبلهم المثلات عقوبة أمثالهم وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم وإن ربك لشديد العقاب لمن رسخت فيه ويقول الذين كفروا لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة لولا أنزل عليه آية تشهد له صلى الله عليه و سلم بذلك إنما أنت منذر ما عليك الا انذارهم لا هدايتهم والكل قوم هاد هو الله تعالى وقيل : لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق الله يعلم ماتحمل كل أنثى فيعلم ماتحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد وما تغيض الارحام أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها وما تزداد بالتزكية وبركة الصحبة وكل شيء من الكمالات عنده سبحانه بمقدار معين على حسب القابلية سواء منكم من أسر القول في مكمن استعداده ومن جهر به بابرازه إلى الفعل ومن هو مستخف بالليل ظلمة ظلمه نفسه وسارب بالنهار بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إشارة الى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الامدادات الملكوتية الحافظة له من جن القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها أياه إن الله لايغير ما بقوم من النعم الظاهرة أو الباطنة حتى يغيروا ما بأنفسهم من الاستعداد وقوة القبول قال النصر ابادي : إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوق مناقشة العوام وعن بعض السلف أنه قال : إن الفأرة مزقت خفي وماأعلم ذلك الا بذنب أحدثته والا لما سلطها علي وتمثل بقول الشاعر : لو كنت من مازن لم تستبح ابلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال إذ الكل تحت قهره سبحانه قال القاسم : إذا أراد الله تعالى هلاك قوم حسن موارده في أعينهم حتى يمشون اليها بتدبيرهم وأرجلهم ولله تعالى در من قال : إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
(13/136)

هو الذي يريكم البرق أي برق لوامع الانوار القدسية خوفا خائفين من سرعة انقضائه أو بطء رجوعه وطمعا طامعين في ثباته أو سرعة رجوعه وينشيء السحاب الثقال بماء العلم والمعرفة وقيل : يرى المحبين برق المكاشفة وينشيء للعارفين سحاب العظمة الثقال بماء الهيبة فيمطر عليهم مايحييهم به الحياة التي لاتشبهها حياة وأنشدوا للشبلي : أظلت عينا منك يوما غمامة أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها فلا غيمها يصحو فييأس طامع ولاغيثها يأتي فيروى عطاشها وعن بعضهم أن البرق اشارة إلى التجليات البرقية التي تحصل لأرباب الأحوال وأشهر التجليات في تشبيهه بالبرق التجلي الذاتي وأنشدوا : ما كان ماأوليت من وصلنا الا سراجا لاح ثم انطفى وذكر الامام الرباني قدس سره في المكتوبات أن التجلي الذاتي دائمي للكاملين من أهل الطريقة النقشبندية لابرقي وأطال الكلام في ذلك مخالفا لكبار السادة الصوفية كالشيخ محي الدين قدس سره وغيره والحق أن ماذكره من التجلي الذاتي ليس هو الذي ذكروا أنه برقي كما لايخفى على من راجع كلامه وكلامهم ويسبح الرعد أي رعد سطوة التجليات الجلالية ويمجد الله تعالى عما يتصوره العقل ملتبسا بحمده وإثبات ماينبغي له عز شأنه والملائكة وتسبح الملائكة القوى الروحانية من خيفته من هيبة جلاله جل جلاله ويرسل الصواعق هي صواعق السبحات الالهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن لللطف الكلي فيصيب بها من يشاء فيحرقه عن بقية نفسه وفي الخبر إن الله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه وقال ابن الزنجاني : الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم وجعل الزمخشري هذا من بدع المتصوفة وكأني بك تقول : إن أكثر ماذكر في باب الاشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل والجواب إنا لاندعى الا الاشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد الله تعالى فمعاذ الله تعالى من أن يمر بفكري واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد وقد نص المحققون من الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ بالله تعالى ولعلك تقول : كان الأولى مع هذا ترك ذلك فنقول : قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت وهم يجادلون في الله بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته وهو سبحانه شديد المحال في دفع الافكار والانظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله : هيهات ان تصطاد عنقاء البقا بلعابهن عناكب الافكار له دعوةالحق أي الحقة الحقيقة بالاجابة لا لغيره سبحانه والذين يدعون الاصنام لايستجيبون لهم بشيء الا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه أي إلا إستجابة كاستجابة من ذكر لأن ما يدعونه بمعزل عن القدرة وما دعاء الكافرين المحجوبين الا في ضلال أي ضياع لأنهم لايدعون الا له الحق وانما يدعون إلها توهموه ونحتوه في خيالهم ولله يسجد ينقاد من في السموات والارض من الحقائق والروحانيات طوعا وكرها شاؤا أو أبوا وظلهم هياكلهم بالغدو والآصال أي دائما وقيل : يسجد من في السموات وهو الروح والعقل والقلب وسجودهم طوعا ومن في الأرض النفس وقواها وسجودهم كرها
(13/137)

وقيل : الساجدون طوعا أهل الكشف والشهود والساجدون كرها أهل النظر والاستدلال أنزل من السماء من سماء روح القدس ماء أي ماء العلم فسالت أودية أي أودية القلوب بقدرها بقدر استعدادها فاحتمل السيل زبدا من خبث صفات أرض النفس رابيا طافيا على ذلك ومما يوقدون عليه في النار نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق ابتغاء حلية طلب زينة النفس لكونها كمالات لها أو متاع من الفضائل الخلقية التي تحصل بسببها فانها مما تتمتع به النفس ما زبد خبث مثله كالنظر اليها ورؤيتها والاعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس فأما الزبد فيذهب جفاء منفيا بالعلم وأما ماينفع الناس من المعاني الحقة والفضائل الخالصة فيمكث في الأرض أرض النفس وقال بعضهم : انه تعالى شبه ماينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله الى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء الى الاودية فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياة هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد وكما أن قطرات الامطار تكون في الاودية سيلا فيحتمل السيل زبدا وحثالة وما يكون مانعا من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والابد بلا مانع من العرش الى الثرى وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الارض من الذهب والفضة وغيرهما اذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبدا مثل زبد السيل وانه يذهب ويمكث أصلهما الصافي فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الاخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب مافيه حظ النفس ويبقى ماهو خالص لله تعالى وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعا خاطر الباطل وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الانس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعا من القربة والقرب من الله عز و جل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى وقال ابن عطية : روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : أنزل من السماء ماء الخ يريد الماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه ثم قال : وهذا قولا لايصح والله تعالى أعلم عن ابن عباس لأنه ينحو الى قول أصحاب الرموز قد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق وفيه اخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع الى ذلك وان صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه : انما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى : كذلك يضرب الله الحق والباطل معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اه ونحن نقول : ان صح ذلك فمقصود الحبر منه الاشارة وأن كان يريد غير ظاهر فيه وحجة الاسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لايخفى على متتبعي كلامه وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على مايوافق غرضهم ولم أقف على ذلك للذين استجابوا لربهم بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس الحسنى المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء والذين لم يستجيبوا له تعالى وبقوا
(13/138)

في الرزائل البشرية والكدورات الطبيعية لو أن لهم مافي الأرض الجهة السفلية من الاموال والاسباب التي انجذبوا اليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها ومثله معه لافتدوا به مما ينالهم من الحجاب والحرمان اولئك لهم سوء الحساب لوقوفهم مع الافعال في مقام النفس ومأواهم جهنم الحرمان وبئس المهاد جهنم والعياذ بالله تعالى ونسأله العفو والعافية أفمن يعلم أنما أنزل اليك من ربك من القرآن الذي مثل بالماء المنزل من السماء والابريز الخالص في المنفعة والجدوى هو الحق الذي لاحق وراءه أو الحق الذي أشير اليه بالامثال المضروبة فيستجيب له كمن هو أعمى عمى القلب لايدركه ولا يقدر قدره وهو هو فيبقى حائرا في ظلمات الجهل وغياهب الضلال ولا يتذكر بما ضرب من الأمثال والمراد كمن لايعلم ذلك إلا أنه أريد زيادة تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى والهمزة للأنكار وإيراد الفاء بعدها لتوجيه الانكار إلى ترتب توهم المماثلة على ظهور حال كل منهما بما ضرب من الأمثال ومابين من المصير والمآل كأنه قيل : أبعد مابين حال كل من الفريقين ومالهما يتوهم المماثلة بينهما
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أو من يعلم بالواو مكان الفاء إنما يتذكر بماذكر من المذكرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي أولوا الألبب
91
- أي العقول الخالصة المبرأة من متابعة الالف ومعارضة الوهم فاللب أخص من العقل وهو الذي ذهب اليه الراغب وقيل : هما مترادفان والقصد بما ذكر دفع ما يتوهم من أن الكفار عقلاء مع أنهم غير متذكرين ولو نزلوا منزلة المجانين حسن ذلك
والآية 1 على ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما في حمزة رضي الله تعالى عنه وأبى جهل وقيل : في عمر رضي الله تعالى عنه وأبي جهل وقيل : في عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه وأبي جهل وقد أشرنا إلى وجه اتصالها بما قبلها والعلامة الطيبي بعد أن قرر وجه الاتصال بأن فمن يعلم عطف على جملة للذين استجابوا الخ والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه وذكر من معنى الآية على ذلك ماذكر قال : ثم إنك إذا أمعنت النظر وجدتها متصلة بفاتحة السورة يعني بقوله تعالى : والذي أنزل اليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لايؤمنون وهو كما ترى الذين يوفون بعهد الله بما عقدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا : بلى أو بما عهد الله تعالى عليهم في كتبه من الأحكام فالمراد بهم مايشمل جميع الأمم وإضافة العهد إلى الاسم الجليل من باب إضافة المصدر إلى مفعوله على الوجه الأول ومن باب إضافة المصدر إلى الفاعل على الثاني وإذا أريد بالعهد ما عقده الله تعالى عليهم يوم قال سبحانه : ألست بربكم كانت الاضافة مطلقا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل وهو الظاهر كما في البحر وحكى حمل العهد على عهد ألست عن قتادة وحمله على ما عهد في الكتب عن بعضهم ونقل عن السدي حمله على ما عهد اليهم في القرآن وعن القفال حمله على مافي جبلتهم وقولهم من دلائل التوحيد والنبوات إلى غير ذلك واستظهر حمله على العموم ولا ينقضون الميثاق
2
- ماوثقوا من المواثيق بين الله تعالى وبينهم من الايمان به تعالى والأحكام والنذور وما بينهم وبين العباد كالعقود وما ضاهاها وهو تعميم بعد تخصيص وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل
(13/139)

وقالوقال أبو حيان : الظاهر أن هذه الجملة تأكيد للتي قبلها لأن العهد هو الميثاق ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقضه وقال ابن عطية : المراد بالجملة الأولى يوفون بجميع عهود الله تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصى الله تعالى بها عبيده ويدخل في ذلك التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي والمراد بالجملة الثانية أنهم إذا عقدوا في طاعة الله تعالى عهدا لم ينقضوه اه وعليه فحديث التعميم بعد التخصيص لايتأتى كما لايخفى وقد تقدم الله سبحانه إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية من كتابه كما روى عن قتادة ومن أعظم المواثيق على ما قال ابن العربي أن لايسأل العبد سوى مولاه جل شأنه
وفي قصة أبي حمزة الخراساني ما يشهد لعظم شأنه فقد عاهد ربه أن لايسأل أحدا سواه فاتفق أن وقع في بئر فلم يسأل أحدا من الناس المارين عليه إخراجه منها حتى جاء من أخرجه بغير سؤال ولم ير من أخرجه فهتف به هاتف كيف رأيت ثمرة التوكل فينبغي الاقتداء به في الوفاء بالعهد على ما قال أيضا وقد أنكر ابن الجوزي فعل هذا الرجل وبين خطأه وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال وذكر أن سفيان الثوري وغيره قالوا : لو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار ولا ينكر أن يكون الله تعالى قد لطف بأبي حمزة الجاهل نعم لاينبغي الاستغاثة بغير الله تعالى على النحو الذي يفعله الناس اليوم مع أهل القبور الذين يتخيلون فيهم مايتخيلون فآها ثم آها مما يفعلون
والذين يصلون ماأمر الله به أن يوصل الظاهر العموم في كل ما أمر الله تعالى به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وقال الحسن : المراد صلة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالايمان به وروى نحوه عن ابن جبير وقال قتادة : المراد صلة الارحام وقيل : صلة الايمان بالعمل وقيل : صلة قرابة الاسلام بافشاء السلام وعيادة المريض وشهود الجنائز ومراعاة حق الجيران والرفقاء والخدم ومن ذهب إلى العموم أدخل في ذلك الانبياء عليهم السلام ووصلهم أن يؤمن بهم جميعا ولايفرق بين أحد منهم والناس على اختلاف طبقاتهم ووصلهم بمراعاة حقوقهم بل سائر الحيوانات ووصلها بمراعاة مايطلب في حقها وجوبا أو ندبا وعن الفضيل بن عياض أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم قالوا : من أهل خراسان 1 قالوا : اتقوا الله تعالى وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن الاحسان كله وكانت له دجاجة فأساء اليها لم يكن محسنا ومفعول أمر محذوف والتقدير ماأمرهم الله به و أن يوصل بدل من الضمير المجرور أي ماأمر الله بوصله ويخشون ربهم أي وعيده سبحانه والظاهر أن المراد به مطلقا وقيل : المراد توعيده تعالى على قطع ماأمروا بوصله ويخافون سوء الحسب
12
- فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام والخشية والخوف قيل بمعنى وفي فروق العسكري أن الخوف يتعلق بالمكروه ومنزله تقول خفت زيدا وخفت المرض والخشية تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه ولذا قال سبحانه : يخشون أولا ويخافون ثانيا وعليه فلا يكون اعتبار الوعيد في محله لكن هذا غير مسلم لقوله تعالى : خشية إملاق و لمن خشي العنت منكم وفرق الراغب بينهما
(13/140)

فقال : الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر مايكون ذلك عن علم ولذلك خص العلماء بها في قوله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء
وقال بعضهم : الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم : شجرة خشية أي يابسة ولذا خصت بالرب في هذه الآية وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا والخوف من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسرا يدل على ذلك أن تقليب الخاء والشين والياء تدل على الغفلة وفي تدبر والحق أن مثل هذه الفروق أغلبي لاكلي وضعي ولذا لم يفرق كثير بينهما نعم اختار الامام لان المراد من يخشون ربهم أنهم يخافونه خوف مهابة وجلالة زاعما أنه لولا ذلك يلزم التكرار وفيه مافيه
والذين صبروا على كل ماتكرهه النفس من المصائب المالية والبدنية وما يخالفه هوى النفس كالانتقام ونحوه ويدخل فيماذكر التكاليف ابتغاء وجه ربهم طلبا لرضاه تعالى من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء أو سمعة ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا وقيل : المراد طالبين ذلك فنصب ابتغاء على الحالية وعلى الأول هو منصوب على أنه مفعول له والكلام في مثل الوجه منسوبا اليه تعالى شهير
وفي البحر ان الظاهر منه ههنا جهة الله تعالى أي الجهة التي تقصد عنده سبحانه بالحسنات ليقع عليها المثوبة كما يقال : خرج زيد لوجه كذا وفيه أيضا أنه جاءت الصلة هنا بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن المبتدأ في معنى اسم الشرط والماضي كالمضارع في اسم الشرط فكذلك فيما أشبهه : ولذا قال النحويون : إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي وإن يراد به الاستقبال فمن الأول الذين قال لهم الناس ومن الثاني إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ويظهر أيضا أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وما تقدم بالمضارع أن ماتقدم قصد به الاستصحاب : والالتباس وأما هذه فقد قصد بها تقدمها على ذلك لأن حصول تلك الصلوات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذا لم يأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها وفي إرشاد العقل السليم حيث كان الصبر ملاك الأمر في كل ماذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد بصيغة الماضي اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فان ذلك مما لابد منه إما في نفس الصلوات كما فيما عدا الأولى والرابعة والخامسة أو في إظهار أحكامها كما في الصلات الثلاث المذكورات فانها وان استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لامشقة على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجري على موجبها غير خال عن الاحتياج اليه وهو لايخلو عن شيء والأولى على ماقيل الاقتصار في التعليل على الاعتناء بشأنه وعطف قوله سبحانه : وأقاموا الصلاة وكذا مابعده على ذلك على مانص عليه غير واحد من باب عطف الخاص على العام والمراد بالصلاة قيل الصلاة المفروضة وقيل مطلقا وهو أولى ومعنى إقامتها اتمام أركانها وهيآتها وأنفقوا مما رزقناهم بعض ماأعطيناهم وهو الذي وجب عليهم إنفاقه كالزكاة وما ينفق على العيال والمماليك أو ما يشمل ذلك والذي ندب سرا حيث يحسن السر كما في انفاق من لايعرف بالمال إذا خشى التهمة في الاظهار أو من عرف به لكن لو أظهره ربما ادخله الرياء والخيلاء وكما في الاعطاء لمن تمنعه المروءة من
(13/141)

الآخذ ظاهرا وعلانية حيث تحسن العلانية كما إذا كان الأمر على خلاف ماذكر وقال بعضهم : إن الأول مخصوص بالتطوع والثاني باداء الواجب وعن الحسن أن كلا الأمرين في الزكاة المفروضة فان لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى اداؤها سرا وإلا فالأولى اداؤها علانية : وقيل : السر مايؤديه بنفسه والعلانية مايؤديه إلى الامام والأول الحمل على العموم ولعل تقديم السر للأشارة إلى فضل صدقته وجاء في الصحيح عدا المتصدق سرا من الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم القيامة ويدرءون بالحسنة السيئة أي يدفعون الشر بالخير ويجازون الأساءة بالاحسان على ماأخرجه ابن جرير عن ابن زيد وعن ابن جبير يردون معروفا فاعلي من يسيء اليهم فهو كقوله تعالى : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا وقيل : يتبعون السيئة بالحسنة فتمحوها وفي الحديث أن معاذا قال : أوصني يارسول الله قال : إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية وعن ابن كيسان يدفعون بالتوبة معرة الذنب وقيل : بلا إله إلا الله شركهم وقيل : بالصدقة العذاب وقيل : إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره وقيل وقيل : ويفهم صنيع بعض المحققين اختيار الأول فهم كما قيل : يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا وهذا بخلاف خلق بعض الجهلة جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وإن لايبد بالظلم يظلم وقال في الكشف : الأظهر التعميم أي يدرؤون بالجميل السيء سواء كان لأذاهم أولا مخصوصا بهم أو لاطاعة أو معصية مكرمة أو منقصة ولعل الأمر كما قال وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كمال العناية بالحسنة أولئك اي المنعوتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة وليس المراد بهم أناسا بأعيانهم وإن كانت الآية نازلة على ماقيل في الأنصار واسم الاشارة مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعني قوله سبحانه : لهم عقبى الدار
22
- أي عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل امر أهلها وهي الجنة فتعريف الدار للعهد والعاقبة المطلقة تفسر بذلك وفسرت به في قوله تعالى : والعاقبة للمتقين وفسرها الزمخشري أيضا بالجنة إلا أنه قال : لأنها التي أراد الله تعالى أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها وفيه على ماقيل شائبة اعتزال
وجوز أن يراد بالدار الآخرة أي لهم العقبى الحسنة في الدار الآخرة وقيل : الجار والمجرور خبر اسم الاشارة و عقبى فاعل الاستقرار وأيا ما كان فليس فيه قصر حتى يرد أن بعض ما في حيز الصلة ليس من العزائم التي يخل إخلالها بالوصول إلى حسن العاقبة
وقال بعضهم : إن المراد مآل اولئك الجنة من غير تخلل بدخول النار فلا بأس لو قيل بالقصر ولا يلزم عدم دخول الفاسق المعذب الجنة والقول إنه موصوف بتلك الصفات في الجملة كما ترى والجملة خبر للموصولات المتعاطفة ان رفعت بالابتداء أو استئناف نحوي أو بياني في جواب ما بال الموصوفين بهذه الصفات ان جعلت الموصولات المتعاطفة صفات لأولي الألباب على طريقة المدح من غير أن يقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخل في التذكر والأول أوجه لما في الكشف من رعاية التقابل بين الطائفتين وحسن العطف في قوله تعالى : والذين ينقضون وجريهما على استئناف الوصف للعالم ومن هو كأعمى وقوله سبحانه :
(13/142)

جنات عدن بدل من عقبى الدار كما قال الزجاج بدل كل من كل وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون مبتدأ خبره قوله تعالى : يدخلونها وتعقب بأنه بعيد عن المقام والأولى ان يكون مبتدأ محذوف كما ذكر في البحر ورد بأنه لا وجه له لأن الجملة بيان لعقبى الدار فهو مناسب للمقام والعدن الاقامة والاستقرار يقال : عدن بمكان كذا إذا استقر ومنه المعدن لمستقر الجواهر أي جنات يقيمون فيها وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال : جنات عدن بطنان الجنة أي وسطه وروى نحو ذلك عن الضحاك إلا أنه قال : هي مدينة وسط الجنة فيها الانبياء والشهداء وأئمة الهدى وجاء فيها غير ذلك من الأخبار ومتى أريد منها مكان مخصوص من الجنة كان البدل بدل بعض من كل وقرأ النخعي جنة بالافراد وروى عن ابن كثير وأبي عمرو يدخلونها مبنيا للمفعول ومن صلح من ءابائهم جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وذرياتهم وهو كما قال أبو البقاء عطف على المرفوع ف يدخلون وإنما ساغ ذلك مع عدم التأكيد للفصل بالضمير الآخر وجوز أن يكون مفعولا معه واعترض بأن واو المعية لاتدخل إلا على المتبوع ورد بان هذا إنما ذكر في مع لا في الواو وفيه نظر والمعنى انه يلحق بهم من صلح من أهليهم وأن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم تعظيما لشأنهم أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن جبير قال : يدخل الرجل الجنة فيقول : أين أمي أين ولدي أين زوجتي فيقال : لم يعملوا مثل عملك فيقول : كنت أعمل لي ولهم ثم قرأ الآية وفسر من صلح بمن آمن وهو المروى عن مجاهد وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفسر ذلك الزجاج بمن آمن وعمل صالحا وذكر أنه تعالى بين بذلك أن الأنساب لاتنفع إذا لم يكن معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذرية لايدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة ورد عليه الواحدي فقال : الصحيح ماروى عن ابن عباس لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة فلو دخلوها بأعمالهم لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان مصلحا في عمله فهو يدخل الجنة وضعف ذلك الامام بأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سرورا وبهجة فاذا بشر الله تعالى المكلف بأنه إذا دخل الجنة يحضر معه أهله يعظم سروره وتقوى بهجته ويقال : إن من أعظم سرورهم أن أن يجتمعوا فيتذكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله تعالى على الخلاص منها ولذلك حكى سبحانه عن بعض أهل الجنة أنه يقول : ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وعلى هذا لاتكون الآية دليلا على أن الدرجة تعلو بالشفاعة ومنهم من استدل بها على ذلك على المعنى الأول لها
وتعقب بأنها أيضا لادلالة لها على ماذكر وأجيب بأنه إذا جاز أن تعلو بمجرد التبعية للكاملين في الايمان تعظيما لشأنهم فالعلو بشفاعتهم معلوم بالطريق الأولى وقال بعضهم : إنهم لما كانوا بصلاحهم مستحقين لدخول الجنة كان جعلهم في درجتهم مقتضى طلبهم وشفاعتهم لهم بمقتضى الاضافة والحق أن الآية لاتصلح دليلا على ذلك خصوصا إذا كانت الواو بمعنى مع فتأمل والظاهر أنه لايتمييز بين زوجة وزوجة وبذلك صرح الامام ثم قال : ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وما روى عن سودة أنها لما هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطلاقها قالت : دعني يارسول الله أحشر في جملة نسائك كالدليل على
(13/143)

ماذكر واختلف في المرأة ذات الأزواج إذا كانوا قد ماتوا عنها فقيل : هي في الجنة لآخر أزواجها ويؤيده كون أمهات المؤمنين زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم فيها مع كون أكثرهن كن قد تزوجن قبل بغيره عليه الصلاة و السلام وقيل : هي لأول أزواجها كامرأة أخبرها ثقة أن زوجها قد مات ووقع في قلبها صدقه فتزوجت بعد انقضاء عدتها ثم ظهرت حياته فانها تكون له وتعقب بأن هذا ليس من هذا القبيل بل هو يشبه ما لو مات رجل وأخبر معصوم كالنبي بموته فتزوجت امرأته بعد انقضاء العدة ثم أحياه الله تعالى وقد قالوا في ذلك : ان زوجته لزوجها الثاني وقيل : ان الزوجة تخير يوم القيامة بين أزواجها فمن كان منهم أحسنهم خلقا معها كانت له وارتضاه جمع وقرأ ابن أبي عبلة صلح بضم اللام والفتح أفصح وعيسى الثقفي ذريتهم بالتوحيد والملائكة يدخلون عليهم من كل باب
32
- من أبواب المنازل
أخرج ابن أبي حاتم عن انس بن مالك أنه قرأ الآية حتى حتمها ثم قال : إن المؤمن لفي خيمة من درة مجوفة ليس فيها جذع ولا وصل طولها في الهواء ستون ميلا في كل زواية منها أهل ومال لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب منها سبعون ألفا من الملائكة مع كل ملك هدية من الرحمن ليس مع صاحبه مثلها لايصلون اليه الا باذن بينه وبينهم حجاب وروى عن ابن عباس ماهو أعظم من ذلك
وقال أبو الاصم : أريد من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر وقيل : من أبواب الفتوح والتحف قيل : فعلى هذا المراد بالباب النوع و من للتعليل والمعنى يدخلون لاتحافهم بأنواع التحف وتعقب بأن في كون الباب بمعنى النوع كالبابة نظرا فان ظاهر كلام الاساس وغيره يقتضي أن يكون مجازا أو كناية عما ذكر لأن الدار التي لها أبواب إذا أتاها الجم الغفير يدخلونها من كل باب فأريد به دخول الارزاق الكثيرة عليهم وأنها تأتيهم من كل جهة وتعدد الجهات يشعر بتعدد المائتيات فان لكل جهة تحفة سلام عليكم أي قائلين ذلك وهو بشارة بدوام السلامة فالجملة مقول لقول محذوف واقع حالا من فاعل يدخلون وجوز كونها حالا من غير تقدير أي مسلمين وهي في الاصل فعلية أي يسلمون سلاما وقوله تعالى : بما صبرتم متعلق كما قال أبو البقاء بما تعلق به عليكم أو به نفسه لأنه نائب عن متعلقه ومنع هذا كما قال السيوطي السفاقسي وقال : لاوجه له والصحيح أنه متعلق بما تعلق به عليكم وجوز الزمخشري تعلقه بسلام على معنى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم ومنعه أبو البقاء بأن فيه الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر ووجه ذلك في الدر المصون بأن المنع إنما هو في المصدر المؤول بحرف مصدري وهذا ليس منه مع أن الرضى جوز ذلك مع التأويل أيضا وقال : لا أراه مانعا لأن كل مؤول بشيء لايثبت له جميع أحكامه وجوز لهذه العلة العلامة الثاني تقديم معمول المصدر المؤول بأن والفعل عليه في نحو قوله تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة وقال في الكشف : إن عليكم نظرا إلى الاصل غير أجنبي فلذلك جاز أن يفصل به على أن الزمخشري لم يصرح بأنه معمول بل من مقتضاه ولذا قال : أي نسلم الخ فدل على أن التعلق معنوي يقدر ما يناسبه ولو جعل معمولا للظرف المستقر أعني عليكم فيكون متعلقا معنى بسلام ضرورة لكان وجها خاليا عن التكلف وجعله أبو حيان خبر مبتدأ محذوف و ما مصدرية والباء سببية أو بدلية أي هذا الثواب الجزيل بسبب صبركم في الدنيا على المشاق أو بدله وعن أبي عمران بما صبرتم على دينكم وعن الحسن
(13/144)

