الكتاب : تفسير ابن عجيبة
المؤلف : ابن عجيبة
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قلت : { الحمد } مبتدأ ، و { الله } خبر ، وأصله النصب ، وقرئ به ، والأصل : أحمد الله حمداً ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته ، دون تجدده وحدوثه ، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء . أي : الحمد لله وإن لم تحمدوه . ولو قال ( أحمد الله ) لما أفاد هذا المعنى ، وهو من المصادر التي تُنْصَب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها . والتعريف للجنس؛ أي : للحقيقة من حيث هي ، من غير قيد شيوعها ، ومعناه : الإشارة إلى ما يَعْرِفه كل أحد أن الحمد ما هو . أو للاستغراق؛ إذ الحمد في الحقيقة كُلُّه لله؛ إذ ما من خير إلا وهو مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة . كما قال : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النّحل : 53 ] ، وقيل : للعهد ، والمعهودُ حمدُه تعالى نَفْسَه في أزله .
وقُرِئ { الحمد لله } بإتباع الدال للام ، وبالعكس ، تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة .
ومعناه في اللغة : الثناءُ بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل ، وفي العُرف : فعل يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً . والشكر في اللغة : فعل يُشعر بتعظيم المنعم ، فهو مرادف للحمد العرفي ، وفي العرف : صرفُ العبد جميعَ ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خُلِقَ لأجله وأعطاه إياه . وانظر شرحنا الكبير للفاتحة في النَّسَبِ التي بيناها نظماً ونثراً .
و { الله } اسم مُرْتَجَلٌ جامد ، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف ، قال الواحدي : اسم تفرِّد به الباري - سبحانه - يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام ، لا يُعرف له اشتقاق ، وقال الأقْلِيشي : إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقّاً كان دليلاً على عين الذات ، دون أن يُنظر فيها إلى صفة من الصفات ، وليس باسمٍ مشتق من صفة ، كالعالِم والحق والخالق والرازق ، فالألف واللام على هذا في ( الله ) من نفس الكلمة ، كالزاي من زيد ، وذهب إلى هذا جماعة ، واختاره الغزالي ، وقال : كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف .
وقيل : مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد ، وقيل : من الوَلَهَان ، وهو الحيرة؟ لتحيُّر العقول في شأنه . وقيل : أصله : الإلهُ ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام ، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم ، إلا إذا كان قبلها كسر .
و { رب } نعت { لله } ، وهو في الأصل : مصدر بمعنى التربية ، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، ثم وُصف به للمبالغة كالصوم والعدل .
وقيل : هو وصفٌ من رَبِّه يَرُبُّهُ ، وأصله : رَبَبَ ثم أُدغم ، سُمي به المالكُ؛ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [ يُوسُف : 50 ] . قال ابن جُزَيّ : ومعانيه أربعة : الإله والسيد والمالك والمصلح ، وكلها تصلح في رب العالمين ، إلا أن الأرجح في معناه ، الإله؛ لاختصاصه بالله تعالى .
(1/1)

و { العالمين } جمع عالَم ، والعالَمُ : اسم لما يُعْلَمُ به ، كالخاتم لما يُختم به ، والطابع لما يطبع به . غلب فيما يُعلم به الصانع . وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مُؤثِرٍ واجبٍ لذاته ، تدل على وجوده ، وإنما جُمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلب العقلاء منهم فجُمِعَ بالياء والنون كسائر أوصافهم ، فهو جمع ، لا اسم جمع ، خلافاً لابن مالك .
وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناولُه لغيرهم على سبيل الاستتباع ، وقيل : عني به هنا الناس ، فإن كل واحد منهم عالَمٌ ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذّاريَات : 21 ] .
{ قلت } : وإليه يشير قول الشاعر :
يا تَائهاً في مَهْمَهٍ عَنْ سِرِّه ... انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوُجُودُ بأَسْره
أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً ... يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بِأَسْرِه
و { الرحمن الرحيم } اسمان بُنيا للمبالغة ، من رَحِمَ ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة في اللغة ، رَقَّةُ القلب ، وانعطافٌ يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه الرَّحِم؛ لانعطافها على ما فيها . وأسماء الله تعالى إنما تُؤخذ باعتبار الغايات ، التي هي أفعال ، دون المبادئ التي هي انفعالات ، و { الرحمن } أبلغ من { الرحيم } ؛ لأن زيادةَ المبنى تدل على زيادة المعنى ، كقَطَّعَ وقَطَعَ ، وذلك إنما يُؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتباره الكيفية .
فعلى الأول : قيل : يا رحمنَ الدنيا؛ لأنه يَعُمُّ المؤمنَ والكافر ، ورحيمَ الآخرة؛ لأنه يختص بالمؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا؛ لأن النعم الأخروية كلها جِسَام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة .
وإنما قدّم { الرحمن } - والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى - لتقدُّم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعَلَم من حيث إنه لا يوصف به غيره ، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغُ في الرحمة غايتَها ، وذلك لا يصدُق على غيره تعالى . انظر البيضاوي . وسيأتي الكلام عليهما في المعنى .
و { مَلِكَ } نِعت لما قبله ، قراءةُ الجماعة بغير ألف من ( المُلك ) بالضم ، وقرأ عاصم والكسائي بالألف ، من ( المِلك ) بالكسر ، والتقدير على هذا : مالك مجيء يوم الدين ، أو مالك الأمر يوم الدين . وقراءةُ الجماعة أرجح ، لثلاثة أوجه : الأول : أن الملك أعظم من مالك ، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله ، وأما المَلِكُ فهو سيد الناس ، والثاني : قوله : { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ } [ الأنعَام : 73 ] ، والثالث : أنها لا تقتضي حذفاً ، والحدف خلاف الأصل .
و { يوم الدين } ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع ، وأُجري الظرف مجرى المفعول به ، والمعنى على الظرفية ، أي : الملك في يوم الدين ، أو ملك الأمر يوم الدين ، فيكون فيه حذف . وقد رُويت القراءتان - أي : القصر والمد - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقد قرئ { ملك } بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها .
(1/2)

فإن قيل : ملك ومالك نكرة؛ لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص ، وكيف يُنعت به { الرحمان الرحيم } وهما معرفتان؟ قلت : إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ ، وأما هذا فهو مستمر دائماً ، فإضافته محضة . قاله ابن جُزَيّ .
يقول الحقّ جلّ جلاله مُعلَّماً لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه : يا عبادي قولوا { الحمد لله رب العالمين } أي : الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل ، فلا يستحق الحمدَ سواه ، إذ لا منعم علىلحقيقة إلا الله ، { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النّحل : 53 ] . أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله ، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله ، قبل أن يُوجِدَ خلقّه ، فلما أوجد خلقه قال لهم : الحمد لله ، أي : احْمَدُوني بذلك المعهود في الأزل .
وإنما استحق الحمد وحده لأنه { ربّ العالمين } ، وكأن سائلاً سأله : لم اختصصت بالحمد؟ فقال : لأني ربُّ العالمين ، أنا أوجدتُهم برحمتي ، وأمددتهم بنعمتي ، فلا منعم غيري ، فاستحققت الحمد وحدي ، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد ، فأنا ربُّ العباد ، فالعوالم كلها - على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها - في قبضتي وتحت تربيتي ورعايتي .
قال بعضهم : خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم ، نصفها في البر ونصفها في البحر . وقال الفخرُ الرازي : رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن ، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر ، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية ، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل ، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق الواحد من سُرادقات العرش ، التي عددُها : مائةُ ألف ، طول كل سرادق وعرضُه - إذا قُوبلتْ به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما - يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً . وما من موضع شِبْرٍ ، إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم ، وله زَجَل بالتسبيح والتهليل . ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر ، ولا يَعلم عددّهم إلا الله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدَّثِّر : 31 ] . ه .
وقال وَهْبُ بن مُنّبِّه : ( قائمُ العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة ، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء ، وفي كل صحراء ستون ألف عالم ، وكل عالم قَدْرُ الثقلين ) .
فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه ، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه ، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف ، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح ، من العرش إلى الفرش ، كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالُها ، محفوظة أشباحُها ، معلومات أماكنها ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .
(1/3)

ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان ، لا لزوم عليه وإيجاب ، ولذلك وصلَه بقوله : { الرحمن الرحيم } ، أي : الرحمن بنعمة الإيجاد ، الرحيم بنعمة الإمداد . " نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما : نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أنعم أولاً بالإيجاد ، وثنى بتوالي الإمداد " . كما في ( الحِكَم ) . فاسمُه { الرحمن } يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها ، واسمه { الرحيم } يقتضي تربيتَها وإمدادها . ولذلك لا يجوز إطلاق اسم { الرحمان } على أحد ، ولم يَتَسَمَّ أحد به؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى ، بخلاف اسمه { الرحيم } فيجوز إطلاقه على غيره تعالى؛ لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً .
أو : الرحمن في الدنيا والآخرة ، والرحيم في الآخرة : لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين . أو الرحمن بجلائل النعم والرحيم بدقائقها ، فجلائل النعم مثل : نعمة الإسلام والإيمان والإحسان ، والمعرفة والهداية ، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب ، ودقائقُ النعم مثل : الصحة والعافية والمال الحلال ، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم .
ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد ، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال : { ملك يوم الدين } أي : المتصرف في عباده كيف شاء ، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى ، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار . .
وإنما خصّ يوم الدين - وهو يوم الجزاء - بالملكية؛ لأن ذلك اليوم يظهرُ فيه المُلْكُ لله عيَاناً لجميع الخلق ، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده ، حتى يراه المؤمنون عياناً ، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكَمَلَةُ من المؤمنين ، ولذلك ادَّعى كثير من الجهلة الملكَ ونسبوه لأنفسهم . ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام ، قال تعالى : { لِّمَنِ الْمَلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْقَهَّارِ } [ غَافر : 16 ] .
{ الإشارة } لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت ، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، حمد نفسه بنفسه ، ومجَّد نفسه بنفسه ، ووحَّد نفسه بنفسه ، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ ، حيث قال :
ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ ... إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ ... عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ
توحيدُه إياه توحيدُه ... ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ
فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه : { الحمد لله رب العالمين } ، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود ، وأنا القائم بكل موجود ، أنا رب الأرباب ، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب ، أنا رب العالمين ، أنا قيوم السموات والأرَضين ، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي ، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي ، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي ، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي .
قال رجل بين يدي الجنيد : { الحمد لله } ولم يقل : { رب العالمين } ، فقال له الجنيد : كَمِّلْهَا يا أخي ، فقال الرجل : وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه؟! فقال الجنيد : قُلها يا أخي؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم .
(1/4)

يقول سبحانه : " يا مَن هو مني قريب ، تَدبر سِرِّي فإنه غريب أنا المحبُ ، وأنا الحبيب ، وأنا القريب ، وأنا المجيب ، أنا الرحيم الرحمن ، وأنا الملك الديّان ، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد ، والرحيمُ بتوالي الإمداد . منِّي كان الإيجاد ، وعليَّ دوام الإمداد ، وأنا رب العباد ، أنا الملك الديَّان ، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان ، أنا الملك على الإطلاق ، لولا جهالة أهل العناد والشقاق ، الأمر لنا على الدوام ، لمن فهم عنا من الأنام " .
قال في الرسائل الكبرى : لا عبرة بظواهر الأشياء ، وإنما العبرة بالسر المكنون ، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه ، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور ، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور ، وانقشعت الظلمات بإشراق النور ، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين ، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين ، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين ، حين يكون الملك لله رب العالمين ، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الحَجّ : 56 ] ، وقوله : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفِطار : 19 ] ؟! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة . ه .
(1/5)

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قلت : { إياك } مفعول { نعبد } ، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به ، والدلالِ على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس : ( نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك ) ، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود ، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات ، ومنه إلى العبادة ، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه ، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه ، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس ، وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته ، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التّوبَة : 40 ] ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال : { إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ } [ الشُّعَرَاء : 62 ] ، أي : حيث صرّح بمطلوبه ، و { إياك } مفعول { نستعين } وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام ، كما تقدم في { إياك نعبد } . وكرّر الضمير ولم يقل : إياك نعبد ونستعين؛ لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله ، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ ، ألا ترى أن قولك : بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي - أبلغ وأمدح من قولك : بك أنتصر وأحتمي . . . الخ؟
وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي ، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة ، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه ، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه ، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته ، فقال : أعطني ما يعينُني عليها ، فهو سوء أدب ، وأيضاً : من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة ، وأيضاً : لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله : { وإياك نستعين } ، دفعاً لذلك التوهم .
والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه طريق مُعَبَّدٌ ، أي : مُذَلل ، والاستعانة ، طلب المعونة ، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها ، أو في أداء العبادات .
والضمير المستتر في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة ، أو له ولسائر الموجودين . أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها ، ولهذا شرعت الجماعة . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله ، تتميماً لتعليم عباده : فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية ، وأظهروا من أنفسكم العبودية ، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وكأنه - جلّ جلاله - لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها؛ لأنه رب العوالِم وقيومها ، أصل الأصول وفروعها ، أنعم عليها أولاً بالإيجاد ، وثانياً بتوالي الإمداد ، فهو مالكها على الإطلاق ، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه؛ إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله ، فهو أحقُّ أن يُعبد ، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد ، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ ، والمادة من عَيْنِ الجود ، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود .
(1/6)

قال البيضاوي : ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات ، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين ، خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة ، لكون أدلّ على الاختصاص ، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود ، وكأن المعلومَ صار عياناً ، والمعقولَ مُشاهَداً ، والغيبة حضوراً ، بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ؛ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه ، والنظر في آلائه ، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه ، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول ، ويصير من أهل المشاهدة ، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها ، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر . ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر ، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع ، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ . . . } [ يُونس : 22 ] ، ولم يقل ( بكم ) وقوله : { أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ . . . } [ فَاطِر : 9 ] ، أي : ولم يقل : فساقه . . . انظر تمام كلامه .
والالتفات هذا في قوله : { إياك نعبد } ولم يقل : إياه نعبد؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة ، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً .
قال الأقليشي : فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم : " فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله تعالى : هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ " معناه : أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة ، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها ، فالعبادة وصف العبد ، والعون من الله تعالى للعبد ، فلهذا قال : " فهذه بيني وبين عبدي " .
قال ابن جُزَي : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا ، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية ، وأنَّ الحق بين ذلك .
{ الإشارة } : لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت ، وحَمِدَ نفسه بنفسه ، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته؛ لإظهار آثار أسمائه وصفاته ، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية ، أظهر الحكمة وأبطن القدرة ، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة ، ويخضع له ، ويتعبّد ويستمد ، منه الإعانة والهداية ، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية .
فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف ، وعالم القدرة محل التصريف ، عالم الحكمة عالم الأشباح ، وعالم القدرة عالم الأرواح ، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة ، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة ، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : { إياك نعبد } شريعة ، و { إياك نستعين } حقيقة ، و { إياك نعبد } إسلاماً ، و { إياك نستعين } إحساناً ، { إياك نعبد } عبادة ، و { إياك نستعين } عبودية ، { إياك نعبد } فَرْقٌ ، { إياك نسعتين } جَمْعٌ .
(1/7)

ه .
وإن شئت قلت : { إياك نعبد } لأهل العمل لله وهم المخلصون ، و { إياك نستعين } لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون ، العمل لله يوجب المثوبة ، والعمل بالله يوجب القُرْبَة ، العمل لله يوجب تحقيق العبادة ، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة ، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد ، والعمل بالله نعت كل قاصد ، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر ، والعمل بالله قيام بإصلاح الصمائر ، قاله القشيري .
ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام : قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة ، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة ، وقفوا مع قوله : { إياك نعبد } ، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة ، وهم أهل الفناء ، وقفوا مع قوله : { إياك نستعين } ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة ، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه ، وهم أهل الكمال من أهل البقاء ، جمعوا بين قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وبالله التوفيق .
(1/8)

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قلت : الهدايةُ في الأصل : الدلالة بلطف ، ولذلك تُستعمل في الخير ، وقوله : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصَّافات : 23 ] على التهكم ، والفعل منه ( هَدَى ) بالفتح ، وأصله أن يُعدى باللام ، أو " إلى " ، فَعْومل هنا معاملة : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [ الأعرَاف : 155 ] . والصراط لغة : الطريق ، مشتق من سَرَط الطعامَ إذا ابتعله ، فكأنها تبتلع السابلةَ؛ أي المارَّة به ، وَقُلِبَتْ السين صاداً لتطابق الطاء في الإطباق ، وقد تُشَمُّ زاياً لقرب المَخرج ، و { المستقيم } : الذي لا عوج فيه ، والمراد به طريق الحق المُوصَّلة إلى الله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : مُعلماً لعباده كيف يطلبونه ، وما ينبغي لهم أن يطلبوا ، أي : قُولوا { اهدنا } أي : أَرشِدْنا إلى الطريق المستقيم ، الموصلة إلى حضرة النعيم ، والطريقُ المستقيم هو السيرُ على الشريعة المحمدية في الظاهر ، والتبرِّي من الحول والقوة في الباطن ، أو تقول : هو أن يكون ظاهرُك شريعةً وباطنك حقيقة ، ظاهرك عبودية وباطنك حرية ، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود ، وفي الحكم : " متى جَعَلَك في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره ، فقد أعظم المِنَّة عليك " .
فالصراط المستقيم الذي أمرَنَا الحقُّ بطلبه هو : الجمع بين الشريعة والحقيقة ، والمفهوم من قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفَاتِحَة : 5 ] ، ولذلك وصلَه به ، فكأن الحق - سبحانه - يقول : " يا عبادي احمدوني ومجدوني وأفردوني بالقصد وخُصُّوني بالعبادة ، وكونوا في ظاهركم مشتغلين بعبادتي ، وفي باطنكم مستعينين بحولي وقوتي ، أو كونوا في ظاهركم متأدبين بخدمتي ، وفي باطنكم مشاهدين لقدرتي وعظمة ربوبيتي " .
وقال سيّدنا عليّ - كَرَّمَ الله وجهه - : ( الصراط المستقيم هنا القرآن ) . وقال جابر رضي الله عنه : ( هو الإسلام ) يعني الحنيفية السمحاء وقال سهل بن عبد الله : ( هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم ) . يعني اتباعَ ما جاء به . وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة ، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلطه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدِّيقين .
فإن قلت : إذا كان العبدُ ذاهباً على هذا المنهاج المستقيم ، فكيف يطلب ما هو حاصل؟ فالجواب : أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل ، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل ، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام ، الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل ، على طريق الصوفية ، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام ، والعمل الباطن بمقام الإيمان ، وأهلُ الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل ، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان ، والترقي إلى ما لا نهاية له من كشوفات العرفان { وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَليمٌ } [ يُوسُف : 76 ] .
وقال الشيخ أبو العباس المرس رضي الله عنه : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد فيما ليس بحاصل ، ثم قال : عمومُ المؤمنين يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتَهُم درجات الصالحين ، والصالحون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } معناه : نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء ، والشهداءُ يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين ، والصديقون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حَصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب ، والقطبُ يقول : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنه حصل له رتبة القطبانية ، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه .
(1/9)

ه .
وقال بعضهم : الهدايةُ إما للعين وإما للأثرِ الدالَّ على العين ، ولا نهاية للأولى ، قلت : فالأولى لأهل الشهود والعِيان ، والثانية لأهل الدليل والبرهان ، فالهداية للعين هي الدلالةُ على الله . والهداية للأثر هي الدلالة على العمل ، " مَنْ دَلَّكَ على الله فقد نصحك ، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك " . وإنما كانت الأولى لا نهاية لها؛ لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له . بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين ، إن كان الدالُّ عارفاً بالطريق .
قال البيضاوي : وهداية الله تتنوَّعُ أنواعاً لا يحصيها عد { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحصُوهَآ } [ إبراهيم : 34 ] لكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول : إِفاضَةُ الُقُوَى التي بها يتمكنُ المرء من الاهتداء إلى مصالحه ، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة .
الثاني : نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه الإشارة بقوله : { وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَيْنِ } [ البَلَد : 10 ] ، وقال : { فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فُصّلَت : 17 ] .
الثالث : الهدايةُ بإرسال الرسل وإنزال الكُتُب ، وإياها عني بقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبيَاء : 73 ] ، وقوله : { إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [ الإسرَاء : 9 ] .
الرابع : أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويُرِيَهُمْ الأشياءَ كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة . وهذا يختص بِنَيْله الأنبياءُ والأولياءُ ، وإياه عني بقوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] ، { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العَنكبوت : 69 ] .
فالمطلوب : إما زيادةُ ما مُنحوه من الهدى والثباتُ عليه ، أو حصولُ المراتب المترتبة عليه ، فإذا قال العارفُ الواصل عَنَى بقوله : أرشدنا طريق السير فيك ، لتمحُوَ عنا ظلماتِ أحوالنا ، وتُمِيطَ غواشِيَ أبداننا ، لنستضيء بنور قدسك فنراكَ بنورك . ه .
قلت : قوله الرابع . . . الخ ، في عبارته قَلَقٌ واختصار ، والصواب أن يقول : الرابعُ - أن يكشف عن قلوبهم الظُّلَمَ والأغيار ، ويُشرق عليها الأنوار والأسرار ، ويُريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام ، وباستعمال الفكرة في عظمةِ الملك العلاَّم ، حتى تستولي أنوارُ المعاني على حِسِّ الأواني ، ثم يقول : وهذا قسم يختصّ بنيله الأنبياء والأولياء .
وقوله : فإذا قال العارف . . . الخ ، الصواب أن يقول : فإذا قاله المريد السائر؛ لأن الواصل انمحت عنه الظلماتُ كلها والغواشي وسائرُ الأكدار؛ لأن الله تعالى غطَّى وصفه بوصفه ونعته بنعته ، فلم يَبْقَ له وصفٌ ظُلماني . وأيضاً قوله : [ أرشدنا إلى طريق السير ] إنما يناسب السائر دون الواصل؛ لأن الواصل ما بَقِيَ له إلا الترقي ، ولا يُسمى في اصطلاح الصوفية [ السير ] إلا قبلَ الوصول . والله تعالى أعلم .
(1/10)

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
قلت : { صراط } بدل من الأول - بدل الكل من الكل - وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته : التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة ، على آكد وجه وأبلغه؛ لأنه جعله كالتفسير والبيان له ، فكأنه من البيِّن الذي لا خفاء فيه ، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين ، و { غير المغضوب عليهم } بدل من { الذين } على معنى أن المُنْعَمَ عليهم هم الذي سَلِمُوا من الغضب والضلال . أو صفة له مُبيَّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال ، وذلك إنما يصح بأحد تأويلين : إجراء الموصول مجرى النكرة ، إذ لم يُقصد به معهود كالمعرَّف في قوله :
ولَقَد أَمُرُ علُى اللئيم يَسُبنّي ... أو يُجعل { غير } مَعْرِفةً؛ لأنه أُضيف إلى مآلَهُ ضدٍّ واحد ، وهو المنعمُ عليه ، فيتعينُ تَعيُّن الحركة غير السكون ، وإلا لزِم عليه نعت المعرفة بالنكرة . فتأملْهُ .
والغضبُ : ثَوَرانُ النفس إرادةَ الانتقام ، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد غايته وهو العقوبة ، و { عليهم } نائب فاعل : و { لا } مَزيدة لتأكيد ما في { غير } من معنى النفي ، فكأنه قال : ولا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وقرأ عمرُ رضي الله عنه : { وغير الضالين } ، والضلال : والعدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأً ، وله عرض عَريضٌ والتفاوت بين أدناه وأقصاه كبير . قاله البيضاوي .
وإنما أَسند النعمة إلى الله والغضبَ إلى المجهول تعليماً للأدب ، { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ . . . } [ النِّساء : 79 ] الآية .
يقول الحقّ جلّ جلاله في تفسير الطريق المستقيم : هو طريق الذين أنعمتُ عليهم بالهداية والاستقامة ، والمعرفة العامة والخاصة ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، والمُنعَم عليهم في الآية مطلق ، يصدق كل منعَم عليه بالمعرفة والاستقامة في دينه ، كالصحابة وأضرابِهِمْ ، وقيل : المراد بهم أصحاب سيّيدنا موسى عليه السلام قبل التحريف . وقيل : أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير . والتحقيق أنه عام .
قال البيضاوي : ونِعَمُ الله وإن كانت لا تُحصى كما قال الله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } [ إبراهيم : 34 ] تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي .
فالأول : وهو الدنيوي - قسمان : موهبي وكَسْبِي ، والموهبي قسمان : رُوحاني ، كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوي ، كالفهم والفكر والنطق ، وجسماني : كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء . والكسبي : كتزكية النفس عن الرذائل ، وتحليتها بالأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحُلي المستحسنة ، وحصول الجاه والمال .
والثاني : وهو الأُخروي : أن يغفر له ما فَرَطَ منه ويرضى عنه ويُبوأهُ في أعلى علِّيين ، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين ، والمراد القسمُ الأخير ، وما يكون وُصْلة إلى نيله من القسم الأول ، وأما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن والكافر .
(1/11)

ه .
قال ابن جُزَيّ : النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام ، دنيوية : كالصحة والعافية والمال الحلال . ودينية : كالعلم والتقوى والمعرفة . وأخرويةٌ : كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل : وقال أيضاً : والناس في الشكر على مقامين : منهم مَن يشكر على النعم الواصلة إليه ، الخاصة به ، ومنهم مَن يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم . والشكر على ثلاث درجات : فدرجة العوام ، الشكر على النعم ، ودرجة الخواص : الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال ، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المُنعم . قال رجل لإبراهيم بن أدهَمَ رضي الله عنه : الفقراء إذا أُعْطُوا شَكَرُوا وإذا مُنعوا صَبَبروا ، فقال إبراهيم : هذه أخلاقُ الكلاب ، ولكن القومَ إذا مُنِعوا شكروا وإذا أُعْطُوا آثروا . ه .
ثم احترس من الطريق غير المستقيمة ، فقال : { غير المغضوب عليهم } أي : غير طريق الذين غضبت عليهم ، فلا تهدنا إليها ولا تسلك بنا سبيلها ، بل سلَّمنَا من مواردها . والمراد بهم : اليهود ، كذا فسرها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويَصْدُقُ بحسب العموم على كل من غضب الله عليهم ، { ولا الضالين } أي : ولا طريق الضالين ، أي : التالفين عن الحق ، وهم النصارى كما قال صلى الله عليه وسلم . والتفسيران مأخوذان من كتاب الله تعالى . قال تعالى في شأن اليهود : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } [ البَقَرَة : 90 ] ، وقال في حق النصارى : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } [ المَائدة : 77 } .
واعلم أن الحق - سبحانه - قسم خلقه على ثلاثة أقسام : قسم أعدَّهم للكرم والإحسان ، ليُظْهِرَ فيهم اسم الكريم أو الرحيم ، وهو المنعم عليه بالإيمان والاستقامة . وقسم أعدَّهم للانتقام والغضب ، ليُظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار ، وهم المغضوب وعليهم والضالون عن طريق الحق عقلاً أو عملاً ، وهم الكفار ، وقسم أعدَّهم الله للحِلْم والعفو ، ليُظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو ، وهم أهل العصيان من المؤمنين .
فمن رَامَ أن يكونَ الوجودُ خالياً من هذه الأقسام الثلاثة ، وأن يكون الناس كلهم سواء في الهداية أو ضدها ، فهو جاهل بالله وبأسمائه؛ إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه في هذا الآدمي ، من كرم وقهرية وحِلْم وغير ذلك . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هي : طريق الوصول إلى الحضرة ، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان ، وهو مقام التوحيد الخاص ، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد ، وليس فوقه إلا مقامُ توحيد الأنبياء والرسل ، ولا بد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير ، قد سلك المقامات ذوقاً وكشفاً ، وحاز مقام الفناء والبقاء ، وجمع بين الجذب والسلوك؛ لأن الطريق عويص ، قليلٌ خُطَّارُهُ ، كثيرٌ قُطَّاعُه ، وشيطانُ هذا الطريق فَقِيهٌ بمقاماته ونوازِله ، فلا بد فيه من دليل ، وإلا ضلّ سالكها عن سواء السبيل ، وإلا هذا المعنى أشار ابن البنا ، حيث قال :
(1/12)

وَإِنَّمَا القَوْمُ مُسَافِرُونَ ... لِحَضْرَةِ الْحَقِّ وَظَاعِنُونَ
فَافْتَقَرُوا فِيهِ إلَى دَلِيل ... ذِي بَصَرٍ بالسَّيْرِ وَالْمَقِيلِ
قَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ ثُمَّ عَادَ ... لِيُخْبِرَ الْقَوْمَ بِمَا اسْتَفَادَ
وقال في لطائف المنن : ( من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع ، ويكشف له عن قلبه القناع ، فهو في هذا الشأن لَقيطٌ لا أب له ، دَعِيٍّ لا نَسَبَ له ، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه ، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه ، لم تَرْضْهُ سياسةُ التأديب والتهذيب ، ولم يَقُدْهُ زمَانمُ التربية والتدريب ) ، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } مع الترقي الذي ذكره الشيخ أو العباس المرسي رضي الله عنه المتقدم ، وإذا قرأ { صراط الذين أنعمت عليهم } استشعر ، أَيْ : أنعمتَ عليهم بالوصول والتمكين في معرفتك .
وقال الورتجبي : اهدنا مُرَادَك مِنَّا؛ لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق ، من الصدق والإخلاص في عبوديته وخدمته . ثم قال : وقيل : اهدنا هُدَى العِيَانِ بعد البيان ، لتستقيم لك حسب إرادتِك . وقيل : اهدنا هُدَى مَنْ يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه . ثم قال : وقال بعضهم : اهدنا ، أي : ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة . ثم قال : وقال بعضهم : اهدنا ، أي : ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام ، وهو الطريق المستقيم والمنهاج القويم { صراط الذين أنعمت عليهم } أي : منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة . ثم قال : { غير المغضوب عليهم } يعني : المطرودين عن باب العبودية ، { ولا الضالين } يعني المُفْلِسين عن نفائس المعرفة . ه .
قلت : والأحسن أن يقال : { غير المغضوب عليهم } هم الذين أَوْقَفَهُمْ عن السير اتباعُ الحظوظ والشهوات ، فأوقعهم في مَهَاوِي العصيان والمخالفات ، { ولا الضالين } هم الذين حبسهم الجهل والتقليد ، فلم تنفُذْ بصائرهم إلى خالص التوحيد ، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد والبرهان ، وهو ضلال عند أهل الشهود والعِيان ، ولو بلغ في الصلاح غايةَ الإمكان .
وقال في الإحياء : إذا قلت : { بسم الله الرحمن الرحيم } فافْهَمْ أن الأمور كلها بالله ، وأن المراد ها هنا المُسمَّى ، وإذا كانت الأمورُ كلها بالله فلا جرَم أنَّ الحمد كله لله ، ثم قال : وإذا قلت : { الرحمن الرحيم } فأحضرْ في قلبك أنواعَ لطفه لتتفتحَ لك رحمتُه فينبعث به رجاؤُك ، ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف من قولك : { يوم الدين } . ثم قال : ثم جَدَّد الإخلاص بقولك : { إياك نعبد } . وجدَّد العجز والاحتياج والتبرِّيَ من الحوْل والقوة بقولك : { وإياك نستعين } ، ثم اطلب اسم حاجتك ، وقل : { اهدنا الصراط المستقيم } الذي يسوقنا إلى جوارك ويُفضي بنا إلى مرضاتك ، وزِدْهُ شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً ، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين واليهود والنصارى والصابئين . ه . ملخصاً .
وقال القشيري : قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } الأمر في هذه الآية مضمر ، أي : قولوا : اهدنا . والصراط المستقيم : طريق الحق ، وهو ما عليه أهل التوحيد ، أي : أرشدْنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات ، فيقعَ على وجه التوحيد غُبَارُ الظنون والحسابات لتكون دليلنا عليك ، ثم قال : { صراط الذين أنعمت عليهم } أي : الواصلين بك إليك ، ثم قال : { غير المغضوب عليهم } بنسيان التوفيق والتَّعامِي عن رؤية التأييد ، { ولا الضالين } عن شهودِ سابقِ الاختيار ، وجريان تصاريف الأقدار . ه .
(1/13)

الم (1)
{ الم }
وقد حارت العقول في رموز الحكماء ، فكيف بالأنبياء؟ فكيف بالمرسلين؟ فكيف بسيد المرسلين؟ ، فكيف يطمع أحد في إدراك حقائق رموز رب العالمين؟! قال الصديق رضي الله عنه : ( في كل كتاب سر ، وسر القرآن فواتح السور ) . ه . فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء . وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه .
وأقرب ما فيها أنها أشياء أقسم الله بها لشرفها . فقيل : إنها مختصرة من أسمائه تعالى ، فالألف من الله ، واللام من اللطيف ، والميم من مهيمن أو مجيد . وقيل : من أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم فالميم مختصرة إما من المصطفى ، ويدل عليه زيادة الصاد في { المص } [ الأعرَاف : 1 ] ، أو من المرسل ، ويدل عليه زيادة في الراء { المر } [ الرعّد : 1 ] . و { الر } [ الحِجر : 1 ] مختصرة من الرسول . فكأن الحق تعالى يقول : يا أيها المصطفى أو يا أيها الرسول { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البَقَرَة : 2 ] أو هذا { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 2 ] أو غير ذلك ، ويدل على هذا توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بعد هذه الرموز . و { كهيعص } [ مريَم : 1 ] مختصرة من الكافي والهادي والولي والعالم والصادق ، و { طه } [ طه : 1 ] من طاهر ، و { طس } [ النَّمل : 1 ] من يا طاهر يا سيد ، ويا محمد في { طسم } [ الشُّعَرَاء : 1 ] ، إلى غير ذلك .
وعند أهل الإشارة يقول الحق جلّ جلاله : ألف : أفْرِدْ سِرَّك إِلّيَّ ، انفراد الألف عن سائر الحروف ، واللام : لَيِّنْ جوارحك لعبادتي ، والميم : أقم معي بمحو رسومك وصفاتك ، أزينك بصفاء الأنس والقرب مني . قاله الثعلبي .
قلت : والأظهر أنها حروف تشير للعوالم الثلاثة ، فالألف لوحدة الذات في عالم الجبروت ، واللام لظهور أسرارها في عالم الملكوت ، والميم لسريان أمدادها في عالم الرحموت ، والصاد لظهور تصرفها في عالم الملك . وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر الذات في عالم الشهادة ، فالألف يشير إلى سريان الوحدة في مظاهر الأكوان ، واللام : يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت ، والميم يشير إلى تصرف الملك في عالم الملك ، وكأن الحق تعالى يقول : هذا الكتاب الذي تتلو يا محمد - هو فائض من بحر الجبروت إلى عالم الملكوت ، ومن عالم الملكوت إلى الرحموت ، ثم نزل به الروح الأمين إلى عالم الملك والشهادة ، فلا ينبغي أن يرتاب فيه .
(1/14)

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ ذّلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ . . . }
قلت : الريب : تحرُّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام ، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام .
يقول الحقّ جلَ جلاله : يا أيها الرسول المصطفى والنبيّ المجتبى { ذَلِكَ الْكِتَابُ } الذي أنزلناه عليه من جبروت قدسنا وملكوت عزِّنا { لا رَيْبَ فِيهِ } أنه من عندنا . فمن ارتاب فيه ، أو نسبه إلى غيرنا ، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا ، وحلّت عليه شدائد نقمتنا ، ومن تحقق به أنه من لدنا ، وآمن بمن جاء به من عندنا ، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا ، فإذا أحببته كنت له ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يتكلم . . . الحديث . فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين ، وكان في ذروة درجات المتقين ، الذين يهتدون بهدي القرآن المبين ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
{ . . . هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ } قلت : { هدى } خبر عن مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ بتقديم الخبر . أي : هو هاد للمتقين ، أو فيه الهدى لهم . والهدى : هو الإرشاد والبيان ، ومعناه : الدلالة الموصلة إلى الحق . والمتقي : من جعل بينه وبين مقت الله وقاية ، وله ثلاث درجات :
* حفظ الجوارح من المخالفات ،
* وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات ،
* وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات ،
فالأولى لمقام الإسلام ، وإليه توجه الخطاب بقوله : { فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التّغَابُن : 16 ] ، والثانية لمقام الإيمان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ المَائدة : 100 ] ، والثالثة لمقام الإحسان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عِمرَان : 102 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ذَلِكَ الكِتَابُ } الذي لا يقرب ساحتَه شكٍّ ولا ارتياب ، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوي الألباب ، فلا يزالون يَتَرَقَّوْنَ به في المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال ، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال ، قد انمحت في حقهم الرسوم والأشكال ، وهذه غاية الهداية ، وتحقيق سابق العناية .
قال جعفر الصادق : ( والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون ) .
وقال أيضاً - وقد سألوه عن حالة لحقَته في الصلاة حتى خرّ مغشيّاً عليه ، فلما سُرِّيَ عنه ، قيل له في ذلك فقال : ( ما زلت أرددت الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ) .
فدرجات القراءة ثلاث :
أدناها : أن يقرأ العبد كانه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه ، وهو ناظر له ومستمع منه ، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرّع والابتهال .
والثانية : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم ، والإصغاء والفهم .
والثالثة : أن يرى في الكلام المتكلم ، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ، بل يكون فانيّا عن نفسه ، غائباً في شهود ربه ، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار .
فالأولى لأهل الفناء في الأفعال ، والثانية لأهل الفناء في الصفات ، والثالثة لأهل الفناء في شهود الذات ، رضي الله عنهم ، وحشرنا على منهاجهم . . . آمين .
(1/15)

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قلت : هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال ، الأول : عمل قلبي وهو الإيمان ، والثاني : عمل بدني ، وهو الصلاة ، والثالث : عمل مالي ، وهو الإنفاق في سبيل الله ، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها .
أما العمل القلبي : فهو الإيمان أولاً ، والمعرفة ثانياً ، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه ، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب ، يؤمن بوجود الحق تعالى ، وبما أخبر به من أمور الغيب ، يستدل بوجود أثره عليه ، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه ، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان ، أفضى إلى الشهود والعيان ، فصار الغيب عنده شهادة ، والملك ملكوتاً ، والمستقبل حالاً ، والآتي واقعاً ، وقد قلت ذلك :
فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبّاً ... وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ
تَرَى الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيَانٍ ... تَحْظَى بالوصُولِ وبالتَّلاَقِي
وفي الحكم : " لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها " وقال في التنوير : ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان . ه .
وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به؛ إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد ، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص ، والله تعالى أعلم .
وأما العمل البدني : فهو إقامة الصلاة ، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها ، وحفظ السر فيها ، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : ( كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة ، إما بلفظ الإقامة ، وإما بمعنى يرجع إليها ، قال تعالى { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ } ، وقال تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ } [ الإسرَاء : 78 ] ، { وَالْمُقِيمِى الصَّلاَةِ } [ الحَجّ : 35 ] ، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 4 ، 5 ] ولم يقل : فويل للمقيمين الصلاة ) .
وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً ، وهو من أفضل القربات ، يقول الله - تبارك وتعالى : " يا ابنَ آدم أنفِقْ ، أنفقْ عليك " ، وفي حديث آخر : " أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالاً " وقال صلى الله عليه وسلم : " إنّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا " ، قيل : لِمَنْ هِي يا رسولَ الله؟ قال : " لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ ، وأفْشَى ، السلام ، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عزّ وجلّ - ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً ، الجنةَ : رَب البيتِ الآمرَ به ، والزوجة تصلحه ، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ باباً من السّوء "
(1/16)

وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " صنائِع المعْرُوف تقي مَصارعَ السُّوءِ ، وصدقةُ السِّر تُطفِئ غَضَبَ الربِّ ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العمرِ " .
الإشارة : يا من غرق في بحر الذات وتيار الصفات { ذلك الكتاب } الذي تسمع من أنوار ملكوتنا ، وأسرار جبروتنا { لا ريب فيه } أنه من عندنا ، فلا تسمعه من غيرها ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } [ القيامة : 18 ] ، فهو هاد لشهود ذاتنا ، ومرشد للوصول إلى حضرتنا ، لمن اتقى شهود غيرِنا ، وغرق في بحر وحدتنا ، الذي يؤمن بغيب غيبنا ، وأسرار جبروتنا ، التي لا تحيط بها العلوم ، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والفهوم ، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، إظهاراً لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة ، فهو على صلاته دائم ، وقلبه في غيب الملكوت هائم ، ينفق مما رزقه الله من أسرار العلوم ومخازن الفهوم ، فهو دائماً ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه ، فلا جرم أنه على بينة من ربه .
ولمَّا ذكر الحق تعالى من آمن من العرب ، ذكر من آمن من أهل الكتاب .
(1/17)

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قلت : الموصول مبتدأ ، و { أولئك } خبره ، أو عطف على { المتقين } ، وحذف المنزل عليه في جانب الكتب المتقدمة ، فلم يقُلْ : وما أنزل على مَن قبلك؛ إشارة إلى أن الإيمان بالكتب المتقدمة دون معرفة أعيان المنزل عليهم كاف ، إلا من ورد تعيينُه في الكتاب والسنّة فلا بد من الإيمان به ، أما القرآن العظيم فلا بد من الإيمان أنه منزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن اعتقد أنه منزل على غيره كالروافض فإنه كافر بإجماع ، ولذلك ذكر المتعلق بقوله : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } .
يقول الحقّ جل جلاله : { وَالَّذينَ } يصدقون { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يا محمد من الأخبار الغيبية والأحكام الشرعية ، والأسرار الربانية والعلوم اللدنية { ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } من الكتب السماوية ، والأخبار القدسية ، وهم { يُوقِنُونَ } بالبعث والحساب والرجوع إلينا والمآب ، على نعتٍ ما أخبرتُ به في كتابي وأخبار أنبيائي ، { أُولَئِكَ } راكبون على مَتْنِ الهداية ، مُسْتَعْلون على محمل العناية ، محفوفون بجيش النصر والرعاية ، { وَأُولَئِكَ هُم } الظافرون بكل مطلوب ، الناجون من كل مخوف ومرهوب ، دون من عداهم ممن سبق له الخذلان ، فلم يكن له إيمان ولا إيقان ، فلا هداية له ولا نجاح ، ولا نجاة له ولا فلاح ، نسأل الله العصمة بمنّه وكرمه .
الإشارة : قلت : كأن الآية الأولى في الواصلين ، والثانية في السائرين ، لأن الأولين وصفهم بالإنفاق من سعة علومهم ، وهؤلاء وصفهم بالتصديق في قلوبهم ، فإن داموا على السير كانوا مفلحين فائزين بما فاز به الأولون . فأهل الآية الأولى من أهل الشهود والعيان ، وأهل الثانية من أهل التصديق والإيمان . أهل الأولى ذاقوا طعم الخصوصية ، فقاموا بشهود الربوبية وآداب العبودية ، وأهل الثانية صدقوا بنزول الخصوصية ودوامها ، واستنشقوا شيئاً من روائح أسرارها وعلومها ، فهم يوقنون بوجود الحقيقة ، عالمون برسوم الطريقة ، فلا جرم أنهم على الجادة وطريق الهداية ، وهم مفلحون بالوصول إلى عين العناية . دون الفرقة الثالثة التي هي الإنكار موسومة ، ومن نيل العناية محرومة ، التي أشار إليها الحق تعالى .
(1/18)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
قلت : { سواء } خبر مقدم ، و { أنذرتهم } مبتدأ لسبك همزة التسوية ، أي : الإنذار وعدمه سواء في حق هؤلاء الكفرة ، والجملة خبر إن ، و { غشاوة } مبتدأ ، والجار قبله خبره ، والغشاوة : ما يغشى الشيء ويغطيه ، كنى به عن مانع قهرهم عن الإيمان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا محمد { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } بما أنزل إليك جهراً ، وسبقت لهم مني الشقاوة سرّاً ، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار ، ولا البشارة والتذكار ، فإنذارك وعدمه في حقهم سواء ، لما سبق لهم مني الطرد والشقاء ، فالتذكير في حقهم عناء ، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء ، لأني ختمتُ على قلوبهم بطابع الكفران ، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان ، ومنعت أسماعهم أن تصغي إلى الوعظ والتذكير ، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير ، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب ، قد أعددتُهم لعذابي ونقمتي ، وطردتهم عن ساحة رحمتي ونعمتي .
وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم ، وإني وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتي وعنادي؛ فإني لا أظلم أحداً من خلقي وعبادي ، { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعَام : 149 ] . فما ظلمتُهم؛ لأني بعثتُ الرسلَ مبشرين ومنذرين ، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين ، فحكمتي اقتضيت الإنذار ، وقدرتي اقتضت القهر والإجبار ، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان : عين تنظر لحكمتي وشريعتي فتتأدب ، وعينٌ تنظر لقدرتي وحقيقتي فتُسلم ، وتكون بي الأمن والرّهْب ، فلا تأمَنْ مَكْرِي وإن أمَّنتُك ، ولا تيأس من حلمي وإن أبعدتك ، فعلمي لا يحيط به محيط ، إلا من هو بكل شيء محيط .
الإشارة : إن الذين أنكروا وجود الخصوصية ، جحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية ، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير ، بما سبق لهم في علم الملك القدير ، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب ، أم لم تنذرهم؛ لعدم فتح الباب ، قد ختم الله على قلوبهم بالعوائد والشهوات ، أو حلاوة الزهد والطاعات ، أو تحرير المسائل والمشكلات ، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات ، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب ، فلا يبصرون إلا المحسوسات ، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات ، بخلاف قلوب العارفين ، فإنها ترى من أسرار المعاني ما لا يُرى للناظرين ، وفي ذلك يقول الشاعر :
قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ ... تَرى ما لا يُرى للناظرينا
وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي ... تغيبُ عَنَ الكِرَام الكَاتِبِينَا
وأجنحةٌ تَطِيرُ بغير ريشٍ ... إلى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا
فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم ، وحجب العلماء بعلمهم عن معلومهم ، واختصّ قوماً بنفوذ عزائمهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم ، فهم في رياض ملكوته يتنزهون ، وفي بحار جبروته يسبحون ، { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [ الصَّافات : 61 ] .
ولما ذكر الحق - جلّ جلاله - من أعلن بالإنكار ، ذكر من أسَرَّ بالجحود وأظهر الإقرار .
(1/19)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قلت : { من } موصوفة مبتدأ ، والخبر مقدم ، أي : ومن الناس ناس يقولون كذا ، والمخادعة : إظهار خلاف ما يخفي من المكروه ، وأصل الخدع : الإخفاء ، ومنه المخدع للبيت الذي يخبأ فيه المتاع . وقيل : الفساد لأن المنافقين يفسدون إيمانهم بما يُخْفُون ، وجملة { وما يشعرون } حالية ، أي : غير شاعرين ، والشعور : التفطن ، وفعله من باب كَرُمَ ونَصَرَ . وليت شعري : أي : ليت فطنتي تدرك هذا ، وجملة { في قلوبهم مرض } تعليلية للمخادعة ، والمرض : الضعف والفتور ، وهو هنا مرض القلوب بالشك والنفاق . والعياذ بالله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَمِنَ النَّاسِ } مَن هم مغموص عليهم بالنفاق كبعض اليهود والمنافقين ، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، يقولون : { آمَنَّا بِاللَّهِ وبِاليَومِ الآخِر } وما هُم في عداد المؤمنين ، { يُخَادِعُونَ } بزعمهم { اللَّهَ وّالَّذينَ آمَنُوا } بما يظهرون من الإيمان ، { وَمَا يَخْدَعُونَ } في الحقيقة { إلاَّ أَنفُسَهُمْ } ؛ لأن وبال خداعهم راجع إليهم ، { وَمَا يَشْعُرُونَ } أن خداعهم وبال عليهم ، وإنما حصلت لهم هذه المخادعة لأن { في قُلُوبِهِم } مرضاً من الشك والحسد ، فقلوبهم مذبذبة ، وأنفسهم مغمومة ، { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } على مرضهم بما ينزل عليهم من الآيات التي تفضحهم ، { وَلَهُمْ } في الآخرة - إذا قدموا على الله - { عَذَابٌ } موجع بسبب تكذيبهم رسول الله أو كذبهم على الله . هذا مُضَمَّنُ الآية .
افتتح الحق - جلّ جلاله - بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، ثم ثنى بالكافرين الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وهم أخبث الكفرة؛ لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعاً ، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار .
الإشارة : ومن الناس مَن يترامى بالدعوى على الخصوصية ، ويدعي تحقيق مشاهدة الربوبية ، وهو في الدرك الأسفل من العمومية ، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان ، وهو في أودية الشكوك والخواطر حيران ، وفي فيافي القطيعة والفَرْقِ ظمآن ، لسانه منطلق بالدعوى ، وقلبه خارب من الهدي ، يخادع الله بالرضا عن عيوبه ومساوئه ، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره ، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه ، يتزيى بِزِيِّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين ، ويصدق عليه قول القائل :
أمَّا الخِيَامُ فَإنَّها كخِيَامهمْ ... وأَرَى نِسَاءَ الحيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا
وما يخادع في الحقيقة إلا نفسه ، حيث حرمها الوصول ، وتركها في أودية الأكوان تجول ، قلبه بمرض الفرق والقطعية سقيم ، وهو يظن أنه في عداد مَن يأتي الله بقلب سليم ، فزاده الله مرضاً على مرضه حيث رضي بسقمه وعيبه ، وله عذاب الحرص والتعب في ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على الله ، وإنكاره على أولياء الله ، فجزاؤه البعد والخذلان ، وسوء العاقبة والحرمان ، عائذاً بالله من المكر والطغيان .
(1/20)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
قلت : { إذا } ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه ، أي : قالوا نحن مصلحون ، وقت قول القائل لهم : لا تفسدوا ، والجملة بيان وتقرير لخداعهم ، أو معطوفة على { مَن يَقُولُ ءَامَنَّا } [ البقرة : 8 ] ، أي : ومن الناس فرقة إذا قيل لهم : لا تفسدوا ، قالوا : إنما نحن مصلحون .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَإذَا قيل } لهؤلاء المنافقين : { لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } بالمعاصي والتعويق عن الإيمان ، وإغراء أهل الكفر والطغيان على أهل الإسلام والإيمان ، وتهييج الحروب والفتن ، وإظهار الهرج والمرج والمحن ، وإفشاء أسرار المسلمين إلى أعدائهم الكافرين ، فإن ذلك يؤدي إلى فساد النظام ، وقطع مواد الإنعام ، { قَالُوا } في جوابهم الفاسد : { إنما نحن مصلحون } في ذلك ، فلا تصح مخاطبتنا بذلك ، فإن من شأننا الإصلاح والإرشاد ، وحالنا خالص من شوائب الفساد ، قال تعالى : { ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ } هنالك ، ولكن لا شعور لهم بذلك .
قلت : فردّ الله ما ادعوه من الانتظام في سلك المصلحين بأقبح رد وأبلغه ، من وجوه الاستئناف الذي في الجملة ، والاستفتاح بالتنبيه ، والتأكيد بإن وضمير الفعل ، وتعريف الخبر ، والتعبير بنفي الشعور ، إذ لو شعروا أدنى شعور لتحققوا أنهم مفسدون .
وهذه الآية عامة لكل مَن اشتغل بما لا يعنيه ، وعوق عن طريق الخصوص ، ففيه شعبة من النفاق ، وفي صحيح البخاري : " ثَلاثٌ من كُنَّ فِيهِ كان مُنَافِقاً خالِصاً : إذا حَدَّثَ كَذَبَ ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وإذا أوْتُمِنَ خانَ " .
الإشارة : وإذ قيل لمن يشتغل بالتعويق عن طريق الله والإنكار على أولياء الله : أقصر من هذا الإفساد ، وارجع عن هذا الغي والعناد ، فقد ظهرت معالم الإرشاد لأهل المحبة والوداد . قال : إنما أنا مصلح ناصح ، وفي أحوالي كلها صالح ، يقول له الحق جلّ جلاله : بل أفسدت قلوب عبادي ، ورددتهم عن طريق محبتي وودادي ، وعوقتهم عن دخول حضرتي ، وحرمتهم شهود ذاتي وصفاتي ، سددت بابي في وجه أحبابي ، آيستهم من وجود التربية ، وتحكمت على القدرة الأزلية ، ولكنك لا تشعر بما أنت فيه من البلية .
ولقد صدق من سبقت له العناية ، وأُتحف بالرعاية والهداية ، حيث يقول :
فَهَذِهِ طريقَةُ الإشْرَاقِ ... كَانَتْ وتَبْقَى ما الوُجُودُ بَاقِ
وقال أيضاً :
وأَنْكَرُوهُ مَلاٌ عَوَامٌ ... لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُ فَهَامُوا
فَتُبْ أيها المذكر قبل الفوات ، واطلب من يأخذ بيدك قبل الممات ، لئلا تلقى الله بقلب سقيم ، فتكون في الحضيض الأسفل من عذابه الأليم ، فسبب العذاب وجود الحجاب ، وإتمام النعيم النظر لوجهه الكريم ، منحنا الله منه الحظ الأوفى في الدنيا والآخرة . آمين .
(1/21)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
قلت : الكاف من { كَمَا آمَنَ } صفة لمصدر محذوف ، و { ما } مصدرية . أي : إذا قيل لهم آمنوا إيماناً خالصاً من النفاق مثل إيمان المسلمين ، أو من أسلم من جلدتهم ، والسفه : خفة وطيش في العقل ، يقال : ثوب سفيه ، أي : خفيف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَإذَا قِيلَ } لهؤلاء المنافقين من المشركين واليهود : اتركوا ما أنتم عليه من الكفر والجحود ، وراقبوا الملك المعبود ، وطهروا قلوبكم من الكفر والنفاق ، وأقصروا مما أنتم فيه من العباد والشقاق و { آمنوا } إيماناً خالصاً مثل إيمان المسلمين ، لتكونوا معهم في أعلى عليين ، " مَنْ أحَبَّ قَوْماً حُشرِ مَعهم " . " المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " ، { قَالُوا } مترجمين عما في قلوبهم من الكفر والنفاق : { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفُهَاءُ } الذين لا عقل لهم ، إذ جُلهم فقراء ومَوَالي .
قال الحق تعالى في الرد عليهم وتقبيح رأيهم : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } لا غيرهم ، حيث تركوا ما هو السبب في الفوز العظيم بالنعيم المقيم ، وارتكبوا ما استوجبوا به الخلود في الدرك الأسفل من الجحيم { وَلَكَن لاَّ يَعْلَمُونَ } ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشُّعَراء : 227 ] ، عبَّر الحق في هذه الآية ب { لا يعلمون } وفي الأولى ب { لاَ يَشْعُرُونَ } [ الأعرَاف : 95 ] ؛ لأن الفساد في الأرض يدرك بأدنى شعور ، بخلاف الإيمان والتمييز بين الحق والباطل؛ فيحتاج إلى زيادة تفكر واكتساب علم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : وإذا قيل لأهل الإنكار على أهل الخصوصية ، القاصدين مشاهدة عظمة الربوبية ، قد تجرّدوا عن لباس العز والاشتهار ، ولبسوا أطمار الذل والافتقار ، آمنوا بطريق هؤلاء المخصوصين ، وادخلوا معهم كي تكونوا من المقربين . قالوا : { أنؤمن كما آمن السفهاء } ونترك ما نحن عليه من العز والكبرياء ، قال الله تعالى في تسفيه رأيهم وتقبيح شأنهم : { ألا إنهم هم السفهاء } ؛ حيث تعززوا بعز يفنى ، وتركوا العز الذي لا يفنى ، قال الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً ... فَكَمْ عِزَّةً قَدْ نَالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ
إذَا كانَ مَنْ تَهْوَى عَزِيزاً ، ولم تكُنْ ... ذَلِيلاً لَهُ ، فَاقْرَ السَّلامَ عَلَى الوَصْلِ
فلو علموا ما في طيّ الذل من العز ، وما في طي الفقر من الغنى ، لجالدوا عليه بالسيوف ، ولكن لا يعلمون .
(1/22)

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قلت : اللقاء : المصادفة بلا قصد ، والخلو بالشيء أو معه : الانفراد به ، ضمنه هنا معنى رجع ، ولذلك تعدَّى بإلى ، و ( الشيطان ) فَيْعَالٌ ، من شَطَنَ ، إذا بعد ، أو فَعْلاَن من شاط ، إذا بطل ، والاستهزاء بالشيء : الاستخفاف بحقه ، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف المنافقين تقريراً لنفاقهم : إنهم كانوا { إذَا لَقُوا } الصحابة أظهروا الإيمان ، وإذا رجعوا { إلَى شَيَاطِينِهِمْ } أي : كبرائهم المتمردين في الكفر والطغيان ، { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } لم نخرج عن ديننا { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } بهم ، ومستسخرون بشأنهم ، نزلت في عبد الله بن أُبَيّ - رأس المنافقين - كان إذا لقي سعداً قال : نعم الدين دين محمد ، وإذا خلا برؤساء قومه من أهل الكفر ، شدوا أيديكم على دين آبائكم .
وخرج ذات يوم مع أصحابه فاستقبلهم نفر من الصحابة - رضوان الله عليهم - فقال عبدُ الله لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال : مرحباً بالصدِّيق سيد بني تيم ، وشيخ الإسلام ، وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذ بيد عمر ، فقال : مرحباً بسيد بني عدي بن كعب ، الفاروق ، القوي في دين الله ، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذ بيد عَلِيّ؛ فقال : مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخِتِنِه ، سيد بني هاشم ، ما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليّ رضي الله عنه : يا عبد الله ، اتق الله ولا تنافق ، فإن المنافقين شرُّ خليقة الله ، فقال عبد الله : مهلاً يا أبا الحسن ، أنى تقول هذا؟ والله إن إيماننا كإيمانكم ، وتصديقنا كتصديقكم ، فنزلت الآية .
ثم ردّ الله تعالى عليهم فقال : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } أي : يفعل بهم فعل المستهزئ؛ بأن يفتح لهم باباً إلى الجنة وهم في النار ، ويطلع المؤمنين عليهم ، فيقول لهم : ادخلوا الجنة ، فإذا جاءوا يستبقون إليها وطمعوا في الدخول ، سُدَّتْ عليهم ورجعوا إلى النار ، { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [ المطفّفِين : 34 ] الآية .
{ وَيَمُدُّهُمْ } أي : يمهلهم { فِي } كفرهم ، و { طُغْيَانِهِمْ } يتحيرون إلى يوم يبعثون؛ لأنهم { اشْتَرُوا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي : استبدلوا بها رأس مالهم ، فضلاً عن الربح ، إذ الإيمان رأس المال ، وأعمال الطاعات ربح ، فإذا ذهب الرأس فلا ربح؛ ولذلك قال تعالى : { فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ } ، بل خسرت صفقتهم ، { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } إلى أسباب الربح أبداً ، لاستبدالهم الهدى - التي هي رأس المال - بالضلالة - التي هي سبب الخسران . وبالله التوفيق .
وها هنا استعارات وبلاغات يطول سردها ، إذ مرادنا تربية اليقين بكلام رب العالمين .
الإشارة : الناس في طريق الخصوص على أربعة أقسام :
قسم : سبقت لهم من الله العناية ، وهبت عليهم ريح الهداية : فصدقوا ودخلوا فيها ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله ، فَتَجِرُوا فيه وربحوا ، فعوّضهم الله تعالى جنة المعارف ، يتبوؤون منها حيث شاءوا ، فإذا قدموا عليه أدخلهم جنة الزخارف ، يسرحون فيها حيث شاءوا ، وأتحفهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم .
(1/23)

وقسم : سبقت لهم من الله الهداية ، وحفتهم الرعاية ، فصدقوا وأقروا ، ولكنهم ضعفوا عن الدخول ، ولم تتعلق همتهم بالوصول ، فبقوا في ضعفاء المسلمين { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ . . . } [ التّوبَة : 91 ] .
وقسم : أنكروا وأظهروا وجحدوا وكفروا ، فتجروا وخسروا ، " مَنْ عَادَى لي وَلِياً فقَد آذنْتُهُ بالْحَربِ " .
وقسم رابع : هم مذبذبون بين ذلك إذا لقوا أهل الخصوصية قالوا : آمنا وصدقنا فأنتم على الجادة ، وإذا رجعوا إلى أهل التمرد من المنكرين - طعنوا وجحدوا ، وقالوا : إنما كنا بهم مستهزئين ، { الله يستهزئ بهم } بما يظهر لهم من صور الكرامات والاستدراجات ، ويمدهم في تعاطي العوائد والشهوات ، وطلب العلو والرئاسات ، متحيرين في مهامه الخواطر والغفلات ، { أولئك الذي اشتروا الضلالة } عن طريق الخصوص من أهل الوصول ، { بالهدى } الذي كان بيدهم ، لو حصل لهم التصديق والدخول ، فما ربحوا في تجارتهم ، وما كانوا مهتدين إلى بلوغ المأمول . قال بعض العارفين : ( التصديق بطريقتنا ولاية ، والدخول فيها عناية ، والانتقاد عليها جناية ) . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/24)

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
قلت : { استوقد } يحتمل أن تكون للطلب ، أو زائدة بمعنى أوقد ، و { لما } شرطية ، و { ذهب } جواب ، وإذا كان لفظ الموصول مفرداً واقعاً على جماعة ، يصح في الضمير مراعاة لفظه فيفرد ، ومعناه فيجمع ، فأفرد في الآية أولاً ، وجمع ثانياً ، ويقال : أضاء يضيء إضاءة ، وضَاء يضُوء ضَوْءاً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : مثل هؤلاء المنافقين من اليهود { كَمَثَلِ } رجل في ظلمة ، تائه في الطريق ، فاستوقد ناراً ليبصر طريق ، فاستوقد ناراً ليبصر طريق القصد { فَلَمَّا } اشتغلت و { أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فأبصر الطريق ، وظهرت له معالم التحقيق ، أطفأ الله تلك النار وأذهب نورها ، ولم يبق إلا جمرها وحرّها . كذلك اليهود كانوا في ظلمة الكفر والمعاصي ينتظرون ظهور نور النبيّ صلى الله عليه وسلم ويطلبونه ، فلما قدم عليهم ، وأشرقت أنواره بين أيديهم كفروا به ، فأذهب الله عنهم نوره ، { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } الكفر والشك والنفاق ، { لاَّ يُبْصِرُونَ } ولا يهتدون ، { صُمٌّ } عن سماع الحق ، { بُكْمٌ } عن النطق به { عُمْي } عن رؤية نوره ، { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } عن غيّهم ، ولا يقصرون عن ضلالتهم .
الإشارة : مَثَلُ مَنْ كان في ظلمات الحجاب قد أحاطت به الشكوك والارتياب ، وهو يطلب من يأخذ بيده ويهديه إلى طريق رشده ، فلما ظهرت أنوار العارفين ، وأحدقت به أسرار المقربين ، حتى أشرقت من نورهم أقطارُ البلاد ، وحَيِيَ بهم جلّ العباد ، أنكرهم وبعد منهم ، فتصامم عن سماع وعظهم ، وتباكَمَ عن تصديقهم ، وعَمِيَ عن شهود خصوصيتهم ، فلا رجوع له عن حظوظه وهواه ، ولا انزجار له عن العكوف على متابعة دنياه ، مثله كمن كان في ظلمات الليل ضالاً عن الطريق ، فاستوقد ناراً لتظهر له الطريق ، فلما اشتعلت وأضاءت ما حوله أذهب الله نورها ، وبقي جمرها وحرّها ، وهذه سنة ماضية : لا ينتفع بالولي إلا مَن كان بعيداً منه . وفي الحديث : " أزْهَدُ النَّاسِ في العَالِم جيرانُه " ، وقد مَثَّلُوا الولي بالنهر الجاري كلما بَعُدَ جَرْيُه عَمَّ الانتفاعُ به ، ومثَّلوه أيضاً بالنخلة لا تُظِلُّ إلا عن بُعْد . والله تعالى أعلم .
(1/25)

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قلت : { أو } للتنويع ، أو بمعنى الواو ، و { الصيب } : المطر ، فَيْعِلٌ ، من صاب المطر إذا نزل ، وهو على حذف مضاف ، أي : أو كذي صيب ، وأصله : صيوب ، كسيد ، قلبت الواو ياء وأدغمت ، ولا يوجد هذا إلا في المعتل كميت وهين وضيق وطيب .
و { الرعد } : الصوت الذي يخرج من السحاب ، و { البرق } : النور الذي يخرج منه . قال ابن عزيز : رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ الله عزَّ وجلَّ ينشىءُ السَّحَابَ فَتنطِقُ أحْسَنَ النطْق ، وتَضْحَكُ أحسَنُ الضحك ، فنطقها الرعدُ ، وضَحِكُها البَرْقُ " وقال ابن عباس : " الرعدُ مَلَكٌ يسوقُ السَّحابَ ، والبرقُ سَوْطٌ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ بهِ السَّحَاب ) . ه . والصواعق : قطعة من نار تسقط من المخراق الذي بيد سائق السحاب ، وقيل : تسقط من نار بين السماء والأرض ، والله تعالى أعلم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ومثل المنافقين أيضاً كأصحاب مطر غزير { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ } وهدير أصابهم في ليلة مظلمة وقفراء مُدْلهمة . فيه { بَرْقٌ } يلمع ، وصاعقة تقمع ، إذا ضرب الرعد وعظم صوته جعلوا { أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } من الهول والخوف حذراً من موت أنفسهم ، وقد ماتت أرواحهم وقلوبهم ، وإذا ضرب البرق كاد { أن يخطف أبصارهم } ، فإذا لمع أبصروا الطريق ، و { مشوا فيه ، وإذا أظلم عيهم قاموا } متحيرين حائدين عن عين التحقيق ، { وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُ } [ البُرُوج : 20 ] . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } بصوت ذلك الرعد ، { وَأَبْصَارِهِمْ } بلمعان ذلك البرق ، { إن الله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء .
هذا مثلهم في تحيّرهم واضطرابهم ، فيحتمل أن يكون من التشبيه المركب ، وهو تشبيه الجملة بالجملة ، أو من المفَصَّل ، فيكون المطر مثالاً للقرآن ، وفيه ذكر الكفر والنفاق المُشَبَّهَيْن بالظلمات ، والوعد عليه والزجر المشبّه بالرعد ، والحُجج الباهرة التي تكاد أحياناً تبهرهم المشبهة بالبرق ، وتخوفهم وروعُهم هو جَعْل أصابعهم في آذانهم ، لئلا يسمعون فيميلوا إلى الإيمان ، وفَضْحُ نفاقهم وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها هي الصواعق . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أهل الخصوصية إذا ظهروا بين العموم بأحوال غريبة وعلوم وَهْبية ، وأسرار ربانية وأذكار نورانية ، دهشوا منهم وتحيّروا في أمرهم ، وخافوا على أنفسهم ، فإذا سمعوا منهم علوماً لدنية وأسراراً ربانية فرّوا منها ، وجعلوا أصابعهم في آذانهم ، خوفاً على نفسهم أن تفارق عوائدها وهواها ، وإذا خاصمهم أحد من العموم ألجموه بالحجة ، فتكاد تلك الحجة تخطفه إلى الحضرة ، كلما لمع له شيء من الحق مشى إلى حضرته ، وإذا كرّت عليه الخصوم والخواطر ، وأظلم عليه الحال ، وقف في الباب حيران ، ولو شاء الله لذهب بعقله وسمعه وبصره ، فيبصر به إلى حضرته . من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِراً }
(1/26)

[ الكهف : 45 ] .
فالصِّيَّب الذي نزل من السماء كِنَايةٌ عن الواردات والأحوال التي ترد على قلوب العارفين ، ويظهر أثرها على جوارحهم ، والظلمات التي فيها كناية عن اختفاء بعضها عن أهل الشريعة فينكرونها ، والرعد كناية عن اللهج بذكر الله جهراً في المحافل والحلق ، والبرق كناية عن العلوم الغريبة التي ينطقون بها والحجج التي يحتجون بها على الخصوم ، فإذا سمعها العوام اشمأزت قلوبهم عن قبولها ، فإذا وقع منهم إنصاف تحققوا صحتها فمالوا إلى جهتها ، ومَشَوْا إلى ناحيتها ، فإذا كَرَّت عليهم الخصوم قاموا منكرين ، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [ هُود : 118 ] .
ولما ذكر الحق من تخلق بالإيمان ظاهراً وباطناً ، ومن تحلّى به كذلك ، ومن أخفى الكفر وأظهر الإيمان ، دعا الكل إلى توحيده وعبادته .
(1/27)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
قلت : جملة الترجي حال من الواو في { اعْبُدُوا } ، أي : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدي والفلاح ، المستوجبين جوار الله تعالى ، نبّه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين؛ وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى - إلى الله تعالى .
و { الَّذي جَعَلَ } صفة للرب ، و { فَلا تَجْعَلُوا } معطوف على { اعْبُدُوا } على أنه نهي ، أو منصوب بأن ، جواب له ، و ( الأنداد ) جمع نِدِّ ، بكسر النون . وهو الشبه والمثل ، و { أَنتُمْ تَعْلَمُونَ } حال من ضمير { فَلاَ تَجْعَلُوا } أي : فلا تجعلوا لله أنداداً والحال أنكم من أهل العلم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا عبادي اعبدوني بقلوبكم بالتوحيد والإيمان ، وبجوارحكم بالطاعة والإذعان ، وبأرواحكم بالشهود والعيان ، فأنا الذي أظهرتكم من العدم - أنتم ومَن كان قبلكم - وأسبلت عليهم سوابغ النعم ، الأرض تقلكم والسماء تظلكم ، والجهات تكتنفكم ، وأنزلت من السماء ماء فأخرجت به أصنافاً { من الثمرات رزقاً لكم } ، فأنتم جوهرة الصدق ، تنطوي عليكم أصداف مكنوناتي ، وأنتم الذين أطلعتكم على أسرار مكنوناتي ، فكيف يمكنكم أن تتوجهوا إلى غيري؟ وقد أغنيتكم بلطائف إحساني وبري ، أنعمت عليكم أولاً بالإيجاد ، وثانياً بتوالي الإمداد ، خصصتكم بنور العقل والفهم ، وأشرقت عليكم نبذة من أنوار القِدم ، فبي عرفتموني ، وبقدرتي عبدتموني ، فلا شريك معي ولا ظهير ، ولا احتياج إلى معين ولا وزير .
الإشارة : توجه الخطاب إلى العارفين الكاملين في الإنسانية الذي يعبدون الله تعظيماً لحق الربوبية ، وقياماً بوظائف العبودية ، وفيهم قال صاحب العينية :
هُم الناسُ فالزمْ إنْ عَرفْتَ جَنَابَهُمْ ... فَفِيهِم لِضُرِّ العالمين مَنَافعُ
وقال قبل ذلك :
همُ الْقَصْدُ للملهوفِ والكنزُ والرجَا ... ومنهم يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طامعُ
بهِم يَهْتَدي للعينِ مَن ضَلَّ في العَمَى ... بهِم يُجذَبُ العُشَّاقُ ، والرَّبْعُ شاسعُ
هم القَصْدُ والمطلوبُ والسؤلُ والمنَى ... واسْمُهُم لِلصَّبِّ في الحبِّ شَافعُ
فعبادة العارفين : بالله ومن الله وإلى الله ، وعبادة الجاهلين : بأنفسهم ومن أنفسهم ولأنفسهم ، عبادة العارفين حمد وشكر ، وعبادة الغافلين اقتضاء حظ وأجر ، عبادة العارفين قلبية باطنية ، وعبادة الغافلين حسية ظاهرية ، يا أيها الناس المخصوصون بالأنس والقرب دوموا على عبادة القريب ، ومشاهدة الحبيب ، فقد رَفَعْتُ بيني وبينكم الحجب والأستار ، وأشهدتكم عجائب الألطاف والأسرار ، أبرزتكم إلى الوجود ، وأدخلتكم من باب الكرم والجود ، ومنحتكم بفضلي غاية الشهود ، لعلكم تتقون الإنكار والجحود ، وتعرفونني في كل شاهد ومشهود .
فقد جعلت أرض نفوسكم مهاداً لعلوم الشرعية ، وسماء قلوبكم سقفاً لأسرار الحقيقة ، وأنزلت من سماء الملوكت ماء غيبياً تحيا به أرض النفوس ، وتهتز بواردات حضرة القدوس ، فتخرج من ثمرات العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، والأحوال المرضية ، ما تتقوت به عائلة المستمعين ، وتنتعش به أسرار السائرين ، فلا تشهدوا معي غيري ، ولا تميلوا لغير إحساني وبري ، فقد علمتم أني منفرد بالوجود ، ومختص بالكرم والجود ، فكيف يرجى غيري وأنا ما قطعت الإحسان؟! وكيف يلتفت إلى ما سواي وأنا بذلت عادة الأمتنان؟! مني كان الإيجاد ، وعليَّ دوام الإمداد ، فثقوا بي كفيلاً ، واتخذوني وكيلاً ، أعطكم عطاء جزيلاً ، وأمنحكم فخراً جليلاً .
ولما أمر عباده بعبادته وتوحيده ، أمرهم بتصديق كلامه والإيمان برسوله .
(1/28)

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
فإن قلت : الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعاً ، فكيف عبّر بإِنْ الدالة على الشك والتردد؟
قلت : { إن } جازمة للفظ الشرط أو محله ، موضوعة للشك في الشرط . و " إذا " لا تجزم في اللفظ ، وتدل على الجزم في المعنى ، وفي ذلك يقول القائل :
إنا إنْ شَككتُ وجدْتُموني جَازِماً ... وإذا جَزمتُ فإنني لَمْ أجزمِ
فإن قلت : الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعاً ، فكيف عبّر بإنْ الدالة على الشك والتردد؟ قلت : لما كان ريبهم واقعاً في غير محله - إذ لو تأملوا أدنى تأمل لزال ريبهم لوضوح الأمر وسطوع البرهان - كان ريبهم كأنه مشكوك فيه ومتردد في وقوعه ، و ( الشهداء ) جمع شهيد بمعنى الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر ، أُطْلِقَ على الأصنام؛ لأنهم يزعمون أنها تشهد لهم ، ومعنى ( دون ) : أدنى مكان من الشيء ، ثم استعير للرُّتَب فقيل : زيد دون عمرو؛ أي : في الشرف ، ثم اتسع فيه فاستعير لكل تجاوزِ حدّ إلى حد ، وتخطّي أمرٍ إلى آخر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَإِن كُنتُمْ } يا معشر الكفار { فِي } شك { مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى } محمد { عَبْدِنَا } ورسولنا المختار لِسِرّ وحينا ، { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن } جنسه في البلاغة والفصاحة ، مشتملة على علوم وأسرار ومغيبات كما اشتمل عليه كتابي ، { وَادْعُوا } من استطعتم ممن تنتصرون به على ذلك الإتيان ، مِن آلهتكم التي تزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة ، أو من حضركم من البلغاء والفصحاء ممن تنتصرون به { مِن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أنها تنفعكم . { فَإن لَّمْ } تقدروا أن { تَفْعَلُوا } ذلك { ولَن } تقدروا ابداً فأسلموا وأقرُّوا بالحق ، و { اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } أي : حجارة الكبريت ، فَهُمَا حطبُها ووقودها { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ } .
{ وَبَشِّرِ } يا محمد ويا مَن يصلح منه التبشير { الَّذِينَ آمَنُوا } بالله ورسوله ، { وَعَمِلُوا } ما كلفوا به من الأعمال { الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارِ } أي : من تحت قصورها ، وهي أنهار من ماء ، وأنهار من عسل ، وأنهار من لبن ، وأنهار من خمر لذة للشاربين . { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } أي : صنفاً ، { قَالُوا هَذَا الَّذِين رُزقْنَا مِن قَبْلُ } في دار الدنيا ، فإن الطباع تميل إلى المألوف ، فالصفة متفقة والطعم مختلف . أو في الجنة ، قيل : هذا لما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفسُ محمدٍ بيدِه إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ الجنةِ لَيتَناولُ الثمرة لِيأكلهَا فما هي واصِلةٌ إلى جَوفِه حتى يبدل الله تعالى مكانها مِثلَها " ، فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك ، لفرط استغرابهم ، وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة ، { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ } أي : حور { مُّطَهَّرَةٌ } من الحيض ، وسائر الأدناس ، ومن الأخلاق المذمومة ، والشيم الذميمة ، { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ فإن النعيم إذا كان يعقُبه الفناء تنغّص على صاحبه ، كما قال الشاعر :
(1/29)

لا خيرَ في العيشِ ما دَامتْ مُنغَّصَةً ... لَذاتُه بادِّكارِ الموتِ والهَرَمِ
الإشارة : وإن كنتم يا معشر العوام في شك مما خصصنا به ولينا من الأنوار ، وما أنزلنا على قلبه من المعارف والأسرار ، وما ظهر عليه من البهجة والأنوار ، وما اهتدى على يديه من الصالحين والأبرار ، فأتوا أنتم بشيء من ذلك ، وانتصروا بما قدرتم من دون الله إن كنتم صادقين في المعارضة ، قال القشيري : وكما أن كيد الكافرين يَضْمَحِلُّ في مقابلة معجزات الرسول ، فكذلك دعاوى المُلْبِسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين . ه .
فإن لم تفعلوا ما ذكرنا من المعارضة ، ولن تقدروا على ذلك أبداً ، فأَذْعنوا ، واخْضعوا ، واتقوا نار القطيعة والحظوظ ، والطمع والهلع ، التي مادتها النفوس والفلوس؛ إذ بهما هلك مَن هلك وفاز مَن فاز؛ أُعدت تلك النار للمنكرين الخصوصية ، الجاحدين لوجود التربية النبوية .
وبَشِّر الصديقين بوجود الخصوصية ، المنقادين لأهلها ، أن لهم جنات المعارف في الدنيا ، وجنات الزخارف في الآخرة ، تجري من تحت قلوب أهلها أنوار العلوم والمعارف ، فإذا كشف لهم يوم القيامة عن أسرار ذاته ، قالوا : هذا الذي عرفناه من قبل في دار الدنيا ، إذ الوجود واحد والمعرفة متفاوتة ، وأتُوا بأرزاق المعارف متشابهة؛ لأن مَنْ عَرَفه في الدنيا عرفه في الآخرة ، ومَن أنكره هنا أنكره يوم القيامة ، إلا في وقت مخصوص على وجه مخصوص ، ولهم في جنات المعارف عرائس المعارف والكشوفات ، مطهرات من أدناس الحس وعبث الهوى والشهوات ، وهم بعد تمكنهم من شهود الذات ، خالدون في عُشّ الحضرة ، فيها يسكنون وإليها يأوون .
وقال القشيري : كما أن أهل الجنة يجدد لهم النعيم في وقت ، فالثاني عندهم على ما يظنون كالأول ، فإذا ذاقوه وجدوه غير ما تقدم ، كذلك أهل الحقائق : أحوالهم في الزيادة أبداً ، فإذا رقي أحدهم عن محله ، توهم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفس مثل ما تقدم ، فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف ، كما قال قائلهم :
ما زِلتُ أنزلُ مِنْ وِدادِكَ مَنْزِلاً ... تَتحَيرُ الألبابُ عِندَ نُزُولهِ
ولما ضرب الله الأمثال في القرآن للمنافقين وغيرهم تكلم في ذلك بعض الكفار والملحدين .
(1/30)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
قلت : الحياء : خُلُق كريم يمنع صاحبه من ارتكاب ما يعاب به ، وفي الحديث : " إنَّ الله حَيِيٌ كَريم " ، و { مثلاً } مفعول ، و { ما } نكرة ، صفته ، و { بعوضة } بدل ، والبعوضة : الذباب . وفي الحديث : " لوْ كَانَتِ الدُّنيَا تُسَاوِي عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ مَا سَقَى الكافرَ منها جَرْعَة ماءٍ " ، وقيل : صِغَار البَقِّ ، أي : إن الله لا يترك أن يضرب مثلاً - أيّ مثل كان - بعوضة فما فوقها . أو { بعوضة } مفعول أول ، و { مثلاً } مفعول ثانٍ ، من باب جعل ، و { ماذا } إما مبتدأ وخبرِ ، على أن { ذا } موصولة ، أو مفعولة بأراد على أنها مركبة ، و { مثلاً } حال أو تمييز . والفسق : الخروج ، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها .
يقوله الحقّ جلّ جلاله : { إنَّ اللَّهَ } لا يترك ترك المستحيي { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } بالخسيس والكبير كالذباب والعنكبوت وغير ذلك . فأما المؤمنون فيتيقَّنُون { أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } ، وحكمته : إبراز المعاني اللطيفة في قوالب المحسوسات ليسهل الفهم ، وأما الكفار فيعترضون ويقولون : { مَاذَا أَرَادَ الله } بهذه الأمثال؟ فإن الله منزه عن ضرب الأمثال بهذه الأشياء الخسيسة ، قال الله تعالى في الرد عليهم : أراد بهذا إضلال قوم بسبب إنكارها ، وهداية آخرين بسبب الإيمان بها ، { وَمَا يُضِلُّ } بذلك المثل إلا الخارجين عن طاعته ، { الذين } نقضوا العهد الذي أُخذ عليهم في عالم الذَّرِّ ، أو مطلق العهد ، { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } من الأنبياء والرسل والأرحام وغيرها ، { وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ } بالمعاصي والتعويق عن الإيمان ، { أَوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الكاملون في الخسران ، نعوذ بالله من الخذلان .
الإشارة : إن الله لا يترك أن يظهر مثلاً من أنوار قدسه بارزاً بقدرته ، مرتدياً برداء حكمته ، ملتبساً بأسرار ذاته ، مَكسُوّاً بأنوار صفاته من الذرة إلى ما لا نهاية له ، فالمتجلِّي في النملة هو المتجلي في الفيلة ، فأما الذين صَدَّقُوا بتجلي الذات في أنوار الصفات ، فيقولون : إنه الحق فائضٌ من نور الربوبية ، محتجباً برداء الكبرياء وسبحات الألوهية . وأما الجاحدون لظهور نور ذات الربوبية فينكرونه في حال ظهوره ، ويقولون : ماذا أراد الله بهذه العوالم الظاهرة؟ فيقول الحق تعالى : أردت ظهور قدرتي وعجائب حكمتي ، ليظهر سر ربوبيتي في مظاهر عبوديتي .
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : " العبودية جوهرة أظهر بها الربوبية " وقيل لأبي الحسن النُّورِي : ما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة؟ فقال : عز ظاهر وملك قاهر ، ومخلوقات ظاهرة به ، وصادرة عنه ، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه ، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه ، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها . ه .
فأراد الله بظهور هذا الكون أن يضل به قوماً فيقفون مع ظاهر غرَّتِه ، ويهدي به قوماً فينفذون إلى باطن عبرته . وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن دائرة الشهود ، المنكرين لتجليات الملك المعبود ، الذين ينقضون عهد الله ، وهو معرفة الروح التي حصلت لها وهي في عالم الذر ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الشيوخ العارفين ، الذين أَهَّلَهُمَ الله للتربية والترقية ، وهم لا ينقطعون ما دامت المِلَّةُ المحمدية ، ويفسدون في الأرض بالإنكار والتعويق عن طريق الخصوص ، بتضييعهم الأصولَ ، وهي صحبة العارفين ، والتأدب لهم ، والتعظيم لحرمتهم . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/31)

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
قلت : { كيف } حال؛ لأنها وقعت قبل كلام تام .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله } وتجحدون نعمه المتوالية ، { و } الحالة أنكم { كُنتُمْ أَمْوَاتاً } نطفاً في الأرحام { فَأَحْيَاكُمْ } بنفخ الروح في أجسادكم ، { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم ، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } عند البعث لحسابكم ، ثم يسكنكم دار القرار ، إما إلى الجنة وإما إلى النار . فهذه الآثار دالّة على باهر قدرته وتمام حكمته ، فقد وضح الحق وظهر ، { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] .
الإشارة : كيف تنكرون ظهور نور الحق في الأكوان ، وتبعدون عن حضرة الشهود والعيان ، وقد كنتم أمواتاً بالغفلة وغم الحجاب ، فأحياكم باليقظة والإياب ، ثم يميتكم بالفناء عن شهود ما سواه ، ثم يحييكم بالرجوع إلى شهود أثره بالله ، ثم إليه ترجعون في كل شيء لشهود نوره في كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، وعند كل شيء " كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان " .
(1/32)

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
قلت : { جميعاً } حال مؤكدة من { ما } ، و { ثم } للترتيب الذكري لا الخارجي؛ لأن دحو الأرض مؤخر عن خلق السماء ، إلا أن يكون العطف على معنى الجملة ، والتقدير : هو الذي خلق لكم الأرض مشتملة على جميع منافعكم ، ثم استوى إلى السماء فخلقهن سبعاً ، ثم دحا الأرض وبسطها .
والتسوية : خلق الأشياء سالمة من العوج والخلل ، و { سبع } : بدل من الضمير ، أو بيان له ، وجملة { وهو بكل شيء عليم } تعليل لما قبله . أي : ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ } لأجلكم { ما } استقر { فِي الأرْضِ جَمِيعاً } تنتفعون به في الظاهر قوتاً لأشباحكم ، ودواء لأبدانكم ، ومتعة لنفوسكم ، وتنتفعون به في الباطن بالتفكر والاعتبار ، وزيادة في إيمانكم وقوة لإيقانكم ، ثم قصد { إلَى السَّمَاءِ } قصد إرادة ، فخلقهن { سَبْعَ سَمَوَاتِ } مستوية تامة ، ليس فيها تفاوت ولا خلل ، تظلكم بِجِرْمِها ، وتضي عليكم بشمسها وقمرها وكواكبها ، وقد أحاط علمه بالأشياء كلها ، فلذلك خلقها على هذا النمط الغريب والإتقان العجيب .
الإشارة : يا عبادي خلقتُ الأشياء كُلَّها من أجلكم ، الأرض تُقلكم ، والسماء تُظلكم ، والجهات تَكْتَنِفُكُمْ والحيوانات تخدُمكم ، والنباتات تنفعكم ، وخلقتكم من أجلي ، فكيف تميلون إلى غيري ، وتنسَوْن إحساني وبرِّي؟!!! الأشياء كلها عبيدكم وأنتم عبيد الحضرة ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكَوِّنَ ، فإذا شهدتَ المكوِّنَ كانت الأكوانُ معك " .
وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى : " يا عبدي؛ إنما منحتك صفاتي لتعرفني بها ، فإن ادعيتها لنفسك سلبتُك الولاية ، ولم أسلبك صفاتي ، يا عبدي : أنت صفتي وأنا صفتك ، فارجع إليَّ أرجع إليك ، يا عبدي : فيك للعلوم باب مفاتحه أنا ، وفيك للجهل باب مفاتحه أنت ، فاقصد أيّ البابين شئت ، يا عبدي : قربي منك بقدر بعدك عن نفسك؛ وبعدي عنك بقدر قربك من نفسك ، فقد عرفتك الطريق ، فاترك نفسك تصل إليَّ في خطرة واحدة ، يا عبدي : كل ما جمعك علي فهو مني ، وكل ما فرقك عني فهو منك ، فجاهد نفسك تصل إليّ ، وإني لغني عن العالمين ، يا عبدي : إن منحتني نفسك رددتها إليك راضية مرضية ، وإن تركتها عندك فهي أعظم بلية ، فهي أعدى الأعادي إليك فجاهدها تَعُدْ بالفوائد إليك " .
وفي بعض الآثار المروية عن الله تعالى : " يا عبدي : أنا بُدُّك اللازم فالزم بُدَّك " .
ويمكن أن يشار بالأرض إلى أرض العبودية ، وبالسماء إلى سماء الحقيقة ، وبالسبع سماوات إلى سبع مقامات؛ وهي الصبر والشكر والتوكل والرضى والتسليم والمحبة والمعرفة . والله تعالى أعلم .
ولما ذكر الخلق العالم العلوي والسفلي ، ذكر كيفية ابتداء من عمَّر العالم السفليَّ من جنس الآدمي .
(1/33)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
لمّا أراد الله تعالى عمارة الأرض ، بعد أن عمَّر السماوات بالملائكة ، أخبر الملائكة بما هو صانع من ذلك؛ تنويهاً بآدم وتشريفاً لذريته ، وتعيماً لعباده أمر المشاورة ، فقال لهم : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } يخلفني في أرضي وتنفيذ أحكامي ، { قَالُوا } على وجه الاستفهام ، أو من الإدلال ، إن كان من المقربين ، بعد أن رأوا الجن قد أفسدوا وسفكوا الدماء : { أَتَجْعَلُ مَن يُفْسِدُ فِيهَا } ، وشأن الخليفة الإصلاح ، { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } ، أي : نسبح ملتبسين بحمدك ، { ونُقَدِّسُ لَكَ } ، أي : نطهر أنفسنا لأجلك ، أو ننزهك عما لا يليق بجلال قدسك ، فنحن أحق بالخلافة منهم .
قال الحقّ جلّ وعلا : { إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } ؛ فإني أعلم أنه يكون منهم رسل وأنبياء وأولياء ، ومن يكون مثلكم أو أعظم منكم ، ولما ألقى الخليل في النار ضجت الملائكة وقال : " يا رب هذا خليلك يحرق بالنار " . فقال لهم : " إن استغاث بكم فأغيثوه " . فلما رفع همَّتَه عنهم قال الحقّ تعالى : { ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون } .
ثم وَجَّهَ الحق تعالى استحقاقه للخلافة؛ وهو تشريفه بالعلم ، فقال : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ، أي مسميات الأسماء؛ بأن ألقى في رُوعه ما تحتاج إليه ذريته من اللغات والحروف ، وخواص الأشياء ومنافعها ، ثم عرض تلك المسميات على الملائكة ، إظهاراً لعجزهم ، وتشريفاً لآدم بالعلم . { فقال } : أخبروني { بأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } المسيمات { إن كنتم صادقين } في ادعائكم استحقاق الخلافة ، فلما عجزوا عن معرفة تلك الأسماء { قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي : تنزيهاً لك عن العبث ، { لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ } بكل شيء ، { الْحَكيمُ } لإتقانك كل شيء ، وهذا اعتراف منهم بالقصود والعجز ، وإشعار بأن سؤالهم كان استفهاماً وطلباً لتفسير ما أشكر عليهم ، ولم يكن اعتراضاً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم } ، وعيِّن لهم اسم كل مسمى ، فلما أخبرهم بذلك بحيث قال مثلاً : هذا فرس وهذا جمل ، وعين ذلك لهم ، وظهرت ميزته عليهم بالعلم حتى استحق الخلافة ، قال الحقّ تعالى : { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : ما غاب ، وأعلم ما تظهرونه من قولكم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا . . . } الخ ، وما تكتمونه من استحقاقكم الخلافة ، وقولكم : لن يخلق الله تعالى أحداً أعلم منا لتقدمنا ، والفضل لمن صدق لا لمن سبق .
قال البيضاوي : اعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان ، ومزية العلم وفضله على العبادة ، وأنه شرط في الخلافة ، بل العمدة فيها ، وأن التعليم يصح إطلاقه عليه تعالى ، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه؛ لاختصاصه بمن يحترف به ، وأن اللغات توقيفية - عملها الله بالوحي - ، وأن آدم عليه السلام أفضل من هؤلاء الملائكة؛ لأنه أعلم منهم ، والأعلم أفضل لقوله تعالى :
(1/34)

{ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزُّمَر : 9 ] ، وأن الله يعلم الأشياء قبل حدوثها . ه . باختصار .
وقال في تفسير الملائكة : إنهم أجسام لطيفة قادرة على التشكل ، وهي منقسمة على قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره ، - وهم العليِّون ، والملائكة المقربون - وقسم يدبرون الأمر من السماء إلى الأرض على ما ثبت به القضاء وجرى به القلم الإلهي ، وهم المدبرات أمراً ، فمنهم سماوية ، ومنه أرضية . ه . مختصراً .
الإشارة : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هي قطعة من الروح الأعظم التي هي المعاني القائمة بالأواني ، وهي آدم الأكبر والأب الأدم ، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
وإنِّي وإنْ كنتُ ابن آدمَ صُورةً ... فلِي فِيه مَعْنىً شاهدٌ بأُبوَّتِي
فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح في هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها ، قالت الملائكة بلسان حالها : كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات ، ويسفك الدماء بالغضب والحميات ، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك؟ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل ، ولم تر ما يصدر في بعضها من التصفية والترقية ، فقال لهم الحق تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } ؛ فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة ، وتعبدني بالفكرة والنظرة ، وتستولي على الوجود بأسره ، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات .
فيقول الحق تعالى للملائكة : هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون ، والاسم المصون ، فقالوا : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } من علم الصفات دون أسرار الذات { إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات : أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت ، وأسماء الملكوت ، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار ، وانفق له من الأنوار ، أقروا بشرف الآدمي ، وسجدوا لطلعة آدم عليه السلام فقال الحق لهم : { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } ؟ أي : ما غاب في سماء الأرواح من الأسرار وفي أرض النفوس من الأنوار ، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد ، وما تكتمونه من الاعتقاد ، والله تعالى أعلم .
ولما تبينّ شرف آدم عليه السلام وبان فضله أمرهم بالسجود له .
(1/35)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قلت : { إذ } ظرف للماضي ، ضد إذا ، وهي معمولة لفعل مقدر ، يفسره قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ } [ الأعرَاف : 86 ] ، فحيثما وردت في القرآن فيقدر له " اذكر " ، والاستثناء متصل؛ إذا قلنا إبليس من الملائكة ، ومنقطع؛ إذا قلنا من الجن . والله تعالى أعلم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { إِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ } ، لام تبينت فضيلة ، آدم أمرهم بالسجود ، فقال لهم : { اسْجُدُوا لآدَمَ } سجود انحناء ، { فَسَجَدُوا } كلهم ، لأنهم شهدوا الجمع ولم يشهدوا الفرق ، فرأوا آدم قِبْلَةً ، أو نوراً من أنوار عظمته ، { إلاَّ إِبْليسَ } أي : امتنع؛ حيث نظر الفرق بحكمة الواحد القهار ، فاستبكر { وكان } من جملة { الْكَافِرِينَ } . وكفره باعتراضه على الله وتسفيه حكمه ، لا بامتناعه؛ إذ مجرد المعصية لا تكفر . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا كمل تصفية الروح ، وظهر شرفها ، خضع لها كل شيء ، وتواضع لها كل شيء ، وانقاد لأمرها من سبقت له العناية ، وهبت عليه ريح الهداية ، لأنها صارت آدم الأكبر ، إلا من إبلسته المشيئة ، وطردته القدرة ، فاستبكر عن تحكيم جنسه على نفسه ، وكان من الكافرين لوجود الخصوصية ، جزاؤه حرمان شهود طلعة الربوبية ، وهبوطه إلى حضيض العمومية .
(1/36)

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قلت : { رغداً } : صفة لمصدر محذوف ، أي : أكلا رغداً واسعاً ، و { تكونا } : منصوب ، جواب الأمر ، أو معطوف على { تقرباً } ، و { أزلهما } : أوقعهما في الزلل بسبب الأكل ، أو أذهبهما عن الجنة ، ويدل عليه قراءة حمزة : " فأزالهما " وجملة { بعضكم لبعض عدو } : حالية ، أي : متعادين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَقُلْنَا يَا آدَم } حين سجدت له الملائكة ودخل الجنة : { اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } حواء { الجنة } ، وكانت خلقت من ضلعه الأيسر ، { وَكُلا } من ثمار الجنة { حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجِرَةَ } : العنب أو التين أو الحنطة؛ { فَتَكُونَا } إن أكلتما منها { مِنَ الظَّالِمِينَ } لنفسيكما . فدخل إبليس خفية أو في فم الحية ، فتكلم مع آدم عليه السلام فقال له آدمُ عليه السلام : ما أحسن هذه الحالة لو كان الخلود . فحفظها إبليس ، ووجد فيها مدخلاً من جهة الطمع ، فقال له : { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةٍ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى } [ طه : 120 ] فدلّه على أكل الشجرة ، وقال : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا } [ الأعرَاف : 20 ] عنها { إِلاَّ } [ الأعراف : 20 ] كراهية { أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 20 ، 21 ] . وأكلت حواء أولاً ، ثم قالت له : قد أكلتُ ولم يضرني ، ثم أكل آدم عليه السلام من جنس الشجرة ، لا من عينها ، متأوّلاً ، فطار التاج واللباس ، وأخرجهما { مما كانا فيه } من رغد العيش والعناء ، وأهبطهما إلى الأرض ، للتعب والعناء ، ليكون خليفة على ما سبق به القضاء .
فقال لهم الحقّ تعالى : { اهْبطُوا } آدم وحواء وإبليس والحية ، { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ } استقرار وتمتع { إلَى حِينٍ } وفاتكم ، فتقدمون علي فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، { فَتَلَقَّى } أي أخذ { آدم من ربه كلمات } وهي : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مَنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعرَاف : 23 } ، { فتاب } الحق تعالى عليه واجتباه لحضرته ، فإنه توّاب كثير التوبة على عباده ، رحيم بهم ، أرحم من أبيهم وأمهم ، اللهم ارحمنا رحمة تعصمنا بها عن رؤية السّوي ، إنك على كل شيء قدير .
الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله للروح ، إذا كمل تهذيبها ، وتمت تريبتُها : اسكن أنت وبشريتك التي تزوجتها - قال تعالى : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [ التّكوير : 7 ] - جنة المعارف ، وَكُلا من ثمار أذوابها وأنهار علومها ، وتبوَّءًا من قصور ترقياتها ، أكلاً واسعاً ما دمتما متحليين بالأدب ، ولا تقربا شجرة المعصية وسوء الأدب { فتكونا من الظالمين } ، فلما سكنت جنة الخلود ، وشَرهَتْ إلى الخلود ، أهبطها الله إلى أرض العبودية ، وردها إلى البقاء؛ لتستحق الخلافة ، وتقوم بحقوق الربوبية ، بسبب ما ارتكبه من المعصية ، وهي الشَّرهُ إلى دوام الحرية ، " أكْرِمْ بها معصيةً أورثت الخلافة! " ، فكل ما ينزل بالروح إلى قهرية العبودية ، فهو سبب إلى الترقي لشهود نور الربوبية ، وربما قضي عليك بالذنب فكان سبب الوصول ، فلام أراد الحق تعالى أن ينزلها إلى أرض العبودية بالسلوك بعد الجذب ، قال لها ولمن يحاربها من الشيطان والهوى والدنيا وسائر الحظوظ : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ، ولكم - أيها العارفون بعد جهاد أعدائكم - في أرض العبودية ، استقرار وتمتعٌ بتجليات أنوار الربوبية ، إلى حين الملاقاة الحقيقية . فتلقت الروح من ربها كلمات الإنابة ، وهبَّ عليها ، نسيم الهداية ، بما سبق لها من عين العناية ، فتاب عليها ، وقرَّبها إلى حضرة الشهود ، ومعاينة طلعة الملك الودود ، إنه تواب رحيم جواد كريم .
(1/37)

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
قلت : { إن } : شرط ، و { ما } زيدت لتقوية الشرط ، ولذلك دخلت نون التوكيد ، وعبر بإن دون { إذا } ، مع تحقق مجيء الهدى؛ لأنه غير واجب عقلاً ، وجملة الشرط الثاني وجوابه ، الشرط الأول ، و { جميعاً } حال مؤكدة؛ أي : اهبطوا أنتم أجمعون ، ولذلك لا يقتضي اجماعهم على الهبوط في زمان واحد .
ولما أمر الحقّ جلا جلاله آدم أولاً بالهبوط من الجنة ، جعل يبكي ويتضرّع ويقول : ألم تخلقني بيدك؟ ألم تسجد لي ملائكتك؟ ألم تدخلني جنتك؟ ثم ألهم الكلمات التي تلقاها من ربه ، فتاب عليه ورحمه ، فطمع آدم حين سمع من ربه قبول توبته في البقاء في الجنة ، فقال له الحقّ جلّ جلاله : يا آدم لا يجاورني من عصاني ، وقد سبقت كلمتي بهبوطك إلى الأرض لتكون خليفتي بذريتك ، فكرّر عليه الأمر بالهبوط ثانياً . فقال : { اهبطوا منها جميعا } أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما . فمهما { يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً } أي : بيان وإرشاد إلى توحيدي ومعرفتي ، على يد رسول أو نائب عنه ، { فَمَن تَبعَ } ذلك الإرشاد ، واهتدى إلى معرفتي وتوحيدي ، وعمل بطاعتي وتكاليفي ، { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من لحُوق مكروه { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } من فوات محبوب ، لأني أَصرف عنهم جميع المكاره ، وأجلب لهم المنافع ، { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } الدالّة على قدرتنا المنزلة على رسلنا ، { وَاسْتَكْبَرُواْ } [ النِّساء : 173 ] عن النظر فيها ، أو عن الخضوع لمن جاء بها ، { أُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
الإشارة : إذا سكنت الأرواح في عُشِّ الحضرة ، وتمكنت من الشهود والنظرة ، أمرها الحق تعالى بالنزول إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ ، فتنزل بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، لا لطلب جزاء أو لقضاء شهوة ، بل تنزل بالله ومن الله وإلى الله ، فمن نزل منها على هذا الهدى الحسن { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ، ومن ركب بحر التوحيد مع غير رئيس عارف ، ولم يأوِ إلى سفينة الشريعة ، واستكبر عن الخضوع إلى تكاليفها لعبت به الأمواج ، فكان من المغرقين . { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ؛ لأن من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق ، ومن تشرع ولم يتصوف فقد تفسق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق ، جعلنا الله ممن تحقق بهما . وسلك على مهاجهما إلى الممات ، آمين .
ولما ذكر الحق تعالى شرف كتابه ، ونفى وجد الريب عن ساحته ، ثم دعا إلى توحيده ، وبرهن على وجوده ، بابتداء خلق العالم من عرشه إلى فرشه ، وذكر كيفية ابتداء عمارته ، خاطب بني إسرائيل؛ لأنهم أهل العلم بالأخبار المتقدمة ، وقد مسعوا هذه الأخبار نَبِي أُمِّي لم يُعْهَدْ بقراءةٍ ولا تعلم ، فقامت الحجة عليهم ، وتحققوا أنه من عند الله . وما منعهم من الإسلام إلا الحسد وحب الرئاسة ، فلذلك أطال الحق الكلام معهم ، تارةً يُقرِّعَهم على عدم الإيمان وما فعلوا مع أنبيائهم ، وتارة يذكرهم النعم التي أنهم الله على أسلافهم .
(1/38)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
قلت : { إسرائيل } : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليهم الصلاة السلام - وهو اسم عجمي ، وبنو تميم تقول : " إسرائين " بالنون ، ( وإسرا ) بالعبرانية : عبد ، و ( إيل ) : اسم الله تعالى ، فمعناه : عبد الله ، وبنو إسرائيل : هم أولاد يعقوب عليه السلام ، و { بعهدي } من إضافة المصدر إلى فاعله ، و { بعهدكم } إلى مفعوله ، و { إياي } منصوب بفعل مضمر ، يُقدر مؤخراً . أي : أياي ارهبوا فارهبون . وحذف مفعول { ارهبون } لرؤوس الآي وكذا قوله : { وإياي فاتقون } ، والرهبة : خوف مع تحرُّز ، و { تكتموا } : معطوف على { تلبسوا } ، أو منصوب بأن مضمرة بعد النهي ، و { أنتم تعلمون } : جملة حالية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ } التي خصصتُكم بها ، بأن فضلتكم على أهل زمانكم ، وجعلت فيكم أنبياء ورسلاً ، كلما انقرض نبيّ بعثت نبيّاً آخر ، وجعلتكم ملوكاً وحكاماً على الناس ، قبل أن تفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء ، فتكفروا بهذه النعم ، فإن الإنسان حسود غيروٌ بالطبع ، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الحسد والغيرة على السخط والكفران ، وإذا نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر ، فاذكروا ما أنعمت به عليكم ، وقيدوه بالشكر ، { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } الذي عهدت إليكم ، وهو أنكم إن أدركتم محمداً صلى الله عليه وسلم لتؤمنن به ولتنصرنه ، ولتبينن صفته التي في كتابكم ، ولا تكتمونها ، { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } بأن أدخلكم جنتي ، وأبيح لكم النظر إلى وجهي ، وأحل عليكم رضواني في جملة عبادي ، ولا ترهبوا أحداً غيري ، فإنه لا فاعل غيري .
وبادروا إلى الإيمان { بِمَا أَنْزَلْتُ } على محمد رسولي ، من كتابي ، الذي هو مصدق { لِّمَا مَعَكُمْ } من التوراة ، ومهيمن عليه ، { وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ } فريق { كَافِرِ بِهِ } ، فتبوؤوا بإثمكم وإثم من تبعكم ، ولا تستبدلوا الإيمان الذي هو سبب الفوز في الدارين ، بالعرضِ الفاني الذي تأخذونه من سفلتكم ، فإنه ثمن قليل يعقبه عذاب جليل وخزي كبير . ولا تخشوا أحداً سواي؛ فإن النفع والضرر بيدي ، ولا تخلطوا { الْحَقَّ } الذي هو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته التي في كتابكم ، { بِالْبَاطِلِ } الذي تريدونه تحريفاً وتأويلاً ، { و } لا { تكتموا الحّقَّ } الذي عندكم ، من ذكر محمد وصحة رسالته ، { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم محرفون ، ولابسون عناداً وحسداً ، فيحل عليكم غضبي وعقابي ، { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى } [ طه : 81 ] . فإذا حصلتم أصول الدين ، وهو الإيمان ، فاشتغلوا بفروعه ، وهي الصلاة والزكاة وغيرهما ، فأدوهما على منهاج المسلمين . واجعلوا صلاتكم في جماعة المؤمنين؛ فإنَّ صلاة الجماعة تُفضلُ غيرها بسبعٍ وعشرين درجة ، مع سريان واقتباس الأنوار من الصالحين والأبرار ، وبالله التوفيق .
الإشارة : إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة ، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه لكل سامع ، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين ، كان المراد بذلك تحذير كل مَن يسمع ، فكأن الحق جلّ جلاله يقول : يا بني آدم اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، وتفكروا في أصولها وفروعها ، واشكروني عليها بنسبتها إليَّ وحدي ، فإنه لا منعم غيري ، فمن شكرني شكرته ، ومن فيض إحساني وبري مددته ، ومن كفر نعمتي سلبته ، وعن بابي طردته ، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية ، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية .
(1/39)

أو : { أوفوا بعهدي } بالقيام برسوم الشريعة ، { أوفِ بعهدكم } بالهداية إلى منار الطريقة ، أو : { أوفوا بعهدي } بسلوك منهاج الطريقة ، { أوفِ بعهدكم } بالإيصال إلى عين الحقيقة ، أو : { أوفوا بعهدي } بالاستغراق في بحر الشهود ، { أوفِ بعهدكم } بالترقي أبداً غلى الملك الودود ، وخصّوني بالرهب والرغب ، وتوجهوا إليّ في كل سؤال وطلب ، أعطف عليكم بعنايتي وودي ، وأمنحكم من عظيم إحساني ورفدي ، { وآمنوا بما أنزلت } على قلوب أوليائي ، ومن مواهب أسراري وآلائي ، تصديقاً لما أتحفت به رسلي وأنبيائي ، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم ، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائي ، فتكونوا سبباً في طرد عبادي عن بابي ، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائي ، ولا ترقبوا أحداً غيري ، فإني أمنعكم من شهود سري .
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } ، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين ، تتزيوا بزي الأولياء ، تفعلوا فعل الأغوياء ، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادي ، فلا تكتموها عن أهل محبتي وودادي ، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجاري الأقدار ، وأدّوا زكاة النفوس بالذل والانكسار ، وكونوا مع الخاشعين ، { واركعوا مع الراكعين } ، أمنحكم معونتي ونصري ، وأفيض عليكم من بحر إحساني وبري ، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي .
(1/40)

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
قلت : البر ، بالكسر : يجمع وجوه الخير وأنواع الطاعات ، والنسيانُ : الترك .
يقول الحقّ جلّ جلاله في توبيخ أخبار اليهود : كانوا إذا استرشدهم أحد من العرب دلّوه على الإسلام ، وقالوا له : دين محمد حق ، وهم يمتنعون منه ، وقيل : كانوا يأمرون الناس بالصدقة وهم يبخلون ، فقال لهم : كيف { تأمرون الناس بالبر } والإحسان ، وتتركون { أَنفُسَكُمْ } في الكفر والعصيان ، وأنتم تدرسون التوراة الصحيح ، وتعلمون أن ذلك من أقبح القبيح؟ ، أفلا عقل لكم يزجركم عن هذه الخصلة الذميمة؟؛ فإن من شأن العقل التمييز بين القبيح والحسن والنافع والضار ، فكل من تقدم لما فيه ضرره فلا عقل له .
الإشارة : كل مَن أشار إلى مقام لم يبلغْ قدمه إليه ، فهذا التوبيخ متوجِّهُ إليه ، وكل مَن ذكر غيره بعيب لم يتخلص منه ، قيل له : أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك خالية منه ، فلا يسلم من توبيخ هذه الآية من أهل التكذير إلا الفرد النادر من أهل الصفاء والوفاء .
وقال البيضاوي : ( المراد بها حثّ الواعظ على تزيكة النفس ، والإقبال عليها بالتكميل لتُقَوم فيُقَيِّم ، لا منع الفاسق عن الوعظ ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر ) . فانظره . وتأمل قول القائل :
يا أيهَا الرجلُ المعلِّمُ غيرَه ... هلاَّ لنفسِك كانَ ذا التعليمُ
تَصِف الدواءَ لِذي السقامِ وذي الضنَا ... ومِن الضَّنَا وجَواهُ أنتَ سقيمُ
وأراكَ تلقحُ بالرشادِ عقُولَنا ... نُصْحاً ، وأنت مِن الرشادِ عديمُ
أبدأ بنفسِك فانْهَهَا عَن غَيَّها ... فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ
فَهُناك يُقْبَلُ إن وعظتَ ، ويُقتدَى ... بالقول منكَ ، وينفعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه ... عارٌ علَيكَ إذا فعلتَ عظيمُ
لكن مَنْ حصل له بعض الصفاء ذكر غيره ونفسه معهم ، وكان بعض أشياخنا يقول حين يذكر الفقراء : نحن إنما ننبح على نفوسنا .
(1/41)