عن فضول الدنيا وعن محمد بن النصر على الفقر والتعميم أولى وتخصيص الصبر بالذكر من بين الصلات السابقة لما أنه ملاك الامر والامر المعتني به كما علمت فنعم عقبى الدار
42
- أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة وقيل : المراد بالدار الآخرة وقال بعضهم : المراد أنهم عقبوا الجنة من جهنم قال ابن عطية : وهذا مبني على ما ورد من أن كل رجل من أهل الجنة قد كان له مقعد من النار فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له : هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى بالجنة بايمانك وصبرك وقرأ ابن يعمر فنعم بفتح النون وكسر العين وذلك هو الاصل وابن وثاب فنعم بفتح النون وسكون العين وتخفيف فعل لغة تميم وجاء فيها كما في الصحاح نعم بكسر النون واتباع العين لها وأشهر استعمالاتها ما عليه الجمهور وأخرج ابن جرير عن محمد بن إبراهيم قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وكذا كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم وتمسك بعضهم بالآية على أن أفضل من البشر فقالوا : إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والاكرام والتعظيم والسلام فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم ولا شك أن من عاد من سفره الى بيته فاذا قيل في معرض كمال مرتبته انه يزوره الامير والوزير والقاضي والمفتي دل على أن درجة المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذا ههنا وهو من الركاكة بمكان
ولم لايجوز أن يكون ما هنا نظير ما اذا أتى السلطان بشخص من عماله الممتازين عنده قد أطاعه في أوامره ونواهيه الى محل كرامته ثم بعد أن أنزله المنزل اللائق به أرسل خدمة اليه بالهدايا والتحف والبشارة بما يسره فهل اذا قيل : إن فلانا قد أحله السلطان محل كرامته ودار حكومته وأنزله المنزل اللائق به وأرسل خدمة اليه بما يسره كان ذلك دليلا على أن أولئك الخدم أعلى درجة منه لاأظنك تقول ذلك نعم جاء في بعض الاخبار ما يؤيده بظاهره ما تقدم فقد أخرج أحمد والبزار وابن حبان والحاكم وصححه وجماعة عن عبدالله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أول من يدخل الجنة من خلق الله تعالى فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لايستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك افتأمرنا ان نأتي هؤلاء فنسلم عليهم فيقول الله تعالى : إن هؤلاء عباد لي كانوا يعبدوني ولا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لايستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ومن أنصف ظهر له أن هذا لايدل على ان الملائكة مطلقا أفضل من البشر مطلقا كما لايخفى وذكر الامام الرازي في تفسير الآية على الوجه المروي عن الاصم في تفسير دخول الملائكة من كل باب أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ومنهم كروبيون فالعبد اذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي مختص بتلك الصفة مزيد اختصاص فعند الموت اذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الارواح السماوية ما يناسبها من الصفات المخصوصة فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لاتظهر الا في مقام الصبر ومن ملائكة الشكر كمالات
(13/145)

روحانية لاتتجلى الا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب اه وتعقبه أبو حيان بأنه كلام فاسق لاتفهمه العرب ولا جاءت به الانبياء عليهم السلام فهو مطروح لايلتفت اليه المسلمون وأنت تعلم أن مثل هذا كلام كثير من الصوفية والذين ينقضون عهد الله أريد بهم من يقابل الاولين ويعاندهم بالاتصاف بنقائض أوصافهم من بعد ميثاقه الاعتراف به قيل : المراد بالعهد قوله سبحانه : ألست بربكم وبالميثاق ماهو اسم آلة أعني ما يوثق به الشيء واريد به الاعتراف بقول : بلى وقد يسمى العهد من الطرفين ميثاقا لتوثيقه بين المتعاهدين وفسر الامام عهد الله تعالى بما ألزمه عباده بواسطة الدلائل العقلية لأن ذلك أوكد كل عهد وكل إيمان اذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على انها توجب الوفاء بمقتضاها ثم قال : والمراد من نقضها أن لاينظر المرء فيها فلا يمكنه حينئذ العمل بموجبها أو بأن ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعلمه أو بأن ينظر في الشبه فلا يعتقد الحق والمراد بقوله سبحانه من بعد ميثاقه من بعد أن أوثق اليه تلك الادلة وأحكامها لأنه لاشيء أقوى مما دل الله تعالى على وجوبه في أنه ينفع فعله ويضر تركه
وأورد أنه إذا كان العهد لايكون الا بالميثاق فما فائدة من بعد ميثاقه وأجاب بأنه لايمتنع أن يكون المراد مفارقة من تمكن من معرفته بالحلف لمن لم يتمكن أولا يمتنع أن يكون المراد الأدلة المؤكدة لأنه يقال : قد تؤكد اليك بدلائل أخرى سواء كانت عقلية أو سمعية اه ولا يخفى انه إذا أريد بالعهد ذلك القول وبالميثاق الاعتراف به لم يختج إلى القيل والقال وحمل بعضهم العهد هنا على سائر ما وصى الله تعالى به عباده كالعهد فيما سبق والميثاق على الاقرار والقبول والآية كما روى عن مقاتل نزلت في أهل الكتاب ويقطعون ماأمر الله به أن يوصل من الايمان بجميع الانبياء عليهم السلام المجتمعين على الحق حيث يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ومن حقوق الارحام وموالاة المؤمنين وغير ذلك وإنما لم يتعرض كما قال بعض المحققين لنفي الخشية والخوف عنهم صريحا لدلالة النقض والقطع على ذلك وأما عدم التعرض لنفي الصبر المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققه في ضمن الحسنات المعدودة ليقعن معتدا بهن فلا وجه لنفيه عمن بينه وبين الحسنات بعد المشرقين لاسيما بعد تقييده بكونه ابتغاء وجهه تعالى كما لاوجه لنفي الصلاة والانفاق بناء على أن المراد منه اعطاء الزكاة ممن لايحوم حول الايمان بالله تعالى فضلا عن فروع الشرائع وإن أريد بالانفاق مايشمل ذلك وغيره فنفيه مندرج تحت قطع ما أمر الله تعالى بوصله بل قد يقال باندراج نفي الصلاة أيضا تحت ذلك وأما درء السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهر مما سبق ولحق فان من يجازي احسانه عز و جل بنقض عهده سبحانه ومخالفة الامر ويباشر الفساد حسبما يحكيه قوله عز و جل : ويفسدون في الأرض بالظلم لأنفسهم وغيرهم وتهييج الفتن بمخالفة دعوة الحق واثارة الحرب على المسلمين كيف يتصور منه الدرء المذكور على أنه قيل : إن ذلك يشعر بأن له دخلا في الافضاء إلى العقوبة التي ينبىء عنها قوله سبحانه : أولئك الخ أي أولئك الموصوفون بتلك القبائح لهم بسبب ذلك اللعنة أي الابعاد من رحمة الله تعالى ولهم مع ذلك سوء الدار
52
- أي سوء عاقبة الدار والمراد بها الدنيا وسوء عاقبتها عذاب جهنم أو جهنم نفسها ولم يقل : سوء عاقبة الدار تفاديا أن يجعلها عاقبة حيث جعل العاقبة المطلقة هي الجنة وجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها والأول
(13/146)

أوجه لرعاية التقابل ولأن المبادر إلى الفهم من الدار الدنيا بقرينة السابق ولأنها الحاضرة في أذهانهم ولما ذكر من النكتة السرية وذلك لأن ترتيب الحكم على الموصول يشعر بعلية الصلة له ولا يخفى أنه لادخل له في ذلك على أكثر التفاسير فان مجازاة السيئة بمثلها مأذون فيها ودفع الكلام السيء بالحسنى وكذا الاعطاء عند المنع والعفو عند الظلم والوصل عند القطع ليس مما يورث تركه تبعة وأما ما اعتبر اندراجه تحت الصلة الثانية من الاخلال ببعض الحقوق المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتباره من حيث أنه من مستتبعات الاخلال بالعزائم كالكفر ببعض الانبياء عليهم السلام وعقوق الوالدين وترك سائر الحقوق الواجبة وقيد بالاكثر لأنه على الكثير مما ذكرناه في تفسيره المدخلية ظاهرة وقيل : إنه سلك في وصف الكفرة وذمهم وذكر مالهم من مآلهم مالم يسلك في وصف المؤمنين ومدحهم وشرح ماأعد لهم وما ينتهي اليه أمرهم فأتى في أحدهما بموصولات متعددة وصلات متنوعة إلى غير ذلك ولم يؤت بنحو ذلك في الآخر تنبيها على مزيد الاعتناء بشأن المؤمنين قولا وفعلا وعدم الاعتناء بشأن اضدادهم فانهم أنجاس يتمضمض من ذكرهم هذا مع الجزم بأن مقتضى الحال هو هذا وقيل : إن المسلكين من آثار الرحمة الواسعة فتأمل وتكرير لهم للتأكيد والايذان باختلافهما واستقلال كل منهما في الثبوت الله يبسط الرزق أي يوسعه لمن يشاء من عباده ويقدر أي يضيق وقيل : يعطي بقدر الكفاية والمراد بالرزق الدنيوي لاما يعم الاخروي لأنه على ماقيل غير مناسب للسياق وقال صاحب الكشف : إنه شامل للرزقين الحسي والمعنوي الدنيوي والاخروي وذكر في بيان ربط الآية على ذلك ما ذكر وهي كما روى عن ابن عباس نزلت في أهل مكة ثم انها وإن كانت كذلك عامة وكأنها دفع لما يتوهم من أنه كيف يكونون مع ماهم عليه من الضلال في سعة من الرزق فبين سبحانه أن سعة رزقهم ليس تكريما لهم كما أن تضييق رزق بعض المؤمنين ليس لاهانة لهم وإنما كل من الأمرين صادر منه تعالى لحكم إلهية يعلمها سبحانه وربما وسع على الكافر املاء واستدراجا له وضيق على المؤمن زيادة لأجره
وتقديم المسند اليه في مثل هذه الآية للتقوى فقط عند السكاكي والزمخشري يرى أنه لامانع من أن يكون للتقوى والتخصيص ولذا قال : أي الله وحده هو يبسط ويقدر دون غيره سبحانه وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ويقدر بضم الدال حيث وقع وفرحوا استئناف ناع قبح أفعالهم مع ما وسعه عليه
والضمير قيل لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم واختاره جماعة وقال أبو حيان : للذين ينتقضون وزعم بعضهم أن الجملة معطوفة على صلة الذين وفي الآية تقديم وتأخير ومحل هذا بعد يفسدون في الأرض ولا يخفى بعده للاختلاف عموما وخصوصا واستقبالا ومضيا أي فرحوا فرح أشر وبطر ولا فرح سرور بفضل الله تعالى
بالحياة الدنيا أي بما بسط لهم فيها من النعيم لأن فرحهم ليس بنفس الدنيا فنسبة الفرح اليها مجازية أو هناك تقدير أي يبسط الحياة أو الحياة الدنيا مجاز عما فيها وما الحياة الدنيا في الآخرة أي كائنة في جنب نعيمها فالجار والمجرور في موضع الحال وليس متعلقا بالحياة ولا بالدنيا كما قال أبو البقاء لأنهما ليسا فيها
و في هذه معناها المقايسة وهي كثيرة في الكلام كما يقال : ذنوب العبد في رحمة الله تعالى كقطرة في بحر وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق وهي الظرفية المجازية لأن مايقاس بشيء يوضع بجنبه
(13/147)

وإسناد متاع في قوله تعالى : إلا متع
62
- إلى الحياة الدنيا يحتمل أن يكون مجازيا ويحتمل أن يكون حقيقيا والمراد أنها ليست إلا شيئا نزرا يتمتع به كعجالة الراكب وزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو نحو ذلك والمعنى أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة والحال أن ماأشروا به في جنب ماأعرضوا عنه نزر النفع سريع النفاذ أخرج الترمذي وصححه عن عبدالله بن مسعود قال : نام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا : يارسول الله لو اتخذنا لك فقال : مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها وقيل : معنى الآية كالخبر الدنيا مزرعة الآخرة يعني كان ينبغي أن يكون ما بسط لهم في الدنيا وسيلة إلى الآخرة كمتاع تاجر يبيعه بما يهمه وينفعه في مقاصده لا أن يفرحوا بها ويعدوها مقاصد بالذات والأول أولى وأنسب
ويقول الذين كفروا أي أهل مكة عبدالله بن أبي أمية وأصحابه وإيثار هذه الطريقة على الاضمار مع ظهور إرادتهم عقيب ذكر فرحهم بناءا على أن ضمير فرحوا لهم لذمهم والتسجيل عليهم بالكفر فيما حكى عنهم من قولهم : لولا أنزل عليه ءاية من ربه فان ذلك في أقصى مراتب المكابرة والعناد كأن ما أنزل عليه عليه الصلاة و السلام من الآيات العظام الباهرة ليست عندهم بآية حتى اقترحوا مالاتقتضيه الحكمة من الآيات كسقوط السماء عليهم كسفا وسير الاخشبين وجعل البطاح محارث ومفترسا كالاردن واحياء قضى لهم إلى غير ذلك قل إن الله يضل من يشاء إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية اليها وهو كلام جار مجرى التعجب من قولهم وذلك ان الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها صلى الله تعالى عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله وكفى بالقرآن وحده آية فاذا جحدوها ولم يعتدوا بها كان ذلك موضعا للتعجب والانكار وكان الظاهر أن يقال في الجواب : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على الكفر ونحوه إلا أنه وضع هذا موضعه للاشارة إلى أن المتعجب منه يقول : إن الله يضل الخ أي أنه تعالى يخلق فيمن يشاء الضلال بصرف اختياره إلى تحصيله ويدعه منهمكا فيه لعلمه بأنه لاينجح فيه اللطف ولا ينفعه الارشاد لسوء استعداده كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو في الفساد فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءته كل آية
ويهدي إليه أي إلى جانبه العلي الكبير
وقال أبو حيان : أي إلى دينه وشرعه سبحانه هداية موصلة اليه لا دلالة مطلقة إلى ما يوصل فان ذلك غير مختص بالمهتدين وفيه من تشريفهم مالا يوصف وقيل : الضمير للقرآن أو للرسول عليه الصلاة و السلام وهو خلاف الظاهر جدا من أناب
72
- أي أقبل إلى الحق وتأمل في تضاعيف مانزل من دلائله الواضحة وحقيقة الانابة الرجوع إلى نوبة الخير وإيثارها في الصلة على إيراد المشيئة كما في الصلة الاولى على ما قال مولانا شيخ الإسلام للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل الى مشيئتها والاشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة وفيه حث للكفرة على الاقلاع عما هم عليه من العتو والعناد وإيثار صيغة الماضي للايماء إلى استدعاء الهداية السابقة كما إن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم والآية صريحة في مذهب أهل السنة في نسبة الخير والشر اليه عز و جل وأولها المعتزلة فقال
(13/148)

أبو علي الجبائي : المعنى يضل من يشاء عن ثوابه ورحمته عقوبة له على كفره فلتسم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لإستحقاقكم العذاب والضلال عن الثواب ويهدي إلى جنته من تاب وآمن ثم قال : وبهذا تبين أن الهدى هو الثواب من حيث علق بقوله تعالى : من أناب والهدى الذي يفعله سبحانه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على ايمانه وذلك يدل على أنه تعالى يضل عن الثواب لاعن الدين بالكفر على ما ذهب اليه من خالفنا هو لا يخفى ما فيه
الذين امنوا بدل من من أناب بدل كل من كل فان أريد بالهدية المستمرة فالأمر ظاهر لظهور كون الايمان مؤديا اليها وان أريد احداثها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرهم إلى الايمان كما قالوا في هدى للمتقين أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالايمان لايؤدي إلى الهداية نفسها ويجوز أن يكون عطف بيان على ذلك أو منصوبا على المدح أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم أي تستقر وتسكن بذكر الله أي بكلامه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو المروى عن مقاتل وإطلاق الذكر على ذلك شائع في الذكر ومنه قوله تعالى : وهذا ذكر مبارك و إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون وسبب اطمئنان قلوبهم بذلك علمهم ان لا آية أعظم ومن ذلك لايقترحون الآيات التي يقترحها غيرهم والعدول الى صيغة المضارع لافادة دوام الاطمئنان وتجدده حسب تجدد المنزل من الذكر ألا بذكر الله وحده تطمئن القلوب
82
- لله دون غيره من الأمور التي تميل اليها النفوس من الدنياويات وإذا أريد سائر المعجزات فالقصر من حيث انها ليست في افادة الطمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدها بمثابة القرآن المجيد فانه معجزة باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كل أحد وتطمئن به القلوب كافة وفيه اشعار بأن الكفرة لاقلوب لهم وأفئدتهم هواء حيث لم يطمئنوا به ولم يعدوه آية وهو أظهر الآيات وأبهرها وقيل : في الكلام مضاف مقدار أي لتطمئن قلوبهم بذكر رحمته تعالى ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته تعالى كقوله تعالى : ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وهذا مناسب على مافي الكشف للانابة اليه تعالى والمصدر عليه مضاف إلى الفاعل وقيل : المراد بذكر الله دلائله سبحانه الدالة على وحدانيته عز و جل والاطمئنان عن قلق الشك والتردد وهذا مناسب لذكر الكفر ووقوعه في مقابلته وقيل : المراد بذكره تعالى أنسا به وتبتلا اليه سبحانه فالمراد بالهداية دوامها واستمرارها قيل : وهذا مناسب أيضا حديث الكفر لأن الكفرة إذا ذكر الله تعالى وحده أشمأزت قلوبهم والمصدر على القولين مضاف إلى المفعول والوجه الاول أشد ملاءمة للنظم لاسيما لقوله تعالى : لولا أنزل عليه آية من ربه والمصدر فيه بمعنى المفعول
ومن الغريب ما نقل في تفسير الخازن أن هذا في الحلف بالله وذلك أن المؤمن إذا حلف له بالله تعالى سكن قلبه وروى نحو ذلك أبو الشيخ عن السدي فان الحمل عليه هنا مما لايناسب المقام وأما ما روى عن أنس من أنه صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه حين نزلت هذه الآية : هل تدرون مامعنى ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم قال : من أحب الله تعالى ورسوله وأحب أصحابي ومثله ماروى عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه عليه الصلاة و السلام قال حين نزلت : ذاك من أحب الله تعالى ورسوله وأحب أهل بيتي صادقا غير كاذب
(13/149)

وأحب المؤمنين شاهدا وغائبا فليس المراد منه تفسير المراد بذكر الله بل بيان أن الموصوفين بماذكر من أحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم الخ وهو كذلك إذ لا يكاد يتحقق الانفكاك بين هاتيك الصفات فليتأمل ولا تنافي بين هذه الآية على سائر الاوجه وقوله تعالى : إذا ذكر الله وجلت قلوبهم لأن المراد هناك وجلت من هيبته تعالى واستعظامه جلت عظمته وذكر الامام في بيان اطمئنان القلب بذكره تعالى وجوها فقال : ان الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لايتأثر ومتأثر لايؤثر وموجود يؤثر يتأثر فالاول هو الله تعالى والثاني هو الجسم فانه ليس له خاصية إلا القبول للآثار المتنافية والصفات المختلفة والثالث الموجودات الروحانية فانها إذا توجهت الى الحضرة الالهية صارت قابلة للآثار الفائضة عليها منها وإذا توجهت إلى أعلام الأجسام اشتاقت الى التصرف فيها لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الاجسام فاذا عرف هذا فالقلب كلما توجه الى مطالعة عالم الاجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليه والتصرف فيه وإذا توجه إلى مطالعة الحضرة الالهية وحصلت فيه الأنوار الصمدية فهناك يكون ساكنا مطمئنا وأيضا أن القلب كلما وصل إلى شيء فانه يطلب الانتقال منه إلى أمر آخر أشرف منه لأنه لا سعادة في عالم الجسم إلا وفوقها مرتبة أخرى أما اذا انتهى إلى الاستسعاد بالمعارف الألهية والانوار القدسية ثبت واستقر فلم يقدر على الانتقال من ذلك ألبتة لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منه وأكمل وأيضا أن الاكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على ممر الدهور صابرا على الذوبان الحاصل بالنار فاكسير نور الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا باقيا صافيا نورانيا لايقبل التغير والتبدل ولهذه الأوجه قال سبحانه : ألا بذكر الله تطمئن القلوب اه والأولى أن يقال : إن سبب الطمأنينة نور يفيضه الله تعالى عن قلب المؤمنين بسبب ذكره فيذهب ما فيها من القلق والوحشة ونحو ذلك وللمناقشة فيما ذكره مجال وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الاشارة مايشبه ذلك الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بدل من القلوب أي قلوب الذين آمنوا والاظهر أنه بدل الكل لأن القلوب في الأول قلوب المؤمنين المطمئنين وكذلك لو عمم القلب على معنى أن قلوب هؤلاء الاجلاء كل القلوب لأن الكفار أفئدتهم هواء وأما الحمل على بدل البعض ليعمم القلب من غير الملاحظة المذكورة واستنباط هذا المعنى من البدل فبعيد وأما احتماله لبدل الاشتمال وان استحسنه الطيبي فكلا أو مبتدأ خبره الجملة الدعائية على التأويل أعني قوله سبحانه : طوبى لهم أي يقال لهم ذلك أولا حاجة الى التأويل والجملة خبرية أو خبر مبتدأ مضمر أو نصب على المدح فطوبى لهم حال مقدرة والعامل فيها الفعلان
وقال بعض المدققين : لعل الاشبه وجه آخر وهو ان يتم الكلام عند قوله تعالى : من أناب ثم قيل : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم في مقابلة ويقول الذين كفروا لولا أنزل وقوله سبحانه : ألا بذكر الله جملة اعتراضية تفيد كيف لاتطمئن قلوبهم له ولا اطمئنان للقلب بغيره وقوله عز و جل : الذين آمنوا بدل من الاول وفيه إشارة الى أن ذكر الله تعالى أفضل الاعمال الصالحة بل هو كلها و طوبى لهم خبر الاول فيتم التقابل بين القرينتين ويقول الذين كفروا و الذين آمنوا وتطمئن وبين جزئي التذييل : يضل من يشاء ويهدي اليه من أناب ومن الناس من زعم أن الموصول الاول مبتدأ والموصول الثاني
(13/150)

خبره و ألا بذكر الله اعتراض و طوبى لهم دعاء وهو كما ترى وطوبى قيل مصدر من طاب كبشرى وزلفى والواو منقلبة من الياء كموسر وموقن وقرأ مكوزة الاعرابي طيبي ليسلم الياء وقال أبو الحسن الهنائي : هي جمع طيبة كما قالوا في كيسة كوسى وتعقبه أبو حيان بأن فعلي ليست من أبنية الجموع فلعله أراد أنه اسم جمع وعلى الاول فلهم في المعنى المراد عبارات فأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن المعنى فرح وقرة عين لهم وعن الضحاك غبطة لهم وعن قتادة حسنى لهم وفي رواية أخرى عنه اصابوا خيرا وعن النخعي خير كثير لهم وفي رواية أخرى عنه كرامة لهم وعن سميط بن عجلان دوام الخير لهم ويرجع ذلك الى معنى العيش الطيب لهم وفي رواية عن ابن عباس وابن جبير أن طوبى اسم للجنة بالحبشية وقيل بالهندية وقال القرطبي : الصحيح أنها علم لشجرة في الجنة فقد أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والبيهقي في البعث والنشور وصححه السهيلي وغيره عن عتبة ابن عبد قال جاء اعرابي الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يارسول الله أفي الجنة فاكهة قال : نعم فيها شجرة تدعى طوبى هي نطاق الفردوس قال : أي شجر أرضنا تشبه قال : ليس تشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام قال : لا قال : فانها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها قال : ما عظم أصلها قال : لوار تحلت جذعه من ابل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما قال : فهل فيها عنب قال : نعم قال : ما عظم العنقود منه قال : مسيرة شهر للغراب الابقع والاخبار المصرحة بأنها شجرة في الجنة منتشرة جدا وحينئذ فلا كلام في جواز الابتداء بها وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ماذهب اليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم : سلام عليك الا أنه ذهب ابن مالك الى أنه التزم فيها الرفع على الابتداء ورد عليه بأن عيسى الثقفي قرأ وحسن مآب
92
- بالنصب وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى وأنها في موضع نصب وهي عنده مصدر معمول لمقدار أي طاب واللام لبيان كما في سقيا له ومنهم من قدر جعل طوبى لهم وقال صاحب اللوامح : ان التقدير ياطوبى لهم وياحسن مآب فحسن معطوف على المنادى وهو مضاف للضمير واللام مقحمة كما في قوله
يابؤس للجهل ضرار الاقوام
ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل ياطوباهم ويا حسن مآبهم أي ما أطيبهم وأحسن مآبهم كما تقول : ياطيبها ليلة أي ماأطيبها ليلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأجاب السفاقسي عن ابن مالك بأنه يجوز نصب حسن بمقدر أي ورزقهم حسن مآب وهو بعيد
وقريء حسن مآب بفتح النون ورفع مآب وخرج ذلك على أن حسن فعل ماض أصله حسن نقلت ضمة السين إلى الحاء ومثله جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا : حسن ذا أدبا كذلك أي مثل ذلك الارسال العظيم الشأن المصحوب بالمعجزة الباهرة ويجوز أن يراد مثل ارسال الرسل قبلك أرسلناك في أمة فيكون قد شبه ارساله صلى الله عليه و سلم بارسال من قبله وإن لم يجر لهم ذكر لدلالة قوله تعالى : قد خلت أي مضت من قبلها أمم كثيرة قد أرسل اليهم ورسل عليهم وروى هذا عن الحسن وقيل : الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله تعالى : قل إن الله يضل من يشاء الخ أي كما أنفذنا ذلك أرسلناك
(13/151)

ونقل نحوه عن الحوفي وقال ابن عطية : الذي يظهر أن المعنى كما أجرينا العادة في الامم السابقة بأن نضل ونهدي بوحي لا بالآيات المقترحة كذلك أيضا فعلنا في هذه الامة وأرسلناك اليهم بوحي لا بالايات المقترحة فنضل من نشاء ونهدي من أناب وقال أبو البقاء : التقدير الامر كذلك والحسن ماقدمناه وما روى عن الحسن
و في بمعنى إلى كما في قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم وقيل : هي على ظاهرها وفيها اشارة الى أنه من جملتهم وناشيء بينهم ولا تكون بمعنى إلى إذ لاحاجة لبيان من أرسل اليهم وفيه نظر ظاهر وهي متعلقة بالفعل المذكور وقول الزمخشري : في تفسير الآية يعني ارسلنا ارسالا له شأن وفضل على الارسالات ثم فسر كيف أرسله بقوله : إلى أمة قد خلت من قبلها أمم أي ارسلناك في أمة قد تقدمها أمم كثيرة فهي آخر الامم وأنت خاتم الانبياء لم يرد به أنها لاتتعلق بالمذكور بل أراد أن المشار اليه المبهم لما كان مابعده تفخيما كان بيانه بصلة ذلك الفعل حتى يزول الابهام ويجوز أن يريد ذلك فيقدر أرسلناك ثانيا ويكون قوله : أي أرسلناك في أمة اظهارا للمحذوف أيضا لابيانا لحاصل الآية وهو الذي آثره العلامة الطيبي والتعلق بالمذكور هو الظاهر وجملة قد خلت الخ في موضع الصفة لأمة وفائدة الوصف بذلك قيل : ماأشار اليه الزمخشري
واعترض بأنه لايلزم من تقدم أمم كثيرة قبل أن لايكون أمة يرسل اليها بعد حتى يلزم أن يكون صلى الله عليه و سلم خاتم الانبياء عليهم السلام وبحث فيه الشهاب بأن المراد بكون ارساله عليه الصلاة و السلام عجيبا أن رسالته أعظم من كل رسالة فهي جامعة لكل مايحتاج اليه فيلزم أن لانسخ إذ النسخ إنما يكون للتكميل والكامل أتم كمال غير محتاج لتكميل كما قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم اه ولعمري أن الاعتراض قوي والبحث في غاية الضعف اذ لايلزم من كون ارساله صلى الله عليه و سلم عجيبا ماادعاه ولو سلمنا ذلك لايلزم منه أيضا كونه عليه الصلاة و السلام خاتما إذ بعثه مقرر دينه الكامل كما بعث كثير من أنبياء بني إسرائيل لتقرير دين موسى عليه السلام لايأبى ماذكر من جامعية رسالته عليه الصلاة و السلام ولزوم عدم النسخ لذلك كما لايخفى ولعله لهذا اختار بعضهم ماروى عن الحسن وقال : منبها على فائدة الوصف يعني مثل إرسال الرسل قبلك أرسلناك الى أمم تقدمتها أمم أرسلوا اليهم فليس ببدع إرسالك اليها لتتلوا لتقرأ عليهم الذي أوحينا اليك أي الكتاب العظيم الشأن : ويشعر بهذا الوصف ذكر الموصوف غير جار على موصوف واسناد الفعل في صلته إلى ضمير العظمة وكذا الايصال الى المخاطب المعظم بدليل سابقه على ماسمعت أولا وتقديم المجرور على المنصوب من قبيل الابهام ثم البيان كما في قوله تعالى : ووضعنا عنك وزرك وفيه مالايخفى من ترقب النفس إلى ما سيرد وحسن قبولها له عند وروده عليها وضمير الجمع للأمة باعتبار معناها كما روعي في ضمير خلت لفظها
وهم يكفرون بالرحمن أي بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته فلم يشكروا نعمه سبحانه لاسيما ما أنعم به عليهم بارسالك اليهم وانزال القرآن الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية عليهم بل قابلوا رحمته ونعمه بالكفر ومقتضى العقل عكس ذلك وكان الظاهر بنا الا أنه التفت الى الظاهر وأوثر هذا الاسم الدال على المبالغة في الرحمة للاشارة الى أن الارسال ناشيء منها كما قال سبحانه : وما أرسلناك الا رحمة للعالمين وضمير الجمع للأمة أيضا والجملة في موضع الحال من فاعل أرسلنا لامن ضمير عليهم اذ الارسال ليس للتلاوة عليهم حال كفرهم ومنهم من جوز ذلك والتلاوة عليهم حال الكفر ليقفوا على
(13/152)

اعجازه فيصدقوا به لعلمهم بأفانين البلاغة ولا ينافي تلاوته عليهم بعد اسلامهم وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والضمير حسبما علمت وقيل : انه يعود على الذين قالوا لولا أنزل عليه آية من ربه وقيل : يعود على أمة وعلى أمم ويكون في الآية تسلية له صلى الله عليه و سلم وعن قتادة وابن جريج ومقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب فيه على كرم الله تعالى وجهه بسم الله الرحمن الرحيم فقال : سهيل بن عمرو : ما نعرف الرحمن الا مسيلمة وقيل : سمع أبو جهل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : ياالله يارحمن فقال إن محمدا ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين فنزلت وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما قيل لكفار قريش : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن فنزلت وضعف كل ذلك بأنه غير مناسب لأنه يقتضي أنهم يكفرون بهذا الاسم واطلاقه عليه سبحانه وتعالى والظاهر أن كفرهم بمسماه قل حين كفروا به سبحانه ولم يوحدوه هو أي الرحمن الذي كفرتم به ربي خالقي ومتولي أمري ومبلغي الى مراتب الكمال وايراد هذا قبل قوله تعالى : لا إله إلا هو أي لا مستحق للعبادة سواه تنبيه على أن استحقاق العبادة منوط بالربوبية والجملة داخلة في حيز القول وهي خبر بعد خبر عند بعض وقال بعض آخر : إنه تعالى بعد أن نعى على الكفرة حالهم وعكسهم مقتضى العقل أمر نبيه عليه الصلاة و السلام أن ينبههم على خاصة نفسه ووظيفته من الشكر ومآل أمره تأنيبا لهم فقال : قل هو ربي الذي أرسلني اليكم وأيدني بما أيدني ولا رب لي سواه عليه لا على أحد سواه توكلت في جميع أموري لاسيما في النصرة عليكم وإليه خاصة متاب
3
- أي مرجعي فينبئني على مصابرتكم ومجاهدتكم وقوله سبحانه لا إله إلا هو اعتراض أكد به اختصاص التوكل عليه سبحانه وتفويض الامور عاجلا وآجلا اليه ومثله قوله تعالى : اتبع ما أوحي اليك من ربك لااله الا هو وأعرض عن المشركين أه والى القول بالاعتراض ذهب صاحب الكشف وحمل على ذلك كلام الكشاف حيث ذكر بعد هو ربي الواحد المتعالى عن الشركاء فقال : جعله فائدة الاعتراض بلا إله إلا هو أي هذا البليغ الرحمة ولا إله إلا هو فهو بليغ الانتقام كما هو بليغ الرحمة يرحمني وينتقم لي منكم وهو تمهيد أيضا لقوله : عليه توكلت ولم يجعل خبرا بعد خبر اذ ليس المقصود الاخبار بأنه تعالى متوحد بالإلهية بل المقصود أن المتوحد بها ربي وذلك يفيده الاعتراض وأما أن المفهوم من كلامه أنه حال ولذلك أجرى مجرى الوصف فكلا إلا ان يجعل حالا مؤكدة ولا يغاير الاعتراض اذا كثير مغايرة لكن الاول أملأ بالفائدة اه ولا يخفى مافي توجيه كلام الكشاف بذلك من الخفاء وفي كون المقصود أن المتوحد بالإلهية ربي دون الاخبار بأنه تعالى متوحد بها على ماقيل تأمل ولعل مبناه أن ما أثبته أوفق بالغرض الذي يشير كلامه الى اعتباره مساقا للآية وفيه من المبالغة في وصفه تعالى بالتوحد ما لايخفى
نعم قيل للقول بالاعتراض وجه وأنه حينئذ لايبعد أن يقال : إنه تعالى بعد أن ذكر ارساله صلى الله عليه و سلم اليهم وأن حالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة ولا يقابلون رحمته بالشكر فيؤمنوا به ويوحدوهأمره بالاخبار بتخصيص توكله واعتماده على ذلك البليغ الرحمة ورجوعه في سائر أموره اليه ايماء إلى أن اصرارهم على الكفر لايضره
(13/153)

شيئا وان له عليه الصلاة و السلام عاقبة محمودة وأنه سبحانه سينصره عليهم وفي ذلك من تسفيه رأيهم في الاصرار على الكفر واستنهاضهم إلى اتباعه ما فيه إلا أنه عز شأنه أمره أولا أن يقول : هو ربي توطئة لذلك وجىء بلا إله إلا هو اعتراضا للتأكيد والذي يميل إليه الطبع بعد التأمل وملاحظة الاسلوب القول بالاعتراض ثم لا يخفي أن جمل واليه متاب على اليه رجوعي في سائر أموري خلاف الظاهر وأنه على ذلك يكون كالتأكيد لما قبله وقال شيخ الاسلام في تفسيره : أي اليه توبتي كقوله تعالى : واستغفر لذنبك أمر عليه الصلاة و السلام بذلك ابانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفة الانبياء وبعثا للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطفه فانه عليه الصلاة و السلام حيث أمر بها وهو منزه عن شائبة اقتراف ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لابد منه اصلا اه وفيه أن هذا إنما يصلح باعثا للاقلاع عن الذنب على أبلغ وجه وألطفه لو كان الكلام مع غير الكفرة الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولعل ذلك ظاهر عند المنصف وقال العلامة البيضاوي في ذلك : أي اليه مرجعي ومرجعكم وكأنه أراد أيضا فيرحمني وينتقم منكم والانتقام من الرحمن أشد كما قيل : أعوذ بالله تعالى من غضب الحليم
وتعقب بأنه إنما يتم ولو كان المضاف اليه المحذوف ضمير المتكلم ومعه غيره أي متابنا إذ يكون حينئذ مرجعي ومرجعكم تفصيلا لذلك ولا يكاد يقول به أحد مع قوله بكسر الباء فانه يقتضي أن يكون المحذوف الياء على أن ذلك الضمير لايناسب ما قبله ولعل العلامة اعتبر ان في الآية اكتفاء على ماقيل : أي متابي ومتابكم أو أن الكلام دال عليه التزاما وهذا أولى على ماقيل فتأمل ولو أن قرءانا أي قرآنا ما والمراد به المعنى اللغوي وهو اسم أن والخبر قوله تعالى شأنه : سيرت به الجبال وجواب لو محذوف لانسياق الكلام اليه كما في قوله : فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا والمقصود اما بيان عظم شأن القرآن العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره ولم يعدوه من قبيل الآيات واقترحوا غيره وأما بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلالة والفساد والمعنى على الأول لو أن كتابا سيرت بانزاله أو بتلاوته الجبال وزعزعت عن مقارها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام أو قطعت به الأرض أي شققت وجعلت انهارا وعيونا كما فعل بالحجر حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعا متصدعة أوكلم به الموتى أي كلم أحد به الموتى بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد وذلك كما وقع الاحياء لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآن لكونه الغاية القصوى في الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى وهيبته عز و جل كقوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله قاله بعض المحققين وقيل : في التعليل لكونه الغاية في الاعجاز والنهاية في التذكير والانذار
وتعقب بأنه لا مدخل للاعجاز في هذه الآثار والتذكير والانذار مختصان بالعقلاء مع أنه لاعلاقة لذلك بتكليم الموتى واعتبار فيض العقول اليها مخل بالمبالغة المقصودة وبحث فيه بأن ماذكر أولا من مزيد الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى أمر يرجع إلى الهيبة وهي أيضا مما لايترتب عليها تكليم الموتى بل لعلها مانعة من
(13/154)

ذلك لأنها حيث اقتضت تزعزع الجبال وتقطع الارض فلأن تقتضي موت الاحياء دون احياء الموات الذي يكون التكليم بعده من باب أولى وفيه نظر والباء في المواضع الثلاثة للسببية وجوز في الثالث منها أن تكون صلة ما عندها وتقديم المجرور فيها على المرفوع لقصد الابهام ثم التفسير لزيادة التقرير على ما مر غير مرة
و أو في الموضعين لمنع الخلو لاالجمع والتذكير في كلم لتغليب المذكر من الموتى على غيره واقتراحهم وإن كان متعلقا بمجرد ظهور مثل هذه الافاعيل العجيبة على يده صلى الله عليه و سلم لا بظهورها بواسطة القرآن لكن ذلك حيث كان مبنيا على عدم اشتماله في زعمهم على الخوارق نيط ظهورها به مبالغة في شأن اشتماله عليها وأنه حقيق بأن يكون مصدرا لكل خارق وإبانة لركاكة رأيهم في شأنه الرفيع كأن قيل : لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه من مقتضيات الحكمة لكان مظهرها هذا القرآن الذي لم يعدوه آية وفيه من تفخيم شأنه العزيز ووصفهم بركاكة العقل لايخفى كذا حققه بعض الاجلة وهو من الحسن بمكان وعلى الثاني لو أن قرآنا فعلت به هذه الافاعيل العجيبة لما آمنوا به كقوله تعالى : ولو أنزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى الآية والكلام على ما استظهره الشهاب على التقديرين حقيقة على سبيل الفرض كقوله : ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر وجعله على الأول تمثيلا كالآية المذكورة هناك على ماقال لا وجه له وتمثيل الزمخشري بها لبيان أن القرآن يقتضي غاية الخشية وصنيع كثير من المحققين ظاهر في ترجيح التقدير الأول وفي الكشف لو تأملت في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجدت بناء الكلام فيها على حقية الكتاب المجيد واشتماله على مافيه صلاح الدارين وان السعيد كل السعيد من تمسك بحبله والشقي كل الشقي من أعرض عنه الى هواه حيث قال تعالى أولا : والذي أنزل اليك من ربك الحق ثم تعجب من إنكارهم ذلك بقوله سبحانه : ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية ثم قال تعالى : له دعوة الحق فأثبت حقيته بالحجة ثم قال جل وعلا : أنزل من السماء ماء وهومثل للحق الذي هو القرآن ومن انتفع به على مافسره المحققون ثم صرح تعالى بنتيجة ذلك كله بالبرهان النير في قوله سبحانه : أفمن يعلم أنما أنزل اليك من ربك الحق كمن هو أعمى ثم أعاد جل شأنه قوله ويقول الذين كفروا دلالة على انكارهم أول ماأتاهم وبعد رصانة علمهم بحقيته فهم متمادون في الانكار ثم كر الى بيان الحقية فيما نحن فيه وبالغ المبالغة التي ليس بعدها سواء جعل داخلا في حيز القول أو جعل ابتداء كلام منه تعالى تذييلا وهو الابلغ ليكون مقصودا بذاته في الافادة المذكورة مؤكد المجموع مادل عليه قوله تعالى : وكذلك أرسلناك من تعظيم الرسول عليه الصلاة و السلام وما أنزل عليه وشدة انكارهم وتصميمهم لاعلاوة في أن لم يبق الا التوكل والصبر على مجاهدتكم إذ لاوراء هذا القرآن حتى أجيء به لتسلموا ثم فخمه ونعى عليهم مكابرتهم بقوله تعالى وكذلك أنزلناه حكما عربيا وأيد حقية الكتاب فيمن أنزل عليه في خاتمة السورة بقوله جل وعلا : كفى بالله إلى قوله سبحانه : علم الكتاب تنبيها على أنه مع ظهور أمره في افادة الحقائق العرفانية والخلائق الايمانية لايعلم حقيقة ما فيه إلا من تفرد به وبانزاله تبارك وتعالى اه وفي سبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى مايؤيد الثاني والظاهر على حققه وأشرنا اليه اولا ان الآية على الأول متعلقة بقوله تعالى : ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية وهي على الثاني متعلقة بقوله سبحانه وهم يكفرون بالرحمن بيانا لتصميمهم في كفرهم وإنكارهم الآيات ومن أتى بها لا بذلك لبعد المرمى
(13/155)

من غير ضرورة وقوله تعالى : بل لله الأمر جميعا أي له الأمر الذي يدور عليه فلك الأكوان وجودا وعدما يفعل مايشاء ويحكم مايريد حسبما تقتضيه الحكم البالغة قيل : إضراب عما تقتضيه الشرطية من معنى النفي لابحسب منطوقه بل باعتبار موجبة ومؤداه أي لو أن قرآنا فعل به ماذكر لكان ذلك هذا القرآن ولكن لم يفعل سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده فالاضراب ليس بمتوجه الى كون الأمر لله تعالى بل إلى مايؤدي اليه ذلك من كون الشأن على ما كان لما تقتضيه الحكمة وقيل : إن حاصل الاضراب لايكون تسيير الجبال مع ماذكر بقرآن بل يكون بغيره مما أراده الله تعالى فان الأمر له سبحانه جميعا وزعم بعضهم أن الأحسن العطف على مقدر أي ليس لك من الأمر شيء بل الامر لله جميعا ومعنى قوله سبحانه : أفلم ييئس الذين ءامنوا أفلم يعلموا وهي كما قال القاسم بن معن لغة هوازن وقال ابن الكلبي : هي لغة حي من النخع وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي : أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم وقول رباح بن عدي : ألم ييأس الاقوام أني أنا ابنه وان كنت عن أرض العشيرة نائيا فانكار الفراء ذلك وزعمه أنه لم يسمع أحد من العرب يقول يئست بمعنى علمت ليس في محله ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والظاهر ان استعمال اليأس في ذلك حقيقة وقيل : مجاز لأنه متضمن للعلم فان الآيس عن الشيء عالم بأنه لايكون واعترض بأن اليأس حينئذ يقتضي حصول العلم بالعدم وهو مستعمل في العلم بالوجود وأجيب بأنه لما تضمن العلم بالعدم تضمن مطلق العلم فاستعمل فيه ويشهد لارادة العلم هنا قراءة على كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وأبي يزيد المدني وجماعة أفلم يتبين من تبينت كذا إذا علمته وهي قراءة مسندة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة 1 وأما قول من قال : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس فسوى اسنان السين فهو قول زنديق ابن ملحد على ما في البحر وعليه فرواية ذلك كما في الدر المنثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غير صحيحة وزعم بعضهم أنها قراءة تفسير وليس بذاك والفاء للعطف على مقدر أي أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله تعالى فلم يعلموا أن لو يشاء الله بتخفيف أن وجعل اسمها ضمير الشأن والجملة الامتناعية خبرها وأن وما بعدها ساد مسد مفعولي العلم لهدى الناس جميعا أي باظهار أمثال تلك الآثار العظيمة والانكار على هذا متوجه الى المعطوفين جميعا أو أعلموا كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلم مما ذكر وحينئذ هو متوجه إلى ترتب المعطوف على المعطوف عليه اي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول وأياما كان فالانكار إنكار الوقوع لا الواقع ومناط الانكار ليس عدم علمهم بمضمون الشرطية فقط بل عدم علمهم بعدم تحقق مقدمها كأنه قيل : ألم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم وأنه سبحانه لم يشأ ذلك وذلك لما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكفار
(13/156)

لما سألوا الآيات ود المؤمنون أن يظهرها الله تعالى ليجتمعوا على الايمان هذا على التقدير الأول وأما على التقدير الثاني فالاضراب متوجه إلى ماسلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح والمعنى فليس لهم ذلك بل الله تعالى الامر إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء سبحانه لم يأت به حسبما تستدعيه حكمته الباهرة من غير أن يكون لأحد عليه جل جلاله حكم أو اقتراح واليأس بمعنى القنوط كما هو الشائع في معناه أي ألم يعلم الذين آمنوا حالهم هذه فلم يقنطوا من ايمانهم حتى ودوا ظهور مقترحاتهم فالانكار متوجه إلى المعطوفين أو أعلموا ذلك فلم يقنطوا من إيمانهم فهو متوجه إلى وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور والانكار على هذين التقديرين إنكار الواقع لا الوقوع فان عدم قنوطهم من ذلك مما لامرد له وقوله تعالى : أن لو يشاء الله الى آخره مفعول به لعلما محذوف وقع مفعولا له أي أفلم ييأسوا من ايمان الكفار علما منهم بأنه لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وأنه لم يشأ ذلك وقد يجعل العلم في موضع الحال أي عالمين بذلك ولم يعتبر التضمين لبعده ويجوز أن يكون متعلقا بآمنوا بتقدير الباء أي أفلم يقنط الذين آمنوا وصدقوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا على معنى أفلم يياس من ايمان هؤلاء الكفرة المؤمنون بمضمون هذه الشرطية وبعدم تحققها المنفهم من مكابرتهم حسبما يحكيه كلمة لو فالوصف المذكور من دواعي انكار يأسهم وبما أشرنا اليه ينحل ما قيل : من أن تعلق الايمان بمضمون الشرطية وتخصيصه بالذكر يقتضي أن لذلك دخلا في اليأس من الايمان مع أن الامر بالعكس لأن قدرة الله تعالى على هداية جميع الناس يقتضي رجاء ايمانهم لا اليأس منه وذلك لاعتبار العلم بعدم تحقق المضمون أيضا
وقال بعضهم في الجواب عن ذلك : ان وجه تخصيص الايمان بذلك أن ايمان هؤلاء الكفرة المصممين كأنه محال متعلق بمالايكون لتوقفه على مشيئة الله تعالى هداية جميع الناس وذلك مالايكون بالاتفاق وهو في معنى ماأشير اليه وذكر أبو حيان احتمالا آخر في الآية وهو أن الكلام قد تم عند قوله سبحانه : أفلم ييأس الذين آمنوا وهو تقرير أي قد يئس المؤمنون من ايمان هؤلاء المعاندين و أن لو يشاء الخ جواب قسم محذوف أي أقسم لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ويدل على اضمار القسم وجود ان مع لو كقوله : أما والله ان لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق وقوله : فأقسم أن لو التقينا وأنتم لكان لنا يوم من الشر مظلم وقد ذكر سيبويه أن أن تأتي بعد القسم وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها انتهى وفيه من التكلف ما لايخفى ومن الناس من جعل الاضراب مطلقا عما تضمنه لو من معنى النفي على معنى بل الله تعالى قادر على الاتيان بما اقترحوا الا أن أرادته لم تتعلق بذلك لعلمه سبحانه بأنه لاتلين له شكيمتهم ولا يخفى أنه ظاهر على التقدير الثاني وأما على التقدير الاول فقد قيل : إن إرادة تعظيم شأن القرآن لاتنافي الرد على المقترحين وأيد جانب الرد بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ان كنت نبيا كما تزعم فباعد جبلي مكة أخشبيها هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة فانها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى وابعث لنا أباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي أو احملنا الى الشام أو الى اليمن أو الى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت انك فعلته فنزلت هذه الآية
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سير بالقرآن الجبال قطع بالقرآن الارض أخرج
(13/157)

به موتانا فنزلت وعلى هذا لاحاجة الى الاعتذار في اسناد الافاعيل المذكورة الى القرآن كما احتيج اليه فيما تقدم وعلى خبر الشعبي يراد من تقطيع الارض قطعها بالسير ويشهد للتفسير بما قدمنا أولا ماأخرجه أبو نعيم في الدلائل وغيره من حديث الزبير بن العوام انه لما نزلت وأنذر عشيرتك الاقربين صاح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أبي قبيس ياآل عبد مناف اني نذير فجاءته عليه الصلاة و السلام قريش فحذرهم وأنذرهم فقالوا تزعم انك نبي يوحى اليك وإن سليمان سخر له الريح والجبال وإن موسى سخر له البحر وإن عيسى كان يحيي الموتى فادع الله تعالى أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا فنتخذ محارث فنزرع ونأكل والا فادع الله تعالى أن يحيى لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا والا فادع الله تعالى أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهبا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فانك تزعم أنك كهيئتهم
(13/158)

الخبر وفيه فنزلت وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون إلى تمام ثلاث آيات ونزلت ولو أن قرآنا الآية هذا
وعن الفراء أن جواب لو مقدم وهو قوله تعالى : وهم يكفرون بالرحمن وما بينهما اعتراض وهو مبني كما قيل على جواز تقديم جواب الشرط عليه ومن النحويين من يراه ولايخفى أن في اللفظ نبوة عن ذلك لكون تلك الجملة اسمية مقترنة بالواو ولذا أشار السمين الى أن مراده أن تلك الجملة دليل الجواب والتقدير ولو أن قرآنا فعل به كذا وكذا لكفروا بالرحمن وأنت تعلم أنه لافرق بين هذا وتقدير لما آمنوا في المعنى وجوز جعل لو وصلية ولا جواب لها والجملة حالية أو معطوفة على مقدر
ولايزال الذين كفروا من أهل مكة على ماروى عن مقاتل تصيبهم بما صنعوا أي بسبب ماصنعوه من الكفر والتمادي فيه وابهامه اما لقصد تهويله أو استهجانه وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من عليه الصلة له مع مافي صيغة الصنع من الايذان برسوخهم في ذلك قارعة من القرع وأصله ضرب شيء بشيء بقوة ومنه قوله : ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ببعض أبت عيدانه أن تكسرا والمراد بها الرزية التي تقرع قلب صاحبها وهي هنا ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب وتقديم المجرور على الفاعل لما مر غير مرة من إرادة التفسير اثر الابهام لزيادة التقرير والاحكام مع مافيه من بيان أن مدار الاصابة من جهتهم أثر ذي أثير أو تحل تلك القارعة قريبا مكانا قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير اليهم شررها شبه القارعة بالعدو المتوجه اليهم فاسند اليها الاصابة تارة والحلول أخرى ففيه استعارة بالكناية وتخييل وترشيح حتى يأتي وعد الله أي موتهم أو القيامة فان كلا منهما وعد محتوم لامرد له وفيه دلالة على أن مايصيبهم حينئذ من العذاب أشد ثم حقق ذلك بقوله سبحانه : إن الله لايخلف الميعاد
13
- أي الوعد كالميلاد والميثاق بمعنى الولادة والتوثقة ولعل المراد به مايندرج تحته الوعد الذي نسب اليه الاتيان لا هو فقط قال القاضي : وهذه الآية تدل على بطلان من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده وهي وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم
(13/0)