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
قلت : الصبر : هو حبس القلب على حكم الرب ، فيحتمل أن يراد به ظاهره ، أو يراد به هنا الصوم ، لأن فيه الصبر عن الشهوات . والخشوع في الجوارع : سكونها وذُلها ، والخضوع في القلب : انقياده لحكم الرب .
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا مَن ابتلي بالرئاسة والجاه ، استكبر عن الانقياد لأحكام الله؛ التي جاءت بها الرسل من عند الله ، استعن على نفسك { بالصبر } على قطع المألوفات ، وترك الحظوظ والشهوات ، وأصل فروعها حب الرئاسة والجاه ، فمن صبر على تركهما فاز برضوان الله . وفي الحديث : " وفي الصبر على ما تكرَهُ خيرٌ كثير " .
قال الشاعر :
والصَّبْرُ كالصْبرِ مُرٌ في مذَاقَتِه ... لَكِنْ عَواقِبُه أحلَى مِن العسلِ
أو : { وَاسْتَعِينُوا } بالصوم { وَالصَّلاةِ } ، فإن في الصوم كَسْرَ الشَّهْوَةِ وتصفية النفس ، فإذا صفت النفس من الرذائل تحلت بأنواع الفضائل ، كالتواضع والإنصاف ، والخشوع وسائر سني الأوصاف ، وفي الصلاة أنواع من العبادات النفسية والبدنية ، كالطهارة ، وستر العورة ، وصرف المال فيهما ، والتوجه إلى الكعبة ، والعكوف للعبادة ، وإظهار الخشوع بالجوارح ، وإخلاص النبيّة بالقلب ، ومجاهدة الشيطان ، ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن ، وكف النفس عن الأطْيَبَيْنِ ، وفي الصلاة قضاء المآرب وجبر المصائب ، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - إذا حزّ به أمر فزع إلى الصلاة ، { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي : شاقة على النفس؛ لتكريرها في كل يوم ، ومجيئها وقت حلاوة النوم ، { إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } الذين سكنت حلاوتها في قلوبهم ، وتناجوا فيها مع ربهم ، حتى صارت فيها قُرَّة عينهم .
الذين يتيقنون { إَنَّهُمْ مُّلاقُوا رَبِّهِمْ } فيتنعمون بالنظر إلى وجه الكريم ، ويتيقنون أيضاً أنهم راجعون إلى ربهم بالبعث والحشر للثواب والعقاب ، وإنما عبَّر الحق تعالى هنا بالظن في موضع اليقين إبقاء على المذنبين ، وتوفراً على العاصين ، الذين ليس لهم صفاء اليقين؛ إذ لو ذكر اليقين صرفاً لخرجوا من الجملة ، فسبحانه من رب حليم ، وجواد كريم . اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة واليقين ، حتى لا يختلج قلوبنا وَهْمٌ ولا ريب ، يا رب العالمين .
الإشارة : يا من رام الدخول إلى حضرة الله ، تذلل وتواضع لأولياء الله ، وتجرّع الصبر في ذلك كي يدخلوك حضرة الله ، كما قال القائل :
تَذللْ لِمنْ تهْوى؛ فَلَيْسَ الهوَى سَهْلُ ... إذا رَضِي المَحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوَصْلُ
فإن منعك من ذلك حب الرئاسة والجاه ، فاستعن على ذلك بالصبر والصلاة ، فإن الصبر عنوان الظفر ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . فأدمن قرع الباب حتى تدخل مع الأحباب ، فالإدمان على عبادة الصلاة أمره كبير ، إلا مَن خلص إلى مناجاة العلي الكبير ، وتحقق بملاقاة الشهود والعيان ، ورجع إلى مولاه في كل أوان ، فإن الصلاة حينئذٍ تكون له من قرّة العين . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
ولما أمرهم بالأصول والفروع ، ذكَّرهم بالنعم ، وخوفهم بالوعيد على عدم شكرها .
(1/42)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
قلت : { العدل } بالفتح : الفداء ، وبالكسر : الحمل ، وجملة { لا تجزي } : صفة ليوم ، والعائد محذوف ، أي : لا تجزي فيه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ } على آبائكم بالهداية وبعث الرسل ، { وَأنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } : أهل زمانكم ، فاذكروا هذه النعم واشكروني عليها؛ بأن تتبعوا هذا النبيّ الجليل ، الذي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل .
وخافوا { يَوْماً } لا تَقْضي فيه { نَفْسٌ عَن نَّفْسِ شَيْئًا } بحيث لا تجلِب لها نفعاً ، ولا تدفع عنها ضرراً ، ولا تقبل { مِنْهَا شَفَاعَةٌ } إن وقعت الشفاعة فيها ، ولا يؤخذ منها فداء ، إن أرادت الفداء عنها ، ولا تنتصر في دفع العذاب ، إن أرادت الانتصار بعشيرتها . فانتفى عنها وجوه الامتناع من العذاب بأي وجه أمكن؛ فإن الإنسان إذا أُخذ للنكال احتال على نفسه إما بالشفاعة ، أو بالفداء إن لم تقبل الشفاعة فيه ، أو بالانتصار بأقاربه ، والآيةُ في الكفار ، فلا حجةَ لمن ينفِي الشفاعة في عُصَاة المؤمنين ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد يتوجَّهُ العتاب إلى أهل الرئاسة والجاه ، من العلماء والصالحين ، وكل من خُصَّ بشرف أو خصوصية ، فيقول لهم الحق تعالى : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } بالعلم أو السيادة أو الصلاح ، وبأن فضلتكم على أهل زمانكم ، وخصصتكم من أبناء جنسكم؛ فقد رُوِيَ : " أنَّ العبد يُحاسب على جاهه كما يُحاسب على ماله " . فمن صرفه في طاعة الله ، وتواضع لعباد الله ، وسعى في حوائجهم ، وأبلغ الجهد في قضاء مآربهم ، كان ذلك شكراً لنعمة الجاه؛ فقد رُوِيَ في الحديث : " مَنْ سَعَى في حَاجَةِ أخيهِ المسْلِم ، قُضِيتْ أو لَم تُقْضَ ، غُفِر لَه ما تقدَم مِنْ ذنبه ، وكُتب له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق " .
ولا يأخذ على ذلك أجراً ولا جُعلاً؛ فإنَّ ذلك سحت وربا ، ومن تكبّر به وطغى ، أو أخذ على ذلك أجراً ، قيل له يوم القيامة : قد استوفيت أجرك فلا حظ لك عندنا ، فلا تنفعه شفاعة ، ولا يقبل منه فداء ، ولا يقدر أن ينتصر من موارد الهوان والردى ، ففي بعض الأخبار : يقول الله تعالى للفقراء الذين يعظمون في الدنيا لأجل فقرهم : ألم أرخص لكم الأسعار؟ ألم أوسع لكم المجالس؟ ألم أُعطِّف عليكم عبادي؟ فقد أخذتم أجركم في الدنيا . أو كما قالك والله تعالى أعلم .
(1/43)

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
قلت : { إذ } : معمول لاذكروا ، و { فرعون } : اسم لكل من ملك القبط ، كما أن قيصر اسم لمن ملك الروم ، وكسرى اسم لمن ملك الفرس ، واسم { فرعون } الذي كان في زمن موسى عليه السلام : " مصعب بن ريان " ، وقيل : ابنه الوليد . وسَام يسُوم : طلب وبغى ، يقال : سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً ، وجملة { يسومونكم } : حال من { آل فرعون } ، وجملة { يذبحون } : بيان لها . وسوء العذاب : أفظعه وأقبحه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمة أخرى أنعمت بها على أسلافكم ، وأنتم عالمون بها ، وذلك حين أنجيناكم من عذاب فرعون ورهطه ، يولونكم أقبحَ العذاب وأشنعَه ، كانوا يستعبدون رجالكم ونساءكم في مشاق الخدمة والمهنة ، ولمّا أخبره الكهان أنه سيخرج منكم ولد يُخَرِّب ملكه ، جعل يذبح ذكوركم ويترك نساءكم ، وفي ذلكم محنة { مِن رَّبِّكُمْ } وابتلاء { عَظِيمٌ } ، أو في ذلك الإنجاء اختبار من ربكم عظيم ، فاذكروا هذه النعمة ، وتحصنوا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من محنة أخرى ، ولا ينفع حذرٌ من قدر ، { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرَاً مَّقْدُوراً } [ الأحزَاب : 38 ] . وبالله التوفيق .
الإشارة : لكل زمان فراعين وجبابرة يقطعون الناس عن الانقطاع إلى الله والدخول إلى حضرة الله ، { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] ،
يقول الحقّ جلّ جلاله للذين تخلصوا منهم : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم بها؛ حيث أنجيتكم من فراعين زمنكم ، { يسومونكم سوء العذاب } ؛ وهو البقاء في غم الحجاب ، والانقطاع عن الأحباب ، يقتلون ما ربيتم من اليقين في قلوبكم والمعرفة في أسراركم ، ويستحيون شهواتكم وحظوظكم ، { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } . قال تعالى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ . . . } [ الأنعَام : 116 ] . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/44)

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
ثم ذكَّرهم الحق تعالى نعمة أخرى؛ وهي فلق البحر وإغراق العدو ، فقال :
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا أيضاً حين { فرقنا } بسببكم { البحر } ، حين فررتم من عدوكم ، فسلكتم فيه اثنيْ عشر مسلكاً يابساً ، حتى خلصتم إلى الشام ، فلما أدرككم عدوُّكم ، واسْتَتَمَّ دخولهُ فيه ، أطبقنا عليهم البحر { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } وأنتم تعاينون غرقهم وهلاكهم ، فاشكروا هذه النعم التي أنعمت بها على أسلافكم ، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم على نبي أُمي ، لم يكن له علم بهذا ، حتى علمه بالوحي من ربكم .
الإشارة : قال بعض الحكماء : ( الهوى بحر لا ساحل له إلا الموت ) : فلا يقطع بحر الحظوظ والعوائد ، إلا الخواص ، الذين منَّ الله عليهم بسلوك الطريقة ، والغرق في بحر الحقيقة ، على يد رجلا جمعوا بين الشريعة والحقيقة ، فيقول الحق - جلّ جلاله - لمن تخلَّص من بحر هواه ، وأفضى إلى مشاهدة مولاه : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم؛ حيث خلصتكم من بحر الشهوات والعوائد ، وأطلعتكم على أسرار العلوم وذخائر الفوائد ، وأغرقنا فيه من تكبّر وطغى ، وأنتم تنظرون ما فيه الناس من غم الحجاب وسوء الحساب ، في بحر لجى يغشاه موج الذنوب ، من فوقه موج الحظوظ ، من فوقه سحاب الأثر ، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً لما له من نور . وبالله التوفيق .
(1/45)

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
قلت : { أربعين } : مفعول لواعدنا ، لا ظرف ، و { العجل } : مفعول أول ، والثاني محذوف ، أي : اتخذتموه إليهاً ، و { الفرقان } : معطوف على { الكتاب } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا أيضاً حين { وَاعَدْنَا مُوسَى } أن يصوم { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } بأيامها متواصلة ، وذلك حين طلبتم منه أن ينزل عيه الكتاب فيه بيان الأحكام ، ثم لما صامها ، وهي : ذو القعدة وعشر ذي الحجة ، وأتى إلى المناجاة ، كفرتم ، و { اتَّخَذْتُمُ الْعَجْلَ } الذي صاغه السامِريُّ من الحُليّ ، الذي أخذته نساء بني إسرائيل من القبط عارية ، ففرّوا به ظنّاً منهم أنه حلال ، فقال لهم هارون عليه السلام : لا يحل لكم ، فطرحوه في حفرة ، فصاغ منه السامري صورة العجل ، وألقى في جوفه قبضة أخذها من تحت حافر فرس جبريل عليه السلام حين عبر معهم البحر ، فجعل يخور ، فقال السامري : { هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } [ طه : 88 ] ، { وأنتم ظالمون } في عبادته ، { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } بالتوبة وقتل النفس على ما يأتي ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، فلا فلا تعصون نعمة ، { و } اذكروا أيضاً { إذْ آتينا موسَى الكِتَابَ } الذي طلبتم ، وهو التوراة ، وهو { الفرقان } الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل ، كي تهتدوا إلى الصواب فتنجوا من العذاب .
الإشارة : ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السلام في استعمال هذه الأربعين ، ينفردون فيها إلى مولاهم ، مؤانسة ومناجاة ، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني ... مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي
وقال :
صارتْ جِبالِيَ دكّاً ... مِنْ هَيْبَةِ المُتَجَلِّي
فيفارقون عشائرهم وأصحابهم في مناجاة الحبيب ، والمؤانسة بالقريب ، فمن أصحابهم مَن يبقى على عهده في حال غيبة شيخه ، من المجاهدة والمشاهدة ، ومنهم مَن تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه؛ فيظلم نفسه بمتابعة دنياه ، فإن بادر بالتوبة والإقلاع ، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع ، وقع عنه العفو والغفران ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان ، وإلا باء بالعقوبة والخسران ، وكل مَن اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب ، طالباً جمع قلبه ، ورضى ربه ، فلا بد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية ، من لدن حكيم عليم ، يظهر بها الحق ، ويدفع بها الباطل ، فيفرق بين الحق والباطل . والله تعالى أعلم .
(1/46)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
قلت : البارىء هو : المقدر للأشياء والمظهر لها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين { قال } موسى { لقومه } لما رجع من الطور ، ووجدهم قد عبدوا العجل : { يَا قَوْم إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنفُسَكُم } وبخستموها { باتخاذكم العجل } إلاهكم ، { فَتُوبُوا إلَى } خالقكم الذي صوركم في أحسن تقويم ، { فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } بهدم هذه البنية التي ركبتها في أحسن صورة ، فبخستموها ، ولم تعرفوا قدرها ، فعبدتم أبلد الحيوان ، الذي هو البقرة . من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تُسترد منه .
فذلكم القتل والمبادرة إلى التوبة { خير لكم } عِندَ خالقكم ، لأنه يفضي إلى الحياة الدائمة والبهجة السرمدية ، فلما صعب عليكم القتل؛ للشفقة على الأخ أو القريب ، ألقينا عليكم ضبابة حتى أظلم المكان ، فاقتتلتم من الغداة إلى العشي ، فدعا موسى وهارون - عليهما السلام - بالكشف عنهم ، فرفعت السحابة ، وقد قُتل سبعون ألفاً ، ففعلتم ذلك القتل ، فتاب الحق تعالى عليكم ، فقبل توبة مَن بقي منكم ، وعفا عمت مات؛ { إنه هو التواب الرحيم } أي : كثير التوفيق للتوبة ، أو كثير قبولها ، الرحيم بعباده المؤمنين .
الإشارة : ما قاله سيدنا موسى عليه السلام لقومه ، يقال مثله لمن عبد هواه ، وعكف على متابعة دنياه : يا من بخس نفسه بإرخاء العنان في متابعة هواها ، حتى حرمها من مشاهدة جمال مولاها ، تُب إلى ربك ، وانتبه من غفلتك ، واقتل نفسك بمخالفة هواها ، فلعلها تحيا بمشاهدة مولاها ، فما دامت النفس موجودة ، وحظوظها لديها مشهودة ، وآمالها ممدودة ، كيف تطمع أن تدخل حضرة الله ، وتتمتع بشهود جماله وسناه؟!
إن تُرِدْ وصْلَنا فَمَوتُكَ شَرْطٌ ... لا يَنالُ الوِصَالَ مَنْ فيهِ فَضْلَهْ
وقال الحلاجُ في هذا المعنى :
لَمْ أُسْلِم النفسَ للأسقامِ تُتْلِفُها ... إلاَّ لِعِلْمِي بأَنَّ الوصْلَ يُحْيِيهَا
وقال أيضاً :
أُقتُلوني يا ثقاتي ... إِنَّ في قَتْلِي حَياتِي
وحَيَاتي في مَماتِي ... وممَاتي في حَياتي
أنا عندي : مَحْوُ ذَاتي ... من أجَلِّ المكْرُمَاتِ
وبَقَائِي في صِفاتي ... مِنْ قبيحِ السيِّئَاتِ
وقال أيضاً :
إنْ كان سَفْكُ دَمي أقْصَى مُرادِكُمُ ... فَمَا غَلَتْ نظرةٌ مِنكُم بِسَفْك دَمِي
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : ( لا يدخل على الله إلا من بابين ، أحدهما : الموت الحسي ، وهو الموت الطبيعي ، والآخر : الموت الذي تعنيه هذه الطائفة ) . ه . وهو موت النفوس ، فمن لم تمت نفسه لم تَحْيَى روحه .
وقال بعض العارفين : ( لا يحصل الدخول على الله حتى يموت أربع موتات : موت أحمر ، وموت أسود ، وموت أبيض ، وموت أخضر . أما الموت الأحمر فهو مخالفة الهوى ، وأما الموت الأسود فهو تحمل الأذى ، وأما الموت الأبيض فهو الجوع - أي : المتوسط - وأما الموت الأخضر فهو لبس المرقعات ، وطرح الرقاع بعضها على بعض ) .
قلت : ورأس الهوى وعنصره هو حب الجاه وطلب الرئاسة . فمن نزل إلى أرض الخمول ، وخرق عوائد نفسه فيه ، انخرقت له الحجب ، ولاحت له الأنوار ، وأشرقت عليه الأسرار في مدة قريبة ، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/47)

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
قلت : { جهرة } مصدر نرى؛ لأنه نوع منه ، أي : نرى الله رؤية عيان ، أو حال من الفاعل ، أي : نراه معاينين له ، أو من المفعول؛ أي : نراه معاينة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا أيضاً ، يا بني إسرائيل ، حين قلتم لموسى عليه السلام لما رجع من الطور ، ووجدكم قد عبدتم العجل ، فأخذ منكم سبعين رجلاً ممن لم يعبد العجل ، وذهب يعتذر ، فلما سمعتم كلامي أنكرتموه وحرفتموه ، وقلتم : { لَن نُؤْمِنَ لَكَ } أن هذا كلام الله { حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةِ } بسبب طلبكم ما لا طاقة لكم به ، فغبتم عن إحساسكم ، وذهبت أرواحكم ، { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } ما فعل بكم ، فاستشفع فيكم موسى عليه السلام وقال : يا { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّا } [ الأعرَاف : 155 ] كيف أرجع إلى قومي بغير هؤلاء؟ { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْد مَوْتِكُمْ } وعشتم زماناً بعد ذلك { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعمة ، وتقومون بحسن الخدمة ، فتقروا بربوبيتي ، وتصدقوا برسلي ، فلم تفعلوا .
الإشارة : من شأن الأرواح الطيبة التشوق إلى الحضرة ، والتشوف إلى العيان والنظرة ، فلا يحصل لها كمال التصديق والإيقان إلا بعد الشهود والعيان ، فلما علم الحق سبحانه من بعض الأرواح صدق الطلب ، رفع عنها الحجاب ، وفتح لها الباب ، فأخذتها صاعقة الدهشة والحيرة ، ولم تطق صدمة المشاهدة والنظرة ، فغابت عن الأشكال والرسوم في مشاهدة أنوار الحي القيوم ، ثم مَنَّ عليها بالبعث من موت الفناء إلى حياة البقاء ، فأمنت من الشقاء ، فحصلت لها الحياة الدائمة والسعادة السرمدية . فالصاعقة عند أهل الفن هي عبارة عن الغيبة عن النفس ، وفناء دائرة الحس ، وهي شهود عدمك لوجود الحق ، والبعث منها هو مقام البقاء ، وهو شهود الأثر بالله . وهو مقام حق اليقين . وحاصلة : شهود وجود الحق وحده ، لا عدمك ولا وجودك ، " كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان " . وبالله التوفيق .
(1/48)

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
قلت : { الغّمّامّ } : السحاب الرقيق ، و { المَنِّ } هنا : العسل ، و { السَّلْوى } قيل : اللحم ، والأصح : أنه اسم طائر كالسماني .
يقول الحقَ جلّ جلاله : في تذكير بني إسرائيل ما أنعم به عليهم في حال التيه : { و } قد { ظَلَّلْنا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ } يقيكم من الحر في أيام التيه ، { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } وهو عسل كان ينزل على الشجر من الفجر إلى الطلوع ، فيغرفون منه ما شاءوا ، { و } أنزلنا عليكم { السلوى } ، وهو طير كانت تحشره الجنوب ، فينزل عليهم ، فياخذون منه ما شاءوا ، ولا يمتنع منهم ، فيذبحون ويأكلون لحماً طريّاً ، فقلنا لهم : { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا } بمخالفتهم أمْرَ نبيهم وسوء أدبهم معه ، حيث قالوا : { فَاذْهَبْ أَنَتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المَائدة : 24 ] ، فعاقبهم بالتيه أربعين سنة ، يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة . { وَلَكِن } ظلموا أنفسهم؛ حيث أوقعوها في البلاء والمحنة .
رُوِيَ أنهم لما أُمروا بجهاد الجبارين ، جبنوا وقالوا تلك المقالة ، فدعا عليهم سيدنا موسى عليه السلم فوقعوا في التيه بين مصر والشام ، فكانوا يمشون النهار فيبيتون حيث أصبحوا ، ويمشون الليل فيصبحون حيث أمسوا ، فقالوا لموسى عليه السلام : من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى ، قالوا : كيف بحر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام ، قالوا : بم نستصبح بالليل؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم ، قالوا : من لنا بالماء؟ فأمر موسى عليه السلام بضرب الحجر ، فقالوا : من لنا باللباس؟ فأعطوا ألا يَبْلى لهم ثوب ، ولا يَخْلَق ، ولا يَدْرن ، وأن ينمو بنمو صاحبه ، وقيل : كساهم مثل الظفر ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ البَقَرَة : 284 ] .
الإشارة : لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت ، كانت على الطهارة الأصلية ، والنزاهة الأزلية ، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية ، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية ، دون جنة العبودية ، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال ، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية ، في ظلل من غمام البشرية ، فمنَّ عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجات ، وقال لها : { كلوا منطيبات ما رزقناكم } من طرائف العلوم ، وفواكه الفهوم ، هذا لمن اعتنى بروحه فاستكمل فضيلتها ، وخالف هواها ، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار ، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار . أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار ، ووقعت في شبكة الحظوظ والشهوات ، وربطت بعقال الأسباب والعادات ، فقد ظلمت نفسها ، وبخست حقها من مشاهدة مولاها ، حتى استعت عليها دائرة الحس ، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس . وأنشدوا :
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تكمُلِ ... والجسمَ ضَعْهُ في الحضِيض الأسفلِ
أَتُكَمِّلُ الفَانِي وَتَتْرُك باقياً ... هَمَلاً ، وأَنت بأمرِه لم تحفلِ؟
فالجسمُ للنفس النفيسةِ آلةٌ ... ما لَمْ تُحَصِّلْه بها لم يحْصُلِ
يَفْنَى ، وتَبقى دائماً في غِبْطةٍ ... أو شِقْوةٍ وندامة لا تنْجَلِي
أُعْطِيتَ جِسْمَكَ خادماً فخدمْتَه ... أَتُمَلِّكُ المفضولَ رِقَّ الأفضلِ؟
شَرَكٌ كثيفٌ أنتَ في أحْبَالِهِ ... مَا دام يُمكنك الخَلاصَ فَعَجِّلِ
مَنْ يستطيعُ بلوغَ أَعْلَى مَنزلٍ ... ما بالَهُ يرضَى بأدنَى مَنْزِل!
(1/49)

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
قلت : { حِطة } : خبر مبتدأ مضمر ، أي : أمرنا حطة ، أي : تواضع وانحطاط ، وقال هنا : ( فكلوا ) ، وفي الأعراف بالواو؛ لأن الأكل مرتب على الدخول ، بخلاف السكنى ، فإنها تفارق الأكل ، فكأنه مأمور به .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين قلنا لأسلافكم بعد أن خرجوا من التيه : { ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ } أعني بيت المقدس ، أو أريحاء ، بعد أن تُجاهدوا أهلها ، { فَكُلُوا } من نعم ما فيها أكلاً واسعاً؛ لأنها مخصبة ، { وَادْخُلُوا } باب القرية راكعين ، تواضعاً وشكراً ، { وَقُولُوا } في دخولكم : شأننا { حِطَّةٌ } ، أي : شأننا الانحطاط والتواضع لله ، فإن فعلتم ذلك { نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيد } من امتثل أمرنا ، وأحسن الأدب معنا ، خيراً كثيراً ، في الدنيا والآخرة ، { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } منهم قَوْلاً غيْر الَّذِي أمروا به ، وقالوا مكان حطة : حنطة ، حبة في شعرة ، { فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً } عذاباً { مِّنَ السَّمَاءِ } قيل : هو الطاعون ، فمات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد ، بسبب فسقهم وتعديهم الحدود .
الإشارة : يقول الحق سبحانه للأرواح ، لما كمل تطهيرها من البقايا ، وتكاملت فيها المزايا : ادخلوا هذه الحضرة المقدسة ، وتنعموا فيها حيث شئتم بالمشاهدة ، والمكالمة ، والمواجهة ، والمساورة ، والمفاتحة ، والمناجاة ، وادخلوا بابها أذلاء صاغرين ، فلا دخول للحضرة المقدسة إلا من باب الذل والافتقار ، وأنشدوا :
ومَا رُمتُ الدخولَ عليهِ حتَّى ... حَلَلْتُ مَحَلَّةَ العبدِ الذليلِ
وأَغمضْتُ الجفُونَ على قَذَاها ... وصُنْت النَّفْسَ عن قالٍ وقيلِ
وقيل لأبي يزيد : يا أبا يزيد ، خزائننا معمورة بالخدمة ، ائتني من كوّة الذل والافتقار . وفي رواية قيل له : يا أبا يزيد : تقرب إلينا بما ليس عندنا ، فقال : يا رب؛ وما الذي ليس عندك؟ فقال : الذل والافتقار . ه . وقال شيخ المشايخ القطب الجيلاني رضي الله عنه : ( أتيت الأبواب كلها ، فوجدت عليها الزحام ، فأتيت من باب الذل والافتقار ، فوجدته خالياً ، فدخلت منه ، وقلت : هلموا ) . أو كما قال . وقال الشاعر :
تَذَللْ لِمنْ تَهْوى فَلَيْسَ الهَوى سَهْلُ ... إذا رَضِيَ المحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوّصْلُ
وقولوا عند دخولكم الحضرة : شأننا حطة؛ أي : شأننا السفليات دون العلويات ، فالسلوك من باب السفليات واجب ، وإلا فلا وصول ، فكل مَن سلك من باب السفليات طهر من البقايا ، وتكاملت فيه المزايا ، فيصلح لدخول الحضرة ، وينخرط في سلك أهل الشهود والنظرة ، فيكون من المحسنين المقربين ، فلا جرم أن الله يزيده ترقياً في العلوم والأسرار ، في هذه الدار ، وفي تلك الدار ، بخلاف مَن خالف ما أمر به من سلوك طريق السفليات ، وتعاطي الأمور العلويات ، قبل كمال التربية؛ فإنه يجرع إلى غم الحجاب ، وسوء الحساب؛ بسبب خروجه عن طريق الأحباب ، وسلوكه طريق أهل الغفلة والارتياب ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/50)

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
قلت : { استسقى } : طلب السقي ، و " ال " في { الحجر } للعهد ، وهو الحجر الذي فرَّ بثوبه ، أو حجر خفيف مربع مثل رأس الرجل ، أُمر أن يحمله معه ، فكان يضعه في مخلاته ، فإذا احتاج الماء ضربه ، قيل : كان من رخام ، وقيل : كان كذَّان ، كان فيه اثنتا عشرة حفرة ، تنبع من كل حفرة عين ماء عذب ، على عدد الأسباط ، فإذا أراد حمله ضربه فجفّ الماء منه ، وقيل : للجنس ، فكان يضرب أيَّ حجر وجد ، فتنفجر منه عيوناً ، ثم تسير كل عين في جدول إلى سبط ، فقالوا : إن أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها عطشنا ، فأوحى إليه : أن كلِّمْهُ يَطِعْك لعلهم يعتبرون .
و { فَانْفَجَرَتْ } معطوف على محذوف؛ أي : فضرب فانفجرت ، والعُثو : أشد الفساد ، عَثَا يعثَوا عثواً ، وعثى يعثِي عثِياً ، وعاث يعيث عيثاً ، و { مفسدين } : حال مؤكدة لعاملها ، أو مقيدة ، إن قلنا : إن العثو أعم من الفساد ، لصدقه على القصاص ، فإنه عثر غير فساد . انظر البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين عطشتم في التيه ، فطلبتم من موسى السقي ، فاستسقى لكم ، { فقلنا } له : { اضرب بعصاك } التي أخذتها من شعيب عليه السلام ، وكانت من آس الجنة ، وورثت عن آدم عليه السلام ، فيها عشرة أذرع ، فضرب { فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } على عدد أسباطكم ، فكل عين تجري إلى سبط { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسِ مَّشْرَبَهُمْ } مُعَيناً ، لا يعدو أحد على أحد ، فقلنا لهم : { كُلُوا } من المن والسلوى ، { واشربوا } من الماء الذي رزقناكم ، ولا تطغوا بالنعم فتفسدا في الأرض بالمعاصي والذنوب ، فيكون ذلك كفراً مستوجباً للسلب بعد العطاء ، رُوِيَ أنهم كانوا ستمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الأرواح إذا تطهرت من الأكدار ، وتحررت من الأغيار ، وأشرقت عليها الأنوار والأسرار ، وكمل تطهيرها ، وتمت تصفيتها ، كان صاحبها آية من آيات الله ، وحجة من حجج الله ، إذا ضرب بعصا همته القلوب القاسية أو الأنفس الأبية ، لانت وانفجرت بالعلوم القدسية ، كل واحد بما يليق به ، فمنها من تنبع بالعلوم الوهبية ، ومنها من تنبع بالعلوم الرسمية ، ومنها من تنبع بالكرامات وخوارق العادات ، ومنها من تنبع منها المكاشفات والاطلاعات ، قد علم كل أناس مشربهم ، على حسب ما سبق لهم ، فيقول الحق تعالى لهم : كلوا من ثمرات ما اجتنيتم من العلوم والمعارف التي أوليناكم ، واشربوا من مناهل المنازل التي فيها أقمناكم ، أو كلوا من ثمرات المعرفة ما تتقوى به معانيكم ، واشربوا من خمر الحبيب ما تغيبوا به عن وجودكم ، ولا تتعدوا أطواركم من القيام بوظائف العبودية ، ومعرفة عظمة الربوبية ، فتكونوا لسلب ما أولاكم متعرضين ، ولعقوبته مستحقين ، عائذاً بالله من السلب بعد العطاء . آمين .
(1/51)

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
قلت : المراد بالطعام الواحد : هو المنّ والسلوى . ووحَّده لأنه لا يختلف ولا يتبدل ، كقولهم : طعام مائدة الأمير واحد ، والبقل : جميع الخضر ، كالنجم والكرنب والكراث وغير ذلك . والقثاء : جمع قثاءة ، وهي الخيار والفقوس والبطيخ وغير ذلك من الفواكه التي تستنبت ، والفوم قيل : الحنطة ، والأصح أنه الثوم . قال الشاعر :
أنتُم أُناسٌ لِئامُ الأُصولِ ... طعامُكُم الفومُ والحَوقَلُ
أراد : الثوم والبصل . والعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول : معافير ومعاثير ، وتقول للقبر : جدث وجدف .
والعدس : معلوم ، روى عليّ - كرّم الله وجهه - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عليكم بالعدس ، فإنه مبارك مقدس ، وإنه يرقق القلب ، ويكثر الدمعة ، وإنه بارك فيه سبعون نبيّاً ، آخرهم عيسى ابن مريم " .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا أيضاً حين { قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامِ وَاحِدٍ } حين مللتم من العسل واللحم ، وملتم إلى عَكَرِكُمْ السوء ، أي : مألوفكم وشهواتكم السيئة ، لأنهم كانوا فلاحين ، فقلتم : { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ } ، أي : من جنس ما ينبت الله فيها من البل والقثاء والعدس والفوم والبصل ، قال موسى عليه السلام : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وأخس من الثوم والبصل وغيرها ، { بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } من اللحم والعسل ، { اهْبِطُوا } إلى مصر من الأمصار ، تجدوا ما تشتهون ، إذ لا يوجد ذلك إلا في القرى والأمصار ، أو { اهْبِطُوا مِصْراً } التي كنتم فيها أذلاء مستبعدين ، تجدوا حظوظكم وشهواتكم؛ لأن الحظوظ والشهوات منوطة بالذل والهوان ، { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } ، أي : ألزموها لزوم الدرهم المضروب لضربه ونقشه ، فالذلة : ضرب الجزية ، والمسكنة : فقر النفس وإن كان موسراً .
وإنما ضُربت عليهم الذلة والمسكنة لأنهم لم يرضوا بتدبير الحق ، ولم يقنعوا برزقه ، فكل مَن لم يقنع بقسمته وسئم من اتحاد رزقه ، خيف عليه من ضرب الذل والمسكنة ، وانقلبوا أيضاً { بِغَضَبٍ منَ اللَّهِ } حيث نقضوا العهود ، وتعدوا الحدود ، فكفروا وطغوا وقتلوا الأنبياء بغير حق ، وسبب ذلك : تمردهم في العصيان ، فإن المعاصي تجر بعضها إلى البعض حتى تنتهي إلى الكفر ، والعياذ بالله من سخطه وعضبه .
الإشارة : كل مَن لم يقنع بالقسمة الأزلية ، ولم يقم حيث أقامته القدرة الإلهية ، بل جنح إلى حظوظه وهواه ، وحرص على تحصيل أغراضه ومناه ، قيل له : أتستبدل تدبيرك - الذي هو أدنى - بتدبير الحق - الذي هو خير -؟ أتترك تدبير الحكيم العليم ، الرؤوف الرحيم ، إلى تدبير عقلك الضعيف الجاهل الخسيس اللئيم؟! فعسى أن تدبر شيئاً يكون لك فإذا هو عليك . وعسى أن تأتيك المسار من حيث تعتقد المضار ، وتأتيك المضار من حيث ترتجي المسار . ولله درّ القائل :
وكَم رُمْتُ أَمْراً خِرْتَ لي في انْصِرَافِهِ ، ... فَلاَ زلْتَ لي مِني أبَرَّ وأَرْحَمَا
عَزَمْتُ عَلَى ألاّ أُحِسَّ بِخَاطِرٍ ... عَلى القلْبِ إلاَّ كُنْتَ أَنْتَ المُقَدَّمَا
وألا تَرَانِي عِنْدَ مَا قَدْ نَهيْتَني؛ ... لِكَونَك في قَلْبِي كَبيراً مُعَظَّمَا
(1/52)

يا مَن لم يقنع بتدبير مولاه ، ومال إلى نيل حظه وهواه ، اهبط إلى أرض الحظوظ والشهوات تجد فيها ما ألفته نفسك من عوائدك السيئات . يا مَن أخلدت نفسه إلى الهوى ومتابعة الشيطان ، كيف تستبدل العز الدائم بالذل والهوان؟! وأنشدوا :
لاَ تَتْبعِ النفسَ في هَواهَا ... إنَّ اتِّباعَ الهَوَا هَوَانُ
قال في التنوير : فائدة : اعلم أن بني إسرائل لما دخلوا التيه ، ورُزقوا المنّ والسلوى ، واختار الله لهم ذلك رزقاً ، رزقهم إياه ، يبرز عن عين المنّة ، من غير تعب منهم ولا نصب ، فرجعت نفوسهم الكثيفة لوجود ، العادة ، والغيبة عن شهود تدبير الله ، غلى طلب ما كانوا يعتادونه ، فقالوا : { ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض } الآية . { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضرب عليهم الذلّة والمسكنة وباءوا بغضب من الله } ، وذلك لأنهم تركوا ما اختار الله لهم ، مائلين لما اختاروا لأنفسهم ، فقيل لهم عن طريق التوبيخ : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } ؟ فظاهر التفسير : أتستبدلون الفوم والعدس والبصل بالمنّ والسلوى؟ وليس النوعان سواء في اللذة ولا في سقط المشقة وسر الاعتبار ، أتستبدلون مرادكم لأنفسكم بمراد الله تعالى لكم؟ { أتستبدلون الذي هو أدنى } وهو ما أردتموه ، { بالذي خير } ، وهو ما أراده الله لكم؟ { اهبطوا مصراً } فإن ما اشتهيتموه لا يليق إلا أن يكون في الأمصار ، وفي سر الخطاب : اهبطوا عن سماء التفويض وحسن التبدير منا لكم ، إلى أرضي التدبير والاختيار منكم لأنفسكم ، موصوفين بالذل والمسكنة؛ لاختياركم مع اختيار الله ، وتدبيركم لأنفسكم مع تدبير الله . ه المراد منه .
ولما ذَكَّرَهُمْ الحق تعالى بالنعمة ، ووبَّخَهم على ارتكاب الآثام ، رغَّبهم في الإسلام .
(1/53)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
قلت : { إن } : ناصبة مؤكدة ، وخبرها : جملة { مَن آمن } أو { فلهم أجرهم } . و { مَن آمن } : بدل من اسمها ، أو محذوف ، والموصول : مبتدأ؛ أي : إن الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين هادوا كذلك . و { هادوا } : تهودوا ، أي : دخلوا في اليهودية . وسمّوا يهوداً؛ إما نسبة لأبيهم الأكبر ( يهوذا بن يعقوب ) ، أو مِنْ هَادَ ، إذَا تَابَ؛ لأنهم تابوا من عبادة العجل .
والنصارى : جمع نصران ، وسُموا بذلك إما لنصرهم المسيح عليه السلام ، أو لسكناهم معه في قرية يقال لها : ( نصران ) ، والصابئون : طائفة من أهل الكتاب ، خرجوا عن دين اليهودية وعبدوا الكواكب ، يقال : صبا يصبو ، إذا مال وخرج من دين إلى دين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا بموسى ، والذين آمنوا بعيسى - عليهما السلام - ، والذين خرجوا عن دينهم وصبوا ، { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ } وتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وعمل بشريعته ، { فلهم أجرهم عند ربهم } إذا قدموا عليه بالنعيم المقيم ، والنظر إلى وجهه الكريم ، { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم } حين يخاف الكفار ، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } حين يحزن المفرطون والأشرار؛ إذ لا يلحقهم وبال ولا يفوتهم نوال . وبالله التوفيق .
الإشارة : إن الذين آمنوا إيماناً لا يختلجه وهم ، ولا يطرق ساحته شك ولا ريب ، إما عن برهان قاطع ، أو عن شهود ساطع ، والذين تابوا عن هواجس الخواطر وغفلات الضمائر ، والذين نصروا الدين ، وشيّدوا منار شريعة المسلمين ، والذين صبوا إلى الحبيب ، ومالوا عن كل بعيد وقريب ، فهؤلاء الذين سبقت لهم من الله العناية ، وهبت عليهم ريح الهداية ، جمعوا بين تزيين البواطن بأنوار الإيقان ، وتزيين الظواهر بأنواع الطاعة والإذعان ، فلا جرم أنهم ، إذا قدموا على ربهم ، أجلَّ منصبهم ، وأجزل ثوابهم ، وأعلى مقامهم ، فأولئك اولياء الله الذين { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
فالمخصوصون بالعناية أربعة : قوم أقامهم الحق تعالى لتنمية الإيمان وتربية الإيقان ، إما عن دليل وبرهان - وهم أهل النظر والاعتبار ، - وإما عن شهود وعيان - وهم أهل الشهود والاستبصار - ، وقوم أقامهم الحق تعالى لتصفية نفوسهم وتزكية أحوالهم بالتوبة ، والإقلاع عن كل وصف مذموم ، وهم السائرون والطالبون ، وقوم أقامهم لنصر الدين وإظهار شريعة المسلمين ، إما بتقرير قواعده أو جهاد معانده ، وهم العلماء والمجاهدون ، وقوم أقامهم لخدمته ، وملأ قلوبهم بهيبته ، وهم العُباد والزهاد ، مالوا عن الشهوات وتأنسوا به في الخلوات ، هجرو الأوطان وفارقوا الأحباب والإخوان ، صبوا إلى محبة الحبيب وتلذذوا بمناجاة القريب ، فهؤلاء المخصوصون بعين العناية ، المحفوظون بغاية الرعاية ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس . حققنا الله بمقام الجميع بمنّه وكرمه . آمين .
(1/54)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
قلت : { لولا } حرف امتناع لوجود ، تلزم الدخول على المبتدأ ، وخبرها واجب الحذف عند سيبويه ، أي : لولا فضل الله عليكم ورحمته موجودان ، وقال الكوفيون ، فاعل بمحذوف : أي : لولا أن ثبت فضل الله عليكم ورحمته ، و ( لكنتم ) : جوابها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين { أَخَّدْنَا مِيثَاقَكُمْ } أن تقبلوا تكاليف التوراة ، وكانت شاقة عليهم ، فلما أبيتم قبولها ، قلعنا الطور ، ورفعناه فوقكم على مقدار عسكركم ، كالظلة ، وقلنا لكم : { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم } من التوراة بجد واجتهاد ، { واذكروا ما فيه } من الوعظ والتذكير { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } الله ، فتفوزون بالخير الكثير ، فقبلتم ذلك كرهاً { ثُمَّ تَوّلَّيْتُم } وأعرضتم بعد لك ، فسفكتم الدماء ، وقتلتم الأنبياء ، { فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } بتوفيقكم للتوبة ، { وَرَحْمَتُهُ } بقبولها منكم ، فخسرتم الدنيا والآخرة .
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } ما جرى للذين { اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ } في زمن داود عليه السلام ، وذلك في قرية يقال لها : " أيْلة " ، كانت على شاطئ البحر ، وقد نُهوا عن الاصطياد يوم السبت ، فكانت الحيتان تخرج يوم السبت شُرَّعاً ، فتُخْرِج خراطيمها للبر ، فإذا كان يوم الأحد دخلت في البحر ، فحفروا حياضاً ، وشرعوا إليها جدوال ، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد ، فلمَّا لمْ يُعاقبوا على ذلك أحلُّوا يوم السبت ، فانقسمت القرية على ثلاث فرق : قوم نهوا ، وقوم سكتوا ، وقوم اصطادوا ، فمُسِخ من اصطاد قردة وخنازير؛ الشُّبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فبقوا ثلاثة أيام وماتوا . فجعلنا تلك الفعلة التي فعلنا بهم - { نَكَالاً } وزجراً { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } في زمانها ، وما خلفها؛ من يأتي بعدها ، { وموعظة } : وتذكيراً { للمتقين } من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
الإشارة : اعلم أن المريدين إذا دخلوا في يد شيخ ، وأخذوا عنه العهد ، حملهم من أعباء التكليف وخرق العائد ما تموت به نفسوهم ، وتحيا به قلوبهم ، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس ، فإذا هموا بالتقصير ، ظلل عليهم جبل همته ، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته ، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن : ( والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب ) . والمراد باليد : الهمة والحفظ ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف ، ويحضّهم على الأخذ بها ، والاجتهاد في العمل بها ، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم ، وترسخ معرفتهم ، وتكمل تربيتهم ، فحينئذٍ ينتقلون إلى روح وريحان في جنات الشهود العيان .
قلت : وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات في حال البدايات ، فما كانت أفتحها حتى ترتعد نفسي مما فيها ، لأنها تعلم أنه ما يُرسل لها إلا ما فيه موتها ، فلولا فضل الله علينا ورحمته - حتى قوانا على العمل بما فيها - لكنا من الخاسرين ، ولقد أخطأت العناية قوماً ، فتعدوا حدود الشيوخ ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم ، فمسخت قلوبهم ، وانمحت في ديوان الولاية رسومهم ، جعل الله ذلك عبرة لغيرهم ، وزاجراً لمن حذا حذوهم ، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء ، وكفران النعم وحرمان الرضى ، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/55)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قلت : الفارض : المسنة التي لا تلد ، يقال : فرضت البقرة ، تفرض فروضاً ، إذا أسنت . البكر : الصغير التي لم تلد ، العوان : المتوسطة بين المسنة والصغيرة ، والفاقع : الناصع الصفرة ، يقال : أصفر فاقع ، وأسود حالك ، أي : شديد السواد ، وأصل شية : وِشْيَة ، كعدة ، حذفت فاؤها وعوض عنها التاء ، والوشي : الرقم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين { قال موسى لقومه } لما تخاصموا إليه في قتيل وجد في قرية ولم يدر قاتله ، وذلك أن رجلاً فقيراً من بني إسرائيل قتل قريباً له كان موسراً ليرثه ، ثم رماه في قرية أخرى ، ثم ذهب يطلب دمه ، فترافعوا إلى موسى عليه السلام فقال لهم بوحي : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، وأبهم الأمر عليهم ، { قَالُوا أَتَتَّخِذُونَا هُزُواً } أي : مهزوءاً بنا ، حيث نسألك عن بيان القائل وأنت تأمرنا أن نذبح بقرة ، وهذا من تعنتهم وسوء أدبهم . { قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ؛ إذ لا يستهزئ بأمر الدين إلا الجاهل .
فلما رأوا جدَّه { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لنَا مَا هِيَ } ، هل هي كبيرة أو صغيرة أو متوسطة؟ { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ } أي : كبيرة ، { ولا بكر } أي : ولا صغير { عَوَانٌ } متوسطة بين ما ذكر من الصغر والكبر ، { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } ، فإن الله يُبين لكم القاتل ، { يَقِولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لوْنُهَا } ناصع صفرتها { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } لسمنها وبهجة لونها ، { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } ، فإن البقر الصفر كثير ، وقد تشابه علينا أمرها؟ { قَالَ إِنَّهُ } تعالى يقول : إنها مسلمة من العمل ليست ذلولاً ، أي : مذللة بالعمل لا { تُثِيرُ } أي : تقلب { الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ } بالسانية . { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب كلها ، { لاَّ شِيَةَ فيهَا } أي : لا رقم فيها يخالف الصفرة .
فلما تبين لهم الأمر { قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } الواضح ، فوجدوها عند شاب كان بيد أمه ، قد استودعها له أبوه في غيضة ، فاشتروها منه بملء جلدها ذهباً ، أو بوزنها ، { فذبحوها } ، وضربوا القتيل بجزء منها ، فجلس وعروقه تسيل دماً ، وقال : قتلني ابن عم لي ، ثم رجع ، { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } لكثرة ترددهم ، أو لفحش غلوها . قال عليه الصلاة والسلام : " لو ذبحوا أدنى بقرة لكفتهم لكن شددوا فشدد الله عليهم " .
(1/56)

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
قلت : حق هذه الآية أن تتقدم قبل قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ . . . } [ البَقَرَة : 67 ] وإنما أخَّرها الحق تعالى ليتوجه العتاب إليهم مرتين؛ على ترك المسارعة لامتثال أمر نبيهم ، وعلى قتل النفس ، ولو قدمها لكانت قصة واحدة بتوبيخ واحد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكروا { إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } حرصاً على الدنيا { فَادَّارَأْتُمْ } أي : تدافعتم في شأنها ، كل قرية تدفع عنها ، { والله } تعالى { مُخْرِجٌ } ومبين { مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } من القتل ، ومن قتله ، { فَقُلْنَا } : اضربوا القتيل أو قبره { بِبَعْضِهَا } قيل : اللسان ، وقيل القلب ، وقيل : الفخد أو الذنب ، فضربوه فحيى ، وأخبر بقاتله كما تقدم ، { كَذَلِكَ } أي : كما أحيا هذا القتيل ، { يُحْيِي الله الموتى } من قبورها { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } الدالّة على قدرته ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فتعلمون أن من قدر على إحياء نفس واحد يقدر على إحياء الأنفس كلها .
واستدلت المالكية بالقصة على التدمية الحمراء ، وهي قبول قول القتيل قبل موته بأن فلاناً قتله ، وفيه نظر؛ لأن هذا حيى بعد موته فلا يتطرقه الكذب ، واستدلت أيضاً على حرمان القتل من الإرث ، وفيه نظر؛ لأن هذه شريعة من قبلنا يتطرقها النسخ ، لكن ثبت في الحديث أنه لا يرث . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا أمر الشيخ المريدين بذبح نفوسهم بخرق عوائدها ، فمن تردد منهم في فعل ما تموت به نفسه ، كان ذلك دليلاً على قلة صدقه وضعف نهايته ، ومن بادر منها إلى قتلها دلّ على صدقه وفلاحه ونجح نهايته ، فإذا ماتت النفس بالكلية حييت روحه بالمعرفة والمشاهدة الدائمة ، فلا موت بعدها أبداً ، قال تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى } [ الدّخَان : 56 ] ، وأما الموت الطبيعي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام ، ومن وطن ضيق إلى وطن واسع ، وأنشدوا :
لا تظُنُّوا الموتَ موتاً إنهُ ... لَحَيَاةٌ ، وَهْو غايةُ المنَى
لا تَرُعْكُم هَجْمَةُ الموتِ فَما ... هُو إلا انْتِقَالٌ مِنْ هنَا
فاخْلَعُوا الأجْسَادَ مشنْ نفُسِكُم ... تُبْصِرُوا الحقَّ عيَاناً بَيِّنَا
قلت : والسيف الذي يُجْهز على النفس ويسرع قتلها هو الذل والفقر ، فمن ذلّ نفسه بين أبناء جنسه ، وخرق عوائد نفسه ، وزهد في الدنيا ، ماتت نفسه في طرفة عين ، وحيِيَتْ روحه ، وظفر بِقُرَّةِ العين ، وهي معرفة مولاه ، والغيبة عما سواه .
وكمال الوقت في ذبح النفس أن تكون متوسطة بين الصغر والكبر ، فإن الصغيرة جدّاً لا يؤمن عليها الرجوع ، والكبيرة جدّاً قد يصعب عليها النزوع ، كاملة الأوصاف بحسن الزهد والعفاف ، تسر الناظرين لبهجة منظرها وحسن طلعتها ، وكذلك من كان من أهل الشهود والنظرة ، تَسْحَرُ مشاهدة القلوب ، ويسوقها بسرعة إلى حضرة علام الغيوب ، لما أقيم به من مشاهدته الملكوت ، حتى إن من لاحظه تناسى أحوال البشرية ، واستولت عيله أنوار الروحانية ، وغابت في ذكر الحبيب عن البعيد والقريب ، كما في الحديث : " أولياُ اللَّهِ مَنْ إذا رُؤوا ذُكر الله " ، وتكون أيضاً هذه النفس غير مذللة بطلب الدنيا والحرص عليها ، مسلمة لا عيب فيها ، ولا رِقَّ لشيء من الأثر عليها ، فحينئذٍ تصلح للحضرة ، وتتمتع بنعيم الشهود والنظرة ، لم يبق لخصم الفَرْقِ معها تدارؤٌ ولا نزاع ، بل أقر الخصم وارتفع النزاع .
(1/57)

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قلت : القسوة والقساوة : هي الصلابة واليبوسة ، كالشقوة والشقاوة ، يقال حجر قاس ، أي : يابس . قال الشاعر :
وَلاَ أرَى أثراً لِلذِّكرِ في جَسدِي ... والحَبلُ في الجَبَل القاسِي لهُ أثرُ
و { أو } للإضراب ، أو بمعنى الواو ، أو للتنويع ، فبعضها كالحجارة وبعضها أشد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } يا معشر اليهود ، ويبست فلم تلن ولم تخضع ، مع ما رأت من الآيات كانفجار الحجر بالماء في التيه ، وإنزال المنّ والسلوى ، وتظليل الغمام ، وإحياء الميت وغير ذلك .
قال الكلبي : ( أنكروا بعد ما رأوا ذلك ، وقالوا : ما قتلنا ، فما كانوا قد أعمى قلباً ، ولا أشد تكذيباً منهم لنبيهم عند ذلك ) فقلوبهم كالحجارة ، بل أشد ، أو إن شَبَّهْتم قلوبهم بالحجارة أصبتم ، وبما هو أشد أصبتم ، بل في الحجارة فضل عليها في اللين ، فإن منها ما تتفجر { مِنْهُ الأنْهَارُ } الكبار ، ومنها ما تشقق { فَيَخْرُجُ مِنْهُ } العيون الجارية ، ومنها ما تهبط من رأس الجبل { مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } . وفي بعض الأخبار : " كل حجر تَرَدَّى من رَأسِ جبلٍ فهو من خشية الله " ، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير ، نسأل الله السلامة بمنَّه وكرمه .
الإشارة : كل مَن أساء الأدب مع أستاذه ، أو خرج عن دائرته إلى غيره ، قسا قلبه ، وذهب حاله ولُبه ، فإن رجع قريباً واستدرك ما فات ، لان قلبه ونهض حاله ، وإلا وقع في مهاوي القطيعة ، ولم يأت منه شيء ، وللقلب القاسي علامات : منها جمود العين ، وطول الأمل ، وعدم الحزن على ما فاته من الطاعات وما صدر منه من السيئات ، وعدم الفرح بما يصدر منه من الطاعات ، فإن المؤمن تسره حسناته وتسيئه سيئاته ، ودواؤه : صحبة الفقراء الذاكرين الخاشعين ، والجلوس بين يدي العارفين الكاملين ، وتعاهد الصيام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، والتضرّع إلى الحيّ القيوم الذي لا ينام ، وللشافعي رضي الله الله عنه :
ولَمَا قَسَا قَلْبِي وضَاقَتْ مَذَاهِبي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لعَفْوِك سُلَّمَا
تَعَاظَمنِي ذَنْبي فَلمَّا قَرَنْتُه ... بعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ } [ البَقَرَة : 74 ] كذلك القلوب القاسية إذا لانت بالإنابة إلى ربها ، والرجوع عن مألوفاتها ، تتفجر منها أنهار العلوم ، وتشقق منها أسرار الحِكَم ، ومنها من تذوب من هيبة المتجلي لها ، فتندك جبالها ، وتزلزل أرض نفوسها ، كما قال القائل :
لَو عَايَنتْ عَينَاكَ يومَ تزلزلتْ ... أَرضْ النفُوس ودُكَّتِ الأجْبَالُ
لَرأَيتَ شَمسَ الحقِّ يسطعُ نورُها ... حِينَ التزَلْزلِ ، والرجَالُ رجالُ
والله تعالى أعلم .
(1/58)

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
قلت : ضمن الإيمان معنى الإذعان والإقرار؛ ولذلك عداه باللام ، وجملة { قد كان } حال من فاعل الإيمان ، و { إذا لقوا } عطف على { كان } ، والتقدير : أفتطمعون في إيمانهم والحالة أن مَن سلف منهم كانوا يُحرفون كلام الله ، ومن حضر منهم الآن ينافقونكم في دين الله ، فلا مطمع في إيمان مَنْ هذا وصفه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أَفَتَطْمَعُونَ } يا معشر المسلمين أن يذعن لكم أهل الكتاب ويصدقوكم { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } ، وهم السبعون الذين ذهبوا مع موسى للاعتذار ، { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ } حين كلّمهم وكلّفهم بمشاق التوراة ، فحرفوا وقالوا : قال : افعلوا ما استطعتم ، فإذا لم يحصل لهم الإيمان مع سماع الكلام بلا واسطة ، فكيف يؤمن لكم هؤلاء ، وهم إنما يسمعونه بواسطة الرسالة؟ أو { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ } في التوراة ثم يحرفونه ، محواً أو تأويلاً ، كصفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك ، { مِنْ بعْدِ } ما فهموه { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنه كلام الله ، أو { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم محرفون ومغيرون لكلام الله .
وكيف تطمعون أيضاً في إيمانهم وهم منافقون؟ { إذَا لَقُوا } المؤمنين { قَالُوا آمنَّا } ، وصفة نبيكم مذكورة في كتابنا ، { وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ } لامهم مَن لم ينافق ، و { قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ } من علم التوراة فتطلعونهم عليه { ليُحَاجُّوكُم بِهِ } أي : يغلبوكم بالحجة { عِنْدَ رَبِّكُمْ } في الدنيا والآخرة ، فيقولون : كنتم عالمين بنبوة نبينا فجحدتم وعاندتم ، { أَفَلا تَعْقِلُونَ } حتى تطلعوهم على ما فتح الله به عليكم . أو يقول الحق تعالى : { أَفَلا تَعْقِلُونَ } يا معشر المسلمين فتطمعون في إيمانهم بعد هذه الخصال التي فيهم ، قال الحقّ جلّ جلاله : { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ } لا يخفى عيله شيء ، بل { يَعْلَمُ } ما يسرونه وما يعلنونه ، فيجازيهم على ما أخفوا وما أعلنوا .
الإشارة : مَن سبقت له المشيئة بالخذلان ، وحكم عليه القدر والقضاء بالحرمان ، يرجع إلى الدليل والبرهان ، بعد الاستشراف على الشهود والعيان ، فيرجع إلى مشاهدة الآثار والرسوم ، وينسى ما كان يعهده من دقائق العلوم ، سبب ذلك كلَّه : الإخلال بالأدب مع المشايخ والأصحاب ، أو مفارقة الإخوان ، وعدم مواصلة أهل العرفان ، وضم إلى ذلك الإنكار على أولياء الله ، وتحريف ما سمعه منهم من مواهب الله ، فلا مطمع في رجوعه وإيابه ، وقد بَعُد من الفتح وأسبابه ، لا سيما إذا اتصف بالنفاق ، إذا لقي أهل النسبة أظهر الوفاق ، وإذا خلا إلى العامة أظهر الشقاق ، فمِثلُ هذا لا يرجى له فلاح ، ولا يَسعد بصلاح ونجاح . نعوذ بالله من ذلك .
(1/59)

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
قلت : أماني : جمع أمنية ، وهي في الأصل : ما يُقَدِّرُهُ الإنسان في نفسه من مُنى إذا قدَّر ، ولذلك تطلق على الكذب ، وعلى ما يتمنى وما يقرأ ، قاله اليضاوي . والاستثناء منقطع ، أي : لكن أكاذيب ، ويقال : تمنى الرجل ، إذا كذب واختلق الحديث ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ( والله ما تَمنَّيْتُ ولا تَغَنَّيْتُ منذُ أَسْلَمْتُ ) .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَمِنْهُمْ } أي : من اليهود عوام { أُمِّيُّونَ } لا يقرؤون الكتاب ولا يفهمونه ، لكن يسمعون من أحبارهم { أَمَانِيَّ } كاذبة ، وأشياء يظنونها من الكتاب ، ولا علم لهم بصحتها ، كتغيير صفته صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، أو مواعيد فارغة ، ومطامع خاوية ، سمعوها منهم ، من أن الجنة لا يدخلها إلا هم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة ، وغير ذلك من أمنيتهم الفارغة وأمانيهم الباطلة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن المنكرين على أهل الخصوصية ثلاث فرق : أهل الرئاسة المتكبرون ، والفقهاء ، المتجمدون ، والعوام المقلدون ، يصدق عليهم قوله تعالى : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } ؛ إذ لا علم عندهم يُميزون به المحق من المبطل ، وإنما هم مقلدون ، فوزرهم على مَن حرمهم بركة الاعتقاد ، وأدخلهم في شؤم الانتقاد ، ولقد أحسن " ابن البنا " حيث قال في شأن أهل الإنكار .
واعلمْ رعاكَ اللّهُ مِنْ صَديقِ ... أنَّ الورَى حَادُوا عن التحقيق
إذْ جَهِلُوا النفوسَ والقلوبَ ... وطلبُوا مَا لم يكُنْ مَطلُوبَا
واشْتَغَلُوا بعَالَمْ الأبدانِ ... فالكلُّ نساءٍ منْهمُ ودَانِ
وأنكَرُوا مَا جَهِلوا وزَعموا ... أنْ لَيسَ بعدَ الجسمِ شَيْءٌ يُعلمُ
وكفَّرُوا وزندقُوا وبدَّعُوا ... إذَا دَعَاهُم اللَّبِيبُ الأوْرَعُ
كلٍّ يرى أنْ لَيسَ فوقَ فَهْمِهِ ... فَهْمٌ ولاَ عِلْمٌ وراءَ عِلْمِهِ
مُحْتَجِباً عَنْ رؤيةِ المَراتبْ ... عَلّ يُسْمَى عَالماً وَطالبِ
هَيْهَاتَ هذا كُلَّه تقْصِيرُ ... يأنَفُهُ الحَاذقُ والنَّحْرِيرُ
(1/60)

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
قلت : { ويل } : كلمة يستعملها كل واقع في هلكة ، وأصلها العذاب والهلكة ، وهو في الأصل مصدر لا فعل له ، وسوغ الابتداء به الدعاء ، وقال أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " الويلُ وادٍ في جَهنَّم " [ لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } تحريفاً لكتاب الله ، { وَيقُولُونَ هَذَا مِنْ عند الله } خوفاً من أن تزول رئاستهم ، وينقطع عنهم ما كانوا يأخذونه من سفلتهم ، نزلت في أحبار اليهود لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، خافوا أن تزول رئاستهم ، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإسلام ، وكانت صفة النبي صلى الله عليه وسلم " حسن الوجه ، حسن الشعر ، أكحل العينين ، ربعة " ، فغيروها ، وكتبوا : طوالاً ، أزرق ، سبط الشعر ، { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } ، ويأخذون من سفلتهم ، فهو وإن كان كثيراً في الحسن فهو ، بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الأليم ، قليل .
الإشارة : ينزجر بهذه الآية صنفان : أحدهما : علماء الأحكام ، إذا أفتوا بغير المشهور ، رغبة فيما يقبضون على الفتوى من الحطام الفاني ، وكذلك القضاة إذا حكموا بالهوى ، رغبة فيما يقبضون من الرشا ، أو يحصلونه من الجاه ، { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } الثاني : أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين وغيرهم ، فإنهم إذا رأوا أحداً قام بولاية أو نسة خافوا على زوال رئاستهم ، فيحتالون على الناس بالتعويق عن الدخول في طريقته ، فيكتبون في ذلك سفسطات وترهات ، يُنفِّرون الناس عن اتباع الحق ، { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ التّوبَة : 32 ] .
(1/61)

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
قلت : { بلى } : حرف جواب كنعم ، والفرق بينهما أن { بلى } لا يقع إلا في جواب النفي ويصير إثباتاً ، تقول : ألم يأت زيد؟ فتقول : بلى . أي : أتى ، ومثله : { قالوا لن تمسنا النار } فقال تعالى : { بلى } أي تمسكم ، بخلاف نعم؛ فإنها لتقرير ما قبلها نفياً أو إثباتاً ، فإذا قيل : ألم يأت زيد؟ فقلت : نعم ، أي لم يأت ، وإذا قيل : هل أتى زيد فقلت : نعم ، أي أتى . وقد نظم ذلك بعضهم فقال :
" نعَمْ " لتقرير الذي قبلها ... إثباتاً أو نفياً ، كذا قرَّرُوا
" بلى " جواب النفي لكنه ... يصير إثباتاً ، كذا حرَّرُوا
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَقَالُوا } أي : بنو إسرائيل في أمانيهم الباطلة : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } أربعين يوماً مقدار عبادة العجل ، ثم يخلفنا فيها المسلمون . قال الحقّ جلّ جلاله : { قُلْ } لهم يا محمد : { أَتَّخَذْتُمْ } بذلك عهداً عند الله { فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } - { بَلَى } تمسكم النار وتخلدون فيها؛ لأن { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } أي : كفراً ومات عليه ، { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي : أحدقت به ، واستولت عليه ، { فأوْلَئِكَ أَصْحَابَ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } - { والذين آمنوا } بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم { وعلموا } بشريعته المطهرة الأعمال { الصالحات } { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالدُونَ } هذه عادته تعالى؛ إذا ذكر فريقاً شفع بضده ترغيباً وترهيباً وبالله التوفيق .
الإشارة : اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء ، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات ، ويقولون : سمعنا من سيدي فلان يقول : مَن رآنا لا تمسه النار . وهذا غلط وغرور ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - لابنته : " يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شيئاً ، اشترِيِ نفسك من الله " وقال للذي قال : ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له : " أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود " نعم ، هذا المقالة : إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق ، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات ، فإن المأمول من فضل الله ، ببركة أوليائه ، أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل ، ويتجاوز عن سيئاته ، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده؛ وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه .
والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين - الحفظ وعدم الإصرار ، فمن كان كذلك لا تمسه النار ، وفي الحديث : " إذَا أحَبَّ اللّهُ عَبْداً لَمْ يضرُّه ذَنْب " ، يعني : يُلهم التوبة سريعاً ، كما قيل لأهل بدر : " افْعلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرتْ لَكُم " . ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء ، لأنهم بالله فيما يقولون ، فليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار ، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له؛ لأنه بنفسه ، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر ، وبالله التوفيق .
قوله تعالى : { بلى من كسب سيئة } ، من اقتنى حب الدنيا أحاطت به أشغالها وعلائقها ، فهو في نار القطعية مقيم ، أحاط به سرادق الهموم والأكدار ، تلدغه عقارب الشكوك والأغيار ، بخلاف من أشرفت عليه أنوار الإيمان ، وصحب أهل الشهود والعيان ، فإنه في روح وريحان وجنة ورضوان ، متعنا الله بذلك في الدارين . آمين .
(1/62)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
قلت : { لا تعبدون } : خبر في معنى النهي ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } [ البَقَرَة : 282 ] ، وهو أبلغ من صريح النهي ، لما فيه من إيهام أو المنهي سارع إلى الانتهاء ، وقيل : حُذفت " أن " ، وارتفع المضارع ، وهو على حذف القول ، أي : وقلنا لهم : لا تعبدون ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيب .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا إذ أخذنا الميثاق على بني إسرائيل وقلنا لهم : لا يتصوّر منكم شرك معي ولا ميل إلى غيري ، فلا تعبدوا إلا إياي ، وأحسنوا { بالوالدين } إحساناً كاملاً ، وأحسنوا { وذي الْقُرْبَى } نسباً وديناً ، وأحسنوا باليتامى { وَالْمَسَاكِينِ } ، بالمواساة والملاطفة ، { وَقُولُوا لِلنَّاسِ } قولاً { حُسْناً } أو ذا حسن ، وهو ما لا لغو فيه ، ولا تأثيم بل ما فيه نصح وإرشاد ، { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } بإتقان شروطها وكمال آدابها ، وأدوا { الزَّكَاةَ } لمستحقها ، { ثُمَّ } بعد ذلك { تَوَلَّيْتُمْ } ، وأعرضتم { إلاَّ قَلِيلاً } ممن أسلم { مِّنكُمْ وَأَنتُم مُعْرِضُونَ } عن الحقّ ظهوره .
ذكر الحق تعالى في هذا العهد أربعة أعمال : عمل خاص بالقلب ، وهو التوحيد ، وعمل خاص بالبدن ، وهو الصلاة ، وعمل خاص بالمال ، وهو الزكاة ، وعمل عام وهو الإحسان ، ورتَّبها باعتبار الأهم فالأهم ، فقدّم الوالدين لتأكيد حقهما الأعظم ، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم ، ثم اليتامى لقلّة حيلتهم ، ثم المساكين لضعفهم ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل عهد أخذ على بني إسرائيل يؤخذ مثله على الأمة المحمدية ، وهذا حكمة ذكر قصصهم لنا ، وسرد مساؤئهم علينا؛ لنتحرز من الوقوع فيما وقعوا فيه ، فنهلك كما هلكوا ، وكل عهد أخذ على العموم باعتبار الظاهر يؤخذ مثله على الخصوص باعتبار الباطن ، فقد أخذ الحق سبحانه العهد على المتوجهين إليه ألا تتوجه همتهم إلا إليه ، ولا يعتمدون بقلوبهم إلا عليه ، وأن يتخلقوا بالإحسان ، مع الأقارب والأجانب وكافة الإخوان ، وخصوصاً الوالدين من قِبل البشرية أو الروحانية ، وهم أهل التربية النبوية ، فحقوق أب الروحانية تُقدم على أب البشرية ، لأن أب البشرية كان سبباً في خروجه إلى دار الفناء والهوان ، وأب الروحانية كان سبباً في دخوله إلى رَوْحٍ وريحان .
وأخذ العهد على المتوجهين أن يكلموا الناس بالملاطفة والإحسان ، ويرشدوهم إلى الكريم المنان ، ويقيموا الصلاة بالجوارح والقلوب ، ويؤدوا زكاة نفوسهم بتطهيرها من العيوب ، فمن تولّى بعد ذلك فأولئك الفاسقون ، وعن دائرة الولاية خارجون .
(1/63)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
قلت : { ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء } { أَنتُمْ } : مبتدأ ، و { هَؤُلاء } : خبر ، و { تَقْتُلُون } : حال ، كقولك : أنت ذلك الرجل الذي فعلت كذا وكذا ، أو { هَؤُلاءِ } : بدل ، و { تَقْتُلُونَ } : خبر أو منادي ، أي : يا هؤلاء ، أو منصوب على الاختصاص ، والْعُدْوَانِ : الإفراط في الظلم ، و { أُسَارَى } حالٌ ، جميع أسير ، ويجمع على أًسرى ، وقرئ به؛ أي : مأسورين : و { هُوَ } ضمير الشأن ، و { مُحَرَّمٌ } خبر ، و { إِخْرَاجُهُمْ } مبتدأ مؤخر ، أو ضمير الإخراج فيكون مبتدأ ، و { مُحَرَّمٌ } خبره ، و { إِخْرَاجُهُمْ } بدل من الضمير ، وهذه الجملة متصلة بقوله : { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } ، وما قبلها اعتراض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكروا أيضاً { إِذْ أَخْذْنَا ميثَاقَكُمْ } وقلنا لكم : { لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي : لا يسفك بعضكم دم بعض ، { وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } أي : لا يخرج أحدكم أخاه من داره ويجليه عنها ، وجعلهم الحق نفساً واحدة ، وذلك هو في الحقيقة ، وفي ذلك يقول الشاعر :
عُنْصُرُ الأنفاسِ مِنَّا واحِدٌ ... وكّذا الأجْسَامُ جِسْمٌ عَمَّنَا
{ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } بهذا العهد والتزمتموه لأنفسكم { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } على أنفسكم بذلك ، { ثُمَّ أَنتُمْ } يا { هَؤُلاءِ } اليهود { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } أي : يقتل بعضكم بعضاً ، { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ } إجلاءً عنها ، تتغالبون { عَلَيْهِم } بالظلم والطغيان ، { وَإِن يَأتُوكُمْ } مأسورين تفدوهم بمالكم ، وذلك الإخراج محرم عليكم .
وحاصل الآية : أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضاً ، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وأيّما عبدٍ أو أمَةٍ وجدتموه من بني إسرائيل أسيراً فاشتروه بما كان من ثمنه واعتقوه ، فكانت قريظة حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، وكانوا يقتتلون في الحرب فيُعين بنو قريظة حلفاءهم الأوس ، فيقاتلون بني النضير في قتالهم مع الخزرج ، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب ، فقالوا : تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون : قد أمرنا أن نفديهم وحُرم علينا قتالهم ، قالوا : فلم تقاتلونهم؟ فقالوا : إنا نسْتحي أن يُذَل حلفاؤنا ، فوبخهم الله على ذلك ، فقال :
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب } وهو الفداء { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل والإخراج؟ { فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ } أي : ذل وهوان { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، وهو السبي والقتل لبني قريظة ، والجلاء والإخراج من الوطن لبني النضير ، أو الذل والجزية للفريقين إلى يوم القيامة ، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } . وليس ما أصابهم تكفيراً لذنوبهم ، بل نقمة وغضباً عليهم ، { وَمَا اللَّهُ بِغَافلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
الإشارة : الناس على قسمين : قوم ضعفاء تمسكوا بظاهر الشريعة ولم ينفذوا إلى باطنها ، ولم يقدروا على قتل نفوسهم ، ولا على الخروج من وطن عوائدهم ، فيقول لهم الحق جلّ جلاله : لا تسفكوا دماءكم في محبتي؛ لأنكم لا تقدرون على ذلك ، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم في سياحة قلوبكم ، فقد أقررتم بعجزكم وضعفكم ، ويقول للأقوياء : ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم في طلب معرفتي ، وتخرجون فريقاً منكم من ديار عوائدهم في طلب مرضاتي ، تتعاونوا على نفوسكم بالقهر والغلبة ، وكذلك ورد في بعض الأخبار : ( أول ما يقول الله للعبد : اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك ، فإن قال : لا ، ما أريد إلا أنت ، قال له : من دخل في هذا معي فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ ، ورفع الحدث ، وإثبات القدم ، وذلك يوجب العدم ) وأنشدوا :
(1/64)

منْ لَم يَكُن فَانِياً عَنْ حَظِّهِ ... وَعِنِ الفَنَا والأُنسِ بالأحْبَابِ
فلأَنَّهُ بَيْنَ المنَازِل واقفٌ ... لِمنَالِ حَظّ أَوْ لُحُسْنِ مَآبِ
ويقول أيضاً للأقوياء الذين قتلوا أنفسهم وخرجوا عن عوائدهم : وإن يأتوكم أسارة في أيدي نفوسهم وعوائدهم ، أو في طلب الدنيا وشهواتها ، تفدوهم من أسرهم ، وتفكوهم من قيودهم ، وتدخلوهم في حضرة مولاهم ، وفي بعض الآثار : ( طالب الدنيا أسير ، وطالب الآخرة أجير ، وطالب الحق أمير ) ه . والأمير هو الذي يفك الأسارى من أيدي العدو ، لأجل ما ملكه الله من القوة والاستعداد ، فإذا انفك العبد من هواه ، دخل في حضرة مولاه ، فمن رام إخراجه منها بعد دخوله يقال له : وهو محرم عليكم إخراجهم ، فكيف تؤمنون بظاهر الشريعة وتنكرون علم الطريقة ، وأنوار الحقيقة؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا وهو الحرص والطمع ، والخوف والجزع وطول الأمل ، وعدم النهوض إلى العمل ، { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } ، وهو غم الحجاب وسوء الحساب ، { وما الله بغافل عما يعملون } .
(1/65)

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أُوْلَئِكَ } الناقصون للعهود المتعدون الحدود { اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } وزخارفها الغرارة { بالآخِرَةِ } الباقية الدائمة ، { فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } ساعة الدنيا بالذل والهوان ، وفي الآخرة بدخول النيران ، { وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } بالامتناع منه في كل أوان .
الإشارة : أولئك الذين نظروا إلى غرة ظاهرة الأكوان ، ولم ينفذوا إلى عبرة باطنها ، فلا ينقطع عنهم عذاب الوهم والحجاب ، ولا هم ينصرون من أليم العذاب .
(1/66)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
قلت : { قفينا } : أتبعنا ، و { عيسى } عجمي معدول عن أيشوع في لغة السريانية ، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة ، و { مريم } : بمعنى الخادم ، ووزنه : مَفْعَل لا فعيل ، و { أيدناه } أي : قويناه ونصرناه ، و { روح القدس } هنا جبريل عليه السلام أي : الروح المقدسة - من إضافة الموصوف إلى الصفة ، سمي به لطهارته من كدر الحس .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى } التوراة ، فما قمتم بحقها ولا عملتم بما فيها ، واتبعنا بعده الرسل كلما مات رسول بعثنا بعده آخر اعتنا بكم ، { وَآتَيْنَا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ } المعجزات الواضحات كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمة والأبرص ، والإخبار بالمغيبات ، والإنجيل ، { وَأَيَّدْنَاهُ } بجبريل عليه السلام كان يسير معه حيث سار ، ورفعه إلى السماء حين أردتم يا معشر اليهود قتله ، { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنفُسُكُمُ } من مشاق الطاعات وترك الحظوظ والشهوات ، { اسْتَكْبَرْتُمْ } وامتنعتم من الإيمان به { فَفَرِيقاً } منهم كذبتموه كعيسى وسليمان ومحمد - عليهم السلام - ، { وَفَرِيقاً } تقتلونه كزكريا ويحيى - عليهما السلام -؟ قال القشيري : أصْغَوْا إلى الداعين بسمع الهوى ، فصار معبودهم صفاتهم وهواهم . ه .
الإشارة : كل ما قاله الحق جلّ جلاله لبني إسرائيل في فحوى الخطاب يقوله لهذه الأمة في سرّ الخطاب ، فلقد آتانا الكتاب ، وبيَّن فيه الرشد والصواب ، وقفَّى بعد إنزاله بعلماء أتقياء ، وأولياء أصفياء ، يحكمون بحكمه ، ويهدون بهديه ، فإذا أمروا بالزهد في الدنيا وترك الحظوظ والهوى رفضوهم وكذبوهم ، وربما كفَّروهم وقتلوهم ، واستكبروا عن الأذعان لهم والانقياد لقولهم ، ففريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون .
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : " لَتَتَّبِعُنّ سُنَنَ مَنح قَبلكمُ شِبراً بشِبرٍ وذَراعاً بذراعٍ ، حتى لَو دَخلُوا جُحْرَ لدَخَلْتُموه " ، فقالوا : مَن يا رسول الله اليهودُ والنصارى؟ قالَ : " نعم . . . ومَنْ إذن؟ " أي : ومَن تتبعون إلا هم . فالدعاة إلى الله لا ينقطعون ما دام الدين قائماً ، فقوم يدعون إلى أحكام الله ، وقوم يدعون إلى معرفة الله ، فالأول : العلماء ، والثاني : الأولياء ، فإذا أمروا بالخروج عن العوائد والشهوات ، رموهم بسهام العتاب والمخالفات ، إذ لم يأت أحد بمثل ما جاءوا به إلا عودي ، إلا من خصته سابق العناية ، وهبت عليه ريح الهداية ، فيتبع آثارهم ، وقليلٌ ما هم .
(1/67)

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
قلت : { غُلف } : جمع ألف ، كأحمر وحُمْر ، وأصفر وصُفْر ، وهو الذي عليه غشاوة ، أي : هي في غلاف؛ فلا تفقه ما تقول ، بمنزلة الأغلف ، وهو غير المختون ، وقيل : أصله { غُلُف } بضم اللام ، وبه قرأ ابن محيصن . فيكون جمع غلاف ، كحجاب وحجب ، وكتاب وكتب ، ومعناه ، قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك وكتابك . و { قليلاً } صفة لمحذوف؛ أي : فإيماناً قليلاً ، أو عدداً قليلاً يؤمنون ، أو ظرف؛ لأنه من صفة الأحيان ، والعامل فيه ما يليه ، و { ما } لتأكيد القلة ، أي : في قليل من الأحيان يؤمنون ، أو حال من الواو في { يؤمنون } أي : فيؤمنون في حال قلتهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : قالت اليهود استهزاء بما تدعوهم إليه : { قُلُوبُنَا } مغلفة ومغشاة فلا نفقه ما تقول ، أو أوعية للعلوم فلا تحتاج إلى علمك ، قال الله تعالى : { بل } لا غطاء على قلوبهم حساً ، بل هي على الفطرة لكن { لعنهم الله } وطردهم وخذلهم بسبب { كُفْرِهِمْ } فأبطل استعدادها للعلم ، { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } أي : فإيماناً قليلاً يؤمنون كإيمانهم ببعض الكتاب ، أو فلا يؤمن إلا قليل منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا أمر الدعاة إلى الله أهل الدنيا بذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس ، ليتأهلوا به لدخول حضرة القدوس ، أو أمروهم بخرق العوائد ، لتخرق لهم العوائد ، أنفوا وعنفوا وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، فيقال لهم : بل سبق لكم من الله البعد والحرمان ، فأنكرتم أسباب الشهود والعيان ، لكن مَن سبقت له من الله العناية ، وهبَّ عليه نسيم الهداية ، فلا تضره الجناية ، فقد يلتحق بالخصوص ، وإن كان من أعظم اللصوص ، وهو قليل بالنسبة إلى من جاهد نفسه في طلب السبيل ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِراً } [ الكهف : 45 ] .
(1/68)

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
قلت : { لمَّا } حرف وجود لوجود إذا وليها الماضي ، ولها شرط وجواب ، وهو هنا محذوف دلّ عليه جواب { لما } الثانية ، أي : ولما جاءهم كتاب من عند الله كفروا به ، أو { لما } الثانية تأكيد للأولى . والجواب : { كفروا به } ، أو فلما وجوابها جواب الأولى ، كقوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ . . . } [ طه : 123 ] الآية ، و { يستفتحون } ينتصرون ، وفي الحديث : " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَستَفْتِحُ بِصعَالِيكِ المُهَاجِرينَ " ، الذين لا مال لهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ } أي : اليهود ، القرآن مصدقاً { لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة ، أي : موافقاً له وشاهداً له بالصحة ، وقد كانوا قبل ظهوره يستنصرون على أعدائهم بالنبيّ الذي جاء به ، فيقولون : اللهم انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان ، الذي نجد نعته في التوراة ، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : ( قد أظلَّ زمانُ نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرَم ) ، فلما ظهر وعرفوه كفروا به { فَلَعْنَةُ الله } عليهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم لُعنوا لكفرهم ، فاللام في { الْكَافِرِينَ } للعهد ، وهم كفار اليهود ، أو للجنس ، فتكون اللعنة عامة لكل كافر ، ويدخلون فيها دخولاً أوليّاً ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : ترى كثيراً من الناس إذا ذكر لهم الأولياء المتقدمون أقروهم وصدقوهم ، وإذا ذكر لهم أولياء أهل زمانهم أنكروهم وجحدوهم ، مع كونهم يستنصرون بأهل زمانهم في الجملة . فهذه نزعة يهودية ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض .
والناس في إثبات الخصوصية ونفيها على ثلاثة أقسام : قسم أثبتوها للمتقدمين ، ونفوها عن المتأخرين ، وهم أقبح العوام ، وقسم أقروها قديماً وحديثاً ، وقالوا : إنهم أخفياء في زمانهم ، فحرمهم الله بركتهم ، وقوم أقروا الخصوصية في أهل زمانهم ، وعرفوهم وظفروا بهم وعظموهم ، وهم السعداء الذين أراد الله أن يوصلهم إليه ويقربهم إلى حضرته . وفي الحكم : " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " . وبالله التوفيق .
(1/69)

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
قلت : بئس ونعم : فعلان جامدان مختصان بالدخول على ما يدل على العموم ، إما نكرة ، فتنصب على التمييز المفسر للضمير الفاعل ، أو معروف بأل الجنسية ، فيرتفع على الفاعلية ، تقول : بئس رجلاً زيدٌ ، وبئس الرجل زيد ، ويذكر بعد ذلك المخصوص : إما خبر عن مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ والخبر مقدم . وإنما اخْتُصَّتَا بالدخول على ما يدل على العموم؛ لأن { نعم } مستوفية لجميع المدح ، و { بئس } مستوفية لجميع الذم . فإذا قلت : نعم الرجل زيد ، فكأنك قلت : استحق زيدٌ المدحَ الذي يكون في سائر جنسه ، وكذلك تقول في بئس .
و { ما } المتصلة ببئس ونعم : نكرة منصوبة على التمييز ، أي : بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم ، وهو كفرهم ، أو معرفة تامة مرفوعة على الفاعل ، أي : بئس الشيء شيء اشتروا به أنفسهم . و { اشتروا } هنا بمعنى باعوا ، كشَروا على خلاف الأصل ، وقد يمكن ان يبقى على أصله ، على ما يأتي في بيان المعنى .
و { بغيا } مفعول من اجله ليكفروا ، و { يكفرون } حال من الفاعل في { قالوا } ، و { وراء } في الأصل : مصدر جُعل ظرفاً ، ويضاف إلى الفاعل ويراد به ما يتوارى به وهو خلفه ، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه ، ولذلك عد من الأضداد ، قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن اليهود : بئس شيئاً باعوا به حظ أنفسهم ، وهو كفرهم بما أنزر الله ، أو { بئسما اشتروا به أنفسهم } بحسب ظنهم ، فإنهم ظنوا أنهم خلّصوا أنفسهم من العذاب بما فعلوا ، وهو كفرهم بما أنزل الله على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم بغياً وحسداً أن يكون النبيّ من غيرهم ، فانقلبوا { بِغَضَبِ عَلَى غَضَبٍ } للكفر والحسد لمن هو أفضل الخلق ، أو لكفرهم بمحمد - عليه الصلاة والسلام - بعد عيسى عليه السلام ، أو لتضييعهم التوراة ، وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي : يذلهم ويخزيهم في الدنيا والآخرة ، بخلاف عذاب العاصي فإنه كفارة لذنوبه .
{ وَإِذَا قِيلَ } لهؤلاء اليهود : { آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } على محمد صلى الله عليه وسلم { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } من التوراة ، وهم { يَكْفُرُونَ بِمَا ورَاءَهُ } أي : بما سواه ، وهو القرآن ، حال كونه { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة ومهيمناً عليه . { قُلْ } لهم يا محمد : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْل } هذا الزمان ، وهو محرم عليكم في التوراة ، { إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ } به؟ فهذا يبطل دعواكم الإيمان بالتوراة؛ إذ الإيمان بالكتاب يقتضي العمل به ، وإلاَّ كان دعوى ، وإن فعله أسلافكم فأنتم راضون به وعازمون عليه .
الإشارة : اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هي أن كل عتاب توجه لمن ترك طريق الإيمان ، وأنكر على أهله يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان ، وأنكر على أهله .
(1/70)

وكل وعيد توعد به أهل الكفران يتوعد به مَن ترك السلوك لمقام الإحسان ، غير أن عذاب أهل الكفر حسي بدني ، وعذاب أهل الحجاب معنوي قلبي .
فنقول فيمن رضي بعيبه وأقام على مرض قلبه وأنكر الأطباء ووجود أهل التربية ، بئسما اشتروا به أنفسهم ، وهو كفرهم بما أنزل الله من الخصوصية على قلوب أوليائه بغياً وحسداً ، أو جهلاً وسوء ظن ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فباؤوا بغضب الحجاب على غضب البعد والارتياب ، أو بغضب سقم القلوب على غضب الإصرار على المساوئ والعيوب . ( من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر ) كما قال الشاذلي رضي الله عنه ، ولا يصح التغلغل فيه إلا بصحبة أهله . وللكافرين بالخصوصية عذاب الطمع وسجن الأكوان ، وهما شجرة الذل والهوان .
وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله من أسرار الحقيقة وأنوار الطريقة ، قالوا : نؤمن بما أنزل علينا من ظواهر الشريعة ، ويكفرون بما وراءه من أسرار الحقيقة ، ككشف أسرار الذات وأنوار الصفات ، وهو - أي : علم الحقيقة - الحق؛ لأنه خالص لب الشريعة ، ولله در صاحب المباحث الأصلية حيث قال :
هل ظاهِرُ الشرع وعلمُ الباطِنْ ... إلا كجِسمٍ فيه رُوحٌ سَاكِنْ؟
وقال أيضاً :
ما مَثلُ المعقولِ والمنقولِ ... إلا كَدُرِّ زاخرٍ مَجْهُولِ
حتى إذا أخْرَجَهُ الغِوَّاصُ ... لم يكُ لِلدُرِّ إذن خَلاصُ
وإنام خَلاصُهُ في الكَشْفِ ... عن الغِطَاءِ حيثُ لا يسْتَخْفِي
فَالصّدَفُ الظاهرُ ثم الدرُّ ... مَعْقولُه والجهلُ ذاك البحْرُ
وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول : ( هل ثَمَّ شيءٌ غيرُ ما فهمناه من الكتاب والسنة؟ ) ، كان يقول ذلك إذا قيل له : إن الشيخ الشاذلي فاض اليوم بعلوم وأسرار ، فلا التقى بالشيخ وأخذ بيده ، قال : ( أي والله . . . ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية ) . ويقال لمن ادعى التمسك بالشريعة وأنكر ما وراءها : فلم تشتغل بجمع الدنيا واحتكارها وتخاف من الفقر ، وتهتم بأمر الرزق وتجزع من المصائب ، والشريعة تنادي عليك بذم ذلك كله إن كنت مؤمناً؟!! وبالله التوفيق .
(1/71)

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قلت : جملة : { وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } حال من { اتخذتم } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى } بالمعجزات الواضحات : كالعصا واليد وفلق البحر ، ثم لم ينجح ذلك فيكم ، فاتخذتم العجل إلهاً تعبدونه من بعد ذهابه إلى الطور { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } في ذلك ، فأين دعواكم الإيمان بالتوراة؟
الإشارة : ويقال لمن أقام على عبيه ، ورضي بمرض قلبه ، حتى لقي الله بقلب سقيم : لقد جاءتكم أوليائي بالآيات الواضحات ، ولو لم يكن إلا شفاء المرضى على أيديهم - أعني مرضى القلوب - لكان كافياً ، ثم اتخذتم الهوى إلهكم ، وعبدتم العاجلة بقلوبكم ، وعزَّتْ عليكم نفوسكم وفلوسكم ، وأنتم ظالمون في الإقامة على مساوئكم وعيوبكم ، مع وجود الطبيب لمن طلب الشفاء ، وحسّن الظن وشهد الصفاء . ( كن طالباً تجد مرشداً ) وبالله التوفيق .
(1/72)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قلت : { إن كنتم } : شرط حذف جوابه ، أي : إن كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكروا أيضاً { إذ أخذنا ميثاقكم } أن تعملوا بالتوراة فأبيتم { ورفعنا فوقكم } جبل { الطور } وقلنا : { خذوا ما آتيناكم بقوة } واجتهاد { واسمعوا } ما أقول لكم فيه { قالوا } بلسان حالهم : { سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك ، حيث لم يمتثلوا ، أو بلسان المقال لسوء أدبهم ، { وأُشربوا في قلوبهم } حب { العجل } حتى صبغ فيها ورسخ رسوخ الصبغ في الثوب ، لأنهم كانوا مُجَسِّمَةً ، ولم يروا منظراً أعجب من العجل الذي صنعه السامري ، { قل } لهم يا محمد : { بئسما يأمركما به إيمانكم } بالتوراة الذي ادعيتموه ، { إن كنتم مؤمنين } ، لكن الإيمان لا يأمر بهذا فلستم مؤمنين .
الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله لمن ادعى كمال الإيمان ، وهو منكر على أهل الإحسان ، مع إقامته على عوائد نفسه ، وكونه محجوباً بشهود حسه : وإذا أخذنا ميثاقكم ، بأن تجاهدوا نفوسكم ، وتخرقوا عوائدكم لتدخلوا حضرة ربكم ، ورفعنا فوق رؤوسكم سيوف التخويف ، أو جبال التشويق ، وأوضحنا لكم سواء الطريق ، وقلنا لكم : خذوا ما آتيناكم من خرق العوائد ، واكتساب الفوائد ، بجد واجتهاد ، فأبيتم وعزَّت عليكم نُفوسكم ، وقلتم بلسان حالكم : سمعنا وعصينا ، وأشربت قلوبكم حب العاجلة ، وآثرتم الدنيا على الآخرة ، بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين .
(1/73)

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
قلت : { خالصة } خبر كان ، و { عند } متعلق بكان على الأصح .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد لبني إسرائيل الذين ادعوا أن الجنة خاصة بهم : { إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله } أي : في غيبه ، { خالصة } لكم { من دون } سائر { الناس } ، أو من دون المسلمين ، { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } في اختصاصكم بهم ، فإن العبد إذا تحقق أنه صائر إليها اشتاق إلى الموت الذي يوصل إليها ، كما قال عمار رضي الله عنه عند موته :
الآنَ ألاقِي الأحِبَّهْ ... مُحَمَّداً وحِزْبَه
وقال حذيفة رضي الله عنه حين احتضر : ( جَاءَ حَبِيبٌ عَلَى فَاقَة ، لاَ أَفْلَحَ مَنْ نَدِم ) .
أي : على التمني ، أو على الدنيا .
قال تعالى : { ولن يتمنوه أبداً } بسبب { ما قدمت أيديهم } من الكفر والعصيان ، فما تمناه أحد منهم قط ، قال ابن عباس : ( لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار ) . وقال في الأحياء : ( دعا - عليه الصلاة والسلام - اليهود إلى تمني الموت ، وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه ، فحيل بينهم وبين النطق بذلك ) . وذكر غيره : أن بعضهم تمناه ، فما جاءت العشاء حتى أخذته الذّبحة في حلقه فمات . { والله عليم بالظالمين } ، فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن هو لهم .
الإشارة : في هذه الآية ميزان صحيح توزن به الأعمال والأحوال ويتميز به المدعون من الأبطال ، فكل عمل يهدمه الموت فهو مدخول ، وكل حال يهزمه الموت فهو معلول ، وكل من فرّ من الموت ، فهو في دعواه المحبة كذاب ، فمن ادعى الخصوصية على الناس يختبر بهذه الآية .
والناس في حب البقاء في الدنيا على أربعة أقسام :
رجل أحب البقاء في الدنيا لاغتنام لَذَّاته ونيل شهواته ، قد طرح أخراه ، وأكبَّ على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، فأصمه ذلك وأعماه ، إن ذُكر له الموت فرّ عنه وشرد ، وإن وعِظَ أنِف وعَنَدَ ، عمره ينقص ، وحرصه يزيد ، وجسمه يبلى ، وأمله جديد ، وحتفه قريب ، ومطلبه بعيد ، فهذا إن لم تكن له عناية أزلية ، وسابقة أولية فيمسك عليه الإيمان ، ويختم له بالإسلام ، وإلا فقد هلك .
ورجل قد أزيل عن عينه قذاها ، وأبصر نفسه وهواها ، وزجرها ونهاها ، قد شمر ليتلافى ما فات ، ونظر فيما هو آت ، وتأهب لحلول الممات ، والانتقال إلى محلة الأموات ، ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشاهد وقائعه ، أو يرى طلائعه ، وليس يكره الموت لذاته ، ولا لأنه هَادِمْ لَذَّاتِهِ ، لكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد ، ويكره أن تطوى صحيفةِ عَمَلِهِ قبل بلوغ أمله ، وأن يبادر بأجله قبل صلاح خلله ، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار ، فهذا ما أفضل حياته : وأطيب مماته! لا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم :
(1/74)

" مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كره اللّهُ لِقَاءَه " .
ورجل آخر قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وشهد ما شهد من كمال الربوبية ، وجمال حضرة الألوهية ، فملأت عينه وقلبه ، وأطاشت عقله ولبّه ، فهو يحن إلى ذلك المشهد ، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد ، قد علم أن الحياة الدنيوية حجابٌ بينه وبين محبوبة ، وسترٌ مُسدل بينه وبين مطلوبه ، فهذا من المحبين العشاق ، قد حنّ إلى الوصال والتلاق ، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ، فما أحسن حياته ولقاءه!
ورجل آخر قد شهد ما شاهد ذلك ، وربما زاد على ما هنالك ، لكنه فوّض الأمر إلى خالقه ، وسلّم الأمر لبارئه ، فلم يرض إلا ما رضي له ، ولم يرد إلا ما أريد به ، وما اختار إلا ما حكم به فيه ، إن أبقاه في هذه الدار أبقاه ، وإن أخذه فهو بغيته ومناه ، فهذا من العارفين المقربين . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه . آمين .
(1/75)

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قلت : { ومن الذين أشركوا } : على حذف مضاف ، أي : وأحرص من الذين أشركوا ، فيوقف عليه ، و { لو يعمر } مصدرية ، أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة . و { أن يعمر } فاعل لمزحزحه ، أي : وما هو بمزحزحه من العذاب تعميره .
يقول الحقّ جلَ جلاله : ولتجدن يا محمد اليهود { أحرص الناس } على البقاء في هذه الدار الدنية ، فكيف يزعمون أنهم أولى الناس بالجنة ، ولتجدنهم أيضاً أحرص من المشركين على البقاء ، مع كونهم لا يقرون بالجزاء ، فدلَّ ذلك على أنهم صائرون إلى النار ، فلذلك كرهوا اللقاء وحرصوا على البقاء ، يتمنى أحدهم لو يعيش { ألف سنة } وليس ذلك { بمزحزحه } أي : مبعده من العذاب ، بل زيادة له في العقاب { والله بصير بما يعملون } : تهديد وتخويف .
الإشارة : يفهم من سر الخطاب أن كل من قصر أمله ، وحسن عمله ، وطيب نفسه للقاء الحبيب ، واشتغل في هذه اللحظة القصيرة بما يقربه من القريب ، كان قربه من الله بقدر محبته للقائه ، وكل من طوّل أمله ، وحرص على البقاء في هذه الدار الفانية ، كان بُعده من الله بقدر محبته للبقاء ، إلا من أحب البقاء لزيادة الأعمال ، أو الترقي في المقامات والأحوال ، فلا بأس به ، ويفهم منه أيضاً أن مَن اشتد حرصه على الحياة الفانية كانت فيه نزعة يهودية .
واعلم أن الناس ، في طول الأمل وقصره ، على قسمين : منهم من طوّل في أمله فازداد في كسله ، ودخله الوهن في عمله ، وآخر قد قصر أملُه وجعل التقوى بضاعته ، والعبادة صناعته ، ولم يتجاوز بأمله ساعته ، ومثل هذا قد رفع التوفيق عليه لواءه ، وألبسه رداءه ، وأعطاه جماله وبهاءه ، فانظر رحمك الله أيّ الرجلين تريد أن تكون ، وأي العملين تريد أن تعمل ، وبأي الرداءين أن تشتمل؟ فلست تلبس هناك إلا ما تلبس هنا . وبالله التوفيق .
(1/76)

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
قلت : { من } شرطية وجوابها محذوف ، أي : فليمت غيظاً ، أو { فإنه نزله } على معنى : مَن عادى منهم جبريل فقد خلع ريقة الإنصاف ، أو كفر بما معه من الكتاب؛ لأنه نزل بكتاب مصدقاً لما قبله من الكتب ، وجبريل فيه ثماني لغات ، أربع قرئ بهن . وهي : جَبْرَئِيل كسلسبيل . وجَبْرَئِل كجحْمرش ، وجَبْريل - بفتح الجيم - بلا همز ، وجِبْرِيل بكسرها ، وأربع شواذ : جِبْرَالُ ، وجَبْرَائِيل ، وجَبْرِائل ، وجَبْرين بالنون ، ومعناه : عبد الله . وفي ميكائيل أربع لغات : مكيائيل ممدود ، وميكائل مقصور ، وميكئل مهموز مقصور ، وميكال على وزن ميعاد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على اليهود ، كابن صُوريا وغيره ، حيث قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : من الذي يأتيك بالوحي؟ فقال : " جبريل " ، فقالوا : ذلك عدونا من الملائكة؛ لأنه ينزل بالشدة والعذاب ، ولو كان ميكائيل لاتبعناك؛ لأنه ينزل بالخصب والسلم ، فقال تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْريلَ } فليمت غيظاً ، فإنه هو الذي نزَّل القرآن { عَلَى قَلْبِكَ بإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب ، وهداية { وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ، فإن كان ينزل بالشدة والعذاب على الكافرين ، فإنه ينزل بالهداية والبشارة على المؤمنين .
ومن كان عدواً لجبريل فإنه عدو لله ، إذ هو رسوله للأنبياء ، وصفيه من الملائكة ، وعدو أيضاً لميكائيل فإنه وزيره ، وللرسل أيضاً فإنه سفيرهم ، و { مَن كَانَ عَدُوّاً للّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } فإن الله عدو له . وعطف جبريل وميكائيل من عطف الخاص على العام لزيادة شرفهما ، ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله : { عَدُوٌّ لِّلْكَافِرينَ } ولم يقل : لهم ، تسجيلاً عليهم بالكفر ، وبيان أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر ، عصمنا الله من موارد الردى ، آمين .
الإشارة : إذا كانت معاداة الملائكة والرسل هي معاداة الله ، فكذلك معاداةُ أوليائه هي معاداة الله أيضاً ، ولذلك قال تعالى : " مَنْ عَادَى لِي وَليّاً فقد آذنني بالحَرْب " فالبعض هو الكل ، ويؤخذ بالمفهوم أن محبة الملائكة والرسل هي محبة الله . وكذلك محبة أولياء الله هي محبة الله ، وكذلك أيضاً محبة عباد الله هي محبة الله ، ومعاداتهم معاداة الله . " الخَلقُ عِيَالُ الله ، وأحبُّ الخَلقِ إلى اللّهِ أنفعهُمْ لِعيَاله " . وكل مَن ادعى أنه يحب الله وفي قلبه عداوة لمسلم فهو كاذب ، وكل مَن ادعى أنه يعرف الله وفي قلبه إنكار على مخلوق فهو في دعواه أيضاً كاذب ، فالواجب على العبد أن يُحب جميع العباد ، من كان طائعاً فظاهر ، ومَن كان عاصياً أحب له التوبة والإنابة ، ومَن كان كافراً أحب له الإسلام والهداية ، ولا يكره من العبد إلا فعله ، ولله دَر القائل :
ارْحَمْ بُنَيَّ جَميعَ الخلقِ كُلِّهمُ ... وانْظُرْ إليْهمْ بعين الحِلمِ والشّفَقَهْ
وَقَّرْ كَبيرَهُم وارْحَمْ صغِيرَهُمْ ... وَراع في كُلّ خَلْقٍ مَنْ خَلَقَهْ
وبالله التوفيق .
(1/77)

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } يا محمد { آيَاتٍ } واضحات ، مشتملة على علوم غيبية ، وأخبار نبوية ، وشرائع محكمة ، وأنوار قدسية ، وأسرار جبروتية ، وما يجحدها ويكفر بها إلا المتمرد في الكفر والطغيان ، الخارج عن الطاعة والإيمان ، فالفسق ، إذا استعمل في نوع من المعاصي ، دلّ على أعظمه وأقبحه ، وهو هنا الكفر ، والعياذ بالله .
الإشارة : اعلم أن العبد إذا سبقت لهم من الله العناية ، ألقى الله في قلبه التصديق والهداية ، من غير أن يحتاج إلى علامة ولا آية ، بل يكشف له الحق تعالى عن سر الخصوصية وأنوارها ، فيشهد سره لصاحبها بالتقويم ، وتخضع له روحه بالتعظيم ، فتدبوا له أنوار الإيمان وتشرق عليه شموس العرفان ، من غير توقف على دليل ولا برهان ، بخلاف من سبق له الحرمان ، فلا ينجح فيه دليل ولا برهان ، والعياذ بالله من الخذلان .
ولما ذَكّر النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهود في شأن العهد الذي أخذه الله عليهم فيه ، قال مالك بن الصيف : والله ما عهد إلينا في محمد عهدٌ ولا ميثاق .
(1/78)

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
قلت : الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف تقديره : أَكفروا بالآيات وكلما عاهدوا عهداً ، و { كُلَّمَا } منصوب على الظرفية ، وهي متضمنة معنى الشرط فتفتقر للجواب ، وهو العامل فيها . والنبذ : الطرح ، لكنه يغلب فيما ينسى ، قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن اليهود والإنكار عليهم : { أَوَ كُلَّمَا } أعطوا عهداً وعقدوه على أنفسهم طرحه { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } ؟ فقد أعطوا العهد أنهم إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه ، فلما أدركوه نبذوا ذلك العهد ونسوه . وكذلك أعطوا العهد للنبيَ صلى الله عليه وسلم ألا يعاونوا المشركين عليه ، فنبذه بنو قريظة والنضير ، ولم ينقضه جميعهم بل فريق منهم ، وهم الأكثر ، ولذلك قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } ، فالأكثر هم الناقضون للعهود ، المجاوزون للحدود . والله تعالى أعلم .
الإشارة : نقض العهد مع الله أو مع عباده من علامة النفاق ، ومن شيم أهل البعاد والشقاق ، والوفاء بالعهد من علامة الإيمان ، ومن شيم أهل المحبة والعرفان . قال تعالى في صفة المفلحين : { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المؤمنون : 8 ] ، ولا سيما عهود الشيوخ؛ أهل التمكين والرسوخ ، فمن أخذ عقد الصحبة مع الشيخ الذي هو أهل للتربية؛ فيحذر مِنْ حَلّ العقدة بينه وبينه ، فإنَّ ذلك يقطع الإمداد ، ويوجب الطرد والبعاد ، والالتفات إلى غيره تسويس لبذرة الإرادة ، وموجب لقطع الزيادة والإفادة ، ثم إن الانجماع على الشيخ ، وقطع النظر والالتفات إلى غيره هو سبب للكون - كذلك - مع الله ، فبقدر الانقطاع إلى الشيخ يحصل الانقطاع إلى الله ، وبقدر ترك الاختيار وسلب الإرادة مع الشيخ يحصل كذلك مع الله ، وبقدر الوفاء بعهود شيوخ التربية يحصل الوفاء بعهود حقوق الربوبية . فمن كانت غيبته في الشيخ أقوى ، وانحياشه أليه أكثر ، وجمعه عليه أدوم ، كان كذلك مع ربه ، وكذلك التعظيم والأدب ، والله يعامل العبد على حسب ذلك .
قال الشيخ زَرُّوق رضي الله عنه : ( ولا تنتقلْ عنه ، ولو رأيت من هو أعلى منه ، فتحرمَ بركة الأول والثاني ) ، ولذلك كان المشايخ يمنعون أصحابهم من صحبة غيرهم ، بل من زيارتهم ، وأنشدوا :
خُذْ مَا تَراهُ ودَعْ شَيْئاً سَمِعتَ بِهِ ... في طلْعَةِ البدرِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ
وحاصل أمر الزيارة لغير شيخه أن فيه تفصيلاً : فمن كَمُل صدقه ، وتوفر عقله ، بحيث إذا زار لا يستنقص شيخه ، ولا الذي زاره ، جاز له أن يزور من شاء ، ومن لم يكمل صِدقُهُ وعقله ، بحيث إذا زار : إما يستنقص شيخه ، أو الشيخ الذي زاره ، فليكف عن زيارة غير شيخه . وقال محيي الدين بن العربي : ويجب على المريد أن يعتقد في شيخه أنه عالم بالله ، ناصح لخلق الله ، ولا ينبغي له أن يعتقد في شيخه العصمة . وقد قيل للجنيد : أيزني العارف؟ فقال :
(1/79)

{ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزَاب : 38 ] . وصحب تلميذ شيخاً ، فرآه يوماً قد زنا بامرأة ، فلم يتغير من خدمته ، ولا أخلّ في شيء من مرسومات شيخه ، ولا ظهر منه نقص في احترامه . وقد عرف الشيخ أنه رآه ، فقال له يوماً : يا بني قد عَرَفْتُ أنك رأيتني حين فسقتُ بتلك المرأة ، وكنت أنتظر فراقك عني من أجل ذلك : فقال له التلميذ : يا سيدي الإنسان معرض لمجاري أقدار الله عليه ، وإني من الوقت الذي دخلت فيه إلى خدمتك ما خدمتك على أنك معصوم ، وإنما خدمتك على أنك عارف بطريق الله تعالى ، عارف بكيفية السلوك عليه الذي هو طلبي ، وكونك تعصي أو لا تعصي شيء بينك وبين الله عزّ وجلّ ، لا يرجع من ذلك شيء عَلَيَّ ، فما وقع منك يا سيدي شيء لا يوجب نفاري وزوالي عنك ، وهذا هو عَقْدي ، فقال له الشيخ : وفقت وسعدت هكذا وإلا فلا . . . فربح ذلك التلميذ ، وجاء منه ما تَقَرُّ بِهِ العين من حسن الحال وعُلوِّ المقام . ه .
(1/80)

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ } يعني اليهود { رَسُولٌ مّشنْ عِندِ اللّهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة بموافقته له في بعض الأخبار { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أثوتُوا الْكِتابَ } ، وهم من كفر من أحبار يهود ، { كِتَابَ اللّهِ } : التوراة ، { وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } ، حيث لم يعملوا بما فيه من الأمر بالإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وغيروا صفته التي فيه ، وكتموها ، فكأنهم طرحوه وراء ظهورهم ، وكأنهم لا علم لهم بشيء من ذلك .
قال البيضاوي : اعلم أن الحق تعالى دل على أن حال اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب ، وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البَقَرة : 100 ] ، وفرقة جاهروا بنبذ عهودها ، وتخطي حدودها ، تمرداً وفسوقاً ، وهم المعنيون بقوله تعالى : { نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم } [ البَقَرَة : 100 ] ، وفرقة لم يجاهروا بنبذها ، ولكن نبذوا لجهلهم بها ، وهم الأكثرون ، وفرقة تمسكوا بها ظاهراً ، ونبذوها خفية ، عالمين بالحال بَغْياً وعناداً ، وهم المتجاهلون . ه . قلت : ولعلهم المنافقون منهم .
(1/81)

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قلت : { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } على حذف مضاف ، أي : على عهد ملك سليمان ، أو { عَلَى } بمعنى { في } ، وقوله : { وَمَا أُنزِل } عطفٌ على السحر ، عَطْفَ تفسير ، والفتنة في الأصل : الاختبار ، تقول : فتنت الذهب والفضة إذا أدخلتهما النار لتعلم جودتهما من رداءتهما ، وقوله : { لَمَثُوبَةٌ } جواب { لَّوْ } ، والأصل : لأثِيبوا ، ثم عَدَلَ إلى الجملة الاسمية لتدل على الثبوت .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن اليهود : ولما جاءهم كتاب من عند الله نبذوه { وَاتَّبَعُوا } ما تقرأ { الشَّيَاطِينُ } على الناس من السحر { عَلَى } عهد { مُلْكِ سُلَيْمَانَ } ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ، ويلقونها إلى الكهنة ، وهم يدونونها ويعلمونها الناس ، وفَشَا ذلك في عهد سليمان حتى قيل : إن الجن يعلم الغيب ، وإن ملك سليما إنما قام بهذا ، وأنه به سخر الجن والإنس والريح ، فجمع سليمان ما دُوِّن منه ودفنه ، فاستخرجته الشياطين بعد موته ، فردَّ الله تعالى قولهم بقوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } باستعمال السحر؛ لأنه تعظيم غير الله بالتقرب للشيطان ، والنبيّ معصوم { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ } هم الذين { كَفَرُوا } باستعماله { يُعلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } إغواء وإضلالاً ، ويعلمون { مَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ } في بلد بابل من سواد الكوفة ، وهما { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } .
كانا ملكين من أعبد الملائكة ، ولما رأت الملائكة ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام عيروهم بذلك ، وقالوا : يا ربنا هؤلاء الذين جعلهم خليفة في الأرض يعصونك؟ فقال الله تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض ، وركَّبْتُ فيكم ما ركبت ُ فيهم لارتكبتم ما ارتكبوا ، قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك . فقال الله تعالى : فاختاروا ملكين من خِياركم أُهبطهما إلى الأرض . فاختاروا هاروت وماروت ، وكانا من أعبد الملائكة ، فركّب الله تعالى فيهما الشهوة ، وأمرهما أن يحكما في الأرض بين الناس بالحق ، في الأرض بين الناس بالحق ، ونهاهما في الشرك والقتل بغير الحق ، والزنا وشرب الخمر ، فكانا يقضيان بين الناس يومهما ، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء ، فاختصمت إليهما ذات يوم امرأة يقال لها الزهرة : وكانت من أجمل النساء من أهل فارس ، فأخذت بقلبيهما ، فراوداها عن نفسها ، فأبت ثم عاودت في اليوم الثاني ، ففعلا مثل ذلك فأبت ، وقالت : إلا أن تعبدا ما أعبد ، وتصليا لهذا الصنم ، وتقتلا النفس وتشربا الخمر ، فأبيا هذه الأشياء ، وقالا : إن الله نهاهنا عنها ، فانصرفت ، ثم عادت في اليوم الثالث ، فراداها ، فعرضت عليهما ما قالت بالأمس ، فقالا : الصلاة لغير الله ذنب عظيم ، وأهونُ الثلاث شرب الخمر ، فشربا ، وانتشيا ، ووقعا بالمرأة ، فلما فرغا رآهما إنسان فخاف أن يظهر عليهما فقتلاه .
وفي رواية عن سيّدنا عليّ - كرّم الله وجهه - أنه قال : ( قالت لهما : لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء ، فقالا : باسم الله الأعظم ، فعلماها ذلك ، فتكلمت به ، وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً ) .
(1/82)

ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى سهيلاً قال : " لَعَنَ اللّهُ سُهيلاً؛ كَانَ عَشَّاراً بِاليمن ، ولَعَنَ اللّهُ الزهْرةَ ، وقال : إِنَها فتنت مَلَكَين " .
قلت : قصة هارون وماروت ذكرها المنذري في شرب الخمر ، وقال في حديثها : رواه أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق زهير بن محمد ، وقد قيل : إن الصحيح وقفه على كعب . ه . وقال ابن حجر : قصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن ، خلافاً لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه .
وتمام قصتهما : أنهما لما قارفا الذنب وجاء المساء همّا بالصعود ، فلم تطاوعهما أجنحتهما ، فعلما ما حلّ بهما ، فقصدا إدريس عليه السلام ، فأخبراه ، وسألاه الشفاعة إلى الله تعالى فشفع فيهما ، فخيّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا لانقطاعه ، فهما يعذبان في بئر ببابل ، منكسان معلقان بالسلاسل من أجر لهما ، مزرقة أعينهما ، ليس بينهما وبين الماء إلا قدر أربعة أصابع ، وهما يعذبان بالعطش . ه . فإن قلت : الملائكة معصومون فكيف يصح هذا من هاروت وماروت؟ قلنا : لما ركب الله فيهما الشهوة النسلخا من حكم المَلَكيَّة إلى حكم البشرية ابتلاء من الله تعالى لهما ، فلم يبق لهما حكم الملائكة من العصمة . { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدِ } السحر حتى ينصحاه ويقولا : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } لكم ، واختبار من الله تعالى لعباده ، ليظهر من يصبر عنه ومن لا يصبر ، وكان تعلمه في ذلك الوقت كفراً ، فيقولان له : { فَلا تَكْفُرْ } بتعلُّمه ، فكانوا يتعلمون { مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } وقدرته ، فلا تأثير لشيء إلا بإذن الله ، ويتعلمون منهما { مَا يَضُرُّهُمْ } يوم القيامة { وَلا يَنفَعُهُمْ } ، ولقد علم بنو إسرائيل أن من اشتراه واستبدله بكتاب الله والعلم بما فيه { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ } نصيب ، { وَلَبِئْسَ } ما باعوا به حظ أنفسهم من النعيم { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ، ولكن لما لم يعملوا بعلمهم كانوا كمن لا علم عنده . { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمنُوا } بالله ورسوله { وَاتَّقَوْا } الكفر والسحر ، لأثيبوا ثواباً كبيراً ، وكان ذلك خيراً لهم ما استوجبوه من العقاب { لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
الإشارة : كل من أكَبُّ على دنياه وتتبع حظوظه وهواه ، وترك العمل بما جاء من عند الله ، يصدق عليه أنه نبذ كتاب الله ، واشتغل بما سواه من حب الدنيا والرئاسة والجاه ، فالدنيا سحارة غرارة ، تسحر القلوب وتغيبها عن حضرة علام الغيوب وفي الحديث : " اتَقُوا الدُّنْيَا فإنْهَا أسْحَرُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ " ، ولا شك أنها تفرق بين الأحباب وبين العشائر والأصحاب ، ولقد علم من أخذ الدنيا ونعيمها ، وأكب عليها ما له في الآخرة من نصيب ، فبقدر ما يأخذ من نعيم الدنيا وشهواتها ينقص له من نعيم الآخرة .
(1/83)

ولبئس ما شروا به أنفسهم - حيث آثروا الحياة الدنيا على الآخرة - لو كانوا يعلمون . ولو أنهم آمنوا بالله ، واتقوا كل ما يشغل عن الله لكانوا من أولياء الله ، وتلك المثوبة - التي صاروا إليها - خير لو كان يعلمون .
قال عبد الواحد بن زيد : سمعت أن جارية مجنونة في خراب الأُبُلَّةِ تنطق بالحِكَم ، فطلبتها حتى وجدتها ، وهي محلوقة الرأس ، وعليها جبة صوف ، فلما رأتني قال : مَرحباً بك يا عبد الواحد ، ثم قالت : يا عبد الواحد ما جاء بك؟ فقلت : تعظينني ، فقالت : واعجباً لواعظ ، يوعظ ، يا عبد الواحد . . . اعلم أن العبد إذا كان في كفاية ، ومال إلى شيء من الدنيا ، سلبه الله حلاوة الزهد ، وظل حيراناً وَلِهاً ، فإن كان له عند الله نصيب عاتبه وَحْياً في سره ، فيقول له : عبدي أردت رفع قدرك عند ملائكتي ، وأجعلك دليلاً لأوليائي ، ومرشداً لأهل طاعتي ، فملت إلى عرض الدنيا وتركتني ، فأورثك ذلك الوحشة بعد الأنس ، والذل بعد العز ، والفقر بعد الغنى ، ارْجَعْ إلى ما كنت عليه أُرجع إليك ما كنت تعرفه من نفسك . ثم انصرفت عني وتركتني وبقيت حسرتها في قلبي . ه .
ولما كان المسلمون يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم : راعنا يا رسول الله وأرْعِنا سَمْعَكَ ، يَعْنُون من المراعاة والأنتظار ، وهي عند اليهود سب من الرعونة ، ففرحت اليهود ، وقالوا : كنا نسب محمداً سرّاً ، فأعلنوا له بالشتم ، فكانوا يقولون : يا محمد راعنا ويضحكون ، نهى الله تعالى المسلمين عن هذه اللفظة .
(1/84)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
قلت : يقال راعى الشيء يراعيه مراعاة : انتظره أو التفت إليه . ويقال : رَعَى إلى الشيء ، وراعاه وأرعاه : إذا أصغى إليه واستمعه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا } للرسول صلى الله عليه وسلم : { رَاعِنَا } أي : انتظرنا أو أمهل علينا لأن في ذلك ذريعة لسب اليهود ، أو قلة أدب ، وقولوا : { انظُرْنَا } أي : انتظرنا { وَلِلْكَافِرِينَ } المؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : موجع .
الإشارة : حسنُ الخطاب من تمام الآداب ، وتمام الآداب هو السبب الموصل إلى عين الصواب ، فمن لا أدب له لا تربية له ، ومن لا تربية له لا سَيْر له ، ومن لا سير له لا وصول له ، فمن لا يتربى على أيدي الرجال لا يُربى الرجال ، وقد قالوا : من أساء الأدب مع الأحباب طُرد إلى الباب ، ومن أساء الأدب في الباب طرد إلى سياسة الدواب . وقالوا أيضاً : اجعل عملك ملحاً ، وأدبك دقيقاً . وقال آخر : إن الإنسان ليبلغ بالخلق وحسن الأدب إلى عظيم الدرجات وهو قليل العمل ، ومن حرم الأدب حُرم الخيرَ كله ، ومن أُعطي الأدب فقد مُكن من مفاتيح القلوب .
قال أبو عثمان رضي الله عنه : الأدب عند الأكابر وفي مجالس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الدنيا والعقبى . وقال أبو حفص الحداد رضي الله عنه : التصوّف كله آدب ، لكل وقت أدب ، ولكل حال أدب ، ولكل مقام أدب ، فمن لازم الأدب بلغ مبلغ الرجال ، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ، مردود من حيث يرجوا الوصول . وقال ذو النون المصري رضي الله عنه : ( إذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء ) . وقيل : من لم يتأدب لوقت فوقته مقت . وقيل : من حَبَسه النسب أطلقه الادب ، ومن قل أدبه كثر شغبه . وقيل : الأدب سند الفقراء ، وزينة الأغنياء . ه . وبالله التوفيق .
(1/85)

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قلت : الود : محبة الشيء مع تمنيه و { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } بيانية كقوله : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } ، و { أَن يُنَزَّلَ } معمول يود ، و { مِّنْ خَيْرٍ } صلة ، و { مِّن رَّبكُمْ } ابتدائية .
يقول الحق جلّ جلاله : ما يتمنى { الذين كفروا من أهل الكتاب } إنزال خير عليكم { مِّن رَّبِّكُمْ } ولا المشركون حسداً منهم ، بل يتمنون أن تبقوا على ضلالتكم وذُلِّكُمْ ، { والله يختص برحمته } كالنوبة والولاية { من يشاء } من عباده . فلا يجب عليه شيء ولا يمتنع عليه ممكن ، { وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ، فَيَمُنُّ بالنبوة أو الولاية على مَن يشاء فضلاً وإحساناً .
الإشارة : في الآية تنبيهان : أحدهما : أن من كان يحسد أهل الخصوصية وينكر عليهم ، فيه نزعة يهودية ، وخصلة من خصال المشركين ، والثاني : أن حسد أهل الخصوصية والإنكار عليهم أمر شائع وسنة ماضية ، فليوطن المريد نفسه على ذلك : وليعلم انه ما يقال له إلا ما قيل لمن قبله ، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزَاب : 62 ] ، وما من نعمة إلا وعليها حسود .
وقال حاتم الطائي :
ومِنْ حَسَدٍ يَجُورُ عَلَيَّ قَومي ... وأيُّ الدهر ذُو لَمْ يَحْسُدُوني
وبالله التوفيق .
(1/86)

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
قلت : النسخ في اللغة يطلق على معنيين؛ أحدهما : التغيير والتحويل ، يقال : مسخه الله قرداً ونسخه . قال الفراء : ومنه نسخ الكتاب ، والثاني : بمعنى رفع الشيء وإبطاله . يقال : نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ ، أي : ذهبت به وأبطلته ، وهو المراد هنا .
والإنساء هو الترك والإذهاب ، والنساء هو التأخر . و { مَا } شريكة منصوبة بشرطها مفعولاً به . و { نَأْتِ } جوابها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على اليهود حيث قالوا : انظروا إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ، فأجاب الله عنهم بقوله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي : نزيل لفظها أو حكمها أو هما معاً ، { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } في الخفة أو في الثواب ، { أَوْ نُنسِهَا } من قلب النبيّ - عليه الصلاة والسلام - بإذن الله ، أو نتركها غير منسوخة ، أو نؤخر إنزالها أو نسخها . باعتبار القراءات ، { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلَهَا أَلَمْ تَعْلَمْ } يا محمد { أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ } لا يعجزه نسخ ولا غيره { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ } يتصرف فيهما كيف يشاء ، لا راد لما قضى ولا مُعقِّب لما حكم به وأمضى ، ينسخ من شرائع أحكامه ما يشاء ، يثبت فيها ما شاء ، بحسب مصالح العباد ، وما تقضيه الرأفة والوداد .
وهو جائز عقلاً وشرعاً ، فكما نسخت شريعتهم ما قبلها نسخها ما بعدها ، فمن تحكم على الله ، أو رد على أصفياء الله ممن اطصفاهم لرسالته ، فليس له { مِّن دُونِ اللّه مِن وَلِيٍّ } يمنع من عذاب الله ، { وَلا نَصِيرٍ } ينصره من غضب الله .
والنسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي دون الأخبار ، لأنه يكون كذباً ، ومعنى النسخ : انتهاء العمل بذلك الحكم ، ونقل العباد من حكم إلى حكم لمصلحة ، فلا يلزم عليه البَدَاءُ كما قالت اليهود ، والنسخ عندنا على ثلاثة أقسام : نسخ اللفظ والمعنى : كما كان يُقْرَأُ : " لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر " ، ثم نُسخ ، ونسخ اللفظ دون المعنى : " كالشيخ والشيخة إذا زينا فرجموهما البتة " ثم نسخ لفظه ، وبقي حكمه وهو الرجم ، ونسخ المعنى دون اللفظ : كآية السيف بعد الأمر بالمهادنة مع الكفار . الله تعالى أعلم .
الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في تفسيرها : ما نذهب من بدل إلا ونأت بخير منه أو مثله . ه . ومعناه : ما نذهب بولي إلا ونأت بخير منه أو مثله إلى يوم القيامة ، وبهذا يُرَدّ على مَن زعم أن شيخ التربية انقطع؛ فإن قدرة الله عامة ، وملك الله قائم ، والأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة حتى يأتي أمر الله .
قال في لطائف المنن : وقد سئل بعض العارفين عن أولياء المدد : أينقُضون في زمن؟ فقال : لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قطرها ، ولا أبرزت الأرض نباتها ، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم ، ولا بنقص إمدادهم ، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم مع وجود بقائهم ، ثم قال : وقد قال عليّ - كرّم الله وجهه - في مخاطبته لكميل : اللهم لا تخلو الأرض من قائم لك بحجتك ، أولئك الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، قلوبهم معلقة بالمحل الأعلى .
(1/87)

أولئك خلفاء الله في بلاده وعباده ، واشوقاه إلى رؤيتهم .
وروى الترمذي الحكيم عن ابن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمتي كالمَطَرِ لا يُدْرَى أَولهُ خيرٌ أم آخِرُه " وبالله التوفيق .
(1/88)

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
قلت : { أم } للإضراب بمعنى بل؛ وهو على قسمين : إما إضراب عن المعنى السابق ، أو لفظه فقط كما هنا ، انظر تفسير ابن عطية ، وإضافة الرسول إليهم باعتبار ما في نفس الأمر . وهو نص في إرساله إليهم كما أرسل إلى غيرهم . والضلال : التلف . و { سواء السبيل } : وسط الطريق .
يقول الحقّ جلّ جلاله : أتريدون يا معشر اليهود أن قترحوا على نبيكم الذي أرسلت إليكم ، وإلى كافة الخلق من غيركم الآيات ، وتسألوه أن يريكم المعجزات ، كما سألتم موسى من قبل فقلتم : { أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [ النِّساء : 153 ] تشغيباً وتعنتاً ، وأبيتم عن الإيمان ، واستبدلتموه بالكفر والعصيان ، { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } فقد تلف عن طريق الحق والسداد ، ومأواه جهنم وبئس المهاد .
الإشارة : لا يُشترط في الولي ظهور الكرامة ، وإنما يشترط فيه كمال الاستقامة ، ولا يشترط فيه أيضً هداية الخلق على يديه؛ إذ لم يكن ذلك للنبيّ فكيف يكون للولي؟ قال تعالى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يُونس : 99 ] وقد سَرَى في طبع العوام ما سَرَى في طبع الكفار ، قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً } [ الإسرَاء : 90 ] الآية . فكثير من العوام لا يقرون الولي حتى يروا له آية أو كرامة ، مع أن الولي كلما رسخت قدمه في المعرفة قلَّ ظهور الكرامة على يديه؛ لأن الكرامة إنما هي معونة وتأييد وزيادة إيقان . والجبل الراسي لا يحتاج إلى عماد .
والحق هو ما قاله الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ( وإنهما كرامتان جامعتان محيطتان : كرامة الإيمان بمزيد الإيقان على نعت الشهود والعيان ، وكرامة العمل على السنة والمتابعة ، ومجانبة الدعاوى والمخادعة ، فمن أُعْطِيَهُمَا ثم اشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب ، أو ذو خطأ في العلم والفهم ، كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضى والكرامة ، ثم جعل يشتاق إلى سياسة الدوام وخِلَعِ الرضا ) أو كما قال رضي الله عنه .
وقال شيخنا رضي الله عنه : ( الكرامة الحقيقية هي الأخلاق النبوية والعلوم اللدنية ) . فمن أنكر أولياء أهل زمانه وطلب منهم الدليل غير ما تقدم فقد ضلّ سواء السبيل ، وبقي مربوطاً في سجن البرهان والدليل . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/89)

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قلت : { لو } مصدريةٌ مفعول { وَدَّ } ، و { كفاراً } : مفعول ثان ، و { حسداً } : مفعول له ، علة لود ، أو حال من الواو ، و { من عند } متعلق بود ، أي : يتمنوا ذلك من عند أنفسهم وتَشهِّيهم ، أو بقوله : { حسداً } ، فالوقف على قوله : { كفاراً } ، أي : حسداً حاصلاً من تلقاء أنفسهم ، لم يستندوا فيه إلى شبهة ولا دليل ، والعفو : ترك العقوبة بالذنب . والصفح : الإعراض عن المذنب ، كأنه يولي عنه صفحة عنقه ، فهو أبلغ من العفو .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في التحذير من اليهود وغيرهم من الكفار : تمنّى الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم لو يصرفونكم عن دينكم و { يردونكم من بعد إيمانكم } بنبيكم { كفاراً } ضالين ، كما كنتم قبل الدخول فيه ، وذلك { حسداً من } تلقاء { أنفسهم } غيرة أن تكون النبوة في غيرهم ، وذلك { من بعد ما بين لهم الحق } وعرفوه كما يعرفون أبناءهم ، { فاعفوا } عن عتابهم ، وأعرضوا عن تشغيبهم { حتى يأتي الله بأمره } فيهم بالقتل والجلاء . { إن الله على كل شيء قدير } ، واشتغلوا بما كلفكم به من أداء حقوق العبودية ، والقيام بوظائف الربوبية ، كإتقان الصلاة وأداة الزكاة ، واعلموا أن الله لا يضيع من أعمالكم شيئاً ، فما تقدموا لأنفسكم ليوم فقركم تجدوه عند الله وأعظم أجراً ، إن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم .
نزلت الآية في عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان ، أتيا بيت المِدْرَاس ، فألانوا لهم الكلام ، فطمعوا في صرفهما عن دينهما ، ففضحهم الله ورد كيدهم في نحرهم ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : من جملة مَا دَبَّ إلى بعض الطوائف المتجمدين على تقليد أشياخهم : التعصب والحمية على طريق أشياخهم ، ولو ظهر الحق عند غيرهم ، وخصوصاً أولاد الصالحين منهم ، فإذا رأوا أحداً ظهرت عليه أنوار الولاية ، وأسرار الخصوصية ، تمنَّوْا أن يردوهم عن طريق الحق ، ويصرفوهم إلى مخالطة الخلق ، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فيقال لمن توجه إلى الحق : فاعفوا واصفحوا حتى يظهر الحق ، ولا تلتفتوا إلى تشغيبهم ، ولا تشتغلوا قط بعيبهم فتكونوا أقبح منهم .
قال بعض العارفين : ( لا تشتغل قط بمن يؤذيك واشتغل بالله يرده عنك ، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير ، اشتغلوا بمن يؤذيهم فطال الأذى مع الإثم . ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم ) . بل ينبغي لمن يُحْسَدُ أو يُؤْذَى أن يغيب عن الحاسد وكيده ، ويشتغل بما هو مكلف به من حقوق العبودية وشهود عظمة الربوبية ، فإن الله لا يضيع من التجأ إليه ، ولا يخيب مقصود من اعتمد عليه . وبالله التوفيق .
(1/90)

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
قلت : { وقالوا } عطف على { ود الذين كفروا } ، والضمير يعود على أهل الكتاب واليهود والنصارى ، أي : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا مَن كان نصارى ، و { هود } : جمع هائد ، كبازل وبُزْل وحائل وحُول ، و { الأماني } : جمع أمينة ، وهي ما يتمنى المرء ويشتهيه ، وأصله أمْنُوية كأضْحُوكَة وأعجوبة ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، و { هاتوا } : اسم فعل بمعنى الأمر ، ومعناه آتٍ ، وأهمل ماضيه ومضارعه ، و { أسلم } معناه : استسلم وخضع ، والخوف مما يتوقع ، والحزن على ما وَقع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقالت اليهود : { لن يدخل الجنة } إلا مَن كان يهوديّاً ، أي : على دينهم ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا مَن كان نصرانيّاً ، وهذه دعاوى باطلة ، وأماني فارغة ليس عليها بينة ، بل مجرد أمانيهم الكاذبة ، { قل } لهم يا محمد : { هاتوا برهانكم } أنكم مختصون بالجنة { إن كنتم صادقين } في هذه الأمنية ، بل يدخلها غيركم من أهل الإسلام والإحسان ، فإن { من أسلم وجهه لله } أي : انقاد بكليته إليه { وهو محسن } في أفعاله واعتقاده ، { فله أجره عند ربه } وهو دخول النعميم والنظر إلى وجهه الكريم ، { ولا خوف عليهم } من مكروه يُتوقع { ولا هم يحزنون } على فوات شيء يحتاجون إليه؛ لأنهم في ضيافة الكريم تُساق إليهم المسار وتدقع عنه المضار ، وبالله التوفيق .
الإشارة : من جملة ما دخل على بعض الفقراء أنهم يَخُصون الخصوصية بهم وبمن تبع شيخهم ، وينفونها عن غيرهم ، وهذه نزعة يهودية ، وتحكم على القدرة الإلهية فيقال لهم : تلك أمانيكم الفارعة ، بل ينالها غيركم ، فمن قصد الله صادقاً وجده ، وأنجز بالوفاء موعده ، فمن خضع لله وانقاد لأولياء الله ، فله أجره عند ربه ، وهو المعرفة به ، ولا خوف عليه من القطيعة ، ولا يحزن على فوات نصيبه من المعرفة . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/91)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
يقول الحقّ جلّ جلاله : إخباراً عن مقالات اليهود والنصارى وتقبيحاً لصنيعهم : { وقالت اليهود } في الرد على النصارى : { ليست النصارى على شيء } يعتد به ، { وقالت النصارى } في سَبِّ اليهود ، { ليست اليهود على شيء } يعتمد عليه ، والحالة أنهم { يتلون الكتاب } ، فاليهود يتلون التوراة وفيها البشارة بعيسى عليه السلام ، والنصارى يتلون الإنجيل ، وفيه تقرير شريعة التوراة وصحة نبوة موسى عليه السلام ، فقد كفرت كلُّ فرقة بكتابها غضباً وتعصباً ، ومثل مقالتهم هذه { قال الذين لا يعلمون } وهم المشركون ، فقالوا : ليس المسلمون على شيء ، { فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } فيُدْخل أهلَ الحِقّ الجنةَ وأهلَ الباطل النار ، وبالله التوفيق .
الإشارة : كل ما قصه الحق تعالى علينا من مساوئ غيرنا فالمقصود به التنفير والتحذير من مثل ما راتكبوه ، والتخلق بضد ما فعلوه ، فكل من تراه ينقص الناس ويصّرُهم فهو أصغرهم ، وكل من تراه يقول : أصحاب سيدي فلان ليسوا على شيء ، وأصحاب سيدي فلان ليس عندهم شيء ، فليس هو على شيء ، وقد ابتلي بعض المتصوفة بهذا الوصف الذميم ، ينصب الميزان على الناس ، فيسقط ثوماً ويرفع آخرين ، وهو يتلو كتاب الله ، ويسمع قوله تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً . . . } [ الحُجرَات : 12 ] الآية .
وأكثر ما تجد هذا الوصف في بعض الفقهاء المتجمدين على ظاهر الشريعة ، يعتقد ألا علم فوق علمه ، ولا فهم فوق فهمه ، كيف؟ والله تعالى يقول : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسرَاء : 85 ] ، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يُوسُفِ : 76 ] ، وقد قال إمام الحرمين : ( لإِنْ أُدْخلَ ألْفَ كَافرٍ في الإسْلامِ بِشُبْهَةٍ خَيْرٌ مِنْ إِخراجِ واحدٍ منْه بشُبْهة ) .
فالواجب على مَن أراد السلامة أن يُحسن الظن بجميع المسلمين ، ويعتقد فيهم أنهم كلهم صالحون ، ففي الحديث : " خَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهُما شَيءٌ منَ الخير : حُسْنُ الظن بالله ، وحُسْنُ الظن بِعباد الله ، وخَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهما شيءٌ مِن الشرِّ : سُوءُ الظنّ بِالله ، وسُوءُ الظنِّ بِعِبادِ اللّه " وبالله التوفيق .
ثم وبّخ الحق - تعالى - النصارى على منع الناس من بيت المقدس وإيذاء مَن يصلي فيه ، وطرح الأقذاء فيه ، مع زعمهم أنهم على الحق دون غيرهم ، قاله ابن عباس ، أو كفار قريش حيث منعوا المسلمين من الصلاة فيه ، وصدوا رسول الله عن الوصول إليه ، قاله ابن زيد ، والتحقيق : أن الحق تعالى وبخ الجميع .
(1/92)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
قلت : { مَن } مبتدأ ، و { أظلم } خبر ، و { أن يذكر } إما منصوب على إسقاط الخافض وتسلط الفعل عليه ، أي : من أن يذكر ، أو بدل اشتمال من { مساجد } ، أو مجرور بالحروف المحذوف ، قاله سيبويه . و { خائفين } حال من الواو .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا أحَد أكثرُ جُرْماً ولا أعظم ظلماً { ممن } يمنع { مساجد الله } من { أن يذكر } اسم الله فيها ، جماعة أو فرادى ، في صلاة أو غيرها ، { وسعى في خرابها } حيث عطل عمارتها ، { أولئك ما كان } ينبغي { لهم أن يدخلوها } إلا بخشية وخشوع ، فكيف يجترئون على تخريبها؟ أو ما كان الواجب أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً عن أن يمنعوهم منها ، أو { ما كان لهم } في علم الله وقضائه { أن يدخلوها إلا خائفين } ، فيكون وعداً أنجزه الله لهم ، وقد فتح الله لهم مكة والشام ، فكان لا يدخل بيت الله الحرام كافر إلا خفية ، خائفاً من القتل ، ولا يدخل نصراني بيت المقدس إلا خائفاً من المسلمين ، فنالهم { في الدنيا خزي } وهو قتل الحربي ، وضرب الجزية على الذمي ، وخزي المشركين قتلهم يوم الفتح ، وإذلالهم بدخولها عليهم عنوة ، ولمن مات على الكفر { في الآخرة عذاب عظيم } .
وهذه الآية - وإن نزلت في الكفار - فهي عامة لكل من يمنع الناس من الذكر في المساجد ، كيفما كان قياماً أو قعوداً ، جماعة أو فرادى ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : مساجدُ الله هي حضرة القلوب وحضر الأرواح وحضرة الأسرار ، فحضرة القلوب لأهل المراقبة من أهل الإيمان ، وحضرة الأرواح والأسرار لأهل المشاهدة والمكالمة من أهل الإحسان ، فمن منع نفسه من الدخول في هذه الحضرات الثلاث ، وسعى في خراب باطنه باتباع الحظوظ والشهوات ، ومال إلى الدنيا وزخارفها الغرارات ، فلا أحد أظلم منه نفساً ، ولا أبخس منه صفقةً . فلا ينجعُ في هؤلاء إلا خوف مزعج أو شوق مقلق . فإن لم يكن أحد من هذين بقي على غيّه حتى مخايل الموت . فيحن إلى الدخول فيها خائفاً ، ولا ينفع حينئذٍ الندم ، وقد زلت به القدم ، له في الدنيا ذلك الفقر والجزع ، وله في الآخرة غم الحجاب وسوء الحساب وحسرة العتاب ، نسأل الله العافية في الدارين . آمين . بمنه وكرمه .
وقال القشيري : نفْسُ العابدِ وَطَنُ العبادة ، وقلب العارف وطن المعرفة ، وروح الواجد وطن المحبة ، وسر الموحِّد وطن المشاهدة ، ولا أظلم ممن سعى في خراب وطن العابد بالشهوات ، وفي وطن المعرفة بالمُنى والعلاقات ، وفي وطن المحبة بالحطوط والمساكنات ، وفي وطن الموحد بالالتفات إلى القربات . ه . وبالله التوفيق .
(1/93)

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قلت : { أينما } شرطية ، و { تولوا } شَرْطُها ، وجملة { فثم } جوابها ، و ( وَلْي ) يستعمل بمعنى أدبر وبمعنى أقبل ، تقول : وليت عن كذا أو كذا ، والوجه هنا بمعنى الجهة ، تقول : سافرت في وجه كذا ، أي في جهة كذا . قاله ابن عطية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولله المشرق والمغرب } ، والجهات كلها له ، لا يختص ملكه بمكان دون آخر ، فإذا مُنعتم من الصلاة في المساجد ففي أي مكان كنتم ووليتم وجهكم إلى القبلة التي أمرتم بالتوجه إليها فثم جهته التي أمر بها ، أو فثم ذاته المقدسة ، أي : عالم مطلع على ما يفعل فيه ، { إن الله واسع } بإحاطته بالإشياء ، أو برحمته يريد التوسعة على عباده { عليم } بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها .
وعن ابن عمر : أنها نزلت في صلاة المسار على الراحلة حيثما توجهت به ، وقيل : في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم ، وعلى هذا : لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ ، لم يلزمه التدارك . قاله البيضاوي .
الإشارة : اعلم أن الأماكن والجهات ، وكل ما ظهر من الكائنات ، قائمة بأنوار الصفات ، ممحوة بأحدية الذات ، " كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان "؛ إذ لا وجود لشيء مع الله ، { فأينما تولوا فثم وجه الله } ، محق الآثار بإفلاك الأنوار ، وانمحت الأنوار بأحدية الأسرار ، وانفرد بالوجود الواحد القهار ، ولله درّ القائل :
مُذْ عرَفتُ الإلهَ لم أرَ غيراً ... وكذا الغيرُ عِنْدنَا مَمْنُوعُ
مُذْ تجمعتُ ما خَشِيتُ افتِرقاً ... فأنا اليومَ واصلٌ مجمُوعُ
وقال آخر :
فالكلُّ دونَ إنْ حَققتَهُ ... عَدم على التفصيلِ والإجمالِ
مَن لاَ وجُودَ لذاتهِ مِنْ ذاتِهِ ... فوجُودُهُ لولاهُ عينُ مُحَالِ
وقال صاحب العينية :
تَجلَّى حبيبي في مَرَائي جَمَالِهِ ... ففي كلِّ مرئي للحبيبِ طلائعُ
فلما تَبدَّى حُسْنه مُتَنوعاً ... تَسمَّى بأسْماءٍ فهُنَّ مَطالِعُ
وقال الششتري :
مَحْبوبي قدْ عَمَّ الوجودْ ... وقدْ ظهرَ في بيضٍ وسُودْ
قال بعض السلف : ( دخلت ديراً جاء وقت الصلاة ، فقلت لبعض النصارى : دُلني على بقعة طاهرة أصلي فيها ، فقال لي : طهر قلبك عما سواه ، وقف حيث شئت ، قال : فخَجِلت منه ) . ويحكى عن أبي يزيد رضي الله عنه أنه كان يصلي إلى جهة شاء ، ويتلو هذه الآية ، فالوجه عند أهل التحقيق هو عين الذات ، يعني أسرار الذات وأنوار الصفات . قال تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } أي : كل شيء فانٍ ومستهلك في الحال والاستقبال إلا ذاته المقدسة ، وأنشدوا :
فالعارِفُون فَنَوْا بأَن لَمْ يَشْهَدُوا ... شيئاً سِوَى المتكبر المتَعالِي
ورَأوْا سواهُ على الحقيقةِ هالكاً ... في الحالِ والماضِي والاستقْبالِ
وقلت في تائيتي الخمرية في وصف الخمرة الأزلية :
تَنَزَّهْت عن حُكْم الحُلُولِ في وَصْفِهِا ... فلَيسَ لهَا في سوى شَكْلهِ حَلَّتِ
تَجلَّتْ عَرُوساً في مَرَائِي جَمَالِها ... وأرْخَتْ سُتُورَ الكبرياءِ بِعزَّةِ
فمَا ظَهَر في الكونٍ غَيْرُ بهائها ... وما احتجبت إلا لحجب سريرة
ولما قالت اليهود : عُزَير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت المشركون : الملائكة بنات الله ، ردَّ الله تعالى عليهم .
(1/94)

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قلت : هذه الجملة معطوفة على قوله : { وقالت اليهود . . . } الخ ، ومن قرأ بغير واو جعلَها مستأنفة ، و { بديع } : بمعنى مُبدِع ، والإبداع : اختراع الشيء من غير تقدم شيء . وقوله : { كن فيكون } قَدَّره سبيويه : فهو يكون ، وقرأ ابن عامر بنصب المضارع ، ولَحَّنه بعضُهم؛ لأن المنصوبَ في جواب الأمر لا بد أن يصلح جواباً لشرطه ، تقول : اضرب زيداً فيستقيم ، أي : إن تضربه يستقيم . ولا يصلح أن تقول هنا : إن يكن يكن ، وقد يجاب بحمله على المعنى ، والتقدير : إن قلت كن يكن .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقالت اليهود والنصارى والمشركون : { اتخذ الله ولدا } تعالى الله عن قولهم ، وتنزه عن ذلك؛ لأنه يقتضي الجنسية والمشابهة والاحتياج ، والحق منزَّهٌ عن ذلك . بل كل ما استقر في السماوات السبع والأرَضين السبع ملكه وعبيده ، فكيف يكون العبد ولداً لمالكه؟ . وأيضاً كل ما ظهر في الوجود كله قانت ، أي : خاضع ومطيع لله ، وعابد له ، ومقهور تحت حكمه ومشيئته ، وذلك مُنافٍ لحال البُنوة .
وأيضاً : كل ما دخل عالم التكوين فهو مُبْدَع ومَخترَع لله ، ومصنوع من مصنوعات الله ، فلا يصح أن يكون ولداً ، وأيضاً : الولد يحتاج إلى صاحبة ومعالجة ومهلة ، والحق تعالى أمره بين الكاف والنون ، بل أسرع من لحظ العيون ، فإذا { قضى أمراً } أي : أراده ، { فإنما يقول له كن فيكون } ، لا يتوقف على لفظة { كن } ، وإنما هو كناية عن سرعة الاقتدار .
قال البيضاوي : واعلم أن السبب في هذه الضلالة أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى ، باعتبار أنه السبب الأول ، حتى قالوا : إن الأب هو الرب الأصغر ، والله تعالى هو الرب الأكبر ، ثم ظنّ الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فاعتقدوا ذلك تقليداً ، ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقاً حسماً لمادة الفساد . ه .
الإشارة : اعلم أنك إذا نظرت بعين البصيرة ، أو بحق البصيرة ، إلى الوجود بأسره ، وجدته ذاتاً واحدة ، ونسبته من الحق نسبة واحدة ، أنوار ظاهرة ، وأسرار باطنة ، حكمته ظاهرة ، وقدرته باطنة حسن ظاهر ، ومعنى باطن ، عبودية ظاهرية ، وأسرار معاني الربوبية باطنة؛ إذا لا قيام للعبودية إلا بأسرار معاني الربوبية ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [ فَاطِر : 41 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ النُّور : 35 ] ، وقال في الحكم : " الأكوان ظاهرها غرة وباطنها عبرة ، فالنفس تنظر إلى ظاهر بهجتها ، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها " . فأهل الفَرْقِ يثبتون الأشياء مستقلة مع الله ، وربما تغالى بعضهم فأشركها معه في الألوهية ، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
قال محيي الدين الحاتمي : من رأى الخلق لا فعلَ لهم فقد فاز ، ومن رآهم لا حياة لهم فقد جاز ، ومن رآهم بعين العدم فقد وصل . ه . قلت : ومن أثبتهم بالله فقد تمكن وصاله ، وأنشدوا :
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ ... فقَد تَرقَّى عن الحجابِ
إلى وُجودٍ تراهُ رتقا ... بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ
ولم تُشَاهِدْ به سواهُ ... هناك تهدي إلى الصوابِ
فَلا خِطابَ بِه إليهِ ... وَلا مُشِيرَ إلى الخطابِ
ه .
ولما قال رافع بن حريملة - من أحبار يهود - للرسول صلى الله عليه وسلم : أسمعنا كلام الله إن كنت رسوله ، أو أرنا آية تصدقك .
(1/95)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
قلت : هذه المقالة صدرت من بعض اليهود والمشركين ، قالوا ذلك تعنتاً وعناداً ، لا طلباً لليقين ، فلذلك نفى الله عنهم العلم رأساً ، والمقصود في هذه الآيات كلها توبيخ اليهود .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقال الذين } لا علم عندهم : هلا { يكلمنا الله } حتى نسمع منه أنك رسوله ، { أو تأتينا آية } ظاهرة ، نراها جهرة تدل على رسالتك ، كما كانت لموسى - عليه السلام - .
وهذه المقالة التي صدرت من اليهود ، تَعنتاً وعناداً ، قد صدرت ممن قبلهم من أسلافهم ، فقالوا : { أرنا الله جهرة } ، ومن النصارى فقالوا : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ } [ المَائدة : 112 ] ، ومن المشركين فقالوا : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً } [ الإسراء : 90 ، 91 ] الآية . فقد تماثلت قلوبهم في الكفر والعناد ، وتشابهت في العتو والفساد ، قد أوضحنا لك الآيات البينات ، تحقق رسالتك وتقرر اصطفائيتك ، لمن طلب مزيد الإيقان ، وكشف البيان على نعت العيان ، فأعظمُها القرآن ، ثم ما أوضحته من شرائع الأحكام ، وما بينته من الحلال والحرام ، ثم ما أخبرت به من الغيوب ، وما كشفته عن القلوب من الكروب ، ثم نطق الجمادات والأحجار ، كحنين الجذع وانقياد كشفته عن القلوب من الكروب ، ثم نطق الجمادات والأحجار ، كحنين الجذع وانقياد الأشجار ، وتسبيح الحصى ، وتسليم الحجر ، وقد نبع الماء من بين أصابعه وانهمر ، إلى ما لا يعد ولا يحصى .
فقد { أرسلناك بالحق } ، أي : متلبساً بالحق ومبيناً له ، { بشيرا } لمن صدقتك واتبعك بالنعيم المقيم ، و { نذيرا } لمن خالفك بعذاب الجحيم . فلا تسأل عن حالهم إذا أفضوا إليه ، فإنه أعظم من أن يذكر ، وأفظع من أن يسمع ، إذ لا يمكن تفسير حالهم ، ولا يستطيع أحد سماع أهوالهم ، فالله يعصمنا من موارد الردى ، ويوفقنا لاتباع الحق والهدى ، أو لا يسألك ربك عنهم فهو أعلم بحالهم ، وبالله التوفيق .
الإشارة : طلب الكرامات وظهور الآيات من طبع أهل الجهل والعناد ، وليس هو من شيم أهل الهداية والاسترشاد . فالطريق واضح لمن طلب السبيل ، والحق لائح لمن أبصر الدليل ، فمن كحل عين بصرته بإثمد التوحيد الخاص ، لم يقع بصره إلا على إلا على الحق ، ولا يعرف إلا إياه ، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله ، بل لا وجود لها مع الله ، ومن فتح الله سمع قلبه لم يسمع إلا من الحق ، ولا يسمع إلا به ، كما قال القائل : أنا بالله أنطق ومن الله أسمع .
وقال الجنيد رضي الله عنه : ( لي أربعون سنة أُناجي الحق ، والناس يَروْن أني أناجي الخلق ) . فالخالق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق ، مُثْبَتُونَ عند أهل الجهل والتفريق . يقولون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ، مع أنه يكلمهم في كل وقت وساعة ، كذلك قال مَن شاركهم في الجهل بالله ، مع وضوح الآيات لمن عرف الله . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
ولمَّا قالت اليهود والنصارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعل بيننا وبينك هُدْنة نتبعك بعدها ، وأضمَرُوا في نفوسهم أنهم لا يتبعونه حتى يتبع ملتهم ، فضحهم الله تعالى .
(1/96)

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
رضي الله عن> : الملّة هي الشريعة ، وهي ما شرع الله على لسان أنبيائه ورسله ، من أملت الكتاب وأمليته ، إذا قرأته . والهوى : رأى يتبع الشهوة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لرسول صلى الله عليه وسلم : { ولن ترضى عنك اليهود } وتتبع دينك أبداً ، { ولا النصارى } كذلك { حتى تتبع ملتهم } على فرض المحال ، والمقصود قطعُ رجائه من إسلامهم باختيارهم؛ لأن اتباعه ملتهم محال ، وكذلك إسلامهم . ولعله في قوم مخصوصين . ثم زاد في التنفير من اتباعهم فقال : { ولئن اتبعت أهواءهم } الباطلة فرضاً وتقديراً { بعد الذي جاءك من العلم } بالله وبأحكامه على المنهاج القويم ، { ما لك من الله من ولي } يمنعك منا ، { ولا نصير } ينصرك من غيرنا ، أي : لا ولي ولا نصير لك إلا نحن؛ حيث واليتنا ، وأحببتنا ، وأظهرت ملتنا ، فنحن لك على ما تحب وترضى .
الإشارة : التماس رضى الناس من علامة الإفلاس ، ولن يرضى عنك الناس حتى تتبع أهواءهم ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما تحققت ما هم فيه ، إنك إذاً لمن الظالمين ، فمن التمس رضى الناس وقع في سخط الله ، ومن التمس رضى الله قطع يأسه من الناس ، ولذلك قال بعضهم : كل ما سقط من عين الخلق عظم في عين الحق ، وكل ما عظم في عين الخلق سقط من عين الحق ، وقال آخر : إن الذي تكرهون مني هو الذي يشتهيه قلبي . ه .
وقال بعض الصالحين : ( لقيتُ بعض الأبدال ، فقلت له : دُلَّني على الطريق؟ فقال : لا تخالط الناس؟ فإن مخالطتهم ظلمة ، فقلت : لا بد من مخالطتهم وأنا بين أظهرهم؟ فقال : لا تعاملهم ، فإن معاملتهم خسران . قلت : لا بد من معاملتهم؟ فقال : لا تركن إليهم ، فإن في الركون إليهم هلكة ، فقالت : هذا لعله يكون؟ فقال : يا هذا ، أتخالط البطالين ، وتعامل الجاهلين ، وتركن إلى الهلكى ، وتحب أن يكون قلبك مع الله؟ هيهات . . . هذا لا يكون أبداً ، ثم غاب عني ولم أره ) .
ولما عاتب الله بني إسرائيل ووبخهم استثنى من آمن منهم .
(1/97)

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قلت : جملة { يتلونه } حال ، و { أولئك } خبر الموصول .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الذين آتيناهم الكتاب } ، كعبد الله بن سلام وأصحابه ، حالتهم { يتلونه حق تلاوته } غير محرّفين له ، ولا كاتمين ما فيه ، { أولئك } هم الذين { يؤمنون به } حقيقة ، وأما غيرهم ممن حرف وكتم صفة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر به ، { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } أي : الكاملون في الخسران ، حيث بخسوا أنفسهم من عَزِّ الدارين .
الإشارة : ما قيل في التوراة وأصحابه يقال مثله في القرآن وأهله؛ فمن آتاه الله القرآن ، وتلاه حق تلاوته ، بحيث جَوَّدَ حروفه وتَدبَّر معانيه ، وعمل بما فيه ، فأولئك هم المؤمنون به حقّاً ، والفائزن بثمار معانيه حلاوة وذوقاً ، ومن ترك التدبر في معانيه فقد حرم نفسه ثمار حلاوته ، وذلك عين الخسران عند أهل الإيقان . وبالله التوفيق .
(1/98)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قلت : جملة { لا تجزي } : نعت ليوم ، وحذف العائد ، أي : لا تجزي فيه نفس ، قال المرادي : ( إذا نعت بالجملة اسم زمان جاز حذف عائده ) ثم استدل بالآية . وهل حذف برمته أو بالتدريج؟ قولان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } بأن جعلت الأنبياء تسوسكم ، والملوك منكم يدبرون أموركم ، و { فضلتكم } على عالم زمانكم ، فاشكروا هذه النعم بالإيمان بالرسول الذي أرسلته إليكم ، وخافوا أهوال يوم القيامة ، الذي لا تغنى فيه { نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها } فداء إن أرادت الفداء ، { ولا تنفعها شفاعة } شافع ، ولا يدفع عنها أهوال ذلك اليوم ولي ولا ناصر ، إلا من اتخذ يداً عند الملك القادر ، وبالله التوفيق ، وتقدمت إشارة هذه الآية في الآية الأولى .
ولما أراد الحق تعالى أن ينسخ القبلة ويردها إلى بيت الله الحرام بعد أن كانت إلى بيت المقدس ، ذكر خصوصيةَ مَنْ بناه ، وكيفية بنائه ، وفي ضمن ذلك ذكر شرفه ليكون ذلك داعياً إلى الامتثال .
(1/99)

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قلت : { ابتلى } اختبر ، و { إبراهيم } مفعول ، وفيه أربع لغات ، إبراهام وإبراهوم وإبراهيم وبالقصر ، و { ربه } فاعل ، وقدم المفعول للاهتمام ، وقدم المفعول للاهتمام ، ولئلا يعود الضمير على بعده لفظاً ورتبة ، و { عهدي } فاعل ، و { الظالمين } مفعول .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد ، أو اذكروا يا بني إسرائيل ، حين اختبر { إبراهيمَ رَبُّه بكلمات } أن يعمل بها ، وهي : تسليم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، وطعامه للضَّيفان ، أو عشر خصال : خمس في الرأس : المضمضة ، والاستنشاق ، وقصّ الشارب ، والسواك ، وفرق الرأس : وقيل : وإعفاء اللحية ، وخمس في الجسد : تقليم الظفر ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاستنجاء بالماء ، والاختتان ، أو مناسك الحج أو الخصال التي امتحن بها وهي : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والذبح ، والأحسن أنها ثلاث : الهجرة من وطنه ، ورمي ولده بمكة ، وذبح الآخرة حين بلغ أن يسعى معه { فأتمهن } أي : وَفَّى بهن ، فلما وَفَّى بهن { قال } الله تعالى له : { إني جاعلك للناس إماماً } ، أي : قدوة بك في بك في التوحيد ، أو في الأصول والفروع ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته ، ومأمور باتباعه .
ولمّا جعله الله إماماً طلب ذلك لأولاده فقال : { ومن ذريتي } فاجعل أئمة ، { قال } الحق تعالى : { لا ينال عهدي } أي : لا يلحق عهدي بالإمامة { الظالمين } منهم ، إذ لا يصلح للإمامة إلا البررة الأتقياء ، لأنها أمانة من الله وعهد ، والظالم لا يصلح لها ، وفيه تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة لا يستحقون الإمامة ، وفيه دليل على عصمة الأنبياء قبل البعثة ، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة . قاله البيضاوي .
الإشارة : إذا أراد الله تعالى أن يجعل وليّاً من أوليائه إماماً يُقتدى به ، وداعياً يدعو إليه ، ابتلاه ، فإن صبر ورضي اصطفاه ، ولحضرته اجتباه ، فيكون إماماً يُقتدى به ، وداعياً يُهتدى به ، وهذه سنة الله تعالى في أصفيائه يبتليهم الله تعالى بتسليط الخلق عليهم وأنواع من البلايا ، فإذا نقوا من البقايا ، وتكلمت فيهم المزايا ، أظهرهم للخلق داعين إلى الله ومرشدين إلى طريق الله ، وقد تبقى الإمامة ذريتهم إن ساروا على هديهم ، ومَن لم يسلك به هذا المسلك فلا يصلح للإمامة ، وإن توجه إليها كان ناقصّا في الدعوة ، ولذلك قال بعضهم : ( من ادّعى شهود الجمال قبل تأدبه بالجلال ، فارفضه فإنه دجال ) . ه . وكل من اتصف بشيء من ظلم العباد لا ينال عهد الإمام في طريق الإرشاد ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/100)

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قلت : { المثابة } : المرجع الذي يثُوب الناس إليه كل سنة ، و { اتخذوا } : على قراءة الأمر ، محكي بقول محذوف ، أي : وقلنا اتخذوا ، وعلى قراءة الماضي : معطوف على { جعلنا } ، أي : جعلناه مثابة ، واتخذه الناس مُصلَّى .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر يا محمد { إذ جعلنا البيت } الحرام : أي : الكعبة ، مرجعاً للناس يرجعون لزيارته والطواف به كل سنة ، وجعلناه محل أمن ، كل من دخله كان آمناً من عقوبة الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإنَّ الناس يُتَخطفون من حوله ، وأهلُه آمنون ، وأمافي الآخرة فلأن الحج يَجُبُّ ما قبله ، وهذا يدل على شرف البيت وحرمته .
وقلنا لهم : { اتخذوا من مقام إبراهيم } ، وهو الحجر الذي فيه أثر قدميه ، { مصلى } تصلون إليه ، وهو الذي يصلون خلفه ركعتي الطواف ، { وعهدنا } أي : أوحينا { إلى إبراهيم وإسماعيل } ولده ، بأن قلنا لهما : { طهرا بيتي } من الأدناس والأرجاس والأصنام والأوثان ، { للطائفين } به { والعاكفين } أي : المقيمين فيه ، والمصلين فيه الراكعين الساجدين . فكان البيت مطهراً في زمانهما وبعدهما زماناً ، ثم أدخلت فيه الأصنام فطهّره نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وتبقى طهارته حتى يأتي أمر الله ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : القلب هو بيت الرب ، يقول الله تبارك وتعالى لبعض أنبيائه : { طهر لي بيتاً أسكنه ، فقال : يا رب أي بيت يسعك؟ فقال له : لن تسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن } فإذا تطهر القلب من الأغيار وملئ بالأنوار ، وتمكنت فيه المعارف والأسرار ، كان مرجعاً وملجأ للعباد ، كل مَن وصل إليه ، وطاف به ، كان آمنناً من الزيغ والعناد ، ومن خواطر السوء سوء الاعتقاد ، ومن دخله والوداد ، أَمِن من الطرْد والبعاد ، وكان عند الله من أفضل العباد . ومقام إبراهيم - عليه السلام - هو الاستغراق في عين بحر الشهود ، ورفع الهمة عن ما سوى الملك المعبود .
وهذا المقام هو الذي اتخذه العارفون كعبة لصلاة قلوبهم ، وغاية لمنتهى قصودهم .
عِبارَاتُهُم شَتَّى ، وحُسْنُكَ واحِدٌ ، ... وكُلٍّ إلى ذلك الجَمالِ يُشِيرُ
وقد عهد الله تعالى إلى أنبيائه وأصفيائه أن يطهروا قلوبهم من الأغيار ، ويرفضوا كل ما سواه من الأكدار ، لتتهيأ بذلك لطواف الواردات والأنوار ، ولعكوف المعارف والأسرار ، وتخضع لهيبتها ظواهرُ الأشباح ، وتنقاد لجمال بهجتها القلوبُ والأرواح ، وما ذلك على الله بعزيز .
(1/101)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قلت : الإشارة تعود إلى المكان ، أو البلد ، أي : اجعل هذا المكان بلداً ذا أمن ، قال بعضهم : نكَّرَ البلد هنا ، وعرَّفه في سورة إبراهيم ، لان هذا الدعاء وقع قبل أن يكون بلداً ، وفي سورة إبراهيم وقع بعد أن كان بلداً فلذلك عرَّفه ، وفيه نظر من جهة التاريخ ، وسيأتي تمامه هناك إن شاء الله .
وقوله : { مَن آمَن } : بدل من { أهله } ، بدل البعض للتخصيص ، و { مَن كفر } : معطوف على { مَن آمَن } ، على حذف المضارع ، أي : وارزق من كفر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { إذ قال إبراهيم } في دعائه لمكة لما أنزَل ابنَه بها بواد غير ذي زرع ، وتركه في يد الله تعالى : { رب اجعل هذا } المكان { بلداً آمناً } يأمن فيه كل من يأوي إليه ، { وارزق أهله من } أنواع { الثمرات } ، كالحبوب وسائر الفواكه ، { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } { قال } الحقّ جلّ جلاله : بل وأرزق أيضاً { من كفر } في الدنيا { فأمتعه } زمناً { قليلاً } ، أو تمتيعاً قليلاً ، { ثم } ألجئه { إلى عذاب النار } وبئس المرجع مصيره .
قاس إبراهيم الخليل الرزق على الإمامة ، فنبَّه سبحانه وتعالى أن الرزق رحمه دنيوية ، تعم المؤمن والكافر ، بخلاف الإمامة ، والتقدم في الدين ، فإنها سبب النعيم الأخروي ، ولا ينالها إلا أهلُ الإيمان والصلاح .
الإشارة : دعاء الأنبياء عليهم السلام ، كما يصدقُ بالحس يصدق بالمعنى ، فيشمل دعاءُ الخيل القلوبَ التي هي بلد الإيمان ، والأرواح التي هي معدن الأسرار والإحسان ، فتكون آمنة من طوارق الشيطان ، ومحفوظة من الوقوف مع رؤية الأكوان ، آمنة من الأكدار ، محفوظة من رؤية الإغيار ، فيرزقها الله من ثمرة العلوم ، ويفتح لها من مخازن الفهوم ، من آمن منهم بالشريعة الظاهرة ، وجاهد نفسه في عمل الطريقة الباطنة ، حتى أشرقت عليه أنوار الحقيقة العيانية ، وأما من كفر بطريقة الخصوص ، ووقف مع ظاهر النصوص ، فإنما يُمَتَّع بعلم الرسوم الذي حدُّ حلاوته اللسان ، ثم يلجأ إلى عذاب الحجاب ، وسوء الحساب ، ولم يُفْضِ إلى حلاوة الشهود والعيان ، التي يمتع بها الجَنَانُ حتى يُفْضي إلى نعيم الجنَان ، فيتم النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم ، منحنا الله من ذلك حظاً وافراً يمنِّه وكرمه .
(1/102)

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
قلت : { القواعد } جمع قاعدة ، وهي الأساس ، وكأنه مأخوذ من العقود بمعنى الثبات ، وأما القواعد من النساء ، فجمع قاعد ، بلا تاء ، لأنه وصف خاص بالنساء ، فلا يحتاج إلى تمييز التاء ، و { ربنا } منصوب على النداء محكي بحال محذوفة ، أي : حال كونهم قائلين ربنا . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر وقت رفع { إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } ، وبنائهما له ، بعد أن درس بالطوفان ، وكان بناء آدم عليه السلام لما أُهبط إلى الأرض بإعلام الملائكة ، كان إبراهيم عليه السلام يبني ، وإسماعيلُ يُناوله الحجارة ، فنسب البناء لهما لتعانهما ، وقيل : كانا يبنيان كُلٍّ في ناحية ، حال كونهما قَائِلَيْنِ : { ربنا تقبل منا } علمنا هذا ، { إنك أنت السميع } لدعائنا ، { العليم } بنياتنا وسرائرنا .
الإشارة : ينبغي للعبد أن يرفع قواعد إسلامه ، ويشيد دعائمه بتحقيق أركانه ، كإتقان الشهادتين بتحقيق معانيها ، وإتقان الصلاة بإتقان أركانها الظاهرة والباطنة ، وإتقان الزكاة بإخلاص أدائها ، وإتقان الصيام بتحصيل آدابه ، وإتقان الحج بتحصيل مناسكه بعد وجوبه ، ويرفع أيضاً قواعد إيمانه بتحقيق أركانه ، وهي : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، حُلْوِه ومُره ، اعتقاداً وذوقاً ، ويرفع أيضاً قواعد إحسانه ، بتحصيل مراتبه ، كتحقيق المشاهدة ، وهو أن يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يستطع فليعبده كأن الله يراه ، وإن شئت قلت : رفعُ قواعد الإسلام يكون بتحقيق التوبة والتقوى والاستقامة ، ورفع قواعد الإيمان يكون بتحقيق الإخلاص والصدق والطمأنينة ، ورفع قواعد الإحسان يكون بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة ، كما قال الساحلي - رحمه الله - .
(1/103)

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
قلت : قال ابن عباس رضي الله عنه : لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت ، دَعَوَا بهذا الدعاء ، فقال : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } أي : منقادين لأوامرك الظاهرة ولأحكامك القهرية .
واجعل { من ذريتنا أمة } أي : جماعة { مسلمة لك } ؟ عَلِمَا - بوحي أو إلهام - أنه يكون من ذريتهما من يكفر بالله ، { وأرنا } أي : عرفنا وعلمنا { مناسكنا } في الحج . والنُّسُك في الأصل : غاية العبادة ، وشاع في الحج لما فيه من المشاق والكلفة ، والبعد عن العادة . { وتب علينا } مما لا يليق بحالنا ، فسحناتُ الأبرار سيئات المقربين ، فلكل مقام ما ينقصه وإن كان كاملاً . ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في الملجس سبعين مرة . إذ ما من مقام إلا وقبله ما فيه نقص ، فإذا ترقى عنه استغفر منه { إنك أنت التواب الرحيم } أي : كثير القبول والإقبال على التائبين .
{ ربنا وابعث فيهم } أي : في الذرية { رسولاً منهم } وهو مولانا محمد صلى الله عليه وسلم قال - عليه الصلاة والسلام - : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى " ، حال كونه { يتلو عليهم } أي : يبلغهم { آياتك } الدالة على توحيدك وصدق رسالتك ، { ويعلمهم الكتاب } أي : القرآن { والحكمة } أي : الشريعة أو السنة . وقال مالك : هي الفقه في الدين والفهم فيه ، أو نور يضعه في قلب من شاء من عباده ، { ويزكيهم } أي : يطهرهم من لوث المعاصي وكدر الحس ، { إنك أنت العزيز } الغالب في حكمه وسلطانه ، { الحكيم } في صنعه وإتقانه ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : تضمن دعاؤهما عليهما السلام ثلاثة أمور يُطلب التماسها والتحقق بها من كل أحد؛ أولها : الانقياد لله في الظاهر والباطن ، بامتثال أمره والاستسلام لقهره ، حتى يسري ذلك في الأصل إلى فرعه ، وهي غاية المنّة ، قال في الحكم : " متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره ، وفي الباطن مستسلماً لقهره ، فقد أعظم منته عليك " . الثاني : معرفته الطريق ، والسلوك على جادتها ، كارتكاب مشاق الطاعات ، ومعانقة مخالفة الهوى والشهوات ، ورؤية التقصير في ذلك ، وطلب التوبة مما هنالك ، وهذه هي مناسك حج القلوب ، والطريق الموصل إلى عَرَفَةِ حَضْرَةِ الغيوب ، والثالث : الظفر بالداعي إلى الله والدال عليه ، وهو المعلم الأكبر ، صحبته تطهر من العيوب ، ورؤيته تغني القلوب ، وتدخلها إلى حضرة الغيوب ، ظاهره قائم بوظائف الحكمة ، وباطنه مشاهد لتصاريف القدرة ، وهذا هو القائم بالتربية النبوية . وبالله التوفيق .
(1/104)

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قلت : { من } : استفهامية إنكارية ، فيها معنى النفي ، مبتدأ ، و { يرغب } وما بعده خبر ، و { إلا } إبطال لنفيها الذي تضمنته ، و { مَن سَفِه } بدل من ضمير { يرغب } على المختار ، و { نفسه } مفعول { سَفِه } ؛ لتضمنه معنى جهل أو أهلك ، قاله الزجاج ، أو على التمييز؛ قاله الفراء؛ لأن الضمير فيه معنى الشيوع الذي في { مَن } فلم يكسب التعريف ، أو على إسقاط الجارّ وإيصال الفعل إليه ، كقولهم : ضرب فلان الظهر والبطن . و { إذ } معمول لاصطفيناه ، وأوصى ووصى : لغتان ، إلا أن وصى فيه معنى التكثير . وضمير { بها } يعود على كلمة { أسلمت } ، أو الملة ، و { يعقوب } معطوف على { إبراهيم } ، و { بني } محكي بحال محذوفة ، أي : قائلين يا بني ، أو مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : قال يا بني . . . الخ ، فيوقف على { بينه } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومَن } هذا الذي { يرغب عن ملة إبراهيم } الواضحة { إلا } من جهل قدر { نفسه } وبسخها حقها؟ أو إلا من خف رأيه وسفهت نفسه؟ وكيف يرغب عاقل عنها وقد اخترناه أماماً { في الدنيا } يقتدي به أهل الظاهر والباطن؟ { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } لحضرتنا ، والساكنين في جوارنا .
وإنما اخترناه لذلك لأنه حين { قال له ربه } : استسلم لحكمنا ، وانقد لأمرنا ، قال سريعاً : { أسلمت } وجهي { لرب العالمين } ، وانقدْتُ بكُلّيتي إليه . { ووصى } بهذه الكلمة أو الملة { إبراهيم } ، عند موته ، { بنيه } ، وكانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان . وكذلك حفيده { يعقوب } أوصى بهذه الكلمة بنيه . وكانوا اثني عشر ، على ما يأتي في الأسباط ، قائلين في تلك الوصية : { يا بني إن الله } اختار لكم { الدين } الحنيف الواضح المنيف ، فتمسكوا به ما عِشْتُّم ولا تموتُن { إلا وأنتم مسلمون } متمسكون به .
الإشارة : ملة أبينا إبراهيم عليه السلام هي رفع الهمة عن الخلق ، وإفراد الوجهة للملك الحق ، ورفض الوسائط والأسباب ، والتعلق بربّ الأرباب ، وفي ذلك يقول الشاعر ، وهو الششتري :
فَرَفْضُ السّويَ فَرْضٌ علينا لأنَّنا ... بملةِ محْوِ الشّركِ والشَّكِّ قدْ دِنَّا
ومِنْ ملته أيضاً : تركُ التدبير والاختيار ، والاستسلام لأحكام الواحد القهار ، فمن تمسك بهذه الخصال على التمام . ووصى بها نم لقيه من الأنام ، جعله الله في الدنيا إماماً يقتدي بأقواله ويهتدي بأنواره ، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المقربين مع النبيين والمرسلين ، وأما من رَغِبَ عن هذه الملة الحنيفة فقد خسر الدنيا والآخرة . نسأل الله الحفظ بمنّه وكرمه .
(1/105)

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
قلت : { أم } : منقطعة ، والاستفهام فيها للإنكار ، أي : ما كنتم حاضرين حين حضر يعقوب الموت ، وقال لبنيه ما قال ، فكيف تدعون اليهودية عليه ، و { إلهاً واحداً } بدل من { إله آبائك } ، وفائدته التصريح بالتوحيد ، ونفي التوهم الناشىء عن تكرير المضاف ، لتعذر العطف على المجرور ، والتأكيد ، أو نصب على الاختصاص أو الحال ، وعد إسماعيل من الآباء تغليباً ، أو لأنه كالأب؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- : " عَمُّ الرُجلِ صِنْوُ أبيه " وقال في العباس : " هذا بقية آبائي " قاله البيضاوي .
يقوله الحق جلّ جلاله : في توبيخ اليهود على زعمهم أن اليهودية كانت ملة إبراهيم ، وأن يعقوب عليه السلام أوصى بها عند موته ، فقال : هل كنتم حاضرين عند يعقوب حين حضرته الوفاة حتى أوصى بما زعمتهم؟ وإنما كانت وصيته أن قال لبنيه : { ما تعبدون من بعدي } أيْ : أيّ شيء تعبدونه؟ أراد به تقريرهم على التوحيد وأخذ ميثاقهم على الثبات عليه ، { قالوا } في جوابه : { نعبد إلهك } المتفق على وجوب وجوده وثبوت ألوهيته الذي هو { إلهك وإله آبائك } قبلك { إبراهيم } وولده { إسماعيل وإسحاق } الذي هو إلهٌ واحدٌ . ونحون منقادون لأحكامه ، مستسلمون لأمره إلى مماتنا ، فلم يوص يعقوب إلا بما سمعتم ، فانتسابكم يا معشر اليهود إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم ، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم .
فتلك { أمة } أي : جماعة { قد خلت لها ما كسبت } من الخير ، { ولكم ما كسبتم } أنتم ، { ولا تسألون عما كانوا يعملون } فلا تؤاخذون بسيئاتهم ، كما لا تثابون بحسناتهم . وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم لقريش : " لا يأتيني الناسُ بأعمَالهِم وتَأتُوني بأنْسَابِكُم " .
الإشارة : يقال لمن حصرَ الخصوصية في أسلافه ، ونفاها عن غيرهم : هل حضرتم معهم حين أوصوا بذلك؟ بل ما كانوا يوصون إلا بإخلاص العبودية ، وتوحيد الألوهية ، ومشاهدة عظمة الربوبية ، فمن حصّل هذه الخصال كانت الخصوصية معه أينما كان ، ومَن حاد عنها ومال إلى متابعة الهوى انتقلت إلى غيره ، ويقال له : إن أسلافه قد جَدُّوا ووجَدُوا ، وأنت لا تنتفع بأعمالهم في طريق الخصوصية ، { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم . . . } الآية . وبالله التوفيق .
(1/106)

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قلت : الضمير في { قالوا } لأهل الكتاب ، و { أو } للتفصيل ، أي : قالت اليهود : كونوا هوداً ، وقالت الصنارى : كونوا نصارى . و { تهتدوا } جواب الأمر ، و { ملة } منصوب بفعل محذوف ، على حذف مضاف ، أي : بل نكون أهل ملة إبراهيم ، أو نتبع او نلزم ملة إبراهيم ، و { حنيفاً } حال من المضاف إليه ، لأنه كجزئه ، أي : مائلاً عن الباطل ، إلى الحق .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقالت اليهود للمسلمين : { كونوا } معنا هوداً { تهتدوا } ؛ فإن ديننا أقدم ، وقالت النصارى لهم أيضاً ، كونوا { نصارى } معنا { تهتدوا } فإن ديننا أصوب ، { قل } لهم يا محمد : { بل } نلزم { ملة إبراهيم } الذي كان مائلاً عن الباطل متبعاً للحق ، ومشاهداً له وحده . ولم يكن من المشركين كما أشركتم بعُزير وعيسى وغيرهما ، تعالى الله عن قولكم علواً كبيراً .
الإشارة : قد سرى هذا الطبع في بعض المنتسبين ، يُرَغِّبُون الناس في طريقهم ، ويحرصون على اتباعهم والدخول معهم ، وينقصون طريق غيرهم ، وهو وصف مذموم ، بل الواجب أن ينظر الإنسان بعين البصيرة ، فمن وجده يدل على الله ويغيب عما سواه ، ينهض حاله ويدل على الله مقاله ، اتبعه وحطَّ رأسه له ، ولزم ملته وطريقه إينما كان ، وكيفما كان . ومن وجده على غير هذا الوصف ، أعرض عنه ، والتمس غيره ، وليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس ، أو الترغيب في اتباعهم ، بل هم أزهد الناس في شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس ، أو الترغيب في اتباعهم ، بل هم أزهد الناس في الناس ، من أتاهم دلّوه على الله ، ومن لقيهم نصحوه في الله ، هم على قدَم الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال له الحقّ تعالى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يُونس : 99 ] . { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] ، { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشُّعَرَاء : 3 ] فكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يدل على الله وينظر ما يفعل الله . وبالله التوفيق .
(1/107)

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
قلت : الأسباط : الأحفاد ، والسِّبطُ في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل ، والباء في { بمثل } : يحتمل أن تكون زائدة كقوله تعالى : { جَزَآءُ سَيِّئَةِ بِمِثْلِهَا } [ يونس : 27 ] ، أو { مثل } مُقْحَم ، أي : فإن آمنوا بما آمنتم به ، كقوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } [ الأحقاف : 10 ] . والشقاق : المخالفة ، كأن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر ، و { صبغة الله } : مصدر مؤكد لآمنا؛ لأن الإيمان ينصبغ في القلوب ، ويظهر أثره على الجوارح ظهور الصبغ على المصبوغ ، ويتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ للثوب . أي : آمنا وصبغنا الله به صبغة .
وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وعبَّر عنها بالصبغ للمشاكلة؛ فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم ، وبه تحق نصرانيتهم ، فردَّ الله تعالى عليهم بأن صبغة ، الله أحسن من صبغتهم وقيل : نصب على البدل من { ملة إبراهيم } ، أو على الإغراء ، أي : الزموا صبغة الله .
يقول الحق جلّ جلاله : { قولوا } يا معشر المسلمين في تحقيق إيمانكم : { آمنا بالله } أي : صدقنا بوجوده متصفاً بصفة الكمال ، منزّهاً عن النقائص ، { و } بما { أُنزل إلينا } وهو القرآن ، { و } بما { أُنزل } من الصحف { إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب } ولد إسحاق ، { والأسباط } أولاد يعقوب عليه السلام وهم : روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وربالون ويشحُرْ ، ودنية بنته ، وأمهم لَيَا ، ثم خلف على أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وَوُلد له من سرِّيَّتينِ : دان ونفتالى وجاد وآشر .
قال ابن حجر : اختلف في نبوتهم ، فقيل : كانوا أنبياء ، وقيل : لم يكن فيهم نبيّ ، وإنما المراد بأسباط قبائل من بني إسرائيل ، فقد كان فيهم من الأنبياء عدد كثير . ه . وممن صرّح بنفي نبوتهم عياض وجمهور المفسرين . انظر : المحشي الفاسي .
وقولوا : آمنا بما أنزل إلى { موسى } وهو التوراة ، { وعيسى } وهو الإنجيل ، وبما { أوتي النبيون } كلهم { من ربهم } من عرفنا منهم ومن لم نعرف ، { لا نفرق بين أحد } واحد { منهم } كما فرقت اليهود والنصارى ، فقد آمنا بالله وبجميع أنبيائه { ونحن له مسلمون } أي : منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فإن آمنوا } أي : أهل الكتاب إيماناً مثل إيمانكم ، { فقد اهتدوا } إلى الحق والصواب ، وإن أعرضوا عن ذلك فاتركهم حتى نأمرك فيهم ، { فإنما هم في شقاق } وخلاف لك ، فلا تهتم بشأنهم ، { فسيكفيكهم الله } أي سيكفيك شرهم وينصرك عليهم ، { وهو السميع } لدعائكم ، { العليم } بإخلاصكم ، فالزموا { صبغة الله } التي صُبغتم بها ، هي الإيمان بما ذكرت لكم؛ فإنه لا أحسن صبغة من صبغة الله ، { و } قولوا : { نحن له عابدون } .
الإشارة : كما أوجب الله تعالى الإيمان بجميع الرسل في طريق العموم ، كذلك أوجب الله التصديق بكل من ثبتت ولايته في طريق الخصوص ، فمن فرق بينهم فقد كفر بطريقهم ، ومن كفر بطريقهم طُرد عن بابهم ، ومن طرد عن بابهم طرد عن باب الله ، لأن إسقاطه من الولاية إيذاء له ، ومن آذى ولياً فقد آذن الله بالحرب ، فالواجب ، على مَن أراد أن يرد مناهلهم ، أن يصدق بجميعهم ، ويعظم من انتسب إليهم ، حتى تتصبغ في قلبه حلاوة الإيمان ، وتشرق عليه شموس العرفان ، فمن فعل هذا فقد اهتدى إلى الحق والصواب ، واستحق الدخول مع الأحباب ، ومن أعرض عن هذا فإنما هو في شقاق ، وربما يخاف عليه من شؤم الكفر والنفاق ، فسيكفي الله أولياءه سوءَ شره ، والله غالب على أمره .
(1/108)

قال القشيري : فللقلوب صبغة ، وللأرواح صبغة ، وللسرائر صبغة ، وللظواهر صبغة ، فصبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق ، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق . ه . وقال الورتجبي : صبغة الله : صفته الخاصة التي خلق آدم عليها ، وأورثت ذلك في أرواح ذريته من الأنبياء والأولياء . ثم قال : وسقاها من شراب الزلفة ، وألهمها خصائص علوم الربوبية ، فاستنارت بنور المعرفة ، وخاضت في بحر الربوبية ، وخرجت منها تجليات أسرار الوحدانية ، وتكوّنت بصبغ الصفات . ه . وبالله التوفيق .
(1/109)

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
قلت : الذي يظهر أن { أم } منقطعة ، بمعنى بل ، على قراءة الخطاب والغيبة؛ لأن المقصود إنكار وقوع الأمرين معاً ، لا أحدهما .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد لأهل الكتاب : أتخاصموننا { في الله } وتقولون : أنتم أولى به منا { وهو ربنا وربكم } ، لا يختص به واحد دون آخر ، { ولنا أعمالنا } نتقرب بها إليه ، { ولكم أعمالكم } تتقربون بها أيضاً ، فكيف تختصون به دوننا { ونحن له مخلصون } في أعمالنا وقلوبنا دونكم فإنكم؛ أشركتم به غيره ، فإن قلتم : إن الإنبياء كلهم منكم وعلى ملتكم فقد كذبتم ، أتقولون { إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب } وأولاده { الأسباط كانوا هوداً } على دينكم يا معشر اليهود ، { أو نصارى } على ملتكم يا معشر النصارى .
{ قل } لهم يا محمد : { أأنتم أعلم أم الله } وقد نفى الأمرين معاً عن إبراهيم فقال : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِمَاً } [ آل عِمران : 67 ] ، وقال : { وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } [ آل عِمرَان : 65 ] ، وهؤلاء المعطوفون عليه : أتباعه في الدين ، فليسوا يهوداً ولا نصارى ، فكيف تدعون أنهم كلهم منكم ، وعلى دينكم ، وأنتم تشهدون أنهم لم يكونوا على دينكم؟ { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } ، وهي شهادة الحق لإبراهيم بالحنيفية ، والبراءة من اليهودية والنصرانية ، أي : لا أحد أظلم منه ، وليس الله تعالى { بغافل عما تعملون } ، بل يجازيكم على النقير والقطمير ، فإن اعتمدتم على نسبكم إليهم فقد اغتررتم .
{ تلك أمة } قد مضت ، { لها ما كسبت } لا ينتفع به غيرها ، { ولكم ما كسبتم } لا ينفعكم غيره ، ولا تسألون عن عملهم كما لا يسألون عن أعمالكم ، قال البيضاوي : كرره للمبالغة في التحذير ، والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء ، والاتكال عليهم ، وقيل : الخطاب فيما سبق لهم ، وفي هذه الآية لنا ، تحذيراً عن الاقتداء بهم ، وقيل : المراد بالأمة في الأولى الأنبياء ، وفي الثانية أسلاف اليهود والنصارى . ه .
الإشارة : كل من أقامه الحقّ في وجهه ، ووجهه إليها ، فهو عامل لله فيها ، قائم بمراد الله منها ، وما اختلفت الأعمال إلى من جهة المقاصد ، وما تفاوت الناس إلى من جهة الإخلاص . فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد ، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص . فمن كان أكثر إخلاصاً لله كان أولى من غيره بالله ، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء ، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم كلهم عاملون لله ، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله ، فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب ، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور ، يقال له : { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } .
ولمّا أراد الله تعالى أن ينسخ القبلة من جهة الشام ويردها إلى الكعبة ، أخبر أنه سيكرها قومٌ خَفَّتْ أحلامُهم ، وفسدت بالتقليد الردي عقولُهم ، وهم أحبار اليهود والمنافقون والمشركون .
(1/110)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { سيقول السفهاء من الناس } الذين لا عقل لهم ولا دين ، حين تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة : ما صرفهم { عن قبلتهم التي كانوا عليها } ، فلو دام عليها لاتبعناه . { قل } لهم يا محمد : { لله المشرق والمغرب } لا يختص ملكه بمكان دون مكان بخاصية ذاتيه تمنع من إقامة غيره مقامه ، بل الأماكن عند الله سواء : والخلق في حقه سواء ، { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ، ويضل مَن يشاء عن المنهاج القويم " لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ " [ الأنبيَاء : 23 ] ، والصراط المستقيم : ما ترتضيه الحكمة وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة ، والكعبة أخرى ، وفائدة تقديم الإخبار به : توطين النفس وإعداد الجواب . قاله البيضاوي .
قال بعض العارفين : ( لي أربعون سنة ما أقامني الحق في شيء فكرهته ، ولا نقلني إلى غيره فسخطته ) . بخلاف السفهاء من الجهال ، فشأنهم الإنكار عند اختلاف الأحوال ، فمن رأوه تجرد عن الأسباب وانقطع إلى الكريم الوهاب ، قالوا : ما ولاَّه عن حاله الذي كان عليه؟ وأكثروا من الاعتراض والانتقاد عليه ، وكذلك من رأوه رجع إلى الأسباب بعد الكمال ، قالوا : قد انحط عن مراتب الرجال . وهو إنما زاد في مراتب الكمال . فالملك كله لله ، يهدي مَن يشاء إلى الصراط مستقيم ، ويضلّ مَن يشاء بعدله الحكيم .
(1/111)

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً . . . } قلت : { الوسط } هو العدل الخيّر الفاضل ، وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ، ثم استعير للخصال المحمودة؛ لوقعوها بين طرفي إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، ثم أطلق على المتصف بها مستوياً فيه الواح والجمع ، والمذكر والمؤنث . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وكما جعلناكم مهتدين إلى الصراط المستقيم ، وجعلنا قبلتكم أفضل الجهات ، جعلناكم أمة أفضل الأمم ، خياراً عدولاً مزكَّين بالعلم والعمل ، لتصلحوا للشهادة على غيركم ، فتكونوا يوم القيامة { شهداء على الناس } ، ويزكيكم نبيكم فيشهد بعدالتكم .
قال البيضاوي : رُوِيَ ( أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيُطالبُهم الله ببينة التبليغ وهو أعلم بهم ، إقامة للحجة على المنكرين ، فيُؤتَى بأُمة مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم فيشهدُون ، فتقُول الأمم : مِنْ أَيْنَ عرفتُمْ؟ فيقولُون : عَلِمْنَا ذلك بإخْبَار الله في كِتَابِهِ النَّاطِقِ عَلَى لسانِ نبيه الصَّادِقِ . فيُؤتى بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيُسألُ عن حَالِ أُمته فَيشْهَدُ بعَدَالتِهمْ ) .
وهذه الشهادة ، وإن كانت لهم ، لكن لمّا كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عُدّيِ بِعَلَى ، وقُدِّمت الصلة للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم . ه .
الإشارة : التفاضل بين الرجال إنما يكون بالعلم والحال ، فمن قَويَ علْمُه بالله كان أعظم قدراً عند الله ، والعلم الذي به الشرف عند الله هو العلم بذات الله وبصفاته وأسمائه ، وكذا العلم بأحكام الله إذا حصل معه العلم بالله ، فكلما انكشف الحجاب عن القلب كان أقرب إلى الرب ، وانكشاف الحجاب يكون على قدر التخلية والتحلية ، فبقدر ما يتخلّى القلب عن الرذائل ، ويبعد عن القواطع والشواغل ، ويتحلّى بأنواع الفضائل ، ينكشف عنه الحجاب ويدخل مع الأحباب ، وبقدر ما يتراكم على القلب من الخواطر والشواغل ، ويدخل عليه من المساوئ والرذائل ، يقع البعد عن الله ، ويطرد العبد عن باب الله ، فلا يدل على كمال العبد كثرة الأعمال ، وإنما يدل على كماله علو الهمة والحال ، وعلو الهمة على قدر اليقين ، وقدر اليقين على قدر المعرفة ، والمعرفة على قدر التوجه والتصفية ، والتوجه تابع للقسمة الأزلية . وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء .
ثم إن العلماء بأحكام الله إذا لم يحصل لهم الكشف عن ذات الله يكونون حجة على عباد الله . والعلماء بالله الذين حصل لهم الكشف عن ذات الله حتى حصل لهم الشهود والعيان يكونون حجة على العلماء بأحكام الله . فكما أن الأمة المحمدية تشهد على الناس ، والرسول يشهد عليهم ويزكيهم ، فكذلك العلماء يشهدون على الناس ، والأولياء يشهدون على العلماء ، فيزكون من يستحق التزكية ، ويردون مَن لا يستحقها؛ لأن العارفين بالله عالمون بمقامات العلماء أهل الظاهر ، لا يخفى عليهم شيء من أحوالهم ومقاماتهم ، بخلاف العلماء ، لا يعرفون مقامات الأولياء ، ولا يشمون لها رائحة ، كما قال القائل :
(1/112)

تركنا البُحُورَ الزاخِراتِ ورَاءنَا ... فَمِنْ أينَ يَدْرِي الناسُ أينَ توجَّهْنَا
قال القشيري : ( جعل هذه الأمة خيار الأمم ، وجعل هذه الطائفة خيار هذه الأمة فهم خيار الخيار . وكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم في القيامة؛ فهذه الطائفة هم المدار وهم القطب وبهم يحفظ الله جميع الأمة . وكل مَن قبلته قلوبهم فهو المقبول ، ومن ردَّته قلوبهم فهو المردود . فالحكم الصادق لفراستهم ، والصحيح حكمهم ، والصائب نظرهم ، عصم جميع الأمة من الاجتماع على الخطأ ، وعصم هذه الطائفة من الخطأ في النظر والحكم والقبول والرد ، ثم إن بناء أمرهم مستند إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكل مَن لا يكون له اقتداء بالرسول فهو عندهم مردود ، وصاحبه كلا شيء ) . وبالله التوفيق .
ثم ذكر الحق تعالى حكمة نسخ القبلة ، فقال :
{ . . . وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( 143 ) } قلت : { جعل } تصييرية ، و { القبلة } مفعول أول ، و { التي } صفة للمفعول الثاني المحذوف ، أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كانت عليها وهي بيت المقدس ، ثم وجهناك إلى الكعبة إلا لنعلم الثابت على الإيمان من غيره ، أو : وما صيّرنا القبلة الجهة التي كنت عليها بمكة وهي الكعبة ، فإنه كان - عليه الصلاة والسلام - يصلي إليها بمكة .
وقيل : كان يستقبل بيت المقدس ويجعل الكعبة بينه وبينها ، كما قال ابن عباس ، و { إن } مخففة ، واللام فارقة . أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن : كانت التحويلة لشاقة على الناس ، والرأفة : شدة العطف ، فهي أبلغ من الرحمة . والله تعالى أعلم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وما نسخنا حكم القبلة وجعلناها الجهة التي كنت عليها بمكة دون التي كانت بالمدينة ، وهي بيت المقدس ، { إلا لنعلم } علم ظهور وشهادة { من يتبع الرسول } في التحويل إليها { ممن ينقلب على عقبيه } لضعف إيمانه وقلة إيقانه ، فإن التحويلة عن القبلة الأولى والرجوع إلى الثانية شاق على النفوس ، إلا من سبقت له الهداية وحفت به الرعاية ، فإنه يدور مع مراد الله أينما دار ، ويتبع رسوله أينما سار . ومن مات قبل التحويل إلى الكعبة فإن الله لا يضيع أجر عمله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي : صلاتكم إلى بيت المقدس؛ { إن الله بالناس لروؤف رحيم } .
الإشارة : الخروج عن العادات وترك الأمور المألوفات كلاهما شاق على النفوس ، إلا على الذين هدى الله ، ولذلك كان خرق الوائد هو الفصل بين الخصوص والعموم ، ومفتاح لمخازن العلوم والفهوم ، فمن لم يخرق عوائد نفسه فلا يطمع أن يدخل حضرة قدسه .
(1/113)

" كيف يخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد " . وهو الميدان الذي تحقق به سير السائرين . " لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين " . وهو عند شيوخ التربية ميزان يتميز به من يتبع الرسول ويلزم طريقه إلى الوصول ، ممن ينقلب على عقبيه ، فمن رأوه خرق عوائد نفسه ، زهد في ملبسه وجنسه ، تحققوا بدخوله حضرة قدسه ، إلا مَن سبق له الحرمان والعياذ بالله من الخذلان ، ومن رأوه وقف مع العادات ، وركن إلى المألوفات ، ومال إلى الرُّخَص والتأويلات ، علموا أن مقامه مقام أهل الحجاب ، يأخذ أجره من وراء الباب ، ولا نصيب له في الدخول مع الأحباب .
وأيضاً عند تخالف الآثار وتنقلات الأطوار ، يظهر الإقرار من الإنكار . أهلُ الإقرار عارفون في كل حال ، يدورون مع رياح الأقدار حيث سارت ، ويسيرون معها حيث سارت ، وأهل الإنكار جاهلون بالله في كل حال ، معترضون عليها عند اختلاف الأحوال ، نعوذ بالله من الضلال .
(1/114)

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قلت : التقلب : التردد ، وولَّيْت كذا : جعلته والياً له ، والشَّطْر هنا : الجهة .
يقول الحقّ جلّ جلاله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - حين تمنى أن يُحَول إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأدْعى إلى إسلام العرب ، وهي أقدم القبلتين ، فكان ينظر إلى السماء ، ويقلب وجه فيها انتظاراً لنزول الوحْي ، وهذا من كمال أدبه - عليه الصلاة والسلام - حيث انتظر ولم يطلب ، فقال له الحق تعالى : { قد نرى } أي : ربما نرى تردد { وجهك في السماء } انتظاراً للوحي ، فلنعطينك ما تمنيت ، ونوجهك إلى قبلة { ترضاها } وتحبها لمقاصد دينية وافقت المشيئة ، واقتضتها الحكمة ، { فولِّ وجهك } أي : اجعله موالياً { شطر } أي : جهة { المسجد الحرام وحيثما كنتم } أيها المؤمنون أي في أي مكان كنتم { فولوا وجوهكم شطره } جهته .
وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد ، أي : جهته ، دون عين الكعبة ، لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حَرجٌ عليه ، بخلاف القريب ، فإنه يسهل عليه مسامته العين . وقيل : إن جبريل - عليه السلام - عيّنها له بالوحي فسميت قبلة وحْي .
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ، ثم وُجِّه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين ، وقد صلّى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحوّل في الصلاة ، واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسُمي مسجد القبلتين . قاله البيضاوي .
الإشارة : في الآية إشارة إلى أن ترك التصريح من كمال الأدب ، وفي الحكم : " ربما دلّهم الأدب على ترك الطلب ، كيف يكون دعاؤك اللاحق سبباً في قضائه السابق؟! جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل " . فإذا تمنيت شيئاً وتوقفت على أمر فاصبر وتأدب واقتد بنبيك - عليه الصلاة والسلام - حتى يعطيك ما ترضى ، أو يعوضك منها مقام الرضا . وفي المسألة كلام ، والتحقيق أن ينظر إلى ما ينشرح به صدره في الوقت ، فإن انشرح للدعاء دعا ، وإن انقبض عن الدعاء سكت . والله يرزق من يشاء بغير حساب ولا علّة ولا أسباب .
وإن شئت قلت : قد نرى فكرتك أيها العارف في سماء المعاني ، غائباً في شهود الأواني ، فلنولينك قبلة ترضاها ، وتتلذذ بشهود جمالها وسناها ، وهي الحضرة المطهرة التي هي صلاة القلوب ، فولّ وجهك ووجهتك إلى تلك الحضرة ، وحيثما كانت فولّ وجهك شطره ، ودم على صلاة الفكرة والنظرة ، فهي صلاة العارفين ، ومنتهى امل القاصدين ، وبالله التوفيق .
ولمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة غضبت اليهود ، حيث ترك قبلتهم ، مكابرة وعناداً ، وقالوا : لو بقي على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبيّ المبعوث في آخر الزمان فنتبعه ، فردَّ الله عليهم وكذبهم فقال :
{ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( * ) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين }
قلت : { ولئن } اللام موطِّئة للقسم ، و { إن } شريطة ، و { أتيت } فعل اشرط ، و { ما تبعوا } جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط .
(1/115)

قال في الألفية :
واحذِف لَدَى اجتماع شرطٍ وقسمْ ... جوابَ ما أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن الذين أوتوا الكتاب } من أحبار اليهود { ليعلمون } أن التحول إلى الكعبة حق { من ربهم } لِمَا يجدون في كتابهم أنه يصلي إلى القبلتين ، وأن عادته تعالى تخصيص كل أمة بشريعة ، { وما الله بغافل عما يعملون } من التعنت والعناد ، وإنما يمهلهم ليوم المعاد ، والله لئن أتيتهم بكل حجة وبرهان على صحة التوجه إلى الكعبة { ما تبعوا قبلتك } ؛ لأنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تُزيلُها الحجة ، وإنما خالفوك مكابرة وعناداً . وقد طمعوا أن ترجع إلى قبلتهم ، ولست { بتابع قبلتهم } أبداً ، بل لهم قبلتهم؛ صخرة بيت المقدس ، وللنصارى قبلتهم؛ مطلع الشمس ، وليس بعضهم { بتابع قبلة بعض } ؛ لتصلب كل حزب بما هو فيه ، وإن كان على خطأ وفساد؛ لأن مفارقة العوائد ن صعب على النفوس إلا من سبقت له العناية .
{ ولئن اتبعت أهواءهم } الباطلة وإراءهم الزائفة فَرْضاً وتقديراً { من بعد ما جاءك من العلم } الواضح والوحي الصحيح { إنك إذاً لمن الظالمين } ، لكنك معصوم ، فلا يتصور اتباعك لهم أبداً .
{ الدين آتيناهم الكتاب } أي : اليهود { يعرفونه } أي : الرسول - عليه الصلاة والسلام - وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه أو القرآن أو التحويل ، { كما يعرفون أبناءهم } لا يشكُّون في صحة رسالته كما لايشكون في معرفة أبنائهم . وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أنا أعلَمُ بِه مِنِّي بِابني ، قال له : ولِمَ؟ قال : لأنِّي لستُ أشُكُّ في محمدٍ أنه نبيُّ الله . وأمَا ولَدِي فلعلَّ والدتَهُ قدْ خَانَتْ ) .
وبعد حصول هذه المعرفة لهم جحدوه وكتموا صفته ، إلا من عصمة الله بالإيمان كعبد الله بن سلام وأصحابه - فقد كتم فريق منهم الحق وهم أحبارهم ، وهم يعلمون أنه حق حسداً وعناداً .
هذا الذي أنت عليه يا محمد هو { الحق من رَبِّك فلا تكونن من الممترين } أي : من الشاكين في أنه الحق ، أو في كتمانهم الحق عالمين به .
(1/116)

والخطاب مصروف للسامعين لا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه غير متوقع منه ، وإنما المراد تحقيق الأمر ، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ قاله البيضاوي .
الإشارة : مما جرت به سُنة الله تعالى في خلقه أن أهل الحقيقة منكورون عند أهل الشريعة ، أو تقول : علماء الباطن منكورون عند علماء الظاهر ، يقابلونهم بالإذاية والإنكار ، مع أنه يعلمون أن الحقيقة حق من ربهم ، وأن علم الباطن حق لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إن من العلم كهيئة المكنون ، لا يعلمه إلا العماء بالله ، فإذا سمعه أهل الغرة بالله أنكروه عليهم " أو كما قال - عليه الصلاة والسلام- ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحَدٍّ ومَطْلَع " .
{ وما الله بغافل عما يعلمون } فجزاؤهم الحرمان عن لذة الشهود والعيان ، فيقال لأهل الباطل : ولئن أتيتهم بكل آية وبرهان ما تبعوا وجهتك التي توجهت إليها؛ لأنها مَنُوطة بموت النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس ، وخرق العوائد لاكتساب الفوائد ، ومفارقة الأوطان والغيبة عن الأهل والولدان ، وما أنت أيها المريد بتابع وجهتهم التي توجهوا إليها ، ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما ظهر لك من علم التحقيق : إنك إذاً لمن الظالمين لنفوسهم .
الذين آتيناهم الكتاب من علماء الشريعة يعرفون علم الحقيقة ، كما يعرفون أبناءهم ، أي : يقرون به في الجملة وينكرون وجود أهله مخصوصين ، وقد يتحققون به ويكتمون الحق حسداً ، وهم يعلمون وجود خصوصيته ، فيقال للعارف : هذا الذي أنت عليه من سلوك جادة الطريقة ، وعلم التحقيق ، هو الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أنك على الحق المبين .
(1/117)

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ . . . }
قلت : التنوين { لكل } تنوين العوض ، أي ولكل أمة قبلة ، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة ، و { وجهة } مبتدأ ، والخبر : المجرور قبله . و { هو } مبتدأ ، و { موليها } خبر مقصور ، و ( ولّى ) يتعدى إلى مفعلوين ، وهو هنا محذوف ، أي : موليها وجهه إن كان الضمير يعود على المضاف المحذوف ، وهو هنا محذوف ، أي : موليها وجهه إن كان الضمير يعود على المضاف المحذوف ، ويحتمل أن يعود على الله تعالى ، أي : الله تعالى موليها إياه ، أي : يجعلها موالية له إن استقبل جهتها .
وقرأ ابن عامر : { هو مُوَلاَّها } بالبناء للمفعول ، فالنائب ضمير يعود على { هو } ، وهو المفعول الأول ، والثاني : المضاف إليه تخفيفاً ، وأصله : مُلي إياها ، أي مصروفاً إليها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولكل فريق من المسلمين جهة من الكعبة يستقبلها ويوليها وجهه ، أينما كان وحيثما حل ، فأكثروا من الصلوات ، واستقبلوا الخيرات قبل هجوم هادم اللذات ، { أينما تكونوا } في مشارق الأرض ومغاربها ، يأتكم الممات ، ويأت بكم إلى المحشر حُفاة عراة ، ولا ينفعكم حنيئذٍ إلا صالح عمل قدمتوه ، أو فعل خير أسلفتموه ، { إن الله على كل شيء قدير } ، فلا يعجزه بعث العباد ، ولا جمعهم من أعماق الأرض وأقطار البلاد . وإذاعلمت أن لكل قوم جهة يستقبلونها ، فمن { حيث خرجت } وفي أي مكان حللت { فولّ وجهك شكر المسجد الحرام } ، والله { إنه للحق من ربك } فبادر إلى امثاله ، { وما الله بغافل عما تعملون } من خير أو شر ، فيجازي كل واحد على ما أسلف .
ثم كرّر الحق تعالى الأمر بالتوجه إلى الكعبة لعلة أخرى سيذكرها ، فقال : { ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام } وحيثما حللتم { فولّوا وجوهكم شطره } . قال البيضاوي : كرر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه تعالى ذكر للتحول ثلاث علل : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته ، وَجَرت العادة الإلهية على أن يُولِّي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها ، ودفع حجج المخالفين على ما بينه ، وقرن كل علة بمعلولها ، مع أن القبلة لها شأن ، والنسخ من مظان الفتنة والشبهة ، فبالحَرِيِّ أن يُؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى . ه .
ثم ذكر العلّة الثالثة وهي دفع الحجج المخالفين ، فقال :
{ . . . لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
قلت : الاستثناء من { الناس } أي : لئلا يكون لأحد من الناس حجة عليكم إلا المعاندين منهم ، و { لأتم } متعلق بمحذوف ، أي : ولإتمام نعمتي عليكم وإرادة اهتدائكم أمرتكم بالتحول ، أو معطوف على محذوف؛ أي : واخشوني لأحفظكم ولأتم نعمتي عليكم .
(1/118)

يقول الحقّ جلّ جلاله : وإنما أمرتكم بالتوجه إلى الكعبة دون الخصرة لتدفع حجج الناس ، فإن اليهود ربما قالوا : المنعوت في التوراة قبلته الكعبة ، وهذا يستقبل الصخرة ، أو إن محمداً يخالف ديننا ويستقبل قبلتنا . والمشركون ربما قالوا : يدعي ملّة إبراهيم ويخالف قبلته ، فأمرتكم باستقبال القبلة دفعاً لحجج الناس ، إلا المعاندين منهم فلا ينقطع شغبهم ، فإنهم يقولون : ما تحول إلى الكعبة إلا مَيلاً إلى دين قومه ، وحبّاً لبلده ، أو بَدَا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم .
فلا تخافوهم ولا تلتفتوا إلى مَطاعنهم ، فإنها لا تضركم ، { واخشوني } أكْفكم شرهم ، فإن مَن خافني خاف منه كل شيء ، ومَن لم يخشني خاف من كل شيء ، وأمرتكم أيضاً بالتوجه إلى قبلة جدكم { لأتم نعمتي عليكم } بإقرار عين نبيكم ، وإرادة اهتدائكم ، فاشروا ما أوليتكم ، واذكروا ما به أنعمت عليكم أزدكم من فضلي وإحساني ، وأسبغ عليكم إنعامي وامتناني .
الإشارة : من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم ، ووجه كل فرقة بوجهه من مصالح عباده ، أفناه فيها وولاه إياها . فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته؛ وهم العارفون ، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم في عبادته؛ وهم العباد والزهاد ، وقوم أقامهم حمل شريعته وتمهيد دينه؛ وهم العلماء العاملون ، وقم أقامهم لحفظ كتابه رسماً وتلاوة وتفهماً؛ وهم القرّاء والمفسرون ، قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحِجر : 9 ] ، وقوم أقامهم لتسكين الفتن ودفع المظالم والمحن؛ وهم الحكام ومَن يستعان بهم في تلك الوجهة ، وقوم أقامهم لحفظ نظام الحكمة؛ وهم القائمون بالأسباب الشرعية على اختلاف أنواعها وتعدد فروعها ، وقوم أعدهم لظهور حلمه وعفوه فيهم؛ وهم أهل المعاصي والذنوب ، وقم أعدم للانتقام وظهور اسمه القهار؛ وهم أنواع الكفار .
فكل وجهة من هؤلاء توجهت لحق شرعي أقامتها القدرة فيه ، وحَكم بها القضاء والقدر ، إلا أن القسمين الأخيرين لا تقررهما الشريعة . فلو حسنت المقاصد لكان الكل عُمالاً لله ، فيقال لهم : { استبقوا الخيرات } بتحسين المقاصد والنيات ، وبادروا إلى الطاعات قبل هجوم هادم اللذات ، أينما تكونوا يجمعكم للحساب ، وتُعاينوا جزاء ما أسلفتم من عذاب أو ثواب ، ومن حيث خرجت أيها العارف فولِّ جهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة ، فإنها حق وما سواها باطل ، كما قال الشاعر :
ألا كُلُّ شيء مَا خَلاَ اللّهَ باطلُ ... وكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زائلُ
وحيثما كنتم أيها العارفون فولّوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة ، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة ، فإنها صلاة القلوب ، ومفتاح ميادين الغيوب ، وفي ذلك يقول القائل :
يَا قِبْلَتِي في صَلاَتِي ... إذَا وقَفْتُ أصَلِّي
جَمَالُكم نُصْبَ عَيْنِي ... إليهِ وَجَّهْتُ كُلِّي
فإذا تحققتم بهذه الحضرة ، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة ، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس ، وتنزهتم في رياض القرب والأنس ، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب ، فلا تقدح في مشاهدة الغيوب ، فلا تخافوا غيري ، ولا تتوجه همتكم إلا لإحساني وبرَّي؛ فإني أتم عليكم نعمتي ، وأرشدكم إلى كمال معرفتي ، وأتحفكم بنصري ومعونتي .
(1/119)

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
قلت : { كما } متعلق بأتم ، أي : ولأتم نعمتي عليكم في شأن القبلة كما أتممتها عليكم بإرسال الرسول . أو باذكروني ، أي : كما ذكرناكم بالإرسال ، فاذكروني بالمقال والحال . وقدم هنا التزكية على التعليم ، باعتبار القصد؛ لأن القصد من الإرسال والتعليم هو التطهير ، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل ، لأن الإرسال والتعليم مقدم على التطهير ، وأعاد العامل في قوله : { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } إيذاناً بأنه جنس آخر شرفاً له .
يقول الحقّ جلّ جلاله يا عبادي اذكروا برّي وإحساني ، فقد أتممت عليكم نعمتي وآلائي بإسعافكم في تحويل القبلة ، كما أتممتها عليكم بأعظم النعم وأجلها ، وهو إرسال من يعلمكم { رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا } الموصلة إلى حضرتنا ، ويطهركم من المساوئ والعيوب ، { ويعلمكم الكتاب } المشتمل على علم الغيوب ودواء القلوب ، ويعلمكم { الحكمة } وهي الشريعة المطهرة والسنّة النبوية ، { ويعلمكم } علوماً غيبية لم يكن لكم بها علم ولا معرفة ، { فاذكروني } بالطاعة والإحسان { أذكركم } بالثواب ونعيم الجنان . قال صلى الله عليه وسلم : " مَن أطَاعَ الله فقدْ ذكَرَ الله ، وإنْ قَلَّتْ صَلاتُه وصيَامُهُ وتِلاوتُه القرآن . ومَنْ عَصيَ اللّهَ فَقَدْ نَسِيَ الله ، وإنْ كَثُرتْ صَلاتُهُ وصَيَامُهُ وتِلاوَتُه " .
أو فاذكروني بالجَنَانِ أذكركم بنعمة الشهود والعيان ، أو فاذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الحجب ، أو فاذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات في الجنان . قال الصِّديق رضي الله عنه : ( كفَى بالتوحيدِ عبَادةً ، وكَفَى بالجنةِ ثَواباً ) . أو فاذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة ، أو فاذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها : قال الأصمعي : ( رأيت أعرابيّاً واقفاً يوم عرفة بعرفات ، وهو يقول : إلهي عَجَّتْ لكَ الأصْواتُ بضُروب اللغات يسألونك الحَاجَات ، وحاجَتي إليكَ أنْ تَذْكُرني عندَ البلاَءِ إذا نَسِيَني أهلُ الدنيا ) .
أو : فاذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى ، أو : فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة ، يعني يحييه حياة طيبة . أو : فاذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في أفضل الملأ ، دليله الحديث : " أنا عِندَ ظنَّ بي فليُظنَّ بي مَا شاء ، وأنا معه إذا ذكَرني ، فمن ذَكَرَنيِ في نَفْسِه ذَكَرْتُه في نَفْسِي . ومن ذَكَرَنِي في مَلأ ذَكرْتُه في مَلأ خير من مَلَئِهِ . . . " الحديث .
أو : فاذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء ، أو : فاذكروني بالتسليم والرضا أذكركم بحسن التدبير ولطف القضاء ، { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطّلاَق : 3 ] أو : فاذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصال والقربة . أو : فاذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة ، أو : فاذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء ، أو : فاذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال ، إلى غير ذلك مما لا ينحصر .
واعلم أن الذكر ثلاثة أنواع : ذكر اللسان فقط وهو ذكر الغافلين ، وذكر اللسان والقلب وهو ذكر السائرين ، وذكر القلب فقط ، وهو ذكر الواصلين ، والذكر هو أفضل الأعمال كما تقتضيه الأحاديث النبوية والآيات القرآنية ، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى ، إذا كان بشيخ كامل ، واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة من تهليل وتكبير وتسبيح وحَمْدَلَةٍ وحَسْبَلَةٍ وحوقلة وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكلِّ خاصيةٌ وثمرة ، وتجتمع في ذكر المفرد ، وهو : الله ، الله .
(1/120)

فإن ثمرته الفناء في الذات ، وهي الغاية والمنتهى . انظر ابن جزي .
قال الحقّ تعالى : واشكروا لي ما أوليتكم من إحساني وبرّي بأن تنسبوها لي لا لغيري ، ولا تجحدوا إحساني فأسلبكم ما خولتكم من إنعامي .
الإشارة : كما أنعم الله على الأمة المحمدية بأن بعث فيهم رسولاً منهم يعلمهم الشرعية النبوية ، ويطهرهم من شهود الغيرية ، ويعلمهم العلوم اللدنية ، كذلك منَّ الله تعالى على عباده من هذه الأمة في كل زمان ، ببعث شيوخ التربية يطهرون الناس من العيوب ، ويدخلونهم حضرة الغيوب ، ويطلعونهم على شهود القدرة الأزلية والحكمة الإلهية ، ويعلمهم من غرائب العلوم ، ويفتح لهم مخازن الفهوم ، فَيَطَّلعون على السر المصون ، ويعلمون ما لم يكونوا يعلمون ، فيقول لهم الحقّ جلّ جلاله : اذكروني بأرواحكم وأسراركم ، أذكركم بالغيبة عن رؤية أشباحكم ، اذكروني بالفكرة والنظرة أمتعكم بدوام شهود الحضرة ، واشكروا لي آلائي وبرّي ، ولا تكفروا بالركون إلى غيري فإني أسلبكم من مزيد معوني ونصري .
ولمّا أمر عباده بالشكر أمرهم بمقام الصبر لأنه أخوه في ضده؛ إذ الشكر في النعمة والصبر في البلية .
(1/121)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
قلت : { أحياء } و { أموات } خبران عن مبتدأ مضمر ، والابتلاء هو الاختبار ، حيثما ورد في القرآن ، ومعناه في حقه تعالى : أنه يظهر في الوجود ما في علمه لتقوم الحجة على العبد ، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضاً؛ لأن الله علم ما كان وما يكون ، والصلاة هنا المغفرة والتطهير ، والرحمة : اللطف والإحسان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا } على نيل رضواني وبرِّي وإحساني { بالصبر } على مشاق الطاعات وترك المعاصي والهفوات ، وبالصلاة التي هي أم العبادات ، ومحل المناجاة ومعدن المصافاة ، فيها تشرق شوارق الأنوار ، وتتسع ميادين الأسرار ، وهي معراج أرواح المؤمنين ومناجاة رب العالمين ، فإن تجرعتم مرارة الصبر فإن { الله مع الصابرين } ، وأعظم مواطن الصبر عند مفارقة الأحباب ، وذهاب العشائر والأصحاب ، فإن كان موتهم في الجهاد فلا ينبغي لأجلهم أسف ولا نكاد؛ لأنهم { أحياء عند ربهم يرزقون } ، وكذلك من ألحق بهم من ذي هَدْم وغَرَق وحرق ونفاسٍ وطاعون ، فلا تقولوا لمن يقتل { في سبيل الله } من هؤلاء : هم { أموات } ، { بل } هم { أحياء } حياة روحانية لا بشرية ، { ولكن لا تشعرون } بحياتهم لأنهم مجرد أرواح ، وأنتم لبستم طلسم الأشباح ، فاختفى عنكم مقام الأرواح ، وكذلك أرواح المؤمنين كلهم أحياء .
وإنما خصّ الشهداء لمزيد بهجة وكرامة . وإجراء رزقهم عليهم دون غيرهم ، ففي الحديث : " أرْواحُ الشُّهَداءِ في حَواصِل طَيرٍ خضرٍ تَعَلقُ مِنْ وَرَقِ الجَنة " أي : تأكل ، وفي حديث آخر : " يَخْلُقُ اللهُ الشهداءَ جُسوماً على صُورةٍ طيرٍ خُضرٍ ، فتكونُ في حَواصِلهَا ، فَتسْرحُ بِها في الجَنة ، وتأكلُ مِنْ ثمارِها ، وتنالُ مِنْ خَيراتِها ونَعِيمها ، حتى تُحشرَ مِنها يومَ القِيامَةِ " .
ولا يدخل الجنة أحد غيرهم إلى ميقاتها إلا الصدِّيقون ، وهم العارفون ، فهم أعظم من الجميع؛ لمزيد تصرف وإدراك وسعة روح وريحان ، وتحقق شهود وعيان ، فهم في نعيم الجنان كالشهداء ، لكن الصديقين غير محصورين في حواصل الطيور ، بل لهم هياكل وصور سرحوا بها حيث شاءوا . وكذلك من فوقهم من الأنبياء والرسل ، والله تعالى أعلم .
ثم قال الحق جلّ جلاله : ولنختبركم يا معشر المسلمين { بشيء } قليل { من الخوف } لهيجان العدو وصولة الكفار ، { والجوع } لغلاء الأسعار وقلة الثمار ، { ونقص من الأموال } بموت الحيوان وتعذر التجارة أو الخسران ، { والأنفس } بالموت في الجهاد ، { والثمرات } بذهابها بالجوائح .
وعن الشافعي رضي الله عنه : ( الخوفُ خوفُ الله ، والجوعُ صومُ رمضان ، والنقصُ من الأموال بالزكوات والصدقات ، ومن الأنفسُ بالأمراض ، ومن الثمرات مَوتُ الأولاد ) .
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إذا ماتَ ولَدُ العبد قال اللّهَ للملائكةِ : أقَبَضْتُمْ ولَدَ عَبدي؟ فيقولون : نَعَم . فيقولُ اللّهُ تعالى : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم . فيقول اللّهُ تعالى : ماذا قال؟ فيقولون : حَمِدَك واستَرْجَع ، فيقول الله تعالى : ابْنُوا لعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةِ وسَمُّوه بَيْتَ الحمدِ " .
(1/122)

{ وبشر الصابرين } يا من تتأتَّى منه البشارة؛ { الذين إذا أصباتهم مصيبة } في بدن أو أهل أو مال أو صاحب { قالوا إنا لله } ملكاً وعبيداً يحكم فينا بما يريد { وإنا إليه راجعون } فيجازينا بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فتغيب مصائب الدنيا في جانبه .
وفي الحديث : " من أصابته مُصيبةٌ فقال : إنَّا لله وإنا إليه راجعُون . اللهم أجُرْنِي في مُصيبَتِي واخْلُفْ لي خَيْراً منها ، إلا أَخْلَفَ الله له خيراً مما أصابه " قالت أم سَلَمَة : فلما ماتَ زوجي أبو سَلَمَة قلتَ ذلك ، فأبدلني الله برسوله صلى الله عليه وسلم .
{ أولئك } الصابرون الراجعون إلى الله { عليهم صلوات } أي : مغفرة وتطهير { من ربهم ورحمة } أي : عطف ولطف { وأولئك هم المهتدون } لكل خير في الدنيا والآخرة .
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس؛ من ترك الحظوظ والشهوات ، والميل إلى العادات والمألوفات ، وبالصلاة الدائمة ، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب . { إن الله مع الصابرين } بالمعونة والتأييد ، وإشراق أنوار التوحيد ، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار ، وخرق العوائد وخلع العذار : إنه قد مات ، بل هو حي لا يموت ، قال الله تعالى : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } فإذا ماتت نفس المريد . واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم ، والغنى والفقر ، والموت والحياة ، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود ، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود ، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً ، فهي في الترقي أبداً سرمداً ، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار .
ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق : والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق ، وذهاب الأموال ، وضعف الأبدان بالمجاهدة ، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة؛ ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية ، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية ، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات ، والركون إلى الرخص والتأويلات ، { وبشر الصابرين } الثابتين في الطلب ، بالظفر بكل ما أمَّلُوا ، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا ، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية ، وتعلقوا بقوة الربوبية ، فرجعوا إلى الله في كل شيء ، فآواهم إليه من كل شيء ، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب ، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب .
قال ابن جزي : فائدة : وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً؛ وذلك لعظم موقعه في الدين ، قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر ، فإنه لا يحصر أجره؛ لقوله تعالى : { إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
(1/123)

[ الزمر : 10 ] . وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات .
أولها : المحبة ، قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عِمرَان : 146 ] ، والثاني : النصر ، قال : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البَقَرَة : 153 ] ، والثالث : غرفات الجنة ، قال : { يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ } [ الفرقان : 75 ] والرابع : الأجر الجزيل ، قال : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية ، فمنها البشارة قال : { وبشر الصابرين } ، والصلاة والرحمة والهداية قال : { أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } .
والصبر على أربعة أوجه : صبر على البلاء ، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع ، وصبر على النعم ، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها ، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها ، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها . وفوق الصبر التسليم ، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً ، وترك الكراهية باطناً ، وفوق التسليم الرضا بالقضاء ، وهو سرور النفس بفعل الله ، وهو صادر على المحبة ، وكل ما يفعل المحبوب . ه .
ولمّا ذكر الحقّ تعالى الكعبة ، وأمر بالتوجهة إليها ، ناسب أن يذكر الصفا والمروة؛ لقربهما منها ومشاركتهما لها في أمر الدين ، وذلك أن الصحابة تحرجوا أن يطوفوا بهما؛ لأن الصفا كان عليه صنم يقال له إِسَاف ، وعلى المروة صنم يقال له نائلة ، فخافوا أن يكون الطواف بينهما تعظيماً لهما ، فرفع الله ذلك .
(1/124)

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
قلت : { الصفا } في أصل الوضع : جمع صفاة ، وهي الصخرة الصلبة الملساء ، يقال : صفاة وصفا ، كحصاة وحصى ، وقطاع وقطا ، ونواة ونوى . وقيل : مفرد ، وتثنيته : صفوان ، وجمعه : أصفاء ، و { المروة } مَا لاَنَ من الحجارة وجمعه مرو ومروات ، كتمرة وتمر وتمرات . والمراد هنا جَبَلانِ بمكة ، و { شعائر الله } : أعلام دينه ، جمع شعيرة أو شعارة ، والشعيرة : كل ما كان معلماً لقربان يتقرب به إلى الله تعالى ، من دعاء أو صلاة أو أداء فرض أو ذبيحة .
والحج في اللغة : القصد ، والعمرة : الزيارة ، ثم غلباً شرعاً في العبادتين والمخصوصتين .
وقرأ الأخَوَان وخلف : { يَطّوعْ } بلفظ المضارع ، مجزوم اللفظ ، وهو مناسب لقوله { أن يطوف } ، أصله : يتطوع ، أُدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج ، والباقون بلفظ الماضي ، مجزوم المحل ، وهو مناسب لقوله : { فمن حج البيت } . و { الجُناح } : الإثم ، من جَنَحَ إذا مال ، كأن صاحب الإثم مال عن الحق إلى الباطل ، و { خيراً } : صفة لمصدر محذوف ، أو على إسقاط الخافض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن } الطواف بين { الصفا والمروة } من معالم دينه ومناسك حجه ، { فمن } قصد { البيت } للحج أو العمرة { فلا جناح عليه أن يطوف } بينهما ، ولا يضره الصنمان اللذان كانا عليهما في الجاهلية؛ فإن الله محا ذلك بالإسلام ، { ومن تطوع } لله بخير من حج أو عمرة أو صلاة أو غير ذلك ، { فإن الله } يشكر فعله ويجزل ثوابه . واختلف في حكمه ، فقال مالك والشافعي : ركن لا يجبر بالدم ، وقال أبو حنيفة : فرض يجبر بالدم ، وقال أحمد : سنة ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : الصفا والمروة إشارة إلى الروح الصافية والنفس اللينة الطيبة ، فالاعتناء بتطهيرهما وتصفيتهما من معالم الطريق ، وبهما يسلك إلى عين التحقيق ، فمن قصد بيت الحضرة لحج الروج بالفناء في الذات ، أو عمرة النفس بالفناء في الصفات ، فلا جناح عليه أن يطوف بهما؛ ويشرب من كأسهما ، حتى يغيب عن حسّهما ، ومن تطوّع خيراً ببذل روحه لله ، والغيبة عنها في شهود مولاه ، فإن الله يشكر فعله ، وينشر فضله ويظهر خيره ، ويتولى أمره ، والله ذو الفضل العظيم .
(1/125)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
قلت : الضمير في { فيها } : يعود على اللعنة أو النار ، وإضمارها قبل الذكر تفخيماً لشأنها ، وتهويلاً لأمرها .
يقول الحقّ جلّ جلاله في شأن أحبار اليهود حيث كتموا صفة الرسول صلى الله عليه وسلم : { إن الذين يكتمون } ما أنزلناه عليهم في كتابهم من صفة محمد - عليه الصلاة والسلام - من الآيات لاواضحات في شأنه ، وبيان صفته وبلده وشريعته ، وما يهدي إلى وجوب اتباعه ، والإيمان به ، { من بعد ما بيناه للناس } في التوراة ، { أولئك } الكاتمون { يلعنهم الله } ويطردهم عن ساحة رحمته ، { ويلعنهم } الجن والإنس ، وكل ما يتأتيى منه اللعن كالملائكة وغيرهم . { إلا الذين تابوا } من الكتمان ، وكل ما يجب أن يتاب منه ، { وأصلحوا } ما أفسدوا من الدين بالتدارك ، { وبينوا } ما كتموا { فأولئك أتوب عليهم } وأرحمهم { وأنا التّواب الرحيم } أي : المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة ، وأما من مات على الكفر ولم يتب فأولئك { عليهم لعنة الله } ، ومن يُعْتَدّ بلعنته من { الملائكة والناس أجمعين } خالدين في اللعنة أو في النار { لا يخفف عنهم العذاب } ساعة ، ولا هم يمهلون عنه ، أو لا ينتظرون للاعتذار أو الفداء .
الإشارة : ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة ، الذين ملكتهم جيفة الدنيا ، وأسرهم الهوى ، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام ، فيكتمون المشهور الواضح ، ويحكمون بشهوة أنفسهم ، فأولئك يلعنهم اللاعنون ، وفي ذلك يقول ابن المبارك - رحمه الله - :
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ ... وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا
وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا ... ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا
لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ ... يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا
وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته : ( يا معْشرَ العلماء ، ديارُكم هَامَانيَّة ، وملابِسُكُم قَارُونية ، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية ، فأين السنّةُ المحمدية؟ ) . إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد ، وبيَّن ما كتم ، فأولئك يتوب الله عليهم .
تنبيه : العلم باعتبار وجوب إظهاره وكتمه على ثلاثة أقسام :
قسم يجب إظهاره ، ومَنْ كَتَمَه دخل في وعيد الآية ، وهو علم الشريعة الظاهرة ، إذا تعيَّن على المسؤول بحيث لم يُوجَد من يُفتِي في تلك النازلة .
وقسم يجب كتمه ، وهو علم سرّ الربوبية ، أعني التوحيدَ الخاص ، فهذا لا يجوز إفشاؤه إلا لأهله ، وهو من بذل نَفْسَه وفَلْسَهُ وخَرقَ عوائد نفسه ، فهذا لا يحل كتمه عن إذا طلبه .
وقسم يُستحب كتمه ، وهو أسرار القدَر المُغَيَّبَات ، فهذا من باب الكرامات يستحب كتمها ولا يجب ، والله تعالى أعلم .
هنا انتهى العتاب لبني إسرائل والكلام معهم ، وابتداؤه من قوله تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم . . . } ، وإنما تخلَّل الكلامَ ذكرُ إبراهيم وبنيه توطئةً لنسخ القبلة الذي أنركوه ، فذكر بناء الكعبة وبيان شرفها ، وانجزَّ الكلام إلى ذكر الصفا والمروة لقرب المناسبة والجوار . فلما فرغ من عتابهم دلَّهم على التوحيد ، وشاركهم في ذلك غيرهم .
(1/126)