اللفظ لابخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق وأجاب الامام بأن التخلف غير وتخصيص العمول غير ونحن لانقول بالخلف ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو وأنت تعلم أن المشهور في الجواب أن آيات الوعد مطلقة وآيات الوعيد وإن وردت مطلقة لكنها مقيدة حذف قيدها لمزيد التخويف ومنشأ الأمرين عظم الرحمة ونهاية الكرم والفرق بين الوعد والوعيد أظهر من أن يذكر نعم قد يطلق الوعد على ما هو وعيد في نفس الأمر لنكتة وليتأمل فيما هنا على الوجه الذي تقرر
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبعثها كانوا بين غارة واختطاف وتخويف بالهجوم عليهم في دارهم فالاصابة والحلول حينئذ من أحوالهم وجوز على هذا أن يكون قوله تعالى : أو تحل خطابا لرسول الله صلى الله عليه و سلم مرادا به حلول الحديبية والمراد بوعد الله تعالى ما وعد به من فتح مكة وعزا ذلك الطبري إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وروى عن مقاتل وعكرمة وذهب ابن عطية إلى أن المراد بالذين كفروا كفار قريش والعرب وفسر القارعة بما ينزل بهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن الحسن وابن السائب أن المراد بهم الكفار مطلقا قالا : وذلك الأمر مستمر فيهم الى يوم القيامة ولا يتأتى على هذا أن يراد بالقارعة سرايا رسول الله عليه الصلاة و السلام فيراد بها حينئذ ماذكر أولا وأنت تعلم أنه إذا أريد جنس الكفرة لايلزم منه حلول ماتقدم بجميعهم وقرأ مجاهد وابن جبير أو يحل بالياء على الغيبة وخرج ذلك على أن يكون الضمير عائدا على الرسول عليه الصلاة و السلام وقرءا أيضا من ديارهم على الجمع ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا أي تركتهم ملاوة أي من الزمان ومنه الملوان في أمن ودعة كما يملي للبهيمة في المرعى وهذا تسلية للحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم عما لقى من المشركين من الاستهزاء به عليه الصلاة و السلام وتكذيبه وعدم الاعتداد بآياته واقتراح غيرها وكل ذلك في المعنى استهزاء ووعيد لهم والمعنى ان ذلك ليس مختصا بك بل هو أمر مطرد قد فعل برسل جليلة كثيرة كائنة من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم والعدول في الصلة الى وصف الكفر ليس لأن المملي لهم غير المستهزئين بل للاشارة الى أن ذلك الاستهزاء كفر كما قيل وفي الارشاد لارادة الجمع بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا بكفرهم مع استهزائهم لا باستهزائهم فقط ثم أخذتهم فكيف كان عقاب
23
- أي عقابي اياهم والمراد التعجيب مما حل بهم وفيه من الدلالة على شدته وفظاعته مالا يخفى
أفمن هو قائم أي رقيب ومهيمن على كل نفس كائنة ماكانت بما كسبت فعلت من خير أو شر لايخفى عليه شيء من ذلك ولا يفوته ما يستحقه كل من الجزاء وهو الله تعالى شأنه وما حكاه القرطبي عن الضحاك من أن المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم فمما لايكاد يعرج عليه هنا و من مبتدأ والخبر محذوف أي كمن ليس كذلك ونظيره قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه وحسن حذفه المقابلة وقد جاء مثبتا كثيرا كقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لايخلق وقوله سبحانه : أفمن يعلم أنما انزل اليك من ربك الحق كمن هو أعمى إلى غير ذلك والهمزة للاستفهام الانكاري وادخال الفاء قيل : لتوجيه الانكار إلى توهم المماثلة في ما علم مما فعل سبحانه بالمستهزئين من الاملاء والأخذ ومن
(13/159)

كون الامر كله له سبحانه وكون هداية الناس جميعا منوطة بمشيئته جل وعلا ومن تواتر القوارع على الكفرة حتى يأتي وعده تعالى كأنه قيل : الأمر كذلك فمن هذا شأنه كما ليس في عداد الاشياء حتى يشركوه به فالانكار متوجه إلى ترتب المعطوف أعني توهم المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كون الامر كما ذكر 1 لا إلى المعطوفين جميعا 2 وفي الكشف أنه ضمن هذا التعقيب الترقي في الانكار يعني لاعجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها إنما العجب كل العجب جعلهم القادر على انزالها المجازي لهم على اعراضهم عن تدبر معانيها وأمثالها بقوارع تترى واحدة غب أخرى يشاهدونها رأي عين تترامى بهم إلى دار البوار وأهوالها كمن لايملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عمن اتخذه ربا يرجو منه دفعا أو جلبا وزعم بعضهم أن الفاء للتعقيب الذكري أي بعد ما ذكر أقول هذا الامر وليس بذاك وجعلوا لله شركاء جملة مستأنفة وفيها دلالة على الخبر المحذوف وجوز أن تكون معطوفة على كسبت على تقدير أن تكون ما مصدرية لاموصولة والعائد محذوف ولايلزم اجتماع الامرين حتى يخص كل نفس بالمشركين وأبعد من قال : إنها عطف على استهزىء وجوز أن تكون حالية على معنى أفمن هذه صفاته كمن ليس كذلك وقد جعلوا له شركاء لاشريكا واحدا وقال صاحب حل العقد : المعنى على الحالية أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود والحال أنهم جعلوا له شركاء وهذا نظير قولك : أجواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي ومنهم من أجاز العطف على جملة أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن ليس كذلك لأن الاستفهام الانكاري بمعنى النفي فهي خبرية معنى وقدر آخرون الخبر لم يوحدوه وجعل العطف عليه أي أفمن هذا شأنه لم يوحدوه وجعلوا له شركاء وظاهر كلامهم اختصاص العطف على الخبر بهذا التقدير دون تقدير كمن ليس كذلك قال البدر الدماميني : ولم يظهر وجه الاختصاص ووجه ذلك الفاضل الشمني بأن حصول المناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه التي هي شرط قبول العطف بالواو إنما هو على التقدير الاخير دون التقدير الأول
ويدل على الاشتراط قول أهل المعاني : زيد يكتب ويشعر مقبول دون يعطي ويشعر وتعقبه الشهاب بأنه من قلة التدبر فان مرادهم انه على التقدير الاول يكون الاستفهام انكاريا بمعنى لم يكن نفيا للتشابه على طريق الانكار فلو عطف جعلهم شركاء عليه يقتضي انه لم يكن وليس بصحيح وعلى التقدير الأخير الاستفهام توبيخي والانكار فيه بمعنى لم كان وعدم التوحيد وجعل الشركاء واقع موبخ عليه منكر فيظهر العطف على الخبر وأما ماذكر من حديث التناسب فغفلة لأن المناسبة بين تشبيه الله سبحانه بغيره والشرك تامة وعلى الوجه الأخير عدم التوحيد عين الاشراك فليس محلا للعطف عند أهل المعاني على ماذكره فهو محتاج الى توجيه آخر
واختار بعض المحققين التقدير الاول وفي ذلك الحذف تعظيم للقالة وتحقير لمن زن بتلك الحالة وفي العدول عن صريح الاسم في أفمن هو قائم تفخيم فخيم بواسطة الابهام المضمر في ايراده موصولا مع تحقيق أن القيام كائن وهم محققون وفي وضع الاسم الجليل موضع المضمر الراجع الى من تنصيص على وحدانيته تعالى ذاتا واسما وتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادة مع مافيه من البيان بعد الابهام ولعل توجيه الوضع المذكور مما لايختص به تقدير دون تقدير وخصه بعضهم فيما يحتاج عليه الى ضمير
(13/160)

إثر تبكيت أي سموهم من هم وماذا أسماؤهم وفي البحر أن المعنى أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى انما يذكر ويسمى من ينفع ويضر وهذا مثل أن يذكر لك أن شخصا يوقر ويعظم وهو عندك لايستحق ذلك فتقول لذاكره : سمه حتى أبين لك زيفه وانه بمعزل عن استحقاق ذلك وقريب منه ماقيل : إن ذلك انما يقال في الشيء المستحقر الذي يبلغ في الحقارة الى أن لايذكر ولا يوضع له اسم فيقال سمه على معنى أنه أخس من أن يذكر ويسمى ولكن ان شئت أن تضع له اسما فافعل فكأنه قيل : سموهم بالآلهة على التهديد والمعنى سواء سميتموهم بذلك أم لم تسموهم به فانهم في الحقارة بحيث لايستحقون أن يلتفت اليهم عاقل وقيل : إن التهديد هنا نظير التهديد لمن نهى عن شرب الخمر ثم قيل له : سم الخمر بعد هذا وهو خلاف الظاهر وقيل : المعنى اذكروا صفاتهم وانظروا هل فيها مايستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة أم تنبؤنه أي بل أتخبرون الله تعالى بما لايعلم في الأرض أي بشركاء مستحقين للعبادة لايعلمهم سبحانه وتعالى والمراد نفيها بنفي لازمها على طريق الكناية لأنه سبحانه اذا كان لايعلمها وهو الذي لايعزب عن علمه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء فهي لاحقيقة لها أصلا وتخصيص الارض بالذكر لأن المشركين انما زعموا أنه سبحانه له شركاء فيها والضمير المستقر في يعلم على هذا التفسير لله تعالى والعائد على ما محذوف كما أشرنا الى ذلك
وجوز أن يكون العائد ضمير يعلم والمعنى أتنبؤن الله تعالى بشركة الاصنام التي لا تتصف بعلم البتة وذكر نفي العلم في الارض لأن الارض مقر الأصنام فاذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه فانتفاؤه في السموات العلى أحرى وقرأ الحسن أتنبئونه بالتخفيف من الأنباء أم بظاهر من القول أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق في نفس الامر كتسمية الزنجي كافورا كقوله تعالى : ذلك قولهم بأفواههم وروى عن الضحاك وقتادة أن الظاهر من القول الباطل منه وأنشدوا من ذلك قوله : أعيرتنا البانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر ويطلق الظاهر على الزائل كما في قوله : وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ومن أراد ذلك هنا فقد تكلف وعن الجبائي أن المراد من ظاهر من القول ظاهر كتاب أنزله الله تعالى وسمى به الاصنام آلهة حقة وحاصل الآية نفي الدليل العقلي والدليل السمعي على حقية عبادتها واتخاذها آلهة وجوز أن تكون أم متصلة والانقطاع هو الظاهر ولا يخفى مافي الآية من الاحتجاج والاساليب العجيبة ما ينادي بلسان طلق ذلق أنه ليس من كلام البشر كما نص على ذلك الزمخشري وبين ذلك صاحب الكشف بأنه لما كان قوله تعالى : أفمن هو قائم كافيا في هدم قاعدة الاشراك للتفرع السابق والتحقق بالوصف اللاحق مع ما ضمن من زيادات النكت وكان ابطالا من طرف الحق وذيل بابطاله من طرف النقيض على معنى وليتهم إذ اشركوا بمن لايجوز أن يشرك به اشركوا من يتوهم فيه ادنى وروعي فيه أنه لاأسماء للشركاء فضلا عن المسمى على الكناية الايمائية ثم بولغ فيه بأنه لايستأهل السؤال عن حالها بظهور فسادها وسلك فيه مسلك الكناية التلويحية من نفي العلم بنفي المعلوم ثم منه بعدم الاستئهال والهمزة المضمنة فيها تدل على التوبيخ وتقرير
(13/161)

أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لايعلمه وهذا محال على محال وفي جعله اتخاذهم شركاء ومجادلتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم نكتة سرية بل نكت سرية ثم أضرب عن ذلك وقيل : قد بين الشمس لذي عينين وما تلك التسمية الا بظاهر من القول من غير أن يكون تحته طائل وماهو الا مجرد صوت فارغ حق لمن تأمل فيه حق التأمل أن يعترف بأنه كلام مصون عن التعمل صادر عن خالق القوى والقدر تتضاءل عن بلوغ طرف من أسراره افهام البشر
وقد ذيل الزمخشري كلامه بقوله فتبارك الله أحسن الخالقين وهي كما في الانتصاف كلمة حق أريد بها باطل يدندن بها من هو عن حلية الانصاف عاطل هذا بل زين للذين كفروا اضراب عن الاحتجاج عليهم ووضع الموصول موضع المضمر ذما لهم وتسجيلا عليهم بالكفر كأنه قيل : دع هذا فانه لا فائدة فيه لأنهم زين لهم مكرهم كيدهم للاستلام بشركهم أو تمويههم الاباطيل فتكلفوا ايقاعها في الخيال من غير حقيقة ثم بعد ذلك ظنوها شيئا لتماديهم في الضلال وعلى هذا المراد مكرهم بأنفسهم وعلى الأول مكرهم بغيرهم وإضافة مكر إلى ضميرهم من إضافة المصدر إلى الفاعل وجوز على الثاني أن يكون مضافا إلى المفعول وفيه بعد
وقرأ مجاهد بل زين على البناء لفاعل و مكرهم بالنصب وصدوا عن السبيل أي سبيل الحق فتعريفه للعهد أو ماعداه كأنه غير سبيل وفاعل الصد أما مكرهم ونحوه أو الله تعالى بختمه على قلوبهم أو الشيطان باغوائه لهم والاحتمالان الاخيران جاريان في فاعل التزيين وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وصدوا على البناء للفاعل وهو كالاول من صده صدا فالمفعول محذوف أي صدوا الناس عن الايمان ويجوز أن يكون من صد صدودا فلا مفعول وقرأ ابن وثاب وصدوا بكسر الصاد وقال بعضهم : إنه قرأ كذلك في المؤمن والكسر هنا لابن يعمر والفعل على ذلك مجهول نقلت فيه حركة العين إلى الفاء اجراء له مجرى الاجوف وقرأ ابن أبي اسحق وصد بالتنوين عطفا على مكرهم ومن يضلل الله أي يخلق فيه الضلال لسوء استعداده فماله من هاد
33
- يوفقه للهدى ويوصله إلى مافيه نجاته لهم عذاب شاق في الحياة الدنيا بالقتل والاسر وسائر مايصيبهم من المصائب فانها إنما تصيبهم عقوبة من الله تعالى على كفرهم وأما وقوع مثل ذلك للمؤمن فعلى طريق الثواب ورفع الدرجات ولعذاب الآخرة أشق من ذلك لشدته ودوامه ومالهم من الله أي عذابه سبحانه من واق
433 - من حافظ يعصمهم من ذلك فمن الاولى صلة واق والثانية مزيدة للتأكيد ولايضر تقديم معمول المجرور عليه لأن الزائد لاحكم له
وجوز أن تكون من الاولى ظرفا مستقرا وقع حالا من واق وصلته محذوفة والمعنى مالهم واق وحافظ من عذاب الله تعالى حال كون ذلك الواقي من جهته تعالى ورحمته و من على هذا للتبيين وجوز أيضا أن تكون لغوا متعلقة بما في الظرف أعني لهم من معنى الفعل وهي للابتداء والمعنى ماحصل لهم من رحمة الله تعالى واق من العذاب مثل الجنة أي نعتها وصفتها كما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة فهو على مافي البحر من مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ومنه وله المثل الأعلى أي الصفة العليا وأنكر أبو علي ذلك وقال : إن تفسير المثل بالصفة غير مستقيم لغة ولم يوجد فيها وإنما معناه الشبيه
وقال بعض المحققين : إنه يستعمل في ثلاثة معان : فيستعمل بمعنى التشبيه في أصل اللغة وبمعنى القول
(13/162)

السائر المعروف في عرف اللغة وبمعنى الصفة الغريبة وهو معنى مجازي له مأخوذ من المعنى العرفي بعلاقة الغرابة لأن المثل إنما يسر بين الناس لغرابته وأكثر المفسرين على تفسيره هنا بالصفة الغريبة وهو حينئذ مبتدأ خبره عند سيبويه محذوف أي فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة التي وعد المتقون أي عن الكفر والمعاصي وقدر مقدما لطول ذيل المبتدأ ولئلا يفصل بينه وبين مايتعلق به معنى وقوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار جملة مفسرة كخلقه من تراب في قوله سبحانه : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من العائد المحذوف من الصلة أي التي وعدها وقيل : هي الخبر على طريقة قولك : شأن زيد يأتيه الناس ويعظمونه واعترض بأنه غير مستقيم معنى لأنه يقتضي أن الانهار في صفة الجنة وهي فيها لافي صفتها وفيه أيضا تأنيث الضمير العائد على مثل حملا على المعنى وقد قيل : إنه قبيح وأجيب بأن ذاك على تأويل أنها تجري فالمعنى مثل الجنة جريان الانهار أو أن الجملة في تأويل المفرد فلا يعود منها ضمير للمبتدأ أو المراد بالصفة ما يقال فيه هذا إذا وصف فلا حاجة الى الضمير كما في خبر ضمير الشأن
وقال الطيبي : إن تأنيث الضمير لكونه راجعا إلى الجنة لا إلى المثل وإنما جاز ذلك لأن المقصود من المضاف عين المضاف اليه وذكره توطئة له وليس نحو غلام زيد وتعقب كل ذلك الشهاب بأنه كلام ساقط متعسف لأن تأويل الجملة بالمصدر من غير حرف سابك شاذ وكذا التأويل بأنه أريد بالصفة لفظها الموصوف به وليس في اللفظ مايدل عليه وهو تجوز على تجوز ولا يخفى تكلفه وقياسه على ضمير الشأن قياس مع الفارق وأما عود الضمير على المضاف اليه دون المبتدأ في مثل ذلك فأضعف من بيت العنكبوت فالحزم الاعراض عن هذا الوجه وعن الزجاج أن الخبر محذوف والجملة المذكورة صفة له والمراد مثل الجنة جنة تجري إلى آخره فيكون سبحانه قد عرفنا الجنة التي لم نرها بما شاهدناه من أمور الدنيا وعايناه وتعقبه أبو علي على مافي البحر بأنه لايصح لاعلى معنى الصفة ولا على معنى الشبه لأن الجنة التي قدرها جثة ولا تكون صفة ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين الشيئين وهو حدث فلا يجوز الاخبار عنه بالجنة الجثة ورد بأن المراد بالمثل المثيل أو الشبيه فلا غبار في الاخبار وقيل : إن التشبيه هنا تمثيلي منتزع وجهه من عدة أمور من أحوال الجنان المشاهدة من جريان أنهارها وغضارة أغصانها والتفات أفنانها ونحوه ويكون قوله تعالى : أكلها دائم وظلها بيانا لفضل تلك الجنان وتمييزها عن هذه الجنان المشاهدة وقيل : إن هذه بيان لحال جنان الدنيا على سبيل الفرض وأن فيها ذكر انتشارا واكتفاء في النظير بمجرد جريان الانهار وهو لايناسب البلاغة القرآنية وهو كما ترى
ونقل عن الفراء أن الجملة خبر أيضا إلا أن المثل بمعنى الشبه مقحم والتقدير الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الانهار الى آخره وقد عهد اقحامه بهذا المعنى ومنه قوله تعالى : ليس كمثله شيء وتعقبه أبو حيان بأن اقحام الاسماء لايجوز ورد بأنه في كلامهم كثير كثم اسم السلام عليكما ولا صدقة إلا عن ظهر غنى الى غير ذلك والأولى بعد القيل والقال والوجه الأول فانه سالم من التكلف مع مافيه من الايجاز والاجمال والتفصيل والظاهر أن المراد من الأكل مايؤكل فيها ومعنى دوامه أنه لاينقطع أبدا وقال ابراهيم التيمي : إن لذته دائمة لاتزاد بجوع ولا تمل بشبع وهو خلاف الظاهر
(13/163)

وفسر بعضهم الاكل بالثمرة فقيل : وجهه أنه ليس في جنة الدنيا غيره وإن كان في الموعودة غير ذلك من الاطعمة واستظهر أن ذلك لاضافته الى ضمير الجنة والاطعمة لايقال فيها أكل الجنة وفيه تردد والظل في الاصل ضد الضح وهو عند الراغب أعم من الفيء فانه يقال : ظل الليل ولا يقال فيؤه ويقال لكل موضع لم تصل اليه الشمس ظل ولا يقال الفيء الا لما زالت عنه وفي القاموس هو الضح والفيء أو هو بالغداة والفيء بالعشي جمعه ظلال وظلول واظلال ويعبر به عن العزة والمنعة وعن الرفاهة والمشهور تفسيره هنا بالمعنى الاول وهو مبتدأ محذوف الخبر أي وأكلها كذلك أي دائم والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ومعنى دوامه أنه لاينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس اذ لاشمس هناك على الشائع عند أهل الاثر أو لأنها لاتأثير لها على ماقيل ويجوز عندي أن يراد بالظل العزة أو الرفاهة وان يراد المعنى الاول ويجعل الكلام كناية عن دوام الراحة وأكفر خارجة بن معصب كما روى عنه ذلك ابن المنذر وأبو الشيخ القائل بعدم دوام الجنة كما يحكى عن جهنم وأتباعه لهذه الآية وبها استدل القاضي على انها لم تخلق بعد لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن يفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى : كل شيء هالك الا وجهه لكن أكلها لاينقطع ولا يفنى للآية المذكورة فوجب أن لاتكون مخلوقة بعد ثم قال : ولا ننكر أن يكون الآن جنان كثيرة في السماء يتمتع بها من شاء الله تعالى من الانبياء والشهداء وغيرهم إلا أنا نقول : ان جنة الخلد انما تخلق بعد الاعادة وأجاب الامام عن ذلك بأن دليله مركب من شيئين قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه وقوله سبحانه : أكلها دائم فاذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمودين سقط الدليل فنحن نخصص أحدهما بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة كقوله تعالى : وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين آمنوا اه
ويرد على الاستدلال أنه مشترك الالزام اذا الشيء في قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه الموجود مطلقا كما في قوله تعالى : خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم والمعنى أن كل مايوجد في وقت من الاوقات يصير هالكا بعد وجوده فيصح أن يقال : لو وجدت الجنة في وقت لوجب هلاك أكلها تحقيقا للعموم لكن هلاكه باطل لقوله تعالى : أكلها دائم فوجودها في وقت من الاوقات باطل وأجيب بأنه لعل المراد من الشيء الموجود في الدنيا فانها دار الفناء دون الموجود في الآخرة فانها دار البقاء وهذا كاف في عدم اشتراك الالزام وفيه أنه ان أريد أن معنى الشيء هو الموجود في الدنيا فهو ظاهر البطلان وان أريد ان المراد ذلك بقرينة كونه محكوما عليه بالهلاك وهو انما يكون في الدنيا لأنها دار الفناء فنقول : انه تخصيص بالقرينة اللفظية فنحن نخصصه بغير الجنة لقوله تعالى : أعدت للمتقين و أكلها دائم فلا يتم الاستدلال
وأجاب غير الامام بأن المراد هو الدوام العرفي وهو عدم طريان العدم زمانا يقيد به وهذا لاينافي طريان العدم عليه وانقطاعه لحظة على أن الهلاك لايستلزم الفناء بل يكفي فيه الخروج عن الانتفاع المقصود ولو سلم يجوز أن يكون المراد أن كل ممكن فهو هالك في حد ذاته بمعنى أن الوجود الامكاني بالنظر إلى الوجود الواجبي بمنزلة العدم وقيل : في الجواب أيضا : إن المراد بالدوام المعنى الحقيقي أعني عدم طريان العدم مطلقا والمراد بدوام الأكل دوام النوع وبالهلاك هلاك الأشخاص ويجوز أن لاينقطع النوع أصلا مع هلاك الأشخاص بأن يكون هلاك كل شخص معين من الأكل بعد وجود مثله وهذا مبني على ماذهب اليه الأكثرون من أن الجنة لايطرأ عليها العدم ولو لحظة وأما على ماقيل : من جريانه عليها لحظة
(13/164)

فلا يتم لأنه يلزم منه انقطاع النوع قطعا كما لايخفى
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مثال الجنة وفي اللوامح عن السلمي أمثال الجنة أي صفاتها تلك الجنة المنعوتة بما ذكر عقبى الذين اتقوا الكفر والمعاصي أي مآلهم ومنتهى أمرهم وعقبى الكافرين النار
53
- لا غير كما يؤذن به تعريف الخبر وحمل الاتقاء على اتقاء الكفر والمعاصي لأن المقام مقام ترغيب وعليه يكون العصاة مسكوتا عنهم وقد يحمل على اتقاء الكفر بقرينة المقابلة فيدخل العصاة في الذين اتقوا لأن عاقبتهم الجنة وإن عذبوا
والذين ءاتينهم الكتب نزلت كما قال الماوردي في مؤمني أهل الكتابين كعبدالله بن سلام وكعب وأضرابهما من اليهود وكالذين أسلموا من النصارى كالثمانين المشهورين وهم أربعون رجلا بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة فالمراد بالكتاب التوراة والانجيل يفرحون بما أنزل اليك إذ هو الكتاب الموعود فيما أوتوه ومن الأحزاب أي من أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما وأصله جمع حزب بكسر وسكون الطائفة المتحزبة أي المجتمعة لأمر ما كعداوة وحرب وغير ذلك وإرادة جماعة مخصوصة منه بواسطة العهد من ينكر بعضه وهو مالا يوافق كتبهم من الشرائع الحادثة انشاء أو نسخا وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به وعن ابن عباس وابن زيد أنها نزلت في مؤمني اليهود خاصة فالمراد بالكتاب التوراة وبالأحزاب كفرتهم وعن مجاهد والحسن وقتادة أن المراد بالموصول جميع أهل الكتاب فانهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم فالمراد بما أنزل اليك بعضه وهو الموافق واعترض عليه بأنه يأباه مقابلة قوله سبحانه : ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأن انكار البعض مشترك بينهم وأجيب بأن المراد من الأحزاب من حظه انكار بعضه فحسب ولا نصيب له من الفرح ببعض منه لشدة بغضه وعداوته وأولئك يفرحون ببعضه الموافق لكتبهم وقيل : الظاهر أن المعنى أن منهم من يفرح ببعضه إذا وافق كتبهم وبعضهم لايفرح بذلك البعض بل يغتم به وان وافقها وينكر الموافقة لئلا يتبع أحد منهم شريعته صلى الله تعالى عليه وسلم كما في قصة الرجم وأنت تعلم أن الجوابين ليسا بشيء وعلى تفسير الموصول بعامة أهل الكتاب فسر البعض البعض بما لم يوافق ماحرفوه وبين ذلك بأن منهم من يفرح بما وافق ومنهم من ينكره لعناده وشدة فساده وانكارهم لمخالفة المحرف بالقول دون القلب لعلمهم به أو هو بالنسبة لمن لم يحرفه ولعل نعى الانكار أوفق بالمقام من نعي التحريف عليهم على مالا يخفى على المتأمل وقيل : المراد بالموصول مطلق المسلمين وبالأحزاب اليهود والنصارى والمجوس 1
وأخرج ذلك ابن جرير عن قتادة فالمراد بالكتاب القرآن ومعنى يفرحون استمرار فرحهم وزيادته وقالت فرقة : المراد بالأحزاب أحزاب الجاهلية من العرب وقال مقاتل : هم بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة قل صادعا بالحق غير مكترث بمنكر بعض ماأنزل اليك إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به
(13/165)