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
قلت : { إلهكم إله واحد } مبتدأ وخبر ، وجملة { لا إله إلا هو } : تقرير لها وتأكيد ، و { الرحمان الرحيم } : خبران آخران ، أو عن مبتدأ مضمر ، وأنث { الفلك } لأنه بمعنى السفينة ، و { من السماء } ابتدائية ، و { من ماء } بيانية ، و { بث } : عطف على { أنزل } أو { أحيا } لأن الحيوانات تنمو بنزول المطر والخصب ، والبث : النشر والتفريق و { تصريف الريح } : هبوبها من الجهات المختلفة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإلهكم } يا معشر العباد الذي يستحق أن يعبد { إله واحد } لا شريك له ، ولا نظير ، ولا ضد له ولا ند ، { لا إله إلا هو } ، إذ لا يستحق العبادة غيره ، إذ هو { الرحمن } بنعمة الإيجاد { الرحيم } بنعمة الإمداد ، فكل ما سواء مُكونٌ مخلوق ، إما مُنْعَم عليه أو نعمة ، فلم يستحق العبادة غيره .
ثم برهن على وجوده ، وثبوت وحدانيته بثمانية أمور ، فقال : { إن في خلق السماوات } طباقاً متفاصلة مرفوعة بغير عمد ، وما اشتملت عليه من الكواكب والبروج والمنازل ، وفي { الأرض } وما اشتملت عليه من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وأنواع الثمار ، وفي { اختلاف الليل والنهار } بالطول القصَر ، أو تعاقبها بالذهاب والمجيء ، { و } في { الفلك التي تجري في البحر } بقدرته مع إمكان رسوبها إلى الأسفل ، متلبسة { بما ينفع الناس } من التجارة وغيرها . وقال البيضاوي : القصد بالاستدلال بالبحر وأحواله ، وتخصيص الفلك بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه؛ ولذلك قَدَّمه على ذكر المطر والسحاب ، لأن منشأهما منه في الغالب . ه .
{ و } في { ما أنزل الله من السماء من ماء } من غير ظهور مادة سابقة ، بل تُبرزه القدرة من عالم الغيب قريب عهد بالله ، ولذلك ( كان عليه الصلاة والسلام يَتَمَطَّر ) أي : يَنْصُبُ وجهه للمطر إذا نزل تبركاً به ، { فأحيا } الحقّ تعالى بذلك المطر { الأرض بعد موتها } ويُبْسِها ، بالنبات والأزهار وأصناف النّوار والثمار ، وفيما نشر { فيها من كل دابة } من النملة إلى الفيلة ، { و } في { تصريف الرياح } وهبوبها من جهات مختلفة ، وهي الجهات الأربع وما بينها بصفات مختلفة ، مُلَقِّحَةٍ للشجر وعقيم وصرِ ، وللنصر والهلاك { و } في { السحاب المسخر } أي : المذلَّل { بين السماء والأرض } لا يسقط ولا يرتفع ، مع أن الطبع يقتضي أحدهما ، أو مسخر للرياح تُقَلِّبه في جو السماء بمشيئة الله { لآيات لقوم يعقلون } . أي : تلك المخلوقات آيات دالّة على وحدانيته تعالى وباهرٍ قدرته ، و { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] .
وفي الآية حَضٍّ على التفكر ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " ويلٌ لِمَنْ قَرأَ هَذهِ الآيةِ فَمَجَّ بِها " ، أي : لم يتفكر فيها دلالة على شرف علم التوحيد العام والخاص . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قال الجنيد : ( التوحيد معنى تضْمَحِل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ، ويكونُ الله كما لم يزل ) .
(1/127)

قلت : وهذا هو التوحيد الخاص ، أعني توحيد أهل الشهود والعيان : ثم قال : ( وأصولُه خمسة أشياء : رفعُ الحدَث ، وإثبات القدم ، وهُجْران الإخُوان ، ومفارقةُ الأوطان ، ونسيان ما عَلِم وجَهِل ) . ه . قلت : قوله : ( وهجران الإخوان ) ، يعني : غيرَ مَنْ يستعين بهم على السير ، وأما من يستعين بهم فلا يستغني عنهم .
واعلم أن توحيد خلق الله تعالى على ثلاثة درجات :
الأولى : توحيد العامة : وهو الذي يعصِمُ النفس والمال ، وينجو به من الخلود في النار ، وهو نَفْيُ الشركاء والأنداد ، والصاحبةِ والأولاد ، والأشباه والأضداد .
الثانية : توحيد الخاصة ، وهو أنْ يَرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ، ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال ، فإنَّ ذلك حاصل لكل مؤمن ، وإنما مَقامُ الخاصة يقينٌ في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل ، وثمرة هذا العلم الانقطاعُ إلى الله ، والتوكل عليه وحده ، فلا يرجوا الله ، ولا يخاف أحداً سواه ، إذ ليس يَرى فاعلاً إلا الله ، فيَطْرَحُ الأسباب ، وينبذ الأرباب .
الدرجة الثالثة : ألا يرى في الوجود إلا الله ، ولا يشهد معه سواه ، فيغيبَ عن النظر إلى الأكوان في شهود المُكَوَّن ، وهذا مقام الفناء ، فإن رُدّ إلى شهود الأثر بالله سُمي مقام البقاء . ه . قال بعضَه ابنُ جُزَيّ باختصار .
قلت : وفي التحقيق أنهما أنهما مقامان؛ مقام أهل الدليل والبرهان ، وهو المذكور في الآية ، لأنه هو الذي يطيقه جميع العباد ، ومقام أهل الشهود والعيان ، وهو خاص بالأفراد الذين بذلوا مهجهم في طلب الله ، باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله ، فعوّضهم الله في الدنيا جنة المعارف ، وزادهم في الآخرة جنة الزخارف .
( أهل الدليل والبرهان عمومٌ عند أهل الشهود والعيان ) ؛ لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحقّ تعالى عن أن يحتاج إلى دليل ، فكيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟ كيف يستدل عليه بما هو في وجوده مفتقر إليه؟ أيكون لغيره من الظهور ما ليس له؟ - متى غاب حتى يحتاج إلى دليل عليه؟ ومتى بَعُد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟ - ولله در القائل :
لقد ظهرتَ فما تَخْفَى على أحدٍ ... إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمرَا
لَكِنْ بَطَنْتَ بما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبا ... وكيفَ يُبْصَرُ مَن بالعزةِ استترَا؟
وقال آخر :
ما لِلحِجَابِ مَكَانٌ في وجُودِكُمُ ... إِلا بِسِرِّ حُروفِ ( انظُرْ إلى الجَبَلَ )
أنتُم دلَلْتُمُ عليكُم مِنكُمُ ولكُمْ ... دَيمُومَةٌ عبَّرتْ عَنْ غاَمِضِ الأزلِ
عَرَّفْتُم بكُم هذا الخبيرَ بِكُم ... أنتُمْ هُمُ يا حياةَ القلْبِ يا أمَلِي
ولما كانت المحبة تزيد وتنقص باعتبار شهود الوحدانية ، فكلما قَويَ التوحيدُ في القلب قويت المحبة؛ لانحصارها في واحد ، ذكرها بأثر التوحيد .
(1/128)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
{ وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ . . . }
قلت : ويُحتمل في وجه المناسبة ، أن يكون الحق تعالى لمّا ذكر دلائل التوحيد ذكّر من أعرض بعد وضوحها فأشرك معه ، ليرتب بعد ذلك ما أعدَّ له من العذاب ، والأنداد : جمع نِدْ وهو المِثْل ، والمراد هنا الأصنام أو الرؤساء ، والإضافة في { كحُب الله } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والحُب : ميل القلب إلى المحبوب ، وسأتي في الإشارة إن شاء الله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله } أشباهاً وأمثالاً من الأصنام والرؤساء { يحبونهم } ، وينقادون إليهم ، كما يحبون الله تعالى ، فيُسَوَّون في المحبة بين الله تعالى العلي الكبير ، وبين المصنوع الذليل الحقير ، { والذين آمنوا } بالله ووحَّدُوه { أشد حبّاً لله } ؛ لأن المؤمنين لا يلتفتون عن حبوبهم في الشدة ولا في الرخاء ، بخلاف الكفار فإنهم يعبدونهم في وقت الرخاء ، فإذا نزل البلاء التجؤوا إلى الله . قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ } [ النّحل : 53 ] الآية ، وأيضاً : المؤمنون يعبدون الله بلا واسطة ، والكفار يعبدونه بواسطة أصنامهم { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] وأيضاً المؤمنونن يعبدون ربّاً واحداً فاتحدت مبحتهم .
قال سعيد بن جبير : ( إن الله تعالى يأمر يوم القيامة مَنْ عبد الأصنام أن يدخلوا النار مع أصنامهم ، فيمتنعون لعلمهم بالخلود فيها ، ثم يقول للمؤمنين بين يدي الكفار : إن كنتم أحبائي فادخلوا ، فيقتحم المؤمنون النار ، وينادي مُنَأدٍ مِنْ تحت العرش : { والذين آمناو أشد حبّاً لله } . وفي ذلك يقول ابن الفارض :
أحِبّايَ أنتُم ، أحْسَنَ الدهرُ أَمَ أسَا ... فكونوا كَمَا شِئْتُم ، أَنا ذلك الخِلُّ
وقال أيضاً :
لَو قالَ تِيهاً : قِف عَلَى جَمْرِ الغَضَا ... لوقفتُ مُمْتثلاً ، ولَمْ أَتَوقَّفِ
وقال آخر :
ولَو عَذَّبْتَني في النارِ حتْماً ... دخلتُ مُطاوعاً وسْطَ الجَحِيمِ
إذا كَانَ الجَحِيمُ رِضَاك عَنِّي ... فَمَا ذاكَ الجَحِيمُ سِوَى نَعِيمِ
الإشارة : المحبةُ : مَيلٌ دائم بقلب هائم ، أو مراقبة الحبيب في المشهد والمغيب ، أو مواطأةُ القلب لمراد الرب ، أو خوف ترك الخدْمة مع إقامة الحُرْمة ، أو اسْتِقْلالُ الكثير من نفسك واستكثارُ القليل مِنْ حبيبك ، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة ، وقال الشِّبْلِي : ( أن تَغَار على المحبوب أن يحبه مثلك ) والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه ، ولا مشيئة له غير مشيئته ، وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : ( المحبة أخْذَةٌ من الله لقلب عبده المؤمن عن كل شيء سواه ، فترى النفس مائلة لطاعته ، والعقل متحصّناً بمعروفه ، والروح مأخوذة في حضرته ، والسر مغموراً في مشاهدته ، والعبد يستزيد من محبته فيزداد ، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته ، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة ، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيبات العلوم ، فمن أجل ذلك قالوا : أولياء الله عرائس ، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون .
(1/129)

. . ) الخ كلامه .
واعلم أن محبة العبد لمولاه سببُها شيئان :
أحدهُما : نظر العبد لإحسان الله إليه وضروب امتنانه عليه ، وجُبِلَت القلوبُ على حب من أحسن إليها ، وهذا هو المسمى بحب الهوى ، هو مكتسب ، لأن الإنسان مغمور بإحسانات الله إليه ، ومتمكن من النظر فيها ، فكلما طالَع منةً مِنْ مِنَن الله التي لا تقبل الحصر ولا العدَّ ، كان ذلك كحَبة زُرعت في أرض قلبه الطيب الزكي ، فلا يزال يطالع مِنّةً بعد منّة ، وكلُّ منّة أعظم من التي قبلها ، لأنه كلما طالع المنن تنوّر قلبه وزداد إيماناً ، وكشف من دقائق المنن ما لم يكن يُكشف له قبلُ ، وظهر له خفايا المنن ، وعظمت محبته .
الثاني : كشْف الحجب ، وإزالة الموانع عن ناظر القلب ، حتى يرى جمال الحقّ وكماله ، والجمال محبوب بالطبع ، وهذان هما اللذان قصدت رابعة العدوية - رضي الله عنها - :
أُحِبُّكَ حُبَّين : حُبَّ الهَوَى ... وحُبّاً لأنك أهلٌ لِذَاكَ
فأمَّالذي هو حُبُّ الهَوى ... فَشُغْلي بِذِكْرِك عمَّن سِوَاكَ
وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ ... فكَشْفُكِ لِلْحُجْبِ حتى أراكَ
فَلا الحمدُ في ذَا ولا ذَاك لي ... ولَكِنْ لكَ الحَمْدُ في ذَا وذاكَ
وإنما خَصَّصَتْ الحُبَّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول ، وإن كان أهلاً للجميع؛ لأن هذا منه إليه ، لا كسب للعبد فيه ، والآخر فيه كسب ، وعمل العبد معلول ، وقولها : ( فشغلي بذكر عمن سواك ) من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، والأصل : فثمرته شغلي بذكرك عمن سواك ، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا ، وقولها أيضاً ( كشفك للحجب حتى أراك ) ، من باب التعبير بالسبب عن المسبب ، والأصل ، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعينَيْ قلبي . وقولها : ( فلا الحمد . . . ) الخ ، إخبار منها بأن الحُبَّيْن معاً منه وإليه وبه في الحقيقة ، لا كسب لها في واحد منهما باعتبار الحقيقة ، بل هو الحامد والمحمود ، وإدراك التفاوت بين المقامين ، - أعْني بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان ، والناشئة عن شهود الجمال - ضروري عند كل ذائق ، وأن الثانية أقوى . قاله في شرح الشريشية .
قال ابن جُزَيّ : اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين؛ أحدهما : المحبة العامة ، التي لا يخلو منها كل مؤمن ، وهي واجبة ، والأخرى : المحبة الخاصة التي ينفرد فيها العلماء الربَّانيون ، والأولياء والأصفياء ، وهي أعلى المقامات ، وغاية المطلوبات ، فإنَّ سائر مقامات الصالحين : كالخوف والرجاء والتوكل ، وغير ذلك ، مَبْنِيَةٌ على حظوظ النفس ، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه ، والراجي إنما يرجوا منفعة نفسه ، بخلاف المحبة ، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة .
واعلم أن سببَ محبةِ الله : معرفتُه ، فتقوى المحبة على قدر المعرفة ، وتضعف على قدر ضعف المعرفة ، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا ، ولا شك أنهما اجتمعا في حق الله تعالى على غاية الكمال؛ فالموجب الأول : الحسن والجمال ، والآخر الإحسان والإجمال ، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع ، فإن الإنسان بالضرورة يجب كل ما يُستحسن ، ولا جمالَ مثلُ جمال الله تعالى ، في حكمته البالغة وصنائعه البديعة ، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار ، التي تَرُوق العقول وتبهج القلوب ، وإنما يُدْرَك جمالُه تعالى بالبصائر لا بالأبصار .
(1/130)

وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وإحسان الله إلى عباده متواتر ، وإنعامُه عليهم باطن وظاهر ، { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } [ إبراهيم : 34 ] ، ويكفيك أنه يُحسن إلى المطيع والعاصي ، وإلا المؤمن والكافر ، وكل إحسان ينبس إلى غيره فهو في الحقيقة منه وحدَه ، فهو المستحق للمحبة وحده .
واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح ، من الجد في طاعته ، والنَّشَطِ لخدمته ، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته ، والرضا بقضائه ، والشوق إلى لقائه ، والأُنْس بذكره ، والاسْتِيحَاش مِنْ غيره ، والفرار من الناس ، والانفراد في الخلوات ، وخروج الدنيا من القلب ، ومحبة كل ما يحب الله ، وكل من يحب الله ، وإيثار الله على كل ما سواه .
قال الحارث المحاسبي : ( المحبة ميلك إلى المحبوب بِكُلِّيتِكَ ، ثم إيثارك له على نفسك ورُوحك ، ثم موافقته سرّاً وجهراً ، ثم علمك بتقصيرك في حبه ) .
قلت : ظاهره أن المحبة أعلى من المعرفة ، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات؛ لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلاً ، بخلاف المحبة ، فإنها تكون بقية الحجاب ، ألا ترى أن المحب يستوحش من الخلق ، والعارف لا يستوحش من شيء لمعرفته في كل شيء .
قال في الحِكَم : " إنما استوحشَ العُبَّاد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء ، ولو عرفوا الله في كل شيء ما استوحشوا من شيء " . وأيضاً . العارف أكمل أدباً من المحب؛ لأن المعرفة إنما تحصُل بعد كمال التهذيب والتدريب ، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب ، مع أن المعرفة هي غاية المحبة ونهايتها ، والله تعالى أعلم .
ثم ذكر الحقّ وعيدَ مَنْ أشرك مع الله في عبادته أو محبته ، بعد وضوح برهان وحدانيته ، فقال :
{ . . . وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } .
قلت : { لو } شرطية ، و { ترى } شرطها ، قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع ، والباقون بالغيب وإسناده إلى الظالم ، لأنه المقصود بالوعيد والتهديد ، و { إذ } ظرف للرؤية ، وموضع { يرون } خفض بالإضافة ، قرأ ابن عامر بضم الياء ، على البناء للمفعول ، والفاعلُ الحقيقي هو الله تعالى ، بدليل { يريهم الله } ، والباقون بالفتح على البناء للفاعل ، على حد :
(1/131)

{ وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ } [ النّحل : 85 ] . و { أن القوة } معمول للجواب المحذوف ، تعظيماً لشأنه ، والتقدير : لو ترى يا محمد ، أو يا مَنْ يسمَع ، الذين ظلموا حين يرون العذاب ، أو يريهم الله العذاب ، لرأيت أمراً فظيعاً وخَطْباً جسيماً ، ولعلمت أن القوة لله جميعاً .
و { جميعاً } حال ، أي : أن القوة ثابتة في حال اجتماعها ، وقرأ أبو جعفر ويعقوب { إنَّ } بالكسر في الموضعين على الاستئناف ، و { إذ تبرأ } بدل من { إذ يرون } ، والأسباب : العهود والوُصَل التي كانت بينهم في الدنيا يتوادُّون عليها ، وأصل السبب : كل شيء يتوصل به إلى شيء ، ومنه قيل للحبل الذي يُصعد به : سبب ، وللطريق : سبب ، قال الشاعر :
ومَنْ هَابَ أَسْبابَ المَنِيِّةِ يلْقَها ... ولَوْ رَامَ أسْبَابَ السماء بسُلَّم
و { حسَرات } : حال ، إن كانت بصرية ، على مذهب أهل السنّة ، أو مفعول ثالث إن كانت عِلمية على مذهب المعتزلة القائلين بعدم تشخص الأعمال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولو ترى } يا محمد ، أو كل من يتأتى منه الرؤية ، حالَ { الذين ظلموا } باتخاذهم الأنداد والأوثان ، بعد وضوح الأدلة وسُطوع البرهان ، حيث { يرون العذاب } محيطاً بهم ، والزبانيةُ تَغْلِبُهم ، والنار تلتقطهم ، لرأيت أمراً فظيعاً ، وخطباً جسيماً ، ولعلمت { أن القوة لله جميعاً } ، أو لو يرى الذين ظلموا العذاب الذي أُعِد لهم سبب شركهم ، لرأوا أمراً عظيماً ، وليتقنوا { أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب } .
وذلك حين يتبرأ المتبعون - وهم الرؤساء - ، من الأتباع - وهم القلّة الضعفاء - والحالة أنهم { رأوا العذاب } الفظيع ، { وتقطعت بهم الأسباب } أي : أسباب المودة والوُصْلات التي كانت بينهم في الدنيا ، وصارت مودتهم عداوة ، { وقال } حينئذٍ الضعفاء { الذين اتبعوا } شياطينهم في الكفر والضلال : { لو أن لنا كَرَّة } أي : رجعة للدنيا { فنتبرأ منهم } أي : من كبرائهم { كما تبرءوا منا } اليوم . { كذلك } أي : مثل ذلك الإبراء الفظيع { يريهم الله أعمالهم حسرات } ونَدَمات { عليهم } فيدخلون النار على سبيل الخلود ، { وما هم بخارجين من النار } .
الإشارة : يا من أقبل على مولاه ، وجعل محبة سيده بُغْيته ومُناه ، فلم يُشرك في محبة حبيبه سواه ، لو رأيت من ظلم نفسه باتباع هواه ، وأشرك مع الله في محبته سواه ، باتباع حظوظ دنياه ، وذلك حين يرون ما هم فيه من الانحطاط والبعاد ، وما أعد الله لأهل المحبة والوداد من الفوز بالقرب من الحبيب ، ومشاهدة جمال القريب ، لرأيت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً ، ولعلمت أن القوة كلها لله ، قَرّبَ مَنْ شاء بفضله الأصاغر ، ويقع التفريق بين الأصحاب والعشائر ، إلا من اجتمعوا على محبة الحبيب ، وتعاونوا على طاعة القريب المجيب ، { الأَخِلآَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } [ الزّخرُف : 67 ] . لا تصحب من لا يُنْهِضُك حالهُ ، ولا يدلك على الله مقاله - فكل من صحب أهل الغفلة أو رَكَنَ إلى أهل الدنيا فلا بد أن يرى ذلك حسرات يوم القيامة ، يوم لا ينفع الندم وقد زلّ القدم . ولله دَرُّ صاحب العَيْنية رضي الله عنه حيث يقول :
وَقَاطِعْ مِمنْ واصَلْتَ أيامَ غَفْلةٍ ... فَمَا واصل العُذَّال إلا من مُقَاطعُ
وجَانِبْ جنابَ الأجنبي لَوَ أنَّهُ ... لقُربِ انتسابٍ في المَنَامُ مُضَاجعُ
فَلِلنْفًس مِنْ جُلاَّسهَا كُلُ نسبةٍ ... ومِنْ خُلَّةٍ للقلبِ تِلكَ الطَّبَائعُ
ولما حذَّر الحقّ تعالى من الشرك الجلي والخفي ، حذَّر من متابعة المشركين في التحريم والتحليل بلا حكم شرعي .
(1/132)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
قلت : { حلالاًّ } حال ، أو مفعول به ، و { طيباً } نعت له ، و { الخُطُوات } جمع خطوة ، وهي بالفتح - مصدر خطَا يَخْطُوا ، وبالضم - اسم لمسافة ما بين القدمين ، ويُكَسَّر على خطاً ، ويُصَحَّح على خطوات ، مثلث الطاء ، أعني : الضم على الإتباع ، كغرفات وقربات ، قال ابن مالك :
والسَّالمَ العَيْنِ الثُّلاثي اسْما أَنِلْ ... إتْبَاعَ عَيْنٍ فَاءَهُ بما شُكِلُ
والسكون على الأصل في المفرد ، والفتح تخفيفاً ، قال في الألفية :
وسكَّنِ التالِيَ غيرَ الفتحِ أوْ ... خفِّفْهُ بالفَتْحِ فكُلاَّ قدْ رَوَوُا
وقرئ في المواتر بالضم والإسكان ، وفي الشاذِّ بالفتح .
قال الخليل : ( خطوات الشيطان ، آثاره وطرقه ، يقول : لا تقتدوا به ) . ه . وأصل السوء : كل ما يَسُوء صاحبه ويُحزنه . والفحشاء : ما قبحُ من القول والفعل ، مصدر فحش كالبأساء والضراء واللأوَاء .
قال ابن عباس : ( الفحشاءُ : ما فيه حد ، والسوء : ما لا حَدَّ فيه ) ، وقال مقاتل : ( كل مافي القرآن من ذكر الفشحاء فإنه الزنا ، إلا قوله : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ } فإنه البخل ) [ البَقَرَة : 268 ] . قال البيضاوي : السوء والفحشاء : ما أنكره العقل واستقبحه الشرع ، والعطف لاختلاف الوصفين ، فإنه سوءٌ لاغتمام العاقل ، به ، وفحشاء باستقباحه إياه ، وقيل : السوء يعمُ القبائح ، والفحشاء ما تجاوَز الحدَّ في القبح . ه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الناس كلوا } من جميع ما خلقنا لكم في الأرض من نباتها مما يُستطاب أكله ، وحيواناتها إلا ما حرمناه عليكم ، حالة كون ذلك { حلالاً } قد انحلَّت عنه التبِعَات ، وزالت عنه الشبهات ، { طيباً } مُستلَذاً يستلِذُّه الطبع ، ويستحسنه الشرع ، { ولا تتبعوا } طرق { الشيطان } فتُحَرِّموا برأيكم ما أحلَّ الله لكم ، كالبَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحام ، وبعض الحرث الذي جعلتموه للأصنام ، فإن ذلك من تزيين الشيطان ، وهو { لكم عدو مبين } . ومن شأن العدو الخِدَاع والغرور ، فإنما يأمركم بما يَسُوء وجوهَكم من الذنوب ، وما يُرديكم من قبائح المعاصي والعيوب ، { وأن تقولوا على الله } ما لا علم لكم به من تحلِيل الحرام ، أو تحريم الحلال ، أو ادعاء الولد أو الصاحبة في جانب الكبير المتعال .
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل للبشرية قُوتاً ونعيماً تتنعم به ، وجعل للروح قوتاً ونعيماً تتلذذ به ، فقُوت البشرية الطعام والشراب ، ونعيمُها : الملابس والمَناكح والمَراكب . وقوت الروح : اليقين والعلوم والأنوار ، ونعيمها : الشهود والاستصبار والترقي في المعارف والأسرار ، فكما أن النفس تأكُل مما في الأرض حلالاً طيباً ، كذلك الروح تأكل مما في الأرض حلالاً طيباً ، إلا أن أكل النفس حِسّي ، وأكل الروح معنوي ، وهو التفكر والاعتبار ، أو الشهود والاستبصار ، وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه :
الخَلْقُ نَوَّارٌ ... وأنا رَعَيْتُ فيهمُ
هُمُ الحجابُ الأكبَرُ ... والمَدخَلُ فِيهم
وقال الششتري رضي الله عنه :
عَينُ الزِّحامِ هُوَ ... المَسِيرُ لِحَيّنَا
وكان شيخُ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه يقول : ( مَن أراد أن يذوق فليذهب إلى السوق ) .
(1/133)

وذلك لأنه مظنة الزحام ، وفيه عند الأقوياء الربح التام ، فيقال لهم : يا أيها الناس الكاملون في الإنسانية؛ كلوا مما في الأرض بأرواحكم وأسراركم ، شهوداً واعتباراً ، حلالاً طيّباً ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، فتقفوا مع ظواهر الأكوان ، فتُحجبوا عن الشهود والعيان ، فإنه لكم في صورة العدو المبين ، لكنه في الحقيقة يحشوكم إلى الرسوخ والتمكين ، لأنه كلما حرككم بنزغه فزعتم إلى ربكم في دفعه ، حتى يمكنكم من حضرته ، فإنما يأمركم بما يسوء وجوهكم ويغُم قلوبكم ، من مفارقة شهود الأحباب ، والوقوف مِنْ وراء الباب ، وأن تقولوا على الله ما ليس بحق ولا صواب ، كثبوت السَّوي ، أو الالتفات إلى الهوى . والله تعالى أعلم .
(1/134)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
قلت : الضمير في { لهم } يعود على { من يتخذ من دونه الله أنداداً } ، أو على { الناس } ، من قوله : { يا أيها الناس } ، أو على { اليهود } المتقدمين قبلُ ، وألفى : بمعنى وجد ، يتعدّى إلى مفعولين ، وهما هنا : { آباءنا } والجار والمجرور ، أي : نتبع في الدين ما وجدنا آباءنا كائنين عليه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا قيل } لهؤلاء المشركين من كفار العرب : { اتبعوا ما أنزل الله } على سوله من التوحيد ، وترك الأنداد له والأمثال ، وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، { قالوا بل نتبع } ما وجدنا { عليه آباءنا } من عبادة الأصنام ، وارتكاب المعاصي والآثام ، قال الحق جلّ جلاله : أيتبعونهم تقليداً وعَمى ، ولو كان آباؤهم جهلة { لا يعقلون شيئاً } من الدين ، ولا يتفكرون في سبيل المهتدين؟! وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهودَ إلى الإسلام ، ورغبهم فيه ، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا خيراً وأعلم منا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ه .
الإشارة : وإذا قيل لمن أكَبَّ على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، فأشرك في محبة الله سواه : أقلعْ عن حظوظك وهواك ، وأفرد الوجهه إلى مولاك ، واتبع ما أنزل الله من وجوب مخالفة الهوى ومحبة المولى ، قال : بل أتبع ما وجدتُ عليه الآباء والأجداد ، وأكبَّ عليه جلُّ العباد ، فيقال له : أتتبعهم في متابعة الهوى ، ولو كانوا لا يعقلون شياً من طرق الهدى؟ وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتى يَكُونَ هَواهُ تَبعاً لِمَا جِئتُ به " ه . .
(1/135)

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
قلت : { ومثل } الخ ، يحتمل أن يكون على حذف مضاف ، أي : مثَلُ واعظِ الذين كفروا ، أو لا يحتاج إلى تقدير . وسأتي بيانه ، ونَعَقَ ، كضرب ، ينعق نعقاً ونعيقاً ، إذا صاح وزجر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومثل } واعظ { الذين كفروا } وداعيهم إلى الله { كمثل } الراعي الذي يرعَى البهائم ، وينعق عليها؛ ليزجرها ، أو يدعوها فإذا سمعَت النداء رفعَتْ رؤوسها ولم تعقِلْه ، ثم عادت إلى مراعيها ، فلا تسمع من الراعي يزجرها { إلاَّ دعاء ونداء } ، ولا تفقه ما يقول لها ، كذلك الكفار المنهمكون في الكفر ، إذا دعاهم أحد إلى التوحيد لا يلتفتون إليه ، ولا يفقهون ما يقول لهم ، كالبهائم أو أضل .
أو { مثل الذين كفروا } في انهماكهم في التقليد والجهل ، مع مَنْ يدعوهم إلى الله { كمثل } بهائم الذي ينعق ويصيح عليها صاحبها فلا تسمع { إلاَّ دعاء ونداء } ولا تفقه ما يقول لها ، أو { مثل الذين كفروا } في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تعقل ، كمثل الناعق بغنمه ، فلا ينتفع من نعيقه بشيء ، غير أنه في عناء وتعب من دعائه وندائه ، ثم وصفهم بالصمم والبكم والعمى مجازاً ، أي : هم { صُم } عن سماع الحق فلا يعقلونه ، { بُكْم } عن النطق به ، { عُمْي } عن النظر إلى أسبابه ، أو عن الهدي فلا يبصرونه ، { فهم لا يعقلون } شيئاً ولا يتدبرون .
الإشارة : إذا تمكن الهوى من القلوب عَزَّ دواؤه وشقّ علاجه ، وعظم على الأطباء عناؤه ، فالمنهمكون في الغفلة لا ينفَع فيهم التذكير ، ولا ينجح فيهم التخويف والتحذير ، فالواعظ لهم كالناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء ، قد أعماهم الهوى ، وأصمهم عن سماع أسباب الهدي :
إنَّ الهَوَى مَا تَولَّى يُصْمِ أو يَصِمِ ... فلا يُقلع الهوى من قلوبهم إلا بسابق العناية ، أو هبوب ريح الهداية ، فتثير في قلوبهم خوفاً مُزْعِجاً ، أو شوقاً مُقْلِقًا ، أو نُوراً خارقاً { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 20 ] .
(1/136)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
قلت : أصل اضْطُرَّ : اضتُرِرَ ، على ومن افتعل ، من الضرر ، أُبدلت التاء طاءً لقرب مخرج التاء من الطاء ، قال في الألفية :
طا تا افْتِعَالٍ رُدَّ إثْرَ مُطْبقِ ... ثم أدغمت الراء في الراء بعد ذهاب حركتها ، وقرأ أبو جعفر : بكسر الطاء حيث وقع : ووجهُه : نقل حركة الراء إلى الطاء ، وأصل البغي : قصد الفساد ، يقال : بغي الجرح بغياً ، إذا ترامى إلى الفساد ، ومنه قيل للزنا : بِغاء ، وللزانية : بَغِيّ ، وأصل العدوان : الظلم ومجاوزة الحد ، يقال : عَدَا يعدُوا عُدواناً وعَدْواً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا كلوا } من لذيذ { طيبات ما رزقناكم } وَقِفُو عند ما حلَّ لكم ولا تحرموا برأيكم ما أحللنا لكم ، كما فعل مَنْ سَلَفَ قبلكم ، { واشكروا } نعمة الله عليكم الظاهرة والباطنة { إن كنتم } تخصُّونه بعبادتكم ، فقد أحلّلْنا لكم جميع ما خلقنا لكم على وجه الأرض التي تُقِلكم .
{ إنما } حرمنا { عليكم } ما فيه ضررُكم كالميتة لخُبْثها ، { والدم } لأنه يقسي قلوبكم ، { ولحم الخنزير } لأنه يُورث عدم الغيرة ، وما ذكر عليه غير اسم الله ، وهو الذي { أُهِلَّ به لغير الله } أي : رُفع الصوت عند ذبحه لغير الله ، وهو الصنم { فمن اضطر } وألجىء إلى شيء من هذه المحرمات ، { غير باغ } أي : ظالم بأكلها اختياراً ، { ولا عاد } متعدّ بتعدى الحلالَ إلى الحرام ، فيأكلها وهو غني عنها { فلا إثم عليه } ، { أو غير باغ } غير قاطع للطريق ، { ولا عاد } : مفارقة للأمة خارج عن الجماعة ، فمن خرج يقطع الرحم ، أو يُخيف ابنَ السبيل ، أو يُفسد في الأرض ، أو أَبَق من سيده ، أو فرَّ من غريمه أو عاصياً بسفره ، واضطر إلى شيء من هذه ، فلا تحلُّ له حتى يتوب ويأكل ، { فإن الله غفور رحيم } . وقال سهل بن عبد الله : { غير باغ } : غير مفارق للجماعة { ولا عاد } : مبتدع مخالف للسنّة ، فلم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات .
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل العِرْفان ، كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلاوة الشهود والعيان ، واشكروا الله الكريم المنَّان ، إن كنتم تخصونه بالعبادة والإحسان أو : يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل الصفاء ، ووقفوا مع الحدود ووقوف أهل الوفاء ، كلوا من طيبات ما رزقناكم من ثمرات بساتين العلوم ، واشكروا لله يزدكم من المواهب والفهوم ، إن كنتم تعبدون الحيّ القيوم ، إنما حرم عليكم ما يعوقكم عن هذه المواهب ، أو ينزلكم عن منابر تلك المراتب ، كالميل إلى جيفة الدنيا ، أو الركون إلى متابعة الهوى ، أو تأخذون منها ما قُصد به غيرُ الله ، أو تقبضونها من يد غير الله ، فمن اضطر إلى أخذ شيء من نجاستها ، فأخَذَ القدر الذي احتاج إليه منها ، دون التشوُّف إلى ما زاد عليه ، غير قاصد بذلك شهوة ولا متعة ، ثم إثم عليه ، إن الله غفور رحيم .
قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجَمَل رضي الله عنه لما تكلم على الغَنِيَّ بالله ، قال : ( علامته هو الذي ترك الدنيا للخلق ، حتى لا يكون له فيها حق معهم ، إلا ما فَضَل عنهم من بعد اضطراره واحتياجه ، ويترك الآخرة لمولاه ، حتى لا يكون له فيها حق إلا النظر في وجه الله ، ويترك أيضاً نفسه لله حتى لا يكون فيها حق إلا حق مولاه ، ولا إرادة له إلا ما أراد مولاه ، ويكون كالغصن الرطب أينما مالت به الريح يلين ويميل معها ، ولا ينكر على الخلق حالاً من أحوالهم ) . ه .
(1/137)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
قلت : { ما } تعجبية ، مبتدأ ، وهي نكرة ، وسوَّغَ الابتداء َ معنى التعجب ، وجملة { أصبرهم } خبر ، أي : أيُّ شيء عظيم صيَّرهم صابرين ، أو استفهامية ، أي : أيُّ شيء حملهم على الصبر على النار؟
يقول الحقّ جلّ جلاله : في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يُصيبون من سفلتهم الهدايا والخَرَاج ، ويدَّعون أن النبيّ المبعوث منهم ، فلما بُعِثَ نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم خافوا ذهاب مأكلتهم ورئاستهم ، فأنزل الله : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله } في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحرفونها في المعنى ويَنْزِعُونها { من الكتاب } أي : التوراة ، { ويشترون } بذلك التحريف { ثمناً قليلاً } أي : عِوَضاً حقيراً يذهب ويفنَى في زمان قليل { أولئك } الذين يكتمون ويأكلون ذلك العوض الحقير - { ما يأكلون في بطونهم } إلا نار جهنم؛ لأنهم مآلهم وعقوبة أكلهم ، { ولا يكلمهم الله } إهانة وغضباً عليهم حين يُكلم أولياءه ويُسلم عيلهم ، { ولا يزكيهم } أي : لا يطهرهم من دنَس ذنوبهم حتى يتأهلون للحضرة ، { ولهم عذاب أليم } مُوجع . { أولئك الذين } استبدلوا { الضلالة بالهدى } أي : باعوا الهدى واشتروا به الضلالة ، واستبدلوا { العذاب بالمغفرة } التي كانت لهم لو آمنوا وبيّنوا ، فما أجرأهم على اقتحام النار باقتحام أسبابها ، أو فما أبقاهم في النار ، أو ما الذي أصبرهم على النار حتى تركوا الحق ومالوا إلى الباطل؟! استفهام توبيخي .
{ ذلك } العذاب الذي استحقوه وتجرءوا عليه بسبب أن { الله } تعالى { نزل الكتاب } القرآن ملتبساً { بالحق } ، فاختلفوا فيه؛ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } أي : لفي خلاف وضلال بعيد .
الإشارة : كل من كتم علمه ، ولم ينشرْه إلا في مقابلة حظ دنيوي ، صَدَق عليه قولُه تعالى : { ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } . رُوِيَ أن بعض الصحابة كان يُقرئ أهل الصُّفّة ، فأَهْدَى له أحدُهم قوساً ، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : كنت أُعلِّمُ أهلَ الصفة فأهدى لي فلان قوساً ، وقال : هو لله ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : " لقدْ تقلدتَ قَوسْاً مِنْ نَارِ جَهنم " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، وأمره بردِّه . ولعل هذا من باب الورع ، فأراد عليه السلام أن يرفع همة ذلك الصحابي ، وإلا فقد ورد في الحديث : " أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ علَيْهِ الأجرَ كتَابُ اللّهِ " .
فمن ملَكَتْه نفسه ، وأسره الهوى ، فقد اشترى الضلالة بالهدى ، اشترى الضلالة عن طريق أولياء الله ، بالهدى الذي كان له ملَكَ نفسه وهواه ، وعذابَ القطيعة والحجاب ، بالمغفرة والدخول مع الأحباب ، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب ، سبب ذلك اختلاف قلبه ، وتفريق همه ولُبَّه ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - :
(1/138)

" اقْرَءوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُبُكمْ ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا " أو كما قال : وسببت تفرق القلب وعدم حضوره ، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللّهُ عَلَيْه أمْرَه ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا من قُسِمَ لَهُ ، ومن كَانَتِ الآخرةُ نيته ، جَمَعَ اللّهُ عليه أمْرَهُ ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه ، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً " .
والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة؛ لأن عُنْوان صحة القلب : جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه ، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة : فانظره إن شئت . وبالله التوفيق .
(1/139)

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قلت : لمّا ذكر الحقّ تعالى التوحيد وبراهينه الذي هو رأس الدين ، وحذَّرَ من الشرك وفروعه ، ذكر هنا بقية أركان الدين ، وهي الإيمان والإسلام ، ذكر في هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعدِ الإسلام؛ وهي الصلاة والزكاة ، ثم ذكر بعد ذلك الصيام وأحكامه ، ثم ذكر الحج وأركانه ، ثم ذكر الجهاد والنكاح والطلاق والعِدَّة ، ثم ذكر البيوع ، وما يتعلق بها من الربا ، ثم الشهادات والرهَان ، وبها ختم السورة .
لكن الحديث ذو شُجون ، والكلام يَجُرُّ بعضُه بعضاً ، فقوله : { ليس البر أن تولوا } : اسم ليس وخبرها ، وكلاهما مُعَرَّفَتان ، الأول بأل والثاني بالإضافة ، إذا التقدير : توليةُ وجوهكم ، فمن رجَّح تعريف الألف واللام . جعل { البر } اسمها ، و { أن تولوا } خبرها ، وبه قرأ الأكثر ، ومن رجح الإضافة جعل { البر } خبرها مقدماً ، والمصدر اسمها مؤخراً ، وبه قرأ حمزة وحفص .
وقوله : { ولكن البر } مَنْ خَفَّفَ جعلها عاطفة الجملة ، و { البر } مبتدأ ، و { من آمن } خبر على حذف مضاف ، أَيْ : بِرُّ من آمن؛ إذ لا يُخْبَرُ بالذات عن المعنى ، أو قصد المبالغة ، ومن شدَّد نصب بها ، لوقوعها بين جملتين ، وهي استدراكية ، و { على حبه } حال من المال ، و { الصابرين } نصب على المدح ، ولم يعطفه بالرفع لفضل الصبر وشرفه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على أهل الكتاب : { ليس البر } محصوراً في شأن القبلة ، { ولكن البر } الذي ينبغي أن يُعتنى بشأنه هو الإيمان بالله ، وما يجب له من الكمالات ، وباليوم الآخرة وما بعده ، وبالملائكة وما يجب أن يعتقد في شأنهم ، والكتاب المنزل من السماء كالقرآن وغيره ، { والنبيين } وما يجب لهم وما يستحيل في حقهم .
فالبر هو بر من اعتقد في قلبه هذه الأشياء ، وأظهر على جوارحه ما يصدق صحة اعتقادها ، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم ، فأعطى المال على محبته له ، أي : مع حبه ، فقد سئل - عليه الصلاة والسلام - : " أن تَتَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تأمُلُ الْغِنَى وتَخشَى الفَقْر " و { آتى المال } على حب الله ، لا جزاء ولا شكوراً ، فأعطى ذلك المال ذوي قرابته المحَاويج ، وقدَّمهم لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " صَدَقَتُك على المَساكينِ صَدَقَةٌ ، وعَلَى ذَوِي القُربى اثنتان؛ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ " وأعطى { اليتامى } لإهمالهم ، وأعطى { المساكين } الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم ، { وابن السبيل } وهو المسافر الغريب ، كأن الطريق وَلَدْته ، أو الضيف { والسائلين } ألجأتهم الحاجة إلى السؤال . وفي الحديث : " أَعْطِ السائِلَ ولو على فَرَسِه " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " هَدِيَّةُ اللّهِ إلى المؤمن السائلُ على بَابِه " وأعطى في فَكّ { الرقاب } من الرق أو الأسر .
{ وأقام الصلاة } المفروضة ، { وآتى الزكاة } المعلومة . ومن أهل البر أيضاً : { المُوفُون بعهدهم } فيما بينهم وبين الله ، وفيما بينهم وبين الناس { إذا عاهدوا } الله أو عبادة ، فإذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدَّوْا ، وأخُصُّ من أهل البر { الصابرينَ في البأساء } كالفقر والذل وإذاية الخلق ، و { الضراء } كالمرض والزَّمَانة ، أو { البأساء } : الأهوال ، و { الضراء } في الأنفس ، والصابرين { حين البأس } أي : الحرب والجهاد ، { أولئك الذين صدقوا } في طلب الحق ، { وأولئك هم المتقون } لكل ما يقطع عن الحق ، أو يشغل عنه .
(1/140)

فقد اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها؛ لاشتمالها على ما يَزِين البواطنَ من الاعتقادات وما يزين الظواهر من المعاملات ، وما يُزَكِّي النفوس من الرذائل ويُحَلِّيها بالمحاسن والكمالات . ولذلك وُصف المتصف بها بالصدق والتقى ، اللذين هما أساسُ الطريقة ومبنَى أسرار التحقيق ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
الإشارة : ليس المطلوب من العبد أن يَتَوجَّه إلى الحق بجِهَةٍ مخصوصة ، كما إذا توجه إليه بالظاهر وأهملَ الباطن ، أو توجه بالباطن وأهمل الظاهر ، ولكن المطلوب منه أن يُزين باطنه بأنوار الإيمان واليقين ، ويزين ظاهره بسائر وظائف الدين ، ويزكي نفسه من الرذائل؛ كالشح والبخل والغش والخيانة والكذب والخَوْف والجزَع ، ويحليها بأنواع الفضائل؛ كالسخاء والكرم والوفاء بالعهد والأمانة ، والصبر والشجاعة ، والعفة والقناعة ، وسائر أنواع الفضائل ، فإذا تخلّى عن الرذائل وتحلّى بأضدادها من الفضائل استحق الدخول مع الأبرار ، وكان من العارفين الكبار ، أولئك الذين ظفروا بصدق الطلب فنالوا الغاية من كل مطلب ، وأولئك هم المتقون حق التقاة ، فنالُوه أعلى الدرجات ، منحنا الله من ذلك الحظ الوافر بمنِّه وكرمه .
(1/141)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قلت : { عفا } لازمٌ يتعدى بالحرف : بعَنْ إلى الجناية ، وباللام إلى الجاني ، فيقال : عفوت لفلان عن جنايته و { ابتاعٌ } خبر عن مضمَر ، أي : فالأمر اتباع ، و { حياة } مبتدأ و { في القصاص } خبره ، و { لكم } خبر ثان ، أو صلة له ، أو حال من الضمير المستكِنْ فيه . وفيه من البلاغة والفصاحة ما لا يخفى ، جعل الشيء مجيء ضده ، وعرّف القصاص ونكْر الحياة ليدل على التعظيم والتعميم ، أي : ولكم نوع من الحياة عظيم ، وذلك لأن العلم به يَرْدَع القاتل عن القتل ، فيكون سببَ حياةِ نَفْسَيْن ، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، فإذا اقتُصّ من القاتل سَلِم الباقون ، ويصيرُ ذلك سبباً لحياتهم . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا أيها المؤمنون { كتب عليكم القصاص في } شأن { القتلى } في العَمْد ، فاستسلِموا للقصاص ، فالحُر يُقتل { بالحر } ، ولا يقتل بالعبد . بل يغرم قيمته لسيده ، ودليله قوله - عليه الصلاة والسلام- : " لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ ولا حرٌ بعبدٍ " والعبد يقتل بالعبد ، إن أراد سيد المقتول قتله ، فإن استحياه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بقيمة العبد . وكذلك إن قُتل الحر خُيّر أولياؤُه بين قتله أو استرقاقه ، فإن استحيَوْه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بِدِيَةِ الحر العَمْد ، والأنثى تُقتل بالأنثى والذكر ، والذكر يقتل بالأنثى .
وتخصيصُ الآية بالمُساوي ، قال مالك : ( أحسنُ ما سمعتُ في هذه الآية : أنه يُراد بها الجنسُ - أي : جنس الحر - والذكر والأنثى فيه سواء . وأعيدَ ذِكْرُ الأنثى تأكيداً وتهمُّمَا بإذهاب أمر الجاهلية ) . ه . يعني أن ( أل ) في الحر : للجنس ، تشمل الذكر والأنثى . وأعاد ذكر الأنثى اهتماماً بردِّ ما كان يفعله الجاهلية من عدم القَودَ فيها .
ثم قال الحقّ جلّ جلاله : { فمن عُفي له من } دم أخيه { شيء } ولو قَلَّ ، فقد سقط القتل ، فالواجب اتباعٌ للقاتل بالدية { بالمعروف } من غير تعنيف ولا تعنيت ، و { أداء } من القاتل { بإحسان } من غير مطل ولا بَخس .
{ ذلك } - الذي شرعْتُ لكم من أمر العفو والديّة - { تخفيف من ربكم ورحمة } بكم ، وقد كُتب على اليهود القصاص وحده ، وعلى النصارى مطلقاً . وخيَّركم أيها الأمة المحمدية بين أخذ الديّة والقصاص . { فمن اعتدى } بعد أخذ الديّة وقَتَل { فله عذاب أليم } في الدنيا والآخرة ، في الدنيا : بأن يُقتل لا محالة؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا أُعَافِي أحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَة " .
{ ولكم } يا معشر المسلمين { في } تشريع { القصاص حياة } عظيمة في الدنيا ، لانزجار القاتل إذا علَم أنه يُقتص منه ، وقد كانوا يَقتُلون الجماعةَ في الواحد ، فسلِموا من القتل بشروع القصاص ، أو في الآخرة ، فإن القاتل إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخذْ به في الآخرة ، فاعتُبِروا { يا أولي الألباب } أي : العقول الكاملة ، ما في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس ، { لعلكم تتقون } الله في المحافظة على القصاص ، والحكم به والإذعان له ، أو تَكُفُّون عن القتل خوفاً من الله .
(1/142)

الإشارة : كما جعل الله القصاص في الجناية الحسيّة ، جعل القصاصَ في الجناية المعنوية ، وهي الجنايةُ على النفس بسوء الأدب مع الله ، فكل من صدر منه هفوةٌ أو زَلَّة ، اقْتصَ الحقّ تعالى منه في دار الدنيا ، إن كانت له من الله عناية ، الكبيرة بالكبيرة والصغيرة بالصغيرة : وتأمَّلْ قضية الرجل الذي كان يطوف بالكعبة ، فنظر إلى امرأة ، فلطَمْته كَفٍّ من الهوى ، وذهبت عينه ، فقال : آه ، فقيل له : لطمة بنظرة ، وإن زدت زدنا . ه . وقضية أبي تراب النخشبي : قال رضي الله عنه : ما تمنت نفسي شهوةً من الشهوات إلا مرة واحدة ، تمنيت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر ، فعدلت إلى قرية ، فقام واحد ، وتعلّق بي ، وقال : هذا رأيته مع اللصوص ، فضربوني سبعين درة ، ثم عرفني رجلٌ منهم ، وحملني إلى منزله ، وقدَّم لي خبزاً وبيضاً ، فقلت في نفسي : كُلْ بعد سبعين درة .
(1/143)

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
قلت : { إذا حضر } ظرف ، العامل فيه : { كتب } ، أي : توجَّهَ إيجابُ الوصية عليكم إذا حضر الموت . أو مصدر محذوف يفهم من الوصية ، أي : كتب عليكم الإيصاء إذا حضر الموت ، و { الوصية } نائب فاعل { كتب } ، ولا يصح أن تعمل في { إذا } ؛ لتقدمه عليها؛ لأن المصدر لا يعمل في ما قبله ، إلا على مذهب الأخفش . اللهم إلا أن يُتوسع في الظروف ، وجواب الشرطين محذوف ، أي : إذا حضر الموت ، إن ترك خيراً ، فقد كُتبت عليه الوصية . والجنَف : الميل عن الصواب ، فإن كان خطأ فهو جَنَفٌ بلا إثم ، وإن كان عمداً فهو جنَف إثم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : كتب الله { عليكم } أن تُوصوا للوالدين والأقربين { إذا حضر أحَدكم الموتُ إن ترك } المستحضر { خيراً } أي : مالاً : قال سيّدنا عليّ - كرّم الله وجهه - : ( ألف درهم فصاعداً ، فلا وصية في أقل ) . وقال النخعي : ( خمسمائة درهم لا أقل ) . وقال الزُّهْرِي : ( تجب فيما قلّ وكَثُر ) ، وعن عائشة - رضي الله عنها - : ( أن رجلاً أراد أن يوصي ، فسألته : كم مالُك؟ فقال : ثلاثة آلاف . فقالت : كم عِيالك؟ فقال : أربعة ، فقالت : لا ، إنما قال الله تعالى { إن ترك خيراً } وإن هذا لَشيء يسير ، فاتركْه لعيالك ) .
وتكون تلك الوصية { بالمعروف } ، أي : بالعدل ، فلا يُفضل الذكور ، ولا يتجاوز الثلث . فقد حَقَّ الله ذلك { حقّاً } واجباً { على المتقين } ، فمَن غيَّره من الأوصياء أو الشهود { بعدما سمعه } وعلمه ، { فإنما إثمه على الذين يبدلونه } من الأوصياء أو الشهود ، لأنه هو الذي خالف الشرع وغيَّر دون الميت ، { إن الله سميع عليم } فلا يخفى عليه مَنْ بدَّل أو غيَّر ، فهو حسيبُه ومُعاقبه ، { فمن خاف } أي : علِم { من مُوص جنفّا } أي : ميلاً بالخطأ في الوصية ، { أو إثماً } تعمداً للجنف ، { فأصلح } بين المُوصَى لهم وبين الورثة ، بأن أجراهم على منهاج الشرع ، أو نقص للموصَى لهم ، أو زاد لمصلحة رآها { فلا إثم عليه } ؛ لأنه تبديل لمصلحة . والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى ، { إن الله غفور رحيم } فيغفر للمبدِّل لمصلحةٍ ويرحمه .
وهذه الآية منسوخة في وصية الوالدين : مُحْكَمة في الأقربين غير الوارثين ، بقوله - عليه الصلاة والسلام - في الحيدث المشهور : " إنَّ اللّهَ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . فلا وَصِيَّةَ لِوَارثٍ " فإذا كان الوالدان غيرَ وارثيْن كالكافرَيْن أو العبدَيْن فهي مُحْكَمة ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات ، وحفظ قلبه من الخطَرَات ، وصان سرّه من الغَفَلات - وأعظمُ الشهوات حبُّ الرئاسة والجاه ، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السُّفْليات حتى حَضرها الموت ، وانقطع عنها الخواطر والخيالات - فإنها تفيض بالعلوم والواردات ، فالواجب من طريق الجزم أن يُفيد تلك العلوم ، أو يوصي مَنْ يقيدها لينتفع بها الوالدن وهما الأشياخ ، والأقربن وهم الإخوان .
(1/144)

فإن الحكمة تَرِدُ في حال التجلّي كالجبَل ، فإن لم يقيدها وأهملها ، رجعت كالجمل ، فإن أهملها رجعت كالكبش ، فإن أهملها رجعت كالطير ، ثم ترجع كالبَيْضة ثم تذهب . هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه ، وكان شيخه سيدي العربي بن عبد الله يقول له : ( إنْ وَرَدَ عليكم واردٌ فقَيِّدْه وأعطني منه نسخة ) . وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات ، فَمنْ قَيَّدَ وارداً أو سمعه من غيره ، فلا يُغيرْه بمجرد رأيه وهواه . فإن تحقق منه نقصاً أو ميلاً عن منهاج الطريقة والحقيقة ، فأصلحه ، فلا إثم عليه ، { إن الله غفور رحيم }
ولما ذكر في الآية المتقدمة قاعدتين من قواعد الإسلام في قوله : { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } ، بعد أن ذكر قواعد الإيمان ، ذكر القاعدة الثالثة ، وهي الصيام
(1/145)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
قلت : { أياماً } منصوب على الظرفية ، واختُلِف في العامل فيه ، والأحسنُ أنه الصيام ، ولا يضره الفصل؛ لأن الظرف يُتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره ، و { معدودات } نعت له ، و { عدة } مبتدأ؛ أي : فَعَليْهِ عِدَّةٌ . و { أُخر } ممنوع من الصرف للعدل عن الألف واللام والوصف . و { شهر رمضان } إما خبر عن مضمر ، أو مبتدأ ، والخبر : الألف واللام والوصف : و { شهر رمضان } إما خبر عن مضمر ، أو مبتدأ ، والخبر : { فمن شهد } ، أو بدل من { الصيام } ، على حذف مضاف ، أي : صيام شهر رمضان .
و { رمضان } مصدر رمَض إذا احترق ، وأضيف إليه الشهر ، وجُعل عَلَما ، ومُنع من الصرف للعلَمية والألف والنون . وسَمَّوْه بذلك إما لارتماض القلب فيه من حرَّ الجوع والعطش ، أو لارتماض القلب فيه من حَرَّ الجوع والعطش ، أو لارتماض الذنوب فيه ، أو وافق الحرَّ حين نقلوا الشهور عن اللغة القديمة . و { الشهر } ظرف ، لقوله : { شهد } أي : حضر ، وقوله : { ولتكلموا . . . } الآية ، هذه ثلاثُ عِللَ لثلاثة أحكام على سبيل الفِّ والنَّشْرِ المعكوس ، أي : ولتكملوا العدة أمرتُكم بقضاء عدة أيام أخر ، ولتكبروا الله عند تمام الشهر أمرتُكم بصيام الشهر كله ، ولعلكم تشكرون أردتُ بكم اليسر دون العسر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } فُرض عليكم { الصيام } كما فرض { على الذين من قبلكم } من الأنبياء وأَمَمِهم من لدن آدم ، فلكم فيهم أسوة ، فلا يشق عليكم { لعلكم تتقون } المعاصي ، فإن الصوم يكسر الشهوة . ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام- : " مَنْ اسْتَطَاعَ منْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَليْه بالصَّوْمِ ، فَإِنَّه لَهُ وِجَاء " .
وذلك الصيام إنما هو في أيام قلائل { معدودات } فلا يهولكم أمره ، { فمن كان منكم مريضاً } يشق عليه الصيام ، { أو على سفر } فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر { من أيام أُخر } بعد تمام الشهر ، { وعلى الذين يطيقونه } بلا مشقة ، إن أرادوا أن يفطروا { فديةُ } وهي : { طعام مساكين } : مُدٍّ لكل يوم . وفي قراءة { فديةٌ طعامُ مسكين } أي : وهي طعام مسكين لكل يوم . وقيل : نصف صاع . { فمن تطوع } بزيادة المُد ، أو أطعم مسكينَينْ عن يوم ، { فهو خير له } وأعظم أجراً ، { وإن تصوموا } أيها المطيقون للصيام ، { خير لكم إن كنتم تعلمون } ما في الصيام من الأسرار ، والخير المدرار ، ثم نسخ بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } .
وذلك الصيام الذي أُمرتم به هو { شهر رمضان } المبارك { الذي أنزل فيه القرآن } أي : ابتداء نزوله فيه . أو إلى سماء الدنيا ، حالة كونه { هدى للناس } أي : هادياً لهم إلى طريق الوصول ، وآيات واضحات { من الهدى والفرقان } الذي يفرق بين الحق والباطل . وإن شئتَ قلتَ : فيه هدى للناس إلى مقام الإسلام ، { وبينات } ، أي : حججاً واضحة تهدي إلى تحقق الإيمان ، وإلى تحقق الفرق بين الحق والباطل ، وهو ما سوى الله ، فيتحقق مقام الإحسان .
(1/146)

{ فمن } حضر منكم في { الشهر } ولم يكن مسافراً { فليصمه } وجوباً ، وكان في أول الإسلام على سبيل التخيير؛ لأنه شق عليهم حيث لم يألفُوه ، فلما ألفوه واستمروا معه ، حتّمه عليهم في الحضور والصحة . { ومَن كان مريضاً } يشق عليه الصيام ، { أو على } جَناح { سفر } بحيث شرَع فيه قبل الفجر فأفطر فيه ، فعليه { عدة من أيام أُخر } { يريد الله بكم اليسر } والتخفيف ، حيث خفّف عنكم ، وأباح الفطر في المرض والسفر ، { ولا يريد بكم العسر } إذ لم يجعل عليكم في الدّين من حرج ، وإنما أمركم بالقضاء { لتكلموا العدّة } التي أمركم بها ، وهي تمام الشهر ، { ولتكبروا الله على ما هداكم } ، أمركم بصيامه فتكبروا عند تمامه .
ووقت التكبير عند مالك : من حين يخرج إلى المُصَلَّى ، بعد الطلوع ، إلى مجيء الإمام إلى الصلاة ، ولفظُه المختار : ( الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ولله الحمد على ما هدانا ، اللهم اجعلنا من الشاكرين ) ؛ لجمعه بين التهليل والتكبير والشكر امتثالاً لقوله : { ولعلكم تشكرون } على ما أوليناكم من سابغ الإنعام ، وسهَّلنا عليكم في شأن الصيام .
الإشارة : كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات ، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات ، في أيام المجاهدة والرياضات ، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات ، لعلكم تتقون شهود الكائنات ، ويكشف لكم عن أسرار الذات ، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى ، أو على سفر في طلب الدنيا ، فليبادِرْ إلى تلافِي ما ضاع في أيام أُخر ، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام ، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين . فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّي يقينهم ، ويرفع فهو خير له . وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى ، وعن مخالطة الحس بعد التمكين ، فهو خير لكم وأسلم ، إن كنتم تعلمون ما في مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم ، إذ في وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام ، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان . فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه ، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه في تضييع أيامه .
واعلم أن الصيام على ثلاث درجات : صوم العوام ، وصوم الخواص ، وصوم خواص الخواص .
أما صوم العوام : فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج ، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب ، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت ، وإهمال القلب في الغفلات . وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه " وأما صوم الخواص : فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول ، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول ، وحاصلُه : حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي . وأما صوم خواص الخواص : فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب ، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير ، وحاصله : الإمساك عن شهود السَّوى ، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى ، وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً . فأهل الحضرة على الدوام صائمون ، وفي صلاتهم دائمون ، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم . آمين .
(1/147)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
يقول الحقّ جلّ جلاله : في جواب رجل سأل : هل قريب ربنا فنناجيَه ، أو بعيد فنناديه؟ فنزل : { وإذا سألك عبادي عني } . فقل لهم : { إني قريب } إليهم من أرواحهم لأشباحهم ، ومن وَسْواس قلوبهم لقلوبهم ، عِلْماً وقدرة وإحاطة ، أجيب دعوة الداعي إذا دَعَانِ ، سرّاً أو جهراً ، ليلاً أو نهاراً ، على ما يليق بحاله في الوقت الذي نريد ، لا في الوقت الذي يريد ، { فليستجيبوا لي } إذا دعوتُهم للإيمان والطاعة ، أَسْلُك بهم طريق المعرفة ، { وليؤمنوا بي } إني قريب منهم فَيَسْتَحْيُوا مني ، حياءَ مَنْ يرى أني معه حيث كان ، { لعلهم يرشدون } إلى سلوك طريقتي ودوام محبتي .
قال البيضاوي : اعلم أنه ، تعالى ، لما أمرهم بصوم الشهر ، ومراعاة العدة على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقَّبه بهذه الآية الدالّة على أنه خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم ، مجازيهم على أعمالهم ، تأكيداً وحثّاً عليه . ه .
الإشارة : قُرْب الحقّ تعالى من عباده هو قرب المعاني من المحسوسات ، أو قرب الصفات من الذات ، أو الذات من الصفات ، فإذا تحقق المحو والاضمحلال ، وزال البَيْن ، وثبت الوصال ، لم يبقَ قرب ولا بعد ولا بَينٌ ولا انفصال . قال الشيخ القطبُ العارف الكبير سيدي عبد السلام بن مَشِيش رضي الله عنه لأبي الحسن رضي الله عنه : حدِّدْ بصرَ الإيمان تَجد الله في كل شيء وعند كل شيء ، ومع كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقريباً من كل شيء ، ومحيطاً بكل شيء ، بقرب هو وصَفْهُ ، وبحيطةً هي نعتُه ، وَعَدّ عن الظرفية والحدود ، وعن الأماكن والجهات ، وعن الصحبة ، والقرب في المسافات ، وعن الدَّوْر بالمخلوقات ، وامْحَق الكلَّ بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن ، " كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه كان " .
وقال بعض العارفين : الحق تعالى منزَّه عن الأيْنِ والجِهة والكَيْف والمادة والصورة . ومع ذلك لا يخلو منه أيْنٌ ولا مكان ، ولا كم ولا كيف ، ولا جسم ، ولا جوهر ولا عرض ، لأنه لِلُطْفه سَارٍ في كل شيء ، ولنُوريته ظاهر في كل شيء ، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف ، غيرُ متقيِّد بذلك ، فمَنْ لم يعرف هذا ولم يُذقْه ولم يشهدْه فهو أعمى البصيرة ، محرومٌ من مشاهدة الحق تعالى . ه .
وهذه الإشارات لا يفهمها إلا أهل الذَّوْق من أهل المعاني ، فاصحب الرجال أهلَ المعاني تِذُقْ أسرارهم ، وتفهم إشاراتهم . وإلا فحسبُك أن تعتقد كمال التنزيه ، وبطلان التشبيه ، وتَمَسَّكْ بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشّورى : 11 ] ، وسلَّمْ للرجال في كل حال .
إِنْ لم تَر الهلاَلَ فسلِّمْ ... لأُناسٍ رأوْه بالأبْصَار
وإذا تحققت أن الحقّ قريب منك كفاك لسانُ الحال عن طلب المقال ، وبالله التوفيق .
(1/148)

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قلت : الرفَث : مُحَرِّك الجِماع ، والفُحْش كالرفوث ، وكلام النساء في الجماع ، قاله في القاموس ، وقال الأزهري اللغوي : الرفَث : كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وضمَّنه هنا الإفضاء ، فعدَّاه بإلى .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في نسخ ما كان في أول الإسلام من تحريم الجِماع في رمضان بعد العشاء أو النوم ، ثم إن عمر رضي الله عنه باشر امرأته بعد العشاء ، فندم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه ، فقام رجال فاعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزل قوله : { أحل لكم ليلةَ الصيام } قبل الفجر ، الإفضاءُ { إلى نسائكم } بالجماع . وعبَّر بالرفث تقبيحاً لما ارتكبوه .
ثم علَّل التحليل بقوله : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } ، أي : وإنما أبحتُ لكم الجماع لقلّة صبركم عليهن ، حتى تعانقوهن ويعانقنكم ، فيشتمل بعضُكم على بعض ، كاشتمال اللباس على صاحبه ، كما قال الشاعر :
إذَا مَا الضَّجِيعَ ثَنَى عِطْفَهَا ... تَثَنَّتْ فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
وهذه الحالة يقلُّ فيها الصبرُ عن الوقَاع ، { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } أي تَخُونُونها فَتُعرِّضُونها للعقاب ، وتَحْرمُونها من الثواب ، { فتاب عليكم } لَمّا تُبْتُم واعترفتم بما اقْتَرَفْتُم ، وعفا عنكم فمحا ذنوبكم ، { فالآن باشروهن } . والمباشرة : إلصاق البَشْرة بالبشرة ، كنايةً عن الجماع ، { وابتغوا ما كتب الله لكم } من النسل ، فلا تباشروهن لمجرد قضاء الشهوة ، بل اطلبوا ما قدَّر الله لكم ، وأثْبتَه في اللوح المحفوظ من الولد ، لأنه هو المقصود من تشريع النكاح ، وخلق الشهوة ، لا مجرد قضاء الوطر . وفي الحديث : " إذَا مَاتَ البعدُ انْقَطَع عَمَلُه إلا مِنْ ثلاثٍ : صَدَقَةٍ جَاريَةٍ ، وعِلْمٍ بثَّه في صُدور الرجال ، وولدٍ صالحٍ يَدْعُوا لَهُ " .
وفي حديث طويل عن عائشة - رضي الله عنهما - في قصة الحَوْلاء - امرأة من الأنصار - ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من امرأة حمَلَت من زوجها حين تَحْمِل ، إلا لها من الأجْر مثل القائم ليلَة الصائم نهارَه ، والغازي في سبيل الله ، وما من امرأة يأتيها الطَلْقُ ، إلا كان لها بكل طَلْقةٍ عِتْق نسمةٍ ، وبكل رَضْعة عتق رقبة ، فإذا فَطَمت ولَدها ناداها مُنادِ من السماء : قد كُفيتِ العملَ فيما مضى ، فاستأنفي العمل فيما بقي " قالت عائشة - رضي الله عنها - : قد أُعْطِي النساءُ خيراً كثيراً ، فما لكم يا معشر الرجال؟ فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال : " ما من رجل مؤمن أخذ بيد امرأتِه يُرَاوِدُها ، إلا كتب الله له حسنة ، وإنْ عانقها فعشْر حسنات ، وإن ضاجعها فعشرون حسنةٌ ، وإن أتاها كان خيراً من الدنيا وما فيها ، فإذا قام ليغتسل لم يمر الماء على شعره من جسده إلا مُحِيَ عنه سيئة ، ويُعطى له درجة ، وما يعطى بغُسْله خيراٌ من الدنيا وما فيها ، وإن الله تعالى يباهي الملائكة فيقول : انظروا إلى عبدي؛ قام في ليلة قَرَّة يغتسل من الجنابة ، يتيقن بأني ربه ، اشهدوا أني غفرت له "
(1/149)

ه . من الثعلبي .
ثم أباح الحق تعالى الأكلَ والشرب ، ليلة الصيام إلى الفجر ، فقال : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } شبَّه أول ما يبدوا من الفجر المعترِض في الأفق ، بالخيط الأبيض ، وما يمتد معه من غَبَشِ الليل ، بالخيط الأسود
ولم ينزل قوله تعالى : { من الفجر } إلا بعد مدة ، فحمله بعض الصحابة على ظاهره ، فعمد إلى خيطٍ أبيض وخيط أسود فجعلهما تحت وِسادته ، فجعل يأكل وينظر إليهما ، فلم يتبيَّنا ، ومنهم عَديُّ بنُ حاتم ، قال : فغدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحِك ، وقال : " إِنك لَعَرِيضُ القَفا ، إِنَّمَا ذلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وسَوَادُ اللَّيْلِ " ، والحديث ثابت في البخاري وغيرِه . واعترضه الزمخشري بأن فيه تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز ، لما فيه من التكليف بما لا يطاق .
وأُجيب بأنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإنما فيه تأخير البيان لوقت الحاجة ، وهو جائز . وبيان ذلك أنه لمّا نزل قوله تعالى : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون مُرادَ الله منهما ، واستمر عملهم على ذلك ، فكانت الآية مُبينة في حقهم لا مُجْمَلة . وأما عَدِيّ بن حاتم فكان بَدَوِيّاً مُشتغلاً بالصيد ، ولم يكن فيه حُنْكَة أهل الحاضرة ، فحمل الآية على ظاهرها؛ ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لَعِرَيضُ القَفا " فنزلت الآية تُبين لعدي مُرادَ الله عند الحاجة إلى البيان . مع أن السيوطي ذكر في التوشيح خلاف هذا؛ ونصه :
قال بعضهم : كأنَّ عديّاً لم يسمع هذه اللفظة من الآية؛ لأنها نزلت قبل إسلامه بمدة ، وذلك أن إسلامه كان في السنة التاسعة أو العاشرة ، بعد نزول الآية بمدة ، قال : علَّمنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام ، فقال : " صلّ كذا ، وصم كذا ، فإن غابت الشمس فَكُلْ حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، فأخذ الخيطين . . . " الحديث . قال له - عليه الصلاة والسلام : " ألم أقل لك من الفجر؟ " فتبين أن قوله في الحديث : " فأنزل الله مِنْ الفجر " من تصرُّف الرواة . ه . مختصراً ، فهذا صريح في أن الآية نزلت بتمامها مبينة فلم يكن فيها تأخير ، والله تعالى أعلم .
ثم بيَّن تعالى غاية الصوم ، فقال : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } فمن أفطر مع الشك في الغروب ، فعليه الكفارة ، بخلاف الشك في الفجر للاستصحاب . ولما كان الاعتكاف من لوازم الصوم ذكر بعض أحكامه بإثره فقال : { ولا تباشروهن } أي : النساء { وأنتم عاكفون في المساجد } ، فالمباشرة للمعتكف حرام ، وتُفسد الاعتكاف .
(1/150)

كانت المباشرة في المسجد أو خارجَه ، وكان الرجل يكون معتكفاً فيخرج فيصيب زوجَه ثم يرجع ، فنزلت الآية - { تلك حدود الله } قد حدها لكم ، { فلا تقربوها } فضلاً عن أن تعتدوها ، { كذلك } أي : مثل هذا البيان التام ، { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } محارمه .
الإشارة : قد تقدم أن صوم الخواص ، وخواص الخواص ، هو الإمساك عن الفُضول ، وعن كل ما يقطع عن الوصول . أو الإمساك عن شهود الأغيار ، وعن كل ما يوجب الأكدار . فإن عزَمَت النفس على هذا الصوم وعقَدَت النيّة عليه ، حلَّ لها أن تُباشر أَبْكارَ العلوم اللدنية الوهبية ، والحقائق العرفانية ، وتفضي إلى ثَيبات العلوم الرَّسْمية الكسبية . العلومُ اللدنية والوهبية شِعارُها ، والعلومُ الرسمية دِثارها . العلوم اللدنية لباس باطنها ، والعلوم الرسمية لباس ظاهرها .
قال أبو سليمان الداراني : إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت ، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم ، من غير أن يُؤدّي إليها عالمٌ عِلْماً . ه .
قال الحقّ تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } بدنس الهفوات ، فمنعكم من مباشرة تلك العلوم الوهبيات ، فلما عقدْتُم التوبة ، وعزمتم على تركها ، تاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن باشروها ، وابتغوا ما كتب الله لكم ، من الوصول إلى معرفته ، والعكوف في حضرة قُدسه ، وكلوا من ثمرات تلك العلوم ، واشربوا من خمرة الحيّ القيّوم ، حتى يَطْلُعَ عليكم فجرُ الكشف والبيان ، وتُشرق على قلوبكم شمسُ نهار العرفان ، فحينئذٍ تَضْمَحِلُّ تلك العلوم ، وتمحي تلك المعالم والرسوم . ولم يبقَ إلا الاستغراق في مشاهدة الحيّ القيّوم ، فلا تباشروها وأنتم عاكفون في تلك المساجد . فمشاهدةُ وجهِ الحبيب تُغنْي عن مطالعة المعالم والمشاهد . تلك حدود الله فلا تقربوها ، أي : لا تقفوا مع تلك العلوم وحلاوة تلك الرسوم؛ فإنها تمنعكم من مشاهدة الحيّ القيّوم : كذلك يبن الله آياته الموضَّحة لطريق وصوله للناس ، لعلهم يتقون مشاهد ما سواه . والله تعالى أعلم .
ولما أراد الحقّ أن يتكلم على الحج قدَّم الكلام على الأموال؛ لأنها سببٌ في وجوبه ، والوصول إليه في الغالب .
(1/151)

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
قلت : أصل الإدلاء : إرسالُ الدَّلْو في الماء ليتوصل به إلى أخذ الماء من البئر ، ثم أُطلق في كل ما يتوسل به إلى شيء ، يقال : أدلَى بمالِه إلى الحكام ، أي : دفعه رِشْوة ، ليتوصل بذلك إلى أخذ أكثر منه ، وهو المراد هنا ، وفي القاموس : أدلى برَحمِه : توسَّل ، وبحُجَّتِه : أحضرَها ، وإليه بمالهِ : دفَعه . ومنه : { وتُدْلوا بها إلى الحكام } . ه . و { تدلوا } معطوف على { تأكلوا } ، مَنْهِي عنهما معاً .
يقوله الحقّ جلّ جلاله : { ولا تأكلوا } يا معشر المسلمين { أموالكم } أي : أموال بعضكم بعضاً ، { بالباطل } أي : بغير حقّ شرعي؛ إما بغير حق أصلاً كالغضْب والسرقة والخيانة والخَدْع والتطفيف والغش وغير ذلك . أو بحق باطل كما يؤخذ في السحر والكهانة والفأل والقِمار والجاه ، وهَدِية المِدْيان ، وهدية القرض ، والضمان ، والرشوة ، والربا ، وغير ذلك مما نهى الشارعُ عنه . ولا يدخل في ذلك التمائم والعزائم إذا كان بالقرآن أو السنّة وغلَب الشفاء ، وكذلك لا يدخل أيضاً الغَبْن ، إذا كان البائعُ عالماً بالمَبِيع .
أو { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } بأن تُنفقوها في المَلاهي والزنا والشرب واللواط ، وغير ذلك من المحرمات ، ولا { تدلوا } أي : تتوسلوا بها ، أي : بدفعها { إلى الحكام } رشوة { لتأكلوا فريقاً من أموال الناس } بأن يحكم لكم بها القاضي ، تأخذونها متلبسين { بالإثم } أي : بالمعصية { وأنتم تعلمون } أنها لغيركم؛ فإنَّ حُكْمَ الحاكِم لا يُحِلُّ حراماً .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّما أنا بَشرٌ مثلُكُم ، ولعلَّ بعضَكُمْ أن يكون الْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعضٍ فأقضي لهُ ، فمن قَضَيتُ له بشيء من مال أخِيهِ فإنَّما لهُ قِطعةٌ من النارِ " .
الإشارة : الباطلُ كلُّ ما سوى الحقّ ، فكل من كان يأخذ من يد الخلق ولا يشاهد فيهم الحقّ فإنما يأخذ أموال الناس بالباطل . قال في الحِكَم : " لا تَمُدَّن يديك إلى الأخذ من الخلائق إلا أن تَرى أن المعطيَ فيهم مولاك ، فإذا كنت كذلك فخُذْ ما وافقك العلم " . ويحتاج العامل بهذا إلى عَسةٍ كبيرةٍ ، وشُهودٍ قَوِي ، حتى يَفْنَى عَنْ نظرهِ مشاهدةُ الخلق في شهود الملك الحق . وكان بعضهم يطلب مَنْ هذا وصْفُه فيعطي للفقير العطاء ، ويقول : خذ ، لا لك ، فلا يسمع من أحد شيئاً ، حتى أعطَى لبعض الفقراء ، وقال : خذ ، لا لك ، فقال : أقبضُ لا منك . ه . قلت : الوصول إلى الحكام على شأن الدنيا أو للانتصار للنفس حرام في طريق الخصوص ، بل يصبر حتى يحكم الله بينه وبين خصمه ، وهو خير الحاكمين ، فإن اضطُرَّ إلى شيء ولم يجد بُدّاً منه فليُوكِّلْ ، وبالله التوفيق .
(1/152)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ . . . }
قلت : الذي سأله معاذُ بن جبل وثعلبةُ بن غنمة ، فقالا : يا رسول الله : ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط ، ثم لا يزال يزيد حتى يستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يرجع كالخيط؟ فقال الحقّ جلّ جلاله : { يسألونك عن الأهلة } أي : عن حكمة اختلاف الأهلة بالزياة والنقص { قل } لهم يا محمد : { هي مواقيت للناس } يُوقِّتُون بها دُيونهم ، ويعرفون بها أوقات زَرْعهم ، وعِدَدَ نسائهم وصيامهم ، وهي أيضاً مواقيتُ للحج ، يعرفون بذلك وقت دخوله وخروجه ، فيعرفون الأداء من القضاء ، فلو كانت على حالة واحدة لم يعرفوا ذلك . أجابهم الحق تعالى بغير ما ينتظرون؛ أشارة إلى أن السؤال عن سر الاختلاف ، ليس فيه منفعة شرعية ، وإنما ينبغي الاهتمام بما فيه منفعة دينية .
قال أهل الهيئة : إن نورة من نُور الشمس ، وجِرْمه أَطْلَس ، فكلما بعد من مُسَامته الشمس قابَله نورُها ، فإذا قرب منها لميقابله من نورها إلا بعض جِرمه ، فإذا دخل تحتها في الفلك كان ظَهره كله إليها ، فلم يقابله شيء من نورها ، فإذا خرج مِنح تحتِها قابله بقدر ذلك ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا ظهر هلال السعادة في أفق الإرادة ، وهبَّت ريح الهداية من ناحية سابق العناية ، دخل وقت حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب ، فهلال الهداية للسائرين ، وهم أرباب الأحوال أهل التلوين ، يزداد نوره بزيادة اليقين ، وينقص بنقصانه ، على حسب ضعف حاله وقته ، حتى يتحقق الوصال ، ويُرزق صف الكمال . وأنشدوا :
كُلَّ يومٍ تَتَلَوَّنْ ... غيرُ هذا بِكَ أَجْمَلْ
فصاحب التلوين بين الزيادة والنقصان ، إلى أن تطلع عليه شمس العرفان ، فإذا طلعت شمس العرفان فليس بعدها زيادة ولا نقصان ، وأنشدوا :
طَلَعَتْ شمسُ من أُحِبُّ بلَيْلٍ ... واستضاءتْ فما تَلاها غُروبُ
إنَّ شَمْسَ النَّهارِ تَغْربُ باللي ... ل وشَمْسَ القُلوب لَيْسَتْ تَغيبُ
بخلاف صاحب التمكين؛ فإنه أبدا في ضياء معرفته ، متكنٌ في بُرج سعادته ، لا يلحق شمسَه كسوف ولا حجابٌ ، ولا يستر نورَها ظلمةٌ ولا سحاب ، فلو طلب الحجاب لم يُجَبْ . قال بعض العارفين : ( لو كُلتُ أنْ أَرى غيره لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده ) .
ثم حذَّر الحق تعالى مما اتبدعه المشركون في الحج ، فقال :
{ . . . وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 189 ) }
قلت : كانت الأنصار إذا حَجُّوا أو اعتمروا ، يقولون : لا يَحُول بيننا وبين السماء سَقْفٌ ، حتى يدخلوا بيوتهم ، فإذا رجعوا تسوَّرُوا الجُدْران ، أو نَقَبُوا في ظهور بيوتهم ، فجاء رجالٌ منهم فدخل من الباب ، فَعُيِّر بذلك ، فأنزل الحقّ جلّ جلاله : { وليس البر } أي : الطاعة ، { بأن تأتوا البيوت من ظهورها } فتتسوروها ، أو تنقُبوا من أعلاها ، { ولكن البر من اتقى } المحارم وخالف الشهوات .
(1/153)

أو : ليس البر بأن تعكسوا مسائلكم بأن تسألوا عما لا نفع لكم فيه ، وتتركوا مسائل العلم التي تنفعكم في العاجل والآجل . { ولكن البر من اتقى } ذلك ، { وأتوا } بيوت العلم من أبوابها ، فتُحسنون السؤال وتتأدبون في المقال ، وتقدمون الأهم فالأهم ، والأنفع فالأنفع . { واتقوا الله } فلا تُغيروا أحكامه ، ولا تعترضوا على أفعاله { لعلكم تفلحون } بتوفيقه وهدايته .
الإشارة : اعلم أن البيوت التي يدخلها المريد ثلاثة : بيت الشريعة وبيت الطريقة وبيت الحقيقة ، ولكل واحد أبواب فمن أتى البيت من بابه دخل . ومن أتاه من غيره طُرد .
فبيت الشريعة له ثلاثة أبواب : الباب الأول : التوبة ، فإذا دخل هذا الباب ، وحقَّق التوبة بأركانها وشروطها ، استقبله باب الاستقامة ، وهي : متابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله ، فإذا دخله ، وحقق الاستقامة ، استقبله باب التقوى بأقسامها . فإذا حقق التقوى ظاهراً وباطناً ، دخل بيت الشريعة المطهرة ، وتنزه في محاسنه ومعانيه ، ثم يروم دخول بيت الطريقة ، وله ثلاثة أبواب :
الباب الأول : الإخلاص وهو : إفراد العمل لله نم غير حرف ولا حظ ، فإذا حقق الإخلاص استقبله باب التخلية وهي التظهير من العيوب الباطنة ، وهي لا تنحصر ، لكن من ظفر بالشيخ أطلعه عليها ، وعلَّمه أودتيها ، فإذا حقق التخلية استقبله باب التحلية ، وهي : الاتصاف بأنواع الفضائل كالصبر والحلم والصدق والطمأنينة والسخاء والإيثار ، وغير ذلك من أنواع الكمالات . فإذا حقق الإخلاص والتخلية والتحلية فقد حقق بيت الطريقة ، ثم يستقبله بيت الحقيقة .
فأول ما يقرع باب المراقبة ، وهي : حفظ القلب والسر من الخواطر الردية ، فإذا تطهر القلب من الخواطر الساكنة ، استشرف على باب المشاهدة ، وهي : محو الرسول في مشاهدة أنوار الحيّ القيّوم ، أو تلطيف الأواني عند ظهور المعاني ، فإذا دخل باب المشاهدة ، وسكن فيها ، استقبله باب المعرفة ، وهي محلّ الرسوخ والتمكين ، وهي الغاية والمنتهى ، فبيت الحقيقة وهو مسجد الحضرة الربانية . وما بقي بعدها إلا الترقي في المقامات ، وزيادة المعارف والكشوفات أبداً سرمداً ، منحنا الله من ذلك حظّاً وافراً بمنّه وكرمه .
(1/154)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قلت : { التهلكة } : مصدر هلك - بتشديد اللام - قاله ابن عطية . وضمن { تُلْقُوا } معنى تفضوا ، أو تنتهوا ، فعدَّاه بإلى ، أي : ولا تفضوا بأنفسكم إلى التهلكة . ولا يحتاج إلى زيادة الباء .
وسبب نزول الآية : أن المشركين صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع في قابل ، فيخلوا له البيت ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون ألا يفوا لهم ، فيقاتِلُوا في الحرم والشهر الحرام ، وكرهوا ذلك ، فنزلت الآية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقاتلوا في سبيل الله } وإعلاء كلمته { الذين يقاتلونكم } أي : يبدءونكم بالقتال ، { ولا تعتدوا } فتقاتلوهم قبل أن يبدءوكم ، { إن الله لا يحب المعتدين } لا ينصرهم ولا يؤيدهم . ثم نسخ هذا بقوله : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً . . . } [ التوبة : 36 ] الآية . { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي : وجدتموهم ، ولا تتحرجوا من قتالهم في الحرم ، فإنهم هم الذين صدوكم وبدأوكم بالإذاية ، { وأخرجوهم } من مكة { حيث أخرجوكم } منها ، { والفتنة } أي : الكفر الذي هم فيه ، { أشد من القتل } لهم في الحرم ، { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } ابتداءً { حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم } فيه { فاقتلوهم } فيه ، وفي غيره ، { كذلك جزاء الكافرين } يفعل بهم ما فعلوا بغيرهم ، { فإن انتهوا } عن الشرك وأسلموا { فإن الله غفور } لهم { رحيم } بهم . { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي : شرك { ويكون الدين } خالصاً { لله } بحيث لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين واحد ، { فإن انتهوا } عن قتالكم ، فلا تعتدوا؛ فإن { لا عدوان إلا على الظالمين } إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم .
القتال الصدر منكم لهم في { الشهر الحرام } في مقابلة الصد الذي صدر منهم لكم في الشهر الحرام ، { والحرمات قصاص } يقتص بعضها من بعض ، فكما انتهكوا حرمة الشهر الحرام ، بمنعكم من اليبت ، فانتهكوا حرمتهم بالقتل فيه . { فمن اعتدى عليكم } بالقتال في الأشهر الحُرُم ، أو في الحرَم { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله } فلا تنتصروا لنفوسكم ، { واعلموا أن الله مع المتقين } بالحفظ والتأييد .
{ وأنفقوا في سبيل الله } في جهاد عدوكم ، ولا تمسكوا عن الإنفاق فيه فتلقوا { بإيديكم } أي : بأنفسكم { إلى التهلكة } أي : الهلكة فيستولي عليكم عدوكم .
رُوِيَ عن أبي أيوب الأنصاري ( أنه كان على القسطنطينية ، فحمل رجل على عسكر العدو ، فقال قوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : لا ، إن هذه الآية نزلت في الأنصار ، قالوا - لما أعز الله الإسلام وكثرب أهله - : لو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها ، فأنزل الله فينا { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ، وأما هذا فهو الذي قال فيه الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } [ البقرة : 207 ] )
أو : ولا تنفقوا كل أموالكم فتتعرضوا للهلكة ، أو الطمع في الخلق ، ولكن القصد ، وهو الوسط .
(1/155)

{ وأحسنوا } بالتفضل على المحاويج والمجاهدين : { إن الله يحب المحسنين } فيحفظهم ، ويحفظ عقبهم إلى يوم القيامة .
الإشارة : أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس . فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها ، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض ، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه ، والاشتغال بالله عنه ، فإنه يذوب بذكر الله ، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها ، والقناعة بما تيسر منها ، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار . فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } ويصدونكم عن حضرته ، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري ، والإقبال عليّ ، { إن الله لا يحب المعتدين } . بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط ، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها ، ثم غاب في الله عنها ، وكذلك بقية القواطع .
وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول : ( عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب ، ونال العدو مراده منك ) . ه . وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم ، يعني : كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة ، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة . والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم ، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله ، فإن ذلك التفات إلى غير الله ، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه . وذلك في غاية الجفاء ، حتى يقاتلوكم فيه ، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم ، فإن قاتلوكم ، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم ، فاقتلوهم بذكر الله ، والتعوّذ منهم ، فإن الله يكفيكم أمرهم ، وينهزمون عنكم ، كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا عنكم ، وانقطع عنكم خواطرهم ، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم ، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم ، ويكون التوجه كله لله ، لا ينازعه شيء مما سواه ، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم؛ فإن ذلك عدوان وظلم ، { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 193 ] .
فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها ، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة ، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة ، فالحرمات قصاص . فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية . فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح .
فمَن اعتدى عليكم ، في زمن البطالة ، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم . وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم ه . أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم . وكان أيضاً يقول : ( جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم ) . ه . واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها ، { واعلموا أن الله مع المتقين } . وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله ، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء . { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فتدبروا لها ، وتختاروا لها ، وتعتنوا بشؤونها ، فإن ذلك غفلة عن ربكم . { وأحسنوا } أي : ادخلوا في مقام الإحسان؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه { إن الله يحب المحسنين } أي : يقربهم إلى حضرته ، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته ، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه .
(1/156)

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ . . . }
قلت : المشهور في اللغة أن أحصر الرباعي : بالمرض ، وحصر الثلاثي : بالعدو ، وقيل : بالعكس ، وقيل : هما سواء . و { ما استيسر } : خبر أو مبتدأ ، أي : فالواجب ما استيسر ، أو : فعليه ما استيسر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأتموا الحج } الذي دخلتم فيه ، { والعمرة } وجوباً كالصلاة والصوم ، ويكون ذلك { لله } لا رياء ولا سمعة ، وإنما خصّ الحج والعمرة بالحض على الإخلاص ، لما يسرع إليهما من الخلل أكثر من غيرهما ، فمن أفسدهما وجب عليه قضاؤهما ، { فإن أحصرتم } ومنعتم من إتمامهما فتحللوا منهما ، وعليكم { ما استيسر من الهدي } ، وذلك شاة { ولا تحلقوا رؤوسكم } أي : لا تتحللوا { حتى يبلغ الهدي محله } ، أي : حيث يحل ذبحه ، وهو محل الإحصار عند الشافعي ، فيذبح فيه بنية التحلل ويُفرق ، ومِنَى أو مكة عند مالك ، فيُرسله فإذا تحقق أنه وصل وذُبح حل وحلق .
ويحرم على المُحْرِم إزالة الشعث ، ولبس المخيط بالعضو ، فمن كان { مريضاً أو به أذى } صُداع أو نحوه ، فحلق رأسه ، أو لبس ثيابه ، فعليه فديه { من صيام } ثلاثة أيام ، { أو صدقة } على ستة مساكين ، مُدَّان لكل مسكين ، { أو نسك } بشاة فأعلى ، فهو مخير بين الثلاثة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا عقد المريد مع ربه عُقْدةً ، فالواجب عليه إتمامها حتى يَجْني ثمرتَها ، فإذا عقد عقدة المجاهدة فليجاهد نفسه حتى يجني ثمرتها ، وهي المشاهدة ، وإذا عقد مع الشيخ عقدة الصحبة ، فليلزم خدمته حتى يدخله إلى بيت الحضرة ، ويشهد له بالترشيد . وهكذا كل من عقد مع الله عقدة يجب عليه إتمامها ، فإن أُحصر ومُنع من إتمامها فليفعل . ما استيسر من ذبح نفسه وحط رأسه ، و { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآءَاتَاهَا } [ الطّلاَق : 7 ] ، ولا ينبغي أن يستعجل الفتح قبل إِبَّانِه ، فلعلَّه يُعاقَب بحرمانه ، فكم من مريد طلب شيخه أَنْ يُطلعه على سر الربوبية قبل بلوغ محله ، فكان ذلك سببب عطبه ، فيقال له : ولا تحلق رأسك من شهود السوى حتى يبلغ هَديُ نفسك محلة فيذبح ، فإذا ذُبِحت النفس وأُجهِز عليها حلق رأسه حينئذٍ من شهود السِّوى ، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه .
إنْ تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتُكَ شَرْطٌ ... لا يَنَالُ الْوِصَال مَنْ فِيهِ فَضْلَهْ
فمن كان مريضاً بضعف عزمه ، أو به أذى بعدم نهوض حاله ، بحيث لم تُسعفْه المقادير في مجاهدة نفسه ، فليشتغل بالنسك الظاهر من صيام أو صدقة أو قراءة أو غير ذلك ، حتى يَمنَّ عليه العليمُ الحكيمُ . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/157)

ولمّا ذكر الحقّ تعالى هدى الإحصار وفديَة الأذى ، ذكر هدى التمتع ، فقال :
{ . . . فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب }
يقول الحقّ جلّ جلاله : فإذا حصل لكم الأمن من المرض أو العدو ، أوردتم الحج { فمن تمتع } منكم { بالعمرة إلى الحج } بأن قدَّم العمرة في أشهر الحج ، ثم حجّ من عامه ، فالواجب عليه { ما استيسر من الهدي } ؛ شاة فأعلى؛ لكونه تمتَّعَ بإسقاط أحد السَّفَرَيْن ولم يُفرِد لكل عبادة سفراً مخصوصاً . { فمن لم يجد } الهدي ، ولم يقدِر على شرائه ، فعليه { صيام ثلاثة أيام } في زمن { الحج } ، وهو زمنُ إحرامه إلى وقوفه بعرفة ، فإن لم يصم في ذلك الزمان صام أيام التشويق . ثم يصوم سبعة أيام إذا رجَع إلى مكة أو إلى بلده . فتلك { عشرة } أيام { كاملة } ، ولا تتوهموا أن السبعة بدل من الثلاثة ، فلذلك صرّح الحقّ تعالى بفَذْلَكة الحساب .
وهذا الهَدْي أو الصيام إنما يجب على المتمتع؛ إذا لم يكن ساكناً بأهله في مكة أو ذي طَوى ، وأما مَن كان { أهلُه حاضري المسجد الحرام } فلا هَدى عليه؛ لأنه يُحرم بالحج من مكة فلم يسقط أحد السفرين ، { واتقوا الله } في امتثال أوامره ، وخصوصاً مناسك الحج؛ لكثرتها وتشعب فروعها ، ولذلك أُفردت بالتأليف ، { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن ترك أوامرَه وارتكب نواهيه ، وبالله التوفيق .
الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله على طريق الإشارة للمتوجهين إليه : فإذا أمنتُمْ من أعدائكم الذين يقطعونكم عن الوصول إلى حضرتنا ، أو أمِنْتُم من الرجوع بعد الوصال ، أو من السلب بعد العطاء ، وذلك بعد التمكين من شهود أسرار الذات ، وأنوار الصفات ، إذ الكريم إذا أعطى لا يرجع ، فإذا حصل لكم الأَمْن ، فمن تمتع بأنوار الشريعة إلى أسرار الحقيقة فعليه ما استطاع من الهدي والسمت الحسَن والخلُق الحَسن؛ لأنه إذ ذاك قد اتصف بصفة الكمال وتصدَّر لتربية الرجال ، فمن لم يجد ذلك فلرجع إلى ما تيسر من المجاهدة حتى يتمكن من ذلك الهَدْي الحسن والخلق الحسن ، هذا لمن لم يتمكن في الحضرة الأزلية ، وأما مَن كان مقيماً بها ، عاكفاً في شهود أنوارها ، فلا كلام عليه ، لأنه قد تولاّه مولاه ، وغيَّبَه عن شهود نفسه وهواه ، فَأمْرُه كله بالله وإلى الله . جعلنا الله فيهم بمنِّه وكرمه ، لكن لا يغفُل عن التقوى؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام : " أنا أعرفُكُم بالله ، وأنا أتقاكم له " وقالوا : " من علامة النهايات الرجوعُ إلى البدايات " . والله تعالى أعلم .
(1/158)

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
قلت : { الحج } : مبتدأ ، على حذف مضاف ، أي : إحرامُ الحج أو فعلُ الحج ، و { أشهر } : خبر ، وإذا وقع الزمان خبراً عن اسم معنى؛ فإن كان ذلك المعنى واقعاً في كل ذلك الزمان أو جُلِّه؛ تعيَّن رفعُه عند الكوفيين ، وترجح عند البصريين إذا كان الزمان نكرة ، نحو : السفر يوم . إن كان السفر واقعاً في جميع ذلك اليوم أو في جُلِّه؛ لأنه باستغراقه إياه صار كأنه هو ، ويصح : السفر يوماً ، أو في يوم . وإن كان ذلك المعنى واقعاً في بعض ذلك الزمان تعيَّن نصبُه أو جرَّه ف ( في ) ، نحو : السفر يوم الجمعة ، أو في يوم الجمعة وقد يرفع نادراً .
قال في التسهيل : ويُغني - أيْ : ظرف الزمان - عن خبر اسم معنى مطلقاً ، فإن وقع في جميعه ، أو في أكثره ، وكان نكرة ، رُفع غالباً ، ولا يمتنع نصبه ولا جره بفي خلافاً للكوفيين . وربما رُفع خبرُ الزمان المُوقَع في بعضه . ه . ومن ذلك : { الحج أشهر معلومات } فإن جُلّضها تصلح للإحرام .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقتُ إحرام الحج { أشهر معلومات } : شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن أحرم قبلها كره عند مالك ، وبطل عند الشافعي ، { فمن فرض } على نفسه { فيهن الحج } فيلزم الأدب والوقار ، ويجانبْ شهوة النساء ، { فلا } يقع منه { رفث } أي : جماع أو كلام فُحْش ، { ولا فسوق } أي : ذنوب ، { ولا جدال في } زمان { الحج } ولو مع المكاري أو الخُدّام ، ولا غيره من أنواع الخصام؛ فإنه في حضرة الملك العلام . { وما تفعلوا من خير } كحِلْم وصبر وحُسن خلق { يعلمه الله } فاستبقوا الخيرات ، وتزودوا قبل هجوم الممات ، واتقوا الله حق تقاته { فإن خير الزاد التقوى } . أو تزودوا لسفر الحج ، ولا تسافروا كَلاً على الناس؛ { فإن خير الزاد التقوى } عن الطمع في الخلق ، { واتقون يا أولي الألباب } ، وأفرِدُوني في سركم حتى أفتح لكم الباب ، وأدخلَكم مع الأحباب .
الإشارة : معاملة الأبدان مؤقتة بالأمكان والأزمان ، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص ، ولا مكان مخصوص ، فحجَ القلوب ، الأزمنةُ كلها له ميقات ، والأماكن كلها عرفات ، حج القلوب هو العلوب هو العكوف في حضرة علام الغيوب ، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الداوم على مَرِّ الليالي والأيام ، فكل وقت عندهم ليلة القدر ، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر ، وأنشدوا :
لولا شهودُ جمالكم في ذاتي ... ما كنتُ أَرْضَى ساعةً بِحَياتي
ما ليلةُ القدرُ الْمُعَظَّمُ شأنُها ... إلا إذا عَمَرَتْ بكُم أوقَاتِي
إن المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى ... والحبّ لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ
وقال آخر :
كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبِي ... قدْرُهُ كأَلْفِ حَجَّة
فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ ... وَلِموْلاَه تَوَجَّهْ
فمَنْ فَرض على قلبه حجَّ الحضرة فيلتزم الأدب والنظرة ، والسكوتَ والفكرة ، قال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] فلا رفث ولا فسوقَ ولا جدال ولا مراء ، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى ، وما تفعلوا من خير فليس على الله بخفي . وتزودوا بتقوى شهود السَّوَى ، { فإن خير الزاد التقوى } ، وجِمَاعُ التقوى هي مخالفة الهَوى ، ومحبة المولَى ، فهذه تقوى أولي الألباب؛ الذين صفَتْ مِرآة قلوبهم ، فأبصروا الرشد والصواب ، وبالله التوفيق .
(1/159)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ }
قلت : { أن تبتغوا } : على إسقاط حرف الجر ، أيْ : في أن تبتغوا ، وسبب نزول الآية : أن عُكاظاً ومَجَنّة وذا المجاز - أسماء مواضع - كانت أسواقاً في الجاهلية يعمرونها في مواسم الحج ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثَّمُوا وتحرجوا أن يتجروا فيها ، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله : { ليس عليكم جناح } أي : إثم أو ميل عن الصواب ، في { أن تبتغوا فضلاً من ربكم } أي : عطاء ورزقاً تستفيدونه من التجارة في مواسم حجكم ، إذا خلَصَتْ نيتكم ، وغلب قصدُ الحج على التجارة .
وها هنا قاعدةٌ ذكرها الغزالي في الإحياء وحاصلها : أن العمل إذا تمحَّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب ، وإذا تمحض الله خالصاً فهو سبب القرب والثواب ، وإذا امتزج بشوْب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث؛ فإن كان باعث الحظ أغلب ، سقط ، وكان إلى العقوبة أقرب ، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله ، وإن كان باعث التقرب أغلب ، حُط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ ، وإن تساوي تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه .
ثم قال : ويشهد لهذا إجماعُ الأمة على أن مَنْ خرج حاجّاً ومعه تجارة صحَّ حجه وأُثيب عليه . ثم قال : والصواب أنْ يقال : مهما كان الحج هو المحرّك الأصلي ، وكان غرضُ التجارة كالتابع ، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ، ثم طُرِّد هذا الاعتبار في الجهاد باعتبار الغنيمة ، يعني : يُنْظر لغالب الباعث وخُلوص القصد ، وكذلك الصوم للحِمْية والثواب ، ينظر لغالب الباعث .
قلت : وتطَّرد هذه القاعدة في المعاملات كلها ، وجميع الحركات والسكنات والحِرَف وسائر الأسباب ، فالخالص من الحظوظ مقبول ، والمتمحض للحظوظ مردود ، والمَشُوب يُنظر للغالب كما تقدم .
وقد ذكر شيه المشايخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال : إذا أكرم الله عبداً في حركاته وسكناته ، نصَب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه ، وجعله يتقلّب في عبوديته ، والحظوظ عنه مستورة ، مع جَرْي ما قُدِّر له ، ولا يلتفت إليها؛ لأنها في معزل عنه ، وإذا أهان الله عبداً في حركاته وسكناته ، نصب له حظوظ نفسه ، وستر عنه عبوديته ، فهو يتقلّب في شهواته ، وعبودية الله عنه بمعزلِ ، وإن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر ، قال : وهذا باب من الولاية والإهانة . وأما الصِّدِّيقية العظمى ، والولاية الكبرى ، فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوي البصيرة؛ لأنه بالله فيما يأخذ ويترك . ه .
الإشارة : العبد لا يستغني عن طلب الزيادة ، ولو بلغ من الكمال غاية النهاية ، فالقناعة من الله حرمان ، واعتقاد بلوغ النهاية نقصان ، فليس عليكم جناح أيها العارفون أن تبتغوا فضلاً من ربكم زيادة في إيقانكم ، وترَقِّياً في معانيكم ، إذ كمالات الحق لا نهاية لها ، وأسرار الذات لا إحاطة بها ، قال تعالى :
(1/160)

{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] . والله وليّ التوفيق .
ثم ذكر الحقّ تعالى الوقوف بعرفة ، والرجوع إلى المزدلفة والمشعر الحرام ، فقال :
{ . . . فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً . . . }
قلت : { أفضتُم } : دفعتم ، وأصل الإفاضة : الدفع بقوة ، من فاض الماء إذا نبَع بقوة ، ثم استُعمل في مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة . و { عرفات } فيه الصرف وعدمه ، كأذرعات . وسمى عرفات لقول إبراهيم الخليل عليه السلام لجبريل حين علَّمه المناسك : قد عرفتُ : أو لمعرفة آدم حواءَ فيها . والكاف في { كما هداكم } تعليلية ، و { ما } مصدرية ، أي : واذكروه لأجل هدايته لكم . و { إن كنتم } مخففة ، واللام فارقة ، وقوله : { أو أشد } نعت لمصدر محذوف ، أي : أو ذكراً أشد . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : فإذا وقفتم بعرفة ، وأفضتم منها ، فانزلوا المزدلفة وبيِتُوا بها ، فإذا صليتم الصبح بغلس فقفوا عند { المشعر الحرام } ، وهو جبل في آخر المزدلفة ، واذكروا الله عنده بالتهليل والتكبير والتلبية إلى الإسفار ، هكذا فعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، { واذكروه } لأجل ما هداكم إليه من معالم دينه ومناسك حجه ، وغير ذلك من شعائر الدين ، أو فاذكروه ذكراً حسناً هداكم هداية حسنة ، وقد كنتم من قبل هذه الهداية { لمن الضالين } .
وكانت قريش لا تقف مع الناس ترفعاً عليهم ، بل تقف بالمزدلفة ، فأمرهم الحق جلّ جلاله بالوقوف مع الناس ، فقال لهم : { ثم أفيضوا } يا معشر قريش { من حيث أفاض الناس } بأن تَقْضُوا معهم ، وتفيضوا من حيث أفاضوا ، { واستغفروا الله } في تغييركم مناسك إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلامَ - { إن الله غفور } لكم ، { رحيم } بكم إن تبتم ورجعتم واتبعتم رسولكم . { فإذا قضيتم مناسككم } وفرغتم من حجتكم { فاذكروا الله } ذكراً كثيراً { كذكركم آباءكم } أو ذكراً { أشد ذكراً } منهم ، حيث كنتم تَذْكُرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخَرة ، وكانوا إذا فرغوا من حجهم وقَفُوا بِمنى ، بين المسجد والجبل ، فيذكرون مفاخرة آبائهم ، ومحاسن أيامهم ، فأُمِرُوا أن يُبدلوا ذلك بذكر الله ، وذكر إحسانه إليهم ، وشكر ما أسداه إليهم من مفاخر الدنيا والآخرة ، إن آمنوا واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم .
الإشارة : إذا وقَفَت القلوبُ على جَبل عرفة المعارف ، وتمكنت من شهود جمال معاني تلك الزخارف ، حتى صارت تلك المعاني هي روحَها وسرَّها ، وإليها مآلها ومسيرُها ، أُمرتْ بالنزول إلى رض العبودية ، والقيام بوظائف الربوبية ، شكراً لما هداها إليه من معالم التحقيق ، وما أبان لها من منار الطريق ، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين .
(1/161)

ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشحباحهم ، وانفرادهم عنهم بأرواحهم ، أشباحُهم مع الخلق تسعى ، وأرواحهم في الملكوت ترعى ، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حِسّ؛ فليستغفروا الله { إن الله غفور رحيم } . ثم يقال لهم : فإذا قضيتم مناسككم ، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية في باطنكم ، والقيام بوظائف العبودية في ظاهركم ، فاذكروا الله على كل شيء ، وعند كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، حتى لا يبقى من الأثر شيء ، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم ، في حال غفلتكم ، بل أشد ذكراً وأعظم وأتم ، والله ذو الفضل العظيم .
ثم بيَّن الحقّ تعالى مقاصد الناس ، وهممهم في طلبهم وسعيهم ، فقال :
{ . . . فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب }
يقول الحقّ جلّ جلاله : في بيان مقاصد الناس وهممهم في طلبهم في الحج وغيره : { فمن الناس } من قصرت نيته وانحطت همته ، { يقول ربنا آتنا في الدنيا } ما تشتهيه نفوسنا من حظوظها وشهواتها ، وليس له { في الآخرة من خلاق } أي : نصيب ، لأنه عجَّل نصيبه في الدنيا . " إن الله يرزق العبد على قدر نيته " { ومنهم } من أراد كرامة الدنيا وشرف الآخرة { يقول ربنا آتنا في الدنيا } حالة { حسنة } ؛ كالمعرفة ، والعافية ، والمال الحلال ، والزوجة الحسنة ، وجميع أنواع الجمال ، { وفي الآخرة حسنة } ؛ كالنظرة ، والحُور العين ، والقصور ، جميع أنواع النعيم ، { وقنا عذاب النار } بالعفو والمغفر ، وقال سيّدنا عليٍّ - كرَّم الله وجهه - : ( الحسنة في الدنيا : المرأة الصالحة ، ، وفي الآخرة : الحَوْرَاء . وعذاب النار في الدنيا : المرأة السوء ) وقال الحسن : ( الحسنة في الدنيا : العلم والعبادة ، وفي الآخرة : الجنة ) . { وقنا عذاب النار } : احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار ، وهذه كلها أمثلة للحالة الحسنة .
{ أولئك } الذين طلبوا خيرَ الدارَيْن { لهم نصيب } وحظٍّ من الجزاء الوافر من أجلْ ما كسبوا من الأعمال الصالحات ، { والله سريع الحساب } يحاسب عباده على كثرتهم ، وكثرة أعمالهم ، في مقدار لَمْحة . قيل لعليّ رضي الله عنه : كيف يُحاسب اللّهُ عباده في ساعة واحدة؟ فقال : كما يرزقهم في ساعة واحدة . ه . أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب عباده ، فبادِرُوا إلى إغتنام الطاعات ، واكتساب الحسنات ، قبل هجوم الممات .
الإشارة : الناس ثلاثة : صاحب همة دَنِيَّة ، وذو همة متوسطة ، وصاحب همة عالية ، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية ، وأكبَّ على جمع حطامها الفانية ، فقلبُ هذا خالٍ من حب الحبيب ، فما له في الآخرة من نصيب . وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين ، وصلاح الحالين ، قد اشتغل في هذه الدار بما ينفعه في دار القرار ، ولم ينسَ نصيبه من الدنيا لِيقْضِي ما له فيها من الأوطار ، فهذا له في الدنيا حسنة ، وهي الكفاية والغنى ، وفي الآخرة حسنة ، وهي النعمة والسرور والهنا .
(1/162)

وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونَيْن ، وأغمض طَرْفَه عن الالتفات إلى الدارين ، بل علَّق همته بمولاه ، ولم يقنع بشيء سواه ، قد ولّى عن هذه الدار مُغضياً ، وأعرض عنها مُولياً ، ولم يشغله عن الله شيء ، يقول بلسان المقال إظهاراً لعبودية للكبير المتعال : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة } وهي النظرة والشهود ، ورضا الملك الودود ، { وفي الآخرة حسنة } وهي اللحوق بأهل الرفيق الأعلى ، من المقربين والأنبياء ، في حضرة الشهود المؤبد { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } . أتحفَنَا الله من ذلك بحظٍّ وافر ، بمنِّه وكرمه ، نحن وأحباءَنا أجمعين ، آمين .
(1/163)

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكروا الله في أيام معدودات } وهي ثاني النَّحْر وثالثُة ورابعُه ، وهي أيام التشريق وأيام منى ، وأما الأيام المعلومات فهي يوم النحر وثانِيه وثالثُه . والمراد بالذِكْر : التكبيرُ عند الرمي ، وذبحِ القَرَابين ، وخَلْفَ الصلواتِ الخمس ، وغير ذلك ، { فمن تعجل في يومين } بحيث رمَى ثانيَ النحر وثالثه ، ورجَع ، { فلا إثم عليه ومن تأخر } لرمى رابع النحر ، وهو ثالث أيام منى ، { فلا إثم عليه } ، والقصد بنفي الإثم : التخيير والرد على الجاهلية ، فإنَّ منهم مَن أَثم المتعجل ، ومنهم من أثم المتأخر . هذا كله { لمن اتقى } الله في حجه ، لم يرفُث ، ولم يفسُق ، فإنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، كما قال الصادق المصدوق ، { واتقوا الله } في جميع أموركم ، فإنه ذكرٌ وشرفٌ لكم ، { واعلموا أنكم إليه تحشرون } فتجازَوْن على ما أسلفتم من خير أو شر .
الإشارة : الأيام المعدودات هي أيام الدنيا؛ فإنها قلائل معدودة ، وهي كلها كيوم واحد ، وأيام البرزخ يومٌ ثانٍ ، وأيام البعث وما بعده يوم ثالث ، فمن تعجل في يومين ، بحيث طوى في نظره أيام الدنيا وأيام البرزخ ، وسكن بقلبه في يوم القيامة فلا إثم عليه ، وهذا هو صاحب الهمة المتوسطة ، ومن تأخر حتى زَهد في الأيام الثالثة ، وعلق همته بمولاه ، ولم يلتفت إلى ما سواه ، فلا إثم عليه في ذلك التأخر ، وإن اتقى شهود السوى ، وعلق عمته بمحبة المولى ، ثم حضّ سبحانه على هذه التقوى فقال : { واتقوا الله } فلا تشهدوا معه سواه ، { واعلموا أنكم إليه تحشرون } فترَوْا ما فاز به المتقون .
(1/164)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
قلت : نزلت الآية في الأخنَسْ بن شريق الثقفي وصُهيب بن سنان الرومي ، أما الأخنس فكان رجلاً حسن المنظر ، حُلُو المنطق ، كان يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدَّعي الإسلام ، ثم ارتد ، ومرَّ على زرع وحُمر للمسلمين فقتلها وأفسد الزرع ، قال ابن عطية : ولم يثبت أنه أسلم . قلت : بل ذكره في القاموس من الصحابة ، فانظره ، ولعله تاب بعد نزول الآية . وأما صهيب الرومي فأخذه المشركون وعذبوه ليرتد ، فقال لهم : إني شيخ كبير؛ لا أنفعكم إن كنت معكم ، ولا أضركم إن كنت عليكم ، فخلّوني وما أنا عليه ، وخذوا مالي ، فقبلوه منه ، وأتى المدينة فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " رَبِحْتَ يا أَبَا يَحْيى " .
وقيل : نزلت في المنافقين ومَنْ نحَا نحوهم ، وفيمن باع نفسه لله في الجهاد وتغيير المنكر من المسلمين . و { في الحياة الدنيا } يتعلق بالقول ، و { ألد الخصام } شديده ، وفي الحديث : " أبْغَضُ الرِّجالِ إلى اللّهِ الألدُّ الخَصِم " والخِصام : مصدر ، أو جمع خصيم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن الناس } قوم حُلْ اللسان خرَاب الجَنَان ، إذا تكلم في شأن الدنيا { يعجبك قوله } فيها لرونقه وفصاحته ، { ويُشهد الله } أي : يحلف على أنه موافق لقلبه ، وأن ظاهره موافق لباطنه ، وهو شديد الخصومة والعدواة للمسلمين ، أو أشد الخصوم ، { وإذا تولى } أي : أدبر وانصرف عنك ، { سعى في الأرض } أي : مشى فيها بنية الإفساد { ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } كما فعل الأخنَسْ ، أو كما فعله أهل الظلم ، فيَحْبِسُ الله القَطْر ، فَيَهْلِكَ الحرثُ والنسل بشؤم معاصيهم ، { والله لا يحب الفساد } أي : لا يرتضيه ، فاحذروا غضبه . { وإذا قيل له اتق الله } وارجع عما أنت عليه من الفساد { أخذته العزة } أي : حملته الحمية والأنفة بسبب الإثم الذي ارتكبه ، فلا ينزجر عن غَيِّه . أو حملَتْه الحمية على الإثم الذي يُؤمَر باتقائه . { فحسبه جهنم } أي : كَفَته عذاباً وعقاباً ، وهي عَلَمٌ لدار العقاب ، كالنار ، { ولبئس المهاد } هي : أي : بئس الفراش الذي مهَّده لنفسه .
ونزل في مقابله ، وهو صهيب ، أو كل من بذل نفسه لله : { ونم الناس من يشري نفسه } أي : يبيعُها ويبذلها لله في الجهاد وغيره ، { ابتغاء مرضات الله } والوصول إلى حضرته { والله رؤوف بالعباد } الذين يفعلون مثل هذا ، فيدرأ عنهم المضَارّ ، ويجلبُ لهم المَسَار أينما حَلُّوا من الدارين .
الإشارة : الناس على قسمين : قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم ، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح ، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس ، أعجبَك قولهم ، وراقك منظرُهم ، وإذا تكلموا في الآخرة ، أو في المعنى ، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة . وفي بعض الكتب المنزلة : " إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين ، يَقُولُ الله تعالى : أبِي يَغْتَرُّونَ ، وعليَّ يَجْترِئُون؟ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ " .
(1/165)

وقوله : { يلبسون . . . } الخ . كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا ، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه ، وهو شديد الخصومة لأهل الله ، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب ، ليُفسد في الأرض ، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه ، وإذا ذُكِّر : أنِفَ واستكبر ، وأخذته حمية الجاهلية ، فحسبُه البُعد في نار القطيعة .
والقسم الثاني : قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم ، عمّروا قلوبهم بمحبة الله ، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله ، قلوبهم في أعلى عليين ، وأشباحهم في أسفل سافلين ، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين . قال بعض العارفين : كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً ، سما قلبك سماء سماء ، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك . وفي الحديث : " مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره " وبالله التوفيق .
(1/166)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
قلت : { السلم } ، بالفتح والكسر : هو الاستسلام والانقياد ، ويبعد هنا تفسيره بالصُّلْح ، و { كافة } : حال من الواو والسلم معاً ، كقوله تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [ مريَم : 27 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب { ادخلوا في } شرائع الإسلام { كافة } بحيث لا تهملوا شيئاً منها ، ولا تلتفتوا إلى غيرها ، نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، حيث دخلوا في اسلام ، وأرادوا أن يُعظّموا السبت ، وتحرجوا من لحوم الإبل . أو في المنافقين حيث أسلموا في الظاهر ، ونافقوا في الباطن ، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } في الظاهر ، ادخلوا في الإسلام { كافة } ظاهراً وباطناً . أو في المسلمين يأمرهم بالتمسك بشرائع الإٍلام كلها ، والبحث عن أحكامها وأسرارها ، { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي : طُرُقَه الدالة على التفريق والتفرق؛ { إنه لكم عدو مبين } أي : بيّن العداوة .
{ فإن زللتم } عن طريق الجادَّة؛ ففرقتم بين أجزاء الشريعة ، أو التفتُّم إلى غير شريعتكم ، { من بعد ما جاءتكم } الآيات { البينات } الدالّة على صحة الدين ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، { فاعلموا أن الله عزيز } أي : غالب لا يُعجزه عقابكم ، { حكيم } في إمهاله إلى وقت معلوم .
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله جميعَ بالصلح معه والاستسلام لأحكامه ، بحيث لا يَصْدُر منهم نِزَاعٌ لأحكامه ، ولا اعتراض على أفعاله ، بل يَنظرون ما يبرز من عنصر القدرة ، فيتلقونه بالرضى والتسليم ، أو الصبر والتصبر ، سواء ظهرت هذه الأفعال على أيدي الوسائط أو بلا وسائط ، إذ لا فاعل سواه ، وكلٍّ من عند الله ، فإن زللتم واعترضتم ، أو سخطتم ، من بعد ما جاءتكم الآيات البيّنات الدالة على وحدانية الحق في ذاته وصفاته وأفعاله ، فاعلموا أن الله عزيز حكيم ، لا يعجزه عقوبتكم وإبعادكم ، لكنه من حكمته يُمهل ولا يهمل ، والله غالب على أمره ، ومن تاب تاب الله عليه .
(1/167)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
قلت : { الظُّلَل } : جمع ظُلَّه ، وهي ما أظلَّك من فوق ، و { الغَمام } : السحاب الرفيق الأبيض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ما ينتظر هؤلاء الممتنعون من الدخول في شرائع الإسلام - إلا أن تقوم الساعة ، ويأتيهم الله للفصل بين عباده { في ظلل من الغمام } ، بأن يتجلّى لعباده على ما يليق بجلاله؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر . وتأتيهم { الملائكة } تحيط بهم { وقضي الأمر } بعذابهم ، { وإلى الله ترجع الأمور } كلها ، فهو المتصرف وحده . وقد ذكر المنذري حديث هذا التجلّي بطوله ، وذكر فيه النزول والفصل بين عباده ، والمرور على الصراط ، والناس في أنار إيمانهم . وذكره الفاسي في الحاشية بتمامه . ومن كحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص ، لم يُسْتَصْعَبْ عليه فَهْمُ هذا الحديث وأمثاله؛ لسعة دائرة معرفته . والله تعالى أعلم .
الإشارة : في الآية تهديد لأهل الحجاب الذين لم يتحققوا بالصلح مع الله ، بل هم يخاصمون الله في مظاهر خلقه ، ويعترضون على الله في قضائه وحكمه ، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله : هل ينتظر هؤلاء المنكرون عليَّ في أفعالي ، المعترضون عليَّ في حكمي وإبرامي - إلا أن أتعرف لهم في ظُلل من الغمام ، وهو سحب الآثار ، فإذا أنكروني أخذتهم الملائكةُ ، وقضي الأمر بهلاكهم ، وإلى الله تُرجع الأمور كلها ، فليلتزم العبد الأدب مع مولاه ، وليُسلم الأمور كلها إلى الله ، إذ لا موجود سواه ، فما برز من العباد : كله من الله ، فمن اشتغل بعتابهم فاته الأدب مع الله ، إلا ما أمرتْ به الشريعة ، فليكن في ذلك كالعبد يُؤدب ابنَ سيده؛ يده تؤدب وقلبه يعظم ، والله تعالى أعلم وأرحم .
(1/168)

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
قلت : { كم } خبرية ، أو استفهامية ، محلها نصب بفعل محذوف يُقدر مؤخراً للصدرية ، أي : كم آياتنا آتيناهم ، أو رفع بالابتداء ، والعائد محذوف ، أي : آتيناهموه .
يقول الحقّ جلّ جلاله لرسوله - عليه الصلاة والسلام - أو لكل سامع : { سل بني إسرائيل } سؤال تقريع ، وقل لهم : { كم أتيناهم من آية بينة } أي : كثيراً ما آتيناهم من آية واضحة في شأنك ، تدل على صدق رسالتك وعلو شأنك وفخامة أمرك ، اعتناء بأمرهم ، ونعمة على مَنْ أدرك زمانك منهم . ثم إنهم بدلوا نعمة الله كفراً ، وجحدوا فكتموا تلك النعمة وكفروها ، { ومن يبدل نعمة الله } من بعد مجيئها إياه ، { فإن الله شديد العقاب } لمن كفر نعمه وجحد رسله ، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء ، ومن كفران النعم ، وحرمان الرضا .
الإشارة : ما قيل لبني إسرائيل ، يقال لمن تحقق بولاية ولي من أولياء الله ، ثم جحدها وكتمها ، وحرّم نفسه بركة ذلك الولي ، فمات على مرضه ، فيقال له : { ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب } . وعقوبته : أن يلقى الله بقلب سقيم ، فيُبعث مع عوام أهل اليمين ، ويُحرم درجة المقربين ، التي تلي درجة النبيين والمرسلين . عائذاً بالله من الحرمان ، وشُؤمِ عاقبةِ الخذلان .
ثم ذكر الحقّ جلّ جلاله سبب هذا الحرمان ، وهو حب الدنيا .
(1/169)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
قلت : { زُين } مبني للمفعول ، والفاعل هو الله ، إذ لا فاعل سواه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { زيّن للذين كفروا } من اهل الكتاب وغيرهم ، { الحياة الدنيا } أي : حُسِّنَتْ في أعينهم ، وأُشربت محبتها في قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها ، واعرضوا عن غيرها ، فلم تتفرغ قلوبهم للتفكر والاعتبار ، ولم تستمع آذانهم للوعظ والتذكار ، بل أعمتهم ، وأصمّتهم ، وقصروا عليها همتهم ، حتى جعلوا يسخرون ممن أعرض عنها ، كفقراء المسلمين وأهل الصفة ، فكانوا يستهزئون بهم ، حيث رفضوا الدنيا وأقبلوا على الله ، فرفعهم الله في أعلى عليين ، وخفض الكفار في أسفل سافلين . فهم يسخرون منهم في دار الدنيا { والذين اتقَوْا فوقَهم يومَ القيامة } لأنهم في عليين ، والآخرين في أسفل سافلين . أو لأنهم في كرامة ، والآخرون في مذلة . أو لأنهم يسخرون منهم يوم القيامة كما سخروا منهم في الدنيا .
وعبَّر بالتقوى لأنها سبب رفعهم واستعلائهم . وأما استهزاؤهم بهم لأجل فقرهم ، فإن الفقر شرف للعبد ، والبسط في الدنيا على شرفه؛ فقد يكون استدراجاً ، وقد يكون عوناً ، فالله { يرزق مَن يشاء بغير حساب } ، أي : بغير تقدير ، فيوسع في الدنيا استدراجاً وابتلاء ، ويقتر على مَي يشاء اختباراً وتمحيصاً ، { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُون } [ الأنبيَاء : 23 ] .
الإشارة : اعلم أن عمل أهل الباطن كله باطني قلبي ، بين تفكر واعتبار ، وشهور واستبصار ، أو نقول : بين فكرة ونظرة وعكوف في الحضرة ، فلا يظهرون من أعمالهم إلا المهم من الواجبات ، ولذلك قال بعضهم : إذا وصل العمل إلى القلوب استراحت الجوارح ، ( ومعلوم أن الذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح ) ؛ لأن أعمال القلوب خفية ، لا يطلع عليها ملك فيكتبها ، ولا شيطان فيفسدها ، الإخلاص فيها محقق . وأيضاً : " تفكر ساعة أفضل من عبادة ستين سنة " . وسئل - عليه الصلاة والسلام - : " أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ؟ قال : " العلْمُ بالله " قيلَ : يا رسُولَ الله سَأَلْنَاكَ عن العَمَل؟ فقال : " العلمُ بالله " ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " إذا حَصَلَ العلمُ بالله كَفَى قلِيلُ العَملِ " أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، " فلما خفيت أعمال أهل الباطن سخر منهم أهل الظاهر ، واستصغروا شأنهم؛ حيث لم يروا عليهم من الأعمال ما رأوا على العُبَّاد والزُهاد . والذين اتقوا شهود ما سوى الله ، أو كل ما يشغل عن الله ، فوقهم يوم القيامة؛ لأنهم من المقربين وغيرهم من عوام المسلمين ، والله يرزق من يشاء في الدارين بغير حساب ، أي : بغير تقدير ولا حصر ، فيرزق العلوم ، ويفتح مخازن الفهوم على مَن توجه إلى مولاه ، وفرغ قلبه مما سواه " وبالله التوفيق .
(1/170)

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قلت : { فبعث } معطوف على محذوف ، أي : فاختلفوا فبعث ، و { بغياً } : مفعول له ، و { من الحق } بيان { لما } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { كان الناس } في زمن آدم عليه السلام وما قرُب منه { أمة واحدة } أي : جماعة واحدة ، متفقة على التوحيد ، والطاعة ، فاختلفوا بعد ذلك في أمر التوحيد ، { فبعث الله النبيين مبشرين } لأهل التوحيد والطاعة بالنعيم المقيم ، { ومنذرين } أي : مخوفين لأهل الكفر والعصيان بالعذاب الأليم .
{ وأنزل معهم الكتاب } أي : جنب الكتب ، فيشمل الكتب السماوية كلها ، متلبساً ذلك الكتاب { بالحق } ، ودالاً عليه { ليحكم } الحق تعالى على لسان الرسل { بين الناس } في الأمر الذي { اختلفوا فيه } من أمر التوحيد وغيره . ثم اختلفوا أيضاً في الكتب المنزلة؛ فبعضهم آمن ، وبعضهم كفر بها أو ببعضها ، { وما اختلف فيه } أي : في الكتاب المنزل : { إلا الذين اوتوه } حسداً أو كبراً؛ فاليهود آمنوا بالتوراة وكفروا بالإنجيل ، والنصارى آمنوا بالإنجيل وكفروا بالتوراة ، { من بعد ما جاءتهم } : الآيات الواضحات في صحة ذلك الكتاب الذي كفروا به ، والأمر بالإيمان به .
وإنما وقع ذلك الكفر منهم { بغياً } وحسداً { بينهم } ، فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته ، فأمرهم أن يتألفوا بالعلم ، فتحاسدوا ، واختلفوا طلباً للرئاسة والجاه ، { فهدى الله الذين آمنوا } بمحمد - عليه الصلاة والسلام - للأمر الذي اختلف فيه أهل الكتاب ، وهو الحق الذي جاءت به الرسل ، فآمنوا بالجميع ، وتآلفوا على طاعة الله { بإذنه } وإرادته ، { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ، ويضل من يشاء عن طريقه القويم ، { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبيَاء : 23 ] .
الإشارة : الإصل في الأرواح كلها ، الاتفاقُ والإقرار ، وإنما حصل لها الخلاف والإنكار بعد دخولها في عالم الأشباح ، وهبوطها من عالم الأرواح ، فبعث الله النبيين يُذكْرون الناس العهدَ القديم ، فمن سبقت له السعادة حصل له الإقرار ، ومن سبق له الشقاء حصل له الإنكار ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام- : " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد على الْفطْرةِ ، فضأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصّرَانِهِ أوْ يُمَجِّسَانِهِ " ثم بعث الله الحكما ، وهم العارفون بالله ، يعالجون ما حصل للروح من الجهل والإنكار ، فمن سبقت له العناية آمن بهم ، وصدقهم ، واستسلم بكليته إليهم ، فحصل له الوصول ، وبلغ كل المأمول ، ومن سبق له الحرمان لم يحصل له بهم إيمان ، وبقي دائماً في قلبه حيران .
وما وقع هذا الإنكار في الغالب إلا من أهل الرئاسة والجاه ، أو من كان عبداً لدنياه وهواه بغياً وحسداً منهم ، فهدى الله الذين آمنوا - وهم أهل الفطرة والنيّة - لما اختلفوا فيهم من الحق بإذنه ، فحصل لهم التصديق ، ووصلوا إلى عين التحقيق ، { والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم } وهو طريق الوصول إلى الحضرة القدسية التي كانت مقرّاً للأرواح الزكية ، منها جاءت وإليها عادت . وفي ذلك يقول ابن البنا رضي الله عنه :
وَهَذِهِ الحَقِيقَةُ النَّفْسِيَّةْ ... مَوْصُولةٌ بالحَضْرَةِ القُدْسِيَّهْ
وَإِنَّمَا يَعْوقُهَا المَوْضُوعُ ... وَمِنْ هُنَا يُبْتَدأُ الطُّلُوعُ
ولمّا كانت المحبة والهداية إلى أسبابها مقرنتين بالبلاء ذكره الحق تعالى بإثر الهداية .
(1/171)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
قلت : { أم } منقطعة بمعنى بل ، وتتضمن استفهاماً إنكاريّاً ، و " حسب " تتعدى إلى مفعولين ، أي : أظننتم دخول الجنة حاصلاً من غير أن يأتيكم؟ . و { لما } أصلها { لم } زيدت عليها " ما " وهي تدل على توقع منفيها بخلاف لم . و { حتى يقول } يصح فيه النصب { أن } ؛ لأن الزلزلة متقدمة على قول الرسول ، والرفع على حكاية الحال ، أي : وزلزلوا حتى حالتهم حينئذٍ أن الرسول ومن معه يقولون كذا وكذا . وفائدة الحكاية : فرض ما كان واقعاً في الزمان الماضي واقعاً في هذا الزمان ، تصوّراً لتلك الحال العجيبة ، واستحضاراً لصورتها في مشاهدة السامع ، وإنما وجب رفعه عند إرادة الحال؛ لأنه نصبه يؤدي إلى تقدير { أن } ، وهي للاستقبال ، والحال يُنافيه ، ويصح في موضع " حتى " الداخلة على الحال الفاء السببية .
يقول الحقّ جل جلاله للرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين ، تسلية لهم وتشجيعاً لقلوبهم : أظننتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يُصبكم مثلُ ما أصاب مَنْ قبلَكم من الأنبياء وأممهم ، فقد { مسّتهم البأساء } في أموالهم بالغصب والنهب والموت { والضراء } وفي أبدانهم بالتقل في الحرب والمرض وأنواع البلاء ، { وزلزلوا } أي : ضُربوا بالمحن والشدائد ، وطال عليهم البلاء ، وتأخر عنهم النصر ، حتى أفضى بهم الحال إلى أن قالوا : { متى } يأتينا { نصر الله } ؟ استبطاء لمجيئه مع شدة البلاء .
قال الحقّ جلّ جلاله بشارةً لهم : { ألا إن نصر الله قريب } فلا تستعجلوا ، { وَاصْبِرُواْ إِنَ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفَال : 46 ] ، { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعرَاف : 128 ] .
الإشارة : الجنة حفت بالمكاره ، ولا فرق بين جنة الزخارف وجنة المعارف ، فمن رام دخول جنة المعارف قبل أن يمسه شيء من المكاره ، فقد رام المحال . قال أبو المواهب : من ادعى شهود الجمال ، قبل تأدبه بالجلال ، فارفضه فإنه دجال . وقال بعض العارفين : [ صيحة العدو سوط الله يزجر به قلوب أوليائه لئلا تسكن إلى غيره } . وفي الحكم : " إنما أَجْرَى الأذى عيلهم كي لا تكونَ ساكناً إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شيء حتى لا تكون ساكناً إلى شيء " . وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : " اللهمَّ إنَّ القوم قَد حكَمْتَ عليهم بالذل حتى عزُّوا ، وحكمت عليهم بالفقْدِ حتى وَجَدُوا } . فتسليط الخلق على أولياء الله في بدايتهم سنة ماضية ، وحكمة إلهية ، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزَاب : 62 ] .
حتى إذا تخلصوا من البقايا ، وكملت فيهم المزايا ، نشر فضيلهم لعباده ، فأقروهم ليُعرفُوهم الطريق إلى الله ، ويدلوا العباد على الله ، بعد أن كساهم حينئذٍ كُسوة الجمال وكسوة الجلال ، فبكسوة الجمال يقع الائتلاف عليهم والعطف لهم ، وبكسوة الجلال يقع الامتثال لأمرهم والاستماع لقولهم . والله تعالى أعلم .
ولمّا أمر الحق تعالى بالنفقة في الجهاد وغيره ، سألوا ما الذي ينفقون؟ ، فبيَّن الله تعالى لهم المنفَق والمحل الذي تُدفع فيه .
(1/172)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قلت : { ماذا } إما مفعول { يُنفقون } ، أو مبتدأ وخبر بحذف العائد ، أي : ما الذي ينفقونه ، والسائل هو عمرو بن الجُموح ، كان ذا مال فقال : يا رسول الله ، ماذا ننفق من أموالنا ، وأين نضعها؟ فنزلت الآية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يسالونك } يا محمد { ماذا ينفقون } من أموالهم؟ { قل } لهم : { ما أنفقتم من خير } أيّ خير كان ، ذهباً أو فضة أو طعاماً أو ثياباً أو حيواناً أو غير ذلك ، فادفعوه للأهمّ فالأهم؛ كالوالدين والأقربين؛ لأن فيهم الصلة والصدقة ، { واليتامى } الذين مات آباؤهم؛ لهضم حالهم ، { والمساكين } ؛ لضعفهم ، { وابن السبيل } ؛ لغربته واحتياجه إلى ما يُبلِّغه إلى وطنه ، { وما تفعلوا من خير } يجازيكم به الله ، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم ، وهذه النفقة غير الزكاة ، فلا نسخ في الآية . الله تعالى أعلم .
الإشارة : الإنفاق على قسمين : حسيّ ومعنوي ، والإنفاق الحسيّ هو بذل الأموال والفلوس ، والإنفاق المعنوي هو بذل الأرواح والنفوس ، فمن بذل أمواله لله عوضه الله جنة الزخارف ، ومن بذل نفسه لله عوضه الله جنة المعارف ، ومن دخل جنة المعارف لا يشتاق إلى جنة الزخارف ، وكما أن لنفقة الأموال محلاً تُصرف يه ، كما ذكره الحقّ تعالى هنا ، كذك لنفقة النفوس محل تصرف فيه؛ وهو خدمة الشيوخ العارفين بالله ، والإخوان الذين يستعين بهم على الوصول إلى الله ، وكذلك من احتاج إليه من اليتامى الذين لا شيخ لهم ، فيرشدهم وينصحهم ، والمساكين الضعفاء الذي لا قدرة لهم على مجاهدة نفوسهم ، فيقويهم بحاله أو مقاله ، والغريب الذي انفرد عن الإخوان ، ولم يجد ما يستعين به على سيره فيرشده إلى الصحبة والاجتماع بأهل المحبة ، وإلى هذا المنزع أشار الشيخ أبو مدين ري الله عنه :
وَبالتغنِّي عَلى الإخوَانِ جُدْ أبَدا ... حِسّاً ومعنىً ، وغُضَّ الطَّرْفَ إنْ عَثَرَا
ولمّا ذكر الحقّ جلّ جلاله قواعد الإسلام ، وهي الصلاةُ والزكاة والصوم والحج ، بعد أن أشار إلى كلمة التوحيد بقوله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ البَقَرَة : 163 ] ، ذكر الجهاد - الذي هو حفظ نظامه -
(1/173)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
قلت : الكره - بالضم - : اسم لما يَشُقُّ على النفس ، وبالفتح المَصْدَر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : فُرض عليكم الجهاد ، وهو شاق عليكم ، تكرهه نفوسكم ، وفيه خير كبير لكم ، { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } ، ففي الجهاد نصر دينكم ، وإعلاء كلمة إسلامكم ، والغنيمة والظّفْرُ بعدوكم ، والأجر الكبير عند ربكم ، من مات كان شهيداً ، ومن عاش عاش سعيداً ، وكذلك بقية التكاليف ، فإن النفس تكره الإقدام عليها ، وهي مَنَاط صلاحها ، وسبب فلاحها ، { وعسى أن تُحبوا شيئاً وهو شرك لكم } فقد تحبون الراحة وترك الجهاد وفي ذلك ذُلُّكُمْ ، وظهورُ العدو عليكم ، وفوات الأجر من ربكم ، وحرمان درجة الشهادة عند ربكم . وكذلك جميع المنهيات؛ فإن النفس تحبها بالطبع ، وتَشْرَهُ إليها ، وهي تُفضي بها إلى ذلها وهوانها ، وعبَّر الحقّ سبحانه بعسى؛ لأن النفس إذا ارتاضت انعكس الأمر عليها ، فيخف عليها أمر الطاعة ، ويصعب عليها أمر المخالفة ، { والله يعلم } ما فيه مصلحتكم ، { وأنتم لا تعلمون } ؛ لجهلكم بعواقب أموركم .
الإشارة : الجهاد على قسمين : جهاد أصغر وهو جهاد السيف ، وجهاد أكبر وهو جهاد النفس ، فيجاهدها أولاً في القيام بجميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات ، ثم يجاهدها ثانياً في ترك العوائد والشهوات ، ومجانبة الرخص والتأويلات ، ثم يجاهدها ثالثاً في ترك التدبير والاختيار ، والسكون تحت مجاري الأقدار ، حتى لا تختار إلا ما اختار الحق تعالى لها ، ولا تشتهي إلا ما يقضي الله عليها ، فإن النفس جاهلة بالعواقب ، فعسى أن تكره شيئاً وهو خير لها ، وعسى أن تحب شيئاً وهو شر لها .
فعسى أن تأتيها المسار من حيث تعتقد المضارّ ، وعسى أن تأتيها المضار من حيث ترجو المسار ، وعسى أن تنفع على أيدي الأعداء ، وعسى أن تضر على أيدي الأحباء ، وعسى أن تكره الموت وهو خير لها ، وعسى أن تحب الحياة وهي شر لها ، فالواجب تسليم الأمور إلى خالقها ، الذي هو عالم بمصالحها ، { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ، وهذا كله قبل تصفيتها وكمالها ، وأما إذا تهذبت وكملت رياضتها ، فالواجب اتباع ما يتجلى فيها ، إذ لا يتجلى فيها إلا الحق ، وهذا هو ثمرة الجهاد الأكبر ، وأما الجهاد الأصغر فلا يحصل شيء من هذا ، فلذلك كان مفضولاً عند الجهاد الأكبر ، وبالله التوفيق .
ولما كان القتال محرماً في الأشهر الحرم في أول الإسلام ، ووقع من بعض الصحابة ، فندموا وتحرجوا ، أزال الله ذلك الحرج عنهم .
(1/174)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
قلت : { قتال } : بدل اشتمال من { الشهر الحرام } ، وقد وقع خبط في عطف { المسجد الحرام } ، والصواب : ما قاله الزمخشري وابن عطية أنه عطف على { السبيل } ؛ إذ هو المتبادر من جهة المعنى أي : وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام أكبر جرماً من قتل السَّرِية في الشهر الحرام ، والقواعد النحوية إنما هي أغلبية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يسألونك } يا محمد { عن الشهر الحرام } أي : عن القتال في الأشهر الحرام ، { قل } لهم : القتالُ في الشعر الحرام أمره { كبير } ، لكن ما وقع من الكفار من صد الناس { عن سبيل الله } أي : منعهم من الإسلام والطاعة ، وكذلك كفرهم بالله وصدهم المسلمين عن { المسجد الحرام } عام الحديبية ، وإخراج المسلمين من مكة التي هي بلدهم - { والفتنة } التي هم فيها من الكفر ، وافتتان الناس عن دينهم - { أكبر } جرماً من القتال الذي وقع في الشهر الحرام تأويلاً وظنّاً أنه لم يدخل الشهر الحرام .
وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سريةً وأمَّر عيلها عبد الله بنَ جَحْش في آخر جُمَادى الآخِرَةِ ، فَلَقُوا عمرو بن الحضرمي ، مع أناس من قريش ، بعد غروب الشمس من جمادى الآخرة ، فرموا عمراً فقتلوه ، وأخذواو الغنيمة ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : " لم آمركم أن تقتلوا في الشهر الحرام " فندموا ، وبعثت قريش بالعتاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم : كيف تستحل القتال في الشهر الحرام؟ فنزلت هذه الآية . ثم نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } [ التّوبَة : 36 ] .
ثم قال الحقّ جلّ جلاله في التحذير من الكفار : { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } ، لكن لا يطيقون ذلك ، { ومن يرتدد منكم عن دينه } ويستمر عليه حتى يموت { وهو كافر فأولئك حَبِطَتْ أعمالهُم في الدنيا } فلا حرمة له ، ولا نصيب له في الفيء والغنيمة ، وفي { الآخرة } فلا يرى لها ثواباً ، { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
ومفهوم الآية : أنه إن رجع قبل الموت لا يحبَط عملُه ، وهو قول الشافعي . وقال مالك : يحبط أجر كل ما عمل ، ويعيد الحج ، إن تقدم على الردة ، ويقبل منه الإسلام إن رجع ، فإنْ لم يرجع أمهل ثلاثة أيام ، ثم يقتل .
ولمّا نزلت الآية في إسقاط الحرج ، ظنوا أنه لا أجر لهم في ذلك الجهاد ، فأنزل الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله } أي ثوابه ، { والله غفور } لهم { رحيم } بهم ، فلا يضيع جهادهم في هذه السرِيَّة ، وأعاد الموصول لتعظيم شأن الهجرة والجهاد ، وعبَّر بالرجاء إشعاراً بأن العمل غير موجب للثواب ، وإنما هو عبودية ، والأمر بيد الله؛ إن شاء أثاب وإن شاء عاقب ،
(1/175)

{ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبيَاء : 23 ] .
الإشارة : تعظيم الزمان والمكان يكون بقدر ما يقع فيه من طاعة الملك الديان ، فالزمان الذي تهب فيه نفحات القبول والإقبال ، لا ينبغي أن يقع فيه ملاججة ولا قتال ، وهو وقت حضرة الذكر ، أو التذكير ، أو الجلوس مع العارفين أهل الإكسير ، فسوء الأدب فيه أمره كبير ، ومنع القاصدين من وصوله جُرمه كبير ، وصد القلوب عن نفحات تلك الحضرة أكبر من كل كبير ، ولا يزال قُطَّاع هذه الطريق يردون من أراد سلوكها على التحقيق ، لكن من سبق له التأييد لا يرده عن الحق جبار ولا عنيد ، ومن سبق له الحرمان ، وحَكم عليه القضاءُ بالخذلان ، رجع ولو بعد العيان ، وأنشدوا :
والله ما نَشْكُرْ خَلِيعْ ... وإنْ ثَمِلْ وإن صَحَا
وإن ثَبَتْ ، سَيْرٌ سَرِيعْ ... وإن شَرِبْ حَتَّى امْتَحا
حَتى يُقَطَّعْ في القَطيعْ ... ويَدُورْ دَوْرَ الرَحَا
إن الذين آمنوا وصدَّقُوا بطريق الله ، وهاجروا أهواءهم في مرضاة الله ، وجاهدوا نفوسهم في محبة الله ، أولئك يرجون رحمة الله ، فلا يُخيبهم الكريم؛ لأنه غفور رحيم .
ولمّا كان الخمر حلالاً في أول الإسلام ، وكانوا يشربونه ، ويتِّجُرون فيه ، فيتصدقون بثمنه وبثمن القمار ، بيَّن الحقّ تعالى ذلك ، بعد الأمر بالإنفاق؛ لئلا يقع التساهل في المعاملة بعلَّة الصدقة .
(1/176)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا . . . }
قلت : الخمر في اللغة : ما يستر الشيء ويغطيه ، ومنه : خمار المرأة ، وسُمِّي الخمر خمراً لستره العقلَ . وفي الاصطلاح : ما غَيّب العقل دون الحواس مع النَّشْوة والطرَب . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ مُسْكرٍ خَمْرٍ وكُلُّ خَمْر ، حَرَامٌ " .
والميسر : قال ابن عباس والحسن : كل قمار ميسر ، من شطرنج ونرْد ونحوه ، حتى لَعِب الصبيان بالجَوْز والكِعَاب ، إذا كان بالفُلوس ، وسمي ميسراً ليُسْر صاحبه بالمال الذي يأخذه ، وأما إذا كان بغير عِوض ، إنما هو لَعِبٍّ فقط ، فلا بأس . قاله ابن عرفة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يسألونك عن } حكم { الخمر والميسر قل } لهم : { فيهما إثم كبير } أي : عظيم لما في المسير من أكل أموال الناس بالباطل ، وما ينشأ عنه من العداوة والشحناء ، وما في الخمر من إذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية ، والتعدّي الذي يكون من شاربه . وقرأ حمزة والكسائي : { كثير } بالمثلثة ، أي : آثام كثيرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " لَعَنَ اللّهُ الخَمْرَ ، وَبَائِعِهَا ، وَمُبْتَاعَهَا ، والمُشتَرَاة لَهُ ، وعَاصَرَهَا ، والمَعْصُورَةَ لَه ، وسَاقِيها ، وشَاربهَا ، وحَامِلهَا ، والْمْحمُولة لَهُ ، وآكل ثَمِنِها " فهذه آثام ، وفيها { منافعٍ للناس } أي : منافع دنيوية؛ ككسب المال بلا تعب ، وإطعام الفقراء من كسبه ، كما كانت تصنع العرب في الميسر ، وفي الخمر اللذة والنشوة ، كما قال حسان رضي الله عنه :
ونَشْرَبُها فَتَتْرُكنا مُلوكاً ... وأُسداً لا يُنهْنِهُنا اللقَاءُ
{ وإثمهما أكثر من نفعهما } ؛ لأن منفعتهما دنيوية ، وعقوبة إثمهما أُخروية ، وهذه الآية نزلت قبل التحريم . رُويَ أنه لما نزل بمكة قوله تعالى : { وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقًاً حَسَناً } [ النّحل : 67 ] ، أخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمرَ ومعاذاً في نفر من الصحابة ، قالوا : أفْتنا يا رسول الله في الخمر؛ فإنها مُذهبة للعقل ، فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبدُ الرحمن بن عوف ناساً إلى داره ، فشربوا وسكروا ، ثم قام يصلي بهم فقرأ : { قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافِرون : 1 ، 2 ] ؛ من غير نفي ، فنزلت : { . . . لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى . . . } [ النِّساء : 43 ] فاجتنبُوها في أوقات الصلاة . ثم دعا عتبانُ بنُ مالك سعدَ بن أبي وقاص في جماعة ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعدُ شعراً فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجَّه ، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ . . . } إلى قوله : { . . . فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ المَائدة : 90 ، 91 ] فقال عمر : انتهينا يا رب ه .
ولما شربها بعض الناس بعد التحريم ، كان - عليه الصلاة والسلام - يضرب فيها بالنعال والجريد ، ضرباً غير محدود ، وضرب أبو بكر وعمر أربعين ، وأول من حد فيها ثمانين سيدنا عثمان ، لما تهافت الناس فيها .
(1/177)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نوراً يُميز بين الحق والباطل ، بين الضار والنافع ، وبين الصانع والمصنوع ، ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية؛ وهي نشوة الخمر الحسية . وقد يتغطى أيضاً بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته ، فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية ، وهي أسرار الذات الأزلية ، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة ، وينكر الحوادث الحسية ، فسمي الصوفية هذه الغيبة خمرة؛ لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل ، وتغنوا بها في أشعارهم ومواجيدهم ، قال الفارض رضي الله عنه :
شَرِبْنَا على ذِكْر الحبيبِ مُدامَةً ... سَكرنَا بها من قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ
ثم قال :
على نفسه فَليبْكِ مَن ضاع عُمْرُه ... وليسَ لهُ منها نَصِيبٌ ولا سَهْمُ
وقلت في عينيتي :
وَلِي لَوْعَةٌ بالرَّاحِ إِذْ فِيه رَاحِتِي ... وَرَوْحِي ورَيْحَانِي ، وخيرٌ واسِعُ
سَكرْنَا فهِمْنَا في بَهاءِ جَمَالِه ... فَغِبْنا عَن الإحساسِ ، والنُورُ ساطعُ
والميسر في طريق الإشارة : هو الغني الذي يحصل بهذه الخمرة ، وهو الغني بالله عن كل ما سواه ( قل فيهما إثم كبير ) أي : في تعاطيهما حرج كبير ، ومنافع للناس بعد تعاطيهما ، فيهما إثم كبير عند طالب الأجور ، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور . وأنشدوا :
لَوْ كَان لي مُسْعدٌ يُسعِدُني ... لمَا انتظرتُ لشُربِ الراحِ إفطارا
فالراحُ شيءٌ شَريفٌ أنتَ شَاربُه ، ... فاشْرَب ، ولو حَمَّلَتْكَ الراحُ أوْزارا
يا مَنْ يلومُ على صَهْبَاءَ صافيةٍ ... خُذ الجِنَانَ ، ودَعْنِي أَسكنُ النَارا
وقال ابن الفارض :
وقالُوا : شَرِبْتَ الإثَم! كلاّ ، وإنما ... شرِبْتُ التي في ترْكِها عنديَ الإثْمُ
وقال آخر :
طابَ شُرْبُ المُدامِ في الخَلَواتْ ... اسْقِني يا نديمُ بالآنِيَاتْ
خْمْرَةٌ تركُها علينا حرَامٌ ، ... ليسَ فيها إثمٌ ولا شُبُهَاتْ
عُتِّقَتْ في الدَّنان مِنْ قَبْلِ آدمْ ... أصلُها طيّبٌ من الطَّيِّبَاتْ
أَفْتِ لي أيُّهَأ الفقيهُ وقلْ لي : ... هل يجوزُ شُرْبُها على عَرَفاتْ؟
فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب ، ونفع كبير عند ذوي الألباب ، يعني : في الخمرة الأزلية والغنى بالله ، وقوله تعالى : { وإثمهما أكبر من نفعهما } : خطاب على قدر ما يفهم الناس ، لأن إثمهما ظاهر للعوام ، وهو ما يظهر على النشوان من خراب الظاهر ، وصدور الأحوال الغريبة ، ونفعهما خاص عند خوصا الخواص ، لا يفهمه إلا الخواص ، بل يجب كتمه عن غير أهله ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
ثم وقع سؤال ثالث عن قدر المنفق ، فأشار إليه الحقّ جلّ جلاله بقوله :
{ . . . وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدنيا والآخرة . . . }
قلت : { العفو } : ضد الجهد ، وهو السهل ، ويقال للأرض السهلة : عفو ، والمراد : أن يُنفق ما تيسر بذله ، ولا يبلغ به الجَهد ، وهو خبر ، أو مفعول ، أي : هو العفو ، أو ينفقون العفو .
(1/178)

يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويسألونك } ما القدر الذي ينفقونه؟ { قل } لهم : هو { العفو } أي : السهل الذي لا مشقة في إعطائه ، ولا ضرر على المعطي في فقده ، رُوِي أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقدر بَيْضة من الذهب ، فقال : خُذها عني صَدقَة ، فأعرض عنه ، حتى كَرَّر مِرَاراً ، فقال : هاتها ، مُغْضَبَا ، فحذفها حذفاً لو أصابه لشجَّه ، فقال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ، ويجلس يتكفَّفُ الناس ، إنما الصدقةُ عن ظَهْرِ غِنَى " قاله البيضاوي مختصراً .
قلت : وهذا يختلف باختلاف اليقين؛ فقد تصدّق الصدِّيقُ رضي الله عنه بماله كله ، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله ، فأقرهما ورَدّ فعلَ غيرهما ، فدلَّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص ، على حسب اليقين .
{ كذلك يبن الله لكم الآيات } أي : مثل هذا التبيين الذي ذكرنا ، { يُبين } لكم الآيات ، حتى لا يترك إشكالاً ولا وهماً ، { لعلكم تتفكرون } بعقولكم ، وتأخذون بما يعود نفعه عليهكم ، فتتفكرون { في الدنيا } وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها ، إذا أقبلت كانت فتنة ، وإذا أدبرت كانت حسرة ، لا يفي طالبُها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها ، ضيقة الزمان والمكان ، عمارتها إلى الخراب ، وشأنها إلى انقلاب ، سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال ، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَالِي وللدنيا ، إنما مَثَلي ومثلُ الدنيا كرجلٍ سَافَرَ في يوم صَائِفٍ ، فاسْتَظَلَّ تحت شَجَرةٍ ، ثم رَاحَ وَتَرَكَها " وفي صحف إبراهيم عليه السلام : " عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب - أي : يتعب - عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها " . وأنشدوا :
ألا إنَّما الدنيا كأحْلاَمِ نَائِم ... وكُلُّ نعيمٍ ليسَ فيها بِدَائِم
تَذَكَّرْ إذا ما نِلْتَ بالأمس لَذَّةً ... فأفْنَيْتَها هل أنتَ إلا كَحَالِمِ
وتتفكرون في { الآخرة } ودوام نعيمها ، وسعة فضائها ، وبهجة منظرها؛ فترغبون في الوصول إليه ، وتتأهبون للقائها ، فتؤثرونها على هذه الدار الفانية . قال بعض الحكماء : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لكان ينبغي للعاقل أن يختار ما يبقى على ما يفنى ، لا سيما والأمر بالعكس ، الدنيا من طين يفنى ، والآخرة من ذهب يبقى ، فلا يختار هذه الدار إلاَّ أحمق خسيس الهمة ، وبالله التوفيق .
الإشارة : كما نهى الحقّ جلّ جلاله عن السرف في الأموال ، نهى عن السرف في الأحوال ، فالسرف ، من حيث هو ، يؤدي إلى الملل والانقطاع ، " أحبُ العملِ إلى اللّهِ ما دَامَ عليه صاحبُه ، وإنْ قَلَ " كما في الحديث ، " والله ما رأينا أحداً أسرف في الأحوال إلا مَلَّ ، وضعف حاله " ، وفي الحديث : " لاَ يكْن أحَدُكُم كالمُنْبَتِّ "
(1/179)

- أي : المنقطع - " لا أرضاً قطع ، ولا ظَهْراً أبقى " وقال في المباحث :
فاحْتلْ على النفس فَرُبَّ حِيله ... أنفعُ في النُّصْرة مِن قَبِيله
فلا يزال يُسايس نفسه شيئاً فشيئاً حتى يملكها ، ويظفر بها ، فإذا ظفر بها كانت له شبكة يصطاد بها العلوم والمعارف ، فتتفكر في الدنيا فتراها فانية فترحل عنها ، ثم تتفكر في الآخرة فتراها باقية ، فإذا رامت السُّكْنَى فيها رأتْها كَوْناً مخلوقاً فرحلت إلى خالقها ، فكشف الحقّ عنها الحجاب ، وأدخلها مع الأحباب ، وأدخلها مع الأحباب ، فغابت عن الكونين في شهود المكون ، فلم يبق لها دنيا ولا آخرة ، بل هي الآن في بهجة ونضرة { إلى ربها ناظرة } ، حققنا الله بهذا المقام العلي . آمين .
ثم سألوا أيضاً عن مخالطة اليتامى ، فأجابهم الحقّ تعالى بقوله :
{ . . . وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قلت : العنت : التعب والمشقة ، أعنتكم : أتعبكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويسألونك عن } مخالطة { اليتامى } أي : خَلْط مال اليتامى بمال الوصيّ ، أو القائم به ، فيأكلون جميعاً ، { قل } لهم : يفعلون ما هو { إصلاح } لليتيم وأحفظ لماله ، فإنْ كان خلط مال اليتيم مع مال الوصي أحفظُ لماله ، وأوفر ، فهو خير ، فإنما هم إخوانكم في الدين ، وإن كان عزلُ ما لهم عن مالكم ، وأكله وحده ، اوفر لماله ، فاعتزالهم خير ، { والله يعلم } من قصدُه الإفساد ، ممن قصده الإصلاح ، فيعامل كل واحد بقصده ، { ولو شاء الله } لأمركم بعزلهم وحفظ مالهم مطلقاً ، فيُحرجكم ، ويشق عليكم ، { إن الله عزيز } غالب ، لا يعجزه شيء ، { حكيم } لا يفعل شيئاً إلا لحكمة ومصلحة .
ولما نزل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً . . . } [ النِّساء : 10 ] الآية ، تحرَّج الصحابة من مخالطة اليتامى ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية .
الإشارة : كل من لا شيخ له في طريق القوم فهو يتيم ، لا أبَ له ، فإن ادعى شيئاً من الخصوصية سُمي عندهم لقيطاً أو دعياً ، أي؛ منسوباً إلى غير أبيه ، وما زالت الأشياخ تُحذِّر من مخالطة العوام ، ومن مخالطة المتفقرة الجاهلة ، أعني : الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية ، حتى قالوا : مخالطتهم سُم قاتل . وقال بعضهم : يجتنب المريد مخالطة ثلاثة أصناف من الناس : المتفقرة الجاهلين ، والقراء المداهنين ، والجبابرة المتكبرين .
قلت : وكذلك الفروعية المتجمدين على ظاهر الشريعة ، فصُحبتهم أقبحُ من الجميع ، ومن ابتلى بمخالطة العوام فلينصحهم ، ويرشدهم إلى مصالح دينهم ، إنما هم إخوان في الدين ، والله يعلم المفسد من المصلح ، فمن خالطهم طمعاً في مالهم أو جاههم ، أفسده الله ، ومن خالطهم نُصحاً وإرشاداً أصلحه الله ، ولو شاء الله لأمر الفقراء باعتزالهم بالكلية ، وفي ذلك حرج ومشقة ، ومِنْ حكمته تعالى أن جعلهم حجاباً لأهل الحجاب ، ومدخلاً لذوي الألباب ، حجاباً للضعفاء ، ومدخلاً ومشهداً للأقوياء . والله تعالى أعلم .
ولمّا فرغ الحق جلّ جلاله من ذكر بعضَ أمر الجهاد وما يتعلق به ، شَرَع يتكلم على النكاح .
(1/180)

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
قلت : بدأ الحقّ جلّ جلاله بذكر محل النكاح ، وسيأتي في سورة النساء تمامه في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ . . . } [ النِّساء : 23 ] الآية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا تتزوجوا النساء { المشركات حتى يؤمن } ، ونكاحهن حرام ، بخلاف الكتابيات ، كما في سورة المائدة . ونكاح أمة سوداء { مؤمنة خير من } نحكاح { مشركة ولو أعجبتكم } حُسناً وحسباً ومالاً ، أو : ولا مرأةٌ مؤمنة أمة كانت أو حُرة خَيْرٌ من مشركة؛ إذ النساء كلهم إماء الله .
رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام - بعث مَرْثَداً الغَنَوي إلى مكة ليُخرج منها نَاساً من المسلمين فأَتتْه امرأة يقال لها : عناق ، وكان يهواها في الجاهلية - فقالت : ألا تخلو؟ فقال : إن الإسلام حال بيننا ، فقالت : هل لك أنْ تتَزَوج بي؟ فقال : نعم ، ولكن أستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاره ، فنزلت الآية . البيضاوي .
ولا تُزوجوا { المشركين } وليَّتَكم ، وهو حرام مطلقاً؛ إذ الرجال قوامون على النساء ، ولا تَسلُّطَ للكافر على المسلمة ، فلا تُنكحوهم { حتى يؤمنوا } ، { ولعبد } أسود مملوك { مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } حسباً ومالاً؛ إذ لا حسب مع الكفر ، وإنما حرَّم نكاح أهل الكفر؛ لأنهم { يدعو إلى } الكفر ، وهو سبب { النار } ، والصحبة توجب عقد المحبة ، والطباع تُسْرق ، فلا يَؤمنُ جانب الكفر أن يغلب على الإيمان ، { والله } تعالى إنما { يدعو إلى } سبب { المغفرة } والتطهير من لَوث الكفر والمعاصي { بإذنه } وقدرته ، فلا يأمر إلا بما يقوى عقد الإيمان واليقين ، ويُنهض إلى الطاعات ، وهو صحبة أهل الإيمان واليقين ، { ويُبين آياته } الدالّة على جمع عباده إليه { لعلهم يتذكرون } فيها ، ويتعظون بتذكيرها ووعظها .
الإشارة : لا ينبغي للفقير أن يعقد مع نفسه عقد الصحبة والمودة ، أو ينظر إليها بعين الشفقة والرحمة ، ما دامت مشركة بشهود السّوى ، أو مائلة بطبعها إلى الهوى ، ولأن تكون عندك نفس مؤمنة بعلم التويد ، خير من نفس مشركة برؤية الغير ، ولو أعجبتك في الطاعة ، وظهور الاستقامة ، فقد تُظْهر الطاعة والخدمة ، وتُبطن مالها فيها من الحظوظ والمتعة ، فليتهمها ما دامت مشركة ، فإذا آمنت ووحدت الله تعالى ، فلم تر معه سواه ، فلا بأس بعقد النكاح معها ، فإنها لا تأمره إلا بما يقوي شهودها وتوحيدها . وكذلك لا ينبغي أن يعقد نكاح نفسه ، ويدفعها لمن يشهد السّوى ، شيخاً أو أخاً ، ولو أعجبك طاعته واجتهاده ، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه ، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه ، أولئك أهل النفوس - يدعون إلى نار الشهوات والحظوظ العاجلة أو الآجلة ، والله يدعو إلى التطهير من شهود الأغيار ، والدخول في حضرة الأسرار ، وهذا لا يكون إلا للعارفين الأبرار؛ الذين تطهروا من الأكدار ، وتخلصوا من شهود الأغيار ، كذلك يُبين الله آياته الناس - الدالّة على وحدانيته - لعلهم يتعظون فينزجرون عن متابعة الهوى ، أو رؤية وجود السوى . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
ولما بيَّن الحقُ تعالى ما يحرم في النكاح أصالَةً ، بيَّن ما يحرم فيه عُروضاً .
(1/181)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
قلت : المحيض : مصدر ، كالمقيل والمعيش والمجيء ، وهو الحيض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويسألونك } يا محمد { عن } قرب النساء بالجماع في زمن { المحيض قل } لهم : { هو أذى } ، أي : مُضِرٍّ ، أو مُنتن مستقذر ، لا يَرضى ذو همة أن يقربه ، { فاعتزلوا } مجامعة { النساء في } زمن { المحيض ولا تقربوهن } بالجماع في المحل { حتى يطهرن } من الدم ، بانقطاعه ، ويغتسلن بالماء ، { فإذا تطهرن } بالماء { فأتوهن من حيث أمركم الله } وهو الفرج ، الذي أمركم باجتنابه في الحيض؛ إذ هو محل زراعة النطفة . فمن غلبته نفسه حتى وطئء في الحيض ، أو النفاس ، فليبادر إلى التوبة ، { إن الله يحب التوابين } كلما أذنبوا تابوا .
ولا تجب كفارة على الواطئ ، على المشهور . وقال ابن عباس والأوزاعي : ( من وطئ قبل الغسل تصدق بنصف دينار ، ومن وطئ في حال سيلان الدم تصدق بدينار ) . رواه أبو داود حديثاً . ومن صبر وتنزَّه عن ذلك فإن الله { يحب المتطهرين } من الذنوب والعيوب كلها ، وإنما أعاد العامل؛ لأن محبته للمتنزهين أكثر .
قال البيضاوي : رُوِيَ أن أهل الجاهلية كانوا لا يُسَاكنون الحائض؛ ولا يُؤاكلونها ، كفعل اليهود والمجوس ، واستمر ذلك إلى أنْ سأل أبو الدحْداح ، في نفر من الصحابة ، عن ذلك ، فنزلت . ولعله سبحانه - إنما ذكر " إنما يسألونك " من غير واو ، ثلاثاً ، ثم بها ثلاثاً؛ لأن السؤالات الأُوَل كانت في أوقات متفرقة ، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد؛ فلذلك ذكرها بحرف الجمع . ه .
ثم بيَّن الحق تعالى كيفية إتيان النساء بعد الطُهر ، فقال : { نساؤكم حرث لكم } ، أي : مواضع حرثكم ، شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف ، بالبذر ، والأرحام أرض لها ، { فأتوا حرثكم } أي : محل حرثكم ، وهو الفرج ، { أنى شئتم } أي : من أي جهة شئتم .
رُوِيَ أن اليهود كانوا يقولون : مَنْ جامع امرأته مِنْ خَلْفهَا في قُبُلِهَا جَاء الولُد أَحْولَ ، فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . وقيل : إنَّ قُريشاً كانوا يأتون النساء من قُدَّام ، مستلقية ، والأنصار كانوا يأتوهن من خلف ، باركة ، فتزوج رجل من المهاجرين امراة من الأنصار ، فأراد أن يفعل عادته ، فامتنعت ، وأرادت عادتها ، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية بالتخيير للرجل ، مع الإتيان في المحل ، وأما الإتيان في الدُّبُر فحرام ، ملعونٌ فاعله ، وقال في القوت : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } أي : في أي وقت شئتم ، ومن أي مكان شئتم ، مع اتحاد المحل . ه .
ثم حذَّر الحق تعالى من متابعة شهوة النساء ، والغفلة عن الله ، فقال : { وقدموا لأنفسكم } ما تجدون ثوابه مُدخراً عنده ، وهو ذكر الله في مظان الغفلة ، قيل : التسمية قبل الوطء وقيل : طلب الولد ، والتحقيق : أنه الحضور مع الحق عند هيجان الشهوة ، قال بعض العارفين : إني لا أغيب عن الله ولو في حالة الجماع .
(1/182)

ه . وهذا شأن أهل الجمع ، لا يفترقون عن الحضرة ساعة . وهذه التقوى التي أمر الله بها بقوله : { واتقوا الله } أي : لا تغيبكم عنه شهوةُ النساء ، { واعلموا أنكم ملاقوه } فترون وبال الغفلة وجزاء اليقظة ، { وبشر المؤمنين } بالقرب من رب العالمين .
الإشارة : إذا سُئلت - أيها العارف - عن النفس في حال جنابتها بالغفلة ، وحال تلبسها بنجاسة حب الدنيا ، فقل : هي أذى ، أي : قذر ونجس ، من قَرُب منها لطَّخته بنجاستها ، فلا يحل القرب منه ، أو الصحبة معها ، حتى تطهر من جنابة الغفلة باليقظة ، ومن نجاسة حب الدنيا بالزهد ، ورفع الهمة عنها ، فإذا تطهرت فاتها ، وردها إلى حضرة مولاها ، كما أمرك الله ، { إن الله يحب التوابين } ، وقد تابت ورجعت إلى مولاها ، { ويحب المتطهرين } ، وقد تطهرت من جنابة الغفلة ، وتنزهت عن نجاسة الدنيا برفع الهمة ، فصارت لك أرضاً لزراعة حقوق العبودية ، ومَنْبَتا لبذر شهود عظمة الربوبية ، فأتوا حرثكم - أيها العارفون - أنى شئتم ، أي : ازرعوا في أرض نفوسكم من أوصاف العبودية ما شئتم ، وفي أي وقت شئتم .
فبقدر ما تزرعون من العبودية تحصدون من الحرية . وبقدر ما تزرع فيها من الذل تحصده من العز ، وبقدر ما تزرع فيها من الفقر تحصده من الغنى ، وبقدر ما تزرع فيها من التواضع تحصده من الشرف والرفعة .
والحاصل : بقدر ما تزرع فيها من السفليات تحصد ضده من العلويات . قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( 5 ) وَنُمَكِنَّ لَهُمْ فِى الأَرْضِ } [ القصص : 5 ، 6 ] . فإذا تركتها هَمَلاً ، أنبتت لك الشوك والحنظل ، { وقدموا لأنفسكم } من أوصاف العبودية ما تجدونه أمامكم من مشاهدة الربوبية ، واتقوا الله فلا تشهدوا معه سواه ، واعلموا أنكم ملاقوه حين تغيبون عن وجودكم وتفقدونه ، وبشر المؤمنين الموقنين بشهود رب العالمين .
ولما تكلم الحقّ جلّ جلاله على بعض أحكام النكاح ، أراد أن يتكلم على الإيلاء ، وهو الحلف على عدم مس المرأة وجماعها ، وقدّم على ذلك النهي عن كثرة الحلف؛ لأنه هو السبب في الوقوع في الإيلاء .
(1/183)

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
قل : العرضة : فُعلة ، بمعنى مفعولة : أي : معرضاً منصوباً ، لأيمانكم تحلفون به كثيراً ، فيصير اسم الجلالة مبتذلاً بينكم . و { أن تبروا } : مفعول من أجله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولا تجعلوا الله } أي : اسم الجلالة ، معرضاً { لأيمانكم } ، فتتبذلونه بكثرة الحلف ، فتمتنعون من فعل الخير بسبب الحلف ، كراهة { أن تبروا } أي : تفعلوا فعل البر ، وهو الإحسان ، وكراهة أن { تتقوا } أن تجعلوا بينكم وبين الله وقاية بفعل المعروف ، وذلك أن يحلف الرجل ألا يصل رحمه ، أو لا يسلم على فلان ، او لا يضمن أحداً ، أو لا يبيع بدين ، أو لا يسلف أحداً ، أو لا يتصدق ، فهذه الأمور كلها بر وتقوى ، نهى الله تعالى عن الحلف على عدم فعلها ، أو يحلف ألا يصلح بين الناس ، فيجب على الحالف على ذلك أن يحنث ، ويكفر عن يمينه . ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : " إنِّي لأَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى خيْراً منْهَا ، فأكفر عن يميني ، وآتي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " وقال لابن سَمُرَة : " إذا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ ، فَرأيْتَ غَيرهَا خَيْراً مِنْهَا ، فاتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَكَفّرْ عَنْ يمِينِك " .
أو يقول الحقّ جلّ جلاله { ولا تجعلوا لله } معرضاً لأيمناكم ، تحلفون به كثيراً ، نهيتكم عن ذلك ، إرَادَةَ أنْ تكونوا أبراراً متقين ، مصلحين { بين الناس } ؛ فإن الحالف مجترئ على الله ، والمجترئ لا يكون برّاً متقياً ، ولا موثوقاً به في إصلاح ذات البين ، { والله سميع } لأيمانكم ، { عليم } بنياتكم .
ثم رفع الحق تعالى الحرج عن يمين اللغو الذي لا قصد فيه - فقال : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ، وهو ما يجري على اللسان من غير قصد ، كقول الرجل في مجرى كلامه : لا والله وبلى والله ، قاله ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهما - ، وبه قال الشافعي .
وقال أبو هريرة والحسنُ وابنُ عباس - في أحد قوليه - : هو أن يحلف على ما يعتقد فيظهر خلافه . وبه قال مالك رضي الله عنه ، والأول ألْيَق بقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أي : بما عقدت عليه قلوبكم ، { والله غفور } ؛ حيث لم يؤاخذكم باللغو ، { حليم } ؛ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجدّ ، تربصاً للتوبة .
الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله : { لا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم } ، لكن اجعلوه عرضة لتعظيم قلوبكم ومشاهدة لأسراركم ، فإني ما أظهرت اسمي لتبتذلوه في الأيمان والجدال ، وإنما اسمي لتتلقَّوْه بالتعظيم والإجلال ، فمن عظَّم اسمي فقد عظَّم ذاتي ، ومن عظم ذاتي جعلته عظيماً في أرضي وعند أهل سمواتي ، وجعلته برّاً تقيّاً ، من أهل محبتي وودادي ، وداعياً يدعو إلى معرفتي ، ويصلح بيني وبين عبادي ، فمن حلمي ورأفتي : أني لا أؤاخذ بما يجري على اللسان ، وإنما أؤاخذ بما يقصده الجَنَان .
تنبيه : كثرة الحلف مذموم يدل على الخفة والطيش ، وعدم الحلف بالكلية تعسف ، وخيرُ الأمور أوساطها ، كان عليه الصلاة والسلام يحلف في بعض أحيانه ، يقول : " لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ " والله تعالى أعلم .
(1/184)

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
قلت : { الإيلاء } : يمين زوج مكلَّف على عدم وطء زوجته ، أكثر من أربعة أشهر . وآلى : بمعنى حلف ، يتعدى بعلى ، ولكن لما ضُمَّن هنا معنى البُعد من المرأة ، عُدّي بمن ، و { تربص } : مبتدأ ، و { للذين يؤلون } : خبر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { للذين } يبعدون { من نسائهم } ويحلفون ألاَّ يجامعوهن أكثر من أربعة أشهر ، غضباً وقصداً للإضرار ، { تربص } أي : تمهل { أربعة أشهر } ، لا يُطالبُ فيهن بفيئة ولا حنث ، { فإن فاءوا } أي : رجعوا حلفوا عليه ، وحنثوا وكفَّروا أيمانهم ، { فإن الله غفور } لما قصدوا من الإضرار ، بالفيئة التي هي كالتوبة ، { رحيم } بهم؛ حَيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، { وإن عزموا الطلاق } أي : صمموا عليه ، ولم يرجعوا عما حلفوا عليه ، { فإن الله سميع } لطلاقهم { عليهم } بقصدهم ونيتهم . ومذهب مالك الشافعي : أن القاضي يُوقفه : إما أن يرجع بالوطء إن قدر ، أو بالوعد إن عَجز ، أو يُطلِّق عليه طلقة رجعية ، عند مالك . ومذهب أبي حنيفة : أنها تَبِين بمجرد مُضي أربعة أشهر ، وأحكام الإيلاء مقررة في كتب الفقه .
الإشارة : لا ينبغي للعبد أن يصرف عمره كله في معاداة نفسه ومجانبتها ، إذ المقصود هو الاستغال بمحبة الحبيب ، لا الاشتغال بعداوة العدو ، فلمجاهدة نفسه ومجانبتها حد معلوم ووقت مخصوص ، وهو ما دامت جموحة جاهلة بالله . فإن فاءت ورجعت إلى الله ، وارتاضت لحضرة الله ، وجبت محبتها والاصطلاح معها؛ لأن النفس بها ربح مَنْ ربح ، ومنها خسر من خسر ، من عرف قدرها ، واحتال عليها حتى ردها إلى ربها - ربح ، ومن أهملها وجهل قدرها - خسر ، وكان شيخ شيوخنا يقول : جزاها الله عنا خيراً؛ والله ما ربحنا إلا منها ، يعني نفسه . وفي بعض الآثار : ( مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربَه ) . وإن عزموا الطلاق ، يعني : العباد والزهاد عزموا ألا يرجعوا إلى أنفسهم أبداً ، فإن الله سميع عليم بقصدهم هل قصدهم طلب الحظوظ أو محبة الحبيب ، وأما العارفون فلا تبقى لهم معادة مع أحد قط ، قد اصطلحوا مع الوجود بأسره ، فمكنهم الله من التصرف في الوجود بأسره . والله ذو الفضل العظيم .
(1/185)

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً . . . }
قلت : القُرء هو الطهر الذي يكون بعد الحيض ، عند مالك ، وجمع القلة : أقراء ، والكثرة : قروء ، واستعمله هنا باعتبار كثرة المطلقات ، و { ثلاثة } : مفعول مطلق ، أو ظرف ، و { بعولتهن } : جمع بعل ، والتاء لتأنيث الجماعة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والمطلقات يتربصن } أي : يمكثن عن التزوج ، { بأنفسهن ثلاثة قروء } أي : أطهار ، وتَعْتَدُّ بالطهر الذي طلقها فيه ، فتحيض ، ثم تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، فإذا رأت الحيضة الثالثة خرجت من العدة ، هذا في غير الحامل ، واما الحامل فعدتها وضع حملها . { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } من الولد؛ استعجالاً لإتمام العدة ، أو من الحيض؛ استبقاءً لتمادي العدة ، وتُصدق في ذلك كله ، فإن كانت { تؤمن بالله واليوم الآخر } فلا يحل لها أن تكتم ما استؤمنت عليه ، { وبعولتهن } أي : أزواجهن : { أحق بردهن في ذلك } التربص ، إن كان الطلاق رجعيّاً ، وإلا بانت منه ، وينبغي للزوج أن يراجعها في العدة ، إن أراد بذلك الإصلاح والمودة ، لا الإضرار بها ، وإلا حرم عليه ارتجاعها ، إذ " لاَ ضَرَرَ ولا ضرار " ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - .
الإشارة : إذا طُلّقَتْ النَّفْسُ ، ووقع البعد منها حتى طهرت ثلاثة : الطهر الأول : من الإصرار على الذنوب والمخالفات ، الطهر الثاني : من العيوب والغفلات ، الطهر الثالث : من الركون إلى العادات الوقوف مع المحسوسات ، دون المعاني وأنوار التجليات - حلَّتْ رجعتُها والاصطلاح معها ، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن : من العلوم والمعارف والأنوار ، وذلك إذا استشرفَتْ على حضرة الأسرار ، فإنها تفيض بالعلوم والحكم ، أو ما لا يحصى ، فينبغي أن تطلع عليها من يقتدي بشأنها . وبعولتهن أحق بردهن ، والصلح معهن ، بعد تمام تطهيرهن ، إن أرادوا بذلك إصلاحاً ، وهو إدخالها في الحضرة ، ونعيمها بالشهود والنظرة . وبالله التوفيق .
ثم ذكر الحقّ جلّ جلاله حقوق الزوجية ، فقال :
{ . . . وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
يقول الحقّ جلّ جلاله : وللنساء حقوق على الرجال ، كما أن للرجال حقوقاً على النساء ، فحقوق النساءعلى الرجال : الإنفاق ، والكسوة ، والإعفاف ، وحسن المعاشرة ، وكان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يقول : إني لأُحِبُّ أن أتزيَّنَ للمرأة كما تتزين لي ، ويقرأ هذه الآية .
وحقوق الرجل على المرأة : إصلاح الطعام والفراش ، وطاعة زوجها في كل ما يأمرها به من المباح ، وحفظ فرجها ، وصاينة ماله الذي ائتمنت عليه - إلى غير ذلك من الحقوق ، فللنساء حقوق على الرجال { مثل الذي عليهن بالمعروف } من غير ضرر ولا ضرار .
(1/186)

ولا تفريط ولا إفراط ، { وللرجال عليهم درجة } أي : فضيلة؛ لأن الرجال قوّامون على النساء ، ولهم فضل في الميراث ، والقسمة ، وكثير من الحقوق ، فضلهم الله على النساء : { والله عزيز } لا يعجزه عقاب من خالف أمره ، لكنه يمهل ولا يُهمل ، { حكيم } لا يفعل إلا لمصلحة ظاهرة أو خفية . والله تعالى أعلم .
الإشارة : للنفس حقوق على صاحبها ، كما له حقوق عليها ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّ لنفْسك عَلَيْكَ حَقّاً ، وَلزَوْجِكَ عَلَيْك حَقّاً ، ولِربِكَ عليك حَقّاً ، فأَعْطِ كُلّ ذِي حَقِ حَقَّهُ " فالنفس مغرفة للسر ، فإذا تعبت سقط منها السر ، كذلك نفس الإنسان ، إذا تحامل عليها حتى تعللت ، ودخلها الوجع ، تعذر عليها كثر من العبادات ، لا سيما الفكرة ، فلا بد من حفظ البشرية ، وإنا ينبغي قتلها بالأمور التي لا تُخِلُّ بصحتها ، فعليها طاعتك فيما تأمرها به ، كما عليك حفظها مما تتضرر به . وللرجال الأقوياء عليها تسلطٌ وتصرف ، فهي مملوكة في أيديهم ، وهم غالبون عليها ، والله غالب على أمره ، وهو العزيز الحكيم .
(1/187)

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
قلت : { فإمساك بمعروف } : مبتدأ ، والخبر : محذوف ، أي : أحسن أو أمثل . أو خبر ، أي : فالواجب إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الطلاق } الذي تقع الرجعة بعده - إنما هو { مرتان } ، فإن طلق ثالثة فلا رجعة بعدها ، فإنطلق واحدة أو اثنتين فهو مُخير ، فإما أن يمسكها ويرتجعها بحسن المعاشرة ، والقيام بحقوق الزوجية بالمعروف . وإما أن يُسرِّحها حتى تنقضي عدتها { بإحسان } ، من غير إضرار ، ولا تطويل عدة . { ولا يحل لكم } ، أيها الأزواج ، { أن تأخذوا مما أتيتموهن } من الصداق { شيئاً } - خُلْعاً - { إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله } بأن ظن الزوج أو الزوجة فساد العشرة بينهما ، وعدم القيام بحقوق الزوجية ، { فإن خفتم } أيها الحكام ، أو من ينوب عنهم ، { ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } من العصمة ، فيحل للزوج أن يأخذ منها الفداء ، ولو بجميع ما تملك ، إذا كان الضرر منها أو منهما ، فإن انفرد بضررها ، حُرِّمَ عليه أخذ الفداء ، وطُلِّقَتْ عليه .
{ تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } أي : هذه الأحكام التي ذكرنا من عدد الطلاق وأخذ الخُلْع على وجهه - هي حدود الله التي حدها لعباده ، فمن تعداها فهو ظالم .
{ فإن } طلق الزوجُ مرة ثالثة { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ، ويدخل بها ، من غير شرط التحليل ، { فإن طلقها } الثاني ، { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } بنكاح جديد { إن ظنّاً أن يقيما } حقوق الزوجية ، وحسن العشرة ، { وتلك } الأحكام المذكورة هي { حدود الله يبينها } الحقُ تعالى { لقوم يعلمون } أي : يفهمون ويتدبرون الأمور .
الإشارة : إذا طلَّق المريد الدنيا ، ثم رجع إليها ، ثم تاب وتوجه إلى الله ، ثم رجع إليها ، ثم تاب وتوجه مرة ثانية ، قُبلت توبته ، فإن رجع إيها بعد الطلقة الثانية ، فلا يُرجى فلاحه في الغالب؛ لأنه متلاعب ، قال تعالى : { الطلاقُ مَرَّتان } فإمساكُ لها بمعروف بأن يواسي بها من يحتاج إليها ، أو تسريح لها من يده بإحسان من الله إليه ، حتى يدخله في مقام الإحسان ، فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له أبداً حتى يأخذها من يد الله بالله ، بعد أن كان بنفسه ، فكأنه أخذها بعصمة جديدة ، فإن تمكن من الفناء والبقاء ، فلا جُناح عليه أن يرجع إليها غنيّاً بالله عنها . والله تعالى أعلم .
ثم نهى الحقّ تعالى عن إمساك الزوجة ، إضراراً ، كما كانت تفعل الجاهليةُ .
(1/188)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قلت : { ضراراً } : مفعول له ، أو حال ، أي : مُضَارِّين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا طلقتم النساء } فَقَرُبَ بلوغُ أَجَل عِدَّتِهِنَّ { فأمسكوهن } بالرجعة متلبسين بالمعروف والإحسان إليها ، { أو سرحوهن } يتزوجن غيركم { بمعروف } لا إضرار فيه ، { ولا تمسكوهن } بنية طلاقهن { ضراراً } أي : لأجل الضرر بتطويل عدتهن { لتعتدوا } عليهن { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } .
نزلت في رجل قال لامرأته : لا آويك ، ولا أدعك تحلِّين لغيري . فقالت : كيف؟ فقال : أطلقك ، فإذا دنا مُضِيُّ عِدَّتِك راجعتك ، فَشَكَتْ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية . وكان بعضهم يطلق ، ويعتق ، ثم يرجع ، ويقول : كُنت أهزأ بذلك وألعب ، فنزل قوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } أي : مهزوءاً بها ، وفي الحديث : " ثَلاَثٌ هزْلُهُنَّ جدٌ : النّكَاحُ ، والطَّلاقُ ، والرَّجْعَةُ " { واذكروا نعمة الله عليكم } بالهداية وبعثة الرسول ، { وما أنزل عليكم من الكتاب } فيه ما تحتاجون إليه ظاهراً وباطناً ، { والحكمة } أي : السنة المطهرة ، { يعظكم } بذلك ويزكيكم { واتقوا الله } فيما يأمركم به ، وينهاكم عنه ، { واعلموا أن الله بكل شيء عليم } ؛ " يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ " [ الأنعَام : 3 ] .
الإشارة : يقال للمريدين المتجردين إذا طلقتم الدنيا ، وآيستم أنفسكم من الرجوع إليها حتى تمكَّن اليقين من القلب بحيث انقطع الاهتمام بالرزق من القلب ، وزالت عنه الشكوك والأوهام ، فإذا رجعت إليه الدنيا ، فإما أن يمسكها بمعروف بأَنْ تكون في يده لا في قلبه ، أو يسرحها من يده ، بسبب مقام الإحسان الذي عوضه الله عنها ، ولا تمسكوا الدنيا ، أيها الفقراء ، قبل كمال اليقين ، فإنها ضرر لكم ، فقد أخذت الرجال لا سيما الأطفال . { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } ؛ حيث حرمها الوصول ، وتركها في حيرة الأوهام تجول ، فاحذروا لذيذ عاجلها ، لكريه آجلها ، { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } بالرخص والتأويلات ، { واذكروا نعمة الله عليكم } بالعداية إلى الطريق ، { وما أنزل عليكم من الكتاب } : فيه بيان التحقيق { والحكمة } التي هي إصابة عين التوفيق ، { واتقوا الله } فلا تركنوا إلى شيء سواه ، فإن مالت قلوبكم إلى شيء من السوى ، أو نزعت إلى محبة الهوى فاعلموا { أن الله بكل شيء عليم } فيبعدكم بعد الوصول . ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم .
(1/189)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
قلت : العَضْل : المنع والتضييق والتعسير ، يقال : أعضلت الدجاجةُ ، إذا عسر بيضُها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا طلقتم النساء } فانقضت عدتهن { فلا } تمنعوهن ، أيها الأولياء ، من { أن ينكحن أزواجهن } الذي كانوا يملكوهن ثم طلقوا ، أو الخُطَّاب الأجانب ، { إذا تراضَوْا بينهم بالمعروف } أي : بأن كانوا أكفاء لهن ، وبذلوا من المهر ما يناسبهن ، أو كانت رشيدة . { ذلك } الذي ذكرنا لكم - يتعظ به ، ويقف معه ، من كان { يؤمن بالله واليوم الآخر } ؛ لأنه هو الذي ينجع فيه الوعظ وينتفع بالتذكير ، { ذلكم أزكى لكم } أي : أرفع لقدركم ، إن تمسكتم به ، { وأطهر } لكم من الذنوب والعيوب ، { والله يعلم } ما فيه صلاحكم ، { وأنتم لا تعلمون } . نزلت الآية في مَعْقِلَ بنِ يَسَارٍ ، زوَّج أُخْتَه ثم طلقها زوجُها ، وأمهلها حتى انقضت عِدَّتُهَا ، ثم جاء يَخْطُبُهَا ، فقال مَعْقِلُ : تَرَكها حتى ملكت نفسها ، ثم جاء يخطُبها ، والله لا أُزوجها منه أبداً . والمرأة أرادت أن ترجع إليه ، فنزلت الآية ، فرجع معقل عن قسمه وزَوَّجَها .
وفيه دليل أن المرأة لا تُزَوج نفسها ، خلافاً لأبي حنيفة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي للشيوخ إذا تحققوا من المريدين كمال اليقين ، وظهر عليهم أمارات الرشد ، ألا يمنعوهم من تعاطي الأسباب ، وأخذ ما جاءهم من الدنيا ، بلا استشراف ولا طمع ، فقد يكون ذلك عوناً لهم على الدين ، وعمارة لزاوية الذاكرين ، فذلك أزكى لهم وأطهر لقلوبهم ، { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
(1/190)

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
يقول الحقّ جلّ جلاله : ويجب على الوالدات أن { يُرضعن أولادهن حولين كاملين } إذا كُنَّ في العصمة ، ولا شرف لهن؛ لجرى العُرف بذلك ، أو مطلقاتٍ ، ولم يقبل الولد غيرهنَّ هذا { لمن أراد أن يتم الرضاعة } ، فإن اتفقا على فطامه قبلهما ، جاز ، كما يأتي . ويجب { على المولود له } وهو الأب ، رزق أمهات أولادة ، { وكسوتهن } ؛ إذ هو الذي يُنسب المولود له ، وذلك { بالمعروف } ، لا يُكلف الله نفساً إلا ما في وُسْعها وتُطيقه ، فلا { تضارَّ والدةٌ بولدها } ، بحيث ترضعه وهي مريضة ، أو انقطع لبنها . بل يجب على الأب أن يستأجر من يرضعه ، ولا يضار { مولولد له بولده } ، بحيث يكلف من الإنفاق والكسوة فوق جهده . فإن مات الأب وترك مالاً - فعلى { الوارث } الكبير { مثل ذلك } من الكسوة والإنفاق ، يُجريها من مال الأب ، ويحسبها من حق الصبي ، فإن لم يكن للأب مال - فعلى جماعة المسلمين .
{ فإن أراد } أي : الأب والمرضعة ، { فصالاً } أي : فطاماً للصبي قبل تمام الحولين ، { عن تراضٍ منهما وتشاور } بينهما ، { فلا جناح عليهما } ، إن لم يخف على الولد ضعف . { وإن أردتم } ، أيها الأزواج ، { أن تسترضعوا أولادكم } عند غير الأم ، برضاها ، { فلا جناح عليكم } في ذلك { إذا سلمتم } أي : أعطيتم للمراضع ، { ما آتيتم } أي : ما أردتم إيتاءه من الأجرة { بالمعروف } من غير مَطْلٍ ولا تقتير . والشرط إنما هو على وجه الكمال والإحسان ، { واتقوا الله } فيما كُلفتم به من الحقوق ، { واعلموا أن الله } لا يخفى عليه شيء من أموركم؛ فإنه { بما تعملون بصير } .
الإشارة : اعلم أن تربية الولاية في قلب المريد ، على نمط تربية الطفل الصغير ، تنبت في قلب المريد وقت عقد الصحبة بينهما ، ثم لا تزال تنمو ، أو الشيخ يرضعه بلبن الإمداد حتى يتم أوان رضاعه ، ولذلك قالوا : الثدي الميتة لا ترضع . ه . يشيرون إلى أن الشيخ الميت لا يُربى ، فلا يزال الشيخ يُربى الروح ، ويمدها حتى تدخل بلد الإحسان ، وتشتعل فكرتها . وهذا تمام الحولين في حقها ، وهو أوان كمال الحقيقة والشريعة لمن أراد إتمامها ، فتأكل الروح حينئذٍ من كل شيء ، وتشرب من كل شيء ، وتستمد من الأشياء كلها ، ثم لا يزال يحاذيها بهمته حتى تَرشُد ، فيطلق لها التصرف ، فتصلح لتربية غيرها .
وعلى الشيخ رزقُ المريدين من قوت القلوب وكسوتهم ، تقيهم من إصابة الذنوب والعيوب ، إلا ما سبق به القضاء في علم الغيوب ، فليس في طَوْق أحدٍ دفعُه ، لا تُكلف نفسٌ إلا وسعها ، فإذا مات الشيخ ، ووصَّى بمن يرث مقامه ، فعلى الوارث مثلُ ذلك ، فإن أراد المريد انفصالاً عن الشيخ ، وتعمير بلد ، أو تذكير عباد الله ، عن تراض منهما وتشاور من الشيخ ، فلا جناح عليهما ، وإن أردتم ، أيها الشيوخ ، أن تسترضعوا أولادكم بإرسال منْ يُذكِّرُهم ، ويمدهم ، نائباً عنكم ، فلا جناح عليكم إذا سلمتم لهم من الإمداد ما يمدهم به ، واتقوا الله في شأن المريدين ، في جبر كسرهم ، وقبول عذرهم ، واعلموا أن الله بما تعملون بصير .
(1/191)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
قلت : و { الذين يُتوفون } : مبتدأ : و { يتربصن } : خبر ، ولا بد من الحذف ليصح الإخبار ، إما من الصدر أو من العَجزُ ، أي : وأزواج الذين يتوفون ، أو الذين يتوفون أزواجهن يتربصن .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والذين } يموتون منكم ، أيها المؤمنون ، ويتركون { أزواجاً } ، فلا يتزوجن حتى { يتربصن } أي : يمكثن { بأنفسهن أربعة أشهر } وعشرة أيام؛ لأن الجنين يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكراً ، ولأربعة إن كان أنثى في الغالب ، وزيد عشرةً ، استظهاراً ، هذا في غير الحامل ، أما الحامل ، فعدتها وضع حملها . { فإذا بلغن أجلهن } أي : انقضت عدتهن ، { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء { فيما فعلن في أنفسهن } من التزين والتعرض للنكاح أو التزوج ، { بالمعروف } ، بحيث لا ينكره الشرع من تزين ونكاح ، { والله بما تعملون خبير } فيجازيكم على ما فعلتم .
{ ولا جناح عليكم } أيها الخُطَّاب { فيما عرَّضتم به } للمعتدات { من خطبة النساء } ؛ كقول الرجل : إني لراغب في صحبتكم ، وإني أريد أن أتزوج في هذه الساعة . وإنك لنافقة ، أو لا يصلح لك أن تبقى بلا زوج ، ونحو هذا ، { أو أكننتم } أي : أضمرتم { في أنفسكم } في زمن العدة من أمر التزوج دون تصريح ، { علم الله أنكم } ستذكرون النساء المعتدات ، وتتكلمون في نكاحهن ، حرصاً وتمنياً ، فعرّضُوا بذلك ، { ولكن لا تواعدوهن سرّاً } أي : في الخلوة ، أو لا تواعدوهن نكاحاً أو جماعاً ، { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } وهو التعريض بالألفاظ المتقدمة .
ولا تقطعوا { عقدة النكاح } ، وتعزموا على فعله { حتى يبلغ } كتاب المعتدة { أجله } ، وتنقضي العدة ، { واعملوا أن الله يعلم ما في أنفسكم } من الرغبة والحرص ، { فاحذروه } فإنَّ الحرص على الشيء ، والرغبة فيه ، قبل أوانه ، ربما يعاقب صاحبه بحرمانه ، وما قُدِّر لكَ لا يكون لغيرك ، وما كان لغيرك لا يكون لك ، ولو فعلت ما فعلت ، { واعلموا أن الله غفور } لِمَا استعجلتم؛ فإن الإنسان خُلق عجولاً ، { حليم } فلا يعاجلكم ولا يفضح سرائركم .
الإشارة : إذا ماتت النفس عن الهوى ، وتركت حظوظاً وشهوات ، فلا ينبغي أن يردها إلى ذلك حتى تتربص مدة ، فيظهر عليها آثارُ الزهد؛ من السكون إلى الله ، والتأنس بمشاهدة الله حتى تغيب عما سواه . فإذا بلغت هذا الوصف فلا جناح على المريد أن يسعفها فيما تفعل بالمعروف ، من غير سَرَفٍ ولا ميل إلى هوى ، لأن فعلها حينئذٍ بالله ، ومن الله ، وإلى الله ، { والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه شيء من أمرها ، ولا جناح عليكم ، أيها المريدون ، إن تزكت نفوسكم ، وطهرت من الأغيار قلوبكم ، فيما عرضتم به من خطبة أبكار الحقائق وثيبات العلوم ، أو أكننتم في أنفسكم من المعارف والفهوم ، علم الله أنكم ستذكرون ذلك باللسان قبل أن يصل الذوق إلى الجَنَان ، فلا تصرحوا بعلوم الحقائق مع كل الخلائق؛ فإن ذلك من فعل الزنادق ، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ، إشارة أو تلويحاً ، فعلمنا كله إشارة ، فإذا صار عبارة خفي .
ولا تطلبوا علم الحقائق قبل بلوغ أجله ، وهو موت النفوس ، والزهد في الفلوس ، وكمال التربية ، وتمام التصفية ، { واعملوا أن الله يعلم ما في أنفسكم } من الشرة إليها قبل أوانها ، { فاحذروه } أن يعاقبكم بحرمانها ، { واعلموا أن الله غفور حليم } لا يعاجلكم بحرمان قصدكم ، إن صح مقصدكم ، والله تعالى أعلم ، وبالله التوفيق .
(1/192)

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
قلت : { ما } مصدرية ظرفية ، و { أو تفرضوا } معطوف على { تمسوهن } أي : لا تبعة عليكم ولا إثم إن طلقتم النساء قبل البناء ، مدة كونكم لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن مهراً ، و { إلا أن يعفون } مبنى؛ لاتصاله بنون النسوة ، ووزنه : يفعُلن كقوله تعالى : { السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَى مِمَّا يَدْعُنَنِى إِلَيْهِ } [ يُوسُف : 33 ] ، وقوله : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسآءِ الَّتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } [ النُّور : 60 ] ، و { حقّاً } مفعول مطلق .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا حرج عليكم من إثم أو صداق ، { إن طلقتم النساء } مدة كونكم { لم تمسوهن } بالجماع ، { ولم تفرضوا لهن فريضة } من الصداق ، فطلقوهن حينئذٍ ، { ومتعوهن } أي : اعطوهن ما يتمتعن به ويجبر كسرهن ، على قدر حال الزوج؛ { على الموسع } أي : الغنى ، { قدره } من المتعة كأمة أو كسوة أو مال يليق بحاله ، { وعلى المقتر } أي : الذي تقتر رزقه ، أي ضيق عليه ، وهو الفقير ، { حقّاً على المحسنين } أي : حقّ ذلك عليهم حقّاً . حمل مالكُ الأمْرَ على الندب ، وحمله غيره على الوجوب ، وهو الظاهر .
وإن طلقتموهن بعد المسيس فالصداق كامل ، { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن } صداقاً { فنصف ما فرضتم } يجب عليكم ، { إلا أن يعفون } أي : النساء ، عن نصف الصداق ، { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ، وهو الأب في ابنته البكر؛ قاله مالك ، أو الزوج بأن يدفعه كاملاً ، قاله الشافعي ، { وأن تعفوا } أيها الأولياء عن الزوج ، فلا تقبضوا منه شيئاً ، { أقرب للتقوى } ؛ لأن المرأة لم يذهب لها شيء فسلُعتُها قائمة ، { ولا تنسوا الفضل } والإحسان { بينكم } فتسامحوا يسمح لكم ، { إن الله بما تعملون بصير } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فيجازي المحسن بإحسانه ، { والله يحب المحسنين } .
الإشارة : من المريدين من تحصل له الغيبة عن نفسه ، والجذب عنها ، بعد أن يمسها بالمجاهدة والمكابدة ، فحينئذٍ يمتعها بالشهود والعيان ، وهذه طريق الجادة . ومنهم من تحصيل له الغيبة عن نفسه والجذب عنها قبل أن يمسها ، ويجاهدها ، وهو نادر بالنسبة إلى الأول ، فيقال لهؤلاء الفريق : لا جناح عليكم إن طلقتم أنفسكم ، وغبتم عنها ، من قبل أن تمسوها ، وقبل أن تعرضوا عليها وظائف العبودية . ومتعوهن بالشهود والعيان على قدر وسعكم وقوة شهودكم ، على الموسع قدره من لذة الشهود ، وعلى المقتر - أي : المضيق عليه في المعرفة - قدره من لذة الشهود ، حق ذلك حقّاً على المحسنين الذي حازوا مقام الإحسان ، وفازوا بالشهود والعيان .
وإن حصل لكم جذب العناية ، وطلقتم أنفسكم قبل أن تمسوها ، وقد كنتم وظفتم عليها أوراداً من وطائف العبودية؛ فنصف ما فرضتم ، وهو المهم منها؛ لأن عبادتها صارت قلبية ، فيكفيها من العبادة القالبية المهم ، إلا أن تقوى على ذلك مع الشهود . أو يأمرها الذي بيده عقدة نكاحها ، وهو الشيخ ، فلا يضرها الاشتغال بها حيث كان بإذْن ، وأن تعفوا ، أيها الشيوخ ، عن المريدين في العبادة الحسيّة ، وتأمروهم بالعبادة القلبية ، أقرب للتقوى الكاملة ، وهي تقوى السَّوَى . والله تعالى أعلم .
ولما ذكر الحقّ تعالى شأن النساء ، حذر من الاشتغال بهن عن العبادة .
(1/193)

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { حافظوا } أيضاً على أداء { الصلوات } الخمس في أوقاتها؛ بإتقان شروطها وأركانها وخشوعها وآدابها ، ولا تشتغلوا عنها بشهوات النساء وتشغيب أحكامهن ، ولا بغير ذلك ، وحافظوا أيضاً على { الصلاة الوسطى } وهي العصرعند الشافعي ، وهو ظاهر الحديث ، أو الصبح عند مالك؛ لفضلها ، أو لتوسطها بين صلاتي الليل والنهار . وما من صلاة إلا وقيل فيها الوسطى . وقيل : أخفيت كساعة الجمعة وليلة القدر .
{ وقوموا لله } في الصلاة { قانتين } أي : ساكتين ، وكان ، قبل نزول الآية ، الكلام في الصلاة جائزاً ، أو قيل : مطيعين : إذ القنوت في القرآن كله بمعنى الطاعة . { فإن خفتم } من عدو ، أو سَبع ، أو سَيْل ، فصلُّوا قياماً على أرجلكم بالإيماء للسجود ، { أو ركباناً } على خيولكم بالإيماء للركوع والسجود ، { فإذا أمنتم } في الصلاة ، أو بعدها ، فصلوا صلاة أَمْن ، و { اذكروا الله } في الصلاة ، وصلوا { كما علَّمكم } من الكيفية { ما لم تكونوا تعلمون } قبل ذلك .
الإشارة : حافظوا على الصلوات الحسية قياماً بوظائف العبودية ، وعلى الصلاة القلبية قياماً بشهود عظمة الربوبية؛ وهي الصلاة الوسطى لدوامها في كل ساعة ، قيل لبعضهم : هل للقلوب صلاة؟ قال : نعم ، إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً . ه . أي : إذا خضع لهيبة العظمة لم يرفع أبداً ، وفي ذلك يقول الشاعر :
فاسجُدْ لهيبةِ الجَلالِ ... عنْد التَّدَانِي
وَلْتَقْرَأ آيةَ الكَمالِ ... سَبْعَ المَثَانِي
وأشار بقوله : " آية الكمال " لقوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفَاتِحَة : 5 ] ليجمع بين الشريعة والحقيقة ، فسجود القلب حقيقة ، وسجود الجوارح شريعة ، وقوموا لله بآداب العبودية قانيت خاشعين ، فإن خفتم ألا تصلوا إلى ربكم ، قبل انقضاء أجلكم ، فسيروا إليه رجالاً أو ركباناً ، خفافاً أو ثقالاً ، فإذا أمنتم من القطيعة - وذلك بعد التمكين - فاذكروا الله شكراً لأجل ما أطلعكم عليه ، وعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون؛ من عظمة الربوبية ، وكمال آداب العبودية .
(1/194)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
قلت : { وصية } : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : عليهم وصية ، ومَنْ نَصَبَ ، فمفعول مطلق ، أي : فليوصوا وصية ، و { غير } : حال من الأزواج ، أي : حَالَ كَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُخْرَجَاتِ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والذين يتوفون منكم } ويتركون { أزواجاً } بعدهم ، فيجب عليهم أن يوصوا لأزواجهم وصية يتمتعن بها من كسوة ونفقة وسكنى ، إلى تمام { الحول } ما دام الأزواج لم يخرجن من مسكن الزوج ، { فإن خرجن } بأنفسهن ، فلا نفقة ولا كسوة ولا سكنى عليكم أيها الأولياء ، ولا حرج عليكم { فيما فعلن في أنفسهن } من التزين والتعرض للنكاح بعد تمام عدتهن ، على ما هو معروف في الشرع ، والوصية منسوخة بآية الميراث ، وتربص الحول بآية { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَراً } [ البَقَرَة : 234 ] المتقدمة المتأخرة في النزول ، { والله عزيز حكيم } ينسخ ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، باعتبار الحكمة والمصلحة .
الإشارة : والذين يُتوفون عن الحظوظ والشهوات ، ويتركون علوماً وأسراراً ، ينبغي لهم أن يوصوا بحفظها وتدوينها ، كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه إذا استغرف في الكلام وفاضت عليه المواهب ، يقول : ( هلاَّ رجلٌ يقيد عنا هذه العلوم ) . ه ليقع التمتع بها للسائرين والطالبين ، { غير إخراج } لغير أهلها ، فإن قضى الوقت يخروجها ، من غير قصد ، فلا حرج ، إما لغلبة وجد أو هداية مريد ، { والله عزيز حكيم } ، فعزته اقتضت الغيرة على سره : أن يأخذه غير أهله ، وحكمته اقتضت ظهوره في وقته لأهله . والله تعالى أعلم .
(1/195)

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
قلت : إنما كرره لأن الأولى في غير المدخول بها ، إذا طُلقت قبل الفرض ، وهذه في المدخول بها ، وعبَّر أولاً بالمحسن : لأن المتعة قبل الدخول لا يعطيها إلا أهل الإحسان؛ لأن المطلق لم يحصل له تمتع بالزوجة ، بخلاف الثاني ، فمطلق المدخول بها ، التقوى تحمله على الإمتاع .
وقيل : لمّا نزلت الآية الأولى ، قال رجل من المسلمين : إنْ أحسنتُ مَتَّعْتُ وإلاَّ تَركتُ ، فنزلت الثانية تأكيداً . وقال : { حقّاً على المتقين } الشرك ، أي : على كل مؤمن ، وحكمها : الندب ، عند مالك ، على تفصيل ذكره ، في المختصر ، فقال عاطفاً على المندوب : والمتعة على قدر حاله ، بعد العدة للرجعة ، أو ورثتها ، ككل مُطَلَّقة في نكاح لازم ، لا في فَسْخ؛ كلعَانٍ وملك أحد الزوجين ، إلا من اختلعَتْ ، أو فُرض لها وطُلقت قبل البناء ، ومختارة لعتقِها أو لِعَيْبه أو مُخَيَّرَة أو مُمَلَّكة .
الإشارة : كل من طلق نفسه وخالف هواها تمتع بحلاوة المعاملة مع ربه ، فمن اتصل بشيخ التربية تمتع بحلاوة العبادة القلبية كالشهود والعيان ، ومن لم يتصل بالشيخ تمتع بحلاوة العبادة الحسية . فالآية الأولى في المريدين والواصلين ، وهذه الآية في العُبَّاد والزهاد ، ولذلك عبّر في الأولى بالمحسنين ، وفي الثانية بالمتقين ، والله تعالى أعلم .
(1/196)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
قلت : الاستفهام للتعجب والتشويق ، والرؤية قلبية ، والواو للحال ، و { حَذَرَ } مفعول من أجله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ألم تنظر يا محمد ، بعين الفكر والاعتبار ، { إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } عشرة ، أو ثلاثون ، أو أربعون ، أو سبعون ، حذراً من { الموت } في زمن الطاعون .
وكانوا في قرية يقال لها : ( داوردان ) فلما وقع بها الطاعون ، خرجت طائفة هاربين ، وبقيت أخرى ، فهلك أكثر من بقي ، وسلم الخارجون ، ثم رجعوا ، فقال الباقون : لو صنعنا مثلهم لبقينا ، لئن أصابنا الطاعون مرة ثانية لخرجنا ، فأصابهم من قابل ، فهربوا كلهم ، ونزلوا وادياً أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه ، أن : موتوا ، فماتوا كلهم أجمعون ، ومرت عليهم مدة ثمانية أيام أو أكثر حتى انتفخوا ، وقيل : صاروا عظاماً ، فمرَّ عليهم نبيّ الله ( حزقيل ) ، فدعا الله تعالى ، واستشفع فيهم ، فأحياهم الله ، وعاشوا دهراً ، عليهم سيما الموت؛ لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن ، واستمر في أسباطهم . ه .
قال الأصمعي : لما وقع الطاعون بالبصرة ، خرج رجل منها على حمار معه أهله ، وله عبد يسوق حماره ، فأنشأ العبد يقول :
لن يُسبَقَ اللّهُ على حِمار ... ولا على ذي مَشعَةٍ طَيّار
قَدْ يُسبحُ الله أمَامَ السارِي ... فرجع الرجل بعياله .
والآية تدل على أن الفرار من الطاعون حرام في تلك الشريعة ، كما حرم في شرعنا ، وروى عبد الرحمن بن عوف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا سَمِعْتُمْ هذا الوباء بِبلد فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ ، وإذَا وَقَعَ بِبلد وَأَنْتُمْ فيه فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهُ " .
قلت : وقد اختلف الأئمة في حكم الفرار والقدوم : فمنهم من شهر المنع فيهما تمسكاً بظاهر الحديث ، ومنهم من شهر الكراهة ، والمختار في الفرار : التحريم ، وفي القدوم : التفصيل ، فمن قوي يقينه ، وصفا توحيده ، حَلَّ له القدوم ، ومن ضعف يقينه ، بحيث إذا أصابه شيء نسب التأثير لغير الله حرم عليه القدوم .
وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - قلت : يا رسول الله ، ما الطاعون؟ قال : " غدة كغدة البعير ، المقيم فيه كالشهيد ، والفارُّ منه كالفار من الزحْف " قال ابن حجر : كون المقيم فيه له أجر شهيد إنما بشرط أن يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأن يسلم إليه أمره ويرضى بقضائه ، وأن يبقى في مكانه ولا يخرج منه بقصد الفرار ، فإذا اتصف الجالس بهذه القيود حصل له أجر الشهادة ، ودخل تحته ثلاث صور ، الأولى : من اتصف بذلك فوقع له الطاعون ومات فهو شهيد . والثانية : من وقع به ولم يمت به فهو شهيد وإن مات بعد ذلك . والثالثة : من لم يقع به أصلاً ومات بغيره عاجلاً أو آجلاً فهو شهيد ، إذا حصلت فيه القيود الثلاثة ، ومن لم يتصف بالقيود الثلاثة فليس بشهيد ، ولو مات بالطاعون ، والله أعلم .
(1/197)

ه .
وأما القدوم من بلد الطاعون إلى البلد السالمة منه فجائز . ولا يُمنع من الدخول ، قاله الباجي وابن حجر والحطاب وغيرهم لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ " وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ " وقوله : " لاَ يُرد مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ " فهو محمول على حسم المادة ، وسد الذريعة؛ لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك ، فيظنه بسبب المخالطة ، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع ، هذا المختار في الجمع بين الحديثين . والله تعالى أعلم . وإنما أطلت في المسألة لِمَسْ الحاجة؛ لأن التأليف وقع في زمن الوباء ، حفظنا الله من وبالها .
وقيل : إن الذين خرجوا من ديارهم قوم من بني إسرائيل ، أُمروا بالجهاد ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد ، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله؛ ليعرفهم أنهم لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم؛ وأمرهم بالجهاد ، بقوله : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية . وقوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } ؛ حيث أنزل بهم رحمته ، ففروا منها ، ولم يعاقبهم ، حيث أحياهم بعد موتهم ، { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } إذ لا يفهم النعم في طي النقم إلا القليل ، فيشكروا الله في السراء والضراء .
الإشارة : ألم تر أيها السامع إلى الذين خرجوا من ديار عوائدهم وأوطان شهواتهم ، وهم جماعة أهل التجريد ، القاصدين إلى صفاء التوحيد ، الغرق في بحر التفريد ، حذراً من موت أرواحهم بالجهل والفَرْقِ ، فاصطفاهم الله لحضرته ، وجذبهم إلى مشاهدة ذاته ، فقال لهم الله : موتوا عن حظوظكم ، وغيبوا عن وجودكم ، فلما ماتوا عن حظوظهم ، وغابوا عن وجودهم ، أحياهم الله بالعلم والمعرفة ، { إن الله لذو فضل على الناس } حيث فتح لهم باب السلوك ، وهيأهم لمعرفة ملك الملوك ، { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } حيث تجلّى لهم ، وعرَّفهم به ، وهم لا يشعرون ، إلا من فتح الله بصيرتهم ، وقليل ما هم .
(1/198)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقاتلوا } الكفار { في سبيل الله } وإعلاء كلمة الله حتى يكون الدين كله لله ، { واعلموا أن الله سميع } لأقوالكم ودعائكم { عليم } بنياتكم وإخلاصكم؛ فيجازي المخلصين ، ويحرم المخلطين .
الإشارة : وجاهدوا نفوسكم في طريق الوصول إلى الله ، وأديموا السير إلى حضرة الله ، فحضرة القدوس محرمة على أهل النفوس . قال الششتري :
إِنْ تُردْ وَصْلَنَا فموتُكَ شَرطٌ ... لاَ ينالُ الوِصَالَ مَنْ فِيه فَضْلَه
ومجاهدة النفس هو تحميلها ما يثقل عليها ، وبُعدها مما يخف عليها ، حتى لا يثقل عليها شيء ، ولا تشره إلى شيء ، بل يكون هواها ما يقضيه عليها مولاها . قيل لبعضهم ، [ ما تشتهي؟ قال : ما يقضي الله ] . واعلموا أيها السائرون أن الله سميع لأذكاركم ، عليهم بإخلاصكم ومقاصدكم .
ولما كان الجهاد يحتاج إلى مؤنة التجهيز ، وليس كل الناس يقدر على ذلك ، رَغَّبَ الحق تعالى الأقوياء بالإنفاق على الفقراء .
(1/199)

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
قلت : القرض هو القطع ، أطْلِقَ على السلف؛ لأن المُقْرِضَ يقطع قطعة من ماله ويدفعها للمستلف ، والمراد بها الصدقة؛ لأن المتصدق يدفع الصدقة فيردها الحق تعالى له بضعف أمثالها؛ فأشبهت القرض في مطلق الرد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : مَنْ هذا الذي يعامل الله تعالى ويقرضه { قرضاً حسناً } بأن بتصدق على عباده صدقة حسنة بنية خالصة ، فيُكثرها الله تعالى له { أضعافاً كثيرة } ؛ بسبعمائة إلى ما لا نهاية له ، ولا يحمله خوف الفقر على ترك الصدقة؛ فإن الله تعالى يقبض الرزق عمن يشاء ولو قل إعطاؤه ، ويبسط الرزق على من يشاء ولو كثر إعطاؤه ، بل يقبض على من قبض يده شحّاً وبخلاً ، ويبسط على من بسط يده عطاءً وبذلاً ، يقول : " يا ابن آدم أَنْفِقْ أُنِفقْ عليك " ، " أُنْفِقْ ولا تَخْش مِنْ ذِي العَرِشَ إِقلالاً " .
ونسبة القرض إليه تعالى ترغيب وتقريب للإفهام ، كما قال في الحديث القدسي : " يقول الله تعالى يوم القيامة : يَا ابْنَ آدَمَ ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْني ، قَالَ : يَا رَبّ! كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالِّمِين؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ . أَمَا إِنَكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتِني . يَا ابْنَ آدَم اسْتَطْعَمتُكَ فَلَمْ تُطْعِمني . قال : يَا رَبّ! كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ : أَمَا أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعمْه؟ أَمَأ عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَه لَوَجَدْتَ ذَلكَ عِنْدِي . يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيتك فَلَمْ تَسْقِيني . قَالَ . يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قال : اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تسْقِه . أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي " .
الإشارة : من هذا الذي يقطع قلبه عن حب الدارين ، ويرفع همته عن الكونين ، فإن الله { يضاعفه له أضعافاً كثيرة } بأن يُمَلِّكَهُ الوجودَ بما فيه ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك " ، { والله يقبض ويبسط } فيقبض الوجود تحت حكمك وهمتك ، إن رفعت همتك عنه ، ويبسط يدك بالتصرف فيه ، إن علقت عمتك بخالقه . أو يقبض القلوب بالفقد والوحشة ، ويبسطها بالإيناس والبهجة . أو يقبض الأرواح بالوفاة ، ويبسطها بالحياة . والقبض والبسط عند أهل التصوف : حالتان تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار ، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضاً ، وإذاغلب حال الرجاء كان مبسوطاً ، وهذا حال السائرين . أما الواصلون فقد اعتدل خوفهم ورجاؤهم ، فلا يؤثر فيهم قبض ولا بسط ، لنهم مالكوا الأحوالَ .
قال القشيري : فإذا كاشف العبدَ بنعت جماله بسطَه ، وإذا كاشفه بنعت جلاله قَبضه . فالقبض يوجب إيحاشَه ، والبسط يُوجب إيناسه ، واعلم أنه يَرُدُّ العبد إلى حال بشريته ، فيقبضه حتى لا يُطيق ذَرَّة ، ويأخذه مَرَّة عن نعوته ، فيجد لحمل ما يَرِدُ عليه قدرة وطاقة ، قال الشَّبْلِي رضي الله عنه : ( من عَرَفَ الله حمَل السماوات والأرض على شعرة من جَفْن عينه ، ومن لم يعرف الله - جلّ وعلا - لو تعلق به جَناح بعوضة لضجَّ ) .
(1/200)

وقال أهل المعرفة : [ أذا قَبض قَبض حتى لا طاقة ، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة ، والكل منه وإليه ] . ومن عرف أن الله هو القابض الباسط ، لم يَعتِب أحداً من الخلق ، ولا يسكن إليه في إقبال ولا إدبار ، ولم ييأس منه في البلاء ، ولا يسكُن إليه في عطاء ، فلا يكون له تدبير أبداً . ه .
ولكلٍّ من القبض والبسط آداب ، فآداب القبض : السكون تحت مجاري الأقدار ، وانتظار الفرج من الكريم الغفار . وآداب البسط : كف اللسان ، وقبض العنان ، والحياء من الكريم المنان . والبسط مَزَلَّة أقدام الرجال . قال بعضهم : ( فُتح عليَّ بابٌ من البسط فزللتُ زَلَّة ، فحُجِبْتُ عن مقامي ثلاثين سنة ) . ولذلك قيل : قف على البساط وإياك والانبساطَ .
واعلم أن القبض والبسط فوق الخوف والرجاء ، وفوق القبض والبسط : الهيبة والأنس فالخوف والرجاء للمؤمنين ، والقبض والبسط للسائرين ، والهيبة والأنس للعارفين ، ثم المحو في وجود العين للمتمكنين ، فلا هيبة لهم ، ولا أنس ، ولا علم ، ولا حس .
وأنشدوا :
فلو كُنْتَ مِنْ أَهلِ الوُجودِ حقيقةً ... لغبْتَ عَن الأكوانِ والعرشِ والكرسي
وكُنْتَ بلا حالٍ مَع اللّهِ واقفاً ... تُصان عَنْ التّذْكَارِ للجِن والإِنْسِ
(1/201)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم تر } يا محمد - فتعتبر - { إلى } قصة جماعة { من بني إسرائيل من بعد } موت { موسى } حين طلبوا الجهاد ، وقالوا { لنبيّ لهم } يقال له : شمويل ، وقيل : شمعون { ابعث لنا ملكاً } يَسوس أمرنا ونرجع إليه في رأينا؛ إذ الحرب لا تستقيم بغير إمام { نقاتل } معه { في سبيل الله قال } لهم ذلك النبيّ : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } أي : هل أنتم قريب من التولي والفرار إن كُتب عليكم القتال؟ والمعنى : أتوقع جُبْنكم عن القتال إنْ فُرض عليكم . والأصل : عساكم أن تجبنوا إن فرض عليكم ، فأدخل { هل } على فعل التوقع ، مستفهماً عما هو المتوقع عنده ، تقريراً وتثبيتاً .
{ قالوا } في جوابه : { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله } أيْ : أيُّ مانع يمنعنا من القتال وقد وُجد داعيه؟ وهو تسلط العدو علينا فأخْرَجَنَا من ديارنا وأسَرَ أبناءَنا ، وكان الله تعالى سلط عليهم جالوت ومن معه من العمالقة ، كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، وذلك لمَّا عصوا وسفكوا الدماء ، فخرَّبَ بيت المقدس ، وحرق التوراة ، وأخذ التابوت الذي كانوا ينتصرون به ، وسبي نساءهم وذراريهم . رُوِيَ أنه سبي من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين ، فسألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يجاهدون معه ، { فلما كُتب عليهم القتال } ويَسر لهم ملكاً يسوسهم وهو طالوت . جبنُوا وتولوا { إلا قليلاً منهم } ، وهم من عَبَرَ النهر مع طالوت ، { والله عليم بالظالمين } فيخزيهم ويُفسد رأيهم . . . نعوذ بالله من ذلك .
الإشارة : ترى كثيراً من الناس يتمنون أو لو ظفروا بشيخ التربية ، ويقولون : لو وجدناه لجاهدنا أنفسنا أكثر من غيرنا ، فلما ظهر ، وعُرف بالتربية ، تولى ونكص على عقبيه ، وتعلل بالإنكار وعدم الأهلية ، إلا قليلاً ممن خصه الله بعنايته { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشآء } [ البَقَرَة : 105 ] { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ البَقَرَة : 105 ] سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه .
(1/202)

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقال لهم نبيهم } شمويل : { إن الله قد بعث لكم } ملكاً ، أي : عيَّنه لكم لتقاتلوا معه ، وهو { طالوت } وهو عَلَمٌ عِبْراني كدَاوُد ، { قالوا } تعنتاً وتشغيباً : { أنى يكون له الملك علينا } أي من أين يستأهل التملك علينا وليس من دار الملك؟ لأن المملكة كانت في أولاد يهوذا ، وطالوت من أولاد بنيامين ، والنبوة كانت في أولاد لاوى . وقالوا : { نحن أحق بالملك منه } وراثة ومُكْنة ، لأن دار المملكة فينا . وأيضاً هو فقير { لم يُؤْتَ سعة من المال } يتقوى به على حرب عدوه ، وكان طالوت فقيراً راعياً أو سَقَّاءً أو دباغاً . { قال } لهم نبيهم - عليه السلام- : { إن اصطفاه عليكم } رغم أنفكم . قال وهب بن منبه : أوحى الله إلى نبيهم : إذا دخل عليك رجل فَنَش الدُهنَ الذي في القرن فهو ملكهم ، فلما دخل طالوت نَشَّ الدهن .
وقال السدي : أرسل الله إليه عَصا ، وقال له : إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم ، فكان ذلك طالوت فتبيَّن أن الله تعالى اصطفاه للملك ، { وزاده بسطه في العلم } فكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة وقيل : بالحروب وعلم السياسة . وزاده أيضاً بسطه في { الجسم } ، فكان أطولُ بني إسرائيل يبلغ إلى مَنْكبِهِ . وذلك ليكون أعظم خطَراً في القلوب ، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب ، { والله يؤتي ملكه من يشاء } ؛ لأنه مَلِك الملوك يضع مُلكه حيث شاء ، { والله واسع } فيوسع على الفقير ويغنيه بلا سبب ، { عليم } بمن يليق بالملك بسبب وبلا سبب .
(1/203)

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
قلت : قال الجوهري : أصل التابوت : تأبُوة ، مثل تَرْقُوة وهي فَعْلُوةٌ ، فلما سُكِّنتْ الواو ، انقلبت هاء التأنيث تاءٌ ، فلغة قريش بالتاء ، ولغة الأنصار بالهاء .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقال لهم نبيهم } لَمَّا طلبوا منه الحجة على اصطفاه طالوت للملك : { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } وهو صندوق من خشب الشمشار مُمَوَّه بالذهب ، طوله ثلاثة أذرع في سعة ذراعين { فيه سكينة من ربكم } أي : فيه ما تسكن إليه قلوبكم وتثبت عند الحرب . وكانوا يُقدمونه أمامهم في الحروب فلا يفرون ، ويُنصرون على عدوهم ، وقيل : كان فيه صور الأنبياء من آدم السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : كان فيه طَسْت من ذهب غُسلت به قلوب الأنبياء - عليهم السلام - وهي السكينة - وفي { بقيمة مما ترك آل موسى } وهي رُضاض الألواح ، وعصا موسى ، وثيابه ، وعمامة هارون والآل : مقحم فيهما .
{ تحمله الملائكة } قال وهب : لما صار التابوت عند القوم الذين غلبوا بني إسرائيل - فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام ، فكانت الأصنام تُصبح مُنكسرة ، فحملوه إلى قرية قوم ، فأصاب أولئك القومَ أوجاعٌ ، فقالوا : ما هذا إلا لهذا التابوت ، فلنتركه إلى بني إسرائيل ، فأخذوا عَجَلَةً فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين ، وأرسلوهما نحو بلاد بني إسرائيل ، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل ، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر ، وقيل غيرُ ذلك .
وقوله تعالى : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } يحتمل أن يكون من كلام نبيهم ، أو من كلام الحق تعالى لنبينا - عليه الصلاة والسلام - .
الإشارة : من شأن غالب النفوس ألا تقبل الخصوصية عند أحد حتى تظهر علامتُها ، ولذلك طالب الكفارُ الرسلَ بالمعجزات ، وطالب العوامُ الأولياءَ بالكرامات ، ويكفي في الولي استقامة ظاهره ، وتحقيق اليقين في باطنه .
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : " إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان : كرامة الإيمان بمزيد الإيقان ونعت العيان ، وكرامة العمل على السنة والمتابعة ، وترك الدعاوى والمخادعة ، فَمنْ أُعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو مفترٍ كذاب ، أو ذو خطأ في العلم والعمل . . . " الخ كلامه رضي الله عنه .
وقال في العوارف : وقد يكون مَنْ لا يُكَاشَفُ بشيء من معاني القَدَر أفضل ممن يكاشف بها ، إذا كاشفه الله تعالى بصرف المعرفة ، فالقدرة أثر من القادر ، ومن أُهِّل لقرب القادر لا يستغرب ولا يستكثر شيئاً من القدرة ، ويرى القدرة تتجلّى من سُحُب أجزاء عالم الحكمة . فالكرامة إنما تظهر للقلوب المضطربة والنفوس والمتزلزلة ، وأما من سكن قلبه باليقين واطمأنت نفسه بالعيان لم يحتج إلى دليل برهان؛ إذ الجبال الراسية لا تحتاج إلى دُعامة ، والله تعالى أعلم .
وكل من طالب أهلَ الخصوصية بالكرامة الحسية ففيه نزعة إسرائيلية ، حيث قالوا لنبيهم بعد أن عيَّن لهم مَنْ أكرمه الله بخصوصية الملك : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ لْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُ بِالْمُلْكِ مِنْهُ } [ البقرة : 247 ] . ورد الحق تعالى عليهم بقوله : { والله يؤتي ملكه من يشاء } . وما أظهر لهم كرامة التابوت إلا بعد امتناعهم من الجهاد المُتَعَيَّنِ عليهم رحمةٌ بهم . والله تعالى أعلم .
(1/204)

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
قلت : قال في القاموس : غَرَفَ الماء يِغْرُفُه : أخذ بيده ، كاغْتَرَفه ، والغَرْفَةُ للمَرَّة ، وبالكسر : هيئة الغرف وبالضام : اسم للمفعول ، كالغرافة ، لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غُرْفَة ، ثم قال : والغُرْفَةُ ، بالضم : العُلِّيَّة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما اتفقوا على مُلك طالوت تجهز للخروج ، وقال : لا يخرج معه إلا الشبابُ النشيط الفارغُ ليس وراءه غُلْقة ، فاجتمع ممن اختار ثمانون ألفاً ، وقي : ثلاثون ، فلما انفصل عن بلده بالجنود وساروا في البيداء - وكان وقت الحرِّ والقيّظ - عطشوا ، وسألوا طالوتَ أن يُجري لهم نهراً ، فقال لهم بوحْي ، أو بإلهام ، أو بأمر نبيهم : { إن الله مبتليكم } أي : مُختبركم { بنهر } بسبب اقتراحكم ، { فمن شرب منه } كَرْعاً بلا واسطة { فليس مني } أي : من جيشي ، { ومن لم يطعمه } أي : يَذْقه ، { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } فإنها تكفيه لنفسه ولفرسه ، فالاستثناء من الجملة الأولى .
{ فشربوا منه } أي : كَرعُوا ، وسقطوا على وجوههم ، { إلا قليلاً منهم } ثلاثُمائةٍ وأربعةَ عشر ، على عدد أهل بدر ، وقيل : ألفاً . رُوِيَ أن من اقتصر على الغَرفة كَفَتْه لشربه ودوابه ، ومن لم يقتصر غلب عطشُه ، واسودَّتْ شفتُه ولم يقدْر أن يمضيَ . وعن ابن عباس : أن القومَ شربوا على قدر يقينهم : فالكفار شربوا شُربَ الهيم ، وشَرِب العاصي دون ذلك ، وانصرف من القوم ستةٌ وسبعون ألفاً ، وبقي بعضُ المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغَرفة ، فأما من شرب فاشتد به العطشُ وسقط ، وأما من ترك الماءَ فحسن حالُه ، وكان أجلَد ممن أخذ الغرفة . ه .
وحكمة هذ الامتحان : ليتخلص للجهاد المطيعون المخلصون ، إذ لا يقع النصر إلاَّ بهم ، فلما جاوز النهرَ طالوتُ ومن بقيَ معه ممن لم يشربْ قال بعضهم لبعض : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ؛ لكثرتهم وقلة عددنا ، { قال الذين يظنون } أي : يَتَيَقَّنْون { أنهم ملاقوا الله } ويتوقعون ثوابَ الشهادة وهم الخُلْصُ من أهل البصيرة : لا تفزعوا من كثرة عددهم { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } وإرادته ومعونته ، و { كم } للتكثير ، { والله مع الصابرين } بالنصر والمعونة .
الإشارة : قال بعض الحكماء : الدنيا كنهر طالوت ، لا ينجو منها إلا من لم يشربْ أو اغترف غرفةً بيده ، فمن أخذ منها قَدْرَ الضرورةِ كَفَتْه ، ونَشَطَ لعبادة مولاه ، ومن أخذ فوق الحاجة حُبس في سجنها ، وكان أسيراً في يدها .
وقال بعضهم : طالبُ الدنيا كشارب ماءِ البحر ، كلما زاد شربه ازداد عطشه . ه . وقال صلى الله عليه وسلم : " من أُشرب قلبه حُبَ الدنيا التاط منها بثلاث : بشغل لا ينفد عناه ، وأمل لا يبلغ منتهاه ، وحرص لا يدرك مداه " وقال عيسى عليه السلام : الدنيا مزرعة لإبليس ، وأهلها حراث له ه . وقال عليّ رضي الله عنه : الدنيا كالحية : لَيِّن مسها ، قاتل سمها ، فكن أحذر ما تكونُ منها ، أَسَرَّ ما تكون بها؛ فإن من سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش .
(1/205)