أي شيئا من الاشياء أو لاأفعل الاشراك به سبحانه والظاهر أن المراد قصر الأمر على عبادته تعالى خاصة وهو الذي يقتضيه كلام الامام حيث قال : إن إنما للحصر ومعناه إني ما أمرت الابعبادة الله تعالى وهو يدل على أنه لاتكليف ولا أمر ولا نهي الا بذلك وقيل : معناه انما أمرت بعبادته تعالى وتوحيده لابما أنتم عليه
وفي ارشاد العقل السليم أن المعنى الزاما للمنكرين وردا لانكارهم انما أمرت الى آخره والراد قصر الامر بالعبادة على الله تعالى لاقصر الامر مطلقا على عبادته سبحانه أي قل لهم : انما أمرت فيما أنزل الي بعبادة الله تعالى وتوحيده وظاهر أن لاسبيل لكم إلى انكاره لإطباق جميع الأنبياء عليهم السلام والكتب على ذلك لقوله تعالى : تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا فما لكم تشركون به عزيرا والمسيح عليهما السلام ولا يخفى أن هذا التفسير مبني على كون المراد من الاحزاب كفرة أهل الكتابين وهذا الكلام الزام لهم واعترض بان منهم من ينكر التوحيد واطباق جميع الانبياء والكتب عليه كالمثلثة من النصارى
وأجيب بأنهم مع التثليث يزعمون التوحيد ولا ينكرونه كما يدل عليه قولهم : باسم الاب والابن وروح القدس الهآ واحدآ وأنت تعلم أن هذا مما لا يحتاج اليه والاعتراض ناشىء من الغفلة عن المراد وقد يقال : المعنى إنما أمرت بعبادة الله تعالى وعدم الاشراك به وذلك امر تستحسنه العقول وتصرح به الدلائل الآفاقية والانفسية : وفي كل شىء له آية تدل على أنه واحد فانكاره دليل الحماقة وشاهد الجهالة لاينبغي لعاقل أن يلتفت اليه ويجري هذا على سائر تفاسير الاحزاب وقرأ أبو خليد عن نافع ولا أشرك بالرفع على القطع أي وأنا لاأشرك وجوز أن يكون حالا أي أن أعبد الله غير مشرك به قيل : وهو الأولى لخلو الاستئناف عن دلالة الكلام على أن المأمور به تخصيص العبادة به تعالى وفيه بحث اليه أي الى الله تعالى خاصة على النهج المذكور من التوحيد أو الى ما أمرت به من التوحيد أدعو الناس لا إلى غيره ولا الى شيء آخر مما لايطبق عليه الكتب الالهية والانبياء عليهم السلام فما وجه انكاركم قاله في الارشاد أيضا والأولى عود الضمير على الله تعالى كنظيره السابق وكذا اللاحق في قوله سبحانه : واليه أي الله تعالى وحده مآب
63
- أي مرجعي للجزاء وعلى ذلك اقتصر العلامة البيضاوي وكان قد زاد ومرجعكم فيما تقدم غير بعيد واعترض بأنه كان عليه أن يزيده هنا أيضا بل هذا المقام أنسب بالتعميم ليدل على ثبوت الحشر عموما وهو المروي عن قتادة وقد جعل الامام هذه الآية جامعة لكل مايحتاج المرء اليه من معرفة المبدأ والمعاد فقوله سبحانه : قل إنما أمرت أعبد الله ولا أشرك به جامع لكل ما وردالتكليف به وقوله تعالى : اليه أدعو مشير إلى نبوته عليه الصلاة و السلام وقوله جل وعلا : واليه مآب إشارة إلى الحشر والبعث والقيامة وأجاب الشهاب عن ذلك بقوله : إن قول الزمخشري اليه لا إلى غيره مرجعي وأنتم تقولون مثل ذلك فلا معنى لانكاركم فيه بيان لنكتة التخصيص من أنهم ينكرون حقيقة أو حكما فلا حاجة إلى مايقال لاحاجة لذكره لدلالة قوله تعالى : تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار انتهى
وهو كما ترى ولعل الأظهر أن يقال : إن دلالة الكلام عليه هنا ليست كدلالته عليه هناك إذ مساق الآية فيه للتخويف اللائق به اعتباره ومساقها هنا لأمر آخر والاقتصار على ذلك كاف فيه
(13/166)

وأنت تعلم أنه لامانع من اعتباره ويكون معنى الآية قل في جوابهم : إني إنما أمرني الله تعالى بما هو من معالي الامور واليه أدعو وقتا فوقتا واليه مرجعي ومرجعكم فيثيبني على ما أنا عليه وينتقم منكم على انكاركم وتخلفكم عن اتباع دعوتي أو فحينئذ يظهر حقية جميع ماأنزل الى ويتبين فساد رأيكم في انكاركم شيئا منه وقد يقال على عدم اعتباره نحو ما قيل فيما قبل : إن المعنى قل في مقابلة انكارهم إني إنما أمرني الله تعالى بما أمرني به واليه ادعو واليه مرجعي فيما يعرض لي في أمر الدعوة وغيره فلا أبالي بانكاركم فانه سبحانه كاف من رجع اليه ولعل هذا المعنى هنا من حيث انه فيه تأسيس محض منه هناك واقتصر في الارشاد على جعل الكلام الزاما وجعله نكتة أمره صلى الله عليه و سلم بأن يخاطبهم بذلك وذكر أن قوله تعالى : وكذلك أنزلناه حكما عربيا شروع في رد إنكارهم لفروع الشرائع الواردة ابتداء أو بدلا من الشرائع المنسوخة ببيان الحكمة في ذلك وأن الضمير راجع لماأنزل اليك والاشارة إلى مصدر أنزلناه أو انزل اليك اي مثل ذلك الانزال البديع الجامع لأصول مجمع عليها وفروع متشعبة الى موافقة ومخالفة حسبما يقتضيه قضية الحكمة أنزلناه حاكما يحكم في القضايا والواقعات بالحق ويحكم به كذلك والتعرض لهذا العنوان مع أن بعضه ليس بحكم لتربيته وجوب مراعاته وتحتم المحافظة عليه والتعرض لكونه عربيا أي مترجما بلسان العرب للاشارة إلى أن ذلك إحدى مواد المخالفة للكتب السابقة مع أن ذلك مقتضى الحكمة اذ بذلك يسهل فهمه وإدراك اعجازه يعني بالنسبة للعرب وأما بالنسبة الى غيرهم فلعل الحكمة ان ذلك يكون داعيا لتعلم العلوم التي يتوقف عليها ماذكر ومنهم من اقتصر على اشتمال الانزال على أصول الديانات المجمع عليها حسبما يفيده على رأي قوله تعالى : قل إنما أمرت إلى آخره وتعقب بأنه يأباه التعرض لاتباع أهوائهم وحديث المحو والاثبات وانه لكل أجل كتاب فان المجمع عليه لايتصور فيه الاستتباع والاتباع وقيل : ان الاشارة إلى انزال الكتب السالفة على الانبياء عليهم السلام والمعنى كما أنزلنا الكتب على من قبلك أنزلنا هذا الكتاب عليك لأن قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يتضمن انزاله تعالى ذلك وهذا الذي انزلناه بلسان العرب كما أن الكتب السابقة بلسان من أنزلت عليه وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم والى هذا ذهب الإمام وأبو حيان وقال ابن عطية : المعنى كما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لانكار البعض أنزلناه حكما الى آخره وليته ما قيل والابلغ الاحتمال الأول مما أشرنا اليه ونصب حكما على الحال من المنصوب أنزلناه واذا أريد به حاكما كان هناك مجاز في النسبة كما لايخفى ونصب عربيا على الحال أيضا أما من ضمير انزلناه كالحال الأولى فتكون حالا مترادفة أو من المستتر في الأولى فتكون حالا متداخلة ويصح أن يكون وصفا لحكما الحال وهي موطئة وهي الاسم الجامد الواقع حالا لوصفه بمشتق وهو الحال في الحقيقة والاول أولى لأن حكما مقصود بالحالية هنا والحال الموطئة لاتقصد بالذات
واختار الطبرسي أن معنى حكما حكمة كما في قوله تعالى : وءاتيناه الحكم والنبوة وهو أحد أوجه ذكرها الامام ونصبه على الحال أيضا فلا تغفل واستدلت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن من وجوه الاول انه تعالى وصفه بكونه منزلا وذلك لايليق الا بالمحدث
الثاني أنه وصفه بكونه عربيا والعربي أمر وضعي وما كان كذلك كان محدثا الثالث أنها دلت على أنه انما كان حكما عربيا لأن الله تعالى جعله كذلك والمجعول محدث وأجاب الامام بأن كل ذلك انما يدل على ان المركب من الحروف والاصوات محدث ولا نزاع فيه
(13/167)

أي بين المعتزلة والاشاعرة والا فالحنابلة على مااشتهر عنهم قائلون بقدم الكلام اللفظي وقد أسلفنا في المقدمات كلاما نفيسا في مسألة الكلام فارجع اليه ولا يهولنك قعاقع المخالفين لسلف الأمة
ولئن اتبعت أهواءهم التي يدعونك اليها كالصلاة إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة إلى الكعبة وكترك الدعوة إلى الاسلام بعد ما جاءك من العلم العظيم الشأن الفائض عليك من ذلك الحكم العربي أوالعلم بمضمونه مالك من الله من جنابهالعزيز جل شأنه والالتفات من التكلم إلى الغيبة وإيراد الاسم الجليل لتربية المهابة من ولي يلي أمرك وينصرك على من يبغيك الغوائل ولا واق
73
- يقيك من مصارع السوء وحيث لم يستلزم نفي الناصر على العدو نفي الواقي من نكايته أدخل في المعطوف حرف النفي للتأكيد كقولك : مالي دينار ولا درهم أو مالك من بأس الله تعالى من ناصر وواق لاتباعك أهواءهم بعد ما جاءك من الحق وأمثال هذه القوارع إنما هي لقطع أطماع الكفرة وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين لا للنبي صلى الله عليه و سلم فانه عليه الصلاة و السلام بمكان لايحتاج فيه إلى باعث أو مهيج ومن هنا قيل : إن الخطاب لغيره صلى الله عليه و سلم واللام في لئن موطئة و من الثانية مزيدة و مالك ساد مسد جوابي الشرط والقسم ولقد أرسلنا رسلا كثيرة كائنة من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية أي نساء وأولادا كما جعلناها لك روى عن الكلبي أن اليهود عيرت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا : مانرى لهذا الرجل همة الا النساء والنكاح ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فنزلت ردا عليهم حيث تضمنت أن التزوج لاينافي النبوة وأن الجمع بينهما قد وقع في رسل كثيرة قبله
ذكر أنه كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهرية وسبعمائة سرية وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولم يتعرض جل شأنه لرد قولهم : ما نرى لهذا الرجل همة الا النساء للاشارة إلى أنه لايستحق جوابا لظهور أنه عليه الصلاة و السلام لم يشغله أمر النساء عن شيء ما من أمر النبوة وفي أدائه صلى الله تعالى عليه وسلم للامرين على أكمل وجه دليل وأي دليل على مزيد كماله ملكية وبشرية ومما يوضح ذلك أنه صلى الله عليه و سلم كان يجوع الأيام حتى يشد على بطنه الشريف الحجر ومع ذا يطوف على جميع نسائه في الليلة الواحدة لايمنعه ذاك عن هذا
وفي تكثير نسائه عليه الصلاة و السلام فوائد جمة ولو لم يكن فيه سوى الوقوف على استواء سره وعلنه لكفى وذلك لأن النساء من شأنهن أن لايحفظن سرا كيفما كان فلو كان منه عليه الصلاة و السلام في السر ما يخالف العلن لوقفن عليه مع كثرتهن ولو كن قد وقفن لأفشوه عملا بمقتضى طباع النساء لاسيما الضرائر
ومن وقف على الآثار وأحاط خبرا بما روى عن هاتيك النساء الطاهرات علم أنهن لم يتركن شيئا من أحواله الخفية الا ذكروه وناهيك ماروى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الايلاج بدون انزال هل يوجب الغسل ام لا فسألوا عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت ولا حياء في الدين : فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم معي فاغتسلنا جميعا وروى أنهم طعنوا في نبوته بالتزوج وبعدم الاتيان بما يقترحونه من الآيات فنزل ذلك وقوله تعالى : وما كان لرسول أن يأتي بآية الا باذن الله أي وما صح وما استقام ولم يكن في وسع رسول من الرسل الذين من قبل أن يأتي من أرسل اليهم بآية ومعجزة يقترحونها عليه الا بتيسير الله تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح التي يدور عليها أمر الكائنات وقد يراد بالآية الآية الكتابية النازلة بالحكم
(13/168)

على وفق مراد المرسل اليهم وهو أوفق بما بعد وجوز ارادة الامرين باعتبار عموم المجاز أي الدال مطلقا أو على استعمال اللفظ في معنييه بناء على جوازه والالتفات لما تقدم ولتحقيق مضمون الجملة بالايماء الى العلة
لكل أجل أي لكل وقت ومدة من الاوقات والمدد كتاب
83
- حكم معين يكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمة فان الشرائع كلها لاصلاح أحوالهم في المبدأ والمعاد ومن قضية ذلك أن تختلف حسب أحوالهم المتغيرة حسب تغير الاوقات كاختلاف العلاج حسب اختلاف أحوال المرضى بحسب الاوقات وهذا عند بعض رد لما أنكروه عليه عليه الصلاة و السلام من نسخ بعض الاحكام كما أن ماقبله رد لطعنهم بعدم الاتيان بالمعجزات المقترحة
يمحو الله ما يشاء أي ينسخ مايشاء نسخة من الاحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت بدله مافيه الحكمة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت مايشاء اثباته مطلقا أعم منهما ومن الانشاء ابتداء وقال عكرمة : يمحو بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل ذلك حسنات كما قال تعالى : ألا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات وقال ابن جبير : يغفر لمن يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفره وقال : يمحو ما يشاء حان أجله ويثبت مايشاء ممن لم يأت أجله وقال علي كرم الله تعالى وجهه : يمحو من يشاء من القرون لقوله تعالى : أولم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ويثبت مايشاء منها لقوله سبحانه : ثم انشأنا من بعدهم قرونا آخرين وقال الربيع : هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها الله تعالى اليه فمن أراد موته فجأة أمسك روحه فلم يرسلها ومن أراد بقاءه أرسل روحه بيانه قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها الآية وعن ابن عباس والضحاك يمحو من ديوان الحفظة ماليس بحسنة ولا بسيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت ما هو حسنة أو سيئة وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الاناسي وسائر الحيوانات والنباتات والأشجار وصفاتها وأحوالها وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة وقال الحسن وفرقة : ذلك في آجال بني آدم يكتب سبحانه في ليلة القدر وقيل : في ليلة النصف من شعبان آجال الموتى فيمحو أناسا من ديوان الأحياء ويثبتهم في ديوان الاموات وقال السدي : يمحو القمر ويثبت الشمس بيانه قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمحو الله تعالى مايشاء من أمور عباده ويثبت الا السعادة والشقاوة والآجال فانها لامحو فيها ورواه عنه مرفوعا ابن مردويه وقيل : هو عام في الرزق والاجل والسعادة والشقاوة ونسب الى جماعة من الصحابة والتابعين وكانوا يتضرعون الى الله تعالى أن يجعلهم سعداء فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وغيره عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : ما دعا عبد قط بهذه الدعوات الا وسع عليه في معيشته يا ذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال والاكرام يا ذا الطول لا آله الا انت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين ان كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيا فامح عني اسم الشقاوة وأثبتني عندك سعيدا وان كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محروما مقترا علي رزقي فامح حرماني ويسر رزقي وأثبتني عندك سعيدا موفقا للخير فانك تقول في كتابك الذي أنزلت يمحو الله مايشاء ويثبت وعنده أم الكتاب واخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه انه قال : وهو يطوف بالبيت : اللهم
(13/169)

إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه واجعله سعادة ومغفرة فانك تمحو ماتشاء وتثبت وعندك أم الكتاب
وأخرج ابن جرير عن شقيق أبي وائل أنه كان يكثر الدعاء بهذه الدعوات اللهم ان كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء وان كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا فانك تمحو ماتشاء وتثبت
واخرج ابن سعد وغيره عن الكلبي انه قال : يمحو الله تعالى من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الاجل ويزيد فيه فقيل له : من حدثك بهذا فقال : أبو صالح عن جابر بن عبدالله بن رئاب الانصاري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو حيان يقول : ان صح شيء من ذلك ينبغي تأويله فمن المعلوم ان السعادة والشقاوة والرزق والاجل لايتغير شيء منها والى التعميم ذهب شيخ الاسلام قال بعد نقل كثير من الأقوال : والانسب تعميم كل من المحو والاثبات ليشمل الكل ويدخل في ذلك موارد الانكار دخولا أوليا وما أخرجه ابن جرير عن كعب من أنه قال لعمر رضي الله تعالى عنه : ياأمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله تعالى لأنبئتك بما هو كائن الى يوم القيامة قال : وما هي قال قوله تعالى : يمحو الله مايشاء الآية يشعر بذلك وأنت تعلم أن المحو والاثبات اذا كانا بالنسبة الى مافي ايدي الملائكة ونحوه فلا فرق بين السعادة والشقاوة والرزق والاجل وبين غيرها في ان كلا يقبل المحو والاثبات وان كانا بالنسبة الى ما في العلم فلا فرق أيضا بين تلك الأمور وبين غيرها في ان كلا لا يقبل ذلك لأن العلم انما تعلق بها على ماهي عليه في نفس الامر والا لكان جهلا وما في نفس الامر مما لايتصور فيه التغير والتبدل وكيف يتصور تغير زوجية الاربعة مثلا وانقلابها الى الفردية مع بقاء الاربعة أربعة هذا مما لايكون أصلا ولا أظنك في مرية من ذلك ولا يأبى هذا عموم الادلة الدالة على أنه ماشاء الله تعالى كان لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم بالشيء تابع لما عليه الشيء في نفس الأمر فهو سبحانه لايشاء الا ما عليه الشيء في نفس الامر قيل : ويشير الى أن مافي العلم لايتغير قوله سبحانه : وعنده أم الكتاب
93
- بناء على أن أم الكتاب هو العلم لأن جميع مايكتب في صحف الملائكة وغيرها لايقع حيثما يقع الا موافقا لما ثبت فيه فهو أم لذلك أي اصل له فكأنه قيل : يمحو مايشاء محوه ويثبت مايشاء اثباته مما سطر في الكتب وثابت عنده العلم الأزلي الذي لايكون شيء الا على وفق ما فيه وتفسير أم الكتاب بعلم الله تعالى مما رواه عبدالرزاق وابن جرير عن كعب رضي الله تعالى عنه والمشهور أنها اللوح المحفوظ قالوا : وهو أصل الكتب اذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو
والظاهر ان المراد الذاهب والثابت مما يتعلق بالدنيا 1 لا مما يتعلق بها وبالآخرة أيضا لقيام الدليل العقلي على تناهي الابعاد مطلقا والنقلي على تناهي اللوح بخصوصه فقد جاء انه من درة بيضاء له دفتان من ياقوت طوله مسيرة خمسمائة عام وامتناع ظرفية المتناهي لغير المتناهي ضروري ولعل من يقول بعموم الذاهب والثابت يلتزم القول بالاجمال حيث يتعذر التفصيل وقد ذهب بعضهم الى تفسير أم الكتاب بما هو المشهور والتزم القول بأن مافيه لايتغير وإنما التغير لما في الكتب غيره وهذا قائل بعدم تغير مافي العلم لما علمت ورأيت في نسخة لبعض الافاضل كانت عندي وفقدت في حادثة بغداد ألفت في هذه المسئلة وفيها أنه ما من شيء الا ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الأزلي واستدل لذلك بأمور منها أنه قد صح من دعائه
(13/170)

صلى الله تعالى عليه وسلم في القنوت : وقني شر ماقضيت وفيه طلب الحفظ من شر القضاء الأولي ولو لم يمكن تغييره ماصح طلب الحفظ منه ومنها ماصح في حديث التراويح من عذره صلى الله عليه و سلم عن الخروج اليها وقد اجتمع الناس ينتظرونه لمزيد رغبتهم فيها بقوله : خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها فانه لامعنى لهذه الخشية لو كان القضاء الأزلي لايقبل التغيير فانه إن كان قد سبق القضاء بأنها ستفرض فلابد أن تفرض وإن سبق القضاء بأنها لاتفرض فمحال أن تفرض على ذلك الفرض على أنه قد جاء في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج بعد ماهو ظاهر في سبق القضاء بأنها خمس صلوات مفروضة لاغير فما معنى الخشية بعد العلم بذلك لولا العلم بامكان التغيير والتبديل ومنها ما صح أنه صلى الله عليه و سلم كان يضطرب حاله الشريف ليلة الهواء الشديد حتى أنه لاينام وكان يقول في ذلك : أخشى أن تقوم الساعة فانه لامعنى لهذه الخشية أيضا مع اخبار الله تعالى أن بين يديها ما لم يوجد إذ ذاك كظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الارض وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يستدعي تحققه زمانا طويلا فلو لم يكن عليه الصلاة و السلام يعلم أن القضاء يمكن تغييره وان ماقضى من أشراطها يمكن تبديله ماخشى صلى الله عليه و سلم من ذلك ومنها أن المبشرين بالجنة كانوا من أشد الناس خوفا من النار حتى أن منهم من كان يقول : ليت أمي لم تلدني وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول : لو نادى مناد كل الناس في الجنة الا واحدا لظننت أني ذلك الواحد وهذا مما لاينبغي له مع اخبار الصادق وتبشيره له بالجنة والعلم بأن القضاء لايتغير ومنها أنه لولا امكان التغيير للغا الدعاء إذ المدعو به إما أن يكون قد سبق القضاء بكونه فلا بد أن يكون والا فمحال أن يكون وطلب ما لابد أن يكون أو محال أن يكون لغو مع أنه قد ورد الأمر به والقول بأنه لمجرد اظهار العبودية والافتقار إلى الله تعالى وكفى بذلك فائدة يأباه ظاهر قوله تعالى : ادعوني أستجب لكم وأيضا أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : لاينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء مايشاء من القدر واخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : يمحو الله مايشاء الآية فقال له عليه الصلاة و السلام : لأقرن عينك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء وهذا لايكاد يعقل على تقدير أن القضاء لايتغير وفي الاخبار والآثار مما هو ظاهر في امكان التغيير مالايحصى كثرة ولعل من ذلك الدعاء المار عن ابن مسعود ثم ان القضاء المعلق يرجع في المال إلى القضاء المبرم عند مثبته فلا يفيده التعلق بذلك في وقع مايرد عليه ودفع مايرد على القول بالتغير من أنه يلزم منه التغير في ذاته تعالى لما أنه ينجر إلى تغير العلم وهو يوجب التغير في ذاته تعالى من صفة إلى أخرى أو يلزم من ذلك الجهل وهذا مأخوذ من الشبهة التي ذكرها جمهور الفلاسفة في نفي علم الله تعالى بالجزئيات المتغيرة فانهم قالوا : إنه تعالى إذا علم مثلا أن زيدا في الدار الآن ثم خرج عنها فاما أن يزول ذلك العلم ولا يعلم سبحانه أنه في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله والاول يوجب التغير في ذاته سبحانه والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه بما دفعوا به تلك الشبهة وهو ماذكر في المواقف وشرحه من منع لزوم التغير فيه تعالى بل التغير إنما هو في الاضافات لأن العلم عندنا اضافة مخصوصة وتعلق بين العالم والمعلوم أو صفة حقيقية ذات اضافة فعلى الاول يتغير نفس العلم وعلى الثاني يتغير اضافاته فقط وعلى التقديرين لايلزم تغير في صفة موجودة
(13/171)

بل في مفهوم اعتباري وهو جائز وأجاب كثير من الاشاعرة والمعتزلة بأن العلم بأن الشيء وجد والعلم بأنه سيوجد واحد فأن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم بأنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرا بلا غفلة مزيلة له وإنما يحتاج احدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة فكان علمه سبحانه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم تغير في العلم ونهاية كلامه في هذا المقام أنه يجوز أن يتغير مافي علم الله تعالى والا لتعين عليه سبحانه الفعل أو الترك وفيه من الحجر عليه جل جلاله مالايخفى ولايلزم من ذلك التغير سوى التغير في التعلقات وهو غير ضار واعترض بأنه على هذا القول لايبقى وثوق بشيء من الاخبار الغيبية كالحشر والنشر وكذا لايبقى وثوق بالاخبار بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم النبيين لجواز أن يكون الله تعالى قد علم ذلك حين أخبر ثم تعلق علمه بخلافه لكنه سبحانه لم يخبر ولا نقص في الاخبار الاول لأنه اخبار عما كان متعلق العلم إذ ذاك وايضا يلزم من ذلك نفي نفس الامر أو نفي كون تعلق العلم عن وقفه وكلا النفيين كما ترى يقي الجواب عما تمسك به وهو عن بعض ظاهر وعن بعض يحتاج إلى تأمل فتأمل واستدل بالآية بعض الشيعة القائلين بجواز البداء على الله سبحانه وفيه مافيه هذا
ويخطر لي في الآية معنى لم أر من ذكره وهو أن يراد بقوله سبحانه : يمحو الله مايشاء ويثبت ماذكرناه أولا قبل حكاية الاقوال وهو مما رواه البيهقي في المدخل وغيره عن ابن عباس وابن جرير عن قتادة ويخصص ذلك بالاحكام الفرعية ويراد بأم الكتاب الاحكام الأصلية فانها مما لاتقبل النسخ وهي أصل لكل كتاب باعتبار أن الاحكام الفرعية التي فيه انما تصح ممن أتى بها لكن لايساعد على هذا المأثور عن السلف نعم هو مناسب للمقام كما لايخفى وزعم الضحاك والفراء ان في الاية قلبا والاصل لكل كتاب اجل وتعقب بأن لايجوز ادعاء القلب الا في ضرورة الشعر على أنه لاداعي اليه هنا بل قد يدعى فساد المعنى عليه وأيا ما كان فأل في الكتاب للجنس فهو شامل للكثير ولهذا فسره غير واحد بالجمع وقرأ نافع وابن عامر ويثبت بالتشديد وإن مانرينك أصله إن نريك و ما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ومن ثمة الحقت النون بالفعل قال ابن عطية : ولو كانت إن وحدها لم يجز الحاق النون وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه قال ابن خروف : أجاز سيبويه الاتيان بما وعدم الاتيان بها والاتيان بالنون مع ما وعدم الاتيان بها والاراءة هنا بصرية والكاف مفعول أول وقوله سبحانه : بعض الذي نعدهم مفعول ثان والمراد بعض الذي وعدناهم من انزال العذاب عليهم والعدول الى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو نعدهم وعدا متجددا حسب ماتقتضيه الحكمة من انذار عقيب انذار : وفي ايراد البعض رمز على ماقيل الى اراءة بعض الموعود أو نتوفينك قبل ذلك فانما عليك البلاغ أي تبليغ أحكام ماأنزلنا عليك وما تضمنه من الوعد والوعيد لاتحقيق مضمون الوعيد الذي تضمنه ذلك فالمقصور عليه البلاغ ولهذا قدم الخبر وهذا الحصر مستفاد من إنما لا من التقديم والا لإنعكس المعنى وقوله تعالى وعلينا الحساب
4
- الظاهر أنه معطوف على مافي حيز إنما فيصير المعنى انما علينا محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها دون جبرهم على اتباعك أو انزل ما اقترحوه عليك من الايات واعتبر الزمخشري عطفه على جملة انما
(13/172)

عليك البلاغ فيصير المعنى وعلينا لاعليك محاسبة أعمالهم قيل : وهو الظاهر ترجيحا للمنطوق على المفهوم اذا اجتمع دليلا حصر وحاصل معنى الآية كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نركه فعلينا ذلك وما عليك الا التبليغ فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك به من الظفر ولا يضجرك تأخره فان ذلك لما نعلم من الصالح الخفية وفي البحر عن الحوفي انه قد تقدم في الآية شرطان نرينك ونتوفيك لأن المعطوف على الشرط شرط وقوله تعالى : فانما عليك البلاغ لايصلح أن يكون جوابا للشرط الاول ولا للشرط الثاني لأنه لايترتب على شيء منهما وهو ظاهر فيحتاج الى تأويل وهو ان يقدر لكل شرط منهما مايناسب ان يكون جزاء مترتبا عليه فيقال والله تعالى أعلم : وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذلك شافيك من أعدائك ودليل صدقك وإما نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولاعتب ويكون قوله تعالى : فانما الخ دليلا عليهما والواقع من الشرطين هو الاول كما في بدر
ثم انه سبحانه طيب نفسه عليه الصلاة و السلام بطلوع تباشير الظفر فقال جل شأنه : أولم يروا الخ والاستفهام للانكار والواو للعطف على مقدر بقضيته المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا في ذلك ولم يروا أنا نأتي الأرض أي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها من جوانبها بأن نفتحها شيئا فشيئا ونلحقها بدار الاسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والاسر والاجلاء أليس هذا مقدمة لذلك
ومثل هذه الآية قوله تعالى : أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون وروى ذلك عن ابن عباس والحسن والضحاك وعطية والسدي وغيرهم وروى عن ابن عباس أيضا وأخرجه الحاكم عنه وصححه أن انتقاص الارض موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الاقتصار على الاخير وروى أيضا عن مجاهد فالمراد من الارض جنسها والاطراف كما قيل بمعنى الاشراف ومجيء ذلك بهذا المعنى محكي عن ثعلب واستشهد له الواحدي بقول الفرزدق : وأسأل بنا وبكم اذا وردت مني أطراف كل قبيلة من يمنع وقريب من ذلك قول ابن الاعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم وقول بعضهم : طرف كل شيء خياره وجعلوا من هذا قول علي كرم الله تعالى وجهه : العلوم أودية في أي واد أخذت منها خسرت فخذوا من كل شيء طرفا قال ابن عطية : أراد كرم الله تعالى خيارا وأنت تعلم ان الأظهر جانبا وادعى الواحدي أن تفسير الآية بما تقدم هو اللائق وتعقبه الامام بأنه يمكن القول بلياقة الثاني وتقرير الآية عليه أولم يروا انا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة وموتا بعد حياة وذلا بعد عز ونقصا بعد كمال وهذه تغييرات مدركة بالحس فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله تعالى الامر عنهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهو كما ترى وقيل : نقصها هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وخراب أرضهم أي ألم يروا هلاك من قبلهم وخراب ديارهم فكيف يأمنون من حلول ذلك بهم والأول أيضا أوفق بالمقام منه ولا يخفى مافي التعبير بالاتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة كما في قوله تعالى : وقدمنا الى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثورا وفي الحواشي الشهابية أن المعنى يأتيها أمرنا وعذابنا وجملة ننقصها في موضع الحال من فاعل يأتي أو من مفعوله وقرأ الضحاك ننقصها مثقلا من نقص
(13/173)

عداه بالتضعيف من نقص اللازم على مافي البحر والله يحكم مايشاء كما يشاء وقد حكم لك ولأتباعك بالعز والاقبال وعلى اعدائك ومخالفيك بالقهر والاذلال حسبما يشاهده ذوو الابصار من المخائل والآثار وفي الالتفات من التكلم الى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالاشارة الى العلة مالايخفى وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ماتقدمها وقوله سبحانه : لا معقب لحكمه اعتراض أيضا لبيان علو شأن حكمه جل وعلا وقيل : هو نصب على الحال كأنه قيل : والله تعالى يحكم نافذا حكمه كما تقول : جاء زيد لاعمامة على رأسه ولا قلنسوة أي حاسرا واليه ذهب الزمخشري قيل : وإنما أول الجملة الاسمية بالمفرد لأن تجردها من الواو اذا وقعت حالا غير فصيح عنده ولا يخفى عليك أن جعلها معترضة أولى وأعلى والمعقب من يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقب الشيء بالابطال ومنه يسمى الذي يطلب حقا من آخر معقبا لأن يعقب غريمه ويتبعه للتقاضي قال لبيد : حتى تهجر بالرواح وهاجها طلب المعقب حقه المظلوم وقد يسمى الماطل معقبا لأنه يعقب كل طلب برد وعن أبي علي عقبني حقي أي مطلني ويقال للبحث عن الشيء تعقب وجوز الراغب أن يراد هذا المعنى هنا على أن يكون الكلام نهيا للناس أن يخوضوا في البحث عن حكمه وحكمته اذا خفيت عليهم ويكون ذلك من نحو النهي عن الخوض في سر القدر وهو سريع الحساب
14
- فعما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والاسر والاجلاء في الدنيا حسبما يرى وكأنه قيل : لاتستبطيء عقابهم فانه آت لامحالة وكل آت قريب وقال ابن عباس : المعنى سريع الانتقام
وقد مكر الكفار الذين خلوا من قبلهم من قبل كفار مكة بأنبيائهم وبالمؤمنين كما فعل هؤلاء وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم بأنه لاعبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة ولم يصرح سبحانه بذلك اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى : فلله المكر أي جنس المكر جميعا لاوجود لمكرهم أصلا اذ هو عبارة عن ايصال المكروه الى الغير من حيث لايشعر به وحيث كان جميع مايأتون ويذرون بعلمه وقدرته سبحانه وانما لهم مجرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله تعالى : يعلم ماتكسب كل نفس ومن قضيته عصمة أوليائه سبحانه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما كسبت ظهر أن ليس لمكرهم بالنسبة الى من مكروا بهم عين ولا أثر وان المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لايحتسبون كذا قاله شيخ الاسلام وقد تكلف قدس سره في ذلك ما تكلف وحمل الكسب على ماهو الشائع عند الاشاعرة والله تعالى لايفرق بينه وبين الفعل وكذا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعون واللغويون وقيل : وجه الحصر أنه لايعتد بمكر غيره سبحانه لأنه سبحانه هو القادر بالذات على اصابة المكروه المقصود منه وغيره تعالى ان قدر على ذلك فبتمكينه تعالى واذنه فالكل راجع اليه جل وعلا وفي الكشاف ان قوله تعالى : يعلم ماتكسب كل نفس الخ تفسير لقوله سبحانه : فلله المكر جميعا لأن من علم ماتكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فهو له المكر لأنه يأتيهم من حيث لايعلمون وهم في غفلة مما يراد بهم وقيل : الكلام على حذف مضاف اي فلله جزاء المكر وجوز في أل أن تكون للعهد أي له
(13/174)

تعالى المكر الذي باشروه جميع لا لهم على معنى أن ذلك ليس مكرا منهم بالانبياء بل هو بعينه مكر من الله تعالى بهم وهم لايشعرون حيث لايحيق المكر السيء الا بأهله وسيعلم الكفر حين يأتيهم العذاب لمن عقبى الدار
24
- أي العاقبة الحميدة في الفريقين وان جهل ذلك قبل : السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمه به حينئذ والمراد من الكافر الجنس فيشمل سائر الكفار وهذه قراءة الحرميين وأبي عمرو وقرأ باقي السبعة وسيعلم الكفار بصيغة جمع التكسير
وقرأ ابن مسعود الكافرون بصيغة جمع السلامة وقرأ أبي الذين كفروا وقرأ الكفر أي أهله وقرأ جناح بن حبيس وسيعلم بالبناء للمفعول من أعلم أي سيخبر واللام للنفع وجوز أن تكون للملك على معنى سيعلم الكفرة من يملك الدنيا آخرا وفسر عطاء الكافر بالمستهزئين وهم خمسة والمقسمين وهم ثمانية وعشرون وقال ابن عباس : يريد بالكافر أبا جهل وما تقدم هو الظاهر ولعل ماذكر من باب التمثيل ويقول الذين كفروا لست مرسلا قيل : قاله رؤساء اليهود
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له عليه الصلاة و السلام : هل تجدني في الإنجيل رسولا قال : لا فأنزل الله تعالى الآية فالمراد من الذين كفروا على هذا هذا ومن وافقه ورضى بقوله وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيبا منها أو للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم فانه جل وعلا قد أظهر على رسالتي من الأدلة والحجج مافيه غنى عن شهادة شاهد آخر وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهي قول مجاز من حيث أنه يغني غناها بل هو أقوى منها ومن عنده علم الكتب
34
- أي علم القرآن وما عليه من النظم المعجز قيل : والشهادة إن أريد بها تحملها فالأمر ظاهر وإن أريد أداؤها فالمراد بالموصول المتصف والعنوان من ترك العناد وآمن
وفي الكشف أن المعنى كفى هذا العالم شهيدا بيني وبينكم ولايلزم من كفايته في الشهادة أن يؤديها فمن أداها فهو شاهد أمين ومن لم يؤدها فهو خائن وفيه تعريض بليغ بأنهم لو أنصفوا شهدوا وقيل : المراد بالكتاب التوراة والانجيل والمراد بمن عنده علم ذلك الذين أسلموا من أهل الكتابين كعبد الله بن سلام واضرابه فانهم يشهدون بنعته عليه الصلاة و السلام في كتابهم وإلى هذا ذهب قتادة فقد أخرج عبدالرزاق وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في الآية : كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبدالله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي وجاء عن مجاهد وغيره وهي رواية عن ابن عباس أن المراد بذلك عبدالله ولم يذكروا غيره
وأخرج ابن مردويه من طريق عبدالملك بن عمير عن جندب قال : جاء عبدالله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال : أنشدكم بالله تعالى أتعلمون أني الذي أنزلت فيه ومن عنده علم الكتاب قالوا : اللهم نعم وأنكر ابن جبير ذلك فقد أخرج سعيد بن منصور وجماعة عنه أنه سئل أهذا الذي عنده علم الكتاب هو عبدالله بن سلام فقال : كيف وهذه السورة مكية والشعبي أنكر أن يكون شيء من القرآن نزل فيه
(13/175)

وهذا لايعول عليه فمن حفظ حجة على من لم يحفظ وأجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون : إن السورة مكية وبعض آياتها مدنية فلتكن هذه من ذلك وأنت تعلم أنه لابد لهذا من نقل
وفي البحر أن ماذكر لايستقيم إلا أن تكون هذه الآية مدنية والجمهور على أنها مكية وأجيب بأن ذلك لاينافي كون الآية مكية بأن يكون الكلام اخبارا عما سيشهد به ولك أن تقول إذا كان المعنى على طرز مافي الكشف وانه لايلزم من كفاية من ذكر في الشهادة اداؤها لم يضر كون الآية مكية وعدم إسلام عبدالله ابن سلام حين نزولها بل ولا عدم حضوره ولا مانع أن تكون الآية مكية والمراد من الذين كفروا أهل مكة وممن عنده علم الكتاب اليهود والنصارى كما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ويكون حاصل الجواب بذلك إنكم لستم بأهل كتاب فاسألوا أهله فانهم في جواركم نعم قال شيخ الاسلام : ان الآية مدنية بالاتفاق وكأنه لم يقف على الخلاف وقيل : المراد بالكتاب اللوح و من عبارة عنه تعالى وروى هذا عن مجاهد والزجاج وعن الحسن لا والله مايعني إلا الله تعالى والمعنى كما في الكشاف كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لايعلم علم مافي اللوح إلا هو شهيدا بيني وبينكم وبهذا التأويل صار العطف مثله في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم فلا محذور في العطف والحصر إما من الخارج لأن علم ذلك مخصوص به تعالى أو للذهاب إلى أن الظرف خبر مقدم فيفيد الحصر وقسم الحسن للمبالغة في رد مازعموا على ماقيل : وفي الكشف إنما بالغ الحسن لما قدمنا 1 من بناء السورة الكريمة على مابني وجعل السابقة مثل الخاتمة ومافي العطف من النكتة ولهذا فسره الزمخشري بقوله : كفى بالذي الخ عطفه عطف ذات على ذات إشارة الى الاستقلال بالشهادة من كل واحد من الوصفين من غير نظر إلى الآخر فالذي يستحق العبادة قد شهد بما شحن الكتاب من الدعوة إلى عبادته وبما أيد عبده من عنده بأنواع التأييد والذي لايعلم علم ما في اللوح أي علم كل شيء إلا هو قد شهد بما ضمن الكتاب من المعارف وأنزله على أسلوب فائق على المتعارف ويعضد ذلك القول أنه قرأ على كرم الله تعالى وجهه وأبى وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبدالرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبدالله ابن عمر وابن أبي اسحق ومجاهد والحكم والاعمش ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر والجار والمجرور خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه أيضا وابن السميقع والحسن بخلاف عنه ومن عنده بحرف الجر و علم الكتاب على أن علم فعل مبني للمفعول و الكتاب نائب الفاعل فان ضمير عنده على القراءتين راجع لله تعالى كما في القراءة السابقة على ذلك التأويل والاصل توافق القراآت وقيل : المراد بالكتاب اللوح وبمن جبريل عليه السلام وأخرج تفسير من بذلك ابن أبي حاتم عن ابن جبير وهو كما ترى
وقال محمد بن الحنفية والباقر كما في البحر : المراد بمن على كرم الله تعالى وجهه والظاهر أن المراد بالكتاب حينئذ القرآن ولعمري أن عنده رضي الله تعالى عنه علم الكتاب كملا لكن الظاهر أنه كرم الله تعالى وجهه غير مراد والظاهر أن من في قراءة الجمهور في محل جر بالعطف على لفظ الاسم الجليل ويؤيده أنه قرىء باعادة الباء في الشواذ وقيل : إنه في محل رفع بالعطف على محله لأن الباء زائدة وقال ابن عطية :
(13/176)

يحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره أعدل أو امضى قولا أو نحو هذا مما يدل عليه لفظ شهيدا ويراد بذلك الله تعالى وفيه من البعد مالا يخفى والعلم في القراءة التي وقع عنده فيها صلة مرفوع بالمقدر في الظرف فيكون فاعلا لأن الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول فعمل عمل الفعل كقولك : مررت بالذي في الدار أخوه فأخوه فاعل كما تقول : بالذي استقر في الدار أخوه قاله الزمخشري وليس بالمتحتم لأن الظرف وشبهه إذا وقعا صلتين أو صفتين أو حالين أو خبرين أو تقدمهما أداة نفي أو استفهام جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعلية وهو الأجود وجاز أن يكون مبتدأ والظرف أو شبهه في موضع الخبر والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر وهذا مبني على اسم الفاعل فكما جاز ذلك فيه وإن كان الاحسن اعماله في الاسم الظاهر فكذلك يجوز فيما ناب عنه من ظرف أو مجرور وقد نص سيبويه على اجازة ذلك في نحو مررت برجل حسن وجهه فاجاز رفع حسن على أنه خبر مقدم وقد توهم بعضهم أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مماذكر تحتم أعماله في الظاهر وليس كذلك وقد أعرب الحوفي عنده علم الكتاب مبتدأ وخبرا في صلة من وهو ميل إلى المرجوح وفي الآية على القراءتين بمن الجارة دلالة على أن تشريف العبد بعلوم القرآن من احسان الله تعالى اليه وتوفيقه نسأل الله تعالى أن يشرفنا بهاتيك العلوم ويوفقنا للوقوف على أسرار مافيه من المنطوق والمفهوم ويجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى واهتدى بهداه حتى لايضل ولا يشفى ببركة النبي صلى الله عليه و سلم
هذا ومن باب الاشارة في الآيات الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق قيل : عهد الله تعالى مع المؤمنين القيام له سبحانه بالعبودية في السراء والضراء والذين يصلون ماأمر الله به أن يوصل فيصلون بقلوبهم محبته وبأسرارهم مشاهدته سبحانه وقربته ويخشون ربهم عند تجلي الصفات في مقام القلب فيشاهدون جلال صفة العظمة ويلزمهم الهيبة والخشية ويخافون سوء الحساب عند تجلي الافعال في مقام النفس فينظرون إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف
وسئل ابن عطاء ما الفرق بين الخشية والخوف فقال : الخشية من السقوط عن درجات الزلفى والخوف من اللحوق بدركات المقت والجفا وقال بعضهم : الخشية أدق والخوف أصلب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم صبروا عما دون الله تعالى بالله سبحانه لكشف أنوار وجهه الكريم أو صبروا في سلوك سبيله سبحانه عن المألوفات طلبا لرضاه وأقاموا الصلاة صلاة المشاهدة أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات البدنية وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية أفادوا مما مننا عليهم من الاحوال والمقامات والكشوف وهذبوا المريدين حتى صار لهم ما صار لهم ظاهرا وباطنا أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات المالية أيضا ويدرءون بالحسنة الحاصلة لهم من تجلي الصفة الالهية السنية السيئة التي هي صفة النفس وقال بعضهم : يعاشرون الناس بحسن الخلق فان عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء أولئك لهم عقبى الدار البقاء بعد الفناء أو العاقبة الحميدة جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم قيل : يدخلون جنة الذات ومن صلح من آباء الارواح ويدخلون جنة الصفات بالقلوب ويدخلون جنة الافعال ومن صلح من أزواج النفوس وذريات القوى أو يدخلون جنات القرب والمشاهدة والوصال ومن صلح من المذكورين تبع لهم ولأجل عين ألف
(13/177)

عين تكرم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار يدخل عليهم أهل الجبروت والملكوت من كل باب من أبواب الصفات محيين لهم بتحايا الاشراقات النورية والامدادات القدسية أو يدخل عليهم الملائكة الذين صحبوهم في الدنيا من كل باب من أبواب الطاعة مسلمين عليهم بعد استقرارهم في منازلهم كما يسلم أصحاب الغائب عليه اذا قدم الى منزله واستقر فيه الذين آمنوا الايمان العلمي بالغيب وتطمئن قلوبهم بذكر الله قالوا : ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم وذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال وذكر السر بالمناجاة وذكر الروح بالمشاهدة وذكر الخفاء بالمناغاة في العشق وذكر الله تعالى بالفناء فيه ألا بذكر الله تطمئن القلوب وذلك أن النفس تضطرب بظهور صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب ويتغير لذلك فاذا تفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجمال والجبروت استقر واطمأن وسائر أنواع الذكر انما يكون بعد الاطمئنان قال الهجويري : قلوب الاولياء مطمئنة لاتتحرك دائما خشية أن يتجلى الله تعالى عليها فجأة فيجدها غير متسمة بالادب الذين آمنوا وعملوا الصالحات تخلية وتحلية طوبى لهم بالوصول الى الفطرة وكمال الصفات وحسن مآب بالدخول في جنة القلب وهي جنة الصفات أو طوبى لهم الآن حيث لم يوجد منهم مايخالف رضاء محبوبهم وحسن مآب في الآخرة حيث لايجدون من محبوبهم خلاف مأمولهم أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أي بحسب كسبها ومقتضاه أي كما تقتضي مكسوباتها من الصفات والاحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء قل انما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ماأخرج سبحانه أحدا من العبودية حتى سيد أحرار البرية صلى الله تعالى عليه وسلم وفسرها أبو حفص بأنها ترك كل ملك وملازمة المأمور به
وقال الجنيد قدس سره : لايرتقي أحد في درجات العبودية حتى يحكم فيما بينه وبين الله تعالى أوائل البدايات وهي الفروض والواجبات والسنن والاوراد ومطايا الفضل عزائم الامور فمن أحكم على نفسه هذا من الله تعالى عليه بما بعده ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية فيه على ماقيل اشارة الى أنه اذا شرف الله تعالى شخصا بولايته لم يضر به مباشرة أحكام البشرية من الاهل والولد ولم يكن بسط الدنيا له قدحا في ولايته وقوله سبحانه : وما كان لرسول أن يأتي بآية الا باذن الله فيه منع طلب الكرامات واقتراحها من المشايخ لكل أجل كتاب لكل وقت أمر مكتوب يقع فيه ولا يقع في غيره ومن هنا قيل : الامور مرهونة لأوقاتها وقيل : لله تعالى خواص في الأزمنة والامكنة والاشخاص يمحو الله مايشاء ويثبت قيل : يمحو عن ألواح العقول صور الافكار ويثبت فيها أنوار الاذكار ويمحو عن اوراق القلوب علوم الحدثان ويثبت فيها لدنيات علم العرفان وقيل : يمحو العارفين بكشف جلاله ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله وقال ابن عطاء : يمحو أوصافهم ويثبت أسرارهم لأنها موضع المشاهدة وقيل : يمحو مايشاء عن الالواح الجزئية التي هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفني ويثبت مايشاء فيها فيوجد وعنده أم الكتاب العلم الأزلي القائم بذاته سبحانه وقيل : لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل وفيه كل ما كان ويكون أزلا وابدا على الوجه الكلي المنزه عن المحو والاثبات وذكروا ان الالواح أربعة لوح القضاء السابق العالي عن المحو والاثبات وهو لوح العقل الاول ولوح القدر وهو لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الاول وهو المسمى باللوح المحفوظ ولوح النفوس الجزئية
(13/178)

السماوية التي ينتقش فيها كل مافي هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الاول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه ثم لوح الهيولي القابل للصور في عالم الشهادة اه وهو كلام فلسفي أو لم يروا أنا نأتي الارض ننقصها من اطرافها قيل : ذلك بذهاب أهل الولاية الذين بهم عمارة الارض وقيل : الاشارة أنا نقصد أرض وقت الجسد الشيخوخة ننقصها من أطرافها بضعف الاعضاء والقوى الظاهرة والباطنة شيئا فشيئا حتى يحصل الموت أو نأتي أرض النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بافناء أفعالها بأفعالنا أولا وبافناء صفاتها ثانيا وبافناء ذاتها في ذاتنا ثالثا لامعقب لحكمه لاراد ولا مبدل لكل ما حكم به نسأل الله تعالى أن يحكم لنا بما هو خير وأولى في الآخرة والأولى بحرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم
سورة ابراهيم عليه السلام
41
- أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك وهو الذي عليه الجمهور وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فانهما نزلتا بالمدينة وهما ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين وأخرج نحوه أبو الشيخ عن قتادة وقال الامام : إذا لم يكن في السورة مايتصل بالاحكام فنزولها بمكة والمدينة سواء إذ لايختلف الغرض فيه إلا أن يكون فيها ناسخ أو منسوخ فتظهر فائدته يعني أنه لايختلف الحال وتظهر ثمرته الا بما ذكر فان لم يكن ذلك فليس فيه الا ضبط زمان النزول وكفى به فائدة هل في هذه السورة منسوخ أو لا قولان والجمهور على الثاني وعن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أن فيها آية منسوخة وهي قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الانسان لظلوم كفار فانه قد نسخت باعتبار الآخر بقوله تعالى في سورة النحل : وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الله لغفور رحيم وفيه نظر وهي إحدى وخمسون آية في البصري وقيل : خمسون فيه وإثنان وخمسون في الكوفي وأربع في المدني وخمس في الشامي وارتباطها بالسورة التي قبلها واضح جدا لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب وبيان انه مغن عما اقترحوه ماذكر وافتتحت هذه بوصف الكتاب والايماء إلى أنه مغن عن ذلك أيضا وإذا أريد بمن عنده علم الكتاب الله تعالى ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة وأيضا قد ذكر في تلك انزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح فيها بحكمة ذلك وصرح بها هنا وأيضا تضمنت تلك الأخبار من قبله تعالى بأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية الا باذن الله تعالى وتضمنت هذه الاخبار به من جهة الرسل عليهم السلام وأنهم قالوا : ما كان لنا أن نأتي بسلطان إلا بإذن الله وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة و السلام بأن عليه توكلت وحكى هنا عن اخوانه المرسلين عليهم السلام توكلهم عليه سبحانه وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه واشتملت تلك على تمثيل للحق والباطل واشتملت هذه على ذلك أيضا بناء على بعض ماستسمعه إن شاء الله تعالى في قوله سبحانه : مثلا كلمة طيبة الى آخره وأيضا ذكر في الأولى من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر إلى غير ذلك ماذكر وذكر هنا نحو ذلك إلا أنه سبحانه اعتبر ماذكر أولا آيات وماذكر ثانيا نعما وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الآخر وأيضا قد ذكر هناك مكر الكفرة وذكر هنا أيضا وذكر من وصفه مالم يذكر هناك وأيضا قال الجلال السيوطي : إنه ذكر في
(13/179)

الأولى قوله تعالى : ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم وذلك مجمل في أربعة مواضع الرسل والمستهزئين وصفة الاستهزاء والأخذ وقد فصلت الأربعة في قوله سبحانه : ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح الآيات وقد اشتركت السورتان مما عدا افتتاح كل منهما بالمتشابه بأن كلا قد افتتح بالألف واختتم بالباء وجمعا أيضا في آخر ما ختما به وبقىمناسبات بينهما غير ماذكرنا لو ذكرناها لطال الكلام والله تعالى أعلم بما في كتابه
بسم الله الرحمن الرحيم آلر مر الكلام فيما يتعلق به كتب جوز فيه أن يكون خبرا لألر على تقدير كونه مبتدأ أو لمبتدأ مضمر على تقدير كونه خبرا لمبتدأ محذوف أو مفعولا لفعل محذوف أو مسرودا على نمط التعديد وجوز أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ الذي أخبر عنه بالر وأن يكون مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه موصوفا في التقدير أي كتاب عظيم وقوله تعالى : أنزلنه اليك إما في موضع الصفة أو الخبر وهو مع مبتدآته قيل في موضع التفسير وفي اسناد الانزال إلى ضمير العظمة ومخاطبته عليه الصلاة و السلام مع اسناد الاخراج اليه صلى الله عليه و سلم في قوله سبحانه : لتخرج الناس من الظلمت إلى النور مالايخفى من التفخيم والتعظيم واللام متعلقة بأنزلناه والمراد من الناس جميعهم أي أنزلناه اليك لتخرجهم كافة بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند الله تعالى الكاشفة عن العقائد الحقة من عقائد الكفر والضلال وعبادة الله عز و جل من الآلهة المختلفة كالملائكة وخواص البشر والكواكب والاصنام التي كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة إلى الحق المؤسس على التوحيد الذي هو نور بحت وقريء ليخرج الناس بالياء التحتانية في يخرج ورفع الناس به بإذن ربهم أي بتيسيره وتوفيقه تعالى وهو مستعار من الاذن الذي يوجب تسهيل الحجاب لمن يقصد الورد ويجوز أن يكون مجازا مرسلا بعلامة اللزوم وقال محي السنة : إذنه تعالى أمره وقيل : علمه سبحانه وقيل : ارادته جل شأنه وهي على ماقيل متقاربة ومنع الامام ان يراد بذلك الامر أو العلم وعلله بما لايخلو عن نظر وفي الكلام على ماذكر أولا ثلاث استعارات احداها ماسمعت في الأذن والاخريان في الظلمات و النور وقد أشير إلى المراد منهما وجوز العلامة الطيبي أن تكون كلها استعارة مركبة تمثيلية بتصوير الهدى بالنور والضلال بالظلمة والمكلف المنغمس في ظلمة الكفر بحيث لايتسهل له الخروج إلى نور الايمان الا بتفضل الله تعالى بارسال رسول بكتاب يسهل عليه ذلك كمن وقع في تيه مظلم ليس منه خلاص فبعث ملك توقيعا لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملا هناك فقيل : كتاب أنزلناه إلى آخره وكان الظاهر باذننا إلا أنه وضع ذلك الظاهر موضع الضمير وقيل : ربهم للاشعار بالتربية واللطف والفضل وبأن الهداية لطف محض وفيه أن الكتاب والرسول والدعوة لاتجدي دون اذن الله تعالى كما قال سبحانه : إنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء اه وما ذكره من الاستعارة التمثيلية مع بلاغته وحسنه لايخلو عن بعد وكأنه للأنباء عن كون التيسير والتوفيق منوطين بالاقبال إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى : ويهدي اليه من أناب استعير لذلك الاذن الذي هو ما علمت وأضيف إلى ضمير الناس اسم الرب المفصح عن التربية التي هي عبارة عن تبليغ الشيء إلى كماله المتوجه اليه وشمول
(13/180)