وقال عليه الصلاة والسلام : " مِنْ هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها " وقال سيدنا عليّ - كرّم الله وجهه- : أول الدنيا عناء ، وآخرها فناء ، حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، ومتشابهها عتاب ، من استغنى فيها فُتن ، ومن افتقر فيها حزن . ه . وقيل : الدنيا تُقبل إقبال الطالب ، وتُدبر إدبار الهارب ، وتصل وصال الملول ، وتُفارق فراق العجول ، خيرها يسير ، وعمرها قصير ، ولذاتها فانية ، وتبعاتها باقية .
وقال عيسى عليه السلام : تعملون للدنيا ، وأنتم تُرزقون فيها بغير عمل ، ولا تعملون للآخرة ، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل . ه . وقيل : أوحى الله إلى الدنيا : مَنْ خدَمني فاخدِميه ، ومن خدمك فاستخدِميه .
وكان عمرُ بنُ عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات :
نهارُكَ مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ ... وليلُكَ نومٌ ، والأسَى لك لازمٌ
تُسَرُّ بما يفْنَى ، وتفرحُ بالمُنَى ... كما سُرَّ باللذَّات في النومِ حالمُ
وشغلُك فيها سوف تكرَه غَبَّه ... كذلك في الدنيا تَعيِشُ البهائمُ
وقال آخر :
هي الدارُ دَارُ الأذى والقذى ... ودارُ الفناءِ ودارُ الْغِيَرْ
فلو نِلْتَها بحذافيرها ... لمِتَّ ولم تَقْضِ منا الوطرْ
أيا مَنْ يؤملُ طولَ الخلودِ ... وطولُ الخلودِ عليه ضررْ
إذا ما كبِرْتَ وفات الشبَابُ ... فلا خيرَ في العيش بعد الكِبرْ
(1/206)

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما برز طالوت بمَن معه { لجالوتَ } ، أي : ظهر في البرَاز ، ودنا بعضهم من بعض ، تضرعوا إلى الله واستنصروه ، وقالوا : { ربنا أفرغ علينا صبراً } أي : أصْبُبْه علينا صبّاً ، { وثبت أقدامنا } عند اللقاء لئلا نَفِرّ ، { وانصرنا على القوم الكافرين } . وفي دعائهم ترتيب بليغ؛ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر ، ثم ثبات القدمِ في مَدَاحِضِ الحرب المُسببِ عنه ، ثم النصرَ على العدو المرتب عليها غالباً .
فهزم الله عدوَّهم وأجاب دعاءهم بإذنه وقدرته ، { وقتل داود جالوت } . وقصة قتله : أن أصحاب طالوت كان فيهم بنو إيش ، وهو أبو داود عليه السلام ستة أو سبعة ، وكان داود صغيراً يرعى غنماً ، فلما حضرت الحرب قال في نسفه : لأذهبن لرؤية هذه الحرب ، فمرَّ في طريقه ، بحجر فناداه : يا داود خُذْني ، فبي تقتل جالوت ، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها ، وجعلها في مخلاته وسار ، فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب البراز ، وكاع الناس عنه ، أي : تأخروا خوفاً ، حتى قال طالوت : من بيرز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي ، وأُحَكِّمُهُ في مالي ، فجاء داود ، فقال له طالوت : اركب فرسي وخذ سلاحي ، ففعل ، وخرج في أحسن شكله ، فلما مشى قليلاً رجع ، فقال الناس : جَبُنَ الفتى ، فقال داود : إن الله سبحانه لم يقتله ولم يُعنى عليه ، لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح ، ولكني أُحب أن أقاتله على عادتي . وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع ، فنزل ، وأخذ مخلاته فتقلدها ، وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت ، وهو شاكٍ في السلاح ، فقال جالوت : أنت يا فتى تخرج إليّ! قال : نعم ، قال : هكذا كما تخرج إلى الكلب! قال : نعم ، وأنت أهون ، قال : لأطعمن لحمك اليوم الطير والسباع ، ثم تدانيا فأدار داود فأخذ مقلاعه وأدخل يده إلى الحجارة ، فروى أنها التأمت ، وصارت حجراً واحداً ، فأخذه ووضعه في المقلاع ، وسَمَّى الله ، وأداره ، ورماه ، فأصاب رأس جالوت فقتله ، وجزّ رأسه ، وجعله في مخلاته ، واختلط الناس ، وحمل أصحابُ طالوت فكانت الهزيمة .
ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت ، فقال : حتى تقتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس يؤذون الناس وتجيئني بسلبهم ، فقتل داود منهم مائتين ، وجاء بذلك ، فدفع إليه امرأته وتخلّى له على الملك . ولما تمكن داود - عليه السلام - من الملك ، أجلى من بقي من قوم جالوت إلى المغرب ، فمن بقيتهم البرابرة من الشلوح وسائر الأرياف .
فآتي اللّهُ داود { الملك والحكمة } وهي النبوة ، وقيل : صنعة الدروع ومنطق الطير { وعلمه مما يشاء } من أنواع العلوم والمعارف والأسرار ، وقد دفع الله بأس الكافرين ورد كيدهم في نحرهم ، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أي : لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ، فينصر المسلمين على الكافرين ، ويكف فسادهم ، لغلبوا وأفسدوا في الأرض .
(1/207)

أو : لولا أن الله نصب السلطان ، وأقام الحكام لينصفوا المظلوم من الظالم . ويردوا القوي عن الضعيف ، لتواثب الخلق بعضهم على بعض ، وأكل القوي الضعيفَ فيفسد النظام . أو : لولا أن الله يدفع بالشهود عن الناس في حفظ الأموال والنفوس والدماء والأعراض ، لوقع الفساد في الأرض .
أو : لولا أن الله يدفع بأهل الطاعة والإحسان عن أهل الغفلة والعصيان ، لفسد الأرض بشؤم أهل العصيان . وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله يَدْفَعُ بالمُصلِّي مِنْ أمَّتِي عَمَّنْ لا يُصلي ، ويمنْ يُزكيَّ عَمَّنْ لاَ يُزَكِّي ، وبِمنْ يَصُومُ ، عَمَّنْ لاَ يَصُوم ، وبمَنْ يَحُجُّ ، عَمَّنْ لاَ يَحُجُّ ، وبَمَّنْ يُجاهِدُ عَمَّنْ لاَ يُجَاهِدُ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هذِهِ الأشْياءِ ما أنْظَرَهُمُ الله طَرْفة عَيْنٍ " .
وفي حديث آخر : " لولا عباد الله رُكَّع ، وصبية رُضَّع ، لصبَّ عليكم العذاب صبّاً " .
ورَوى جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليُصْلِحُ بصلاح الرجل - ولده وولدَه ولدهِ ، وأهل دُوَيْرَتِه ، ودويراتٍ حوله ، ولا يزالون في حِفْظِ الله ما دام فيهم " ه . فهذا من فضل الله على عباده يصلح طالحهم بصالحهم ، ويُشَفع خيارُهُم في شرارهم ، ولولا ذلك لعوجلوا بالهلاك ، { ولكن الله ذو فضل على العالمين } .
{ تلك } يا محمد ، { آيات الله } والإشارة إلى ما قصَّ من حديث الألوف ، وتمليك طالوت ، وإتيان التابوت ، وانهزام الجبابرة أصحاب جالوت ، { نتلوها } أي : نقصها عليكم { بالحق } أي : بالوجه المطابق الذي لا يَشُك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ ، { وإنك لمن المرسلين } حيث أخبرت بها من غير تعرف ولا استماع ولم يعهد منك تعلم ولا اطلاع ، فلا يشك أنه مِنْ عند الخبير العليم ، إلا من طبع الله على قلبه . نعوذ بالله من ذلك .
الإشارة : " من علامة النُجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات " ، فإذا برز المريد لجهاد أعدائه من النفس وَالهوى والشيطان وسائر القُطاع ، واستنصر بالله وتبرأ من حوله وقوته ، كان ذلك علامة على نصره وظفره بنفسه ، وكان سبباً في نجح نهايته ، فيملكه الله الوجود بأسره ، ويفتح عليه من خزائن حكمته . قال أبو سليمان الداراني " ( إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام ، جالت في الملكوت ثم عادت إلى صاحبها بطرائف الحكم من غير أن يُؤدّي عالمٌ علماً ) . وفي الخبر : " من عَمِل بما عَلِمَ أورثه الله عِلْمَ ما لم يعلمْ " . وكان حينئذٍ رحمة للعباد ، يدفع الله بوجوده العذاب عمن يستحقه من عباده .
وفي الحديث القدسي : " يقول الله عزّ وجلّ : " إذا كان الغالبَ على عبدي الاشتغالُ بي جعلتُ همته ولذَّته في ذكري ، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه ، لا يسهو إذا سها الناس ، أولئك كَلاَمُهُم كلام الأنبياء ، أولئك الأبطال حقّاً ، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم " حقَّقنا الله بمحبتهم وجعلنا منهم . . . آمين .
ولمَّا ذكر في هذه السورة جملة من الأنبياء والرسل ، وشهد لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه من المرسلين ذكر تفضيل بعضهم على بعض في الجملة .
(1/208)

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{ تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس . . . }
{ قلت } : { تلك } : مبتدأ ، و { الرسل } : نعت ، أو بدل منه ، أو بيان ، و { فضلنا } : خبر ، أو { الرسل } خبر ، و { فضلنا } : خبر ثان ، والإشارة إلى الجماعة المذكور قَصَصُها في السورة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { تلك الرسل } الذين قصصناهم عليك ، وذكرتُ لك أنك منهم ، { فضلنا بعضهم على بعض } بخصائص ومناقب لم توجد في غيره . لكن هذا التفضيل إنما يكون في الجملة من غير تعيين المفضول ، لأنه تنقيص في حقه وهو ممنوع . ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنبِيَاءَ " " ولا تفضلوني على يونس بن متى " فإن معناه النهي عن تعيين المفضول ، لأنه غيبة وتنقيص ، وقد صرّح صلى الله عليه وسلم بفضله على جميع الأنياء بقوله : " أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ " ولكن لا يُعَيِّن أحداً من الأنبياء بالمفضولية؛ لئلا يؤدي إلى نقصه ، فلا تعارُضَ ين الحديثين .
{ منهم مَن كلّم الله } وهو موسى عليه السلام في جبل الطور ، وسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان قاب قوسين أو أدنى ، { ورفع بعضهم درجات } وهو نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه خُصَّ بالدعوة العامة ، والحُجَج المتكاثرة ، والمعجزات المستمرة ، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر . والإبهام لتفخيم شأنه ، كأنه العلم المشهور المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين . وقيل : إبراهيم ، خصه بالخلة التي هي أعلى المراتب . قلت : بل المحبة أعلى منها ، وقيل : إدريس لقوله : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [ مريَم : 57 ] ، وقيل : أولو العزم من الرسل ، قاله البيضاوي .
{ وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي : الآيات الواضحات ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، { وأيدناه بروح القدس } ، أي : جبريل عليه السلام كان معه أينما سار ، وخصَّه بالتعيين؛ فإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه ، فردَّهم إلى الصواب باعتقاده نبوته دون ربوبيته .
الإشارة : كما فضَّل الله الرسل بعضهم على بعض ، كذلك فضل الأولياء بعضهم على بعض ، وإنما يقع التفضيل بكمال اليقين ، والتغلغل في علم التوحيد الخاص ، ذوقاً وكشفاً ، والترقي في المعارف والأسرار ، وذلك بخدمة الرجال وصحبة أهل الكمال ، والتفرغ التام ، والزهد الكامل في النفس والفَلْس والجنْس ، فمنهم من تحصل له المشاهدة وتصحبها المكالمة ، ومنهم من تحصل له المشاهدة دون المكالمة ، ومنهم من تحصل له الكرامات الواضحة ، ومنهم من لا يرى شيئاً من ذلك استغناءً عنها بكرامة المعرفة . وما قيل في الرسل من عدم تعيين المفضول ، مثله يقال في حق الأولياء ، وإلا وقع في الغيبة الشنيعة؛ فإن لحوم الأولياء سموم ، فليعتقد الكمال في الجميع ، ولا يصرح بتعيين المفضول كما تقدم .
(1/209)

والله تعالى أعلم .
ولما ذكر الحقّ تعالى أحوال الرسل ، وتفاوتهم في العناية ، ذكر أحوال أممهم وتفاوتهم في الهداية ، فقال :
{ . . . وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
قلت : إذا وقع فعل المشيئة بعد { لو } فالغالب حذف مفعوله ، كقوله : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } [ الأعراف : 176 ] ، أي : لو شئنا رفعه لرفعناه بها ، وكقوله : { ولو شاء الله ما اقتتل . . . } ، أي : لو شاء هدايتهم ما اقتتلوا ، وغير ذلك .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما بعثتُ الرسلَ ، وفضَّلتُ بعضَهم على بعض ، اختلفت أممهم من بعدهم فاقتتلوا ، وكل ذلك بإرادتي ومشيئتي ، { ولو شاء الله } هداية أممهم { ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم } المعجزات الواضحات في تحقيق رسالتهم وصحة نبوتهم ، { ولكن اختلفوا } بغياً وحسداً؛ { فمنهم من آمن } بتوفيقه لاتباع دين الأنبياء ، { ومنهم من كفر } بمخالفتهم ، فكان من الأشقياء ، { ولو شاء الله } جَمْعهم على الهدى { ما اقتتلوا } ، لكن حكمته اقتضت وجود الاختلاف؛ ليظهر سر اسمه المنتقم والقهار واسمه الكريم والحليم ، { ولكن الله يفعل ما يريد } { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبيَاء : 23 ] .
وفي الآية دليل على أن الحوادث كلها بيد الله خيرها وشرها ، وأن أفعال العباد كلها بقدرته تعالى ، لا تأثير لشيء من الكائنات فيها . وهذا يردُّ قول المعتزلة القائلين بخلق العبد أفعاله ، فما أبعدهم عن الله . نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه .
الإشارة : اختلاف الناس على الأولياء سُنة ماضية وحكمة أزلية ، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزَاب : 62 ] ، { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [ هُود : 118 ] ، فمن رأيته من الأولياء اتفق الناسُ على تعظيمه في حياته فهو ناقص أو جاهل بالله؛ إذ الداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور ، وهذا هو الغالب ، والنادر لا حكم له ، فلو كان الاتفاق محموداً لكان على الأنبياء أولى ، فلما لم يقع للأنبياء والرسل ، لم يقع للأولياء؛ إذ هم على قدمهم ، وقائمون بالوراثة الكاملة عنهم . والله تعالى أعلم .
(1/210)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } واجباً أو تطوعاً في وجوه الخير ، وخصوصاً في الجهاد الذي نحن بصدد الحضّ عليه ، وقدموا لأنفسكم ما تجدونه بعد موتكم { من قبل أن يأتي يوم } الحساب ، واقتضاء الثواب ، يوم ليس فيه { بيع } ولا شراء ، فيكتسب ما يقع به الفداء ، وليس فيه { خُلّة } تنفعُ إلا خلة الأتقياء { ولا شفاعة } ترجى { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً } [ طه : 109 ] فأنفقوا مما خولناكم في سبيل الله ، وجاهدوا الكافرين أعداء الله ، فإن الكافرين { هم الظالمون } ؛ حيث وضعوا عبادتهم في غير محلها ، ونسبوا الربوبية لغير مستحقيها ، إذ لا يستحقها إلا الحيّ القيّوم .
(1/211)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
قلت : { الله } : مبتدأ ، وجملة { لا إله إلا هو } : خبره ، والضمير المنفصل بدل من المستتر في الخبر ، و { الحي } : إما خبر ثانيٍ ، أو لمبتدأ مضمر ، أو بدل من { الله } ، و { قيوم } فَيْعُول ، مبالغة من القيام ، ومعناه : القائم بنفسه المستغني عن غيره .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الله } الواجب الوجود لا يستحق العبادة غيره ، فمن عبد غيره فقد أتى بظلم عظيم { الحي } أي : الدائم بلا أول ، الباقي بلا زوال؛ الذي لا سبيل عليه للموت والفناء ، { القيوم } أي : دائم القيام بتدبير خلقه في إيصال المنافع ودفع المضار ، وجلب الأرزاق وأنواع الارتقاء ، { لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة : ما يتقدم النوم من الفتور ، والنوم : حالة تعرض للإنسان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، فتقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً .
وتقديم السنَة عليه ، على ترتيب الوجود ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } [ التّوبَة : 121 ] ، وجمع بينهما؛ لأنه لو اقتصر على نفس السَّنَة عند لتوهم أن النوم يغلبه لأنه أشد ، ولو اقتصر على نفي النوم لتوهم أن السنة تلحقه لخفتها . والمراد تنزيهه تعالى عن آفات البشرية ، وتأكيد كونه حيّاً قيوماً ، فإن من أخذه نعاس أو نوم يكون مؤوف الحياة ، قاصراً في الحفظ والتدبير . ولذلك ترك العطف فيه وفي الجمل التي بعدَه؛ لأنها كلها مقررة له ، أي : للحيّ للقيّوم .
وقد ورد أنه اسم الله الأعظم ، وقال عليه الصلاة والسلام لفاظمة - رضي الله عنها : " ما مَنَعك أن تَسْمَعي ما أُوصِيك به تَقُولين إذا أصْبَحْتِ وإذا أمْسَيتِ يا حيّ يا قيُّوم ، برحمتِكَ أستغيث أصْلحْ لي شأني كُلَّه ، ولا تَكلْني إلى نفْسِي طَرْفَةَ عَيْنِ " رواه النسائي وأخرج مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال : " قَامَ فِينَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بخَمْسِ كلماتٍ قال : " إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا ينامُ ، ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَام ، يَخْفِضُ القِسطُ ويَرْفَعُهُ . يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيل قَبْلَ عَمَلَ النَّهَارِ وعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَملِ اللَّيلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ " - وفي رواية . النَّارُ - " لَوْ كَشَفَهُ لأحْرَقَتْ سُبَحَاتُ وَجْهِهِ ما أدركه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " .
له ما في السماوات وما في الأرض } هذا تقرير لقيوميته تعالى ، واحتاج على تفرده في الألوهية . والمراد بما بما فيهما : ما هو أعمُّ من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما ، المتمكنة فيهما ، من العقلاء وغيرهم ، فهو أبلغ من ( له السماوات والأرض وما فيهن ) ، يعني : أن الله يملك جميع ذلك من غير شريك ولا منازع ، وعبر ب { ما } تغليباً للغالب .
{ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } هذا بيان لكبرياء شأنه ، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة ، فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة .
(1/212)

والاستفهام إنكاري ، أي : لا أحد يشفع عنده لمن أراد تعالى عقوبته ، إلا بإذنه ، وذلك أن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم ، فأخبر تعالى أنه لا شفاعة عنده إلا بإذنه ، يريد بذلك شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعض الأنبياء والأولياء والملائكة .
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } أي : ما قبلهم وما بعدهم ، أو بالعكس ، لأنك تستقبل المستقبل وتستدبر الماضي؛ وقيل : { يعلم ما بين أيديهم } من الدنيا { وما خلفهم } من الآخرة ، وقيل : عكسه ، لأنهم يقدمون ويُخَلِّفُون الدنيا وراءهم ، وقيل : يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر ، وما خلفهم وما هم فاعلوه ، أو عكسه . والمراد أنه سبحانه أحاط بالأشياء كلها ، فلا يخفى عليه شيء { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } أي : لا يحيطون بشيء من معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يُطْلعهم عليه ، وعطفه على ما قبله؛ لأن مجموعه يدل على تفرده تعالى بالعلم الذاتي التام ، الدال على وحدانيته تعالى في ذاته وصفاته .
{ وسع كرسِيُّه السماوات والأرض } يقال : فلان يسَعُ الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيامُ به . ويقال : وسع الشيءُ الشيء إذا أحاط به وغمره حتى اضمحلّ في جانبه ، وهذا المعنى هو اللائق هنا . وأصل الكرسي في اللغة : من تَركّب الشيء بعضه على بعض ، ومنه الكراسة ، لتركب أوراقها بعضها على بعض ، وفي العرف : اسم لما يُقعد عليه ، سُمِّي به لتركب خشباته . واختلف فيه فقيل : العرش ، وقيل : غيره .
والصحيح أنه مخلوق عظيم أمام العرش ، فوق السماوات السبع دون العرش . يقال : إن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة . والكرسي في جانب العرش كحلقة في فلاة . وعن ابن عباس : ( أن السماوات في الكرسي كدراهم سبعة في تُرْسٍ ) وقيل : كرسيه : علمه .
قال البيضاوي : هو تصوير لعظمته تعالى وتمثيل مجرد ، كقوله : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد . وقيل : كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه ، مأخوذ من كرسي العلم والملك ، وقيل : جسم بين يدي العرش محيط بالسموات السبع لقوله - عليه الصلاة والسلام- : " ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة " ولعله الفلك المشهور بفلك البروج . ه . قلت : وقد اعترض السيوطي في حاشيته عليه . فالله تعالى أعلم .
{ ولا يؤوده } أي : لا يُثْقله ولاَ يُشقُّ عليه { حفظهما } أي : حفظ السماوات والأرض . وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لأن حفظهما مُسْتَتْبع لحفظه ، { وهو العلي } أي : المتعالي عن الأشباه والأنداد ، { العظيم } أي : عظيم الشأن ، جليل القدر ، الذي يُستحفرُ كلُّ شيء دون عظمته .
وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية ، فإنها دالّة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية ، متصف بالحياة الذاتية ، واجب الوجود لذاته ، موجد لغيره؛ إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره ، منزه عن التحيّز والحلو ، مُبرَّأ عن التغير والفتور ، لا يناسب الأشباح ، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح ، مالك الملك والملكوت ، مبدع الأصول والفروع ، ذو البطش الشديد ، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له .
(1/213)

عالم بالأشياء كلها : جَليِّها وخَفِيِّها ، وكُليها وجِزْئيَّها . واسع الملك والقدرة لكل ما يصح أن يملك ويقدر عليه ، لا يشقُّ عليه شاقٌّ ، ولا يشْغَله شأن عن شأن ، مُتَعَالٍ عن تناول الأوهام ، عظيمٌ لا تحيط به الأفهام ، ولذلك تفردت عن أخواتها بفضائل رائعة وخواص فائقة ، قال صلى الله عليه وسلم : " أعظمُ آيةٍ في القرآنِ آيةُ الكُرْسيّ " وقال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسيّ دبُر كُلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يَمْنَعْهُ من دُخُولِ الْجنَّة إلا الموتُ " - وفي رواية - " كانَ الذي يَتوَلَّى قَبْضَ رُوحِه ذُو الجَلاَل والإكْرَام - ولا يُوَاظِبُ عليها إلا صِدِّيقٌ أو عَابدْ ، ومن قَرَأها إذا أخَذ مَضْجَعَه أمن على نفْسِه وَجارِه وَجارِ جَارِه ، والأبيات حَوْلَه " .
وقال عليه الصلاة والسلام : " ما قُرئت هذه الآيةُ في بيْت إلا هَجَرَتْهُ الشياطينُ ثلاثين يَوْماً ، ولا يدْخُله ساحرُ ولا ساحرةٌ أربعين يوماً ، يا عليّ؛ علِّمْها ولدَك وأهلكَ وجيرانَك ، فما نزلَتْ آيةٌ أعظمُ منها " قاله البيضاوي وأبو السعود ، وتكلم السوطي في بعض هذه الأحاديث . والفضائل يعمل فيها بالضعيف . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا أيمان أهل الخصوصية - { أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْناكُمْ } [ البقرة : 254 ] من سعة العلوم ومخازن الفهوم ، من قبل أن يأتي يوم اللقاء ، يوم تسقط فيه المعاملات وتغيب تلك الإشارت ، لا ينفع فيه إلا الدخول من باب الكرم ، فيلقى الله بالله دون شيء سواه ، والجاحدون لهذا هم الظالمون لأنفسهم ، حيث اعتمدوا على أعمالهم فلقُوا الله بالصنم الأعظم ، والحيُّ اليّوم الكبير المتعال غني عن الانتفاع بالأعمال ، وبالله التوفيق .
ومَنْ عرف أنه الحيّ الذي لا يموت توكل عليه . قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحِىْ الَّذِى لاَ يَمُوتُ } [ الفُرقان : 58 ] . والتعلق به : استمداد حياة الروح بالعلم والمحبة الكاملة . ومن عرف أنه الحيّ القيّوم وثق به ، ونسي ذكر كل شيء بذكره ، ولم يشاهد غيره بمشاهدة قيوميته . والتعلق به استمداد معرفة قيوميته حتى يستريح من نكد التدبير ، والتخلق به بأن تكون قائماً على ما كُلِّفْتَ به من أهْلٍ وَوَلَدٍ ونَفْسٍ ومَالٍ ، وكُلِّ من تعلق بك من النساء والرجال .
ولمَّا وصف الحيُّ تعالى نفسه بأوصاف الكمال من الكبرياء ، والعظمة والجلال وكانت شواهد ذلك ظاهرة في خلقه حتى تبيَّن الحق من الباطل .
(1/214)

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قلت : { الرُشْد } : مصدر رَشُد ، بالكسر والضم ، رشداً ورشاداً ، و { الغي } : مصدر غَوَى ، إذا ضلَّ مُعْتَقَدِه ، و { الطاغوت } : فعلوت من الطغيان ، وأصله : طغيوت ، فقلبت لام الكلمة لعينها فصار طيغوت ، ثم قلبت الياء ألفاً . وهو كل ما عُبد من دون الله راضياً بذلك ، و { العروة } : ما تستمسك به اليد عند خوف الزلل كالحبل ونحوه ، ووثوقها : متانتها ، وانفصامها أن تنفك عن موضعها ، وأصل الفصم في اللغة : أن ينفك الخلخال ونحوه ولا يَبِين ، فإذا بان فهو القَصْم - بالقاف - وهو هنا استعارة للدّين الصحيح .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن رجلًٍ من الأنصار ، تَنَصَّر ولدَاه قبل البَعْثَة فلما جاء الإسلامُ قَدِمَا إلى المدينة فدعاهما أبوهما إلى الإسلام فامتنعا ، فَلزمَهُمَا أبوهُما وقال : والله لا أدِعكما حتى تُسلما ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { لا إكراه في الدين } ، فهو خبر بمعنى النهي ، أي : لا تُكرهوا أحداً على الدخول في الدين . وهو خاص بأهل الكتاب .
قال البيضاوي : إذ الإكراه في الحقيقة هو : إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً ، ولكن { قد تبين الرشد من الغي } أي تميّز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية ، والكفر غيّ يوصل إلى الشقاوة السرمدية . والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسُه إلى الإيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء . ه .
{ فمن يفكر بالطاغوت } أي : يبعد عنها ويجحد ربوبيتها { ويؤمن بالله } أي : يصدق بوحدانيته ، ويقر برسله ، { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي : فقد تسمك بالدين المتين ، لا انقطاع له أبداً ، { والله سميع } بالأقوال ، { عليم } بالنيات ، فإنَّ الدين مشتمل على قول باللسان وعقد بالجَنَان ، فحسن التعبير بصفة السمع والعلم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قال في الحكم : " لا يخاف عليك أن تلتبس الطرق ، إنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك " . وقال أحمد بن حضرويه : الطريق واضح ، والحق لائح ، والداعي قد أَسْمَع ، ما التحير بعد هذا إلا من العمَى . ه . فطريق السير واضحة لمن سبقت له العناية ، باقية إلى يوم القيامة ، وكل ما سوى الله طاغوت ، فمن أعرض عن السَّوَى ، وعلق قلبه بمحبة المولى ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، التي لا انفصام لها على طول المدى ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/215)

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
قلت : الولي : هو المحب الذي يتولى أمور محبوبه ، أو الناصر الذي ينصر محبوبه ، ولا يخذله بأن يكله إلى نفسه . وجملة { يخرجهم } : حال من الضمير المستتر في الخبر ، أو من الموصول أو منها ، أو خبر ثان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الله ولي الذين آمنوا } أي : محبهم ومتولي أمورهم ، { يخرجهم من } ظلمات الكفر والجهل ، ومتابعة الهوى وقبول الوسواس ، والشبه المُشْكِلة في التوحيد - إلى نور الإيمان واليقين ، وصحة التوحيد ، ومتابعة الداعي إلى الله ، { والذين كفروا أولياؤهم } أي : أحباؤهم { الطاغوت } أي : الشياطين ، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما ، { يُخرجونهم من النور } الذي مُنحوه بالفطرة الأصلية ، أو يصدونهم من الدخول في الإيمان إلى ظلمات الكفر والجهل ، والتقليد الرديء واتباع الهوى ، { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } بسبب نِيَّاتهم البقاء على الكفر إلى الممات ، ولم يذكر في جانب المؤمنين دخول الجنة؛ لتكون عبادتهم عبودية ، لا خوفاً ولا طمعاً . والله تعالى أعلم .
الإشارة : { الله ولي الذين آمنوا } ؛ حيث تولاهم بسابق العناية ، وكلأهم بعين الرعاية ، يخرجهم أولاً من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ثم من ظلمات الحس ورؤية الأكوان إلى نور المعاني بحصول الشهود والعيان ، فافن عن الإحساس تر عبراً . " الكون كله ظلمة ، وإنما أناره ظهور الحق فيه " . أو تقول : الكون كله ظلمة لأهل الحجاب ، وأما عند أهل المعرفة فالكون عندهم كله نور ، وإنما حجبه ظهور الحكمة فيه ، " فمن رأى الكون ولم يشهد النور فيه ، أو قبله ، أو بعده ، فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار " . والذين كفروا - وهم الذين سبق لهم الشقاء ، وحكم عليهم بالبعد القدر والقضاء - أولياؤهم الطاغوت ، وهم القواطع : من الهوى والشيطان والدنيا والناس ، { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } أي : يمنعونهم من شهود تلك الأنوار السابقة ، إلى الوقوف مع تلك الظلمات المتقدمة ، فهم متعاكسون مع من سبقت لهم العناية ، فما خرج منه أهل العناية وقع فيه أهل الغواية . نسأل الله الحفظ والعافية في الدنيا والآخرة .
(1/216)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
قلت : { أن آتاه } : على حذف لام العلة ، و { إذ قال } : ظرف ل { حاجَّ } ، أبو بدل من { آتاه الله } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : متعجباً من جهالة النمرود ، والمراد تعجيب السامع : { ألم تر } يا محمد ، { إلى } جهالة { الذي حاج إبراهيم } أي : خاصمه { في ربه } لأجْل { أن } أعطاه { الله الملك } ، أي : حمله على ذلك بطر الملك . وذلك أنه لما كسَّر إبراهيم الأصنام ، سجنه أياماً ، وأخرجه من السجن ، وقال له : من ربك الذي تعبد؟ { قال } له { إبراهيم } عليه السلام : { ربي الذي يحيي ويميت } ، أي : يخلق الأرواح في الأجسام ، ويخرجها عند انقضاء آجالها ، { قال } نمرود : { أنا أحيي واميت } ، فدعا برجلين فقتل أحدهما ، وعفا عن الآخر ، فلما رأى إبراهيم عليه السلام غلطه وتشغيبه عدل له إلى حجة أخرى ، لا مقدور للبشر على الإتيان بمثلها ، فال له : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها } أنت { من المغرب } ؛ لأنك تدَّعي الربوبية ، ومن شأن الربوبية أن تقدر على كل شيء ، ولا يعجزها شيء ، { فبُهت الذي كفر } أي : غُلب وصار مبهوتاً ، { والله لا يهدي القوم الظالمين } إلى قبول الهداية ، أو إلى طريق النجاة ، أو إلى محجة الاحتجاج .
الإشارة : قال بعض الحكماء : للنفس سر ، ظهر على فرعون والنمرود ، حتى صرّحا بدعوى الربوبية : قلت : وهذا السر هو ثابت للروح في أصل نشأتها؛ لأنها جاءت من عالم العز والكبرياء . انظر قوله تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [ الحِجر : 29 ] ، وقال أيضاً : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى } [ الإسَراء : 85 ] أي : سر من أسراره ، فلما رُكبت في هذا القلب الذي هو قالب العبودية - طلبت الرجوع إلى أصلها . فجعل لها الحقّ جلّ جلاله باباً تدخل منه فترجع إلى أصلها؛ وهو الذل والخضوع والانكسار والافتقار ، فمن دخل من هذا الباب ، واتصل بمن يعرّفه ربه ، رجعت روحه إلى ذلك الأصل ، وأدركت ذلك السر ، فمنها من تتسع لذلك السر وتطيقه ، ومنها من تضيق عن حمله وتبوح به ، فتقتلها الشريعة ، كالحلاج وأمثاله ، ومن طلب الرجوع إلى ذلك الأصل من غير بابه ، ورام إدراكه بالعز والتكبّر ، طُرد وأُبعد ، وهو الذي صدر من النمرود وفرعون وغيرهما ممن ادّعى الربوبية جهلاً . والله تعالى أعلم .
ثم ذكر الحقّ تعالى من أدركته العناية ، وفي قصته برهان على إحياء الموتى الذي احتج إبراهيم - عليه السلام - .
(1/217)

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قلت : { أو } عاطفة ، و { كالذي } : معطوف على الموصول المجرور بإلى ، أي : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ، وإلى مثل الذي مرّ على قرية . وإنما أدخل حرف التشبيه؛ لأن المُنكر للإحياء كثيرٌ ، والجاهل بكيفيته أكثر ، بخلاف مدعي الربوبية فإنه قليل . وقيل : الكاف مزيدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج وإلى الذي مرَّ ، و { أنَّى } : ظرف ليُحيي ، بمعنى : متى ، أو حال بمعنى كيف ، و { يتسنه } بمعنى يتغير ، وأصله : يتسنن ، فأبدلت النون الثالثة حرف علة . قال في الكافية :
وثَالِثَ الأمثَالِ أبدِلَنْه يا ... نحو ( تَظَنَّى خالدٌ تَظَنِّيَا )
فصار تَسَنَّى ثم حُذفت للجازم ، وأتى بهاء السَّكْت ، وقفا ووصل ، كالعِوض من المحذوف ، وقيل : من السَّنة ، وهو التغير ، فالهاء أصلية ، و { لنجعلنك } : معطوف على محذوف ، أي : لتعتبر ولنجعلك آية للناس .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ألم تر يا محمد أيضاً إلى مثل الذي { مرَّ على قرية } ، وهو عُزَير ، حَبْرُ بني إسرائيل - وقيل : غيره - مرَّ على بيت المقدس حين خربها بُختنصر { وهي خاوية } ساقطة حيطانها { على عروشها } أي : سقفها ، وذلك بعد مائة سنة حتى سقطت العروش ، ثم سقطت الحيطان عليها ، فلما رآها خالية ، وعظام الموتى فيها بالية ، { قال } في نفسه : { أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها } أي : متى يقع هذا . اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظاماً لقدرة المحيي ، إن كان القائل عزيراً ، أو استبعاداً إن كان كافراً ، { فأماته الله مائة عام } أي : ألبثه ميتاً مائة عام ، { ثم بعثه } بالإحياء ، فقال له على لسان الملك ، أو بلا واسطة : { كم لبثت } ميتاً؟ { قال لبثت يوماً أو بعض يوم } ، وذلك أنه مات ضحى وبعث بعد مائة عام قبل غروب الشمس ، فقال قبل النظر إلى الشمس { يوماً } ، ثم التفت فرأى بقية منها ، فقال : { أو بعض يوم } على الإضراب ، قال له الحقّ جلّ جلاله : { بل لبثت مائة عام } .
وذلك أن عزيراً ذهب ليخترف لأهله فجعل على حماره سَلة عنب وجَرَّة عصير . فلما مرَّ بتلك القرية ربط حماره ، وجعل يتعجب من خرابها وخلائها بعد عمارتها ، فقال في نفسه ما قال ، فلطف الله به ، وأراه كيفية الأحياء عياناً ، فأماته مائة عام ، حتى بليت عظام حماره وبقي العصير والعنب كأنه حين جنى وعصر فقال له جلّ جلاله : { فانظر إلى طعامك } وهو العنب ، { وشرابك } وهو العصير ، { لم يتسنه } ، أي : لم يتغير بمرور الزمان وطول المدة ، { وانظر إلى حمارك } كيف تفرقت أوصاله ، وبليت عظامه ، فعلنا ذلك بك لتشاهد قدرتنا ، { ولنجعلك آية للناس } بعدك ، { وانظر إلى العظام } أي : عظام حمارك ، { كيف ننشرها } ، أي : نحييها ، من نَشَرَ الله الموتى : أحياها . أو : { كيف ننشزها } بالزاي - أي : نرفع بعضها ، ونركبه عليه ، { ثم نكسوها لحماً } .
(1/218)

فنظر إلى العظام ، فقام كلُّ عَظْم إلى موضعه ، ثم كسى لحماً وجلداً ، وجعل ينهق ، { فلما تبين له } ما كان استغربه وأُشكل عليه { قال أعلمُ } عليم اليقين { أن الله على كل شيء قدير } ، أو فلما تبين له الحق ، وهو قدرته تعالى على كل شيء ، قال لنفسه : { أعلمُ أن الله على كل شيء قدير } .
رُوِيَ أنه أتى قومه على حماره ، وقال أنا عزير ، فكذبوه ، فقرأ التوراة من حفظه ، ولم يحفظها أحد قبله ، فعرفوه بذلك ، وقالوا : هو ابن الله - تعالى عن قولهم - وقيل : لما رجع إلى منزله - وكان شاباً - وجد أولاده شيوخاً ، فإذا حدَّثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : في هذه الآية والتي بعدها ، الإشارة إلى الأمر بتربية اليقين والترقي فيه من علم اليقين إلى عين اليقين ، فإن الروح ما دامت محجوبة بالوقوف مع الأسباب والعوائد ، وبرؤية الحس والوقوف مع الوسائط ، لم تخل من طوارق الشكوك وخواطر ، فإذا انقطعت إلى ربها ، وخرقت عوائد نفسها ، كشف لها الحق تعالى عن أستار غيبه ، وأطلعها على مكنونات سره ، وكشف لها عن أسرار الملكوت ، وأراها سنا الجبروت ، فنظرت إلى قدرة الحي الذي لا يموت ، وتمتعت بشهود الذات وأنوار الصفات ، في هذه الحياة وبعد الممات ، فحينئذٍ ينقطع عنها الشكوك والأوهام ، وتتطهر من طوارق الخواطر ، وتزول عنها الأمراض والأسقام .
قال في الحكم : " كيف تُخْرَق لك العوائد وأنت لم تخرِق من نفسك العوائد " .
فانظر إلى عزير . . . ما أراه الحق قدرته عياناً حتى خرق له عوائده فأماته ثم أحياه ، فكذلك أنت أيها المريد؛ لا تطمع أن تخرق لك العوائد ، فتشاهد قدرة الحق أو ذاته عياناً ، حتى تموت عن حظوظك وهواك ، ثم تحيا روحك وسرك ، فحينئذٍ تشاهد أسرار ربك ، ويكشف الأستار عن عين قلبك . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
ثم ذكر الحقّ تعالى قصة خليله عليه السلام في طلبه رؤية عين القدرة في إحياء الموتى ، ليترقى من علم اليقين إلى عين اليقين .
(1/219)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قلت : رأى : البصرية ، إنما تتعدى إلى مفعول واحد ، فإذا أُدخلت عليها الهمزة تعدت إلى مفعولين . وعلقها هنا عن الثاني الاستفهام ، { وصرهن } أي : أَمْلهُنَّ واضمُمْهن إليك . وفيه لغتان : صار يصير ويصور ، ولذلك قرئ بكسر الصاد وضمها ، { سعياً } : أي حال ، أي : ساعيات .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد ، أو أيها السامع ، حين { قال إبراهيم } عيله السلام : يا { رب أني كيف تحيي الموتى } أي : أبصرني كيفية إحياء الموتى ، حتى أرى ذلك عياناً ، أراد عليه السلام أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ، وقيل : لما قال للنمرود : { ربي الذي يحيي ويميت } قال له : هل عاينت ذلك؟ فلم يقدر أن يقول : نعم . وانتقل إلى حجة أخرى ، ثم سأل ربه أن يريه ذلك؛ ليطمئن قلبه على الجواب ، إن سئل مرة أخرى ، فقال له الحقّ جلّ جلاله : { أولم تؤمن } بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة؟ وإنما قال له ذلك ، مع علمه بتحقيق إيمانه؛ لجيبه بما أجاب فيعلم السامعون غرضه ، { قال } إبراهيم عليه السلام : { بلى } آمنت أنك على كل شيء قدير ، { ولكن } سألتك { ليطمئن قلبي } ؛ إذ ليس الخبر كالعيان ، وليس علم اليقين كعين اليقين ، أراد أن يضم الشهود والعيان إلى الوحي والبرهان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فخذ أربعة من الطير } ؛ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام ، { فصرهن إليك } أي : اضممهن إليك لتتأملها وتعرف أشكالها ، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء أشكالها ، { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } أي : ثم جَزَّئهن ، وفرق أجزاءهن على الجبال التي تحضرك . قيل : كانت أربعة وقيل : سبعة ، { ثم ادعهن } وقل لهن : تعالين بإذن الله ، { يأتينك سعياً } أي : ساعيات مسرعات ، رُوِيَ أنه أمر أن يذبحها وينتف ريشها ، ويقطعها ويخلط بعضها ببعض ، ويوزعها على الجبال ، ويمسك رؤوسها عنده ، ثم يناديها ، ففعل ذلك ، فجَعَل كل جزء يطير إلى الآخر ويلتئم بصاحبه حتى صارت جثثاً ، ثم أقبل إليه فأعطى كل طير رأسه فطار في الهواء . فسبحان من لا يعجزه شيء ، ولا يغيب عن علمه شيء ، ثم نبّه إلى التفكر في عجائب قدرته وحكمته فقال : { واعلم أن الله عزيز } لا يعجزه شيء ، { حكيم } ذو حكمة بالغة فيما يفعل ويذر .
الإشارة : من أراد ان تحيا رُوحُه الحياة الأبدية ، وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ، فلا بد أن تموت نفسه أربع موتات :
الأولى : تموت عن حب الشهوات والزخارف الدينوية ، التي هي صفة الطاووس .
الثانية : عن الصولة والقوى النفسانية ، التي هي صفة الديك .
الثالثة : عن خسة النفس والدناءة وبعد الأمل ، التي هي صفة الغراب .
الرابعة : عن الترفع والمسارعة إلى الهوى المتصف بها الحمام .
فإذا ذبح نفسه عن هذه الخصال حييتْ روحه ، وتهذبت نفسه ، فصارت طوع يده ، كلما دعاها إلى طاعة أتت إليها مسرعة ساعية .
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو الحسن الشاذلي بقوله في حزبه الكبير : ( واجعل لنا ظهيراً من عقولنا ومهيمناً من أرواحنا ، ومسخراً من أنفسنا ، كي نسبحك كثيراً ، ونذكرك كثيراً ، إنك كنت بنا بصيراً ) .
ولما كانت حياة الروح متوقفة على أمرين : بذل النفوس ، ودفع الفلوس وقدم الإشارة إلى الأول بقوله : { وقاتلوا في سبيل الله } .
(1/220)

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
قلت : { مثل الذين } : مبتدأ ، و { كمثل } : خبر ، ولا بد من حذف مضاف ، إما من المبتدأ أو الخبر ، أي : مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة ، أو مثل الذين ينفقون كمثل باذر حبة . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في التحريض على النفقة في سبيل الله : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي : يتصدقون بها في سبيل الله ، كالجهاد ونحوه ، { كمثل } زارع { حبة أنبتت } له { سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } ، فالمجموع سبعمائة . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " الحَسَبنَة بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، إلى سَبعمائَة إلى أضْعَافٍ كَثيرَةٍ " وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز ، والمنبت هو الله ، وهذا مثال لا يقتضي الوقوع ، وقد يقع في الذرة والدخن في الأرض الطيبة ، بحيث تخرج الحبة ساقاً يتشعب إلى سبع شعب ، في كل شعبة سنبلة ، { والله يضاعف } تلك المضاعفة { لمن يشاء } بفضله ، على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ، وبحسبه تتفاوت الأعمال في مقادير الثواب ، { والله واسع } لا يضيق عليه ما يتفضل به من الثواب ، { عليم } بنية المنفق وقدر إنفاقه .
ثم ذكر شرطَيْن آخرَيْن في قبول النفقة ، فقال : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى } . المن : أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه؛ بحيث يقول : أنا فعلت معه كذا ، وكذا إظهاراً لميزته عليه . والأذى : أن يتطاول عليه بذلك . ويقول : لولا أنا لم يكن منك شيء ، مثلاً . فمن فعل هذا فقد ذهبت صدقته هباءاً منثوراً ، ومن سلم من ذلك ، وأنفق ماله ابتغاء وجه الله ف { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . وقال زيد بن أسلم رضي الله عنه : إذا أعطيت أحداً شيئاً وظننت أن سلامَكَ يَثْقُلُ عليه فَكُفَ سلامَكَ عنه . ه .
قيل : إن الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما؛ أما عثمان فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها . وقال عبد الرحمن بن سمرة : جاء عُثْمَانُ بألْفِ دِينَارِ في جيش العُسْرَةِ ، فصَبَها في حُجْرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فَرَأيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُدخل يَده فيها ، ويُقلِّبهَا ويقول : " ما ضَرَّ ابن عفَّان ما عَمِلَ بَعْدَ اليوم " زاد في رواية سعيد : فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم رافعاً يدعو لعثمان ، ويقول : " يا رب عثمان بن عفان ، رضيتُ عنه فارض عنه " وأما عبد الرحمن : فإنه أتى النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم ، صدقة ، وأمسك أربعة آلاف لعياله ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " بارك الله لك فيما أعطيتَ وفيما أمسكتَ " .
وإنما لم يدخل الفاء في قوله : { لا خوف عليهم } ، مع أن الموصول قد تضمن معنى الشرط ، إيهاماً بأنهم أهلٌ لذلك ، وإن لم يفعلوا ، فكيف بهم إذا فعلوا .
(1/221)

قاله البيضاوي .
الإشارة : التقرب إلى الله تعالى يكون بالعمل البدني وبالعملي المالي ، وبالعمل القلبي ، أما العمل البدني ، ويدخل فيه العمل اللساني ، فقد ورد فيه التضعيف بعشر وبعشرين وبثلاثين وبخمسين وبمائة ، وبأكثر من ذلك أو أقل ، وكذلك العمل المالي : قد ورد تضعيفه إلى سبعمائة ، ويتفاوت ذلك بحسب النيات والمقاصد ، وأما العمل القلبي : فليس له أجر محصور ، قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزُّمَر : 10 ] ، فالصبر ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والتوكل ، والمحبة ، والرضا ، والتسليم ، والمعرفة ، وحسن الخلق ، والفكرة ، وسائر الأخلاق الحميدة ، إنما جزاؤها : الرضا ، والإقبال والتقريب ، وحسن الوصال . قال تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التّوبَة : 72 ] أي : أكبر من الجزاء الحسيّ الذي هو القصور والحور .
وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " . فإنما هو كناية عن الكثرة والمبالغة ، كقوله تعالى : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهَمْ } [ التّوبَة : 80 ] . ومثله قول الشاعر :
كُلُّ وَقْتٍ من حبَيبِي ... قَدْرُه كألفِ حجَّهْ
أي : سَنَة . والله تعالى أعلم .
ثم بيَّن الحقّ تعالى أن حسن الخلق ولين الجانب أفضل من الصدقة المشوبة .
(1/222)

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
قلت : { قول } : مبتدأ ، و { خير } : خبر ، والمسوِّغ الصفةُ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قول } جميل يقوله الإنسان للسائل في حال رده ، حيث لم يجد ما يعطيه ، { خير } وأفضل عند الله من الصدقة التي يتبعها المن والأذى ، ومثال القول المعروف : الله يرزقنا وإياك رزقاً حسناً . والله يغنينا وإياك من فضله العظيم ، وشبه ذلك من غير تعبيس ولا كراهية . { ومغفرة } للسائل والعفو عن جفوته وإلحاحه ، { خير } أيضاً { من صدقة يتبعها } مَنٍّ ، أو { أذى } للسائل ، علم الحق جلّ جلاله أن الفقير إذا رُدَّ بغير نوال شقَّ عليه ، فربما أطلق لسانه وأظهر الشكوى فأمر المسؤول بالعفو والتواضع . ولو شاء الحقّ تعالى لأغنى الجميع ، لكنه أعطى الأغنياء ليظهر شكرهم ، وابتلى الفقراء لينظر كيف صبرهم ، { والله } تعالى { غني } عن أنفاق يصحبه مَنٌ أو أذى ، { حليم } عن معالجة من يَمُنُّ أو يؤذي بالعقوبة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يُفهم من الآية أن حسنَ الخلق ، ولينَ الجانب ، وخفض الجناح ، وكف الأذى ، وحمل الجفاء ، وشهود الصفاء ، من أفضل الأعمال وأزكى الأحوال وأحسن الخلال ، وفي الحديث : " إنَّ حُسْن الخُلق يعدل الصيام والقيام " .
وفي قوله : { والله غني حليم } : تربية للسائل والمسؤول ، فتربية السائل : أن يستغني بالغنيِّ الكبير عن سؤال العبد الفقير ، ويكتفي بعلم الحال عن المقال ، وتربية المسؤول : أن يحلم عن جفوة السائل فيتلطف في الخطاب ، ويحسن الرد والجواب . قال في شرح الأسماء : والتخلق بهذا الاسم - يعني الحليم - بالصفح عن الجنايات ، والسمح فيما يقابلونه به من الإساءات ، بل يجازيهم بالإحسان ، تحقيقاً للحلم والغفران . ه .
(1/223)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
قلت : { كالذي } : الكاف في محل نصب على المصدر ، أي : إبطالاً كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس . أو حال ، أي : مشبَّهين بالذي ينفق رئاء . و { رئاء } مفعول له ، والصفوان : الحجر الأملس ، والصلد : البارز الذي لا تراب عليه ، وجمع الضمير في قوله : { لا يقدرون } باعتبار معنى { الذي } ؛ لأن المراد به الجنس .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا } أجر صدقتكم بسبب { المن } بها على المتصدَّقِ عليه ، { والأذى } الذي يصدر منكم له ، بأن تذكروا ذلك للناس ، فتكون صدقتكم باطلة ، { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } ، فإن أجره يوم القيامة يكون هباء منثوراً ، { فمثله } في انتفاعه بصدقته ، وتستره بها في دار الدنيا ، وافتضاحه يوم القيامة ، كحجر أملس { عليه تراب } يستره ، فيظن الرائي أنه أرض طيبة تصلح للزراعة ، { فأصابه وابل } أي : مظر غزير { فتركه صلداً } حجراً يابساً خالياً من التراب ، كذلك المراؤون بأعمالهم ، ينتفعون بها في الدنيا بثناء الناس عليهم وستر حالهم ، فإذا قدموا يوم القيامة وجدوها باطلة ، { لا يقدرون على } الانتفاع ب { شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين } إلى مراشدهم ومصالح دينهم . وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى من صفة الكافر ، ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها . وبالله التوفيق .
الإشارة : تصفية الأعمال على قدر تصفية القلوب ، وتصفية القلوب على قدر مراقبة علام الغيوب ، والمراقبة على قدر المعرفة . والمعرفة على قدر المشاهدة . والمشاهدة تحصل على قدر المجاهدة . { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فيِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العَنكبوت : 69 ] . وفي الحكم : " حسن الأعمال من نتائج حسن الأحوال ، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال " والحاصل أن من لم يتحقق بمقام الفناء لا تخلوا أعماله من شوب الخلل ، ومن تحقق بالزوال لم ير لنفسه نسبة في عطاء ولا منع ، ولا حركة ولا سكون ، ولم ير لغيره وجوداً حتى يرجو منه نفعاً ولا خيراً . وفي بعض الإشارات : يا من يرائي أَمْر مَنْ من ترائِي بيد من تعصيه . ه . وفي تمثيله بالحجر إشارة إلى قساوة قلبه ويبوسه طبعه ، فلا يجرى منه خير قط . والعياذ بالله .
ثم ذكر الحقّ تعالى ضد هؤلاء ، وهم المخلصون .
(1/224)

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
قلت : الربوة - مثلثة الراء - : المكان المرتفع ، والوابل : المطر الغزير ، والطل : المطر الخفيف ، وفي ذلك يقول الراجز :
والطلُّ ما خفَّ من الأمْطَارِ ... والوابلُ الغزيرُ ذو أنْهِمَارِ
و { ابتغاء مَرْضات الله } و { تثبيتاً } : حالان من الوافي في : { ينفقون } ، أو مفعولان له . والتثبيت بمعنى التثبت ، أي : التحقق ، كقوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْه تَبْتِيلاً } [ المُزمّل : 8 ] أي : تبتلاً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { مثل الذين ينفقون أموالهم } في سبيل الله { ابتغاء مرضات الله } وتحققاً { من أنفسهم } بثواب الله ، أو تحقيقاً من أنفسهم بالوصول إلى رضوان الله إن بذلوا أموالهم في طلب رضى الله ، مَثَلُ نفقتهم في النمو والأرتفاع { كمثل جنة } أي : بستان { بربوة } بمكان مرتفع ، فإن شجره يكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً ، { أصابها وابل } أي : مطر غزير { فآتت أكلها } أي : ثمارها { ضعفين } أي : مِثْلَيْ ما كانت تثمر في عادتها ، أي : حملت في سَنَةٍ ما يحمل غيرها في سنتين ، بسبب هذا المطر الذي نزل بها ، { فإن لم يصبها وابل فطل } أي : فيصيبها طل ، أي : مطر قليل يكفيها؛ لطيب تربتها وارتفاع مكانها ، فأقلُّ شيء يكفيها .
والمراد : أن نفقات هؤلاء ، لإخلاصهم وكمال يقينهم ، كثيرة زاكية عند الله ، وإن كانت قليلة في الحس فهي كثيرة في المعنى . وفي الحديث : " مَنْ تصدَّقَ ولو بلُقْمة وقعتْ في كَفٍّ الرحمن فيُرَبِّيها كما يُربى أحدُكُم فلُوَّهُ أو فَصِيله ، حتى تكونَ مثل الجبل " وفي قوله : { والله بما تعلمون بصير } : تحذير من الرياء ، وترغيب في الإخلاص . الله تعالى أعلم .
الإشارة : تنمية الأعمال على قدر تصفية الأحوال ، وتصفية الأحوال على قدر التحقق بمقامات الإنزال ، أي : على قدر التحقق بالإنزال في مقامات اليقين ، فكل من تحقق بالنزول في مقامات اليقين ، ورسخت قدمه فيها ، كانت أعماله كلها عظيمة ، مضاعفة أضعافاً كثيرة ، فتسبيحة واحدة من العارف ، أن تهليلة واحدة ، تعدل الوجود بأسره ، ولا يزنها ميزان ، وكذلك سائر أعمال العارف : كلها عظيمة مضاعفة؛ لأنها بالله ومن الله وإلى الله ، وما كان بالله ومن الله يطرقه نقص ولا يشوبه خلل ، ولأجل هذا صارت أوقاتهم كلها ليلة القدر ، وأماكنهم كلها عرفات ، وأنفاسهم كلها زكيات ، وصحبتهم كلها نفحات ، ومخالطتهم كلها بركات . نفعنا الله بذكرهم وخرطنا في سلكهم .
آمين .
(1/225)

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
قلت : الإعصار : عمود من ريح فيه عجاجة ، يدور ويرتفع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : أيتمنى حدكم { أن تكون له جنة } أي : بستان { من نخيل وأعناب } ، هما الغالبان فيه؛ لكثرة منافعهما ، { تجري من } تحت تلك الأشجار { الأنهار } ؛ إذ من كمال البستان أن يشتمل على الماء البارد والظل الممدود ، و { له فيها } أي : في تلك الجنة { من كل الثمرات } زائدة على على النخيل والأعناب ، ثم { أصابه الكبر } فضعف عن القيام بتلك الجنة ، { وله ذرية ضعفاء } لا يستطيعون القيام بأنفسهم لصغرهم ، فأصاب تلك الجنة { إعصار } أي : ريح شديد { فيه نار فاحترقت } تلك الجنة ، فلا تسأل عن حسرة صاحب هذا البستان ، لخوفه من ضياع نفسه وعياله . وهذا مثال لمن يُكثر من أعمال البر ، كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد وغير ذلك ، وهذا يُعجب به ، ويفتخر وَيَمُنَّ بصدقته أو يؤذي ، فتحبط تلك الأعمال وتذهب ، فيتحسر عليها يوم القيامة ، وهو أحوج ما يكون إليها . أو يعمل بالطاعة في أيام عمره ، فإذا قرب الموت عمل بالمعاصي حتى ختم له بها فحبطت تلك الأعمال ، والعياذ بالله { كذلك يبن الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } فيها فتعتبرون ، وتخلصون في أعمالكم ، وتخافون من سوء عاقبتكم . أعاذنا الله من ذلك .
الإشارة : في الآية تخويف للمريد أن يرجع إلى عوائده ، ويلتفت إلى عوالم حسه ، فيشتغل بالدنيا بعد أن استشرف على جنة المعارف ، تجري على قلبه أنهار العلوم ، فينقُضُ العهد مع شيخه ، أو يسيء الأدب معه ، ولم يتب حتى تيبس أشجار معارفه ، وتلعب به ريح الهوى ، فيحترق قلبه بنار الشهوات .
قال البيضاوي : وأشبههم به من جال سره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور ، والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثوراً . ه .
(1/226)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
قلت : { تيمموا } : أصله : تتيمموا ، أي تقصدوا ، وجملة { تنفقون } : حال مقدرة - من فاعل { تيمموا } ، و { منه } : يصح أن يتعلق ب { تنفقون } أو ب { الخبيث } ، أي؛ ولا تقصدوا الخبيث حال كونكم تنفقونه ، أو لا تقصدوا الخبيث تنفقون منه ، و { لستم بآخذيه } : حال أيضاً من فاعل { تنفقون } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } من الأموال في التجارة وغيرها ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا معشرَ التُجار ، أنتم فُجار إلا من اتقى وبَرَّ وصَدَق وَقَالَ بالمال هكذا وهكذا " .
وقوله : { من طيبات ما كسبتم } أي : من حلاله ، أو من خياره ، أما في الزكاة فعلى الوجوب ، إذ لا يصح دفع الرديء فيها ، وأما من التطوع فعلى سبيل الكمال ، وأنفقوا أيضاً من طيبات { ما أخرجنا لكم من الأرض } من أنواع الحبوب والثمار والفواكه ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ مُسْلِم يَغْرِسَ غَرْساً ، أَوْ يَزرَعُ زَرْعاً ، فَيَأكُلُ مِنهُ إنْسَانٌ ولا دَابَّةٌ ولاَ طَائِرٌ ، إلاَّ كَانَت لَهُ صدقةً إلى يَوَمِ الِقِيَامِةِ " ولا تقصدوا { الخبيث } أي : الرديء من أموالكم ، فتنفقون منه وأنتم { لستم بآخذيه } في ديونكم { إلا أن تُغْمضوا } بصركم فيه ، وتقبضونه حياء أو كرهاً أو مسامحة .
نزلت في قوم كانوا يتصدقون بخبيث التمر وشراره ، فنُهوا عنه ، وأدبهم بقوله : { واعلموا أن الله غني } عن إنفاقكم ، وإنما أمركم به منفعة لكم ، { حميد } بقبوله وإثابته ، فهو فعيل بمعنى الفاعل ، مبالغة ، أي : يحمد فعلكم ويشكره لكم ، إن أحسنتم فيه ، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله قَسَم بينَكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ، وإن الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيباً ، لا يكسبُ عبدٌ مالاً من حرام فيتصدقُ منه فيُقْبل منه ، ولا ينفقُ منه فيبَارك له فيه ، ولا يتركهُ خلفَ ظهره إلا كان زاده إلى النار ، وإن الله لا يمحو السيىء بالسيىء ولكن يمحو السيىء بالحسن ، وإن الخبيث لا يمحوه الخبيُ " .
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ، أنفقوا العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، من طيبات ما كسبتم؛ من تصفية أسراركم وتزكية أرواحكم ، وأنفقوا أيضاً علوم الشريعة وأنوار الطريقة ، مما أخرجنا لكم من أرض نفوسكم التي تزكت بالأعمال الصافية والأحوال المُرْضِية .
ولا تيمموا العمل الخبيث أو الحال الخبيث ، تريدون أن تنفقوا منه شيئاً من تلك العلوم ، فإن ذلك لا يزيد النفس إلا جهلاً وبعداً ، فكما أن الحبة لا تنبت إلا في الأرض الطيبة ، كذلك النفس لا تُدفن إلا في الحالة المرضية ، فلا تؤخذ العلوم اللدنية من النفس حتى تدفن في أرض الخُمول ، وأرض الخمول هي الأحوال المرضية ، الموافقة للقواعد الشرعية ، وإليه الإشارة بقوله : { ولستم بآخذيه } أي : لستم بآخذي العلم اللدني من الحال الخبيث ، غلا أن تغيبوا فيه عن حِسَّكم ، ومن غلبه الحال لم يبق عليه مقال . وعليها تتخرج قصة لص الحَمَّام ، فلا يقتدى به لغلبة الحال عليه ، واعلموا أن الله غني حميد ، لا يتقرب إليه إلا بما هو حميد . والله تعالى أعلم .
(1/227)

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
قلت : يقال : وعدته خيراً ووعدته شرّاً ، هذا إن ذكر الخير أو الشر ، وأما إذا لم يذكر فيقال في الخير : وعدته ، وفي الشر : أوعدته ، قال الشاعر :
وإنّيَ وإنْ أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ ... لمخلِفُ إيعادي ومنْجِزُ مَوْعدي
و { الفحشاء } هنا : البخل والشح .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الشيطان يعدكم } أي : يخوفكم { الفقر } بسبب الإنفاق ، ويقول في وسوسته : إن أعطيت مالك بقيت فقيراً تتكفف الناس ، { ويأمركم بالفحشاء } أي : ويأمركم بالبخل والشح ، والعرب تسمي البخيل فاحشاً ، وفي الحديث :
" البخيلُ بعيدٌ من الله ، بعيدُ من الناسِ ، بعيد من الجنة قريب من النار . والسخي قريب من الله . قريبٌ من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد من النار . ولجاهل سخيٍّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيل " وفي حديث آخر : " إنَّ الله يأخذُ بيد السخيِّ كلما عثر " { والله يعدكم } في الإنفاق { مغفرة منه } لذنوبكم ، وستراً لعيوبكم ، { وفضلاً } أي : خَلَفاً أفضل مما أنفقتم في الدنيا والآخرة ، { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } ، { والله واسع } الفضل والعطاء ، { عليم } بما أنفقتم ، ولماذا أنفقتم ، وفيما أخلصتم ، لا يخفى عليه شيء من أموركم .
الإشارة : إذا توجه المريد إلى الله تعالى ، وأراد سلوك طريق التجريد والزهد والانقطاع إلى الله تعالى ، تعرض له الشيطان ، اختباراً منه تعالى وابتلاء ، إذ الحضرة محروسة بالقواطع؛ ليظهر الصادق في الطلب من الكاذب ، فيخوفه من الفقر ، ويأمره بالوقوف مع الأسباب والعوائد ، وهي أفحش المعاصي عند الخواص ، إذ إذ الهمة العالية تأنف عن الاشتغال بغير الحضرة الإلهية . والله يعدكم - أيها المتوجهون إليه - مغفرة لذنوبكم ، وستراً لعيوبكم ، فيغطي وصفكم بوصفه ، ونعتكم بنعته ، فيوصلكم بما منه إليكم من الفضل والجود ، لا بما منكم إليه من المجاهدة والمكابدة ، { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } [ النُّور : 21 ] ، { والله واسع } الجود والإحسان ، { عليم } بمن يستحق الفضل والامتنان .
ومن نتائج الزهد والانقطاع : ورود الحكمة على لسان العبد وقلبه .
(1/228)

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
قال البيضاوي : الحكمة : تحقيق العلم وإتقان العلم . ه . وقيل : هي سرعة الجواب وإصابة الصواب ، وقيل : كل فصل جَزْلٍ من قول أو فعل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يؤتي } الحق تعالى { الحكمة من يشاء } من عباده ، وهي التفقّه في الدين والتبصر في الأمور . قال صلى الله عليه وسلم : { مَنْ يُرد اللّهُ به خيراً يُفقِّهْه في الدين ، ويُلهمْه رُشْدَه } وقيل : الحكمة : الإصابة في الرأي . وقيل : الفهم في كتاب الله . وقيل الفهم عن الله . { ومن يؤت الحكمة } أي : أعطيها ، { فقد أوتي خيراً كثيراً } ؛ لأنه حاز خيرَ الدارَيْن ، ولا شك أن من حقَّق العلم بالله وبأحكامه ، وأتقنَ العملَ بما أمره الله به ، فقد صفا قلبه ، وتطهر سره ، فصار من أولي الألباب ولذلك قال عقبه : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } .
الإشارة : الحكمة هي : شهود الذات مرتديةً بأنوار الصفات ، وهي حقيقة المعرفة ، ومن عرف الله هابه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " رأس الحكمة مخافة الله " وقيل : هي تجريد السر لورود الإلهام ، وقيل : هي النور المفرق بين الوسواس والإلهام ، وقيل : شهود الحق تعالى في جميع الأحوال . والتحقيق : أن الحكمة هي إبداع الشيء وإتقانه حتى يأتي على غاية الكمال ، ويجري ذلك في العلم والعمل والحال والمعرفة .
وقال القُشَيْري : الحكمة : أن يَحكم عليك خاطر الحق لا داعي الباطل ، وأن تحكم قواهر الحق لا زواجر الشيطان . ويقال : الحكمة : صواب الأمر ، ويقال : هي ألا تغلب عليك رعونات البشرية ، ومن لا حكم له على نفسه لا حُكْمَ له على غيره . ويقال : الحكمة : موافقة أمر الله ، والسفه : مخالفة أمره ، ويقال : الحكمة شهود الحق ، والسفه : شهود الغير . قاله المحشي .
واعلم أن الصوفية ، في اصطلاحهم ، يُعبِّرون عن أسرار الذات بالقدرة ، وعن أنوار الصفات - وهي ظهور آثارها - بالحكمة . فالوجودُ كله قائم بين الحكمة والقدرة ، فالقدرة تُبرز الأشياء ، والحكمة تَسترها . فربط الأشياء واقترانها بأسبابها تُسمى عندهم الحكمة ، وإنفاذ الأمر وإظهار يُسمى القدرة ، فمن وقف مع الحكمة حجب عن شهود القدرة ، وكان محجوباً عن الله . ومن نفذ إلى شهود القدرة ولم يرتبط مع الأسباب والعوائد كان عارفاً محبوباً . فالعارف الكامل هو الذي جمع بين شهود القدرة وإقرار الحكمة ، فأعطى كل ذي حق حقه ، وَوَفَّى كلَّ ذي قسط قسطه ، لكن يكون ذلك ذوقاً وكشفاً ، لا علماً وتقليداً . وبالله تعالى التوفيق .
(1/229)

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قلت : النذْر : هو إلزَامُ المكلف نفسه ما لم يَجب ، كقوله : لله عليَّ أن أتصدق بكذا ، أو أن أصلي كذا ، أو أن أصوم كذا ، أو إن شفى الله مريضي فعليَّ كذا ، فمن نطق بشيء من ذلك لزمه ، ومن علق بشيء وحصل ذلك لزمه ما نطق به . و { نعما } أصلها : نِعم ما هي ، فأدغمت الميم في الميم ، وفي { نعم } : ثلاث لغات : " نعم " بفتح النون وكسر العين وهي الأصل ، وبسكونها ، وبكسر النون وسكون العين ، فمن قرأ بكسر النون والعين ، فعلى لغة كسر العين ، وأتبع النون للعين ، ومن اختلس ، أشار إلى لغة السكون ، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين ، فعلى الأصل وأدغم المثلين ، ومن قرأ بفتح النون وسكون العين فعلى لغة { نَعْم } بالتفح والسكون ، ثم أدغم ، ولم يعتبر التقاء الساكنين لعروضه ، أو لكون الثاني مُشدَّداً سهل ذلك . والله أعلم .
ومن قرأ : { ونكَّفرْ } ، بالجزم ، فعطف على محل الجزاء ، ومن قرأ بالرفع ، فعلى الاستئناف ، أي : ونحن نكفر ، أو : فهو يكفر ، على القراءتين .
يقوله الحقّ جلّ جلاله : { وما أنفقتم من نفقة } قليلة أو كثيرة ، سرّاً أو علانية ، في حق أو باطل ، { أو نذرتم من نذر } بشرط أو بغير شرط ، في طاعة أو معصية ، { فإن الله يعلمه } ، فيجازيكم عليه ، فمن أنفق في طاعة أو نذر قربة كان من المحسنين ، ومن أنفق في معصية أو نذر معصية كان من الظالمين . { وما للظالمين من أنصار } ينصرونهم من عذاب الله .
{ إن } تُظهروا { الصدقات } ، مخلصين فيها ، { فَنِعِمَّا هي } أي : فنعم شيئاً إبداؤها ، ولا سيما للمقتدى به ، فهو أفضل في حقه ، { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء } خفيه { فهو خير لكم } ؛ لأنه أقرب للإخلاص ، وهذا في التطوع ، تفضل عَلانيتها بسبعين ضعفاً . وأما الفريضة ففيها تفصيل ، فمن خاف على نفسه شوْبَ الرياء أخفى أو نَوّب ، ومَنْ أَمِنَ أَظْهَر . فقد ورد أن علانية الفريضة تَفْضُلُ سرَّها بخمسة وعشرين ضعفاً ، فإن فعلتم ما أُمرتم به في الوجهين ، فقد أحسنتم ، { ونكفر عنكم من سيئاتكم } أي : نستر عنكم بعض ذنوبكم ، وقد ورد في صدقة السر أن صاحبها يُظله الله يوم لا ظل إلا ظله { والله بما تعملون خبير } ؛ لا يخف عليه من أَسَرَّ أو جَهَر ، ومن أخلص أو خلط ، ففيه ترغيب وترهيب . والله تعالى أعلم .
الإشارة : معاملة العبد مع مولاه : إما أن تكون لطلب الأجور ، وإما لرفع الستور ، فالأول يُعطي أجره من وراء الباب ، والثاني يدخل مع الأحباب . وأما العامل للدنيا فهو ظالم لنفسه { وما للظالمين من أنصار } ، وفي بعض الآثار : طالبُ الدنيا أسير ، وطالب الآخرة أجير ، وطالب الحق أمير .
ثُم الناس في معاملة الحق على أقسام ثلاثة : قِسْمٍ يليق بهم الإخفاء والإسرار ، وهم طالبوا الإخلاص من المريدين السائرين . وقسْمٍ يليق بهم الإظهار وهم أهل الاقتداء من العلماء المخلصين . وقسْم لا يقفون مع ظهور ولا خفاء ، بل مع ما يبرز في الوقت ، وهم العارفون الكاملون . ولذلك قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : ( من أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور ، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء ، ومن كان عبد الله فسواء عليه أظهره أم أخفاه ) .
والهداية كلها بيد الله ، ليس لغيره منها شيء .
(1/230)

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام : { ليس عليك } يا محمد { هداهم } أي : لا يجب عليك أن تخلق الهداية في قلوبهم ، وليس من شأنك ذلك ، إنما أنت نذير تدلُّ على الخير ، كالنفقة وغيرها ، وتنهى عن الشر كالمِّن والأذى ، وإنفاق الخبيث ، وغير ذلك من المساوئ { ولكن الله يهدي من يشاء } بفضله وإحسانه ، فالأمور كلها بيد الله خيرها وشرها ، لكن من جهة الأدب { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النِّساء : 79 ] . وبالله التوفيق .
الإشارة : ما قيل في الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقال في ورثته من أهل التذكير ، فليس بيدهم الهداية والتوفيق ، وإنما شأنهم الإرشاد وبيان الطريق ، فليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على هداية الخلق . وإنما من شأنهم بيان الحقّ . { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } [ النّحل : 37 ] . والله تعالى أعلم .
ثم رجع الحقّ تعالى إلى الترغيب في الصدقة والإخلاص فيها ، فقال : { . . . وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }
قلت : هذه ثلاث جمل كلها تدل على الترغيب في إنفاق الطيب وإخلاص النية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما تنفقوا من خير } قليل أو كثير ، فهو { لأنفسكم } لا ينتفع به غيركم ، فإن كان طيباً فلأنفسكم ، وإن كان خبيثاً فأجره لكم ، وإن مننتم به أو آذيتم فقد ظلمتم أنفسكم ، وإن أخلصتم فيه فلأنفسكم ، وأيضاً إنكم تَدَّعُونَ أنكم { ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } ، فكيف تقصدون الخبيث ، وتجعلونه لوجه الله؟ وكيف تَمُنُّونَ أو تؤذون بها وهي وجه الله؟ هذا تكذيب للدعوى ، وكل ما تنفقون من خير قليل أو كثير { يُوف إليكم } جزاؤه يوم القيامة بسبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، ويخلفه لكم في الدنيا ، { وأنتم لا تظلمون } شيئاً من أعمالكم إن أخلصتم أو أحسنتم . وستأتي إشارتها مع ما بعدها .
(1/231)

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
قلت : { للفقراء } : متعلق بمحذوف ، أي : يعطي ذلك للفقراء ، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء ، والإلحاف ، : هو الإلحاح في السؤال ، وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه ، وهو منصوب على المصدر أو الحال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : تجعلون ما تنفقونه { للفقراء الذين أحصروا } أي : حبسوا أنفسهم في { سبيل الله } وهو الجهاد ، { لا يستطيعون ضرباً في الأرض } أي : ذهاباً في الأرض للتجارة أو للأسباب ، بل شغلهم الجهاد والتبتل للعبادة عن الأسباب ، وهم أهل الصُّفَّة ، كانوا نحواً من أربعمائة من فقراء المهاجرين ، يسكنون صفة المسجد ، يستغرقون أوقاتهم في العلم والذكر والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عباس رضي الله عنه : " وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلبوهم ، فقال : " أبشروا يا أصحاب الصفة ، فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه ، راضياً بما فيه فإنه ، من رفقائي " .
وقيل : المراد الفقراء مطلقاً ، حصرهم الفقر عن الضرب في الأرض للتجارة ، { يحسبهم الجاهل } بهم { أغنياء من التعفف } ، أي : من أجل تعففهم عن السؤال ، { تعرفهم بسيماهم } من الضعف ورثاثة الحال . الخطاب للرسول ، أو لكل أحد { لا يسألون الناس إلحافاً } ، أي : لا يسألون ، وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا ، وقيل : نفي للأمرين معاً ، ليس لهم سؤال ، فيقع فيه إلحاف ، كقول الشاعر :
على لا حِبٍ لا يُهْتَدى بمنَارِه ... وليس ثَمَّ لا حب ولا منار ، وإنما المراد نفيهما ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " منْ سأَلَ ، وله أربعونَ دِرهماً ، فَقَدْ سأل إلحافاً " .
{ وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } فيجازي على القليل والكثير ، وهذا ترغيب في الإنفاق ، وخصوصاً على هؤلاء .
الإشارة : ما أفلح من أفلح ، وخسر مَنْ خسر ، إلا من نفسه وفلسه ، فمن جاد بهما ، أو بأحدهما ، فقد فاز وأفلح وظفر بما قصد ، والجود بالنفس أعظم ، وهو يستلزم الجود بالفلس ، والجود بالفلس ، إن دام ، يوصل إل الجود بالنفس ، والمراد بالجود بالنفس : إسلامها للشيخ يفعل بها ما يشاء ، وتكون الإشارة فيها كافية عن التصريح ، ومن بخل بهما أو بأحدهما ، فقد خسر وخاب في طريق الخصوص ، ومصرف ذلك هو الشيخ ، أو الفقراء المنقطعون إلى الله؛ الذي حصروا أنفسهم في سبيل الله ، وهو الجهاد الأكبر .
قال في القوت : وكان بعض الفضلاء يؤثر بالعطاء فقراء الصوفية دون غيرهم ، فقيل له في ذلك ، فقال : لأن هؤلاء هممهم الله عزّ وجلّ ، فإذا ظهر منهم فاقة تَشَتَّتَ قلبُ أحدِهم ، فلأنْ أرد هِمة واحدٍ إلى الله أحب إليّ من أن أعطي ألفاً من غيرهم ممن همه الدنيا . فذكر هذا الكلام لأبي القاسم الجنيد ، فقال : هذا كلام ولي من أولياء الله .
(1/232)

ثم قال : ما سمعت كلاماً أحسنَ من هذا . وبلغني أن هذا الرجل اقتر حاله في أمر الدنيا حتى همّ بترك الحانوت؛ فبعث إليه الجنيد بمال كان صرف إليه ، وقال له : اجعل هذا في بضاعتك ، ولا تترك الحانوت فإنَّ التجارة لا تضرُّ مثلك . ويقال : إن هذا لم يكن يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه . ه .
وكان عبد الله بن المبارك يصرف مصروفه لأهل العلم ، ويقول : إني لا أعرف بعد النبوة أفضل من العلماء ، فإذا اشتغل قلب أحدهم بالحاجة والعيلة لم يتفرغ للعلم ، ولا يقبل على تعليم الناس ، فرأيت أن أكفيهم أمر الدنيا؛ لأفرغهم للعلم ، فهو أفضل . ه . والله تعالى أعلم .
(1/233)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
قلت : الموصول مبتدأ ، و { فلهم أجرهم } : خبر ، والفاء للسببية ، ولأن في الموصول معنى الشرط ، وقيل : الخبر محذوف ، أي : ومنهم الذين ينفقون الخ : و { فلهم } : استئناف بياني .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية } ، ويعمرون أوقاتهم بفعل الخيرات ، { فلهم أجرهم عند ربهم } إذا قدموا عليه ، { ولا خوف عليهم } من لُحوق مكروه ، { ولا هم يحزنون } على فوات محبوب ، بل وجدوا الله فأغناهم عن كل شيء .
قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه؛ تصدَّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسر ، وعشر بالعلانية ، أو في عليّ - كرّم الله وجهه - لم يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلاً ، ودرهم نهاراً ، ودرهم سرّاً ، ودرهم علانية . وهي عامة لمن فعل فعلهما .
الإشارة : أجر بذل الأموار هو إعطاء الثواب من وراء الباب ، والأمن من العذاب وسوء المآب ، وأجر بذل النفوس هو دخول حضرة القدوس ، والأنس بالأحباب داخل الحجاب ، فمن بذل نفسه لله على الدوام ، أمنه من الحجبة في دار السلام ، فلا خوف يلحقهم في الدارين ، ولا يعتريهم حزن في الكونين . وبالله التوفيق .
ولما رغَّب في الصدقة ، وكانت في الغالب لا يتوصل إليها إلا بتعاطي أسباب المال ، وهو البيع والشراء حذر من الربا؛ لئلا يتساهل الناس في المعاملة به ، حرصاً على الصدقة .
(1/234)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
قلت : { الربا } في الأصل : هو الزيادة ، رَبا المال يربو : زاد . وكتبت بالواو مراعاة للأصل ، وهو المصدر ، قال الفراء : إنما كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة ، ولغتهم الربو ، فعلموهم صورة الحروف ، وكذلك قرأها أبو السمال العدوي ، وقرأ الأخَوَان بالإمالة لمكان الكسرة ، والباقون بالتفخيم .
والربا في اصطلاح الشرع على قسمين : ربا الفضل وربا النِّسَاءِ ، فأما ربا الفضل فهو التفاضل بين الطعامين أو النقدين في المبادلة من الجنس الواحد ، فإن اختلفت الأجناس فلا حرج ، وأما ربا النساء فهو بيع الطعامين أو النقدين بعضهما ببعض بالتأخير ، وهذا حرام ولو اختلفت الأجناس .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الذين يأكلون الربا } أي : يأخذونه ، وإنما خص الأكل لأنه أعظم منافع المال ، { لا يقومون } من قبورهم يوم البعث { إلا كما يقوم } المجنون { الذي يتخبطه الشيطان من } أجل { المس } الذي يمسه يقوم ويسقط ، رُوِيَ أن بطونهم تكون أمامهم كالبيت الضخم ، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أُسْرِيَ بِي إلى السماء رأيتُ رِجالاً بُطُونُهُمْ كَالبُيوتِ ، فيهَا حَيَّاتٌ تُرى مِنْ خِارِجِ بُطُونِهمْ ، فقلت مَنْ هؤلاءِ يا جِبْرِيل؟ فقال : أكَلَةُ الرِّبا " .
ذلك العذاب بسبب أنهم استحلُّوا الربا ، و { قالوا إنما البيع مثل الربا } فنظموا الربا والبيع في سلك واحد ، وفيه عكس التشبيه . والأصل : إنما الربا مثل البيع ، قصدوا المبالغة ، كأنهم جعلوا الربا أصلاً وقاسوا عليه البيع . وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حلّ ماله على غريمه يقول الغريم : زدني في الأجل أزدك في المال ، فيفعلان ، ويقولان : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند محل الدين ، هو مراضاة فكذبهم الحقّ تعالى بقوله : { وأحلّ الله البيع وحرّم الربا } ؛ لأن القياس مع وجود النص فاسد ، والفرق ظاهر؛ فإن من باع درهماً بدرهمين ضيع درهماً من غير فائدة ، بخلاف من اشترى سلعة بدرهم ، وباعها بدرهمين ، فلعل مساس الحاجة ، والرغبة فيها ، توقع رواجها فيجبر الغبن .
{ فمن جاءه موعظة من ربه } كالنهي عن الربا { فانتهى } وترك الربا { فله ما سلف } قبل التحريم ولا يَرُدُّهُ ، { وأمره إلى الله } لا إلى أحد منكم ، فلا يتعرض له ، { ومن عاد } إلى تحليل الربا بعد بلوغه النهي { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لأنهم كفروا وسفهوا أمر الله . { ويمحق الله الربا } أي : يذهب بركته ، ويُهلك المال الذي يدخل فيه { ويربي الصدقات } أي : يضاعف ثوابها ويُبارك في المال الذي أخرجت منه ، فقد رُوِيَ عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " ما نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدقة " " وأنه يُربي الصدقةَ حتى تكونَ مثلَ الجبل " قال يحيى بن معاذ : ( ما أعرفُ حبةً تزن جبال الدنيا إلا الحبَّةَ من الصدقة ) .
{ والله لا يحب كل كفّار } أي : مُصِرٍّ على تحليل المحرمات ، { أثيم } أي : منهمك في ارتكاب المنهيات ، أي : لا يرتضي حاله ، ولا يحبه كما يحب التوابين .
ثم ذكر مقابله فقال : { إن الذين آمنوا } بالله ، وصدَّقُوا بما جاء من عنده ، { وعملوا } الأعمال { الصالحات وأقاموا الصلاة } أي : أتقنوها { وآتوا الزكاة } أي : أدوها على التمام ، فلهم أجرهم عند ربهم إذا قدموا عليه ، { ولا خوف عليهم } من آت ، { ولا هم يحزنون } على ما فات ، إذ لم يفتهم شيء حيث وجدوا الله .
(1/235)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا } أي : اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا ، فلا تقبضوها منهم ، { إن كنتم مؤمنين } . فإن دليل الإيمان : امتثال ما أمرتم به ، رُوِيَ أنه كان لثقيف مال على بعض قريش ، فطالبوهم عند الحَلِّ بالمال والربا ، فنزلت الآية .
{ فإن لم تفعلوا } وتتركوا ما نهيتم عنه ، { فأذنوا } أي : فاعلموا { بحرب من الله ورسوله } ومن قرأ : { فآذنوا } بالمد ، فمعناه : أعلموا بها غيركم ، رُوِيَ أنها لما نزلت ، قالت ثقيف : لا يَدَانِ لنا بحرب الله ورسوله . { وأن تبتم } من تعاطي الربا واعتقاد حله { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } الغريم بأخذ الزيادة ، { ولا تظلمون } بنقص رأس مالكم . مفهومه أن لم يتب فليس له شيء ، لأنه مرتد . والله تعالى أعلم .
الإشارة : مدار صفاء المعاملة على تصفية اللقمة ، فمن صفَّا طعمته صفت معاملته ، ومن صفت معاملته أفضى الصفاء إلى قلبه ، ومن خلط في لقمته تكدرت معاملته ، ومن تكدرت معاملته تكدر قلبه ، ولذلك قال بعضهم : ( مَنْ أكَلَ الحلال أطاع الله ، أحبَّ أم كَرِهَ ، ومن أكل الحرام : عصى الله ، أحبَّ أم كَرِه ) وكذلك الواردات الإلهية ، لا ترد إلا على من صفا مطعمه ومشربه ، ولذلك قال بعضهم : ( من لا يعرف ما يدخل بطنه لا يفرق بين الخواطر الربانية والشيطانية ) .
وقال سيدي علي الخواص رضي الله عنه : ( اعلم أن المدد الذي لم يزل فياضاً على قلب كل إنسان ويتلون بحسب القلب ، والقلب يتلون بحسبه هو بحسب صلاح الطعمة وفسادها ) . ه . فالذين يأكلون الحرام؛ كالربا وشبهه ، ولا يقومون إلى معاملتهم للحق إلا كما يقوم المجنون الذي يلعب به الشيطان ، ولا يدري ما يقول ولا ما يقال له ، فقد حُرم لذيذ المناجاة وحلاوة خلوص المعاملات ، فإن احتج لنفسه واستعمل القياس لم يُرْجَ فلاحُه في طريق الخواص ، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى ، وطلب العفاف فقد عفا الله عما سلف . ومن عاد إلى ما خرج عنه؛ من متابعة هواه ، فنار القطيعة مثواه ومأواه .
ومن شأن الحق جلّ جلاله مع عباده : أن من طلب الزيادة في حس ظاهره محق الله نور باطنه ، ومن حسم مادة زيادة الحس في ظاهره قوي الله مدد الأنوار في باطنه ، { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ } [ البقرة : 276 ] ، أي : يُقَوِّي مدد ثواب الصدقات . { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَارٍ أَثِيمٍ } [ البقرة : 276 ] ، وإنما يحب كل مطيع منيب ، وهو من آمن إيمان أهل التحقيق ، وسلك أهل التوفيق . فلا جرم أنه ينخرط في سلك أهل العناية ، ويسلك به مسلك أهل الولاية ، الذين { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } حق تقاته ، واتركوا ما بقي في باطنكم من بقايا الحس وأسبابه ، إن كنتم طالبين إيمان أهل الشهود ، والوصول إلى الملك المعبود . فإن لم تفعلوا ذلك فاعلموا أنكم في مقام البعد من حيث لا تظنون ، معاندون وأنتم لا تشعرون . وإن رجعتم إلى ربكم فلكم رؤوس أموالكم ، وهم نور التوحيد ، لا تنقصون منه ولا تزيدون عليه ، إلا إن أفردتم الوجهة إليه ، وطلبتم الوصول منه إليه ، فإن الله لا يُخيٍّب من أمَّل جُوده ، ولا يردُّ من وقَف ببابه ، بمنِّه وكرمه .
(1/236)

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
قلت : { كان } : تامة بمعنى حضر ، وقرأ أُبَيّ وابنُ مسعود : { ذا عسرة } فتكون ناقصة ، و { نظرة } : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فعليكم نظرة ، أو فالواجب نظرة . وهو مصدر بمعنى الإنظار ، وهو الإمهال ، و { ميسرة } : فيه لغتان : الفتح والضم ، وهي مَفْعَلة من اليسر ، فالضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغة تميم وقَيْس ونَجْد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وإن حضر الغريم وهو معسر ، فعليكم إنظاره ، أي : إمهاله إلى زمان يسره ولا يحل لكم أن تُضَيِّقُوا عليه ، وتطالبوه بما ليس عنده إن أقام البيِّنَةَ على عسره { وأن تصدقوا } عليه برؤوس أموالكم ولا تطالبوه بها { خير لكم إن كنتم تعلمون } ما في ذلك من الخير الجزيل والذكر الجميل .
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَنْظَر مُعْسِراً ، أو وَضَعَ عنه ، أَظلَّه اللّهُ في ظِلِّ عَرْشِه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " من أَحَبَّ أن تُستجاب دعوته ، وتُكشف كُربتُه ، فليُيسِّرْ على المُعسر " وقال صلى الله عليه وسلم : " من أنْظَر معسراً كان له بكل يوم صدقةٌ بمثل ما أنظره به " وقد ورد في فضل الدَّيْن قوله - عليه الصلاة والسلام : " إن الله مع المدين حتى يقضي دَيْنه ، ما لم يكن فيما يكره الله " فكان عبد الله يقول : " إني أكره أن أبيت ليلة إلا والله تعالى معي ، فيأمر غلامه أن يأخذ بدين " .
وقد ورد الترغيب أيضاً في الإسراع بقضاء الدين دون مطل ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مشَى إلى غَريمه بحقه ، صَلَّتْ دوابُّ الأرض ونُونُ الماء ، وكتبت له بكل خُطوة شجرة في الجنة ، وذنب يغفر له فإن لم يفعل ومطل فهو مُعْتَدِ " وقال أيضاً : " َطْلُ الغَنِيِّ ظلم ، وإذا أُتْبعَ أحَدكُمْ على مَليء فَلْيتْبَعْ " .
ثم قال تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } ، وهو يوم القيامة ، فتأهبوا للمصير إله بالصدقة وسائر الأعمال الصالحة ، { ثم توفّى كل نفس } جزاء ما أسلفت ، { وهم لا يظلمون } بنقص ثواب أو تضعيف عقاب . قال ابن عباس : ( هذه آخر آية نزل بها جبريل ، فقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً ) . وقيل : أحداً وثمانين ، وقيل غير ذلك . والله تعالى أعلم .
الإشارة : وإن كان ذو عسرة من نور اليقين والمعرفة ، فلينظر إلى أهل الغنى بالله ، وليصحبهم ويتعلَّق بهم ، وهم العارفون ، فإنهم يغنونه بالنظر . وفي بعض الأخبار : إن لله رجالاً؛ من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً . ه . ولله رجال إذا نظروا أغنَوْا ، وفي هذا المعنى يقول صاحب العينية :
(1/237)

فَشَمِّرْ ، ولُذْ بالأَوْليَاءِ فَإنَّهُمْ ... لَهُمْ مِنْ كِتَابِ الله تلْكَ الوقَائعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلمَلهُوفِ ، والكَنْزُ لِلرَّجَا ... وَمِنْهُمْ يَنَالُ الصَبُّ مَا هُوَ طَامِعُ
وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه وقد أغنيته . وقال فيه شيخه : نعم الرجل أبو العباس ، يأتيه البدويُّ يبول على ساقه ، فلا يُمسي إلا وقد أوصله إلى ربه . وقال شيخ شيوخنان سيدي العربي بن عبد الله : لو أتاني يهودي أو نصراني ، لَمْ يُمْسِ إلا وقد أوصلته إلى الله . ه . وفي كل زمان رجال يُغْنُونَ بالنظر ، وقد أدركتهم ، وصحبتُهم والحمد لله ، والإشارة بقوله : { وأن تصدقوا خير لكم } إلى أهل الغنى بالله ، يتصدقون على الفقراء بالنظرة والهمة ، حتى يحصل لهم الغنى بالله . والله تعالى أعلم .
(1/238)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } أي : داين بعضكم بعضاً في بيع أو سف ، { إلى أجل مسمى } أي : معلوم بالأيام أو الأشهر ، لا بالحصاد أو قدوم الحاج ، ألا في السَّلمَ ، { فاكتبوه } ؛ لأنه أوثق وأدفع للنزاع . والجمهور : أن الأمر للاستحباب ، { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } لا يزيد ولا ينقص ، ولا بد أن يكون عدلاً حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به ، { ولا يأب كاتب أن يكتب } أي : ولا يمتنع كاتب من الكتابة { كما علمه الله فليكتب } أي : فليكتب كما علمه الله من كتابه الوثائق ، أو : لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها . { وليملل الذي عليه الحق } أي : وليكن المُملي مَنْ عليه الحق؛ لأنه المُقر للشهود ، يقال : أملل وأملي ، إذا ذكر ما عنده أو ما عليه ، { وليتق الله ربه } أي : المملي أو الكاتب ، { ولا يبخس منه شيئاً } أي : ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئاً في الإملاء أو في الكتابة
{ فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } : ناقص العقل مُبذراً ، { أو ضعيفاً } شيخاً مخبلاً ، أو صبيّاً صغيراً ، { أو لا يستطيع أن يمل هو } ، لخرس أو جهل باللغة ، { فليملل } عنه { وليه بالعدل } ، من وَصِيٍّ أو وكيل ، { واستشهدوا } على معاملتكم { شهيدين من رجالكم } المسلمين ، { فإن لم يكونا رجلين } ، بأن تعذر إحضارهما ، { فرجل وأمراتان } فأكثر ، تقوم مقام رجلين { ممن ترضون من الشهداء } لعلمكم بِعَادالَتِهِمْ ، وإنما شرط تعدد النساء لأجل { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } أي : إن ضلت إحداهما الشهادة ، ونسيتها ، ذكرتها الأخرى؛ لأنها ناقصة عقل ودين .
ثم حذَّر الشهود من الامتناع عن تحمل الشهادة أو أدائها ، فقال : { . . . وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قلت : السَّأَمُ هو : الملَلُ ، و { لا يضار } يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل ، وأصله : يضارر بالكسر ، أو للمفعول ، فيكون الأصح بالفتح .
(1/239)

يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا يمتنع { الشهداء } من تحمل الشهادة إذا دعوا إليها ، حيث تعيَّنت عليهم ، وسُموا شهداء باعتبار المآل ، وإنما تتعين إذا لم يوجد غيرهم . أو : من أدائها حيث لا ضرر ، { ولا تسأموا أن تكتبوه } أي : ولا تملوا من كتابة الحق إذا تكرر { صغيراً } كان { أو كبيراً } ، فقيدوا ذلك { إلى أجله } ، { ذلكم أقسط عند الله } أي : ذلك الكتاب والتقييد للحقوق ، أكثر قسطاً عند الله؛ لأنه أدفع للنزاع وأحفظ للحقوق ، { وأقوم للشهادة } أي : أثبتُ لها وأعون على أدائها ، { وأدنى ألا ترتابوا } أي : وأقرب لعدم الريب والشك في جنس الدين وقَدْره وأجلَه ، لأنه إذا كتب جنسه وقدره وأجله لم يبق لأحد شك في ذلك ، { إلا أن تكون تجارة حاضرة } لا أجَل فيها ، { تديرونها بينكم } أي : تتعاملون فيها نقداً ، { فليس عليكم جُنَاحٌ ألا تكتبوها } ؛ لقلة النزاع فيها ، { وأشهدوا إذا تبايعتم } مطلقاً بدين أو نقد؛ لأنه أحوط ، خوفاً من الإنكار ، والأوامر في هذه الآية للاستحباب عند الأكثر .
{ ولا يضار كاتب ولا شهيد } بالتحريف والتغيير في الكتابة والشهادة ، على البناء للفاعل ، أو : ولا يضارا بأن يُعْجلا عن مهم ، أو يكلفا الأداء من شقة بعيدة ، أو يمنع من أجرته ، { وإن تفعلوا } ذلك الضرار وما نهيتهم عنه { فإنه فسوق بكم } أي : خروج بكم عن حد الاستقامة ، { واتقوا الله } في مخالفة أمره ونهيه ، { ويعلمكم الله } العلوم اللدنية { والله بكل شيء عليم } ؛ فلا يخفى عليه من اتقى الله ممن عصاه . وكرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث ، لاستقلالها ، فإن الأُولى حثٌّ على التقوى والثانية وعدٌ بتعليم العلم ، والثالثة تعظيم لشأنه ، ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية . قاله البيضاوي .
وأدخل الواو في جوابه الأمر ليقتضي أن تعليمه سبحانه لأهل التقوى ليس هو مسبباً عن التقوى ، بل هو بمحض الفضل والكرم ، والتقوى إنما هي طريق موصل لذلك الكرم ، لا سبب فيه " جَلَّ حُكْمُ الأزل أن يُضَافَ إلى العلل " . والله تعالى أعلم .
(1/240)

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
قلت : { فرهان } : خبر ، أو مبتدأ ، أي : فالمستوثق به رهان ، أو فعليه رهان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن كنتم على } جناح { سفر } أي : مسافرين ، { ولم تجدوا كاتباً } يكتب شهادة البيع أو الدين ، فالمستوثق به عروضاً من الإشهاد : { رهان مقبوضة } . وليس السفر شرطاً في سحة الارتهان ، لأنه عليه الصلاة والسلام : " رَهَنَ دِرْعَه عند يهودي بالمدينة في شَعِير " لكنّ لمّا كان السفر مَظنَّة إعواز الكتاب ، ذكره الحق تعالى حكماً للغالب . والجمهور على اعتبار القبض فيه ، فإن لم يقبض حتى حصل المانع ، فلا يختص به في دينه ، { فإن أمن بعضكم بعضاً } واستغنى بأمانته عن الارتهان ، لوثوقه بأمانته فداينه بلا رهن ، { فليؤد الذي أؤتمن أمانته } أي : دينه ، وسماه أمانة؛ لائتمانه عليه بلا ارتهان ولا إشهاد ، { وليتق الله ربه } في أداء دينه وعدم إنكاره .
{ ولا تكتموا الشهادة } أيها الشهود ، أو أهل الدين ، أي : شهادتهم على أنفسهم ، { ومن يكتمها } منكم بأن يمتنع من أداء ما تحمل من الشهادة ، أو من أداء ما عليه من الدين ، { فإنه آثم قلبه } حيث كتم ما علمه به ، لأن الكتمان من عمل القلوب فتعلق الإثم به ، ونظيره : " العين زانية وزناها النظر " ، أو أسنده إلى القلب ، مبالغة؛ لأنه رئيس الأعضاء ، فإذا أثم قلبه فقد أثم كله ، وكأنه قد تمكن الإثم منه فأخذ أشرف أجزائه ، وفاق سائر ذنوبه ، ثم هدد الكاتمين فقال : { والله بما تعملون عليم } ؛ لا يخفى عليه ما تبدون وما تكتمون ، رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كَتَمَ شهادةً إذا دُعِي - كَان كَمَنْ شَهِدَ بالزُّور " .
الإشارة : كما أمر الله تعالى بتقييد الديون الدنيوية ، والاعتناء بشأنها ، أمر بتقييد العلوم اللدنية والوردات القدسية والاغتباط بأمرها ، بل هي أولى؛ لدوام ثمراتها وخلود نتائجها ، فإن الحكمة ترد على القلب من عالم القدس عظيمة كالجبل ، فإن أهملتها ولم تبادر إلى تقييدها ، رجعت كالجمل ، فإن أخرتها رجعت كالطير ، ثم كالبيضة ، ثم تمتحي من القلب ، وفي هذا المعنى قيل :
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُه ... قَيِّدْ صُيودَك بالحِبَالِ المُوثِقَهْ
وَمِنَ الجَهَالة أن تصِيدَ حمامةً ... وتتركُها بَيْنَ الأوانِس مطلقهْ
فإن لم يسحن الكتابة ، فليملله على من يُحسنها ، ولا يبخس منه شيئاً ، بل يمُليه على ما ورد في قلبه ، فإن كان ضعيف العبارة ، فليملل عنه من يحسنها بالعدل ، من غير زيادة ولا نقصان في المعنى ، وليُشهد عليها رجال أهل الفن وهم العارفون ، فإن لم يكونوا ، فمن حضر من الفقراء المتمكنين؛ لئلا يكون في تلك الحكمة شيء من الخلل؛ لنقصان صاحبها ، أو : وليُشْهِد على ذلك الوارد عدلين ، وهما الكتاب والسنّة ، فإن كان موافقاً لهما ، قُبل ، وإلا رُدَّ .
قال الجنيد رضي الله عنه : إن النكتةَ لتقع في قلبي فلا أقبلها إلا بشهادة عَدْلَين : الكتاب والسنّة . ه . وإن كنتم مستعجلين ، ولم تجدوا كاتباً ، فارتهنوها في قلوب بعضكم بعضاً ، حتى تُقيد . ومن كتم الواردات عن شيخه أو إخوانه ، فقد أثم قلبه؛ لأنه نوع من الخيانة في طريق التربية . والله تعالى أعلم .
(1/241)

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
قلت : من قرأ { فيغفر } ؛ بالجزم ، فعلى العطف على الجواب ، ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف ، أي : فهو يغفرُ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لله ما في السماوات وما في الأرض } خلقاً وملكاً وعبيداً ، يتصرف فيهم كيف شاء؛ يرحم من يشاء بفضله ، ويعذب من يشاء بعدله ، { وإن تبدوا } أي : تظهروا { ما في أنفسكم } من السوء والعزم عليه ، { أو تخفوه } في قلوبكم ، { يحاسبكم به الله } يوم القيامة؛ { فيغفر لمن يشاء } مغفرته ، { ويعذب من يشاء } تعذيبه ، { والله على كل شيء قدير } لا يعجزه عذاب أحد ولا مغفرته . وعبَّرالحق تعالى بالمحاسبة دون المؤاخذة ، فلم يقل : يؤاخذكم به الله؛ لأن المحاسبة أعم ، فتصدق بتقرير الذنوب دون المؤاخذة بها ، لقوله - عليه الصلاة والسلام : " يدنو المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عيه ، فيقرره بذنوبه ، فيقول : هل تعرف كذا؟ فيقول : يا رب ، أعرف ، فيوقفه على ذنبه ذنباً ، ذنباً فيقول الله تعالى : أنا الذي سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " فلله الفضل والمنّة ، وله الحمد والشكر .
الإشارة : { وإن تبدوا ما في أنفسكم } من الخواطر الردية والطوارق الشيطانية ، أو تخفوه في قلوبكم ، حتى يحول بينكم وبين شهود محبوبكم ، { يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء } فيمحو ظلمته من قلبه؛ بإلهام التوبة والمبادرة إلى اليقظة ، { ويعذب من يشاء } بتركه مع ظلمة تلك الأغيار ، وخوضه في بحار تلك الأكدار ، فما منع القلوب من مشاهدة الأنوار إلا اشتغالها بظلمة الأغيار ، فرّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار ، فإن أردت أن تكون عين العين ، فامح من قلبك نقطة الغين ، وهي نقطة السوى ، ولله درّ القائل :
إِنْ تَلاشَى الكونُ عن عَيْنِ كشْفِي ... شاهَدَ السرُّ غَيْبَه في بَيَاني
فاطْرح الكونَ عن عِيانِكَ وامْحُ ... نقطةَ الغَيْنِ إنْ أردتَ تَرَاني
واعلم أن الخواطر أربعة : ملكي ورباني ونفساني وشيطاني ، فالملكي والرباني لا يأمران إلا بالخير ، والنفساني والشيطاني لا يأمران إلا بالشر ، وقد يأمران بالخير إذا كان فيه دسيسة إلى الشر ، والفرق بين النفساني والشيطاني : أن الخاطر النفساني ثابت لا يزول بتعوذ ولا غيره ، إلا بسابق العناية ، بخلاف الشيطاني : فإنه يزول بذكر الله ، ويرجع مع الغفلة عن الله . والله تعالى أعلم .
ولمَّا نزل قوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم . . . } الآية . شق ذلك على الصحابة - رضي الله عنهم - فجاء الصدِّيقُ والفاروق وعبدُ الرحمن ومعاذ ، وناسُ من الأنصار ، فَجَثَوْا على الرُّكَب ، وقالوا : يا رسول الله ، ما نزلت علينا آيةٌ أشدُّ من هذه الآية وأنا إن أخذنا بما نُحَدِّثُ به أنفَسنا هَلَكْنَا! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " هكذا نزلت " فقالوا : كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق ، فقال - عليه الصلاة والسلام : " فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [ البقرة : 93 ] ، قولوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ البقرة : 285 ] " ، فقالوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ، وذَلَّتْ بها أَلْسِنَتُهُمْ ، فأَنْزَلَ اللّهُ التخفيف ، وحكى ما وقع لهم من الإيمان والإذعان .
(1/242)

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
قلت : من قرأ : { لا نفرق } بالنون ، فعلى حذف القول ، أي : قالوا : لا نفرق ، ومن قرأ بالياء فيرجع إلى الكل ، أي : لا يفرق كل واحد منهم بين أحد من رسله ، و { بين } : من الظروف النسبية ، لا تقع إلا بين شيئين أو أشياء ، تقول : جلست بين زيد وعمرو ، وبين رجلين ، أو رجال ، ولا تقول بين زيد فقط ، وإنما أضيف هنا إلى أحد لأنه في معنى الجماعة ، أي : لا نفرق بين آحاد منهم كقوله عليه الصلاة والسلام : " ما أُحلَّت الغنائم لأحدٍ ، سُودِ الرؤوس ، غيركم " و { غفرانك } : مفعول مطلق ، أي : اغفر لنا غفرانك . أو : نطلب غفرانك ، فيكون مفعولاً به .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } إيمان تحقيق وشهود { والمؤمنون } كل على قدر إيقان ، { كل } واحد منهم { آمن بالله } على ما يليبق به من شهود وعيان ، أو دليل وبرهان ، وآمن بملائكته وأنهم عباد مكرمون { لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التّحْريم : 6 ] ، { وكتبه } وأنها كلام الله ، مشتملة على أمر وني ووعد ووعيد وقصص وأخبار ، وما عرف منها؛ كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وجب الإيمان به بعينه ، وما لم يعرف وجب الإيمان به في الجملة ، { ورسله } وأنهم بشر متصفون بالكمالات ، منزّهون عن النقائص ، كما يليق بحالهم ، حال كون الرسول والمؤمنون قائلين { لا نفرق بين أحد من رسله } أو : { لا يفرق } كل منهم بين أحد من رسله؛ بأن يصدقوا بالبعض ، دون البعض كما فرقت اليهود والنصارى ، { وقالوا } أي المؤمنين { سمعنا وأطعنا } أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، نطلب { غفرانك } يا ربنا { وإليك المصير } بالبعث والنشور ، وهذا إقرار منهم بالبعث الذي هو من تمام أركان الإيمان .
فلمّا تحقق إيمانُهم ، وتيقن إذعانُهم ، خفَّف الله عنهم بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } أي : إلا ما في طاقتها وتسعه قدرتها . وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه . أما المحال العادي فجائز التكليف به ، وأما المحال العقلي فيمتنع . إذ لا يتصور وقوعه ، وإذا كلف الله عباده بما يطيقونه ، فكل نفس { لها ما كسبت } من الخير فتوفى أجره على التمام ، { وعليها ما اكتسبت } من الشر ، فترى جزاءه ، إلا أن يعفو ذو الجلال والإكرام .
وعبر في جانب الخير بالكسب ، وفي جانب الشر بالاكتساب ، تعليماً للأدب في نسبة الخير إلى الله ، والشر إلى العبد ، فتأمله .
ثم قالوا في تمام دعائهم : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، أي : لا تؤاخذنا بما أدى إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو قلة مبالاة ، وفي الحديث : " إنّ الله رفعَ عن أمتي الْخَطأَ والنِّسْيَانَ وما حدثتْ به نفسَها " ويجوز أن يراد نفس الخطأ والنسيان؛ إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلاً ، فإن الذنوب كالسموم ، فكما أن تناول السم ويؤدي إلى الهلاك ، وإن كان خطأ - فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب ، وإن لم يكن عزيمة ، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلاً .
(1/243)

ويجوز أن يدعو به الإنسان ، استدامة واعتداداً بالنعمة فيه . ويؤيد ذلك مفهوم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " رُفع عن أُمَّتِي الْخَطأ والنِّسْيَانْ " أي : فإن غير هذه الأمة كانوا يؤاخذون به ، فدلّ على عدم امتناعه . قاله البيضاوي .
ثم قالوا : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } أي : عهداً ثقيلاً يأصر ظهورنا ، أي : يثقله ، فتعذبنا بتركه وعدم حمله ، { كما حملته على الذين من قبلنا } مثل اليهود في تكليفهم بقتل الأنفس في التوبة ، وقطع موضع النجاسة ، وغير ذلك من التكاليف الشاقة ، { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من التكاليف التي لا تسعها طاقتنا ، وهذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق عادة ، وإلا لما سئل التخلص منه ، { واعف عنا } أي : امح ذنوبنا ، { واغفر لنا } أي : استر عيوبنا ، { وارحمنا } أي : تعطف علينا . { اعف عنا } الصغائر ، { واغفر لنا } الكبائر ، { وارحمنا } عند الشدائد والحسرات ، { أنت مولانا } أي : سيدنا وناصرنا ، { فانصرنا على القوم الكافرين } ؛ فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء .
قال البيضاوي : ( رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام - لمّا دعا بهذه الدعوات قيل له : فعلتُ ) : وعنه عليه الصلاة والسلام : " أُنْزِلَ آيتان من كُنوز الجنة ، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفَيْ سنة ، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجْزَأتَاه عن قيام الليل " وعنه عليه الصلاة والسلام : " من قرأ الأيَتينِ مِنْ آخِر سُورَةِ الْبَقَرةِ في لَيْلَة كَفَتَاهُ " وهو يَرُدُّ قول من استكره أن يقال سورة البقرة ، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " السورةُ التي يُذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها؛ فإنَّ تعلُّمها بَرَكَة ، وَتَرْكَهَا حَسْرَة ، ولن يَسْتَطِيعها البَطَلَةُ . قيل : وما البطلة؟ قال : السحرة " .
الإشارة : يُفهم من سر الآية أن من شق عليه أمر من الأمور ، أو عسرت عليه حاجة ، أو نزلت به شدة أبو بلية ، فليرجع إلى الله ، ولينطرح بين يدي مولاه ، وليعتقد أن الأمور كلها بيده؛ فإن الله تعالى لا يخليه من معونته ورفده ، فيخفف عنه ما نزل به ، أو يقويه على حمله ، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لما شق عليهم المحاسبة على الخواطر سلَّموا وأذعنوا لأمر مولاهم ، فأنزل عليهم التخفيف ، وأسقط عنهم في ذلك التكليف ، وكل من رجع في أموره كلها إلى الله قضيت حوائجه كلها بالله . " من علامات النُّجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات " .
(1/244)

وقوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } ، قيل : هو الحب لله ، فلا يسأل العبد من مولاه من حبه إلا ما يطيقه ، وتأمل قضية الرجل الذي سأل سيدنا موسى عليه السلام أن يرزقه الله حبه ، فلما سأل ربه موسى عليه السلام هام ذلك الرجل ، وشق ثيابه ، وتمزقت أوصاله حتى مات . فناجى موسى رضي الله عنه ربه في شأنه ، فقال : يا موسى ، ألف رجل كلهم سألوني ما سأل ذلك الرجل ، فقسمت جزءاً من محبتي بينهم ، فنابه ذلك . الجزء . أو كما قال سبحانه .
وقال بعض الصالحين : حضرتُ مجلس ذي النون ، في فسطاط مصر ، فَحَزَرْت في مجلسه سبعين ألفاً ، فتكلم ذلك اليوم في محبته تعالى فمات أحدَ عشرَ رجلاً في المجلس ، فصاح رجل من المريدين فقال : يا أبا الفيض ، ذكرْتَ محبة الله تعالى فاذكر محبة المخلوقين ، فتأوّه ذو النون تأوّهاً شديداً ، ومدّ يده إلى قميصه ، وشقه اثنتين ، وقال : آه! غلقت رهونهم ، واستعبرت عيونهم ، وحالفوا السُّهَاد ، وفارقوا الرُّقاد ، فليلُهم طويل ، ونومهم قليل ، أحزانهم لا تُنْفذ . وهموهم لا تفقد ، أمورهم عسيرة ، ودموعهم غزيرة ، باكية عيونهم ، قريحة جفونهم ، عاداهم الزمان والأهل والجيران .
قلت : هذه حالة العباد والزهاد ، أُولي الجد والاجتهاد ، غلب عليهم الخوف المزعج ، أو الشوق المقلق ، وأما العارفون الواصلون؛ فقد زال عنهم هذا التعب ، وأفضوا إلى الراحة بعد النصب ، قد وصلوا إلى مشاهدة الحبيب ، ومناجاة القريب ، فعبادتهم قلبية ، وأعمالهم باطنية ، بين فكرة ونظرة ، مع العكوف في الحضرة ، قد سكن شوقهم وزال قلقهم ، قد شربوا ورووا ، وسكروا وصحوا ، لا تحركهم الأحوال ، ولا تهيجهم الأقوال ، بل هم كالجبال الرواسي ، نفعنا الله بذكرهم ، وجعلنا من حزرهم . آمين .
قوله تعالى : { واعف عنا } ، قال الورتجبي : أي : { واعف عنا } قلة المعرفة بك ، { واغفر لنا } التقصير في عبادتك ، { وارحمنا } بمواصلتك ومشاهدتك . ه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
(1/245)

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
{ الم اللَّهُ لآَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحىُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ . . . }
قلت : فواتح السور كلها موقوفة خالية عن الإعراب؛ لفقدان مُوجبه ومقتضيه ، فيوقف عليها بالسكون ، كقولهم : واحد ، اثنان . وإنما فَتَحَ الميم هنا في القراءة المشهورة؛ لإلقاء حركة الهمزة عليها . انظر البيضاوي . قال ابن عباس رضي الله عنه : ( الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم مُلكه ) .
قلت : ولعلَّ كل حرف يشير إلى فرقة ممن توجَّه العتاب إليهم ، فالآلاء لِمنْ أسلم من النصارى ، واللطف لمن أسلم من اليهود ، والملك لمن أسلم من الصحابة - رضوان الله عليهم - ، فقد ملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها . والله تعالى أعلم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : أيها الملك المُعظَّم ، والرسول المفخم ، بلِّغ قومك أن الله واحد في ملكه ، ليس معه إله ، ولا يُحب أن يُعبد معه سواه؛ إذ لا يستحق أن يعبد إلا الحيّ القيّوم ، الذي تعجز عن إدراكه العقولُ ومدارك الفهوم ، فائم بأمر عباده ، متصرف فيهم ، على وفق مراده ، فأعذر إليهم على ألسنة المرسلين ، وأنزل عليهم الكتب بياناً للمسترشدين ، فنزَّل { عليك الكتاب } مُنَجّماً في عشرين سنة ، متلبساً { بالحق } ، حتى { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } ، أو متلبساً بالحجج التي تدفع كل باطل ، أو بالعدل حتى ينتفي به جَوْر كل مائل ، { مصدقاً } لما تقدم قبله من الكتب الإلهية؛ إذ هو موافق لما فيها من القصص والأخبار ، فكان شاهداً عليها بالصحة والإبرار .
{ وأنزل التوراة والإنجيل } من قبله هادياً لمن كُلف باتباعهما من الأنام ، أو للجميع ، إذا كان شرعُ منْ قبلنا شرعاً لنا - معشر أهل الإسلام - ، ثم ختم الوحي بإنزال { الفرقان } ، وكلّف بالإيمان به الإنس والجان ، فرَّق به بين الحق والباطل ، واندفع به ظلمة كل كافر وجاهل؛ وقدَّم ذكره على الكتب؛ لعظم شرفه ، وختم به آخراً لتأخر نزوله . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لمّا أراد الحقّ جلّ جلاله أن يشير إلى وحدة الذات وظهور أنوار الصفات ، قَدَّم قبل ذلك رموزاً وإشارات ، لا يفهمها إلا من غاص في قاموس بحر الذات ، وغرق في تيار الصفات ، فيستخرج بفكرته من يواقيت العلوم وغوامض الفهوم ، ما تحار فيه الأذهان ، وتكِلُّ عنه عبارةُ اللسان ، فحينئذٍ يفقهم دقائق الرموز وأسرار الإشارات ، ويطلع على أسرار الذات وأنوار الصفات ، ويفهم أسرار الكتب السماوية ، وما احتوت عليه من العلوم اللدنية ، والمواهب الربانية ، ويشرق في قلبه أنوار الفرقان ، حتى يرتقي إلى تحقيق أهل الشهود والعيان . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه .
ثم هدد من كفر بالفرقان ، بعد وضوح سواطع البرهان ، فقال :
{ . . . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ }
قلت : الانتقام والنقمة : عقوبة المجرم .
(1/246)

وفعله : نقم؛ القاف وفتحها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين كفروا بآيات الله } المنزلة على نبيه أو على سائر أنبيائه ، أو الآيات الدالّة على وحدانيته ، { لهم عذاب شديد } يوم يظهر نفوذ الوعد والوعيد ، فينتقم الله فيه من المجرمين ، ويتعطف على عباده المؤمنين ، فإن { الله عزيز } لا يغلبه غالب ، ولا يفُوته هارب ، { ذو انتقام } كبير ولطف كثير . لطف الله بنا وبجميع المسلمين . آمين .
الإشارة : ظهور أولياء الله لطف من آيات الله ، فمن كفر بهم حُرم بركتهم ، وبقي في عذاب الحجاب وسوء الحساب ، تظهر عليه النقمة والمحنة ، حين يرفع الله المقربين في أعلى عليين ، ويكون الغافلون مع عوام المسلمين ، ( ذلك يوم التغابن ) . والله تعالى أعلم .
(1/247)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الله لا يخفى عليه شيء } من أمر خلقه ، إيماناً أو كفراناً ، طاعة أو عصياناً ، أحاط علمه بما في السماوات العلي وما في الأرضين السفلى ، كليّاً كان أو جزئيّاً ، حسيّاً أو معنوياً ، يعلم عدد الحصى والرمال ، ومكاييل المياه ومثاقيل الجبال ، ويعلم حوادث الضمائر ، وهواجس الخواطر ، بعلم قديم أزلي ، وله قدرة نافذة وحكمة بالغة ، فبقدرة صَوَّرَ النُّطَف في الأرحام كيف شاء سبحانه من نقص أو تمام ، وأتقنها بحكمته ، وأبرزها إلى ما يَسَّرَ لها من رزقه ، سبحانه من مدبر عليم ، عزيز حكيم ، لا يُعجزه شيء ، ولا يخرج عن دائرة علمه شيء ، لا موجود سواه ، ولا نعبد إلا إياه ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
الإشارة : مَنْ تحقق أن الله واحدٌ في ملكه ، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وأنه أحاط به علماً وسمعاً وبصراً ، وأن أمره بين الكاف والنون ، { إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] - كيف يشكو ما نزل به منه إلى أحد سواه؟ أم كيف يرفع حوائجه إلى غير مولاه؟ أم كيف يعول هما ، وسيدُه من خيره لا ينساه؟ من دبرك في ظلمة الأحشاء ، وصوَّرك في الأرحام كيف يشاء ، وآتاك كل ما تسأل وتشاء ، كيف يَنْساكَ من بره وإحسانه؟ أم كيف يخرجك عن دائرة لطفه وامتنانه؟ وفي ذلك يقول لسان الحقيقة :
تَذَكَّر جَمِيلِي فِيكَ إِذْ كُنْتَ نُطْفَةً ... وَلا تَنْسَ تَصْوِيرِي لشَخْصِكَ في الْحَشا
وَكُنْ وَاثِقاً بِي في أُمُورِكَ كُلِّها ... سأَكْفِيكَ مِنْهَا ما يُخافُ ويُخْتَشَى
وَسَلِّمْ ليّ الأمْرَ واعْلَمْ بأنني ... أُصَرِّفُ أحْكَامِي وأَفْعَلُ مَا أشا
(1/248)

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
قلت : { منه } : خبر مقدم ، و { آيات } : مبتدأ ، فيوقف على { الكتاب } ، وقيل : { منه } : نعت لكتاب ، وهو بعيد .
قال البن السبكي : المحكَم : المتضح المعنى ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه ، وقد يُطْلعُ عليه بعضَ أصفيائه . و { هن أم الكتاب } : جملة ، وحق الخبر المطابقة فيقول : أمهات ، وإنما أفرده على تأويل كل واحد ، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة . والزيغ : الميل عن الحق . و { الراسخون في العلم } : معطوف على { الله } ، أو مبتدأ؛ إن فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة ، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد . قاله البيضاوي . و { إذ هديتنا } : ظرف مجرور بالإضافة مسبوك بالمصدر ، أي : بعد هدايتك إيانا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية ، ولا يخفى عليه شيء في العالم العلوي والسفلي { هو الذي أنزل عليك الكتاب } المبين ، فمنه ما هو { آيات محكمات } واضحات المعنى ، لا اشتباه فيها ولا إجمال ، { هن أم الكتاب } أي : أصله ، يُرد إليها غيرها ، { و } منه آيات { أُخَر متشابهات } أي : محتملات ، لا يتضح مقصودها؛ لإجماله أو مخالفة ظاهر؛ إلا بالفحص وجودة الفكر ، ليظهر فضل العلماء النُقاد ، ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تَدبُرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها ، فينال بها ، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها ، والتوفيق بينها وبين المحكمات ، أعلى الدرجات وأرفع المقامات .
قال في نوادر الأصول : لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين؛ منه ما طوى علمه إلاَّ على الخواص؛ كعلم فواتح السور ، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمَنْ دُونَهم ، وهو سر القدر؛ لا يستقيم لهم مع العبودية ، ولو كُشِفَ لفسدت العبودية ، فطواه عن الرّسل والملائكة؛ لأنهم في العبودية ، فإذا زالت العبودية احتمولها؛ أي : أسرار القدر . ه . ولمثل هذا يشير قول سهل : للألوهية سر - لو انكشف لبطلت النبوة ، وللنبوة سر - لو انكشف لبطل العلم ، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام . ه .
قلت : فَتَحَصَّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه . وأما قوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ } [ هُود : 1 ] فمعناه : أنها حُفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ ، وقوله تعالى : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [ الزُّمَر : 23 ] معناه : أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ .
ثم إن الناس في شأن المتشابه على قسمين : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } : أي : شك ، أو ميل عن الحق ، كالمبتدعة وأشباههم ، { فيتبعون ما تشابه منه } ، فيتعلقون بظاهره ، أو بتأويل باطل ، { ابتغاء الفتنة } أي : طلباً لفتنة الناس عن دينهم : بالتشكيك والتلبيس ، ومناقضة المحكم بالمتشابه ، { وابتغاء تأويله } على ما يشتهون ليوافق بدعتهم .
رُوِيَ عن عائشة - رضي الله عنها- : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية فقال :
(1/249)

" إِذَا رَأَيتُم الذِينَ يَسألُون عن المتشابه منه ، ويجادلون فيه ، فهم الذين عَنَا الله تعالى ، فاحذروهم ، ولا تجالسوهم " .
{ وما يعلم تأويله } على الحقيقة { إلا الله } تعالى ، وقد يُطلع عليه بعضَ خواص أوليائه ، وهم { الراسخون } أي : الثابتون في العلم ، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء ، وهم أهل التوحيد الخاص . . . فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه ، فلم يبق عندهم متشابه في الكتاب ولا في السنة ، حال كونهم { يقولون آمنا به } ، وصدقنا أنه من كلامه ، { كُلّ من عند ربنا } ؛ المحكم والمتشابه ، وقد فهمنا مراده في القسمين ، وهم أولو الألباب ، ولذلك مدحهم فقال : { وما يَذَكَّرَ إلا أُولوا الألباب } أي : القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغَبَش الحس .
سُئل عليه الصلاة والسلام : مَن الراسخون في العلم؟ فقال : " من برَّ يمينُه ، وصدق لسانُه ، واستقام قلبُه ، وعفَّ بطنُه وفرجه ، فذلك الراسخ في العلم " وقال نافع بن يزيد : الراسخون في العلم : المتواضعون لله ، المتذللون في طلب مرضات الله ، لا يتعظمون على مَنْ فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم . ه . وقيل : الراسخ في العلم : من وجُد فيه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه . ه . قلت : ويجمع هذ الأوصاف العارف بالله ، فهو الراسخ في العلم كما تقدم .
ويقولون أيضاً في تضرعهم إلى الله : { ربنا لا تزغ قلوبنا } عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى ، { بعد إذ هديتنا } إلى طريق الوصول إلى حضرتك ، { وهب لنا من لدنك رحمة } تجمع قلوبنا بك ، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك ، { إنك أنت الوهاب } ؛ تهب للمؤمل فوق ما يؤمل . { ربنا إنك جامع الناس ليوم } الجزاء الذي { لا ريب فيه } ، فاجمعنا مع المقربين؛ إنك { لا تخلف المعياد } فأنجز لنا ما وعدتنا في ذلك اليوم . وخلف الوعد في حقه تعالى محال . أما الوعد بالخير فلا إشكال ، وأما الوعيد بالشر ، فإن كان في مُعَيِّنٍ فلا يخلفه ، وإن كان في الجملة فيخلفه بالعفو . والله تعالى أعلم .
وقال في النوادر أيضاً : لَمَّا رَدَّ الراسخون في العلم عِلْمَ المتشابه إلى عالمه ، حيث قالوا : { آمنا به كل من عند ربنا } ، خافوا شَرَه النفوس لطلبها؛ فإنَّ العلم لذيذ ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب ، ففزعوا إلى ربهم فقالوا : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة } ، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة . ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا : { ربنا إنك جامع الناس . . . } الآية . سكنوا نفوسهم لمجيء ذلك اليوم الذي تَبْطُنِ فيه الحكمة ، وتظهر فيه القدرة . ه . بالمعنى .
الإشارة : إذ صفت القلوب ، وسكنت في حضرة علام الغيوب ، تنزلت عليها الواردات الإلهية والعلوم اللدنية ، والمواهب القدسية ، فمنها ما تكون محكمات المبنى ، واضحة المعنى ، ومنها ما تكون مجملة في حال ورودها ، وبعد الوعي يكون البيان ،
(1/250)

{ فَإْذَا قَرَأْنَاهُ فَاْتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 18 ، 19 ] . وقد تكون خارجة عن مدارك العقول . فأما أهل الزيغ والانتقاد فيتعبون المتشابه من تلك الواردات ، ابتغاء فتنة العامة ، وصرفهم عن طريق الخاصة ، وابتغاء تأويله ، ليقيم عليه حجة الشريعة ، { وما يعلم تأويله إلا الله } ، أو من تحقق فناؤه في الله ، وهم الراسخون في معرفة الله ، يقولون : { آمنا به كل من عند ربنا } ؛ إذ القلوب المطهرة من الهوى لا نطق عن الهوى ، وهم أرباب القلوب يقولون : { ربنا لا تزغ قلوبنا } عن حضرة قدسك { بعد إذ هديتنا } إلى الوصول إليها ، { وهب لنا من لدنك رحمة } تعصمنا من النظر إلى سواك ، { إنك أنت الوهاب } .
ربنا إنك جامع الناس . وهم السائرون إليك ليوم لا ريب في الوصول إليه ، وهو يوم اللقاء ، { إنك لا تخلف الميعاد } فاجمع بيننا وبينك ، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك؛ { إنك على كل شيء قدير } .
(1/251)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
قلت : { الوقود } بالفتح : الحطب ، وبالضم : المصدر ، { كدأب آل فرعون } خير ، أي : دأبهم كدأب آل فرعون . والدأب . مصدر دأب ، إذا دام ، ثم نقل إلى الشأن والعادة ، و { كذبوا } : حال بإضمار " قد " ، . أو مستأنف ، تفسير حالهم ، أو خبر؛ إن ابتدأت بالذين من قبلهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين كفروا } بما أنزلته ، على نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - ، إذا عاينوا العذاب { لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله } ، أي : بدلاً من رحمته أو طاعته ، أو بدلاً من عذابه ، { شيئاً } وأولئك هم حطب جهنم ، فشأنهم كشأن { آل فرعون والذين من قبلهم } ، قد { كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم } أي : أهلكهم ، وشدد العقوبة عليهم ، { والله شديد العقاب } لمن أعرض عنه وركن إلى غيره .
الإشارة : كل من جحد أهل الخصوصية ، وفاته حظه من مشاهدة عظمة الربوبية ، حتى حصل له الطرد والبعاد ، وفاته مرافقة أهل المحبة والوداد ، لن تغني عنه - بدلاً مما فاته - أموالُ ولا أولاد ، واتصلت به الأحزان والأنكاد؛ كما قال الشاعر :
مَنْ فَاتَه منكَ وصلٌ حَظُّه الندمُ ... ومَنْ تَكُنْ هَمِّه تَسْمُو به الهممُ
وقال آخر :
مَنْ فاتَهُ طَلَبُ الوُصُولِ وَنَيْلُهُ ... مِنْه ، فقُلْ : ما الذِي هُوَ يَطلُبُ!
حَسْبُ المحِبِّ فناؤه عما سِوى ... مَحْبوبِهِ إنْ حاضِرٌ وَمُغَيَّبُ
وقال آخر :
لكُلِّ شَيء إذا فارقْتَهُ عِوَضٌ ... وَلَيْسَ لله إنْ فارقْتَ مِنْ عَوِضِ
وفي الحكم : " ماذا وَجَدَ مَنْ فقدك؟ وما الذي فَقَدَ مَنْ وَجَدَك؟ لقد خاب مَنْ رَضِي دونك بدلاً ، ولقد خسر من بغى عنك مُتحولاً " . فكل من وقف مع شيء من السِّوى ، وفاته التوجه إلى معرفة المولى ، فهو في نار القطيعة والهوى ، مع النفوس الفرعونية ، وأهل الهمم الدنية . نسأل الله تعالى العافية .
ثم بدأ بعتاب اليهود ، بعد أن قرر شأن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من المحكم والمشابه ، توطئة للكلام معه .
(1/252)

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
قلت : لمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر غالباً منصوراً بالغنائم والأسارى ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع ، وقال لهم : يا معشر اليهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فإنكم تعلمون أني رسول الله حقّاً ، واحذوا أن يُنزل الله بكم من نقمته ما أنزل على قريش يوم بدر ، فقالوا : يا محمد ، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت أغماراً لا علم له علم لهم بالحرب ، لئن قاتلتنا لتعلَمنَّ أنَّا نحن الناس . فأنزل الله فيهم هذه الآية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد { للذين كفروا } من بني إسرائيل ، أو مطلقاً : { ستغلبون } إن قاتلتم المسلمين ، { وتحشرون } بعد الموت والهزيمة { إلى جهنم وبئس المهاد } ما مهدتم لأنفسكم من العذاب ، وقد صدق وعده بقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على من عداهم ، فقد غُلِبوا أينما ثُقفوا ، وحشروا إلى جهنم ، إلا من أسلم منهم .
ثم ندبهم للاعتبار بما وقع من النصر للمسلمين يوم بدر فقال لهم : { قد كان لكم } يا معشر اليهود ، { آية } أي : عبرة ظاهرة ، ودلالة على صدق ما أقول لكم : إنكم ستغلبون ، { في فئتين } أي : جماعتين { التقتا } يوم بدر ، وهم المسلمون ، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر ، والمشركون كانوا زهاء ألف ، { فئة تقاتل في سبيل الله } وهم المؤمنون ، { وأخرى كافرة } ، وهم المشركون ، { ترونهم مثليهم } أي : ترون ، يا معشر اليهود ، الكفارَ مثلي عدد المسلمين رأي تحقيق ، ومع ذلك أيدهم الله بالنصر والمدد حتى نصرهم على عدوهم ، وكذلك يفعل بهم معكم .
والرؤية ، على هذا ، علمية . ومن قرأ ( بالياء ) يكون الضمير راجعاً للكفار ، أي : يرى الكفارُ المسلمين مثليهم ، وذلك بعد أن قللهم الله في أعينهم حتى اجترأوا عليهم ، وتوجهوا إليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، مدداً من الله للمؤمنين .
أو : يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين ، وكانوا ثلاثة أمثالهم ، ليثبتوا لهم ، ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله بقوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ . . . } [ الأنفَال : 65 ] الآية . { والله يؤيد } أي : يقوي { بنصره من يشاء } نصره ، كما أيد أهل بدر ، { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } المفتوحة . وذلك حين نصر الله قوماً لا عدد لهم ولا عدة ، على قوم لهم عدد وعدة ، فلم تغن عنهم من الله شيئاً .
الإشارة : إذا توجه القلب إلى مولاه تعرض له جندان ، أحدهما : جند الأنوار ، وهو جند القلب ، والثاني : جند الأغيار ، وهو جند النفس ، فيلتحم بينهما القتال ، فجند الأنوار يريد أن يرتقي بالروح إلى وطنها؛ وهو حضرة الأسرار ، وجند الأغيار يريد أن يهبط بالنفس إلى أرض الحظوظ والشهوات ، فيحبسها في سجن الأكوان ، فإذا أراد الله تعالى سعادة عبد ، قوي له جند الأنوار ، وضَعَّفَ عنه جند الأغيار ، فينهزم عنه جند الأغيار ، ويستولي على قلبه جند الأنوار ، فلا تزال انوار تتوارد عليه حتى تشرق عليه أنوار المواجهة ، فيدخل حضرة الأسرار ، وهي حضرة الشهود ، ويتحصن في جوار الملك الودود ، وتناديه ألسنة الهواتف : أيها العارف ، قل للذين كفروا ، وهم جند الأغيار : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . وإذا أراد الله خذلان عبده ، بعدله ، قطع عنه مدد الأنوار ، وقوي لديه جند الأغيار ، فتستولي ظلمة النفس على نور القلب ، فتحبسه في سجن الأكوان ، وتسجنه في ظلمة هيكل الإنسان ، { والله يؤيد بنصره من يشاء } . ففي التقاء جندي الأنوار والأغيار عبرة لأولي الأبصار .
(1/253)

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
قلت : { زُين } : بحذف الفاعل ، وهو الله ، حقيقة؛ إذ لا فاعل سواه ، أو الشيطان ، شَريعَةً؛ إذ هو منديل لمسح أوساخ الأقذار . والقنطار : المال الكثير ، وقيل : مائة ألف دينار ، وقيل : ملء مسك الثور . وروى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " القنطار : ألف دينار " ، وفي رواية : " ألفا دينار " ، وفي عرفنا اليوم : ألف مثقال .
والمقنطرة : المنضدة بعضها فوق بعض ، وسمي الذهب ذهباً؛ لذهابه وفنائه ، أو لذهابه بالقلوب عن حضرة الغيوب ، وسميت الفضة فضة؛ لأنها تَنْفَضُّ أي : تنفرق ، أو تفرق القلوب لمن اشتغل بها . والمسوَّمة : المعلمة أو الراعية أو المطهمة الحسان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { زُين للناس حب الشهوات } والركون إلى المألوفات ، حتى صرفهم ذلك عن النظر والاعتبار ، أو الشهود والاستبصار ، وذلك لمن وقف مع متعتها ، وغرته شهوة لذتها ، وأما من ذكرته نعيم الجنان ، وأعانته على طاعة الملك الديان ، فلم يقف مع متعتها ، ولا التفت إلى عاجل شهوتها ، بل نزل إليها بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، فلا يشمله تحذير الآية؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " حُبِّبَ إلِيَّ من دنياكم ثلاث . . . " الحديث .
وقال بعض الأولياء : [ كل شهوة تحجب القلب عن الله ، إلا شهوة الجماع ] يعني الحلال ، وقال الورتجبي : ابتلاهم حتى يظهر الصادق بترك هذه الشهوات ، من الكاذب بالشروع في طلبها ، قيل : من اشتغل بهذه الأشياء قطعته عن طريق الحق ، ومن استصغرها وأعرض عنها ، عوض عليها السلامة منها ، وفتح له الطريق إلى الحقائق . ه .
ثم بدأ برأس الشهوات فقال : { من النساء } وذلك لمن شُغف بهن فصرف عن ذكر الله ، أو تناولهن على وجه الحرام . وفي الخبر عنه - عليه الصلاة والسلام - : " مَا تَرَكْتُ في الناس بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ " وفي خبر آخر : " النظر إلى محاسن المرأة من سهام إبليس " ومَنْ ثَمَّ جُعِلْنَ في القرآن عين الشهوات ، قال تعالى : { زيّن للناس حب الشهوات من النساء } .
وقال بعض العارفين : ما أيس الشيطانُ من إنسان قط إلا أتاه من قبل النساء . وقال عليّ رضي الله عنه : أيها الناس ، لا تطيعوا للنساء أمراً ، ولا تَدَعُوهُنَّ يدبرن أمر عيش ، فإنهن إن تُرِكْنَ وما يُرِدْن أفسدن الملك ، وعصَين المالك ، وجدناهن لا دين لهن في خلَواتهن ، ولا ورع لهن عن شهواتهن اللذة بهن يسيرة ، والحيرة بهن كثيرة ، فأما صوالحهن ففاجرات ، وأما طوالحهن فعاهرات - أي : زانيات - ، وأما المعصومات فهن المعدومات ، يتظلمن وهن الظالمات ، ويتمنعن وهن الراغبات ، ويحلفن وهن الكاذبات ، فاستعيذوا بالله من شرارهن ، وكونوا على وجل من خيارهن ، والسلام . ه .
{ والبنين } : قال - عليه الصلاة والسلام - : " إنهم لثمرة القلوب ، وقُرَّةُ الأعيُن ، وأنهم مع ذلك لَمَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ "
(1/254)

{ والقناطير المقنطرة } : أي : المجموعة المنضدة ، { من الذهب والفضة . والخيل المسومة } أي : المعلمة : وهي البلق ، أو غيرها ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " الخَيْلُ معقودٌ في نَواصِيها الخَيْرُ إلى يضوْمِ القِيَامةِ ، الأجرُ والمَغْنمُ " .
وعن أنس قال : ( لم يكن شيء أحب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد النساء ، من الخيل ) . وعن أبي وهب الجشمي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ارتبطوا الخيل ، وامسحوا بنواصيها ، وقَلِّدُوها ، ولا تقلدوها الأوتار ، وعليكم بكل كُمَيْت أغر مُحَجِّلِ ، أو أشقر أغر محجل ، أو أدهم أغر مُحَجَّل " وعن خباب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخيل ثلاثة : فرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان ، فأما فرس الرحمن فما اتخذ لله في سبيل الله ، وقوتل عليه أعداء الله ، وأما فرس الإنسان فما استطرق عليه " - أي : ركب عليه في طريق حوائجه ، " وأما فرس الشيطان فما روهن عليه ، وقومر عليه " وفي البخاري ما يشهد لهذا .
ومما زُيِّن للناس أيضاً : حب { الأنعام } ، وهي الإبل والبقر والغنم ، إن شغلته عن ذكر الله ، ومنع منها حق الله ، { والحرث } أي : الزراعة والغراسة ، { ذلك } الذي ذكرت { متاع الحياة الدنيا } الفانية الزائلة ، { والله عنده حسن المآب } ، أي : المرجع في دار البقاء التي لا يفنى نعيمها ، ولا تنقطع حياتها إلى أبد الأبد .
الإشارة : كل ما يقطع القلبّ عن الشهود ، أوُ يُفَتِّرُهُ عن السير إلى الملك المعبود ، فهو شهوة ، كائناً ما كان ، أغياراً أو أنواراً ، أو علوماً أو أحوالاً ، أو غير ذلك ، فالنساء الأغيار ، والبنون الأنوار ، والقناطير المقنطرة من الذهب علوم الطريقة ، والفضة علوم الشريعة ، والخيل المسومة هي الأحوال ، والأنعام الأذكار ، والحرب استعمال الفكرة . فكل مَنْ وقف مع حلاوة شيء من هذا ، ولم يُفْضِ إلى راحة الشهود والعيان ، فهي في حقه شهوة .
وبعد أن ذكر الحق تعالى أنواعاً من الشهوات ، زَهَّدَ فيها فقال : { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } قال أبو هاشم الزاهد رضي الله عنه : وَسَمَ اللّهُ الدنيا بالوحشة؛ ليكون أنس المريد بربه دونها ، وليقبل المطيعون بالإعراض عنها ، وأهلُ المعرفة بالله من الدنيا مستوحشون ، وإلا الله مشتاقون . ه .
وقد تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من شر فتنتها ، غناها وفقرها . وأكثرُ القرآن مشتملٌ على ذمها ، وتحذير الخلق منها ، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها ، ورغَّب في الآخرة ، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع ، وكيف لا - وهي عدوة الله؛ لقطعها طريق الوصلة إليه ، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها . وعدوة لأوليائه؛ لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها ، وعدوة لأعدائه؛ لأنها استدرجتهم بمكرها ، واقتنصتهم بشبكتها ، فوثقوا بها ، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها ، كفانا الله شرّها بمنِّه وكرمه .
(1/255)

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
قلت : { للذين } : خبر ، و { جنات } : مبتدأ ، وهو استئناف لبيان الخيرية ، والرضوان فيه لغتان : الضم والكسر ، كالعدوان والطغيان ، و { الذين يقولون } : بدل من { الذين اتقوا } ، أو خبر عن مضمر ، أو منصوب على المدح ، أو بدل من العباد ، و { الصابرين } وما بعده : نعت الموصول .
يقول الحق جلّ جلاله : { قل } يا محمد : أأخبركم { بخير } من الذي ذكرتُ لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة ، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم ، وهو { جنات تجري من } تحت قصورها الأنهار؛ من الماء واللبن والعسل والخمر ، { خالدين فيها } ، لا كنعيم الدنيا الفاني ، { ولهم فيها أزواج } من الحور العين ، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات ، { ورضوان من الله } الذي هو { أكبر } النعم .
فانظر : كيف ذكر الحقّ - جلّ جلاله - أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه؟ فأدناه : متاع الدنيا الذي زُين للناس ، وأوسطه : نعيم الجنان ، وأعلاه : رضي الرحمن ، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " يَقُولُ الله تعالى لأهِلْ الْجنَّةِ : يَا أهْلَ الجَنَّةِ ، فيقول أهْلَ الجَنَّةِ : لَبْيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكِ ، والخير في يديك ، فيقول : هَلْ رضِيتُم؟ فَيَقُولُونَ : مَالنَا لاَ نَرْضى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ العالمين ، فَيَقُولُ : ألا أعْطِيكُم أَفْضَلَ من ذلك؟ فيقُولون : يا ربنا ، وأيُّ شَيء أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قال : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رَضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُم َبَداً " .
{ والله بصير بالعباد } ؛ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، فيثيب المحسن ، ويعاقب المسيء ، أو : { بصير } بأحوال المتقين .
{ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } . وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لها .
ثم وصف المتقين بقوله : { الصابرين } على أداء الأمر واجتناب النهي ، وفي البأساء والضراء وحين البأس ، { والصادقين } في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فاستوى سرهم وعلانيتهم ، { والقانتين } أي : المطيعين ، { والمنفقين } أموالهم في سبيل الله ، { والمستغفرين بالأسحار } ؛ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة؛ لأن العبادة حينئذٍ أشق ، والنفس أصفى ، والروح أجمع ، وَلاَ سيما للمتهجدين .
قيل : إنهم كانوا يُصلُون إلى السحر ، ثم يستغفرون ويدعون ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى يقول : إني لأهُمُّ بأهل الأرض عذاباً ، فإذا نظرت إلى عُمَّار بيوتي ، وإلى المتهجدين ، وإلى المتحابين فِيَّ ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفت عنهم العذاب " .
وقال سفيان : إن لله ريحاً يقال لها الصيحة ، تهبُّ وقتَ السحر ، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار . قال : وبلَغنا أنه إذا كان أولا لليل ، نادى مناد : ألا ليقم القانتون ، فيقومون يُصلون إلى السحَر ، فإذا كان وقت السحر ، ينادي منادٍ : أين المستغفرون بالأسحار؟ فيستغفر أولئك ، ويقوم آخرون ، ويُصلون ، فيلحقون بهم ، فإذا طلع الفجر ، نادى منادٍ : ألا ليقم الغافلون ، فيقومون من فرشِهم كالموتى إذا نُشروا من قبورهم .
(1/256)

الإشارة : للذين اتقوا شهودَ السّوى عند ربهم جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم ، وأصناف الحكم ، مطهرة من العلل ، منزهة من الخلل ، تهب عليهم نسيم الرضوان ، تحمل الرَّوُحَ والريحان ، مخلدون في نعيم الشهود والعيان ، والله بصير بعباده المخلصين ، المنزَّهين من العيوب ، المبررَّئين من درن الذنوب ، الصابرين على دوام المجاهدة ، والصادقين في طلب المشاهدة ، والقانتين لأحكام العبودية ، والمنفقين أنفسَهُمْ ومُهَجَهم في طلب مشاهدة أنوار الربوبية ، والمستغفرين من شهود الأغيار ، وخصوصاً إذا هبّ نسيم الأسحار ، فإن كثيراً من العباد والزهاد شغلتهم حلاوة نسيم الأسحار عن مطالعة أسرار الجبار ، وهي أسرار التوحيد .
(1/257)

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
قلت : { قائماً } : حال مِن { الله } ، وإنما جاز من بعض المعطوفات لعدم اللبس ، كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً . . . } [ الأنبيَاء : 72 ] ، ولا يجوز : جاء زيد وعمر راكباً؛ لعدم القرينة ، أو مِن { هو } ، والعامل الجملة؛ لأنه حال مؤكدة ، أي : تفرد قائماً ، أو حقه قائماً ، { بالقسط } أي : العدل ، و { إن الدين } : جملة مستأنفة مؤكدة للأولى ، أي : لا دين مرضى عند الله سوى الإقرار بالشهادة والدخول فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن قرأ بالفتح فهو بدل من { أنه } ، بدل الكل ، إن فسر الإسلام بالإيمان ، وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } أي : بيَّن وحدانيتَه بنصب الدلالئل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها ، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة ، وفي ذلك يقول القائل :
يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ ... أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ؟!
وللهِ في كل تحريكةٍ ... وتسكينةٍ أبداً شاهدُ
وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ ... تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ
وقيل لبعض العرب : ما الدليل على أن للعالم صانعاً؟ فقال : البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، أمَا يدلان على الصانع الخبير؟!
{ و } شهدت { الملائكة } أيضاً بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها ، { وأولوا العلم } وهم : الأنبياء والعلماء بالله ، بالإيمان بها والاحتجاج عليها ، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد . وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم ، حيث قرن شهادتهم بشهادته؛ لأن العلم صفة الله العليا ونعمته العظمى ، والعلماء أعلام الإسلام ، والسابقون إلى دار السلام ، وسُرج الأمكنة وحجج الأزمنة .
وعن جابر قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " سَاعَةٌ مِنْ عَالمِ يتَّكِئ على فِرَاشِهِ ، ينظُرُ في علمهِ ، خَيرٌ مِنْ عِبَادَة العَابِد سَبعينَ عاماً " وعن معاذ قالَ : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشيةٌ ، ومدارستَه تسبيحٌ ، والبحث فيه جهادٌ ، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقةٌ ، وتذكُّره في أهله قُرْبَة " ثم قال في آخر الحديث في فضل أهل العلم : " وتَرْغَبُ الملائكة في خُلتِهم ، وبأجنحتها تمسحُهم ، وفي صلاتها تستغفر لهم ، وكلُّ رطب ويابس يستغفر لهم . حتى حيتان البحر وهوامه ، وسباع الأرضين وأنعامها ، والسماء ونجومها ، ألا وإن العلم حياةُ القلوب من العمى ، ونورُ الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك ، والفكر فيه يُعْدل بالصيام ، ومدارسته بالقيام ، وبه يُعرف الحلال والحرام ، وبه تُوصلَ الأرحام ، العلم إمام والعمل تابعه ، يُلْهَمُه بالسعداء ، ويُحْرَمه الأشقياء " .
حال كون الحقّ تعالى { قائماً بالقسط } أي : مُدبراً لأمر خلقه بالعدل ، فيما حكم وأبرم ، { لا إله إلا هو } ، كرر الشهادة للتأكيد ، ومزيد الاعتبار بأمر التوحيد ، والحكم به ، بعد إقامته الدليل .
(1/258)

عليه وقال جعفر الصادق : ( الأُولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم ) . أي : قولوا : { لا إله إلا هو } ، أو ليرتب عليه قوله : { العزيز الحكيم } ، فيعلم أنه الموصوف بهما ، وقدَّم { العزيز } ليتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته .
{ إن الدين عند الله الإسلام } أي : إن الدين المرضى عند الله هو الانقياد لأمر التوحيد والإذعان لمن جاء به . ورُوِيَ عن أنسَ رضي الله عنه قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " من قرأَ هذه الآيةَ عند منامه خَلَقَ اللَّهَ تعالى سبعين ألف خَلْقٍ يستغفرون الله له إلى يوم القيامة " وهي أعظم شهادة في كتاب الله ، " من قرأها إلى ( الحكيم ) وقال : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودِعُ اللّهَ هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة ، يقول الحق تعالى : إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحقُّ مَنْ وفى بالعهد ، أدخِلوا عبدي الجنة " .
الإشارة : صدرُ الآية يشير إلى الفرق ، وعَجُزُها يشير إلى الجمع ، كما هي عادته تعالى في كتبه العزيز ، يشرع أولاً ، ويُحَقِّق ثانياً ، فأثبت الحق - جلّ جلاله - شهادة الملائكة وأولى العلم مع شهادته؛ لإثبات سر الشريعة ، ثم محاها بقوله : { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } بحكم الحقيقة . فإثبات الرسوم شريعة ، ومحوها حقيقة ، فتوحيد أهل الرسوم والأشكال دلالة من وراء الحجاب ، وتوحيد أهل المحو والاضمحلال شهادة من داخل الحجاب ، وتوحيد أهل الرسوم دلالة وبرهان ، وتوحيد أهل المحو شهادة وعيان ، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان . إثبات الرسوم إسلام وإيمان ، ومحوها شهود وإحسان ، وكل توحيد لم تظهر ثمرته على الجوارح من الإذعان والانقياد لأحكام العبودية فهو مخدج ، لقوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } [ آل عِمرَان : 19 ] أي ، الانقياد والإذعان ، ظاهراً وباطناً ، لأحكام القهرية والتكليفية ، فمن لا انقياد له لا دين له كاملاً .
ثم ذكر من سبق له الخذلان بعد سطوع الدليل والبُرهان ، فقال :
{ . . . وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب }
قلت : { بغياً } : مفعول له ، علة للاختلاف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما اختلف } اليهود والنصارى في حقيقة الإسلام والتدين به ، { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي : من بعد ما تمكنوا من العلم بصحته ، وأن الدين عند الله هو الإسلام ، فجحدوه ظلماً وحسداً . أو ما اختلف أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام؛ فأثبته قوم ، وقال قوم : إنه مخصوص بالعرب ، ونفاه آخرون مطلقاً ، إلا من بعد ما ثبت لهم بصحته وعموم الدعوة له . أو في التوحيد؛ فثلث النصارى ، وقالت اليهود : عزير ابن الله ، بعد ما صح لهم العلم بالتوحيد فغيروا . وقال الربيع : إن موسى عليه السلام لما حضره الموت ، دعا سبعين حبراً من قومه ، فاستودعهم التوراة ، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت بينهم الفرقة ، وهم : الذين أوتوا الكتاب من أبناء السبعين ، فأراقوا الدماء ووقع بينهم الشر والاختلاف .
(1/259)

وذلك من بعد ما جاءهم العلم ، يعني بيان ما في التوراة ، { بغياً بينهم } أي : طلباً للملك والرئاسة والتحاسد ، فسلّط عليهم الجبابرة ، { ومن يكفر بآيات الله } المنزلة على رسوله ، أو الدالة على وحدانيته ، { فإن الله سريع الحساب } ؛ لا يشغله شأن عن شأن ، وفيه تهديد لأهل الاختلاف .
الإشارة : الاختلاف على الصوفية ، والإنكار عليهم ، إن كان بغياً وحسداً وخوفاً على زوال رئاسة المنكر ، فهذا معرض لمقت الله ، فقد آذن بحرب الله ، وبالُه سوء الخاتمة ، والعياذ بالله ، وفي ذلك يقول القائل :
هِمَمُهُمْ تَقْضِي بحُكْ الوَقْتِ ... مُنِكِرُهُم مُعَرَّضٌ للمٌقْتِ
وإن كان غيره على الشريعة ، وسدّاً لباب الذريعة ، فهذا معذور أو مأجور إن صح قصده ، وهو منخرط في سلك الضعفاء ، قال تعالى : { َيْسَ عَلَى الضُّعَفآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِيدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] ، ولا ينكر على الفقير إلا المُحرَّم المجمع على تحريمه ، وليس فيه تأويل ، كالزنى بالمعينة ، واللواط وشبهه ، والمؤمن يلتمس المعاذر ، والمنافق يلتمس العيوب ، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/260)

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
قلت : { ومن اتبعن } ، عطف على فاعل { أسلمت } ؛ الضمير .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فإن حاجوك } في الدين ، وخاصموك فيه ، بعدما أقيمت الحجج على صحته ، { فقل } لهم : أما أنا فقد { أسلمت وجهي لله } ، وانقدت بكليتي إليه ، وتمسكت بدينه القويم ، الذي قامت الحجج على حقيته ، وكذلك من تبعني من المؤمنين . وخصّ الوجه بالانقياد؛ لأنه أشرف الأعضاء ومحل ظهور المحاسن ، فإذا انقاد الوجه فقد انقاد الكل .
{ وقل للذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى ، { والأميين } الذين لا كتاب لهم من المشركين : { أأسلمتم } كما أسلمتُ : لما وضحت لكم من الحجة؟ أم أنتم على كفركم بغياً وحسداً؟ والاستفهام معناه الأمر ، كقوله : { فَهَلَ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ هُود : 14 ] أي : أسلموا ، { فإن أسلموا فقد اهتدوا } وأنقذاو أنفسكم من الهلاك ، { وإن تولوا } وأعرضوا { فإنما عليك البلاغ } ، ولا يضرك عنادهم ، فقد بلغت ما أمرت به . { والله بصير بالعباد } لا يخفى عليه من أسلم ممن تولى .
رُوِيَ أنه - عليه الصلاة والسلام - قرأ عليهم هذه الآية ، فقال لليهُود : " أتشهدون أن عزيراً عبد الله ورسوله وكلمته؟ " فقالوا : معاذ الله ، وقال للنصارى : " أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله؟ " فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبداً . فنزل قوله تعالى : { وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } الآية .
الإشارة : لا يليق بالفقير ، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار ، إلا السكوت والإقرار ، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار ، إذ لا يرى فاعلاً إلا الله ، فلا يركن إلى شيء سواه . وفي الحكم : " إنما أجرَى الأذى عليهم لئلا تكون ساكناً إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شيء ، حتى لا تكون ساكناً إلى شيء " . وقال بعض العارفين : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك ، وقد غلط في هذا خلق كثير ، اشتغلوا بمن يؤذيهم ، فطال عليهم الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم . ه . بالمعنى . وبهذا يأمر الشيخ أتباعه ، فإن انقادوا لأحكام الحق ، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول ، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والهداية بيد السميع البصير .
(1/261)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
قلت : إنما دخلت الفاء في خبر إنَّ؛ لتضمن اسمها معنى الشرط؛ لعموم الموصول وإبهامه ، وهو خاص بإنَّ ، دون ليت ولعل؛ لأن " إن " لا تغير معنى الابتداء ، وإنما تؤكده . وقيل : الخبر : { أولئك . . . } الخ .
يقول الحقّ جّل جلاله : { إن الذين يكفرون بآيات الله } أي : بحُججه الدالة على توحيده ، وصحة نبوة رسله ، أو بكلامه ، وهم اليهود ، { ويقتلون النبيين بغير حق } بل بغياً { ويقتلون الذين يأمرون } بالعدل وترك الظلم من الأحبار { فبشرهم بعذاب أليم } موجع ، { أولئك الذين حبطت أعمالهم } أي : بطلت ، { في الدنيا والآخرة } فلا ينتفعون بها في الدارين ، { وما لهم من ناصرين } يمنعونهم من العذاب .
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أيُّ النَّاسِ أشَدُّ عَذَاباً يَوْمَ القيامة؟ قال : " رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّاً ، أو رَجل أمَرَ بالمُنكَر ونَهَى عن المَعْرُوفِ ، ثم قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم { ويقتلون النبيين بغير حق } الآية ، ثم قال : يا أبَا عُبَيْدَةَ ، قتلَتْ بَنُوا إسْرَائِيلَ ثلاثةً وأرْبَعِين نبيّاً أوَّل النَّهَار في سَاعَةٍ ، فقام مائة وعشرون من عُبَّادِ بَني إسْرَائِيل فأَمرُوهم بالمَعرُوف ونَهوهُمْ عن المنكر ، فقتلوهم جميعاً مِنْ آخِرِ النَّهارِ من ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم في كتابه ، وأنزل الآية فيهم " ه . من الثعلبي .
الإشارة : ذكر في الآية الأولى تشجيع المريدين ، وأمرهم بالصبر والتسليم لإذاية المؤذين ، وذكر هنا وبال المؤذين الجاحدين لخصوصية المقربين ، فالأولياء والعلماء ورثة الأنبياء ، فمن آذاهم فله عذاب أليم ، في الدنيا؛ بغم الحجاب وسوء المنقلب ، وفي الآخرة؛ بالبعد عن ساحة المقربين ، وبالسقوط إلى دَرْكَ الأسفلين ، والله تعالى أعلم .
(1/262)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
قلت : التنكير في { نصيب } ؛ يحتمل التحقير والتعظيم ، والأول أقرب . وجملة : { وهم معرضون } ؛ حال من { فريق } ؛ يتخصيصه بالصفة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم تر } يا محمد ، أو مَنْ تصح منه الرؤية ، { إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } وهم : اليهود ، تمسكوا بشيء من التوارة ، ولم يعملوا به كلّه ، كيف { يدعون إلى كتاب الله } القرآن { ليحكم بينهم } فيما اختلفوا فيه من أمر التوحيد وصحة نبوته - عليه الصلاة والسلام - ، فأعرضوا عنه ، أو المراد بكتاب الله : التوراة . قال ابن عباس رضي الله عنه : ( دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على جماعة من اليهود ، فَدَعاهُمْ إلى الله تعالى ، فقال نُعَيْمُ بْنُ عَمِرْو والحَارِثُ بَنْ زَيْد : على أيِّ دين أنْتَ يا مُحَمَّدُ؟ قال : " على مِلَّةِ إبْرَاهِيم " قالا : إنَّ إبرَاهِيم كان يَهُودِيّاً ، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم : " فَهَلمُّوا إلى التَّوراةِ فهي بَيْنَنَا وبينكم " فأبَيا عليه ، فنزلت الآية ) . وقيل : نزلت في الرجم ، على ما يأتي في العقود .
{ ذلك } الأعراض بسبب اغترارهم وتسهيلهم أمر العقاب ، فقالوا : { لن تسمنا النار إلا أياماً معدودات } ؛ أربعين يوماً ، قدر عبادتهم العجل ، ثم يَخْلفهم المسلمون ، { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } بزعمهم الفاسد وطمعهم الفارغ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } ، وهذا تهويل لشأنهم ، واستعظام لما يحيق بهم ، { ووفيت كل نفس ما كسبت } من خير أو شر ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يبخسون من أعمالهم شيئاً ، فلا ينقص من الحسنات ، ولا يزاد على السيئات . وفيه دليل على أن المؤمن لا يخلد في النار . قال ابن عباس : ( أولُ رايةٍ تُرفع لأهل الموقف ، ذلك اليوم ، رايةُ اليهود ، فيفضحُم اللّهُ تعالى على رؤوس الأشهاد ، ثم يؤمر بهم إلى النار ) .
الإشارة : ترى كثيراً ممن ينتسب إلى العلم والدين ينطلق لسانه بدعوى الخصوصية ، وأنه منخرط في سلك المقربين ، فإذا دُعي إلى حق ، أو وقف على عيب من عيوب نفسه ، أعرض وتولى ، وغرته نفسه ، وغلبه الهوى ، فجعل يحتج لنفسه بما عنده من العلم أو الدين ، أو بمن ينتسب إليهم من الصالحين ، فكيف يكون حاله إذا أقبل على الله بقلب سقيم ، ورأى منازل أهل الصفا ، الذين لقوا الله بقلب سليم ، حين ترفع درجاتهم مع المقربين ، ويبقى هو مع عوام أهل اليمين؟ قال تعالى : { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزُّمَر : 47 ] الآية .
(1/263)

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
قلت : { اللهم } منادى مبني على الضم ، حذفت منه الياء المتضمنة للفرق ، وعوضت منها الميم المُؤْذِنة بالجمع ، لئلا يبقى بين الداعي والمدعو فَرْقٌ ، و { مالك } : نعت لمحل المنادي؛ لأنه مفعول ، ومنادى ثانٍ عند سيبويه ، لأن الميم عنده تمتع الوصفية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد في استنصارك على عدوك : { اللهم } يا { مالك الملك } ؛ مُلك الدنيا وملك الآخرة ، { تؤتي الملك } والنصر { من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } ، فهب لنا ملك الدارين ، والنصر على الأعداء في كل أين ، وانزع الملك من يد عدونا ، وانقله إلينا وإلى من تبعنا إلى يوم الدين . قال قتادة : ( ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عيله وسلم سأل ربه أن يجعل مُلك فارس والروم في أمته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ) .
{ وتعز من تشاء } بالإيمان والطاعة { وتذل من تشاء } بالكفر والمعصية ، أو تعز من تشاء بالمعرفة ، وتذل من تشاء بالفكرة ، أو تعز من تشاء بالقناعة والورع ، وتذل من تشاء بالحرص والطمع ، أو تعز من تشاء بالتوفيق والإذعان ، وتذل من تشاء بالكسل والخذلان ، { بيدك الخير } كله ، فأعطنا من خيرك الجزيل ، وأجرنا من الشر الوبيل ، فالأمور كلها بيدك .
قال البيضاوي : ذكر الخير وحده؛ لأنه المقضي بالذات ، والشر مقضي بالعرض؛ إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيراً كليّاً . أو لمراعاة الأدب في الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه ، إذ رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام - لَمَّا خَطَّ الخَنْدَقَ ، وقَطَعَ لكل عَشَرَة أربعينَ ذِرَاعاً ، وأخذوا يَحْفرُون ، فظهر فيه صخْرَةٌ عظيمةٌ لم تَعْمَلْ فيها المَعَاوِلُ ، فَوَجَّهُوا سلْمَانَ إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُخبرُه ، فجاء عليه الصلاة والسلام ، فأخذ المعْول منه ، فَضَرب به ضَرْبَةً صدعَهَا ، وَبَرَقَ مِنْهَا أضَاءَ ما بَيْنَ لابَتَيْها ، لكأن مصباحاً في جوْف بَيتِ مُظلم ، فكَبَّرَ ، وكَبَّرَ معه المسلمونَ ، وقال : " أضَاءَتْ لي مِنْهَا قُصُور الحيرة ، كأنها أنيابُ الكلاب ، " ثم ضرب الثانية ، فقال : " أضَاءَتْ لي مِنْها القُصور الحمر من أرض الروم " ، ثم ضرب الثالثة ، فقال : " أضاءت لي منها قُصُورُ صَنعاء ، وأخْبرَنِي جِبْريل أنَّ أُمَّتِي ظَاهرةٌ علَى كُلِّها ، فأبشروا " ، فقال المنافقون : ألا تَعْجَبُون! يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويُخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحِيَرةِ ، وأنَّها تُفْتحُ لَكُمْ ، وأنتم إنما تَحْفُرون الخنْدَقَ مِنَ الفَرَق فنزلت ، أي : الآية . ونبّه على أن الشر أيضاً بيده بقوله : { إنك على كل شيء قدير } . ه .
ثم استدلّ على نفوذ قدرته بقوله : { تولج الليل في النهار } أي : تُدخل أحدَهما في الآخر بالتعقيب ، أو بالزيادة أو النقص ، فيولج الليل في النهار ، إذا طال النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة ، وفي الليل تِسْعٌ ، ويُولج النهار في الليل ، إذا طال الليل كذلك ، وفيه دلالة على أن مَنْ قدر على ذلك قدر على معاقبة العز بالذل ، والمُلك بنزعه .
(1/264)

{ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } ؛ كالحيوانات من النُّطَف ، وبالعكس ، والنباتات من الحبوب ، وبالعكس ، أو المؤمن من الكافر والعالم من الجاهل ، وبالعكس ، { وترزق من تشاء } من الأقوات والعلوم والأسرار ، { بغير حساب } ، ولا تقدير ولا حصر . اللهم ارزقنا من ذلك الحظ الأوفر ، { إنك على كل شيء قدير } .
روى معاذ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : " يا معاذُ ، أتحبُّ أن يقضيَ اللّهُ عنك دَيْنك؟ " قال : نعم يا رسول الله ، قال : " قل " { اللهم مالك الملك } إلى قوله : { بغير حساب } ، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما ما تشاء ، وتمنع منهما ما تشاء اقضِ عني ديني ، فلو كان عليك ملءُ الأرض ذهباً وفضة لأدَّاه الله عنك " .
ورُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : الفاتحة ، وآية الكرسي ، و { شهد الله } ، و { قل اللهم مالك الملك . . . } إلى { . . . بغير حساب } ، لمّا أراد الله أن ينزلهن ، تعلقن بالعرش وقلن : تهبطنا إلى دار الذنوب فقال الله عزّ وجلّ : " وعزّتي وجلالي لا يقرؤكن عبد ، دبر كل صلاة مكتوبة ، إلا أسكنته حظيرة القدس ، على ما كان فيه ، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة ، وقضيت له في كل يوم سبعين حاجة ، وأعززته من كل عدو ، نصرته عليه . . . " الحديث . انظر الثعلبي .
الإشارة : من ملك نفسه وهواه فقد ملكه الله ملك الدارين ، ومن ملكته نفسه وهواه فقد أذلّه الله في الدراين ومن ملك نفسه لله فقد مكنه الله من التصرف في الكون بأسره ، وكان حرّاً حقيقة ، وفي ذلك يقول الشاعر :
دَعَوْنِي لمُلْكِهم ، فلمَّا أجبتُهم ... قالُوا : دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلْكِ
ومن أذلَّ نفسه لله فقد أعزّه الله ، قال الشاعر :
تَذَلَّلّ لِمَنْ تَهوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً ... فَكَمْ عزَّةٍ قَدْ نَالَهَا المَرْء بالذُّلِّ
إذَا كانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَم تَكُنْ ... ذَلِيلاً لَهُ ، فَاقْرِ السَّلامَ عَلَى الْوصْلِ
قال ابن المبارك : ( قلت لسفيان الثوري : من الناس؟ قال : الفقهاء ، قلت : فمن الملوك؟ قال : الزهادن قلت : فمن الأشراف؟ قال : الأتقياء ، قلت : فمن الغوغاء؟ قال : الذين يكتبون الحديث ليستأكلوا به أموال الناس ، قلت : أخبرني ما السفلة؟ قال : الظلمة ) . وقال الشبلي : ( المُلك هو الاستغناء بالمكون عن الكونين ) . وقال الوراق : ( تُعز من تشاء بقهر النفس ومخالفة الهوى ، وتذل من تشاء باتباع الهوى ) . قلت : وفي ذلك يقول البرعي رضي الله عنه :
لا تَتْبَع النَّفْسَ في هَوَاهَا ... إنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى هَوَانُ
وقال وهب : " خرج الغِنَى والعز يجولان ، فلقيا القناعة فاستقرا " . وقال عيسى عليه السلام لأصحابه : أنتم أغنى من الملوك ، قالوا : يا روح الله؛ كيف ، ولسنا نملك شيئاً؟ قال : أنتم ليس عنكم شيء ولا تريدونها ، وهم عندهم أشياء ولا تكفيهم ه .
(1/265)

قال الشافعي رضي الله عنه :
أَلاَ يا نفسُ إن ترضَيْ بِقُوتٍ ... فأنت عزيزةٌ أبداً غنيهْ
دَعِي عنكِ المطامِعَ والأمانِي ... فكمْ أُمْنِيَّةٍ جَلبَتْ مَنِيهْ
وقال آخر :
أَفَادتني القناعةُ كلَّ عزٍّ ... وهَلْ عِزٍّ أعزُّ مِنْ القَنَاعَهْ
فَصَيِّرْها لنفسِكَ رأسَ مالٍ ... وصَيِّرْ بعدها التَّقْوى بِضَاعَهْ
تَنَل عِزّاً وتَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ ... وتَرْحَلْ للجِنَان بصبْرِ ساعَهْ
وقال عليه الصلاة والسلام : " مِن أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِه ، مُعَافى فِي بَدنه ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيا بحذافيرها " .
تولج ليل القبض في نهار البسط ، وتولج نهار البسط في ليل القبض ، وترزق من تشاء فيهما من العلوم والأسرار ، بغير حساب ولا مقدار ، أو تولج ليل العبودية في نهار الحرية ، وتولج نهار الحرية في ليلة العبودية ، فمن كان في نهار الحرية تاه على الوجود ، ومن كان في ليل العبودية عطل ذله ذل اليهود ، والعبد لا يخلو من هذين الحالين ، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار ، والله تعالى أعلم .
(1/266)

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
قلت : { تُقاة } : مصدر تَقَى ، على وزن فَعَل ، وله مصدران آخران : تُقّى وتَقِيَّة - بتشديد الياء - ، وبه قرأ بعقوب ، وأصله : تُقِيَة ، فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها . و { يوم } : ظرف ، والعامل فيه : اذكر ، أو اتقوا ، أو المصير ، أو تود ، و { ما عملت } : مبتدأ ، و { تود } : خبر ، أو معطوف على { ما عملت } الأولى ، و { تود } :
حال .
يقول الحقّ جلّ جلاله ، لقوم من الأنصار ، كانوا يُوالون اليهود؛ لقرابة أو صداقة تقدمت في الجاهلية : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء } ، أي : أصدقاء ، إذ الحب إنما يكون في الله والبغض في الله ، أو لا تستعينوا بهم في غزو ولا غيره ، فلا تودوهم { من دون المؤمنين } ؛ إذ هم أحق بالمودة ، ففيهم مَنْدُوحة عن مولاة الكفرة ، { ومن يفعل ذلك } الاتخاذ { فليس من } ولاية { الله في شيء } ؛ إذ لا تجتمع ولاية الله مع ولاية عدوه . قال الشاعر :
تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمِّ تَزْعُمُ أنَّني ... صَدِيقكَ ، لَيْسَ النّوْك عَنْكَ بِعَازِبِ
والنُّوك - بضم النون - : الحُمْق .
فلا تُوالوا الكفار { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أيْ : إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ، فلا بأس بمداراتهم ظاهراً ، والبعد منهم بطناً ، كما قال عيسى عليه السلام : ( كن وَسَطاً وامْشِ جانباً ) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : خالطوا الناس وزايلوهم ، وصافحوهم بما يشتهون ، ودينكم لا تَثْلُموه . وقال جعفر الصادق : إني لأسمع الرجل يشتمني في المسجد ، فأستتر منه بالسارية لئلا يراني . ه . { ويحذركم الله نفسه } أي : يخوفكم عذابه على موالاة الكفار ومخالفة أمره وارتكاب نهيه ، تقول العرب : احذرنا فلاناً : أي : ضرره لا ذاته ، وفي ذكر النفس زيادة تهديد يُؤذِن بعقاب يصدر منه بلا واسطة ، { وإلى الله المصير } ؛ فيحسر كل قوم مَن أحب .
{ قل إن تخفوا ما في صدوركم } من موالاة أعدائه ، { أو تبدوه يعلمه الله } ؛ فلا يخفى عليه ما تُكن الصدور من خير أو شر . وقدَّم في سورة البقرة الإبداء ، وأخره هنا؛ لأن المحاسبة لا ترتيب فيها بخلاف العلم ، فإن الأشياء التي تبرز من الإنسان يتقدم إضمارها في قلبه ثم تبرز ، فقد تعلق علم الله تعالى بها قبل أن تبرز ، فلذلك قدَّم هنا الإخفاء لتقدم وجوده في الصدر ، وأخره في البقرة ، لأن المحاسبة لا ترتيب فيها ، { ويعلم ما في السماوات وما في الأرض } فلا يخفى عليه شيء ، { والله على كل شيء قدير } ؛ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا ، والآية بيان لقوله : { ويحذركم الله نفسه } ؛ لأن الذات العالية متصفة بعلم محيط بجميع المعلومات ، وبقدرة تحيط بجميع المقدورات ، فلا تجسروا على عصيانه ، فإنه ما من معصية إلا وهو مطلع عليها ، قادرٌ على العقاب عليها يوم القيامة .
(1/267)

{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } بين يديها تنتفع به ، { وما عملت من سوء تود له أن بينها وبينه أمداً بعيداً } ، كما بين المشرق والمغرب ، ولا ينفع الندم وقد زلَّت القدم . { ويحذركم الله نفسه } ، كرره للتأكيد وزيادة التحذير ، وسيأتي في الإشارة حكمة تكريره ، { والله رؤوف بالعباد } حيث حذرهم مما يضرهم ، وأمرهم بما يقربهم ، فكل ما يصدر منه - سبحانه - في غاية الكمال .
الأشارة : لا ينبغي للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة ، ولا يتودد معه؛ فإن ذلك يقطعه عن ربه ، ويصده عن دواء قلبه ، وفي ذلك يقول صاحب العينية :
وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أيَّامَ غَفْلَةٍ ... فَمَا وَاصَلَ العُذْالَ إلاَّ مُقَاطِعُ
وَجَانِب جَنَابَ الأَجْنَبِي لَو أنَّهُ ... لِقُربِ انْتِسَابِ فِي المَنَامِ مُضَاجع
فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلاَّسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ ... وَمِنْ خُلَّةٍ لِلْقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَائِعُ
إلا أن يتقي منهم تقية ، بحيث تلجئه الضرورة إلى مخالطتهم ، فيخالطهم بجسمه ويفارقهم بقلبه ، وقد حذَّر الصوفية من صحبة أرْبَع طوائف : الجبابرة المتكبرون ، والقراء المداهنون ، والمتفقرة الجاهلون ، والعلماء المتجمدون؛ لأنهم مُولَعون بالطعن على أولياء الله ، يرون ذلك قربة تُقربهم إلى الله .
ثم قال : { ويحذركم الله نفسه } أن تقصدوا معه غيره ، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبة بقوله : { وإلى الله المصير } أي : إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصال ، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال : { إن تُخفوا ما في صدوركم } من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير ، { أو تبدوه يعلمه الله } ؛ فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل ، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة ، { يوم تجد كل نفس } ما قدمت من المجاهدة ، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة . ثم خاطب الواصلين فقال : { ويحذركم الله نفسه } من أن تشهدوا معه سواه ، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يتسطع ، إذ لا غير معه حتى يشهده . ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة ، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين . خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه .
ثم لا طريق للوصول إلى هذا كله إلا باتباع الرسول الأعظم .
(1/268)

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
قلت : قد تقدم الكلام على حقيقة المحبة عند قوله : { يحبونهم كحب الله } . وقال البيضاوي هنا : المحبة ميلُ النفس إلى الشيء لإدراك كمال فيه ، بحيث يحملها - أي الميل - إلى ما يقربها إليه ، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأن ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله ، لم يكن حبه إلا لله وفي الله ، وذلك يقتضي إرادة طاعته ، فلذلك فُسرت المحبة بإرادة الطاعة ، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته ، والحرص على مطاوعته . ه .
وقوله : { فإن تولوا } : فعل ماض مجزوم المحل ، ولم يدغمه البَزِّي هنا ، على عادته في الماضي ، لعدم موجبه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد لمن يدّعي أنه يحب الله ولا يتبع رسوله : { إن كنتم تحبون الله } كما زعمتم ، { فاتبعوني } في أقوالي وأفعالي وأحوالي ، { يحببكم الله } أي : يرضى عنكم ويقربكم إليه ، { ويغفر لكم ذنوبكم } أي : يكشف الحجاب عن قلوبكم بغفران الذنوب ومحو العيوب ، فيقربكم من جناب عزه ، ويبوئكم في جِوار قدسه ، { والله غفور رحيم } لمن تحبب إليه بطاعته واتباع رسوله .
{ قل أطيعوا الله } فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، { والرسول } فيما يَسُنه لكم ويرغبكم فيه ، { فإن تولوا } وأعرَضوا عنه ، فقد تعرضوا لمقت الله وغضبه بكفرهم به؛ { فإن الله لا يحب الكافرين } أي : لا يرضى عنهم ولا يقبل عليهم ، وإنما لم يقل : لا يحبهم؛ لقصد العموم ، والدلالة على أن التولي عن الرسول كفر ، وأنه بريء من محبة الله ، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين .
رُوِيَ أن نصارى نجران قالوا : إنما نعظم المسيح ونعبده ، حباً لله وتعظيماً لله . فقال تعال : { قل } يا محمد : { إن كنتم تحبون الله } تعالى { فاتبعوني } . . . الآية . ولما نزلت الآية قال عبد الله بن أُبَيّ لأصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ، فنزل قوله تعالى : { قل أطيعوا الله والرسول } الآية . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " " مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله ، ومن أَطَاعَ الإمامَ فَقدْ أطَاعَنِي ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله وَمَنْ عصَى الإمامَ فَقَدْ عَصَانِي " .
الإشارة : اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم رُكن من أركان الطريقة ، وشرط في إشراق أنوار الحقيقة ، فمن لا اتباع له طريق له ، ومن لا طريق له لا وصول له ، قال الشيخ زروق رضي الله عنه : ( أصول الطريقة خمسة أشياء : تقوى الله في السر والعلانية ، واتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال ، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار ، والرجوع إلى الله في السراء والضرء ، والرضى عن الله في القليل والكثير ) .
فالرسول - عليه الصلاة والسلام - حجاب الحضرة وبَوَّابُها ، فمن أتى من بابه؛ بمحبته واتباعه ، دخل الحضرة ، وسكن فيها ، ومن تنكب عنها طُرِد وأُبعد ، وفي ذلك يقول القائل :
وأنتَ بابُ الله ، أيُّ امرِىءٍ وَافَاه مِنح غَيْرِكَ لاَ يدْخُلُ
وقال في المباحث :
(1/269)

تَبِعَه العالِمُ في الأقوال ، ... والعابدُ الزاهدُ في الأفْعَالِ
وفيهما الصُّوفيُّ في السِّباق ... لكنَّه قد زاد في الأخْلاَقِ
فمن ادّعى محبة الله أو محبة رسوله ، ولم يطعهما ، ولم يتخلق بأخلاقهما ، فدعواه كاذبة ، وفي ذلك يقول ابن المبارك :
تَعْصِي الألَه وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... خَذَا محَالٌ في الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ ... إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
ثم ذكر الحق تعالى بيان نشأة عيسى عليه السلام ، وبيان أصله ونشأة أمه ، توطئة للكلام مع النصارى والرد عليهم في اعتقادهم فيه . وقال البيضاوي : لما أوجب الله طاعة الرسل ، وبيَّن أنها الجالبة لمحبة الله ، عقَّب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً عليها .
(1/270)

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
قلت : { ذرية } : حال ، أبو بدل من الآلين ، أو من نوح ، أي : أنهم ذرية واحد متشعبة بعضها من بعض . و { إذ قالت } : ظرف لعليم ، أو بإضمار اذكر . و { محرراً } : حال ، والتحرير : التخلص ، يقال : حررت العبد ، إذا خلصته من الرق ، وحررت الكتاب ، إذا أصلحته وأخلصته ، ولم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاح ، ورجل حُر ، أي : خالص ، ليس لأحد عليه متعلق ، والطين الحُر ، أي : الخالص من الحمأة . وقوله : { وإني سميتها مريم } : عطف على { إني وضعتها } ، وما بينهما اعتراض ، من كلامها على قراءة التكلم ، أو من كلام الله على قراءة التأنيث .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الله اصطفى آدم } ؛ بالخلافة والرسالة ، { ونوحاً } ؛ بالرسالة والنِّذَارة ، { وآل إبراهيم } ؛ بالنبوة والرسالة ، وهم : إسحاق ، ويعقوب والأسباط ، وإسماعيل ، وولده سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة والمحبة الجامعة . { وآل عمران } ، وهم موسى وهارون - عليهما السلام - وهو عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب ، أو المراد بعمران : عمران بن أشهم بن أموي ، من ولد سليمان عليه السلام ، وهو والد مريم أم عيسى عليه السلام ، وقيل : المراد عمران بن ماثان ، أحد أجداد عمران والد مريم . وإنما خصّ هؤلاء؛ لأن الأنبياء كلهم من نَسْلهم . وقيل : أراد إبراهيم وعمران أنفسهما . " وآل " مقحمة ، كقوله : { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ } [ البَقَرَة : 248 ] أي : موسى وهارون ، فقد فضل الحقّ - جلّ جلاله - هؤلاء الأنبياء بالخصائص الجسمانية والروحانية { على العالمين } أي : كلاً على عَالَمِي زمانه ، وبه استدلّ على فضلهم على الملائكة . حال كونهم { ذرية } متشعبة { بعضها من } ولد { بعض } في النسب والدين ، { والله سميع } لأقوال العباد وأعمالهم ، { عليم } بسرائرهم وعلانيتهم ، فيصطفي من صفا قوله وعمله ، وخلص سره ، للرسالة والنبوة .
ثم تخلًّص لذكر نشأة مريم ، توطئة لذكر ولدها ، فقال : واذكر { إذ قالت امرأة عمران } وهي حنة بنت فاقوذا ، جدة عيسى عليه السلام : { ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً } لخدمة بيت المقدس ، لا أشغله بشيء ، أو مخلصاً للعبادة ، { فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } ، وكان المحرر عندهم ، إذا حُرر ، جُعل في الكنيسة يقوم عليها وينكسها ، ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم ، ثم يُخَيَّر ، فإن أحبَّ أقام أو ذهب حيث شاء ، ولم يكن يحرر إلا الغلمان؛ لأن الجارية لا تصلح للخدمة؛ لما يصيبها من حيض ، فحررت أمُّ مريمَ حمْلَها تَدْرِ ما هو .
وقصة ذلك : أن زكريا وعمران تزوجا أختين ، فتزوج زكريا أشياعَ بنت فاقوذا ، وتزوج عمران حنة بنت فاقوذا ، فكان عيسى ويحيى ابني الخالة ، وكانت حنة عاقراً لا تلد ، فبينما هي في ظل شجرة ، بصُرت بطائر يطعم فرخاً . فتحركت لذلك نفسها للولد فدعت الله تعالى ، وقالت : اللهم لك علي ، إن رزقتني ولداً ، أن أتصدق به على بيت المقدس ، يكون من سدنته وخدمه ، فحملت بمريم ، فهلك عمران ، وحنة حامل بمريم ، { فلما وضعتها } أي : النذيرة ، أو ما في بطنها ، قالت : { ربِّ إني وضعتها أنثى } ، قالت ذلك تحسّراً وتحزناً إلى ربها ، لأنها كانت ترجوا أن تلد ذكراً يصلح للخدمة ، ولذلك نذرته .
(1/271)

قال تعالى : { والله أعلم بما وضعت } ، تعظيماً لموضوعها وتنويهاً بشأنها ، أو من كلامها - على قراءة التكلم - تسلية لنفسها ، أي : ولعل لله فيه سرّاً ، قال تعالى : { وليس الذكر كالأنثى } أي : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت ، أو من كلامها ، أي : وليس الذكر والأنثى سيان فما نذرتُ . ثم قالت : { وإني سميتها مريم } راجية أن يطابق اسمُها فعلها ، فإن مريم في نعتهم في العابدة الخادمة ، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " حَسْبُكَ من نساءِ العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم " .
ثم قالت حنة أم مريم : { وإني أعيذها بك } أي : أحصنها بك { وذريتها من الشيطان الرجيم } أي : المرجوم بالشهب ، أو المطرود ، وفي الحديث : " مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَد فَيَسْتَهِلُّ مِنْ مَسِّهِ ، إلاَّ مَرْيَمَ وابْنهَا " ومعناه : أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود ، بحيث يتأثر به ، إلا مريم وابنها لمكان الاستعاذة ، قلت : وكذا الأنبياء كلهم ، لا يمسهم لمكان العصمة . والله أعلم .
{ فتقبلها ربها } أي : رَضِيَها في النذر مكان الذكَر ، { بقبول حسن } أي : بوجه حسن ، وهو إقامتها مقام الذكر ، وتسلمها للخدمة عقب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسِّدانة ، رُوِي : أن حنة لما ولدتها لفَّتْها في خرقة ، وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار ، وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها ، فأنها كانت ابنة إمامهم ، وصاحب قربانهم ، فإن ( بني ماثان ) كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم ، فقال زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فأبوا إلا القرعة ، وكانوا سبعة وعشرين ، فانطلقوا إلى نهر ، فألقوا فيه أقلامهم ، فطفا قلم زكريا - أي : علا - على وجه الماء ، ورسبت أقلامهم ، فأخذها زكريا .
{ وأنبتها } الله { نباتاً حسناً } أي : رباها تربية حسنة ، فكانت تشب في اليوم ما يشب المولود في العام ، { وكفلها زكريا } أي : ضمها إليه وقام بأمرها . وقرأ عاصم - في رواية ابن عياش - بشدِّ الفاء ، أي : وكفَّلها اللّهُ زكريا ، أي : جعله كافلاً لها وحاضناً . رُوِيَ : أنه لما ضمها إليه بنى لها بيتاً ، واسترضع لها ، فلما بلغت ، بنى لها محراباً في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليها إلا بسلم ، ولا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم ، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب .
(1/272)

{ كلما دخل عليها زكريا المحراب } ؛ ليأتيها بطعامها ، { وجد عندها رزقاً } أي : فاكهة في غير حينها ، يجد فاكهة الشتاء في الصيف ، وبالعكس ، { قال يا مريم أنى لك هذا } أي : من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه ، والأبواب مغلقة عليك؟ { قالت هو من عند الله } فلا يُستبعد ، قيل : تكلمت صغيرة ، وقيل : لم ترضع ثدياً قط ، خلاف ما تقدم ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة .
ثم قالت : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } أي : بغير تقدير ، أو بغير استحقاق تفضلاً منه ، وقوله : { كلما } : يقتضي التكرار ، وفيه إشارة إلى أن زكريا لم يَذَرْ تَعهُّدهَا ، ولم يعتمد على ما كان يجد عندها ، بل كان يتفقد حالها كل وقت ، لأن الكرامات للأولياء ليس مما يجب أن تدوم قطعاً ، بل يجوز أن يظهر ذلك عليهم دائماً وألا يظهر ، فما كان زكريا معتمداً على ذلك ، فيترك تفقد حالها ، ثم كان يجدد السؤال بقوله : { يا مريم أنى لك هذا } ، لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمسن فإنه لا واجب على الله - سبحانه - قاله القشيري .
رَوى جابر بنُ عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم الطعام ، فقام في منازل أزواجه ، فلم يُصِبْ عندهم شيئاً ، فأتى فاطمة فقال : " يا بُنيةُ ، هل عندك شيء؟ " فقالت : لا والله ، بأبي أنت وأمي ، فلما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بعثت إليها جارتُها برَغِيفَيْن وبِضْعَة لَحْم ، فبعثت حَسَناً وحُسَيْناً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاء ، فكشفت له الجفنة ، فإذا الجفنة مملوءة خُبْزاً ولَحْماً ، فَبُهِتَتْ ، وعرفت أنَّهَا بَرَكَةٌ مِن اللهِ تعالى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أين لك هذا يا بُنَيْةُ؟ " قالت : { من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } ، فحمد الله تعالى ، وقال : " الحمْدُ للّهِ الَّذِي جَعلَك شَبِيهَةً بسَيِّدَةِ بَنِي إسْرَائِيل ، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً قالت : { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } " ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عَليٍّ رضي الله عنه . ثم أكل أهلُ البيت كلهم ، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبقيت الجَفْنة كما هي ، فأَوْسَعَتْ علَى الجيران ، وجعل الله فيها بركة وخيراً . انتهى .
الإشارة : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } ، إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل؛ لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره ، وجددوه بعد خمود أسراره ، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء ، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية ، بحيث يجدد للناس دينهم ، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق ، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه .
(1/273)

وفي الحيدث : " إنَّ الله يَبْعَثُ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهذه الأمة دِينَهَا " قال الحريري : ( مات الحسن البصري عشية جمعة - أي : بعد زوالها - فلما صلّى الناس الجمعة حملوه ، فلم يترك الناس صلاة العصر في مسجد الجماعة بالبصرة منذ كان الإسلام ، إلا يوم مات الحسن ، واتبع الناس جنازته ، فلم يحضر أحد في المسجد صلاة العصر ، قال : وسمعت منادياً ينادي : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } ، واصطفى الحسن على أهل زمانه . قلت : والحسن البصري هو الذي أظهر علم التصوّف ، وتكلم فيه وهذبه . قال في القوت : وهو إمامنا في هذا العلم - يعني علم التصوف .
وقوله تعالى : { إذ قالت امرأة عمران } . . . الآية . كُلُّ من ذنر نفسه وحررها لخدمة مولاه ، تقبلها الله منه بقبول حسن ، وأنبت فيها المعرفة نباتاً حسناً ، وكفلها بحفظه ورعايته ، وضمها إليه بسابق عنايته ، ورزقها من طُرَفِ الحكم وفواكه العلوم ، مما لا يتحيط به العقول وغاية الفهوم ، فإذا قال لنفسه : من أين لك هذا؟ { قالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } . وأنشدوا :
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إليه اكْتَسَبْتُه ... سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ ، لا بشيءٍ يُعلَّلُ
وقال القشيري : قوله تعالى : { فتقبلها ربها بقبول حسن } ، يقال : منَ القبول الحسن أنه لم يطرح كَلَّهَا وشَغْلَهَا على زكريا ، فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعاهدها بطعام وجد عندها رزقاً ، ليعلَم العالمون أن الله - تعالى - لا يُلقى شغل أوليائه على غيره ، ومن خدم وليّاً من أوليائه كان هو في رفق الولي ، وهذه إشارة لمن يخدم الفقراء ، يعلم أنه في رفقهم ، لا أن الفقراء تحت رفقه . ه .
قال أهل التفسير : فلما رأى زكريا ما يأتي لمريم من الفواكه في غير أوانها ، قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها ، قادر على أن يصلح زوجتي ، ويهب لي ولداً على الكبر . فطلب الولد .
(1/274)

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
قلت : { هنالك } : اسم إِشارة للبعيد ، والكاف : حرف خطاب ، يطابق المخاطب في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع في الغالب . والمحراب : مفعال ، من الحرب ، وهو الموضع المعد للعبادة ، كالمسجد ونحوه ، سمي به ، لأنه محل محاربة الشيطان .
{ والملائكة } : جمع تكسير ، يجوز في فعله التذكير والتأنيث ، وهو أحسن ، تقول : قام الرجال وقامت الرجال ، فمن قرأ : { فنادته الملائكة } ، فعلى تأويل الجماعة ، ومن قرأ : { فناداه } ، أراد تنزيه الملائكة عن التأنيث ، ردّاً على الكفار . والمراد هنا : جبريل عليه السلام كقوله : { يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ } [ النّحل : 2 ] ، { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ } [ آل عِمرَان : 42 ] ، و { بشر } : فيها لغتان : التخفيف ، وهي لغة تهامة ، تقول : بَشَرَ يَبْشُر - بضم الشين في المضارع ، والتشديد ، وهو أفصح ، تقول بَشْر يُبَشّر تبشيراً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : مخبراً عن زكريا عليه السلام : { هنالك } أي : في ذلك الوقت الذي رأى من الخوارق عند مريم ، { دعا زكريا ربه } ، فدخل المحراب ، وغلق الأبواب ، وقال في مناجاته : { ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة } ، كما وهبتها لحنَّة العجوز العاقر ، { إنك سميع الدعاء } أي : مجيبه فاسمع دعائي يا مجيب ، { فنادته الملائكة } ، وهو جبريل ، لأنه رئيس الملائكة ، والعرب تنادي الرئيس بلفظ الجميع؛ إذ لا يخلو من أصحاب ، { وهو قائم يصلي في المحراب } رُوِيَ : أنه كان قائماً يصلّي في محرابه ، فدخل عليه شاب ، عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وقال له : { إن الله يبشرك بيحيى } ، سمي به؛ لأن الله تعالى أحيا به عقم أمه ، أو لأن الله تعالى أحيا قلبه بمعرفته ، فلم يهم بمعصية قط ، أو لأنه استشهد ، والشهداء أحياء .
{ مصدقاً بكلمة من الله } وهو عيسى ، لأنه كان بكلمة : كُنْ ، من غير سبب عادي ، و { سيداً } أي : يسود قومه يوفُوقهم ، و { حصوراً } ، أي : مبالغاً في حبس النفس عن الشهوات والملاهي . رُوِيَ أنه مرَّ في صباه على صبيان ، فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت ، أو عِنِّيناً ، رُوِيَ : " أنه كان له ذَكَرٌ كالقذاة " رواه ابن عباس . وقال في الأساس : ( رجل حصور : لا يرغب في النساء ) . قيل : كان ذلك فضيلة في تلك الشريعة ، بخلاف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وفي الورتجبي : الحصور : الذي يملك ولا يُملك . وقال القشيري : { حصوراً } : أي : مُعْتَقاً من الشهوات ، مَكْفِيّاً أحكام البشرية ، مع كونه من جملة البشر ، { ونبيّاً من الصالحين } الذي صلحوا للنبوة وتأهلوا للحضرة .
ولما سمع البشارة هزَّه الفرحُ فقال : يا { رب أنى يكون لي غلام } أي : من أين يكون لي غلام؟! قاله استعظاماً أو تعجباً أو استفهاماً عن كيفية حدوثه . هل مع كبر السن والعقم ، أو مع زوالهما . { وقد بلغني الكبر } ، وكان له تسع وتسعون سنة ، وقيل : مائة وعشرون ، { وامرأتي عاقر } لا تلد ، ولم يقل : عاقرة ، لأنه وصف خاص بالنساء .
(1/275)

قال له جبريل : { كذلك الله يفعل ما يشاء } من العجائب والخوارق ، فيخلق الولد من العاقر والشيخ الفاني ، أو الأمر كذلك ، أي : كما أخبرتك ، ثم استأنف : { الله يفعل ما يشاء } .
ولما تحقق بالبشارة طلبَ العلامةَ ، فقال : { رب اجعل لي آية } أعرف بها حمل المرأة ، لاستقبله بالبشاشة والشكر ، { قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي : لا تقدر على كلام الناس ثلاثاً ، فحبس لسانه عن الكلام دون الذكر والشكر ، ليخلص المدة للذكر والشكر ، { إلا رمزاً } بيدٍ أورأس أو حاجب أو عين . { واذكر ربك كثيراً } في هذه المدة التي حبِسْتَ فيها عن الكلام ، وهو يُبين الغرض من الحبس عن الكلام . وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار . { وسبّح بالعشي } أي : من الزوال إلى الغروب ، أو من العصر إلى جزء الليل ، { والإِبكار } ؛ من الفجر إلى الضحى ، وقيل : كانت صلاتهم ركعتين في الفجر وركعتين في المغرب ، ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية الأخرى : { فَأْوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الأصلاب الروحانية كالأصلاب الجسمانية ، منها ما تكون عقيمة مع كمالها ، ومنها ما تكون لها ولد أو ولدان ، ومنها ما تكون لها أولاد كثيرة ، ويؤخذ من قضية السيد زكريا عليه السلام : طلب الولد؛ إذا خاف الولي اندراس علمه أو حاله بانقطاع نَسْله الروحاني ، ولا شك في فضل بقاء النسل الحسيّ أو المعنوي ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " إِذَا مَاتَ العبدُ انْقَطَعَ عمله إلا مِنْ ثَلاَثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِح يَدْعُوا لَهُ ، أوْ عِلَم يُنْتَفَعُ به " وشمل الولد البشري والروحاني ، وقال عليه الصلاة والسلام لسيدنا عليّ - كَرّم الله وجهه - : " لأنْ يَهْدِيَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لكَ مِنْ حُمْر النَعَمِ " .
وقال بعض الشعراء :
وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ ... فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبيّ مُحمَّد
وقد سلَك هذا المسلك القطبُ بن مشيش في طلب الولد الروحاني ، حيث قال في تَصْلِيَته المشهورة : ( اسمه ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا ) . فأجابه الحق تعالى بشيخ المشايخ القطب الشاذلي . وغير واحد من الأولياء دخل محراب الحضرة ، ونارى نداءً خفيّاً في صلاة الفكر ، فأجابته الهواتف في الحال ، بلسان الحال أو المقال : إن الله يبشرك بمن يحيي علمك ويرث حالك ، مصدقاً بكلمة من الله ، وهم أولياء الله ، وسيداً وحصوراً عن شواغل الحس ، مستغرقاً في مشاهدة القرب والأنس ، ينبئ بعلم الغيوب ، ويصلح خلل القلوب ، فإذا استعظم ذلك واستغربه ، قيل له : الأمر كذلك ، ( الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ) ، فحسبك الاشتغال بذكر الله ، والغيبة عما سواه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/276)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { إذ قالت الملائكة } أي : جبريل ، أو جماعة ، كلمتها شفاهاً؛ كرامةً لها . وفيه إثبات كرامة الأولياء ، وليست نبية؛ للإجماع على أنه تعالى لم يستنبئ امرأة؛ لقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } [ الأنبيَاء : 7 ] فقالوا لها : { يا مريم إن الله اصطفاك } لخدمة بيته ، ولم يقبل قبلك أنثى قط ، وفرغك لعبادته ، وأغناك برزقه عن رزق غيره ، { وطهرك } من الأخلاق الذميمة ، ومما يستقذر من النساء ، { وصطفاك } ثانياً بهدايته لك ، وتخصيصك بتكليم الملائكة ، وبالبشارة بالولد من غير أب ، فقد اصطفاك { على نساء العالمين } .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَرْيَمَ ابنةَ عِمْرَانَ ، وآسِيَةَ بنت مزاحِم وخديجة بنت خويلد " . . الحديث . قال ابن عزيز : أي : عالمي دهرها ، كما فُضِّلَتْ خديجة وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على نساء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل قال أبو عمر : فاطمة فُضلت على جميع النساء ، وهو واضح ، لحديث : سيدة نساء أهل الجنة ، لكن جاء في حديث آخر استثناء مريم . فالله أعلم .
وفي الاستيعاب : عن عمران بن حصين : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة ، وهي مريضة ، فقال : " كيف تجدك يا بُنَيَّةُ؟ " فقالت له : إني لوجعة ، وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله ، فقال : " يا بُنَيِّةُ ، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين " ، فقالت : يا أبت ، فأين مريم بنت عمران؟ قال : " تلك سيدةُ نُساءِ عالمها ، وأنت سيدة عالمك ، والله لقد زوجتك سيّداً في الدنيا والآخرة " ه . من المحشي .
{ يا مريم اقنتي لربك } أي : أطيلي الصلاة شكراً لما اختصك به ، { واسجدي واركعي مع الراكعين } أي : صلِّي مع المصلين ، وقدَّم السجود على الركوع ، أما لكونه كذلك في شرعهم ، أو للتنبيه على أن الواو لا ترتب ، أو ليقترن { اركعي } بالراكعين ، للإيذان بأنَّ من ليس في صلاتهم ركوعٌ ليسوا بمصلين . وقيل : المراد بالقنوت : إدامة الطاعة ، كقوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً } [ الزمر : 9 ] ، وبالسجود ، الصلاة ، لقوله : { وإدبار السجود } ، وبالركوع : الخشوع والإخبات . قاله البيضاوي . وقال الأوزاعي : لما قالت لها الملائكة ذلك ، قامت في الصلاة حتى تورمت قدمها وسالت دماً وقَيْحاً .
الإشارة : لا يصطفي الله العبدَ لحضرته إلا بعد تطهيره من الرذائل ، وتحليته بأنواع الفضائل ، وقطعه عن قلبه الشواغل ، والقيام بوظائف العبودية ، وبالآداب مع عظمة الربوبية ، والخضوم تحت مجاري الأقدار ، والتسليم لأحكام الواحد القهار ، فأنفاس المريد ثلاثة : عبادة ، ثم عبودية ، ثم عبودة ، ثم يترقى إلى مطالعة علم الغيوب .
(1/277)

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لحبيبه صلى الله عليه وسلم : { ذلك } القصص الذي أطلعتك عليه ، هو { من } أخبار { الغيب } الذي لم يكن لك به شعور ، وما عرفته إلا بوحينا وإعلامنا ، فلا يشك في نبوتك إلا مطموس أعمى ، { و } أيضاً : { ما كنت لديهم } أي : عندهم ، حين كانوا { يلقون أقلامهم } لما اقترعوا ، { أيهم يكفل مريم ، وما كنت لديهم إذ يختصمون } في كفالتها ، فتخبرهم عما شهدت ، بل لم يكن شيء من ذلك ، فتعين أن يكون وحياً حقيقيّاً ، لأنه عليه الصلاة والسلام - كان أمياً لم يطالع شيئاً من كتب الأخبار ، ولا جلس إلى من طالعهم من الأحبار ، بإجماع الخاص والعام . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الوحي على أربعة أقسام : وحي منام ، ووحي إلهام ، ووحي أحكام ، ووحي إعلام ، وشاركت الأولياءُ الأنبياءَ في ثلاثة : الإلهام والمنام والإعلام ، إن كان بغير الملَك ، ومعنى وحي إعلام : هو إطلاع الله النبيّ على أمور مغيبة ، فإن كان بواسطة الملك ، فهو مختص بالأنبياء ، كما اختصت بوحي الأحكام ، وأما إن كان بالإلهام أو بالمنام أو بالفهم عن الله ، فيكون أيضاً للأولياء ، إذ الروح إذا اتصفت وتطهرت من دنس الحس أطلعها الله على غيبه في الجملة ، وأما التفصيل فلا يعلمه إلا علاّم الغيوب ، والله أعلم .
(1/278)

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قلت : { إذ قالت } : بدل من { وإذ قالت } الأولى ، ويبعد إبدالها من { إذ يختصمون } ، و { المسيح } وما بعده : إخبار عن اسمه ، أو { عيسى } : خبر عن مضمر ، و { ابن مريم } : صفته ، و { المسيح } : فعيل بمعنى مفعول ، لأنه مُسِحَ من الأقذار ، أي : طهر منها ، أو مسح بالبركة ، أو كان مسيح القدم ، لا أخمص له ، أو مسحه جبريل بجناحه من الشيطان . أو بمعنى فاعل؛ لأنه كان يمسح المرضى فيبرؤون ، أو يمسح عين الأعمى فيبصر ، أو لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان؛ فتكون الميم زائدة .
وأما المسيح الدجّال فإنه ممسوح إحدى العينين ، أو لأنه يطوف الأرض ويمسحها ، إلا مكة والمدينة ، والحاصل : أن عيسى مسيح الخير ، والدجال مسيح الشر ، ولذلك قيل : إن المسيح يقتل المسيح . و { وجيهاً } : حال من كلمة؛ لتخصيصه بالصفة ، و { في المهد وكهلاً } : حالان ، أي : طفلاً وكهلاً ، والمهد : ما يمهد للصبي . و { رسولاً } : مفعولٌ لمحذوف ، أي : ونجعله رسولاً ، و { مصدقاً } : عطف على { رسولاً } ، و { لأُحِلَّ } : متعلق بمحذوف ، أي : وجئتكم لأُحل ، أو معطوف على معنى مصدقاً ، كقولهم : جئتك معتذراً ، أو لأطيب قلبك .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر أيضاً { إذ قالت الملائكة } في بشارتهم لمريم : { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } ، أي : بولد يتكوَّن بكلمة من الله؛ كن فيكون ، وقيل : إنما سمى كلمة؛ لكونه مظهراً لكلمة التكوين ، متحققاً ومتصرفاً بها . ولذلك كان يظهر عليه خوارق الأقدار أكثر من غيره من الأنبياء ، { اسمه المسيح } ، واسمه { عيسى ابن مريم } ، وإنما قال : { ابن مريم } والخطاب لها ، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب؛ إذ الأولاد إنما تنسب لأبائها إلا إذا فقد الأب . ثم وصف الولد بقوله : { وجيهاً في الدنيا والآخرة } أي : شريفاً في الدنيا بالنبوة والرسالة ، وفي الآخرة بالشفاعة لمن تبعه . ويكون { من المقربين } إلى الله تعالى في الدارين .
{ ويكلم الناس } طفلاً { في المهد } على وجه خَرْق العادة في تبرئة أمه ، { وكهلاً } إذا كمل عقله قبل أن يرفع ، أو بعد الرفع والنزول ، لأن الكهولة بعد الأربعين ، والتحقيق : أنه بشرها بنبوة عيسى وكلامه في المهد ، معجزةً ، وفي الكهولة دعوة قبل الرفع وبعده ، وما قاربَ يُعطي حكمه ، وحال كونه { من الصالحين } لحضرة رب العالمين .
ولما سمعت البشارة دهشت و { قالت } : يا { رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } ، والخطاب لله ، فانية عن الواسطة جبريل ، والاستفهام تعجباً ، أو عن الكيفية : هل يكون بتزوج أم لا؟ { قال } لها الملك : { كذلك الله يخلق ما يشاء } . أو الأمر كذلك كما تقولين ، لكن { الله يخلق ما يشاء } ؛ لا يحتاج إلى وسائط ولا أسباب ، بل { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } ، { ويعلمه الكتاب } أي : الكتابة والخط ، { والحكمة } أي : النبوة ، أو الإصابة في الرأي : { والتوراة والإنجيل } .
(1/279)

{ و } يجعله { رسولاً إلى بني إسرائيل } . وكان أول رسل بني إسرائيل يوسف ، وآخرهم عيسى - عليهما السلام - ، وقال : عليه الصلاة والسلام : " بُعثْتُ على إِثْرِ ثمانية آلاف نبيّ ، أربعة آلاف من بني إسرائيل " فإذا بعث إليهم قال : { أني قد جئتكم بآية من ربكم } أي : بأني قد جئتكم آية من ربكم ، قالوا : وما هي؟ قال : { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } ؛ كصورته ، { فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله } ، وكان يخلق لهم صورة الخفاش ، لأنها أكمل الطير؛لأن لها ثدياً وأسناناً وتحيض وتطير ، فيكون أبلغ في المعجزة ، وكان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عنهم سقط ميتاً؛ ليتميز فعل الحق من فعل الخلق ،
ثم قال لهم : ولي معجزة أخرى؛ أني { أبرئ الأكمه } الذي ولد أعمى ، فأحرى غيره { والأبرص } الذي فيه وضح . وخصهما؛ لأنهما عاهتان معضلتان . وكان الغالب في زمن عيسى الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك . رُوِي : أنه ربما اجتمع عليه من المرضى في اليوم الواحد ألوف ، من أطاف منهم البلوغ أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام ، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإسلام .
{ وأحيي الموتى بإذن الله } لا بقدرتي دفعاً لتوهم الألوهية ، فإن الإحياء ليس من طوق البشر . رُوِيَ أنه أحيا أربعة أنفس : ( العازر ) ، وكان صديقاً له ، فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت ، فأتاه من مسيرة ثلاثة أيام فوجده مات ، فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره ، وهو في صخرة مطبقة ، فدعا الله تعالى ، فقام العازر يقطر ودكه ، فعاش وولده له . و ( ابن العجوز ) ، مُر بجنازته على عيسى عليه السلام فدعا الله تعالى ، فجلس على سريره ، ونزل عن أعناق الرجال ، ولبس ثيابه ، وحمل سريره على عنقه ، ورجع إلى أهله ، وبقي حتى وُلد له . و ( ابنة العاشر ) ، كان يأخذ العشور ، قيل له : أتحييها ، وقد ماتت أمس؟ فدعا الله تعالى ، فعاشت وولد لها . و ( سام بن نوح ) ، دعا باسم الله الأعظم ، فخرج من قبره ، وقد شاب نصف رأسه ، فقال : أقامت الساعة؟ قال : لا ، لكني دعوت الله فأحياك ، ما لي أرى الشيب في رأسك ، ولم يكن في زمانك؟ قال : سمعت الصيحة ، فظننت أن الساعة قامت فشبت من هولها . قيل : كان يحيي الموتى ب { يا حي يا قيوم } .
{ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } ، لما أبرأ الأكمه والأبرص قالوا ، هذا سحر ، أخبرنا بما نأكل وما ندخر؟ فكان يُخبر الرجل بما يأكل في غدائه وعشائه ، ورُوِيَ أنه لما كان في المكتب ، كان يحدث الغلمان بما يصنع لهم آباؤهم من الطعام ، فيقول للغلام : انطلق . . . غداء أهلك كذا وكذا ، فيقول أهله : من أخبرك بهذا؟ قال : عيسى ، فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم ، فقالوا : ليسوا ههنا ، قال : ماذا في البيت؟ قالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ، ففتحوا الباب ، فإذا هم خنازير ، فهموا بقتله ، فهربت به أمه إلى مصر .
(1/280)

قاله السُّدي .
ثم قال لهم : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } ، فإن غير المؤمنين لا ينتفع بالمعجزات لعناده ، { ومصدقاً لما بين يدي من التوراة } أي : وجئتكم مصدقاً للتوراة ، وشاهداً على صحتها ، { ولأُحلَّ لكم بعض الذي حُرم عليكم } في شريعة موسى عليه السلام كالشحوم والثروب ولحم الإبل والعمل في السبت . وهذا يدل على أنه ناسخ للتوراة ، ولا يخل بكونه مصدقاً له ، كما لا يخل نسخ القرآن بعضه لبعض بصحته . فإن النسخ في الحقيقة : بيان لانتهاء العمل بذلك الحكم . ثم قال لهم : { و } قد { جئتكم بآية } واضحة { من ربكم } ، قد شاهدتموها بأعينكم ، فما بقي إلا عنادكم ، { فاتقوا الله وأطيعون } .
ثم دعاهم إلى التوحيد بعد بيان الحجة فقال : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } ولا تعبدوا معه سواه ، { هذا صراط مستقيم } لا عوج فيه . قال البيضاوي : أي : لما جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة ، { فاتقوا الله } في المخالفة ، { وأطيعون } فيما أدعوكم إليه ، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل ، فقال : { إن الله ربي وربكم } ؛ أشار إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايتُه التوحيد ، وقال : { فاعبدوه } ؛ إشارة إلى استكمال القوة العملية بملازمة الطاعة ، التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، ثم قرر ذلك بأن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ونظيره : قوله عليه الصلاة والسلام : " قُلْ آمَنْتُ بِاللّهِ ثم اسْتَقِمْ " .
الإشارة : كل من انقطع بكليته إلى مولاه ، وصدف عن حظوظه ، وهواه ، وأفنى شبابه في طاعة ربه ، وجعل يلتمس في حياته دواء قلبه ، تحققت له البشارة في العاجل والآجل ، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل ، ورزقه من فواكه العلوم ، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم ، هذه مريم البتول أفنت شبابها في طاعة مولاها ، فقربها إليه وتولاها ، وبشرها بالاصطفائية والتطهير ، وأمرها شكراً بالجد والتشمير ، ثم بشّرها ثانياً بالولد النزيه والسيد النبيه ، روح الله وكلمة الله ، من غير أب ولا سبب ، ولا معالجة ولا تعب ، أمره بأمر الله ، يبئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع .
قال صلى الله عليه وسلم : " من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة ، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ ، ومن انطقعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها " .
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه . فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر ، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر ، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله ، وأحيا موتى القلوب بذكر الله ، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب ، يدل على طاعة الله ، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله ، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم ، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/281)

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
قلت : { من أنصاري إلى الله } : الجار يتعلق بحال محذوفة ، أي : ذاهباً إلى الله إلى نَصْر دينه ، أو مُضيفاً نفسه إلى الله ، أو ملتجئاً إلى الله ، أو يتعلق ب { أنصاري } ؛ مضمِّناً معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصره . وحواري الرجل : خاصته ، الذي يستعين بهم في نوائبه ، وفي الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام- : " لكلِّ نبي حَوَاري ، وحَوارِيي ، الزُّبَيْر " وحواريوا عيسى : أصحابه الذين نصروه ، وسموا بذلك لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم . والحَوَرُ : البياض الخالص ، وكل شيء بيَّضته فقد حوَّرْته ، ويقال للبيضاء من النساء : حوارية . وقيل : كان الحواريون قًصَّارين ، يُحَوِّرُون الثياب ، أي : يبيضونها ، وقيل : كانوا ملوكاً يلبسون البياض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فلما أحسن عيسى } من بني إسرائيل { الكفر } ، وتحققه تَحَقُّقَ ما يدرك بالحواس ، بعدما بُعث إليهم ، وأرادوا قتله ، فرَّ منهم واستنصر عليهم ، و { قال من أنصاري } ملجئاً { إلى الله } ، أو ذاهباً إلى نصر دينه ، { قال الحواريون نحن أنصار الله } أي : أنصار دينه ، { آمنا بالله وأشهد } علينا بأننا { مسلمون } ؛ لتشهد لنا يوم القيامة ، حين يشهد الرسل لقومهم ، { ربنا آمنا بما أنزلت } على نبيك من الأحكام ، { واتبعنا الرسول } عيسى عليه السلام ، { فاكتبنا مع الشاهدين } بوحدانيتك ، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق ، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم ، أو مع أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - فإنهم شهداء على الناس .
قال عطاء : سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى ، وآخر ما دفعته إلى الحواريين ، وكانوا قصَّارين وصباغين ، فأراد مُعلّم عيسى السفر ، فقال لعيسى : عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان ، وقد علمتك الحرفة فاصبغها ، فطبخ جُبّاً ، واحداً ، وأدخل فيه جميع الثياب ، وقال لها : كوني على ما أريد ، فقدم الحواريُ ، والثياب كلها في الجب ، فلما رآها قال : قد أفسدتها ، فأخرج عيسى ثوباً أصفر ، وأحمر ، وأخضر ، إلى غير ذلك ، فعجب الحواري ، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى ، ودعا الناس إليه ، وآمنوا به ، ونصروه ، فهم الحواريون .
ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فهمُّوا بقتله ، وتواطؤوا عليه ، { ومكروا } أي : دبروا الحيل في قتله ، { ومكر الله } بهم ، أي : استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم ، ورُفع عيسى عليه السلام ، فالمكر في الأصل : هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة . ولا تُسند إلى الله إلى على حسب المقابلة والازدواج : كقوله : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } النِّساء : 142 ] ، وقوله : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] ، { والله خير الماكرين } . أي : أشدهم مكراً ، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب ، أو أفضل المجازين بالعقوبة؛ لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه .
تنبيه : قيل للجنيد رضي الله عنه : كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه ، وقد عابه على غيره؟ قال : لا أدري ، ولكن أنشدني فلان للطبرانية :
(1/282)

فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ ... ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ
> أُحِبّك ، لا بِبَعْضِي بل بكُلِّي ... وإن يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا
وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي ... وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ
فقال له السائل : أسألُك عن القرآن ، وتجيبني بشعر الطبرانية؟ قال : ويحك ، قد أجبتك إن كنت تعقل . إنَّ تخليته إياهم مع المكرية ، مكرٌ منه بهم . ه .
قلت : وجه الشاهد في قوله : ( وتفعله فيحسن منك ذاك ) ، ومضمن جوابه : أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان ، لا عيب فيه ولا نقصان ، كما قال صاحب العينية :
وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ ... أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ ... فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
وتخليته تعالى إياهم مع المكر ، تسبب عنه الرفع إلى السماء ، وإبقاء عيسى حيّاً إلى آخر الزمان ، حتى ينزل خليفة عن نبينا - عليه الصلاة والسلام - ، فكان ذلك في غاية الكمال والإتقان ، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان .
الإشارة : يجب على المريد الصادق الذي يطلب دواء قلبه ، أن يفر من الوطن الذي يظهر فيه الإنكار ، إلى الوطن الذي يكثر فيه الإقرار ، يفر إلى من يعينه على نصر الدين من الأبرار المقربين ، الذين يجعلهم الله حواري الدين ، ففي الحديث الصحيح : " خَيْرُ مالِ المُسْلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ يَفِرُّ مِنَ الْفِتَنِ " فالمؤمن يفر بدينه من شاهق جبل إلى شاهق جبل حتى يدركه الموت ، وما زالت الأكابر تفر بنفسها إلى شواهق الجبال ، يهربون من حس الدنيا وشغبها ، ولا يرافقون إلا من يستعين بهم على ذكر الله ، وهم أهل التجريد ، الذي اصطفاهم الله لخالص التوحيد ، فروا إلى الله فآواهم الله ، قالوا : { آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون } منقادون لما تريد منا ، { ربنا آمنا بما أنزلت } من الأحكام الجلالية والجمالية ، قد عرفناك في جميع الحالات ، { فاكتبنا مع الشاهدين } لحضرتك ، المنعمين بشهود ذاتك ، ومن مكر بنا من القواطع الخفية فَغَيَّبنا عنه بشهود أنوارك القدسية ، وانصرنا فإنك خير الناصرين ، ولا تدعنا مع مكر الماكرين يا رب العالمين .
(1/283)

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
قلت : { إذ قال } : ظرف لمقدر ، أي : اذكر ، أو وقع ذلك إذ قال ، أو لمكروا ، و { متوفيك } أي : رافعك إليَّ وافياً تاماً ، من قولهم : توفيت كذا واستوفيته : قبضته وافياً تامّاً ، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت ، أو منيمك؛ بدليل قوله تعالى : { وَهُوَا الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ } [ الأنعَام : 60 ] ، رُوِيَ أنه رُفع نائماً ، والإجماع على أنه لم يمت ، قال تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } ، وقوله : { ذلك } مبتدأ ، و { نتلوه } : خبر ، و { من الآيات } : حال ، أو { من الآيات } : خبر ، و { نتلوه } : حال ، أو خبر بعد خبر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : اذكر { إذ قال الله } لعيسى عليه السلام لما أراد رفعه : { يا عيسى إني متوفيك } ، أي : قابضك إليّ ببدنك تامّاً ، { ورافعك إليَّ } أي : إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ، { ومطهرك من الذين كفروا } أي : من مخالطة دنس كفرهم ، { وجاعل الذين اتبعوك } ؛ ممن صدق بنبوتك من النصارى والمسلمين ، وقال قتادة والشعبي والربيع : هم أهل الإسلام . ه . فوالله ما اتبعه من ادعاه ربا ، فمن تبع دينه حقّاً وقد حقق الله فيهم هذا الأمر ، فإن اليهود لم ترفع لهم راية قط ، ولم يتفق لهم ملك ولا دولة إلى زمننا هذا .
ثم قال تعالى : { ثم إليَّ مرجعكم } بالبعث ، { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين وأمر عيسى . { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } أي : فأجمع لهم عذاباً الآخرة لعذاب الدنيا الذي أصابهم فيها من القتل والسبي . { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم } في الدارين بالنصر والعز في الدنيا ، وبالرضا والرضوان في الآخرة ، { والله لا يحب الظالمين } ؛ لا يرضى فعلهم ولا يقربهم إليه .
{ ذلك } الذي ذكرت لك من نبأ عيسى ومريم ومن ذكر قبلهما ، { نتلوه عليك من الآيات } أي : العلامات الدالة على صدقك ، لأنها أخبار عن أمور لم تشاهدها ولم تقرأها في كتاب ، بل هي من { الذكر الحكيم } ، وهو القرآن المبين .
الإشارة : كل ما طهر سره من الأكدار ، وقدس روحه من دنس الأغيار ، ورفع همته عن هذه الدار ، عرج الله بروحه إلى سماء الملكوت ، ورفع سره إلى مشاهدة سنا الجبروت ، وبقي ذكره حيّاً لا يموت ، وجعل من انتسب إليه في عين الرعاية والتعظيم ، وفي محل الرفعة والتكريم ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " هَاجِرُوا تكسبوا العز لأولادكم " ، فمن هاجر وطن الحظوظ والشهوات ، والركون إلى العوائد والمألوفات ، عرجت روحه إلى سماء القدس ومحل الأنس ، وتمكن من العز الذي لا يفنى ، ينسحب عليه وعلى أولاده ومن انتسب إليه؛ إلى أن يرث الأرض ومن عليها ، { وهو خير الوارثين } . هذه سنة الله في خلقه ، لأنهم نصروا دين الله ورفعوا كلمة الله ، فنصرهم الله ، ورفعهم الله ، قال تعالى :
(1/284)

{ إِن تَنصُروُاْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [ محَمَّد : 7 ] ، وقال تعالى : { وَجَعَلَ كَلِمَة الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا } [ التّوبَة : 40 ] . وفي الحكم : " إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى ، فلا تستعزن بعز يفنى " . والله تعالى أعلم .
وقال القشيري : الإشارة فيه : إني متوفيك عنك وقابضك منك ، ورافعك عن نعوت البشرية ، ومطهرك عن إرادتك بالكلية ، حتى تكون مصدقاً لنا بنا ، ولا يكون لك من اختيارك شيء ، وتكون إسبال التولي عليك قائماً ، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى ، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه . ه . وقال الورتجبي : متوفيك عن رسم الحدوثية ، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية ، ومطهرك عن شوائب البشرية . ه .
(1/285)

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن مثل عيسى عند الله } أي : إن شأنه الغريب في كونه وجد من غير أب { كمثل آدم } . ثم فسر شأن آدم فقال : { خلقه من تراب } أي : خلق قالبه من تراب ، { ثم } نفخ فيه الروح ، و { قال له كن فيكون } أي : فكان ، فشأنه أغرب من شأن عيسى ، لأنه وجد من غير أب ولا أم ، بخلاف عيسى عليه السلام ، فلا يستغرب حاله ويتغالى فيه إلا من طبع الله على قلبه ، فاستعجز القدرة الإلهية ، { وكان الله على كل شيء مقتدراً } . هذا هو { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } أي : الشاكين في مخلوقيته ، وهذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، على طريق التهييج لغيره ، أو لكل سامع .
وسبب نزول الآية : أنَّ وفد نجران قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ، فتقول : إنه عبد؟ قال : أجل ، هو عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذارء البتول ، فغضبوا ، وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب؟ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله . فنزلت : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } . أي : فهو أعجب من عيسى ، لكونه بلا واسطة أصلاً . رُوِيَ أن مريم حملت بعيسى وهي بنت ثلاث عشر سنة ، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة ، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين .
قال عليه الصلاة والسلام : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ ، فإنه نازل بأمتي وخليفتي فيهم ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، سبط الشعر ، كأن شعره يقطر ، وإن لم يصبه بلل ، يدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويفيض المال ، وليسلكن الروحاء حاجّاً أو معتمراً ، أو ليَثْنِينَّهما جميعاً ، ويقاتل الناس على الإسلام ، حتى يُهلك الله في زمانه الملل كلها ، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة ، الكذاب الدجال ، وتقع في الأرض الأمنة ، حتى ترتفع الأسد مع الإبل ، والنمر مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الغلمان بالحيات ، ويلبث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتزوج ويولد له ثم يتوفى . ، ويصلي المسلمون عليه " ويدفنونه في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم .
الإشارة : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - أظهر هذا الآدمي في شكل غريب ، وسر عجيب ، جمع فيه بين الضدين ، وأودع فيه سر الكونين ، نوراني ظلماني ، روحاني جسماني ، سماوي أرضي ، ملكوتي ملكي ، معنوي حسيّ ، أودع فيه الروح نورانية لاهوتية في نطفة ناسوتية ، فوقع التنازع بين الضدين ، فالروح تحن إلى وطنها اللاهوتي ، والنطفة الطينية تحن إلى وطنها الناسوتي ، فمن غلب روحانيته على طينته التحق بالروحانيين ، وكان من المقربين في أعلى عليين ، فصارت همته منصرفة إلى طاعة مولاه ، والارتقاء إلى مشاهدة نوره وسناه ، فانياً عن حظوظه وهواه ، من غلبت طينته على روحانيته التحق بالبهائم أو الشياطين ، وانحط إلى أسفل سافلين ، وكانت همته منصرفة إلى حظوظة وهواه ، غائباً عن ذكر مولاه ، قد اتخذ إلهه هواه .
(1/286)

وتأمل قضية السيد عيسى عليه السلام لمَّا لم ينشأ من نطفة أمشاجية ، كيف غلبت روحانيته ، حيث لم تجد ما يجذبها إلى الحضيض الطيني ، فلم يلتفت إلى هذا العالم الظلماني أصلاً ، وكذلك الأنبياء حيث طهروا من بقاياها في الأصالة ، والأولياء حيث طهروها بالمجاهدة ، كيف صارت أرواحهم لا تشتاق إلا إلى الأذكار والعلوم والأسرار ، فانية في محبة الواحد القهار ، حتى لحقت بوطنها ، ورجعت إلى أصلها ، محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة والمساررة ، هذا هو الحق من ربك فلا تكن من الممترين في إدراك الروح المقام ، إن لم يغلب عليها عالم الصلْصَال . والله - تعالى - أعلم .
(1/287)