الاذن بذلك المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الانزال لاخراجهم جميعا وعدم تحقق الاذن بالفعل في بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم ورداءة استعدادهم غير مخل بذلك ومن هنا فساد قول الطبرسي : إن اللام لام الغرض لا لام العاقبة والالزم أن يكون جميع الناس مؤمنين والواقع بخلافه وذكر الامام ان المعتزلة استدلوا بهذه الآية على أن أفعال الله تعالى تعلل برعاية المصالح ثم ساق دليل أصحابه على امتناع ذلك وذكر أنه إذا ثبت الامتناع يلزم تأويل كل ماأشعر بخلافه وتأويله بحمل اللام على لام العاقبة ونحوها ونقل عن ابن القيم وغيره القول بالتعليل وأنه مذهب السلف وأن في الكتاب والسنة مايزيد على عشرة آلاف موضع ظاهره في ذلك وتأويل الجميع خروج عن الانصاف وليس الدليل على امتناع ذلك من المتانة على وجه يضطر معه إلى التأويل والشيخ ابراهيم الكوراني في بعض رسائله كلام نفيس في هذا الغرض سالم فيما أرى عن العلة إن أردته فارجع اليه والباء متعلقة بتخرج على ماهو الظاهر وجوز أن يكون متعلقا بمضمر وقع حالا من مفعوله أي ملتبسين باذن ربهم ومنهم من جوز كونه حالا من فاعله أي ملتبسا باذن ربهم وتعقب بأنه يأباه اضافة الرب اليهم لا اليه صلى الله عليه و سلم ورد بمارد فتأمل واستدل بالآية القائلون بأن معرفة الله تعالى لاتحصل الا من طريق التعليم من الرسول صلى الله عليه و سلم حيث ذكر فيها أنه عليه الصلاة و السلام هو الذي يخرج الناس من ظلمات الضلال إلى نور الهدى وأجيب بأن الرسول عليه الصلاة و السلام كالمنبه وأما المعرفة فانما تحصل من الدليل واستدل بها أيضا كل من المعتزلة وأهل السنة على مذهبه في أفعال العباد وتفصيل ذلك في تفسير الامام
إلى صراط العزيز الحميد
1
- الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما تقدم أعني قوله تعالى : إلى النور وقال غير واحد : إن صراط بدل من النور وأعيد عامله وكرر لفظا ليدل على البدلية كما في قوله تعالى : للذين استضعفوا لمن آمن منهم ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بما قبله لأنه غير اجنبي إذ هو من معمولات العامل في المبدل منه على كل حال واستشكل هذا مع الاستعارة السابقة بأن التعقيب بالبدل لايتقاعد عن التعقيب بالبيان في مثل قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر وأجيب بأن الصراط استعارة أخرى للهدى جعل نورا أولا لظهوره في نفسه واستضاءة الضلال في مهواة الهوى به ثم جعل ثانيا جادة مسلوكة مأمونة لاكبنيات الطرق دلالة على تمام الارشاد
وفي الارشاد أن اخلال البيان والبدل بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز وهو ظاهر وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف على أنه جواب سائل يسأل إلى أي نور فقيل : إلى صراط إلى آخره وإضافة الصراط اليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له وتخصيص الوصفين الجليلين بالذكر للترغيب في سلوكه إذ في ذلك إشارة إلى أنه يعز سلوكه ويحمد سابله وقال أبو حيان : النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب وإخراج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لانزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لايقدر عليه سواه وصفة الحمد لانعامه بأعظم النعم لاخراج الناس من الظلمات إلى النور ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر
وقال الامام : إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه تعالى قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك بكونه غنيا عن الحاجات والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لاجرم قدم ذكر العزيز على ذكر
(13/181)

الحميد اه ولم نر تفسير الحميد بماذكر لغيره وفي المواقف وشرح أسماء الله تعالى الحسنى لحجة الاسلام الغزالي وغيرهما أن الحميد هو المحمود المثني عليه وهو سبحانه محمود بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له تعالى أبدا وبين هذا وما ذكره الامام بعد بعيد وأما ماذكره في العزيز فهو قول لبعضهم وقيل : هو الذي لامثل له
وربما يقال على هذا : إن التقديم للاعتناء بالصفات السلبية كما يؤذن به قولهم : التخلية أولى من التحلية وكذا قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ولعل كلامه قدس سره بعد لايخلو عن نظر وقوله تعالى : الله بالرفع على ماقرأ نافع وابن عامر خبر مبتدأ محذوف أي هو الله والموصول الآتي صفته وبالجر على قراءة باقي السبعة والأصمعي عن نافع بدل مما قبله في قول ابن عطية : والحوفي وأبي البقاء وعطف بيان في قول الزمخشري قال : لأنه أجري مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود بحق كما غلب النجم على الثريا ولعل جعله جاريا مجرى ذلك ليس لاشتراطه في عطف البيان بل لأن عطف البيان شرطه إفادة زيادة إيضاح لمتبوعه وهي هنا بكونه كالعلم باختصاصه بالمعبود بحق وقد خرج عن الوصية بذلك فليس صفة كالعزيز الحميد
ثم انه لايخفى عليك أنه عند الأئمة المحققين علم لا أنه كالعلم وعن ابن عصفور أنه لاتقدم صفة على موصوف الاحيث سمع وذلك قليل وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان : أحدهما أن تقدم الصفة وتبقيها على ما كانت عليه وفي اعراب مثل هذا وجهان : أحدهما اعرابه نعتا مقدما والثاني أن يجعل مابعد الصفة بدلا والوجه الثاني أن تضيف الصفة إلى الموصوف اه وعلى هذا يجوز أن يكون العزيز الحميد صفتين متقدمتين ويعرب الاسم الجليل موصوفا متأخرا ومما جاء فيه تقديم مالو أخر لكان صفة وتأخير مالو قدم لكان موصوفا قوله : والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسعد فلو جاء على الكثير لكان التركيب والمؤمن الطير العائذات ومثله قوله : لو كنت ذا نبل وذا تشديب لم أخش شدات الخبيث الذيب وجوز في قراءة الرفع كون الاسم الجليل مبتدأ وقوله تعالى الذي له اي ملكا وملكا ما في السموات وما في الأرض خبره وما تقدم أولى فان في الوصفية من بيان كمال فخامة شأن الصراط واظهار تحتم سلوكه على الناس ماليس في الخبرية والمراد بما في السموات وما في الارض ما وجد داخلا فيهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما ومن الناس من استدل بعموم ما على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى كما ذكره الامام وقوله تعالى : وويل للكافرين وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات الى النور بالويل
وهو عند بعض نقيض الوأل بالهمزة بمعنى النجاة فمعناه الهلاك فهو مصدر الا أنه لايشتق منه فعل انما يقال : ويلا له فينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لافادة معنى الثبات فيقال : ويل له كسلام عليك وقال الراغب : قال الاصمعي ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر وويس استصغار وويح ترحم ومن قال : هو واد في جهنم لم يرد أنه في اللغة موضوع لذلك وإنما أراد أن من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت له ذلك وقوله سبحانه : من عذاب شديد
2
- في موضع الصفة لويل ولا يضر الفصل على مافي البحر وغيره
(13/182)

بالخبر وجوز أن يكون في موضع الحال على مافي الحواشي الشهابية و من بيانية وجوز أن تكون ابتدائية على معنى أن الويل بمعنى عدم النجاة متصل بالعذاب الشديد وناشيء عنه وقيل ان الجار متعلق : بويل على معنى أنهم يولولون من العذاب ويضجون منه قائلين ياويلاه كقوله تعالى : دعوا هنالك ثبورا ومنع أبو حيان وأبو البقاء ذلك لما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر وهو لايجوز وقد مر قريبا في الرعد مايتعلق بذلك فتذكر فما في العهد من قدم وفي الكشاف أن من عذاب الخ متصل بالويل على معنى أنهم يولولون الى آخر ماذكرنا وهو محتمل لتعلقه به ولتعلقه بمحذوف واستظهر هذا في البحر وفي الكشف أن الزمخشري لما رأى أن الويل من الذنوب لا من العذاب كما يرشد اليه قوله تعالى : فويل لهم مما كتبت أيديهم وأمثاله اشار هنا الى أن الاتصال معنوي لا من ذلك الوجه فانه هناك جعل الويل نفس العذاب وهنا جعله تلفظهم بكلمة التلهف من شدة العذاب وكلاهما صحيح ولم يرد أن هنالك فصلا بالخبر لقرب مامر في قوله تعالى : سلام عليكم بما صبرتم اه
واعترض عليه بأنه لاحاجة لما ذكر من التكلف لأن اتصاله به ظاهر لايحتاج الى صرفه للتلفظ بتلك الكلمة و من بيانية لا ابتدائية حتى يحتاج الى ماذكر ولايخفى قوة ذلك وأنه لايحتاج الى التكلف ولو جعلت من ابتدائية فتأمل والظاهر أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الآخرة وجوز أن يكون المراد عذابا يقع بهم في الدنيا الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة أي يختارونها عليها فان المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب اليه من غيره فالسين للطلب والمحبة مجاز مرسل عن الاختيار والايثار بعلامة اللزوم في الجملة فلا يضر وجود أحدهما بدون الآخر كاختيار المريض الدواء المر لنفعه وترك مايحبه ويشتهيه من الاطعمة اللذيذة لضرره ولاعتبار التجوز عدى الفعل بعلى ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستحباب بمعنى أجاب والفعل مضمن معنى الاختيار والتعدية بعلى لذلك ويصدون عن سبيل الله يعوقون الناس ويمنعونهم عن دين الله تعالى والايمان به وهو الصراط الذي بين شأنه والاقتصار على الاضافة الى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لزوم الاختصار
وقرأ الحسن يصدون من أصد المنقول من صده صدودا اذا تنكب وحاد وهو ليس بفصيح بالنسبة الى القراءة الاخرى لأن في صده مندوحة عن تكلف النقل ولا محذور في كون القراءة المتواترة أفصح من غيرها ومن مجيء أصد قوله : أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم صدود السواقي عن أنوف الحوائم ونظير هذا وقفه وأوقفه ويبغونها أي يبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل الى الضمير أي يطلبون لها عوجا أي زيغا وأعوجاجا وهي أبعد شيء عن ذلك أي يقولون لمن يريدون صده واضلاله عن السبيل هي سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة وقيل : المعنى يطلبون أن يروا فيها ما يكون عوجا قادحا فيها كقول من لم يصل إلى العنقود وليسوا بواجدين ذلك وكلا المعنيين أنسب مما قيل : إن المعنى يبغون أهلها أن يعرجوا بالردة ومحل موصول هذه الصلات الجر على أنه بدل كما قيل من الكافرين فيعتبر كل وصف من أوصافهم بما يناسبه من المعاني المعتبرة في الصراط فالكفر المنبىء عن الستر بازاء كونه نورا واستحباب
(13/183)

الحياة الدنيا الفانية المفصحة عن وخامة العاقبة بمقابلة كون مسلوكه محمود العاقبة والصد عنه بازاء كونه سالكه عزيزا
وقال الحوفي وأبو البقاء : إنه صفة الكافرين ورد ذلك أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو من عذاب شديد سواء كان في موضع الصفة لويل أو متعلقا بمحذوف ونظير ذلك على الوصفية قولك : الدار لزيد الحسنة القرشي وهو لايجوز لأنك قد فصلت بين زيد وصفته بأجنبي عنهما والتركيب الصحيح فيه أن يقال : الدار الحسنة لزيد القرشي أو الدار لزيد القرشي الحسنة وقيل إذا جعل من عذاب شديد خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراضية لايضر الفصل بها وهو كما ترى وجوز أن يكون محله النصب على الذم أو الرفع عليه بأن يقدر أنه كان نعتا فقطع أي هم الذين وجوز أن لايقدر ذلك ويجعل مبتدأ خبره قوله تعالى أولئك في ضلال أي بعد عن الحق بعيد
3
- وهو على غير هذا الوجه استئناف في موضع التعليل وفيه تأكيد لما أشعر به بناء الحكم على الموصول والمراد أنهم قد ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل وفي الآية من المبالغة في ضلالهم مالايخفى حيث أسند فيها إلى المصدر ماهو لصاحبه مجازا كجد جده إلا أن الفرق بين مانحن فيه وذاك أن المسند اليه في الأول مصدر غير المسند وفي ذاك مصدره وليس بينهما بعد
ويجوز أن يقال : إنه أسند فيها ما للشخص الى سبب إتصافه بما وصف به بناء على أن البعد في الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده وسبب بعده ضلاله لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه فيكون كقولك : قتل فلانا عصيانه والاسناد مجازي وفيه المبالغة المذكورة أيضا وفي الكشاف هو من الاسناد المجازي والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله ويجوز أن يراد في ضلال ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل عن الطريق مكانا قريبا وبعيدا وكتب عليه في الكشف أن الاسناد المجازي على جعل البعد لصاحب الضلال لأنه الذي يتباعد عن طريق الضلال فوصف ضلاله بوصفه مبالغة وليس المراد ابعادهم في الضلال وتعمقهم فيه
وأما قوله : فيجوز أن يراد في ضلال ذي بعد فعلى هذا البعد صفة للضلال حقيقة بمعنى بعد غوره وأنه هاوية لا نهاية لها وقوله : أو فيه بعد علي جعل الضلال مستقر للبعد بمنزلة مكان بعيد عن الجادة وهو معنى بعده في نفسه عن الحق لتضادهما واليه الاشارة بقوله : لأن الضال قد يضل مكانا بعيدا وقريبا والغرض بيان غاية التضاد وأنه بعد لايوازن وزانه وعلى جميع التقادير البعد مستفاد من البعد المسافي إلى تفاوت مابين الحق والباطل أو مابين أهلهما وجاز أن يكون قوله : ذي بعد أو فيه بعد وجها واحدا إشارة الى الملابسة بين الضلال والبعد لابواسطة صاحب الضلال لكن الأول أولى تكثيرا للفائدة ثم قوله تعالى : أولئك في ضلال دون أن يقول سبحانه : أولئك ضالون ضلالا بعيدا للدلالة على تمكنهم فيه تمكن المظروف في الظرف وتصوير اشتمال الضلال عليهم اشتمال المحيط على المحاط وليكون كناية بالغة في اثبات الوصف أعني الضلال على الأوجه فافهم وما أرسلنا أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر ان شاء الله تعالى إجمالا من رسول إلا متلبسا بلسان قومه متكلما بلغة من أرسل اليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولا وقيل : بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم ولا ينتقض الحصر بلوط عليه السلام فانه تزوج منهم وسكن معهم وأما يونس عليه السلام فانه من القوم الذين أرسل اليهم كما قالوه فلا حاجة الى القول بأن ذلك باعتبار الاكثر
(13/184)

الأغلب ولعل الأولى ماذكرنا وقرأ أبو السمال وأبو الحوراء وأبو عمران الجوني بلسن باسكان السين على وزن ذكر وهي لغة في لسان كريش ورياش وقال صاحب اللوامح : إنه خاص باللغة واللسان يطلق عليها وعلى الجارحة وإلى ذلك ذهب ابن عطية وقرأ أبو رجاء وأبوالمتوكل والجحدري بلسن بضم اللام والسين وهو جمع لسان كعماد وعمد وقريء بلسن بضم اللام وسكون السين وهو مخفف لسن كرسل ورسل ليبين ذلك الرسول لهم لأولئك القوم الذين أرسل اليهم ما كلفوا به فيتلقوه منه بسهولة وسرعة فيمتثلوا ذلك من غير حاجة إلى الترجمة وحيث لم تتأت هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى إخوانه المرسلين أجمعين لعموم بعثته وشمول رسالته الأسود والاحمر والجن والبشر على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل اليه صلى الله عليه و سلم عليه حسب تعدد ألسنة الامم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالاعجاز مئنة لقدح القادحين واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الالجاء المنافي للتكليف وحصل البيان والتفسير اقتضت 1 الحكمة المنبىء عن العزة وجلالة الشأن المستنبع لفوائد غنية عن البيان على أن الحاجة الى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لابد لكل طائفة من معرفة توافق الكل حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحدا أو متعددا وفيه من التعذر مافيه ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة و السلام قومه الذي بعث بين ظهرانيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المبين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه بين ألامم أجمعين كذا قرر شيخ الاسلام والمسلمين وهو من الحسن بمكان بيد أن بعضهم أبقى الكلام على عمومه بحيث يشمل النبي 2 صلى الله عليه و سلم وأراد بالقوم الذين ذلك الرسول منهم وبعث فيهم والمراد من قومه صلى الله عليه و سلم العرب كلهم ونقل ذلك أبو شامة في المرشد عن السجستاني واحتج بقوله صلى الله عليه و سلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف وفيه نظر ظاهر
وقال ابن قتيبة : المراد منهم قريش ولم ينزل القرآن إلا بلغتهم وقيل : إنما نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : نزل القرآن بلغة مضر وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر سبعا منهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتميم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نزل بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة فقيل : وكيف فقال : لأن الدار واحدة يعني خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم وجاء عن أبي صالح عنه أنه قال : نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم عليا هوازن ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء : أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم والذي يذهب مذهب السجستاني يقول : إن في القرآن مانزل بلغة حمير وكنانة وجرهم وأزد شنوءة ومذحج وخثعم وقيس عيلان وسعد العشيرة وكندة وعذرة وحضرموت وغسان ومزينة ولخم وجذام وحنيفة واليمامة وسبأ وسليم وعمارة وطي وخزاعة وعمان وتميم
(13/185)

وأنمار والاشعرين والأوس والخزرج ومدين وقد مثل لكل ذلك أبو القاسم وذكر أبو بكر الواسطي أن في القرآن من اللغات خمسين لغة وسردها ممثلا لها إلا أنه ذكر أن فيه من غير العربية الفرس والنبط والحبشة والبربر والسرياني والعبراني والقبط والذاهب الى إلى ماذهب اليه ابن قتيبة يقول : إن مانسب الى غير قريش على تقدير صحة نسبته مما يوافق لغتهم ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال : إنه نزل أولا ولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح لسائر العرب أن تقرأه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها كاختلافهم في الالفاظ والاعراب ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل المراد لكن أنت تعلم أن هذه الاباحة لم تستمر وكون المتبادر من قومه عليه الصلاة و السلام قريشا مما لاأظن أن أحدا يمتري فيه ويليه في التبادر العرب وفي البحر أن سبب نزول الآية أن قريشا قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي وهذا ان صح ظاهر في العموم ثم إنه لايلزم من كون لغته لغة قريش أو العرب اختصاص بعثته صلى الله عليه و سلم بهم وإن زعمت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية اختصاص البعثة بالعرب لذلك وحكمة انزاله بلغتهم أظهر من أن تخفي وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم المعلوم من السياق فانه كما أخرج ابن أبي عن سفيان الثوري لم ينزل وحي الا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه وقيل : كان يترجم ذلك جبريل عليه السلام ونسب إلى الكلبي وفيه أنه إذا لم يقع التبيين الا بعد الترجمة فات الغرض مما ذكر وضمير لهم للقوم بلا خلاف وهم المبين لهم بالترجمة وفي الكشاف أن ذلك ليس بصحيح لأن ضمير لهم للقوم وهم العرب فيؤدي إلى أن الله تعالى أنزل التوراة مثلا بالعربية ليبين للعرب وهو معنى فاسد
وتكلف الطيبي دفع ذلك بأن الضمير راجع إلى كل قوم قوم بدلالة السياق والجواب كما في الكشف انه لايدفع عن الايهام على خلاف مقتضى المقام
واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية قال : لأن التوقيف لايحصل الا بارسال الرسل وقد دلت الآية على أن ارسال كل من الرسل لايكون الا بلغة قومه وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على ارسال الرسول وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالاصطلاح انتهى
وأجيب بأنا لانسلم توقف التوقيف على ارسال الرسل لجواز أن يخلق الله تعالى في العقلاء علما بأن الالفاظ وضعها واضع لكذا وكذا ولا يلزم من هذا كون العاقل عالما بالله تعالى بالضرورة بل الذي يلزم منه ذلك لو خلق سبحانه في العقلاء علما ضروريا بأنه تعالى الواضع واين هذا من ذاك على أنه لاضرر في التزام خلق الله تعالى هذا العلم الضروري وأي ضرر في كونه سبحانه معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء والقول بأنه يبطل التكليف حينئذ على عمومه غير مسلم وعلى تخصيصه بالمعرة مسلم وغير ضار فيضل الله من يشاء اضلاله أي يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية اليه فيه وقيل : يخذله فلا يلطف به لما يعلم أنه لاينجع فيه الالطاف ويهدي يخلق الهداية أو يمنح الالطاف من يشاء هدايته لما فيه من الأسباب المؤدية الى ذلك والالتفات باسناد الفعلين الى الاسم الجليل لتفخيم شأنهما وترشيح مناط كل منهما والفاء قيل فصيحة مثلها في قوله تعالى : فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت 1 كأنه قيل : فبينوه لهم فأضل الله
(13/186)

تعالى من شاء اضلاله وهدى من شاء هدايته حسبما اقتضته حكمته تعالى البالغة والحذف للايذان بأن مسارعة كل رسول الى ما أمر به وجريان كل من الفعلين على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان وفي الكشف وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا على معنى أرسلنا الكتاب للتبين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه والفاء على هذا تفصيلية والعدول الى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم السلام المتعاقبة عليهم وتقديم الاضلال على الهداية كما قال بعض المحققين إما لأنه ابقاء ما كان على ما كان والهداية انشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لاتأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم السلام وأن مدار الامر انما هو مشيئته تعالى بايهام أن ترتب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء وهذا محقق لما سلف من تقييد لاخراج من الظلمات الى النور باذن ربهم وهو العزيز فلا يغالب في مشيئته تعالى الحكيم
4
- فلا يشاء مايشاء الا لحكمة بالغة وفيه كما في البحر وغيره أن ما فوض الى الرسل عليهم الصلاة والسلام انما هو التبليغ وتبيين طريق الحق وأما الهداية والارشاد اليه فذلك بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم مايريد
ثم أن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه وقد ذكر المنزلة لها عدة تأويلات وللامام فيها كلام طويل ان أردته فارجع اليه ولقد أرسلنا موسى شروع في تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه الآية بآياتنا أي ملتبسا بها وهي كما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير الآيات التسع التي أجراها الله تعالى على يده عليه السلام وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة أن أخرج قومك بمعنى أي أخرج فإن تفسيرية لأن في الارسال معنى القول دون حروفه أو بأن أخرج فهي مصدرية حذف قبلها حرف الجر لأن ارسل يتعدى بالباء والجار يطرد حذفه قبل أن وأن واتصال المصدرية بالأمر أمر مر تحقيقه
وزعم بعضهم أن أن هنا زائدة ولايخفى ضعفه والمراد من قومه عليه السلام كما هو الظاهر بنو إسرائيل ومن إخراجهم إخراجهم بعد مهلك فرعون من الظلمت من الكفر والجهالات التي كانوا فيها وأدت بهم إلى أن يقولوا : ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إلى النور إلى الأيمان بالله تعالى وتوحيده وسائر ماأمروا به وقيل : أخرجهم من ظلمات النقص إلى نور الكمال وذكرهم بأيام الله أي بنعمائه وبلائه كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الطبري لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الكلام والعطف على أخرج وجوز أن تكون الجملة مستأنفة والالتفات من التكلم إلى الغيبة باضافة الايام إلى الاسم الجليل للايذان بفخامة شأنها والاشعار على ماقيل بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما يوهمه الاضافة إلى ضمير المتكلم وحاصل المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد وعن ابن عباس أيضا والربيع ومقاتل وابن زيد المراد بأيام الله وقائعه سبحانه ونقماته في الأمم الخالية ومن ذلك أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار ويوم الفجار ويوم قضة وغيرها واستظهره الزمخشري للغلبة العرفية وأن العرب استعملته للوقائع وأنشد الطبرسي
(13/187)

لذلك قول عمرو بن كلثوم : وأيام لنا غرر طوال عصينا الملك فيها ان ندينا وأنشده الشهاب للمعنى السابق وأنشد لهذا قوله :
وأيامنا مشهورة في عدونا
(13/188)

وأخرج النسائي وعبدالله بن أحمد في زوائد المسند والبيهقي في شعب الايمان وغيرهم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فسر الأيام في الآية بنعم الله تعالى وآلائه وروى ذلك ابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وجعل أبو حيان من ذلك بيت عمرو والأظهر فيه ماذكره الطبرسي
وأنت تعلم أنه إن صح الحديث فعليه الفتوى لكن ذكر شيخ الاسلام في ترجيح التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أولا على ماروى ثانيا بأنه يرد الثاني ماتصدى له عليه السلام بصدد الامتثال من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى بعد وهو يبعد صحة الحديث والقول بأن النقم بالنسبة إلى قوم نعم بالنسبة إلى آخرين كما قيل :
مصائب قوم عند قوم فوائد
مما لاينبغي أن يلتفت اليه عاقل في هذا المقام نعم ان قوله تعالى : اذكروا نعمة الله عليكم ظاهر في تفسير الايام بالنعم وما يستدعي غير ذلك ستسمع فيه أقوالا لايستدعيه على بعضها
وزعم بعضهم أن المراد من قومه عليه السلام القبط والظلمات والنور الكفر والايمان لاغير وقيل : قومه عليه السلام القبط وبنو إسرائيل وكان عليه السلام مبعوثا اليهم جميعا إلا أنه بعث إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله تعالى وأن لايشركوا به سبحانه شيئا وإلى بني إسرائيل بذلك وبالتكليف بفروع الشريعة
وقيل : هم بنو إسرائيل فقط إلا أن المراد من الظلمات والنور إن كانوا كلهم مؤمنين ظلمات ذل العبودية ونور عزة الدين وظهور أمر الله تعالى ونحن نقول : نسأل الله تعالى أن يخرجنا وأهل هذه الأقوال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إن في ذلك أي في التذكير بأيام الله تعالى أو في الأيام لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته وهي على الأول الأيام ومعنى كون التذكير ظرفا لها كونه مناطا لظهورها وعلى الثاني كذلك أيضا إلا أن كلمة في تجريدية أو هي عليه كل واحدة من النعماء والبلاء والمشار اليه المجموع المشتمل عليها من حيث هو مجموع وجوز أن يراد بالأيام فيما سبق أنفسها المنطوية على النعم والنقم فاذا كانت الاشارة اليها وحملت الآيات على النعماء والبلاء فأمر الظرفية ظاهر لكل صبار كثير الصبر على بلائه تعالى شكور
5
- كثير الشكر لنعمائه عز و جل
وقيل : المراد لكل مؤمن فعلى الأول الوصفان عبارتان لمعنيين وعلى هذا عبارة عن معنى واحد على طريق الكناية كحي مستوى القامة بادي البشرة في الكناية عن الانسان والتعبير عن المؤمن بذلك للأشعار بأن الصبر والشكر عنوان المؤمن الدال على مافي باطنه والمراد على ماقيل لكل من يليق بكمال الصبر والشكر أو الايمان ويصير أمره إلى ذلك لا لمن اتصف به بالفعل لأن الكلام تعليل للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدى إلى تلك المرتبة فان من تذكر ما فاض أو نزل عليه أو على ماقبله من النعمة والنقمة وتنبه لعاقبة الصبر والشكر أو الايمان لايكاد يفارق ذلك وتخصيص الآيات بالصبار الشكور لأنه المنتفع بها لا لأنها خافية عن غيره فان التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل وتقديم الصبر على الشكر لما أن الصبر مفتاح
(13/0)

الفرج المقتضي للشكر وقيل : لأنه من قبيل التروك يقال : صبرت الدابة إذا حبستها بلا علف والشكر ليس كذلك فانه كما قال الراغب تصور النعمة وإظهارها قيل : وهو مقلوب الكشر أي الكشف وقيل : أصله من عين شكرى أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه وهو على ثلاثة أضرب : شكر القلب وشكر اللسان وشكر الجوارح وذكر أن توفية شكر الله تعالى صعبة ولذلك لم يثن سبحانه بالشكر على أحد من أوليائه إلا على اثنين نوح 1 وإبراهيم 2 عليهما السلام وقد يكون انقسام الشكر على النعمة وعدم انقسام الصبر على النقمة وجها للتقديم والتأخير وقيل : ذلك لتقدم متعلق الصبر أعني البلاء على متعلق الشكر أعني النعماء
وإذ قال موسى شروع في بيان تصديه عليه السلام لما أمر به من التذكير للاخراج المذكور وإذ منصوب على المفعولية عند كثير بمضمر خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ماوقع فيه من الحوادث لما مر غير مرة أي أذكر لهم وقت قوله عليه السلام لقومه الذين أمرناه باخراجهم من الظلمات إلى النور اذكروا نعمة الله تعالى الجليلة عليكم وبدأ عليه السلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبل وهي اليه أميل وقيل : بدأ بهذا الأمر لما بينه وبين آخر الكلام السابق من مزيد الربط ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير أن يكون عليه السلام مأمورا بالترغيب والترهيب أما إذا كان مأمورا بالترغيب فقط فلا سؤال والظرف متعلق بنفس النعمة ان جعلت مصدرا بمعنى الانعام أو بمحذوف وقع حالا منها إن جعلت اسما اي اذكروا انعامه عليكم أو نعمته كائنة عليكم و اذ في قوله سبحانه : إذ أنجاكم من ءال فرعون يجوز أن يتعلق بالنعمة أيضا على تقدير جعلها مصدرا أي اذكروا انعامه عليكم وقت انجائكم ويجوز أن يتعلق بكلمة عليكم إذا كانت حالا لا ظرفا لغوا للنعمة لأن الظرف المستقر لنيابته عن عامله يجوز أن يعمل عمله أو هو على هذا معمول لمتعلقه كأنه قيل : اذكروا نعمة الله تعالى مستقرة عليكم وقت إنجائكم ويجوز أن يكون بدل اشتمال من نعمة الله مرادا بها الانعام أو العطية المنعم بها يسومونكم يبغونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما وأصل السوم كما قال الراغب الذهاب في طلب الشيء فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والطلب فأجرى مجرى الذهاب في قولهم : سامت الابل فهي سائمة ومجرى الطلب في قولهم : سمته كذا سوء العذاب مفعول ثان ليسومونكم والسوء مصدر ساء يسوء والمراد جنس العذاب السيء أو استبعادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك
وفي أنوار التنزيل أن المراد بالعذاب ههنا غير المراد به سورة البقرة والاعراف لأنه مفسر بالتذبيح والتقتيل ثم ومعطوف عليه التذبيح المفاد بقوله تعالى : ويذبحون أبناءكم ههنا وفيه اشارة الى وجه العطف وتركه مع أن القصة واحدة وحاصل ذلك أنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال وحيث عطف لم يقصد ذلك والعذاب ان كان المراد به الجنس فالتذبيح لكونه أشد
(13/189)

أنواعه عطف عليه عطف جبريل على الملائكة عليهم السلام تنبيها على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس وان كان المراد به غيره كالاستعباد فهما متغايران والمحل محل العطف وقد جوز أهل المعاني أن يكونا بمعنى في الجميع وذكر الثاني للتفسير وترك العطف في السورتين ظاهر والعطف هنا لعد التفسير لكونه أوفى بالمراد وأظهر منزلة المغاير وهو وجه حسن أيضا وسبب هذا التذبيح أن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة انه سيولد لبني اسرائيل من يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلم يغن عنهم من قضاء الله تعالى شيئا وقرأ ابن محيصن ويذبحون مضارع ذبح ثلاثيا وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك الا انه حذف الواو ويستحيون نساءكم أي يبقونهن في الحياة مع الذل ولذلك عد من جملة البلاء او لأن ابقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل : ومن أعظم الرزء فيما ارى بقاء البنات وموت البنينا والجمل أحوال من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل منهما ولا اختلاف في العامل لأنه وان كان في آل فرعون من في الظاهر لكنه لفظ أنجاكم في الحقيقة والاقتصار على الاحتمالين الاولين هنا وتجويز الثلاثة في سورة البقرة كما فعل البيضاوي بيض الله تعالى غرة احواله لايظهر وجهه
وفي ذلكم أي فيما ذكرنا من الافعال الفظيعة بلاء من ربكم أي ابتلاء منه تعالى لأن البلاء عين تلك الافعال اللهم الا أن تجعل في تجريدية فنسبته الى الله تعالى اما من حيث الخلق وهو الظاهر أو الاقدار والتمكين ويجوز أن يكون المشار اليه الانجاء من ذلك والبلاء الابتلاء بالنعمة فانه يكون بها كما يكون بالمحنة قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقال زهير : جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو وهو الأنسب بصدر الآية ويلوح اليه التعرض لوصف الربوبية وعلى الاول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الانجاء أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربية له ونفع في الحقيقة عظيم
6
- لايطاق حمله أو عظيم الشأن جليل القدر وإذا تأذن ربكم داخل في مقول موسى عليه السلام لا كلام مبتدأ وهو معطوف على نعمة الله أي أذكروا نعمة الله تعالى عليكم واذكروا حين تأذن ربكم أي آذن ايذانا بليغا وأعلم اعلاما لايبقى معه شبهة لما في صيغة التفعل من معنى التكلف المحمول في حقه تعالى لاستحالة حقيقته عليه سبحانه على غايته التي هي الكمال وجوز عطفه على اذ أنجاكم أي أذكروا نعمته تعالى في هذين الوقتين فان هذا التأذن أيضا نعمة من الله تعالى عليهم لما فيه من الترغيب والترهيب الباعثين الى ما ينالون به خيرى الدنيا والآخرة وفي قراءة ابن مسعود واذ قال ربكم لئن شكرتم ماخولتكم من نعمة الانجاء من اهلاك وغير ذلك وقابلتموه بالايمان أو بالثبات عليه أو الاخلاص فيه والعمل الصالح لازيدنكم أي نعمة الى نعمة فان زيادة النعمة ظاهرة في سبق نعمة أخرى وقيل : يفهم ذلك أيضا من لفظ الشكر فانه دال على سبق النعم فليس الزيادة لمجرد الاحداث والظاهر على ماقيل ان هذه الزيادة في الدنيا وقيل : يحتمل أن تكون في الدنيا وفي الآخرة وليس ببعيد وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لئن وحدتم واطعتم
(13/190)

لأزيدنكم في الثواب وعن الحسن وسفيان الثوري أن المعنى لئن شكرتم انعامي لأزيدنكم من طاعتي والكل خلاف الظاهر وذكر الامام أن حقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وبيان زيادة النعم به أن النعم منها روحانية ومنها جسمانية والشاكر يكون أبدا في مطالعة أقسام نعم الله تعالى وأنواع فضله وكرمه وذلك يوجب تأكد محبة الله تعالى المحسن عليه بذلك ومقام المحبة اعلى مقامات الصديقين ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة الى أن يكون حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات الى النعمة وهذه اعلى وأغلى فثبت من هذا أن الاشتغال بالشكر يوجب زيادة النعم الروحانية وكونه موجبا لزيادة النعم الجسمانية فللاستقراء الدال على أن كل من كان اشتغاله بالشكر أكثر كان وصول النعم اليه أكثر وهو كما ترى ولئن كفرتم ذلك وغمطتموه ولم تشكروه كما تدل عليه المقابلة وقيل : المراد بالكفر ما يقابل الايمان كأنه قيل : ولئن أشركتم إن عذابي لشديد
7
- فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ومن عادة الكرام غالبا التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد فما ظنك بأكرم الاكرمين فلذا لم يقل سبحانه : إن عذابي لكم لأعذبنكم كما قال جل وعلا : لأزيدنكم
وجوز أن يكون المذكور تعليلا للجواب المحذوف أي لأعذبنكم وبين الامام وجه كون كفران النعم سببا للعذاب انه لايحصل الكفران الا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى والجاهل بذلك جاهل بالله تعالى والجهل به سبحانه من أعظم أنواع العذاب والآية مما اجتمع فيها القسم والشرط فالجواب ساد مسد جوابيهما والجملة إما مفعول لتأذن لأنه ضرب من القول أو مفعول قول مقدر منصوب على الحال ساد معموله مسده أي قائلا لئن شكرتم الخ وهذان مذهبان مشهوران للكوفية والبصرية في أمثال ذلك
واستدل بالآية على أن شكر المنعم واجب وهو مما أجمع عليه السنيون والمعتزلة الا أن الأولين على وجوبه شرعا والاخرين على وجوبه عقلا وهو مبني على قولهم بالحسن والقبح العقليين وقد هد أركانه أهل السنة على أنه لو قيل به لم يكد يتم لهم الاستدلال بذلك في هذا المقام كما بين في محله وقال موسى لهم : إن تكفروا نعمه سبحانه ولم تشكروها أنتم يابني إسرائيل ومن في الأرض من الناس وقيل من الخلائق جميعا لم يتضرر هو سبحانه وإنما يتضرر من يكفر فان الله لغني عن شكركم وشكرهم حميد
8
- مستوجب للحمد بذاته تعالى لكثرة ما يوجبه من أياديه وان لم يحمده أحد أو محمود تحمده الملائكة عليهم السلام بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده والحمد حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدل على كماله جل وعلا وهو تعليل لما حذف من جواب إن تكفروا كما أشرنا اليه ثم ان موسى عليه السلام بعد أن ذكرهم أولا بنعمائه تعالى عليهم صريحا وضمنه بذكر ما أصابهم من الضراء وأمرهم ثانيا بذكرى ماجرى منه سبحانه من الوعد بالزيادة على الشكر والوعيد بالعذاب على الكفر وحقق لهم مضمون ذلك وحذرهم من عند نفسه عن الكفران ثالثا لما رأى منهم ما يوجب ذلك شرع في الترهيب بتذكير ما جرى على الامم الدارجة فقال : ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم ليتدبروا ما أصاب كل واحد من حزبي المؤمن والكافر فيتم له عليه السلام مقصوده منهم وجوز أن يكون من تتمة قوله عليه
(13/191)

السلام : ان تكفروا الخ على أنه كالبيان لما أشير اليه في الجواب من عود ضرر الكفران على الكافر دونه عز و جل وقيل : هو من كلامه تعالى جيء تتمة لقوله سبحانه : لئن شكرتم الخ وبيانا لشدة عذابه ونقل كلام موسى عليه السلام معترض في البين وهو كما ترى وقيل : هو ابتداء كلام منه تعالى مخاطبا به أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ماذكر إرساله عليه الصلاة و السلام بالقرآن وقص عليهم من قصص موسى عليه الصلاة و السلام مع أمته ولعل تخصيص تذكيرهم بما أصاب أولئك المعدودين مع قرب غيرهم اليهم للأشارة إلى أن اهلاكه تعالى للظالمين ونصره المؤمنين عادة قديمة له سبحانه وتعالى ومن الناس من استبعد ذلك
قوم نوح بدل من الموصول أو عطف بيان وعاد معطوف على قوم نوح وثمود والذين من بعدهم أي من بعد هؤلاء المذكورين عطف على قوم نوح وما عطف عليه وقوله تعالى : لايعلمهم إلا الله اعتراض أو الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره وجملة المبتدأ وخبره اعتراض والمعنى على الوجهين انهم 1 من الكثرة بحيث لايعلم عددهم إلا الله تعالى ومعنى الاعتراض على الأول الم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لايحصى كثرة فتعتبروا بها ان في ذلك لمعتبرا وعلى الثاني هو ترق ومعناه ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لايحصى عددهم كأنه يقول : دع التفصيل فانه لامطمع في الحصر وفيه لطف لايهام الجمع بين الاجمال والتفصيل ولذا جعله الزمخشري أول الوجهين وماروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : بين عدنان واسمعيل عليه السلام ثلاثون أبا لايعرفون وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الانساب وقد نفى الله تعالى علمها عن العباد أظهر فيه على ماقيل
ومن هنا يعلم أن ترجيح الطيبي الوجه الأول بما رجحه به ليس في محله : واعترض أبو حيان القول بالاعتراض بأنه لايكون إلا بين جزئين يطلب أحدهما الآخر وما ذكر ليس كذلك ومنع بأن بين المعترض بينهما ارتباطا يطلب به أحدهما الآخر لأنه يجوز أن تكون الجملة الاتية حالا بتقدير قدروا الاعتراض يقع بين الحال وصاحبها فليس ماذكر مخالفا لكلام النحاة ولو سلم أنها ليست بحالية فما ذكروه هنا على مصطلح أهل المعاني وهم لايشترطون الشرط المذكور حتى جوزوا أن يكون الاعتراض في آخر الكلام كما صرح به ابن هشام في المغني مع ان الجملة الآتية مفسرة لما في الجملة الاولى فهي مرتبطة بها معنى واشتراط الارتباط الاعرابي عند النحاة غير مسلم أيضا فتأمل وجعل أبو البقاء جملة لايعلمهم إلا الله على تقدير عطف الموصول على ماقبل حالا من الضمير في من بعدهم وجوز الاستئناف ولعله أراد بذلك الضمير المستقر في الجار والمجرور لا الضمير المجرور بالاضافة لفقد شرط مجيء الحال منه وجوز على تقدير كون الموصول مبتدأ كون تلك الجملة خبرا وكونها حالا والخبر قوله تعالى : جاءتهم رسلهم والكثير على انه استئناف لبيان نبئهم بالبينات بالمعجزات الظاهرة فبين كل رسول منهم لأمته طريق الحق وهداهم اليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور فردوا أيديهم في أفواههم أي أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به أي على زعمكم وهي البينات التي أظهروها حجة على صحة رسالتهم
(13/192)

ومرادهم بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم أو الكتب والشرائع وحاصله أنهم أشاروا إلى جوابهم هذا كأنهم قالوا : هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق وهذا كما يقع في كلام المخاطبين أنهم يشيرون الى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه أو يقررونه ثم يشيرون بأيديهم الى أن هذا هو الجواب فضمير أيديهم وأفواههم إلى الكفار والأيدي على حقيقتها والرد مجاز عن الاشارة وهي تحتمل المقارنة والتقدم والتأخر وقال أبو صالح : المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك للرسل عليهم السلام أن يكفوا ويكتموا عن كلامهم كأنهم قالوا : اسكتوا فلا ينفعكم الاكثار ونحن مصرون عن الكفر لانقلع عنه
فكم أنا لاأصغي وأنت تطيل
فالضمير أن للكفار أيضا وسائر ما في النظم على حقيقته
وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ان المراد أنهم عضوا أيديهم غيظا من شدة نفرتهم من رؤية الرسل وسماع كلامهم فالضميران أيضا كما تقدم واليد والفم على حقيقتهما والرد كناية عن العض ولا ينافي الحقيقة كون المعضوض الأنامل كما في قوله تعالى : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ فان من عض موضعا من اليد يقال حقيقة إنه عض اليد وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ان المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم تعجبا مما جاء به الرسل عليهم السلام وهذا كما يضع من غلبه الضحك يده على فيه فالضميران وسائر مافي النظم كما في القول الثاني وجوز أن يرجع الضمير في أيديهم إلى الكفار وفي أفواههم إلى الرسل عليهم السلام وفيه احتمالان الأول أنهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل عليهم السلام أن اسكتوا والآخر أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل عليهم السلام منعا لهم من الكلام وروى هذا عن الحسن والكلام يحتمل أن يكون حقيقة ويحتمل أن يكون استعارة تمثيلية بأن يراد برد أيدي القوم إلى أفواه الرسل عليهم السلام عدم قبول كلامهم واستماعه مشبها بوضع اليد على فم المتكلم لاسكاته وظاهر مافي البحر يقتضي انه حقيقة حيث قال : إن ذلك أبلغ في الرد واذهب في الاستطالة على الرسل عليهم السلام والنيل منهم وان يكون الضمير في أيديهم للكفار وضمير أفواههم للرسل عليهم السلام
والايدي جمع يد بمعنى النعمة أي ردوا نعم الرسل عليهم السلام التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى اليهم من الشرائع والأحكام في أفواههم ويكون ذلك مثلا لردها وتكذيبها بأن يشبه رد الكفار ذلك برد الكلام الخارج من الفم فقيل : ردوا ايديهم اي مواعظهم في أفواههم والمراد عدم قبولها وقيل : المراد بالأيدي النعم والضمير الاول للرسل عليهم السلام أيضا لكن الضمير الثاني للكفار على معنى كذبوا ما جاءوا بأفواههم أي تكذيبا لا مستند له وفي بمعنى الباء وقد أثبت الفراء مجيئها بمعناها وأنشد وأرغب فيها 1 عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب وضعف حمل الايدي على النعم بأن مجيئها بمعنى ذلك قليل في الاستعمال حتى أنكره بعض أهل اللغة وان كان الصحيح خلافه والمعروف في ذلك الايادي كما في قوله :
(13/193)

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وان هي جلت وبأن الرد والافواه يناسب اراده الجارحة وقال أبو عبيدة الضميران للكفار والكلام ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا والعرب تقول للرجل اذا سكت عن الجواب وأمسك رد يده في فيه ومثله عن الاخفش
وتعقبه القتبي بأنا لم نسمع أحدا من العرب يقول رد فلان يده في فيه اذا سكت وترك ماأمر به وفيه أنهما سمعا ذلك ومن سمع حجة على من لم يسمع قال أبو حيان : وعلى ماذكراه يكون ذلك من مجاز التمثيل كأن الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده على فيه ورده الطبري بأنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا : أنا كفرنا الى آخره وأجيب بأنه يحتمل أن يكون مراد القائل أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل عليهم السلام اليهم بالبينات وهو الاعتراف والتصديق وقال ابن عطية : الضميران للكفار ويحتمل أن يتجوز في الايدي ويراد منها مايشمل أنواع المدافعة والمعنى ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي الى ماقالوا بأفواههم من التكذيب وحاصله أنهم لم يجدوا ما يدفعون به كلام الرسل عليهم السلام سوى التكذيب المحض وعبر عن جميع المدافعة بالأيدي اذ هي موضع أشد المدافعة والمرادة
وقيل : المراد أنهم جعلوا أيديهم في محل ألسنتهم على معنى أنهم آذوا الرسل عليهم السلام بألسنتهم نحو الايذاء بالايدي والذي يطابق المقام وتشهد له بلاغة التنزيل هو الوجه الاول ونص غير واحد على أنه الوجه القوي لأنهم لما حاولوا الانكار على الرسل عليهم السلام كل الانكار جمعوا في الانكار بين الفعل والقول ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب وصدروا الجملة بان ويلي ذلك على مافي الكشف الوجه الثاني ولا يخفى مافي أكثر الوجوه الباقية فتأمل وإنا لفي شك عظيم مما تدعونا اليه من الايمان والتوحيد وبهذا وتفسير ما أرسلتم به بما ذكر أولا يندفع مايتوهم من المنافاة بين جزمهم بالكفر وشكهم هذا وقيل في دفع ذلك على تقدير كون متعلقي الكفر والشك واحدا : إن الواو بمعنى أو أي أحد الأمرين لازم وهو أنا كفرنا جزما بما ارسلتم به فان لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه وأيا ما كان فلاسبيل إلى الاقرار والتصديق وقيل : ان الكفر عدم الايمان عمن هو من شأنه فكفرنا بمعنى لم نصدق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك لا ينافي الشك وفي البحر أنهم بادروا أولا إلى الكفر وهو التكذيب المحض ثم أخبروا أنهم في شك وهو التردد كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى ان انتقلوا من التكذيب المحض الى التردد أوهما قولان من طائفتين طائفة بادرت بالتكذيب والكفر وأخرى شكت والشك في مثل ما جاءت به الرسل عليهم السلام كفر وهذا أولى من قرينه وقرأ طلحة مما تدعونا بادغام نون الرفع في نون الضمير كما تدغم في نون الوقاية في نحو أتحاجوني
مريب
9
- أي موقع في الريبة من أرابني بمعنى أوقعني في ريبة أو ذي ريبة من أراب صار ذا ريبة وهي قلق النفس وعدم اطمئنانها بالشيء وهو صفة توكيدية قالت رسلهم استئناف مبني على سؤال ينساق اليه المقام كأنه قيل : فماذا قالت لهم رسلهم حين قابلوهم بما قابلوهم به فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم
(13/194)

ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء : أفي الله شك بتقديم الظرف وإدخال الهمزة عليه للايذان بأن مدار الانكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيمن لايكاد يتوهم فيه الشك أصلا ولولا هذا القصد لجاز تقديم المبتدأ والقول بأنه ليس كذلك خطأ لأن وقوع النكرة بعد الاستفهام مسوغ للابتداء بها وهو مما لاشك فيه وكون ذلك المؤخر مبتدأ غير متعين بل الأرجح كونه فاعلا بالظرف المعتمد على الاستفهام كما ستعلم ان شاء الله تعالى والكلام على تقدير مضاف على ماقيل أي أفي وحدانية الله تعالى شك بناء على أن المرسل اليهم لم يكونوا دهرية منكرين للصانع بل كانوا عبدة أصنام وقيل : يقدر في شأن الله ليعم الوجود والوحدة لأن فيهم دهرية ومشركين وقيل : يقدر حسب المخاطبين وتقدير الشأن مطلقا ذو شأن وفي عدم تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا : أأنتم في شك مريب من الله تعالى مبالغة في تنزيه ساحة الجلال عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه تعالى شأنه من وجوده ووحدته ووجوب الايمان به وحده شك ما وهو أظهر من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قبله سبحانه في شك عظيم مريب وحيث كان مقصدهم الأقصى الدعوة إلى الايمان والتوحيد وكان إظهار البينات وسيلة إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قولهم : أنا كفرنا إلى آخره واقتصروا على بيان ماهو الغاية القصوى وقد يقال : إنهم عليهم السلام قد اقتصروا على انكار ماذكر لأنه يعلم منه إنكار وقوع الجزم بالكفر به سبحانه من باب أولى
فاطر السموت والارض أي مبدهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيق شاهد بتحقق ماأنتم في شك منه
وفي الآية كما قيل إشارة إلى دليل التمانع وجر فاطر على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له وحيث كان شك فاعلا بالظرف وهو كالجزء من عامله لايعد أجنبيا فليس هناك فصل بين التابع والمتبوع بأجنبي وبهذا رجحت الفاعلية على المبتدئية لأن المبتدأ ليس كذلك نعم إلى الابتدائية ذهب أبو حيان وقال : إنه لايضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ فيجوز أن تقول : في الدار زيد الحسنة وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما فاطر نصبا على المدح ثم انه بعد أن أشير إلى الدليل الدال على تحقق ماهم في شك منه نبه على عظم كرمه ورحمته تعالى فقيل : يدعوكم أي الى الايمان بارساله ايانا لا أنا ندعوكم اليه من تلقاء أنفسنا كما يوهم قولكم مما تدعوننا اليه ليغفر لكم بسببه فالمدعو اليه غير المغفرة وتقدير الايمان لقرينه ماسبق ويحتمل أن يكون المدعو اليه المغفرة لا لأن اللام بمعنى إلى فانه من ضيق العطن بل لأن معنى الاختصاص ومعنى الانتهاء كلاهما واقعان في حاق الموقع فكأنه قيل : يدعوكم إلى المغفرة لأجلها لا لغرض آخر وحقيقته ان الأغراض غايات مقصودة تفيد معنى الانتهاء وزيادة قاله : في الكشف وهذا نظير قوله : دعوت لما نابني مسورا فلبى 1 فلبى يدي مسور
(13/195)

من ذنوبكم أي بعضها وهو ماعدا المظالم وحقوق العباد على ماقيل وهو مبني على أن الاسلام إنما يرفع ماهو من حقوق الله تعالى الخالصة له دون غيره والذي صححه المحدثون في شرح ماصح من قوله صلى الله عليه و سلم : إن الاسلام يهدم ماقبله أنه يرفع ماقبله مطلقا حتى المظالم وحقوق العباد وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى : يغفر لكم ذنوبكم بدون من و من هنا ذهب أبو عبيدة والاخفش إلى زيادة من فيما هي فيه وجمهور البصريين لايجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق وقيل : هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي
وجوز أيضا أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعا ورد الامام الأول بأن من لاتأتي للبدل والثاني بأنه عين مانقل عن أبي عبيدة والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر ولو قال : إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى وفي البحر يصح التبعيض ويراد بالبعض ماكان قبل الاسلام وذلك لاينافي الحديث وتكون الآية وعدا بغفران ماتقدم لابغفران مايستأنف ويكون ذاك مسكوتا عنه باقيا تحت المشيئة في الآية والحديث ونقل عن الاصم القول التبعيض أيضا على معنى إنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر واما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة واستطيب ذلك الطيبي قال : والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه : قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم كأنه قيل : أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن الله تعالى يدعوكم إلى الايمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق الله تعالى الخالصة له وقد ورد إن ينتبهوا يغفر لهم ماقد سلف و ما للعموم سيما في الشرط ومقام الكافر عند ترغيبه في الاسلام بسط لاقبض والكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه لا في الصغائر ويؤيده ماروى أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الاوثان وقتل النفس التي حرم الله تعالى لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وعبدنا الاوثان وقتلنا النفس التي حرم الله تعالى فنزلت قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية وقصة وحشى مشهورة وجرح ذلك القاضي فقال : إن الأصم قد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لاتغفر وانما تكون الصغيرة مغفورة من الموحدين من حيث انه يزيد ثوابهم على عقابها وأما من لاثواب له أصلا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرا ولا يكون شيء منها مغفورا ثم قال : وفي ذلك وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمائه فلا يكون المغفور الا ماذكره وتاب منه اه
ولو سمع الاصم هذا التوجيه لأخذ ثأره من القاضي فانه لعمري توجيه غير وجيه ولو أن أحدا سخم وجه القاضي لسخمت وجهه وقال الزمخشري : إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي من ذنوبكم وفي المؤمنين ذنوبكم وكان ذلك للتفرقة بين الخطأ بين ولئلا يسوي في الميعاد بين الفريقين
وحاصله على مافي الكشف أن ليس مغفرة بعض الذنوب للدلالة على أن بعضا آخر لايغفر فانه من قبيل دلالة مفهوم اللقب ولا اعتداد به كيف وللتخصيص فائدة أخرى هي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل وابقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الايمان وفيه أيضا أن هذا معنى حسن لاتكلف فيه
واعترض ابن الكمال بأن حديث التفرقة إنما يتم لو لم يجيء خطاب على العموم وقد جاء كذلك في سورة الانفال
(13/196)