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
قلت : { أصل } { تعالوا } : تَعالَيُوا ، على وزن تفاعلوا ، من العلو ، فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها ، ثم حذفت ، ومن قرأ بالضم نقل ، وأصل معناها : ارتفع ، ثم أطلق على الأمر بالمجيء . والابتهال : التضرّع والمبالغة في الدعاء .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فمن } خاصمك يا محمد في شأن عيسى عليه السلام ، وكان الذي خاصم في ذلك السيد والعاقب ، لما قدموا مع نصارى نجران على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أسلما " ، قالا : قد أسلمنا قبلك ، قال : " كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما عيسى لله ولداً ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير " ، قالا : إن لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه؟ فقال لهما النبيّ صلىلله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت ، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيِّم كل شيء ، ويحفظه ، ويرزقه؟ قالوا : بلى ، قال : فهل ملك عيسى شيئاً من ذلك؟ فقالوا : لا . قال : ألستم تلعمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما عُلِّم؟ قالوا : لا . قال : فإن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدث ، قالوا : بلى . قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غُذِّي كما يُغَذّى الصبي ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا : بلى . قال : كيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا " . . فأنزل فيهم السورة إلى هنا .
فقال الحقّ لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { فمن حاجّك فيه } أي : في عيسى من النصارى ، { من بعد ما جاءك من العلم } بعبوديته ، { فقل } لهم : { تعالوا } نَتَلاَعَنُ ، أي : نلعن الكاذبَ منا؛ { ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي : يدعون كل واحد منا نفسه وأعزّة أهله وألصفهم بقلبه إلى المباهلة ، وإنما قدَّمهم على النفس؛ لأن الرجل يخاطر بنفسه دونهم ، فكان تقديمهم أبلغ في الابتهال ، { ثم نبتهل } ، أي نجهد في الدعاء على الكاذب ، { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } .
فلما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ، ودعاهم إلى المباهلة ، قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ، فقالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - : ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفَصْل من أمر صاحبكم ، والله ما لاعن قومٌ قط نبيّاً فعاش كبيرُهم ، ولا نبت صغيرُهم ، ولئن فعلتم ذلك لتهلكن ، فوادِعُوا الرَّجُلَ : وانصرفوا ، فأتوه وهو محتضنٌ الحسن آخذ بيد الحسين ، وفاطمةُ تمشي خلفه ، وعَلِيّ خلفها ، وهو يقول لهم : " إِذَا دَعَوْتُ فَأمِّنُوا " ، فقال الأسقُف : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجُوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جبلاً من ماكنه لأزاله ، فلا تتباهلوا فتهلكوا جميعاً إلى يوم القيامة .
(1/288)

فقالوا : يا أبا القاسم ، نرى ألا نلاعنك ، فقال النبيّ صلى لله عليه وسلم : " أسْلِمُوا يَكُنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم " ، فأَبَوا ، فقال : " إني أُنابذكم " ، فقال : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكنا نصالحك على ألا تغزونا ولا تَرُدَّنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفَيْ حلة ، ألفاً في صَفَر ، وألفاً في رجب ، وثلاثين درعاً من حديد . فصالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فقال النبيّ : " والذي نفسي بيده لو تلاعنوا لمُسِخُوا قِرَدَة ، وخَنَازِيرَ ، ولأضْرَمَ عَلَيْهِمْ الوَادِي نَاراً ولاستأصَل اللّهُ نَجْرَان وأهْلَهُ ، ولَمَا حَالَ الحَوْلُ على النَّصَارى كُلِّهِْ حَتى هَلكوا " .
قال الله تعالى : { إن هذا } الذي أوحينا إليك { لهو القصص الحق وما من إله إلا الله } ، خلافاً لما يزعم النصارى من التثليث ، { وإن الله لهو العزيز } في ملكه { الحكيم } في صنعه ، فلا أحد يساويه في قدرته التامة ، ولا في حكمته البالغة ، { فإن تولوا } وأعرضوا عن الإيمان ، { فإن الله عليم بالمفسدين } ، الذي يعبدون غير الله . ووضع المظهر موضع الضمير ، ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين ، بل يؤدي إلى فساد العالم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي للمريد ، الذي تحقق بخصوصية شخيه ، أن يلاعن من يخاصمه فيه ، ويبعد عنه كل البعد ، ولا يهي له لئلا يركبه ، ويدفع عن شيخه ما استطاع ، فإنَّ هذا من التعظيم الذي هو سببٌ في سعادة المريد ، ولا يصغي إلى المفسدين الطاعنين في أنصار الدين . قلت : وقد جاءني بعض من ينتسب إلى العلم من أهل فاس ، فقال لي : قد اتفقت علماء فاس على بدعة شيخكم ، فقلت له : لو اتفق أهل السماوات السبع والأرضين السبع ، على أنه من أهل البدعة ، لقلت أنا : إنه من أهل السنّة ، لأني تحققت بخصوصيته ، كالشمس في أفق السماء ، ليس دونها سحاب . فالله يرزقنا حسن الأدب معهم والتعظيم إلى يوم الدين . آمين ، فمن أعرض عن أولياء الله من المنكرين؛ { فإن الله عليم بالمفسدين } ثم دعاهم إلى التوحيد الذي اتفقت عليه سائر الأديان .
(1/289)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قلت : { سواء } : مصدر ، نعت للكلمة ، والمصادر لا تثني ولا تجمع ولا تؤنث ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا ضمت أو كسرت قصرت ، كقوله : { مكاناً سوى } أي : مستوٍ . وسواء كل شيء : وسطه ، قال تعالى : { فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ } [ الصَّافات : 55 ] ، أي : وسطه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد : { يا أهل الكتاب } اليهود والنصارى ، { تعالوا } : هلموا { إلى كلمة سواء } أي : عدل مستوية ، { بيننا وبينكم } ؛ لا يختلف فيها الرسل والكتب والأمم ، هي { ألا نعبد إلا الله } أي : نوحده بالعبادة ، ونقر له بالوحدانية ، { ولا نشكر به شيئاً } أي : لا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة ، { ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } أي : لا نقول عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل ، لأنهم بشر مثلنا .
ولمّا نزل قوله تعالى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ . . . } [ التّوبَة : 31 ] قال عدي بن حاتم : ما كُنَّا نعبدهم يا رسول الله ، قال : " أَلّيْس كانُوا يُحِلُّون لَكُمْ ويُحرِّمون ، فتأخُذُون بقَوْلِهم؟ " قال : بلى ، قال : " هُوَ ذَاكَ " { فإن تولوا } وأعرضوا عن التوحيد { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } ، فقد لزمتكم الحجة ، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، وأنتم كافرون بما نطقت به الكتبُ وتواطأت عليه الرسل .
تنبيه : انظر ما في هذه الآية من المبالغة وحسن التدرج في الاحتجاج ، بيِّن أولاً أحوال عيسى وما تطاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ، ثم لمّا أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد ، عاد عليهم بالإرشاد ، وسلك طريقاً أسهل وألزم ، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى وسائر الأنبياء والكتب ، ثم لمّا لم يُجد ذلك فيهم شيئاً ، وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم شيئاً أعرض عنهم ، وقال : { قولوا اشهدوا بأنا مسلمون } . قاله البيضاوي .
الإشارة : الطرق كثيرة والمقصد واحد ، وهو التوحيد الخاص ، أعني مقام الفناء والبقاء . فالداعُون إلى الله كلهم متفقون على الدعوة إلى هذا المقصد ، فكل طريق لا توصل إلى هذا المقصد لا عبرة بها ، وكل داع لا يُبلغ إلى هذا الجمال فهو دجال ، فإنْ رضي بتعظيم الناس ، ولم يَبْنِ طريقه على الأساس ، فليس لصاحبه إلا الإفلاس ، وكل مَن أطاع المخلوق في معصية الله فقد اتخذه ربّاً من دون الله ، وكل مَن تولى عن طريق الإرشاد فقد استوجب لنفسه من الطرد والبعاد ، فيقول له الواصلون أو السائرون : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
ولما قدم وفدُ نجران المدينة ، التقوا مع اليهود ، فاختصموا في إبراهيم عليه السلام فأتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد إنا اختلفنا في إبراهيم ودنيه ، فقالت النصارى : كان نصرانيّاً ، وقالت اليهود : كان يهوديّاً ، وهم أولى الناس به ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " كلا الفريقين بريء من إبراهيم ، بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً ، وأنا على دينه ، فاتبعوا دينه الإسلام " .
(1/290)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
قلت : { ها أنتم } : أصله : أنتم ، دخلت عليه هاء التنبيه ، وقال الأخفش : أصله : أأنتم ، فقلبت الهمزة الأولى هاء ، كقوله : هرقت . وتوجيه القراءات معلوم في محله ، و { أنتم } : مبتدأ ، و { هؤلاء } : خبره ، و { حاججتم } : جملة مبينة للأولى ، أو { حاججتم } : خبر ، و { هؤلاء } : منادى بحذف النداء ، و { حنيفاً } : حال ، أي : مائلاً عن الأديان إلا دين الإسلام .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أهل الكتاب لم تُحاجون في إبراهيم } ، ويدعي كل فريق أنه كان على دينه ، { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } ، فكيف يكون يهوديّاً ، ودينكم إنما حدث بعد إبراهيم بألف سنة؟! وكيف يكون نصرانيّاً ، ودين النصارنية إنما ظهر بعد إبراهيم بألفي سنة؟! { أفلا تعقلون } فتدعون المحال ، { هاأنتم } يا { هؤلاء } الحمقى { حاججتم فيما لكم به علم } من أمر محمد - عليه الصلاة والسلام - ونبوته ، مما وجدتموه في التوراة والإنجيل ، فأنكرتموه عناداً وحسداً ، فَلِمَ تجادلون فيما لا علم لكم به ، ولا ذكر في كتابكم من شأن إبراهيم؟ { والله يعلم } ما خصمتم فيه ، { وأنتم لا تعلمون } ، بل أنتم جاهلون .
ثم صرّح بتكذيب الفريقين فقال : { ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً } مائلاً عن العقائد الزائفة ، { مسلماً } منقاداً لأحكام ربه . وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام ، وإلا لكان مشترك الإلزام ، لأن دين الإسلام مؤخر أيضاً ، فكان إبراهيم إمام الموحدين ، { وما كان من المشركين } كما عليه اليهود والنصارى والمشركون . ففيه تعريض بهم ، ورد لادعائهم أنهم على ملته .
ثم ذكر مَنْ أولى الناس به ، فقال : { إن أولى الناس بإبراهيم } أي : أخصهم به وأقربهم منه ، { للذين اتبعوه } من أمته في زمانه ، { وهذا النبيّ } محمد صلى الله عليه وسلم ، { والذين آمنوا } ؛ لموافقتهم له في أكثر الأحكام ، قال صلى الله عليه وسلم : " لكُلِّ نَبيَ وُلاة مِنَ النَّبيِّينَ ، وإنَّ وَلِيِّي منهم أبِي وَخَلِيل ربِّي " يعني إبراهيم عليه السلام ، { والله ولي المؤمنين } أي : ناصرهم على سائر الأديان ، ومجازيهم بغاية الإحسان .
الإشارة : ترى كثيراً من المتفقرة يخصون الكمال بطريقهم ، ويخاصمون في طريق غيرهم ، وهي نزعة أهل الكتاب ، حائدة عن الرشد والصواب ، فأولى بالحق من اتبع السنة المحمدية ، وتخلق بالأخلاق المرضية ، وزهد في الدارين ، ورفع همته عن الكونين ، ورفع حجاب الغفلة عن قلبه ، حتى أشرقت عليه أنوار ربه ، واتصل بأهل التربية النبوية ، فزجوا به في بحار الأحدية ، ثم ردوه إلى مقام الصحو والتكميل ، فيا له من مقام جليل ، فهذه ملة إبراهيم الخليل ، وبها جاء الرسول الجليل حبيب الرحمن ، وقطب دائرة الزمان ، سيد المرسلين ، وإمام العارفين ، ورسول رب العالمين ، صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين .
(1/291)

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
قلت : { لو } : مصدرية ، أي : تمنوا إضلالكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لبعض المسلمين - وهم حذيفة وعمار ومعاذ - دعاهم اليهود إلى دينهم وطمعوا فيهم : { ودت طائفة } أي : تمنت طائفة { من أهل الكتاب لو يُضلونكم } أي : يفتنونكم عن دينكم ، ويتلفونكم عن طريق الحق ، { وما يُضلون إلا أنفسهم } ؛ لأن المسلمين لا يقبلون ذلك منهم ، فرجع الضلال عليهم ، وعاد وباله إليهم ، وتضاعف عذابه عليهم ، { وما يشعرون } أن وباله راجع إليهم .
ثم صرّح الحق تعالى بعتابهم ، فقال : { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } المنزلة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتجحدون رسالته؟ { وأنتم تشهدون } أنها من عند الله ، وأنه نبيّ الله ، وهو منعوت عندكم في التوراة والإنجيل ، والمراد أحبارهم ، أو تشهدون أنه نبيّ الله بالمعجزات الواضحات . { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل } بالتحريف وإبراز الباطل في صورة الحق ، حتى كتمتم نعت محمد وحرفتموه ، وأظهرتم موضعه الباطل الذي سولت لكم أنفسكم؟ { وتكتمون الحق } ؛ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، { وأنتم تعلمون } أنه رسول الله حقّاً وأن دينه حق ، أو : وأنتم عالمون بكتمانكم .
الإشارة : ترى كثيراً من أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين ، وممن ينتسب لهم ، إذا رأوا من ظهر بالخصوصية في زمانهم يتمنون إضلالهم وإطفاء أنوارهم ، خوفاً على زوال رئاستهم ، { وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون } ، { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ الصف : 8 ] ، وهذه نزعة يهودية سببها الحسد ، والحسود لا يسود ، وبعضهم يتحقق بخصوصية غيرهم ، فيكتمها وهو يشهد بصحتها ، فيقال لهم : { لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } ؟ و { لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } ؟
(1/292)

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
قال الحسن والسدي : تواطأ اثنا عشر رجلاً من يهود خيبر - يعني من أحبارهم - وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان لا بالاعتقاد ، واكفروا به آخره ، وقولوا : نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمداً ليس بذلك ، وظهر لنا كذبه ، وإنما نفعل ذلك حتى نشكك أصحابه . ه . فحذَّر الله المسلمين من قولهم ، فقال جلّ جلاله : { وقالت طائفة من أهل الكتاب } يعني : أحبارهم : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } وأظهروا الدخول في دينهم ، { وجه النهار وكفروا آخره } وقولوا : نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فلم نجد محمداً بالنعت الذي في التوراة ، لعل أصحابه يشكون فيه - لعنهم الله وأضلّ سعيهم .
وقيل : نزلت في شأن الكعبة ، فإنَّ كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف - من اليهود - قالا لأصحابهما : صلّوا معهم إلى الكعبة أول النهار ، ثم صلّوا إلى الصخرة آخره ، لعلهم يقولون : هم أعلم منا ، وقد رجعوا ، فيرجعون ، ففضحهم الله وأبطل حيلهم الواهية .
الإشارة : ترى كثيراً من الناس يدخلون في طريق القوم ، ثم تثقل عليهم أعباؤها ، فيخرجون منها؛ إما لضعفهم عن حملها ، أو لكونهم دخلوا مختبرين لها ، أو على حرف أو حيلة لغيرهم ، فإذا رجع أحد منهم قال الناس : لو كانت صحيحة ما رجع فلان عنها ، ويصدون الناس عن الدخول فيها والدوام عليها ، وهذه نزعة إسرائيلية ، قالوا : آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون وقد قال عليه الصلاة والسلام : " لتَسْلُكن سَنَنَ مَنْ قَبْلكم شِبْراً ، وذِرَاعاً بذرَاع ، حتى لَوْ دَخلُوا جُحْر ضَبٍّ لدخلْتُموه ، قالوا : اليَهُود والنًّصَارَى؟ قال : نعم ، فَمنْ إذن " وبالله التوفيق .
(1/293)

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
قلت : يحتمل أن يكون قوله : { أن يؤتى } : مفعولاً ب { تؤمنوا } ، و { قل إن الهدى هدى الله } : اعترض ، واللام في " لمن " صلة ، { أو يحاجوكم } : عطف على { يؤتى } ، والتقدير : ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، إلا من كان على دينكم ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم ، بل أنتم تحاجون غيركم . فردَّ الله عليهم { قل إن الهدى هدى الله } ، و { إن الفضل بيد الله } . ويحتمل أن يكون قوله : { أن يؤتى } مفعولاً لأجله ، والعامل فيه محذوف ، التقدير : أدبَّرتم ما دبرتم كراهية أن يؤتى أحد ما أوتيتم ، ومخافة أن يحاجوكم عند ربكم؟ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكياً عن اليهود : { و } قالوا { لا تؤمنوا } أي : لا تقروا أو تصدقوا { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } من العلم والحكمة وفلق البحر وسائر الفضائل ، { إلا لمن تبع } دين اليهودية ، وكان على { دينكم } ، ولا تؤمنوا أن { يحاجوكم عند ربكم } ؛ لأنكم أصح ديناً منهم . قال الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم : { إن الهدى هدى الله } يهدي به من يشاء ، و { إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقالوا : لا تصدقوا ولا تذعنوا { إلا لمن تبع دينكم } وكان من جلدتكم ، فإن النبوة خاصة بكم . فكذبهم الحق بقوله : { قل إن الهدى هدى الله } ، يخص به من يشاء من عباده ، فكيف تحصرنها فيكم؟ لأجل { أن يُؤْتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم } قلتم ما قلتم ، ودبرتم ما دبرتم ، حسداً وبغياً ، { أو } خوفاً أن { يحاجوكم عند ربكم } ، يغلبوكم بالحجة لظهور دينهم ، { قل } يا محمد : { إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } ؛ فلا ينفع في رده حيلة ولا خدع .
أو يقول الحقّ جلّ جلاله : للمؤمنين ، تثبيتاً لهم وتشجيعاً لقلوبهم : ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين أن يعطي أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين القويم إلا من تبع دينكم الحق ، وجاء به من عند الحق ، ولا تصدقوا { أن يحاجوكم } في دينكم { عند ربكم } أو يقدر أحد على ذلك ، فإن الهدى هدى الله والفضل بيد الله ، { يؤتيه من يشاء والله واسع } الفضل والكرم ، { عليم } بمن يستحق الخصوصية والفضل ، { يختص برحمته من يشاء } كالنبوة وغيرها ، { والله ذو الفضل العظيم } ؛ لا حصر لفضله ، كما لا حصر لذاته .
الإشارة : يقول الحق - جلت ذاته ، وعظمت قدرته - لأهل الخصوصية : ولا تقروا بالخصوصية إلا لمن كان على دينكم وطريقكم ، وتزيّاً بزيكم ، وبذل نفسه وفلسه في صحبتكم ، مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الخصوصية ، وهو ليس أهلاً لها ، فيأخذها علماً ، فإما أن يتزندق أو يتفسق ، أو يحاجوكم بالشريعة فيريق دماءكم؛ كما وقع للحلاج رضي الله عنه وفي ذلك يقول الشاعر :
ومن شَهِدَ الحَقِيقَةَ فَلْيَصُنْهَا ... وَإِلاَّ سَوْفَ يُقْتلُ بالسَّنَانِ
كَحَلاَّجِ الْمَحَبَّةِ إِذْ تَبَدَّتْ ... لَهُ شَمْسُ الْحَقِيقَةِ بالتَّدَاني
وقال آخر :
بالسِّرِّ إنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ ... وكَذَا دِماءُ البَائِحينَ تُبَاحُ
وقل أيها العارف ، لمن طلب الخصوية قبل شروطها أو أنكر وجودها عند أهل شرطها : إن الهدى هدى الله يهدي به من يشاء - والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والرحمة - التي هي الخصوصية - في قبضة الله ، يخص بها من يشاء ، { والله ذو الفضل العظيم } ؛ فمن أراد الخصوصية فليطلبها من معدنها ، وهم العارفون بها ، فيبذل نفسه وفلسه لهم حتى يُعرفوه بها . وبالله التوفيق .
(1/294)

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
قلت : الباء في { بقنطار } ، بمعنى على ، و { يؤده } : جواب الشرط مجزوم بحذف الياء ، ومن قرأ بإسكان الضمير فلأنه أقامه مقام المحذوف ، فجزمه عوضاً عنه ، وقال الفراء : مذهب بعض العرب : يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها ، يقولون : ضربته ضرباً شديداً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن أهل الكتاب } من أسلم وآمن فصار من أهل الإيمان { إن تأمنه } على { قنطار } من المال أو أكثر أداه إليك ، ولم يخن منه شيئاً . وفي الحديث : " من ائتمن على أمانة فأداها ، ولو شاء لم يؤدها ، زوجه الله من الحور العين ما شاء " { ومنهم } من بقي على دينه من أهل الخيانة والخسران ، { إن تأمنه } على { دينار } فأقل { لم يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً } على رأسه ، مبالغاً في مطالبته . نزلت في عبد الله بن سلام ، استودعه قرشي ألفاً ومائتي أوقية ذهباً ، فأداها إليه ، وفي فنحاص بن عازوراء اليهودي ، استودعه قرشي آخر ديناراً ، فجحده . وقيل : في النصارى واليهود ، فإن النصارى : الغالب عليهم الأمانة ، واليهود الغالب عليهم الخيانة .
وذلك الاستحلال بسبب أنهم { قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } أي : ليس علينا في شأن من ليسوا أهل كتاب ، ولم يكونوا على ديننا ، حرج في أخذ مالهم وجحدها ، ولا إثم ، { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } أنهم كاذبون؛ لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم ، وقالوا : لم يجعل لهم في التوراة حرمة .
وقيل : عَاملَ اليهودُ رجلاً من قريش ، فلما أسلموا تقاضوهم ، فقالوا : سقط حقكم حيث تركتم دينكم . وقال صلى الله عليه وسلم : " كَذَبَ أَعْدَاءُ اللّهِ ، مَا مِنْ شَيءٍ فِي الجاهِلية إلاّ وَهُو تَحْتَ قَدَمَي ، إِلاَّ الأمَانَةَ فإِنهَا مُؤداةٌ إلى الْبَر والفَاجِر " .
ثم كذَّبهم الحقّ - تعالى - فقال : { بلى } ؛ عليهم في ذلك سبيل ، فإن { من أوفى بعهده واتقى } الشرك والمعاصي { فإن الله يحب المتقين } ومن أحبّه الله كيف يباح ماله وتسقط حرمته؟! بل من أسقط حرمته فقد حارب الله ورسوله ، أو { من أوفى } ، بعهد الله من أهل الكتاب ، فآمن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - { واتقى } الخيانة ، وأدى الأمانة ، { فإن الله يحب المتقين } . وأوقع المظهر موقع الضمير العائد إلى " من "؛ لعمومه ، فإن لفظ المتقين عام يصدق برد الودائع وغيره ، إشعاراً بأن التقوى ملاك الأمر وسبب الحفظ . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد رأينا بعض الفقراء دخل بلد الحقيقة فسقطت من قلبه هيبة الشريعة ، فتساهل في أموال الناس وسقطت لديه حرمة العباد ، حتى لا تثق به في حفظ مال ولا أهل ، فإذا أودعته شيئاً أو قارضته لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً . وهذه زندقة ونزعة إسرائيلية . لا يرضاها أدنى الناس ، فما بالك بمن يدعي أنه أعلى الناس ، وفي بعض الحكم : [ كَمَالُ الديانة ترك الخيانة ] ، وأعظم الإفلاس خيانة الناس ، وفي الحديث : " ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُواَ مُنَافقٌ ، وإنْ صَلَّى وإن صَامَ وزَعم أنه مُؤْمن ، إذ حدَّثّ كَذَبَ ، وإذا وعَدَ أَخْلَفَ ، وإذا ائتُمِنَ خَانَ " فإذا احتج لنفسه الأمارة ، وقال : لا سبيل علينا في متاع العوام ، فقد خلع من عنقه ربقة الإسلام ، واستحق أن يعلو مفرقه الحُسام . والله تعالى أعلم .
(1/295)

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين يشترون بعهد الله } أي : يستبدلون بالوفاء بعهد الله كالإيمان بالرسول - عليه الصلاة والسلم - الذي أخذ على بني إسرائيل في التوراة وبيان صفته ، وأداء الأمانة ، فكتموا ذلك واستبدلوا به { ثمناً قليلاً } ؛ حطاماً فانياً من الدنيا ، كانوا يأخذونه من سفلتهم ، فخافوا إن بيَّنوا ذلك زال ذلك عنه ، وكذلك الأيمان التي أخذها الله عليهم لئن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه ، فنقضوها ، خوفاً من زوال رئاستهم ، فاستبدلوا بالوفاء بها ثمناً فانياً ، { أولئك لا خلاق لهم } أي : لا نصيب لهم ، { في الآخرة ، ولا يكلمهم الله } بما يسرهم ، أو بشيء أصلاً ، وإنما الملائكة تسألهم ، { ولا تنظر إليهم يوم القيامة } نظرة رحمة ، بل يعرض عنهم ، غضباً عليهم وهواناً بهم ، { ولا يزكيهم } ؛ لا يطهرهم من ذنوبهم ، أو لا يُثني عليهم ، { ولهم عذاب أليم } أي : موجع .
قال عكرمة : نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحُيي بن أخطب ، وغيرهم من رؤساء اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيان صفته ، فكتموا ذلك وكتبوا غيره ، وحلفوا أنه من عند الله ، لئلا يفوتهم الرشا من أتباعهم .
وقال الكلبي : إن ناساً من علماء اليهود كانوا ذا حظ من علم التوراة ، فأصابتهم سنة ، فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه ، أي : يطلبون منه الميرة - وهو الطعام - ، فقال لهم كعب : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول في كتابكم؟ قالوا : نعم ، أو ما تعلمه أنت؟ قال : لا ، قالوا : فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله ، قال كعب : لقد قدمتم عليَّ ، وأنا أريد أن أميركم وأكسوكم ، فَحَرَمَكُم الله خيراً كثيراً ، قالوا : فإنه شُبه لنا ، فرُوَيْداً حتى نلقاه ، فانطلقوا ، فكتبوا صفة غير صفته ، ثم أتوا نبيّ الله - عليه الصلاة والسلام - فكلموه ، ثم رجعوا إلى كعب ، فقالوا : قد كنا نرى أنه رسول الله ، فأتيناه فإذا هو ليس بالنعت الذي نُعت لنا ، وأخرجوا الذي كتبوه ، ففرح كعب ، ومارهم . فنزلت الآية . قلت : انظر الطمع ، وما يصنع بصاحبه والعياذ بالله .
وقيل : نزلت في رجل أقام سلعته في السوق ، وحلف لقد أعطى فيها كذا وكذا ، وقيل : نزلت في الأشعث بن قيس ، كانت بينه وبين رجل خصومة ، فتوجهت اليمين على الرجل ، فأراد أن يحلف . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد أخذ الله العهد على الأرواح ألا يعبدوا معه غيره ، ولا يميلوا إلى شيء سواه ، فكل من مال إلى شيء ، أو ركن بالمحبة إلى غير الله ، فقد نقض العهد مع الله ، فلا نصيب له في مقام المعرفة ، ولا تحصل له مشاهدة ولا مكالمة حتى يثوب ويتوجه بكليته إلى مولاه . والله - تعالى أعلم .
(1/296)

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن من أهل الكتاب لفريقاً } ، وهو كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، ومالك بن الصيف ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عامر ، { يلوون } أي : يفتلون { ألسنتهم بالكتاب } أي : التوراة عند قراءته ، فيميلون عن المنزل إلى المُحرف ، { لتحسبوه من الكتاب } أي : لتظنوا أن ذلك المحرف من التوراة ، { وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب } فيما نسبوا إليه ، { وهم يعلمون } أنه ليس من عند الله .
قال ابن عباس : نزلت في اليهود والنصارى جميعاً ، حرفوا التوراة والإنجيل ، وألحقوا به ما ليس منه ، وأسقطوا منه الدين الحنيف ، فبيَّن الله كذبهم ، وقيل : في الرجم ، حيث كتموا الرجم ، وألقى قارئ التوراة يده على آية الرجم ، وقرأ ما حولها ، فقال له ابنُ سلام : ارفع يديك ، فإذا آية الرجم تلوح . والله أعلم .
الإشارة : هذه الآية تنسحب على علماء السوء ، الذي يفتون بغير المشهور ، لحظ يأخذونه من الدنيا ، وعلى قضاة الجور الذين يحكمون بالهوى ، ويعتمدون على الأقوال الواهية ، ويقولون هو من عند الله ، وما هو من عند الله .
وكذلك بعض المنتسبين من الفقراء ، يتصنعون إلى العامة ، يطمعون فيما في أيديهم من الحطام ، فيظهرون لهم علوماً ومعارف وحكماً ، يلوون ألسنتهم بها وقلوبهم خاوية من معناها ، فظاهر حالهم يُوهم أن ذلك موافق لقلوبهم ، وأنهم عاملون بذلك ، وباطنهم يكذبهم في ذلك ، { وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البَقَرَة : 213 ] .
(1/297)

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
قلت : البشر : اسم جمع لا مفرد له ، يطلق على الجماعة والواحد . والرباني : هو الذي يُربي الناس ويؤدبهم ويُهذبهم بالعلم والعمل . وقال ابن عباس : ( هو الذي يُربي الناس بصغار العلم قبل كباره ) ، والنون فيه للمبالغة ، كلحياني ورقباني . و { ولا يأمركم } بالرفع ، استئناف ، وبالنصب : عطف على { يقول } ، و { لا } مزيدة : أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثم يأمر بعبادة نفسه ، ويأمر باتخاذ الملائكة أرباباً . أو غير مزيدة ، والتقدير : ليس له أن يأمر بعبادته ولا باتخاذ الملائكة أرباباً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ما كان } ينبغي { لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحُكْمَ } أي : الفصل بين العباد ، { والنبوة } أي : الوحي بالأحكام ، { ثم يقول } بعد ذلك { للناس كونوا عباداً لي من دون الله } أو مع الله ، أو يرضى أن يُعبد من دون الله ، { ولكن } يقول لهم : { كونوا ربانيين } أي : علماء بالله ، فقهاء في دينه ، حلماء على الناس ، تُربون الناس بالعلم والعمل والهمة والحال ، بسبب { ما كنتم تعلمون } من كتاب الله { وبما كنتم تدرسون } منه ، أو { بما كنتم تُعَلِّمُون } الناس من الخير بكتاب الله ، وما كنتم تدرسونه عليهم . ولما مات ابن عباس - رضي الله عنهما - قال محمد ابن الحنيفة : ( مات ربَّاني هذه الأمة ) .
{ ولا يأمركم } ذلك البشر الذي خصه الله بالنبوة ، { أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } من دون الله ، { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } أي : مناقدون لأحكام الله . قيل : سبب نزول الآية : أن نصارى نجران قالوا : يا محمد؛ تريد أن نعبدك ونتخذك ربّاً؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غيرَ الله ، أو نَأمُرَ بعبادة غيره " وقيل : إن رجلاً قال : يا رسول الله : نُسلِّم عليك كما يُسلِّم بعضُنا على بعض ، أفلا نسجُد لك؟ فقال : " لا يَنْبَغِي ان يسجد احدٌ لأحدٍ من دُونِ اللهِ ، ولكنْ أكْرِموا نَبِيَّكُمْ ، واعْرِفُوا الحقَّ لأَهْلِه " .
الإشارة : ما زال الفقراء يعظمون أشياخهم ، ويبالغون في ذلك حتى يُقبِّلون أرجلهم والترابَ بين أيديهم ، ويجتهدون في خدمتهم ، فإذا رءاهم الأشياخ فعلوا ذلك سكتوا عنهم ، لأن ذلك هو ربحهم وسبب فتحهم ، وفي ذلك قال القائل :
بذَبْح النفوس وحط الرؤوس تُصفى الكؤوس ... لكنهم يرشدونهم إلى الحضرة ، حتى يفنوهم عن شهود الواسطة ، فيكون تعظيمهم وحط رأسهم إنما هو لله لا لغيره ، وحينئذٍ يكونون ربانيين ، علماء بالله مقربين ، وكان شيخنا يقول : لا تزوروني على أني شيخكم ، ولكن اعرفوا فينا ، وافنوا عن رؤية حسناً ، حتى يكون التعظيم إنما هو لله ربنا . ه . فدلالة الأشياخ للفقراء على التعظيم والأدب ليس ذلك مقصوداً لأنفسهم ، وحاشاهم من ذلك . ما كان لبشر أن يؤتيه الله الخصوصية ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ، ولكن يقول لهم : كونوا ربانيين عارفين بالله ، حتى يكون تعظيمكم إنما هو لله ، ولا يأمر أيضاً بالفرق حتى يتخذوا الأشياء أرباباً من دون الله ، ولكن يأمر بالجمع حتى يغيبوا عما سوى الله ، وكيف يأمرهم بالفرق ، وهو إنما يدلهم على الجمع؟ أيأمرهم بالكفر بعد أن كانوا مسلمين . ولله تعالى أعلم .
(1/298)

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
قلت : اللام في { لما } ، موطئة للقسم؛ لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف ، و { ما } : يحتمل الشرطية ، و { لتؤمنن } : جواب القسم ، سد مسد الجواب ، أي : مهما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول الله لتؤمنن به . ويحتمل الموصولية ، و { لتؤمنن } : خبر عنه ، وحذف شرط يدل على السياق؛ أي : للذي آتيناكم من كتاب وحكمة ، ثم إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به . ومن قرأ بكسر اللام كان تعليلاً للأمر بالإيمان بالرسول ، أي : لأجل الذي خصصتكم به إذا جاءكُمْ رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، وإذا كان أخذ الله الميثاق على الأنبياء كان على الأتباع أولى ، أو استغنى بذكر الأنبياء عن ذكر أتباعهم؛ لأنهم في حكمهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { إذ أخذنا } الميثاق على النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام . وقلنا لهم : والله للذي خصصتكم به { من كتاب وحكمة } ، ثم إن ظهر رسول { مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } أنتم وأممكم ، أو : لأجل الذي خصصتكم به مما تقدم لئن أدركتم محمداً لتؤمنن به ولتنصرنه . قال سيدنا عليّ - كرّم الله وجهه - : ( لم يبعث اللّهُ نبيّاً ، آدم ومن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد ، وأمره بأخذ العهد على قومه ليُؤْمنُنَّ به ، ولئن بُعث وهم أحياءٌ لينْصُرُنَّه ) .
{ قال } الحقّ جلّ جلاله لمن أخذ عليهم العهد : { أأقرتم } بذلك وقبلتموه ، { وأخذتم على ذلكم إصري } أي : عهدي وميثاقي؟ { قالوا أقررنا } وقبلنا ، { قال فاشهدوا } على أنفسكم ، أو ليشهدْ بعضكم على بعض بالإقرار ، أو فاشهدوا يا ملائكتي عليهم ، { وأنا معكم من الشاهدين } ، وفيه توكيد وتحذير عظيم ، { فمن تولى بعد ذلك } الإقرار والشهادة ، وأعرض عن الإيمان به ، ونصره بعد ظهوره ، { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن الإيمان المتمردون في الكفران .
الإشارة : كما أخذ الله العهد على الأنبياء وأممهم في الإيمان به عليه الصلاة والسلام ، أخذ الميثاق على العلماء وأتباعهم من العامة ، لئن أدركوا وليّاً من أولياء الله ، حاملاً لواء الحقيقة ، مصدقاً لما معهم من الشريعة ، ليؤمنن به ولينصرنه ، من تولى وأعرض عن الإذعان إليهم فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن دائرة الولاية ، محرومون من سابق العناية ، فإن الحقيقة إنما هي لب الشريعة وخلاصتها ، فإنما مثل الحقيقة والشريعة كالروح للجسد ، فالشريعة كالجسد ، والحقيقة كالروح ، فالشريعة بلا حقيقة جسد بلا روح ، والحقيقة بلا شريعة روح بلا جسد ، فلا قيام لهذا إلا بهذا ، فنم تشرَّع ولم يتحقَّق تفسق ، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق ، ومن خرج عنهما فقد خرج عن دين الله وطلب غيره ، وإليه توجه الإنكار .
(1/299)

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قلت : { أفغير } : مفعول مقدم ، و { يبغون } : معطوف على محذوف ، أي : أتتولون فتبغون غير دين الله ، وقدم المعمول؛ لأنه المقصود بالإنكار ، و { طوعاً وكرهاً } : حالان ، أي : طائعين أو كارهين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : للنصارى واليهود ، لمَّا اختصموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وادعوا أن كل واحد على دين إبراهيم ، فقال لهم - عليه الصلاة والسلام : " كِلاكما بَرِيءٌ مِنْ دِينه ، وأنا على دِينه ، فخذوا به " ، فغضبوا ، وقالوا : والله لا نرضى بحكمك ولا نأخذ بدينك ، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله - منكراً عليهم - : أفتبغون غير دين الله الذي ارتضاه لخليله وحبيبه ، وقد انقاد له تعالى { من في السماوات والأرض } طائعين ومكرهين ، فأهل السموات انقادوا طائعين ، وأهل الأرض منهم من انقاد طوعاً بالنظر واتباع الحجة أو بغيرها ، ومنهم من انقاد كرهاً أو بمعاينة ما يُلجئ إلى الإسلام؛ كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت ، أو : " طوعاً " كالملائكة والمؤمنين ، فإنهم انقادوا لما يراد منهم طوعاً ، { وكرهاً } كالكفار فانقادوا لما يراد منهم كرهاً ، وكلٍّ إليه راجعون ، لا يخرج عن دائرة حكمه ، أو راجعون إليه بالبعث والنشور . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الدين الحقيقي هو الانقياد إلى الله في الظاهر والباطن ، أما الانقياد إلى الله في الظاهر فيكون بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وأما الانقياد إلى الله في الباطن فيكون بالرضى بحكمه والاستسلام لقهره . فكل من قصَّر في الانقياد في الظاهر ، أو تسخط من الأحكام الجلالية في الباطن ، فقد خرج عن كمال الدين ، فيقال له : أفغير دين الله تبغون وقد انقاد له { من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً } ، فإما أن تنقاد طوعاً أو ترجع إليه كرها . وفي بعض الآثار يقول الله تبارك وتعالى : " منْ لم يَرْضَ بقضائي ولم يَصْبِرْ على بَلائِي ، فليخرجْ من تحت سَمَائي ، وليتخذْ ربّاً سِوَاي " .
وسبب تبرّم القلب عن نزول الأحكام القهرية مرضُه وضعف نور يقينه ، فكل من استنكف عن صحبة الطبيب ، فله من هذا العتاب حظ ونصيب ، فالأولياء حجة الله على العلماء ، والعلماء حجة الله على العوام ، فمن لم يستقم ظاهره عُوتب على تفريطه في صحبة العلماء ، ومن لم يستقم باطنه عاتبه الله تعالى على ترك صُحبة الأولياء ، أعني العارفين . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/300)

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
قلت : { أُنزل } : يتعدى بإلى؛ لأنه ينتهي إلى الرسل ، ويتعدى بعلى ، لأنه يأتي من ناحية الحلو والاستعلاء ، وفرَّق بعضهُم بين التعبير هنا بعلى وفي البقرة بإلى ، فقال : لأن الخطاب هنا للرسول بالخصوص ، وقد أنزل عليه الوحي مباشرة ، وهناك الخطاب للمسلمين ، وإنما أنزل الوحي متوجهاً إليهم بالواسطة ، ولم يكن عليهم بالمباشرة . والله تعالى أعلم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد لأهل الكتاب الذين فرقوا في إيمانهم بين الرسل : أما نحن فقد آمنا بالذي { أنزل علينا وما أنزل } على جميع الأنبياء والرسل { لا نفرق بين أحد منهم } كما فرَّقتم أنتم ، فَضَلَلْتُم ، { ونحن له مسلمون } أي : منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة ، أو مخلصون في أعمالنا كلها ، وقدَّم المنزل علينا على المنزل على غيرنا ، لأنه عيار عليه ومُعَرَّفٌ به . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي للفقير أن يبالغ في تعظيم شيخه ، ويسوغ له التغالي في شأنه ما لم يخرجه عن طَوْر البشر ، وما لم يؤد ذلك إلى إسقاط حُرمة غيره من الأولياء بالتنقيص أو غيره ، فحرمة الأولياء كحرمة الأنبياء ، فمن فرّق بينهم حُرِم بركة جميعهم . وبالله التوفيق .
(1/301)

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
قلت : { وشهدوا } : عطف على ما في { إيمانهم } من معنى الفعل ، والتقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لرجال من الأنصار ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة ، منهم الحارث بن سويد الأنصاري : { ومن } يطلب { غير الإسلام ديناً } يتدين به { فلن يُقبل منه } أبداً ، { وهو في الآخرة من الخاسرين } ؛ لأنه أبطل الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها ، واستبدلها بالتقليد الرديء ، بعد أن عاين سواطع البرهان ، وشهدت نفسه بالحق والبيان ، ولذلك وقع التعجب والاستبعاد من هدايته فقال : { كيف يهدي الله قوماً كفروا } بعد أن آمنوا ، { وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات } أي : المعجزات الواضحات ، فإن الحائد عن الحق بعدما وضح ، منهمك في الضلال ، بعيد عن الرشاد ، فقد ظلم نفسه وبخسها ، { والله لا يهدي القوم القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ، ووضعوا الكفر موضع الإيمان ، ولعل هذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء .
(1/302)

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أولئك } المرتدون عن الإسلام - { جزاؤهم } : أن تلعنهم الملائكة والناسُ أجمعون ، مؤمنُهم وكافرهم ، لأن الكافر يلعنُ من ترك دين الحق ، وإن كان لا يشعر بمن هو على الحقّ . { خالدين } في اللعنة ، أو في النار ، لدلالة السياق عليها ، أو في العقوبة . { لا يخفّف عنهم العذاب } ساعة ، ولا هم يُمهلون عنها لحظة .
ثم إنَّ الحارث نَدِم ، وأرسل إلى قومه أن اسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، هل لي من توبة؟
(1/303)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
يقول الحقّ جلّ جلاله : إلا مَن تاب من بعد الردة ، فأسلم وأصلح ما أفسد ، { فإن الله غفور } له فيما فعل ، { رحيم } به حيث تاب .
ولمّأ نزلت الآية حملها إليه رجلٌ من قومه وقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك ولله فيما علمت لصدوق ، وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله - تعالى - لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث إلى المدينة ، فأسلم وحَسُن إسلامُه .
الإشارة : كل مَن ابتغى الخصوصية من غير أهلها ، أو ادعاها ولم يأخذْها من معدنها ، فلن تُقبل منه ، وهو عند القوم من الخاسرين في طريق الخصوص ، فكل من لا شيخ له في هذا الشأن فهو لقيط ، لا أب له ، دَعِيٍّ ، لا نسب له .
والمراد بأهلها : العارفون بالله ، أهلُ الفناء والبقاء ، أهل الجذب والسلوك ، أهل السكر والصحو ، الذين شربوا الخمر فسكروا ثم صحوا وتكملوا ، فمعدنُ الخصوصية عند هؤلاء ، فكل من لم يصحبهم ولم يشرب من خمرتهم ، لا يُقتدى به ، ولو بلغ من الكرامة ما بلغ ، وأخسرُ مِنْ صحب أهل هذه الخمرة ، وشهد بأن طريقهم حق ، ثم رجع عنها ، فهذا مغبون ملعون عند كافة الخلق ، أي : مطرود عن شهود الحق ، إلا مَن تاب ورجع إلى صحبتهم والأدب معهم ، فإن الله غفور رحيم .
(1/304)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين } ارتدوا عن الإيمان { ثم ازدادوا } في الكفر ، وقالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، { لن تقبل توبتهم } أي : لا توبة لهم فتقبل ، لأنه سبق لهم الشقاء ، أو لأنهم لا يتوبون إلا عند الغرغرة ، أو { لن تقبل توبتهم } ما داموا على كفرهم . { وأولئك هم الضالون } المنهمكون في الضلالة .
قيل : نزلت في أصحاب الحارث بن سويد المتقدم ، وكانوا أحد عشر رجلاً ، لما رجع الحارثُ قالوا : نقيم بمكة على الكفر ما بَدا لنا ، فمتى أردنا الرجعة رجعنا ، فلما افتتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة ، دخل في الإسلام بعضُهم ، فقُبلت توبته ، وبقي من بقي على كفره ، فنزلت الآية فيهم . وقيل : نزلت في اليهود ، كفروا بعيسى بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : نزلت في النصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بعيسى ، { ثم ازدادوا كفراً } بإصرارهم عليه . وقيل : نزلت في الفريقين معاً ، كفرا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل ظهوره ، { ثم ازدادوا كفراً } بتمردهم فيه ، وتماديهم على المعاصي . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن من دَخَل طريق التربية ، وأخذ في تهذيب نفسه وتطهيرها من المساوئ وأوساخ الحس ، ثم غلبته القهرية ورجع عنها ، فإن تاب قريباً ورجع إليها سهل عليه الرجوع ، ورجى نجحه وقبلت توبته ، وإن استمر على رجوعه عنها حتى ألفت نفسه البطالة؛ لن ترجى توبته وصار من الضالين ، فمثله كآنية ، فرَّغت منها لبناً أو عسلاً ، وعَمَرْتها بالقطران ، فإن بادرت بإهراقه منها قريباً سهل غسلها ، وإن أمهلتها حتى صبغ فيها عَسُر غسلها ، وتعذب زوال راحته منها . [ فإن مات على رجعته فلا يحشر في الآخرة مع أهل هذه الرفقة ، ولو شفع فيه ألف عارف ، بل من كمال المكر به أن يلقى شبهه في الآخرة على غيره ، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو ، فلا يخطر بباله أنه يشفع فيه ] . قاله القشيري .
قال المحشي : وما ذكره ربما ينظر إلى قضية الخليل مع أبيه ، حين يلقاه وعليه القترة ، فيريد الشفاعة له ، فيمسخ ذيخاً متلطخاً - أي : خنزيراً - فينكره ، كما في الحديث الصحيح ، فتذكر واعتبر . ه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/305)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
قلت : { ذهباً } : تمييز ، و { لو افتدى به } : محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً ، أو عطف على محذوف ، أي : فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً لو تقرب به في الدنيا ، ولو افتدى به من العذاب في الآخرة . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين كفروا } ، واستمروا على كفرهم حتى ماتوا ، { يقبل } منهم فدية ، ولو افتدوا بملء الأرض ذهباً ، بل يحصل لهم الإياس من رحمة الله ، { أولئك لهم عذاب أليم } ؛ فلا ينفعهم فداء منه ولا شفاعة ولا حميم ، { وما لهم من ناصرين } ينصروهم من عذاب رب العالمين .
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " يُجَاءُ بالكَافِر ، يومَ القيامةِ ، فيُقال له : أرأيتَ لو كان لكَ ملءُ الأرض ذهباً - أكنْتَ مفتدِياً به؟ فيقولُ : نعم ، نعم ، فيُقال له : قد سُئلْتَ ما هو أيسرُ من ذلك " يعني : لا إله إلا الله : ثبتنا الله عليها إلى الممات عالمين بها . آمين .
الإشارة : كل من كفر بطريق أهل الخصوصية ، وحرم نفسه من دخول الحضرة القدوسية ، واستمر على كفرانه إلى الممات ، فلا شك أنه يحصل له الندم وقد زلّت به القدم ، لأنه مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر ، فإذا حشر مع عوام المسلمين ، وسَكَن في رَبضِ الجنة مع أهل اليمين ، ثم رأى منازل المقربين في أعلى عليين ، ندم وتحسر ، وقد غلبه القدر ، فلو اشترى المُقَام معهم بملء الأرض ذهباً ما نفعه ذلك ، فيمكث في غمّ الحجاب وعذاب القطيعة هنالك ، مقطوع عن شهود الأحباب على نعت الكشف والبيان ، ممنوع عن الشهود والعيان . وبالله التوفيق .
(1/306)

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
قلت : البرّ : كمال الطاعة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لن تنالوا } كمال الطاعة والتقرب { حتى تنفقوا مما تحبون } ، أو : لن تنالوا برَّ الله الذي هو الرضى والرضوان ، { حتى تنفقوا } بعض ما { تحبون } من المال وغيره ، كبذل الجاه في معاونة الناس ، إن صحبه الإخلاص ، وكبذل البدن في طاعة الله ، وبذلك المهج في سبيل الله . ولمّا نزلت الآية جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، إن أحب أموالي إِليَّ بَيْرُحاء - وهو بستان كان خلف المسجد النبوي - وهو صدقة لله ، أرجوا برّها وذخرها ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - " بَخٍ بَخٍ؛ ذَلَكَ مَالٌ رَابحٌ - أو رائح - وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبينَ " فقسمها أبو طلحة في أقاربة .
وجاء زيدٌ بنُ حَارِثَةَ بفرسٍ كان يُحبها ، فقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسولُ الله أسامة ولده ، فقال زيد : إنما أردت أن أتصدق بها ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ قَبِلَهَا " فدلّ ذلك على أن الصدقة على الأقارب أفضل . وأعتقت امرأةٌ جارية لا تملك غيرها ، كانت تحبها ، واشترطت عليها أن تقيم معها ، فلما عُتِقَتْ ، ذهبت ، فقال لها عليه الصلاة والسلام : " دعيها فقد حجَبْتِك عن النار " .
وأمر عمر بن الخطاب بشراء جارية من سبي العراق ، فلما جيء بها ، ورآها عمرُ أعجبْته غايةً ، فقال : إن الله تعالى يقول : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، فأعتقها . وذكر ابن عمر هذه الآية ، فلم يجد عنده أحبَّ من جارية كانت عنده ، يطؤها فأعتقها ، وقال : لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها . وكان الربيع يعطي للسائل إذا وقف في بابه السكر ، فإذا قيل له في ذلك ، قال : إن الربيع يحب السكر .
ثم إن الله - تعالى - يقبل الصدقة من المحبوب أو غيره ، ولذلك قال : { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } ؛ فيجازيكم بحسبه .
الإشارة : ليس للفقير شيء أحبُّ من نفسه التي بين جنبيه ، بل عند جميع الناس ، فمن بذل روحه في مرضاة الله نال رضوان الله ومعرفته ، وهو غاية البر ، فمن أذل نفسه لله أعزه الله ، ومن أفقر نفسه لله أغناه الله ، من تواضع لله رفع ، فبذل النفس لله هو تقديمها لشيخ التربية يفعل بها ما يشاء ، فكل ما يشير به إليه بادر إليه بلا تردد ، فمن فعل ذلك فقد نال غاية البر ، وأنفق غاية ما يُحب ، وكل من بذل نفسه بذل غيرها بالأحرى ، إذ ليس أعز منها ، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
مَا لِي سِوَى رُوحِي ، وباذل نَفْسه ... في حُبّ من يَهْوَاهُ ليس بُمُسْرِفِ
فَلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسْعَفْتَني ... يا خَيْبَةَ الْمَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ
وقال الشيخ أبو عبد الله القرشي : حقيقة المحبة أن تهب كُلَّكَ لمن أحببته ، حتى لا يبقى لك منك شيء . ه . وقال الجنيد رضي الله عنه : لن تناولا محبة الله حتى تسخُوا بأنفسكم لله . ه .
ولما قال عليه الصلاة والسلام لليهود : " أنا على ملة إبراهيم " - كما تقدم - قالوا : كيف تكون على ملة إبراهيم ، وأنت تأكل لحوم الإبل وإلبانها؟ ، وكان ذلك حراماً على إبراهيم .
(1/307)

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
قلت : { إسرائيل } : هو يعقوب عليه السلام .
قول الحقّ جلّ جلاله : { كل الطعام كان } حلالاً على بني إسرائيل ، كما كان حلالاً على الأنبياء كلهم ، { إلا ما حرم إسرائيل } أي : يعقوب ، { على نفسه } ، كلحوم الإبل وألبانها ، قيل : كان به عرق النسا ، فنذر : إن شفاه الله لم يأكل أحب الطعام إليه ، وكان ذلك أحب الطعام إليه . وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء ، فترك ذلك بنوه ولم يحرم عليهم في التوراة ، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم .
فالطعام كله كان حلالاً على بني إسرائيل وعلى الأنبياء كلهم قبل نزول التوراة ، فلما نزلت التوراة حرم الله عليهم أشياء من الطيبات لظلمهم وبغيهم ، فإن ادعوا أن لحوم الإبل كانت حراماً على إبراهيم ، وأن كل ما حرم عليهم كان حراماً على إبراهيم وعلى الأنبياء قبله ، فقل لهم : كذبتم؛ { فأتوا بالتوراة فاتلوها } هل تجدون ذلك فيها؟ { إن كنتم صادقين } في قولكم : إنَّ كل شيء حرم عليكم كان حراماً على إبراهيم ، رُوِيَ : أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال لهم ذلك بهتوا ، ولم يجسروا أن يأتوا بالتوراة ، فتبين افتراؤهم على الله؛ { فمن افترى على الله الكذب } بزعمه أن الله حرَّم لحوم الإبل وألبانها قبل نزول التوراة ، { من بعد ذلك } البيان وإلزامهم الحجة ، { من بعد ذلك } المكابرون بالباطل بعدما وضَح الحق .
{ قل } لهم يا محمد : { صدق الله } فيما أنزل ، وكذبتم فيما قلتم ، فتبين أن ملة إبراهيم هي الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فأسلموا ، واتبعوا { ملة إبراهيم حنيفاً } ، فإن ملة الإسلام موافقة لملة إبراهيم ، أو عينُها ، فادخلوا فيه وتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة ، وألزمَتْكُم تحريمَ طيباتٍ أحلها الله لإبراهيم ومن تبعه ، وقد خالفتم التوراة التي زعمتم أنكم متمسكون بها ، وأشركتم مع الله عزيراً وغيره ، وقد كان إبراهيم حنيفاً مسلماً { وما كان من المشركين } .
قال البيضاوي : فيه إشارة إلى أن اتَّبَاعَهُ - أي : إبراهيم - واجبٌ في التوحيد الصرف والاستقامةِ في الدين ، والتجنب عن الإفراط والتفريط ، وتعريض بشرك اليهود . ه . الإشارة : إذا تحقق للفقير الإخلاص ، وحصل على التوحيد الخاص ، كان الطعام كله حلالاً له ، لأنه يأخذه بالله ، ويتناوله من يد الله ويدفعه لله ، مع موافقة الشريعة ، ولم يغض من أنوار الطريقة؛ بحيث لا يصحبه شرهٌ ولا طمعٌ . وكان عبد الله بن عمر يقول : كُلْ ما شئت ، والبَسْ ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف أو مخيلة . ه .
وإنما امتنعت العباد والزهَّادُ من تناول الشهوات المباحات خوفاً على أنفسهم أن تجمح بهم إلى تناول أسبابهما ، فتعطلهم عن العبادة ، وكذلك المريدون السائرون ، ينبغي لهم التقلل من تناولها؛ لئلا يتعلق قلبهم بشيء منها ، فتعطلهم عن السير ، وأما الواصلون العارفون ، فقد تحقق فناؤهم وبقاؤهم ، فهم يأخذون بالله من يد الله ، كما تقدم .
(1/308)

والحاصل : أن النفس ما دامت لم تُسلم ولم تنقد إلى مشاهدة ربها ، وجب جهادها ومخالفتها ، فإذا أسلمت وانقادت إلى ربها ، وجب الصلح معها وموافقتها فيما يتجلى فيها ، والله تعالى أعلم .
ولمّا كانت اليهود لا تحجُّ بيت الله الحرام ، الذي بناه خليل الله إبراهيم عليه السلام ، مع زعمهم أنهم على ملته ، ردَّ الله تعالى عليهم بقوله : { إن أول بيت . . . } الخ ، وقيل : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل؛ لأنه مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة أفضل؛ لأنه أول بيت وضع في الأرض .
(1/309)

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
قلت : { بكة } : لغة في مكة ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، تقول : ضربة لازم ولازب ، وأغبَطَتْ عليه الحُمِّى وأغْمَطَتْ ، وقيل : { مكة } بالميم : اسم للبلد كله ، وبكة : اسم لموضع البيت ، سميت بذلك؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة - أي : تدقها - فما قصدها جبَّار بسوء إلا قصمه الله . و { مباركاً } : حال من الضمير في المجرور ، والعامل فيه الاستقرار ، أي : الذي استقر ببكة مباركاً ، و { مقام إبراهيم } : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من { آيات } ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، على أن المراد بالآيات : أثر القدم في الصخرة الصمَّاء ، وغوصُوها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصُها بهذه المزيَّة من بين الصخور ، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء ، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة ، فكان مقام إبراهيم ، وإن كان مفرداً ، في قوة الجمع ، ويدل عليه أنه قرئ { آية } : بالتوحيد .
وقيل : { الآيات } : مقام إبراهيم ، وأمْنُ من دخله ، فعلى هذا يكون : { ومن دخله } ، عطفاً على { مقام } ، وعلى الأول : استئنافاً . و { حج البيت } مبتدأ ، و { لله } : خبر ، والفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد ، و { من استطاع } : بدل من { الناس } ، وقيل : فاعل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن أول بيت وضع } في الأرض { للناس } للذي استقر بمكة ، وبعده بيت المقدس ، وبينهما أربعون سنة . بنت الأولَ الملائكة حيالَ البيت المعمور ، وأمر اللّهُ مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، ثم بُنِيَ الثاني . وقيل : بناهما آدم عليه السلام ثم جدَّد الأول إبراهيمُ . حال كونه { مباركاً } ؛ لأنه يتضاعف فيه الحسنات ، بكل واحدة مائة ألف ، وتكفر فيه السيئات ، وتنزل في الرحمات ، وتتوارد فيه النفخات .
{ فيه آيات بينات } واضحات ، منها : الحجر الذي هو { مقام إبراهيم } ، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت ، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء ، حتى أكمل البناء ، وغرقت فيه قدمه كأنه طين ، ومنها : أن الطير لا تعلوه ، ومنها : إهلاك أهل الفيل وردُّ الجبابرة عنه ، ونبع زمزم لهاجر بهمز جبريل عليه السلام ، وحفر عبد المطلب لها بعد دُثُورها ، وأن ماءها ينفع لما شُرب له ، { ومن دخله كان آمناً } من العقاب في الدارين؛ لدعاء الخليل : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، فكان في الجاهلية كل من فعل جريمةً ، ثم لجأ إليه لا يُهَاج ولا يعاقب ما دام به ، وأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص ، وقال أبو حنيفة : الحكم باق ، وإن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يهاج ، ولكن يُضيَّق عليه ، فلا يطعم ولا يباع له حتى يخرج .
قال - عليه الصلاة والسلام : " مَنْ مَاتَ في أحد الحرمين بعثه اللّهُ من الآمنين "
(1/310)

وقال أيضاً : " مَنْ حَجَّ هذَا البَيْتَ - فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، خَرَجَ من ذَنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدتهُ أُمُّه " .
{ ولله على الناس حج البيت } فرض عين على { من استطاع إليه سبيلاً } بالقدرة على الوصول بصحة البدن ، راجلاً أو راكباً مع الزاد المُبلِّغ ، والأمن على النفس والمال والدين . وقيل : الاستطاعة : الزاد والراحة . { ومن } تركه ، و { كفر } به ، كاليهود والنصارى ، وكل من جحده ، { فإن الله غني } عنه ، و { عن } حجه ، وعن جميع { العالمين } ، أو عبر بالكفر عن الترك ، تغليظاً كقوله : " مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَر " رُوِيَ أنه - عليه الصلاة والسلام - لما نزل صدر الآية - جمع أرباب الملل ، فخطبهم ، وقال : " إن الله كتب عليكم الحج فحجوا " ، فآمنت به ملة واحدة ، وكفرت به خمس ملل ، فنزل { ومن كفر . . . } الخ .
الإشارة : قد وضع الله للناس بيتين : أحدهما حسي ، وهو الكعبة ، والآخر معنوي ، وهو القلب ، الذي هو بيت الرب ، فما دام بيت القلب خالياً من نور الرب اشتاق إلى حج البيت الحسي ، فإذا تعمر البيت بنور ساكنه ، صار قبلة لغيره ، واستغنى عن الالتفات إلى غير نور ربه ، بل صار كعبة تطوف به الواردات والأنوار ، وتحفه المعارف والعلوم والأسرار ، ثم يصير قطب دائرة الأكوان ، وتدور عليه من كل جانب ومكان ، فكيف يشتاق هذا إلى الكعبة الحسية ، وقد طافت به دائرة الوفود الكونية؟ ولله در الحلاج رضي الله عنه حيث قال :
يَا لاَئِمِي لا تَلُمْني في هواه فَلَوْ ... عايَنْتَ منه الذي عاينْتَ لم تَلُمِ
للنَّاسِ حجٍّ ولي حجٍّ إلى سَكَنِي ... تُهْدَى الأضَاحِي ، وأُهْدِي مُهْجِتِي ودَمِي
يطوفُ بالبيت قومٌ لا بجارحةٍ ، ... بالله طافوا فأغنَاهم عن الحَرَمِ
في هذا البيت آيات واضحات ، وهو إشراق شموس المعارف والأنوار ، في فضاه سماء الأرواح والأسرار ، وسطوع أنوار قمر التوحيد في أرض التجريد والتفريد ، وظهور أنوار نجوم العلم والحِكم ، في أفق سماء ارتفاع الهمم ، فهذا كان مقام إبراهيم ، إما الموحدين ، فمن دخله كان آمناً من الطرد والبعاد إلى يوم الدين ، ومن كفر وجوده؛ فإن الله غني عن العالمين .
قال في الحاشية في قوله : { ومَنْ دَخَلَه كان آمناً } ، قيل : وهكذا من دخل في قلب وليٍّ من أوليائه ، فإن قلب العارف حرم المراقبات والمشاهدات . ه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/311)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قلت : { تبغونها } : جملة حالية من الواو ، أي : لِمَ تصدون عن السبيل باغين لها عوجاً . والعوج - بالكسر - في الدين والقول والعمل - ، وبالفتح - في الجدار والحائط وكل شخص قائم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد في عتابك لليهود : { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } السمعية والعقلية الدالة على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإسلام؟ { والله شهيد على ما تعملون } مطلع على سرها وجهرها ، فيجازيكم عليها ، فلا ينفعكم التحريفُ ولا الإسرار .
{ يا أهل الكتاب لما تصدون } عن طريق الله { من آمن } بها ، وتبع من جاء بها ، { تبغونها عوجاً } أي : طالبين لها اعوجاجاً ، بأن تلبسوا على الناس ، وتُوهموا أن فيها عوجاً عن الحق ، بزعمكم أن التوراة لا تُنْسخ ، وبتغيير صفة الرسول - عليه الصلاة والسلام ، أو بأن تحرشوا بين المسلمين؛ لتختلف كلمتهم ، ويختل أمر دينهم ، وأنتم شهداء على أنها حق ، وأن الصد عنها ضلال ، أو : وأنتم عُدول عند أهل ملتكم ، يثقون بأقوالكم ، ويستشهدونكم في القضايا ، { وما الله بغافل عما تعملون } ؛ فلا بد ان يجازيكم على أعمالكم ، فإتنه يمهل ولا يهمل .
كرَّر الخطاب والاستفهام مرتين؛ مبالغة في التقريع ونفي العذر ، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مُسْتَبح في نفسه ، مستقل باستجلاب العذاب . ولمَّا كان المنكَر عليهم في الآية الأولى : كفرهم ، وهم يجهرون به ، ختم بقوله : { والله شهيد على ما تعملون } ، ولمَّا كان هذه الآية : صدهم المؤمنين عن الإسلام ، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه ، قال : { وما الله بغافل عما تعملون } . قاله البيضاوي .
الإشارة : كل من جحد وجود الخصوصية عند أهلها ، وصد القاصدين للدخول فيها ، استحق هذا العتاب بلا شك ولا ارتياب . والله تعالى أعلم .
(1/312)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } ، الخطاب عامٌ ، والمراد : نفر من الأوس والخزرج ، { إن تُطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب } ، وهو شاسُ بن قيس اليهودي ، كان شيخاً كبيراً ، وكان عظيمَ الكفر شديد الضغن على المسلمين ، مرَّ بنفر من الأوس والخزرج ، جلوساً يتحدثون ، وكان بينهما عداوة في الجاهلية ، فغاظه تآلفهم واجتماعهم ، وقال : قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة بهذه البلاد ، فما لنا معهم قرار ، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس بينهم ويُذكِّرهم يوم بعاث - وهو يوم حرب كان بينهم في الجاهلية - ويُنشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفرُ في ذلك اليوم للأوس ، ففعل ، وتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا ، وقالوا : السلاحَ السلاحَ ، واجتمع من القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال : " أبدعْوَى الجَاهِليةِ وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ، بعدَ إذ أكْرَمَكْم اللّهُ بالإسْلام ، وقَطَعَ به عَنْكُم أمْرَ الجَاهِلِية ، وألْفَ بَينكُم؟ " فعلموا أنها نزغة ٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوهم ، فَأَلَقَوا السِّلاحَ ، واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً ، وانصرفوا مع الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - فنزلت الآية .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً } من اليهود { يردوكم بعد إيمانكم كافرين } ؛ يُبيح بعضكم دماء بعض ، كما كنتم في الجاهلية ، { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله } الدالة على تحريم الدماء والشحناء ، { وفيكم رسوله } الهادي إلى الصراط المستقيم ، وهو إنكار وتعجُّبٌ من كفرهم ، بعد اجتماع الأسباب الداعية إلى الإيمان ، الصارفة عن الكفران ، وإنما خاطبهم الله بنفسه بعد ما أمر الرسولَ بأن يخاطب أهل الكتاب؛ إظهاراً لجلالة قدرهم ، وإشعاراً بأنهم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم ، دون أهل الكتاب؛ لبعدهم عن استحقاق مواجهة الخطاب من الكريم الوهاب . { ومن يعتصم بالله } ويتمسك بدينه { فقد هدي إلى صراط مستقيم } لا عوج يفه وأصل الاعتصام : التمتع .
ثم حضّ على التقوى الكاملة والدوام على الإسلام ، تنفيراً من الاستماع لمن يخرج عنها ، قال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } ، قال عليه الصلاة والسلام : " حق تقاته هو أن يُطاعَ فلا يُعْصَى طرفةَ عين ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر " ولما نزلت قالوا : يا رسول الله؛ من يقوى على هذا؟ وشق عليهم ، فنزلت : { فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التّغَابُن : 16 ] ، فنسختها . وقال مُقاتل : معناه : ( اتقوا الله حقَّ تقاته ، فإن لم تستطيعوا فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . وعن أنس مالك ، قال : ( لا يتقي الله عبدٌ حق تقاته حتى يُخْزِن من لسانه ) ، وقيل : ليست بمنسوخة؛ لأنَّ مَنْ جَانَبَ ما نهى الله عنه ، وفعل من الطاعة ما استطاع ، فقد اتقى الله حق تقاته ، فمعناها واحد . وسيأتي تحديد ذلك في الإشارة ، إن شاء الله .
(1/313)

قال البيضاوي : وقيل : معنى { حق تقاته } : أن يُنزه الطاعة عن الالتفات إليها ، وعن توقع المجازاة عليها ، وفي هذا الأمر تأكيدٌ للنهي عن طاعة أهل الكتاب ، { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي : لا تكونوا على حالةٍ سوى الإسلام ، إلى أن يردككم الموت . ه . أماتنا الله على حسن الختام ، مع السلامة والعافية على الدوام .
الإشارة : كما نهى الله عن طاعة من يرد عن الإيمان ، نهى عن طاعة من يصد عن مقام الإحسان ، كائناً ما كان ، وكيف يرجع عن مقام التحقيق ، وقد ظهرت معالم الطريق لمن سبقت له العناية والتوفيق! . قال بعضهم : والله ما رَجَعَ مَنْ رَجَعَ إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع أبداً . إذ لا يمكن أن يرجع من عين اليقين إلى علمِ اليقين ، أو من اليقين إلى الظن . ومن أراد الثبات على اليقين فليعتصم بحبل الله المتين ، وهو صحبة العارفين ، فمن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله ، { وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ آل عِمرَان : 101 ] .
ثم خاطب أهل الإحسان فقال : { يا أيها الذين آمنوا اقتوا الله حق تقاته } بأن تغيبوا عما سواه ، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية ، قائمون بوظائف العبودية . فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان ، و { فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] : خطاب لأهل افسلام والإيمان ، أو هذه لأهل التجريد ، والثانية لأهل الأسباب ، أو لأهل الباطن ، والثانية لأهل الظاهر ، فلكل آية أهل ومحل ، فلا نسخ ولا تعارض . وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : من أراد الجمع بين الآيتين فليتق الله حق تقاته بباطنه ، وليتق الله ما استطاع بظاهره . ه . وبالله التوفيق .
(1/314)

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
قلت : أصل الحبل في اللغة : السبب المُوصِّل إلى البغية ، سمى به الإيمان أو القرآن؛ لأنه يُوصل إلى السعادة السرمدية ، و { شفا حفرة } ، وأصله : ( شفو ) ، فقلبت ألفاً في المذكر ، وحذفت في المؤنث ، فقالوا : شفة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واعتصموا } أي : تمسكوا يا معشر المسلمين { بحبل الله } أي : الإيمان ، أو كتاب الله ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " إنَّ هذا القرآن هو حَبْلُ الله المّتِين ، وهو النورُ المُبِينُ ، والشِّفَاءُ النافِعُ ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ به . . . " الحديث . حال كونكم { جميعاً } أي : مجتمعين عليه ، { ولا تفرقوا } تفرقكم الجاهلي ، أو لا تفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب . قال عليه الصلاة والسلام : " إنَّ بَني إسْرائيلَ افتَرقَتْ على إحْدى وسَبْعِينَ فِرْقةً ، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ على ثِنتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلّها في النَّارِ إلا واحِدَةً ، فقيل : يا رسول الله ، ما هذه الواحدة؟ فقبض يده وقال : الجَمَاعَةُ ، ثمَّ قرأ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } " .
{ واذكروا نعمت الله عليكم } ، التي من جملتها الهداية للإسلام المؤدِّي إلى التآلف وزوال الغِلِّ ، { إذ كنتم أعداء } في الجاهلية ، يقتل بعضُكم بعضاً ، { فألّف بين قلوبكم } بالإسلام ، { فأصبحتم بنعمته إخواناً } متحابين مجتمعين على الأخوة في الله . قال عليه الصلاة والسلام : " لا تَحَاسَدُوا ، ولا تَبَاغَضُوا ، ولا تَدَابَرُوا ، وكُونُوا عبادَ الله إخْواناً ، المسلمُ أَخُوا المسلمُ لا يَظْلِمُه ولا يَخْذُلُه " الحديث . رُوي أن الأوس والخزرج كانوا أخَوَيْن ، فوقع بين أولادهما العداوة ، وتطاولت الحرب بينهما مائة وعشرين سنة ، حتى أطفأها الله بالإسلام ، وألف بينهم برسول الله عليه الصلاة والسلام - فنزلت فيهم هذه الآية .
ثم قال لهم : { وكنتم على شفا حفرة من النار } أي : مُشرفين على نار جهنم ، إذ لو أدرككم الموت لوقعتم في النار ، { فأنقذكم } الله { منها } برسوله - عليه الصلاة والسلام - : رُوِيَ أن أعرابيّاً سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية ، فقال الأعرابي : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها ، فقال ابن عباس رضي الله عنه خذوها من غير فقيه . ه . { كذلك يبين الله لكم آياته } أي : مثل هذا النبيين { يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } إلى الخير ، وتزيدون ثباتاً فيه .
الإشارة : المذاهب كلها وقع فيها الاختلاف والتفرق في الأصول والفروع ، إلا مذاهب الصوفية فكلها متفقة بداية ونهاية ، إذ بدايتهم مجاهدة ، ونهايتهم مشاهدة ، وإلى ذلك أشار في المباحث ، حث قال :
مذاهبُ الناسِ على اخْتلاف ... ومَذْهَبُ القَوْمِ على ائْتِلاَف
وإن وقع الاختلاف في بعض الطرق الموصلة إلى المقصود ، فقد اتفقت في النهاية ، بخلاف أهل الظاهر ، لا تجدهم يتفقون إلا في مسائل قليلة ، لأن مذهبهم مبني على غلبة الظن ، ومذهب القوم مبني على التحقيق ذوقاً وكشفاً ، وكذلك ائتلفت أيضاً قلوبهم وأرواحهم ، إذ كلهم متخلقون بالشفقة والرأفة والمودة والألفة والصفا؛ لأنهم دخلوا الجنة - أعني جنة المعارف - فتخلقوا بأخلاق أهل الجنة ، قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحِجر : 47 ] ، فيقال لهم بعد الفتح : واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء قبل اتصالكم بالطبيب ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته أخواناً متحابين ، وكنتم على شفا حفرة من نار القطيعة والحجاب { فأنقذكم منها } . مثل هذا البيان يوضح الله آياته ، أي : تجلياته ، لعلكم تهتدون إلى مشاهدة ذاته في أنوار صفاته . والله تعالى أعلم .
(1/315)

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
قلت : ( مِنْ ) : للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فُروض الكفاية؛ إذ لا يصلح له كُلُّ أحد ، أو للبيان ، أي؛ كونوا أمة تأمرون بالمعروف ، كقوله : { كُنتُمْ خَيْرُ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفِ } [ آل عِمرَان : 110 ] الخ ، و { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } عطف على الخبر ، من عطف الخاص على العام؛ للإيذان بفضله .
{ يقول الحقّ جلّ جلاله } : { ولتكن منكم } يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم { أمة } أي : طائفةً { يدعون إلى الخير } ، وهو كل ما فيه صلاحٌ ديني ، أو دنيوي إذ كان يؤول إلى الديني ، أو صلاح قلبي أو روحاني ، { ويأمرون بالمعروف } وهو ما يستحسنه الطبع ويرتضيه الشرع ، { وينهون عن المنكر } وهو كل ما ينكره الطبعُ السليم والشرع المستقيم ، فمن فعل ذلك فأولئك { هم المفلحون } المخصوصون بكمال الفلاح .
رُوِيَ عنه عليه الصلاة والسلام : أنه سئل مَنْ خير الناس؟ فقال : " آمرُهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم الله ، وأوصلهم للرحم " وقال أيضاً : " مَنْ أمَرَ بالمَعْروفِ ونَهَى عَنِ المُنْكَرِ كان خَلِيفَةَ اللّهِ في أرْضِهِ وخَلِيفَةَ رَسُولِه وخَلِيفَةَ كِتَابِه " وقال عليّ رضي الله عنه : ( أفضل الجهاد : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنئان الفاسقين - أي بغضهم - فمن أمر بالمعروف شدَّ ظهرَ المؤمن ، ومن نهى عن المنكر أرْغَمَ أنف المنافق ، ومن شَنَأَ الفاسقين وغَضب لله غَضبَ الله له ) . وقال أبو الدرداء : ( لتأمُرُن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليُسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً ، لا يُجِلُّ كبيركم ، ولا يرحم صغيركم ، ويدعو عليه خيارُكم فلا يستجاب لهم ، ويَسْتنصِرون فلا يُنصرون ، ويستغفرون فلا يغفر لهم ) . وقال حذيفة : ( يأتي على الناس زمان لأن تكون فيه جيفة حمار ، أحب إليهم من مؤمنٍ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) .
وللمتصدِّي له شروط : العلم بالأحكام ، ومراتب الاحْتِسَاب وكيفية إقامتها ، والتمكن من القيام بها ، ولذلك خاطب الحق تعالى الجميع ، وطلب فعل بعضهم ، إذ لا يصلح للقيام به إلا البعض ، كما هو شأن فرض الكفاية ، إذ هو واجب على الكل ، بحيث لو تركوه لعوقبوا جميعاً ، لكنه يسقط بفعل البعض .
والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً ، على حسب ما يأمر به ، والنهي عن المنكر واجب كله؛ لأن جميع ما أنكره الشرع حرام . وأما المكروه فليس بمنكر ، فيستحب الإرشاد إلى تركه . والأظهر أن العاصي يجب أن ينهى عما يرتكبه هو؛ لأنه يجب عليه تركه ، فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر . وقد قال عليه الصلاة والسلام : " مُرُوا بالمَعْرُوفِ وإن لَمْ تَعمَلُوا بِكُلِّهِ ، وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وإنْ لم تَنْتَهُوا عنه كُلهُ " .
الإشارة : { ولتكن منكم أمة } أي : طائفة ينهض حالهم ويدلُّ على الله مقالهم ، يدعون إلى الخير العظيم ، وهو شهود ذات السميع العليم ، ويأمرون بالمعروف بالهمة العلية ، وينهون عن المنكر بالحال القوية ، فكلُّ من رآهم بالصفا ائتمر وانتهى ، وكل من صحبهم بالوفاء أخذ حظه من الغنى بالمكيال الأوفى ، إن لله رجالاً من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، فهؤلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالحال دون المقال .
(1/316)

يُحكى أن بعض الشيوخ مرَّ مع أصحابه بقوم يشربون الخمر تحت شجرة فأراد أصحابه أن يُغيروا عليهم ، فقال لهم : إن كنتم رجالاً فَغِيرُوا عليهم بحالكم دون مقالكم ، فتوجهوا إلى الله بهممهم ، فإذا القوم قد كسروا الأواني ، وجاءوا إلى الشيخ تائبين . وكذلك قضية معروف الكرخي مع أصحاب السفينة ، الذي كانوا مشتغلين باللهو واللعب ، فقال له أصحابه : ادع عليهم ، فقال : اللهم كما فرَّحتَهم في الدنيا ففرِّحْهُم في الآخرة ، فتابوا على يده جميعاً . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/317)

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قلت : { يوم } متعلق بالاستقرار في خبر { أولئك } ، أو باذكر؛ محذوفة ، وقوله : { أكفرتم } : محكي بقول محذوف جواب { أما } ، أي : فيقال لهم : أكفرتم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولا تكونوا } كاليهود والنصارى الذين { تفرقوا } في التوحيد والتنزيه ، { واختلفوا } في أحوال الآخرة ، قال عليه الصلاة والسلام : " افْتَرقَتِ اليَهُودُ على إِحْدَى وسَبْعِين فرقَةً ، وافْتَرقَت النَّصارَى عَلَى ثَنْتَيْنِ وسَبْعِين فِرقَةٌ ، وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقةً ، كلُّها في النَّارِ إلا وَاحِدةً . قيل : ومَنْ تلك الواحدة؟ قال : ما أَنَا وأَصْحابِي عَلَيْه " وهذا الحديث أصح مما تقدم ، والصحابة يروْوُن الحديث بالمعنى ، فلعلَّ الأول نسي بعض الحديث . والله أعلم .
ثم إن النهي مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " اخْتلاَفُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ " ، ولقوله : " من اجْتَهَدَ وأصَابَ فله أجْرَانِ ، ومن اجْتَهدَ وأخطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحد " .
ثم إن أهل الكتاب تفرقوا { من بعد ما جاءهم البينات } أي : الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه ، { وأولئك لهم عذاب عظيم } ، يستقر لهم هذا العذاب { يوم تبيض وجوه } المؤمنين المتقين على التوحيد ، { وتسود وجوه } الكافرين المتفرقين فيه ، أو تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين ، أو تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة . وبياض الوجوه وسوادها كِنَايتَان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه ، وقيل : يُوسَم أهل الحق ببياض الوجوه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه ، وأهل الباطل بأضداد ذلك . { فأما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم يومئذ : { أكفرتم } بمحمد - عليه الصلاة والسلام - بعد ظهوره ، { بعد إيمانكم } به قبل ظهوره ، وهم اليهود أو أهل الردة ، آمنوا في حياته صلى الله عليه وسلم وكفروا بعد موته . أو جميع الكفار ، آمنوا في عالم الذر وأقروا على أنفسهم ، ثم كفروا في عالم الشهادة ، ويقال لهم أيضاً : { ذوقوا العذاب } بسبب ما كنتم { تكفرون } .
{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله } أي : جَنته ، { هم فيها خالدون } . وعبَّر بالرحمة عن الجنة؛ تنبيهاً على أن المؤمن ، وإنْ استغرق عمره في طاعة الله - تعالى - ، لا يدخل الجنة إلا برحمة الله وفضله ، وكان حق الترتيب أن يقدم حِلية المؤمنين لتقدُّم ذكرهم ، لكن قصد أن يكون مطلعُ الكلام ومقطعُه حليةَ المؤمنين وثوابهم .
{ تلك آيات الله } الواردة في وَعْده وَوَعِيدِه ، { نتلوها عليك } متلبسة { بالحق } لا شبهة فيها ، فقد أعذر وأنذر ، { وما الله يريد ظلماً للعالمين } ؛ إذ لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه ، ولا يُمنع من شيء فيظلم بفعله ، كما بيَّنه بقوله : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } ملكاً وخلقاً وعبيداً ، فيجازي كلا بما وَعَدَه ، وأوْعَدَه ، { وإلى الله ترجع الأمور } كلها؛ فيتصرف على وفْقِ مراده وسَابق مشيئته ،
(1/318)

{ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبيَاء : 23 ] .
الإشارة : قد نهى الله - تعالى - أهل الجمع عن التشبه بأهل الفرق ، في اختلاف قلوبهم ووجوههم وآرائهم وأنظارهم ، من بعد ما جاءتهم الدلائل الواضحات على طلب جمع القلب على الله ، والتودد في الله ، وصرف النظرة في شهود الله ، وأولئك المفترقون لهم عذاب عظيم ، وأيّ عذاب أعظم من الحجاب؟ يوم تبيض وجوه العارفين ، فتكون كالشمس الضاحية ، يسرحون في الجنان حيث شاءوا ، وتسود وجوه الجاهلين؛ لما يعتريها من الندم ، وسوادها باعتبار وجوه العارفين في النقص عنها ، وإن كانت مُبْيَضَّةً بنور الإيمان ، لكن فاتهم نور الإحسان ، فيقال : أكفرتم بالخصوصية في زمانكم ، بعد إيمانكم بها فيمن سلف قبلكم؟ فذوقوا عذاب القطيعة عن شهود الحبيب في كل حين ، وأما الذين ابيضت وجوههم وأشرقت بنور البقاء ، ففي رحمة الله ، أي : جنة المعارف { فِى مَقْعَدٍ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } [ القَمَر : 55 ] ، فقد اتضحت الطريق ، وظهرت أعلام التحقيق ، لكن الهداية بيد الله ، كما أنَّ الأمور كلها بيده ، يهدي مَن يشاء ويضل من يشاء ، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فُصّلَت : 46 ] . وبالله التوفيق .
(1/319)

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
قلت : { كان } : على بابها من الدلالة على المُضِيِّ ، أي : كنتم في اللوح المحفوظ ، أو في علم الله ، أو فيما بين الأمم المتقدمة ، أو : صلة ، أي : أنتم خير أمة ، و { للناس } : يتعلق بأخرجت ، أو بكنتم ، أي : كنتم خير الناس للناس .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : { كنتم } في سابق علمي { خير أمة } ظهرت { للناس } تجيئون بهم إلى الجنة بالسلاسل . ثم بيَّن وجه فضلهم فقال : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } وبجميع ما يجب الإيمان به .
وقد ورد في مدح هذه الأمة المحمدية أحاديث ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : " حُرِّمتْ الجنةُ على الأنبياء حتى أدخلها أنا ، وحُرّمتْ الجنة على الأُمَمِ حتى تدخلها أمتي " ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " أمتي أمةٌ مَرْحُومَةٌ ، إذَا كَانَ يَوْمُ القِيامةِ أَعطى الله كُلَّ رَجُلٍ مِن هذه الأمة رجُلاً فيقال : هذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ " .
وعن أنس قال : " خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا صوت يجيء من شِعْبِ ، فقال : يا أنس : قُمْ فانظرْ ما هذا الصوت ، فانطلقت فإذا برجلٍ يُصلّي إلى شجرة ، ويقول : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الأمة المرحومة ، المغفور لها ، المستجاب لها ، المتاب عليها ، فأتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال : انطلق ، فقل له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ، ويقول لك : من أنت؟ فأتيت ، فأعلمته ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ مني السلام على رسول الله صلى لله عليه وسلم ، وقل له : أخوك الخضر يقول لك : ادع الله أن يجعلني من أمتك المرحومة المغفور لها " . وقيل لعيسى ابن مريم : هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال : نعم ، أمة أحمد . قيل : وما أمة أحمد؟ قال : علماء ، حكماء ، أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون باليسير من الرزق ، ويرضى الله عنهم باليسير من العمل ، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله . ه .
وليس أولها أولى بالمدح من آخرها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " أُمتي كالمَطَرِ ، لا يُدْرَى أولهُ خيرٌ أو آخرُه " ؟ وفي خبر آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال : " اشتقْتُ إلى إخواني ، فقال أصحابُه : نحتن إخوانُك يا رسول الله ، فقال أنتم أصْحَابي ، إخْواني : ناس يأتُون بعدي ، يُؤمنون بي ولم يَرَوْنِي ، يَوَدُّ أحدُهم لو يَرَاني بجميع ما يَمْلِكُ . يَعْدِلُ عملُ أحدهم سبعين منكم . قالوا : مِنْهم يا رسول الله؟ قال : منكم . قالوا : ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال : لأنكم وَجَدْتُم على الخير أعْواناً ، وهم لا يَجِدُوا عليه أعواناً " أو كما قال - عليه الصلاة والسلام - .
(1/320)

قلت : التفضيل باعتبار أجور الأعمال ، وأما باعتبار اليقين والمعرفة ، فالصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء - عليهم السلام - ويدل على هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - " يعدل عمل أحدهم " ، ولم يقل إيمان أحدهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كنتم يا معرش الصوفية خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالجمع على الله والغيبة عما سواه ، وتنهونَ عن كلِّ ما يُبعد عن الله ويفرق العبدَ عن مولاه ، وتؤمنون بالله وبما وعد به الله ، إيمان الشهود والعيان ، الذي هو مقام الإحسان . قال القشيري في رسالته : ( قد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه ، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه ) .
وقال الجنيد رضي الله عنه : لو نعلم أن تحت أديمِ السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا ، لسعيت إليه ولو حبواً . ه . وكان كثيراً ما ينشد :
عِلْمُ التصوفِ عِلمٌ ليس يَعْرِفُهُ ... إلاَّ أَخْو فِطْنَةِ بِالحقِّ معروفُ
وليسَ يُبْصِرهُ مَنْ ليس يَشْهدهُ ... وكيفَ يَشْهَدُ ضوءَ الشمس مكفوفُ
وقال الشيخ الصقلي : ( كلُّ من صدَّقَ بهذا العلم فهو من الخاصة ، وكل من فهمه فهو من خاصة الخاصة ، وكل من عبّر به وتكلم فيه فهو من النجم الذي لا يُدرك والبحر الذي لا ينزف ) . وقال في الإحياء - لمَّا تكلم على معرفة الله والعلم بالله ، قال : ( والرتبةُ العليا في ذلك للأنبياء ، ثم للأولياء العارفين ، ثم للعماء الراسخين ، ثم للصالحين ) . فقد قدَّم الأولياء على العلماء . قال ابن رشد : وما قاله القشيري والغزالي متفق عليه . قال : ولا يشكُّ عاقلٌ أنَّ العارفين بالله وما يجب له من الكمال ، أفضل من العارفين بأحكام الله . انظر تمامه في المعيار . وقال في المباحث :
حُجَّةُ من يُرَجِّعُ الصُوفية ... على سواهم حُجَّةٌ قويَّة
هُمْ أَتْبَعُ النَّاسِ لخيرِ النَّاس ... مِنْ سَائِرِ الأَنَامِ والأُنَاس
ثم قال :
ثُمَّ بِشَيْئَيْنِ تقومُ الحُجَّه ... أنَّهمْ قَطْعاً على المَحَجَّه
وَمَأ أَتَوْا فيه بخَرْقِ الْعَادَه ... إذْ لمْ تَكُنْ لِمَنْ سِوَاهُم عَادَه
قَدْ رَفَضُوا الآثَامَ والعُيوب ... وطَهَّرُوا الأبدَانَ والقُلُوب
وَبَلَغُوا حقيقَةَ الإيمَان ... وانْتَهَجُوا منَاهِجَ الإحْسَان
ثم دعا أهل الكتاب إلى الإيمان ، وهوَّن أمرهم ، فقال :
{ . . . وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
قلت : الاستثناء في قوله { إلا بحبل } : من أعم الأحوال ، أي : ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال ، إلا متلبسين بذمة من الله وذمة من الناس .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولو آمن أهل الكتاب } إيماناً كإيمانكم ، { لكان خيراً لهم } مما هم عليه .
(1/321)

وليس أهل الكتاب سواء ، بل { منهم المؤمنين } كعبد الله بن سلام وأصحابه ، { وأكثرهم الفاسقون } المتمردون في الكفر والفسوق ، فلا يهولكم أمرهم ، فإنهم { لن يضروكم } إلا ضرراً يسيراً؛ كأذى باللسان من عيب وسب وتحريش بينكم ، ولا قدرة لهم على القتال ، { وإن يقاتلوكم } ينهزموا ، و { يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } أبداً عليكم .
وهذه الآية من المُغيبات التي وافقها الواقع ، إذ كان كذلك في بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ، فلم تُرْفع لهم راية أبداً ، بل { ضُربت عليهم الذلة } والخزي والهوان ، أي : أحاطت بهم إحاطة البيت المضروب على أهله ، أو لزمتهم لزوم الدرهم المضروب لضربه ، فلا تنفك عنهم { أيم ما ثقفوا } ووُجدوا ، فلا يأمنون { إلا بحبل من الله } أي : بسبب عهد من الله ، وهو عقد الذمة التي أمر الله بها ، إذا أدوا الجزية للمسلمين ، فلهم حرمة بسبب هذا العقد ، فلا يجوز التعرض لهم في مال ولا دم ولا أهل ، { وحبل من الناس } ، وهو عقد الذمة التي يعقدها مع الكفار إذا كانوا تحت ذمتهم . والحاصل أن الذلة لازمة لهم فلا يأمنون إلا تحت الذمة ، إما من المسلمين وإما من الكفار . { وباءوا بغضب من الله } أي : انقلبوا به مستحقين له ، { وضربت عليهم المسكنة } أي : أحاطت بهم ، فاليهود في الغالب فقراء مساكين ، لأن قلوبهم خاوية من اليقين ، فالفقر والجزع لازم لهم ، ولو ملكوا الدنيا بأجمعها .
{ ذلك } الذل والمسكنة والبواء بالغضب بسبب أنهم { كانوا يكفرون بآيات الله } المنزلة على رسوله ، أو الدالة على توحيده ، { ويقتلون الأنبياء بغير حق } بل ظلماً وعدواناً ، ذلك الكفر بسبب عصاينهم واعتدائهم حدود الله ، فإن الإصرار على الصغائر يُفضي إلى الكبائر ، والإصرار عل الكبائر يؤدي إلى الكفر؛ لأن المعاصي بريد الكفر ، والعياذ بالله .
الإشارة : ولو آمن أهل الظاهر بطريق الخصوص ، وحطو رؤوسهم لأهل الخصوصية لكان خيراً لهم ، للتسع عليهم دائرة العلوم ، وتفتح لهم مخازن الفهوم ، منهم من يقر بوجود الخصوصية ، ويعجز عن حمل شروطها ، وأكثرهم ينكرونها ويحتجون لأنفسهم بقول من قال : انقطعت التربية في القرن الثامن ، فيموتون مصرين على الإنكار والعصيان ، فلن يضركم إنكارهم أيها الفقراء ، فإنهم لا قدرة لهم عليكم ، للرعاية التي أحاطت بكم ، إلا أذى بلسانهم ، وعلى تقدير لحوق ضررهم في الظاهر ، فإن الله يُغيِّبْ ألمّ ذلك عنكم في الباطن ، كما شاهدناه من بعض الفقراء ، وإن يُهددوكم بالقتل والجلاء ، فإن الله لا يَنْصُرُهم في الغالب .
قلت : وقد هددونا بالضرب والرفع إلى السلطان والجلاء إلى برِّ النصارى ، فلم يقدروا على شيء من ذلك ، وقد وقع ذلك لبعض الصوفية زيادةً في شرفهم وعزّهم ، فالمنكر على الصوفية لا يزال في هَمٍّ وغمٍّ وذُلٍّ ومسكنة ، لخراب باطنه من نور اليقين . فإنَّ الانتقاد على الأولياء جناية واعتقادهم عناية ، فإن استمر على أذاهم كان عاقبته سوء الخاتمة ، فيبوء بغضب من الله سبب اعتدائه على أولياء الله ، " ومن آذى لي وليّاً فقد أذن بالحرب " رزقنا الله الأدب معهم ، وأماتنا على محبتهم ، آمين .
(1/322)

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قلت : { قائمة } أي : مستقيمة ، من أقمت العود فقام ، أو قائمة بأمر الله . و { آناء الليل } : ظرف : واحده : { إِنْيٌ } ، بكسر الهمة وسكون النون ، كنحى وأنحاء ، أو { إني } ، كمِعىً وأمعاء ، و { لن تكفروه } أي : لن تحرموه ، وعدي { كفر } إلى مفعولين لتضمنه معنى حرم أو منع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ليس أهل الكتاب { سواء } في الكفر والعدوان ، بل منهم { أمة } أي : طائفة { قائمة } بالعدل مستقيمة في الدين ، أو قائمة بأمر الله ، أو قائمة في الصلاة { يتلون آيات الله } في تهجدهم { آناء الليل } أي : في ساعاته ، { وهم يسجدون } في صلاتهم ، أو في صلاة العشاء ، لأن أهل الكتاب لا يصلونها ، لِمَا رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم أخَّرها ، ثم خَرَج ، فإذا الناسُ يَنْتَظُرونَها ، فقال : " أبشروا؛ فَإِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْل الأَرض أحدٌ يُصَلِّي في هَذِهِ السّاعَةِ غَيْرُكُم " .
ثم وصفهم بالإيمان فقال : { يؤمنون بالله واليوم الآخرة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات } ، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود ، فقد وصفهم الله تعالى بخصائص لم توجد في اليهود ، فإنهم منحرفون عن الحق غير متعبدين ، مشركون بالله ملحدون في صفاته ، يصفون اليوم الآخر بغير صفاته ، مداهنون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، متباطئون عن الخيرات ، بخلاف ما وصف به من أسلم منهم ، { وأولئك } الموصوفون بتلك الصفات { من الصالحين } أي : ممن صلحت أحوالهم عند الله ، واستوجبوا رضاءه وثناءه ، وهذه عادة الله مع خلقه ، من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً . ولذلك قال : { وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه } أي : فلن تحرموا ثوابه . ولن تجحدوا جزاءه ، بل يشكره لكم ويجزيكم عليه ، سَمى الحرمان كفراناً كما سمى العطاء شكراً . { والله عليهم بالمتقين } ؛ فلا يخفى عليه مقاماتهم في التقوى ، وفيه إشعار بأن التقوى مبدأ الخير وأحسن الأعمال ، وأن الفائزين عند الله هم أهل التقوى . رزقنا الله منها الحظ الأوفر بمنِّه . آمين .
الإشارة : ليس أهل العلم سواء ، بل منهم من جعله شبكةً يصطاد به الدنيا ، يبيع دينه بعرض قليل ، وهم علماء السوء وقضاة الجور ، ومنهم من قرأه لله وعلَّمه لله ، فأفنى عُمره في تعليمه وتقييده ، ومنهم من صرف همته إلى جمعه وتأليفه ، ومنهم من صرف همته إلى العمل به فالتحق بالعباد والزُّهاد ، { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } ومنهم من حرره وحققه ، ثم توجه إلى علم الباطن وصحب العارفين ، فكان من المقربين ، فهؤلاء كلهم { يسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } ، فيقال لهم : { وما يفعلوا من خير فلن يُكفره والله عليم بالمتقين } .
(1/323)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين كفروا } وجحدوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولاهم من } عذاب { الله شيئاً } { وأولئك أصحاب النار } أي : مُلاَزِمُوها ، كَمُلاَزَمَةِ الرجل لصاحبة ، { هم فيها خالدون } .
الإشارة : إن الذين كفروا بالخصوصية عند أهل زمانهم ، وفاتهم اقتباس أنوارهم ، لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا علومهم مما فاتهم من معرفة الله شيئاً ، ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَ الله؟ وماذا فقد من وجد الله؟! قال الشاعر :
لِكُلِّ شيء إذا فارقته عِوَضٌ ... وليسَ للّهِ إنْ فارقت مِنْ عِوَضِ
ولا طريق لمعرفة الحق المعرفة الخاصة - أعني معرفة العيان - إلا صحبة أهل الشهود والعيان ، فكلُّ من أنكرهم كان غايته الحرمان ، ولزمته البطالة والخذلان ، وجَرَّب ، ففي التجريب علم الحقائق ، ومن حُرم صحبتهم لا ينفك عن نار القطيعة وعذاب الحجاب ، وعنت الحرص والتعب ، عائذاً بالله من ذلك .
(1/324)

مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قلت : في الكلام حذف ، أي : مثل تلف ما ينفقون كمثل إتلاف ربح . . . الخ ، و { الصر } : البرد الشديد ، أو ريح فيها صوت وبرد ، أو السموم الحارة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : مثل ما يُنفق الكفار ، قربة أو مفاخرة وسمعة ، أو ما ينفق سفلة اليهود على أحبارهم ، أو المنافقون؛ رياء وخوفاً ، { كمثل ريح } فيها برد شديد { أصابت حرث قوم } أي : زرعهم ، فأتلفته وأهلكته ، والمراد : تشبيه نفقتهم وأعمالهم في تلفه وضياعه وعدم الانتفاع به ، بحرث كفار ، ضربته ريح فيها برد فاجتاحته ، فأصبح صعيداً زلقاً ، ولم تبق فيه منفعة في الدنيا والآخرة ، { وما ظلمهم الله } بأن ضيع أعمالهم من غير سبب ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب الكفر الذي أحبط أعمالهم .
الإشارة : كل من لم يحقق مقام الإخلاص ، ولم يصحب أهل التخليص والاختصاص ، لا تنفك أعماله من علل ، ولا أحواله من دخل ، فأعماله فارغة خفيفة ، أقل ريح تقلعها وتسقطها عن درجة الاعتبار ، وما زالت العامة تقول : الصحيح يصح ، والخاوي يدريه الريح . وبالله التوفيق .
(1/325)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قلت : بطانة الرجل : خواصه الذين يطلعهم على باطنه وسره ، وسميت بطانة؛ تشبيهاً لها بالثوب الذي يلي بطنه كالشعار . قال عليه الصلاة والسلام : " الأَنْصَارَ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ " وهي اسم تطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث . والألو : التقصير ، وأصله : أن يتعدى بالحرف ، تقول : لا آلو في نصحك؛ أي : لا أقصر فيه . ثم عدي إلى مفعولين ، كقولهم : لا آلوك نصحاً ، على تضمن معنى المنع أو النقص . والخبال : الفساد .
و { ما عنتم } : مصدرية ، والعنت : التعب والمشقة ، والأنامل : جمع أنملة - بضم الميم وفتحها - ، والضير والضر واحد . ومضارع الأول : يضير ، والثاني : يضر ، وهو هنا مجزوم ، وأصله : يضرُركم ، نقلت حركة الراء إلى الضاد ، وضمت الراء ، إتباعاً لحركة الضاد طلباً للمشاكلة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } أي : أصدقاء وأصفياء ، تطلعونهم على سركم ، وهم { من دونكم } ليسوا على دينكم ، فإنهم { لا يألونكم خبالاً } أي : لا يقصرون جهدَهم في إدخال الفساد بينكم بالتخليط والنميمة وإطلاع الكفار على عورتكم . نزلت في رجال من المسلمين ، كانوا يصلون رجالاً من اليهود؛ لما كان بينهم من القرابة والصداقة ، أو في المنافقين؛ كان يصلهم بعض المسلمين .
ثم وصفهم بأوصاف توجب التنفير منهم فقال : { ودوا ما عنتم } أي : تمنوا عنتكم وهلاككم وضلالكم ، { قد بدت البغضاء من أفواههم } أي : ظهرت أمارة العداوة من أفواههم بالوقيعة في المسلمين ، أو بإطلاع المشركين على عوراتهم ، أو في كلامهم مع المسلمين بالغيظ ، لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم ، { وما تخفي صدورهم } من العداوة والبغضاء ، { أكبر } مما أظهره ، لأن ظهوره منهم ليس عن روية واختيار ، بل من غلبة غيظ واضطرار . { قد بيّنَا لكم } أيها المؤمنون { الآيات } الدالة على مجانبة الكافرين ومولاة المؤمنين ، { إن كنتم تعلقون } ما يُبين لكم .
{ هأنتم } يا هؤلاء المخاطبين { تحبونهم } لما بينكم من المصاهرة والصداقة ، { ولا يحبونكم } لما بينكم من مخالفة الدين ، أو تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر ، وأنتم { تؤمنون بالكتاب } أي : بجنس الكتب ، { كله } أي : بالكتب كلها ، وهم لا يؤمنون بكتابكم ، فكيف تحبونهم وهم يكذبون كتابكم ورسولكم؟ وهم أيضاً ينافقونكم؛ { إذَا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا } مع أنفسهم { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } لما يرون من ائتلاف المؤمنين ، ولم يجدوا سبيلاً إلى التشفي فيكم ، وهذه كناية عن شدة حقدهم ، وإن لم يكن ثَمَّ عض في الخارج .
قال لهم الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد : { موتوا بغيظكم } ؛ فإنما ضرر غيظكم عليكم ، أو دوموا على غيظكم حتى تموتوا عليه ، فإن مادة الإسلام لا تزال تنمو حتى تهلكوا ، { إن الله عليم بذات الصدور } أي : بحقيقة ما في قلوبكم من البغضاء والحَنَقَ ، أو بما في القلوب من خير أو شر .
(1/326)

هو من مقول الرسول لهم ، أو من كلام الله تعالى ، استئناف ، أي : لا تعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم ، فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم .
ومن فرط عداوتهم أنهم { إن تمسسكم حسنة } كنصر وغنيمة { تسوءهم } أي ، تحزنهم ، { وإن تصبكم سيئة } كهزيمة أو قتل أو إصابة عدو منكم او اختلاف بينكم ، { يفرحوا بها وإن تصبروا } على عداوتهم وأذاهم ، وتخافوا ربكم ، { وتتقوا } ما نهاكم عنه ، { لا يضركم كيدهم شيئاً } ، بفضل الله وحفظه ، الموعود للصابرين والمتقين ، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] ، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ } [ النحل : 128 ] . ومن كان الحق معه لا يضره شيء ، { إن الله بما يعملون محيط } ؛ لا يخفى عليه ما يعمل أهل الكفر من العداوة والحقد ، فيجازيهم عليه .
الإشارة : لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يتخذوا بطانة من دونهم من العامة حتى يطلعوهم على سرهم ، فإن الإطلاع على السر ، ولو كان غير الخصوصية ، كله ضعف في العقل ووهن في الرأي ، وفي ذلك يقول القائل :
من أطْلَعَ الناسَ على سره ... استحقَّ الكيَّ على جَبْهَتِه
وأما سر الربوبية فإفشاؤه لغير أهله حرام ، والعامة مضادون لأهل الخصوصية ، لا يألونهم خبالاً في قلوبهم وتشتيتاً لفكرتهم ، إذا صحبوهم يودون أن لو كانوا مثلهم في العنت وتعب الأسباب ، فإذا ظهر بالفقراء نقص أو خلل ظهرت البغضاء من أفواههم ، وما تحفى صدورهم أكبر ، فإن كنتم أيها الفقراء تحبون لهم الخير فإنهم بعكس ذلك ، وإن كنتم تقرون شريعتهم فإنهم لا يؤمنون بحقيقتكم ، بل ينكرونها عليكم ، ومنهم من يتصف بالنفاق ، إذا لقي أهل الخصوصية أظهر التصديق والمحبة ، وإذا خلا مع العامة أظهر العداوة والحَنَق ، وإن تمسسكم أيها الفقراء حسنة ، كعز وفتح وشهود ومعرفة تَسؤْهم ، وإن تصبكم سيئة؛ كمحنة أو بلية ، يفرحوا بها ، وإن تصبروا على أذاهم وجفوتهم ، وتتقوا شهود السوى فيهم ، لا يضركم كيدهم شيئاً؛ { إن الله بما يعملون محيط } .
(1/327)

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد حين { غدوت من أهلك } من منزل عائشة ، الذي نَزَلْتَ فيه بأحد ، حين خرجت بها ، حال كونك { تبوئ المؤمنين } أي : تهيئ لهم ، { مقاعد للقتال } أي : مواقف وأماكن يقفون فيها للحرب { والله سميع } لأقوالكم ، { عليم } بإخلاصكم .
قال الواقدي : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة - رضي الله عنها - ماشياً على رجليه إلى أُحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح . أن رأى صدراً خارجاً ، قال : تأخر . وذلك أن المشركين نزلوا بأحد ، يوم الأربعاء ، فلما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ، ودعا عبد الله بن أُبي بن سلول - ولم يدْعُه قط قبلها - فاستشاره ، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله؛ أَقِمْ بالمدينة ولا تخرجْ إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصابنا منه ، فكيف وأنت فينا! فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خاسئين . فأعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الرأي ، وقال بعض أصحابه ، يا رسول الله؛ اخرج بنا إلى هذه الأكْلُب ، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم وضعفنا . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إِنِّي رأيتُ في منامِي بَقَراً تذبح ، فأولتها ناساً من أصحابي يُقتلون ، ورأيت في ذُبابِ سَيْفي ثلماً ، فأولتها هزيمةً ، ورأيت أني أدخل يدي في درع حصينة ، فأولتها المدينة . فإن رأيتُمْ أن تُقيموا بالمدينة وتَدَعُوهُمء فافعلوا " فقال رجال ممن فاتهم بدر ، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا ، وبالغوا ، حتى دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته . فلما رأوه قد لبس سلاحه ندموا ، وقالوا : بئس ما صنعنا ، نشير على النبيّ صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ، فقاموا واعتذروا إليه . وقالوا : اصنع ما رأيتَ ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا يَنْبَغِي لنَبِي أَنْ يلبَس لأمَتَهُ فيَضَعَهَا حتَى يُقاتِلَ " .
فخرج بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بشعب من أُحُد ، يوم السبت للنصف من شوال ، سنة ثلاث من الهجرة ، ونزل في عدوة من الوادي ، وجعله ظهره وعسكره إلى أحد ، وسوى صفهم كما تقدم ، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرماة ، وقال : انضحوا عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلقنا ، فكان من أمر الله ما كان ، على ما يأتي .
وخرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد زهاء ألف ، ووعدهم النصر إن صبروا ، فلما بلغوا الشواط - موضع - انخزل ابنُ أُبيّ في ثلاثمائة ، وقال : علام نقتل أنفسنا! فتبعهم أبو جابر السلمي ، فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم .
(1/328)

فقال ابن أُبيّ : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ، وهمت بنو حارثة وبنو سلمة بالانصراف معه ، فثبتوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكرهم نعمته بقوله : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما } وناصرهما ، حيث عصمهما من اتباع المنافقين ، قال جابر : ( ما يسرنا أنها لم تنزل ، لقوله : { والله وليهما } ) فبنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لا على غيره ، إذ لا ناصر غيره .
الإشارة : من شأن شيوخ التربية أن يَدُلُّوا المريدين على محاربة النفوس ومقاتلتها ، ويطلعوهم على دسائسها ومخادعتها ، ليهيئوا لهم بذلك مقاعد لقتالها ، والله مطلع على إخلاصهم ونياتهم ، فمنهم من يمل ويكل ، فيرجع إلى وطن عوائده ، ومنهم من يصبر حتى يفوز بالغنيمة العظمى والسعادة القصوى ، وفي ذلك يقول القائل :
وبَالَغَوا في الجدِّ حتى مَلَّ أكثرهُم ... وعَانَقَ المجْدَ مَنْ وَافَى ومَنْ صَبَرَا
قال بعضهم : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا . ه . ومنهم من يلحقه الملل والفشل فيهم بالانصراف والرجوع ، ثم يثبته الله تعالى وينصره ، فيلحق بالصابرين السابقين ، وعمدة المريد في مجاهدة نفسه : التوكل على الله والاعتماد عليه دون شيء سواه؛ " من علامة النجح في النهايات : الرجوع إلى الله في البدايات " . { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .
(1/329)

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
قلت : { بدر } : بئر بين مكة والمدينة ، كانت لرجل اسمه بدر ، فسميت باسم صاحبها ، وقعت فيها الغزوة التي نصر الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم ، فسميت الغزوة باسم المكان ، وجملة : { وأنتم أذلة } : حال من الكاف ، و { أذلة } : جمع ذليل ، كأعزة ، جمع عزيز .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد نصركم الله } في وقعة بدر { وأنتم أذلة } ليس معكم مراكب ولا كثرة سلاح ، مع قوة عدوكم بالعُدة والعدد ، { فاتقوا الله } وأثبتو مع رسوله ، وانتظروا النصر من الله كما عودكم ، { لعلكم } تكونون شاكرين ، لما أنعم به عليكم من العز والنصر ، فيزيدكم منه كما وعدكم .
الإشارة : جعل الله سبحانه وتعالى الأِياء كامنة في أضدادها ، فمن أراد العز والنصر فليتحقق بالذل والمسكنة ، ومن أراد الغنى فليتحقق بالفقر ، ومن أراد الرفعة فليتحقق بالضعة وإسقاط المنزلة ، ومن أراد القوة فليتحقق فالضعف ، وهكذا : { تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه } . فاتقوا الله يا معشر المريدين ، واطلبوا الأشياء في أضدادها لتظفروا بها ، واشكروا الله على ما أولاكم يزدكم من فضله ونواله .
(1/330)

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
قلت : { إذا } : ظرف لنصركم ، إذا قلنا : إن الإمداد يوم بدر فقط ، أو بدل من { إذ غدوت } ، إذا قلنا : كان الإمداد يوم أحد بشرط الصبر ، فملا لم يصبروا لم يقع . والتسويم : التعليم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولقد نصركم الله ببدر حين كنت { تقول للمؤمنين } حين رأوا كثرة عدوهم وقلة عدتهم وعددهم : { ألن يكفيكم } في القوة والكثرة ، { أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزلين } في السحاب؟ { بلى } يكفيكم كما وعدكم ، { إن تصبروا } وتثبتوا { وتتقوا } الله { ويأتوكم من فورهم } أي : من سرعتهم { هذا } الوقت ، { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } بلا تراخ ولا تأخير ، { مسومين } أي : مُعَلَّمين بعمائم بيض إلا جبريل ، فإنه كان عمامته صفراء . أو معلمين أنفسَهم أو خيلَهم . قيل : كانت مجزوزة الأذناب ، وقيل : كانت بُلْقاً .
فإن قلت : ما ذكر في الأنفال إلا ألفاً ، هنا خمسة آلاف . فالجواب : أن الله تعالى أمدهم أولاً بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف . قال ابن عباس : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال معنا ، ولا يقاتلون . ه .
الإشارة : كل من توجَّه لجهاد نفسه في الله ، واشتغل بذكر مولاه ، أمده الله في الباطن بالأنوار والأسرار ، وفي الظاهر بالملائكة الأبرار ، وقد شوهد ذلك في الفقراء أصحابنا ، إذا كانوا ثلاثة رآهم العامة ثلاثين ، وإذاكانوا ثلاثين رأوهم ثلاثمائة ، وقد كنا في سَفْره سبعين ، فرأونا سبعمائة على ما أخبرونا به ، { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } [ آل عِمرَان : 13 ] .
(1/331)

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
قلت : { ليس لك من الأمر شيء } : جملة معترضة بين قوله : { أو يكبتهم } وقوله : { أو يتوب عليهم } ، أو تكون { أو } بمعنى { إلا } ، أي : ليس لك من الأمر شيء ، إلا أن يتوب عليهم فتبشرهم ، أو يعذبهم فتشفى فيهم . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وما جعل الله ذلك الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر ، { ولتطمئن قلوبكم به } فتثبتوا للقتال ، { وما النصر إلا من عند الله } فهو قادر على أن ينصركم بلا واسطة ، لكن أراد أن يثيبكم وينسب المزية إليكم ، حيث قتلهم على أيديكم ، فإن الله عزيز لا يغلب ، حكيم فيما دبر وأبرم ، وإنما نصركم يوم بدر { ليقطع طرفاً من الذين كفروا } بقتل بعض وأسر آخرين ، فإنه قتل يومئذ سبعون ، وأسر سبعون ، { أو يكبتهم } أي : يحزنهم ويغيظهم ، والكبت : شدة الغيظ ، { فينقلبوا خائبين } مما أملوا .
ولما جُرِحَ - عليه الصلاة والسلام - في وجهه ، وشُجَّ على قرن حاجبه ، وكُسِرَت رباعيته ، هَمَّ بالدعاء على الكفار ، بل دعا عليهم ، فأنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء } ؛ إنما أنت رسول إليهم ، مأمور بإنذارهم وجهادهم ، وأمرهم بيد مالكم ، إن شاء هداهم وإن شاء عذّبهم . وإنما نهاه عن الدعاء عليهم؛ لعلمه بأن منهم من يُسلم ويجاهد في سبيل الله ، وقد كان كذلك؛ فجُلَّهم أسلموا وجاهدوا ، منهم خالد بن الوليد - سيف الله في أرضه .
ثم عطلف على قوله : { ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم } قوله : { أو يتوب عليهم } إن أسلموا { أو يعذبهم } إن لم يسلموا ، { فإنهم ظالمون } قد استحقوا العذاب بظلمهم ، والأمور كلها بيد الله ، { ولله ما في السماوات وما في الأرض } خلقاً وملكاً وعبيداً ، { يغفر لمن يشاء } غفرانه ، { ويعذب من يشاء } تعذيبه ، ولا يجب عليه شيء ، { والله غفور رحيم } لعباده ، فلا تبادر بالدعاء عليهم .
الإشارة : وما جعل الله التأييد الذي ينزله على أهل التجريد ، حين يقابلهم بالابتلاء والتشديد ، إذا أراد أن يوصلهم لصفاء التوحيد ، إلا بشارة لفتحهم ، ولتطمئن بمعرفته قلوبهم ، فإن الامتكان على قدر الامتحان ، وكل محنة تزيد مكنة ، وهذه سنة الله في أوليائه ، يسلط عليهم الخلق في بدايتهم ، ويشدد عليهم ابلاء ، حتى إذا طهروا من البقايا ، وكملت فيهم المزايا ، كف عنهم الأذى ، وانقلب الجلال جمالاً ، وذلك اعتناء بهم ، ونصراً لهم على أنفسهم ، فإن النصر كله { من عند الله العزيز الحكيم } . وذلك ليقطع عنهم طرفاً من الشواغل والعلائق ، التي تقبضهم عن العروج إلى سماء الحقائق ، فإن الروح إذا رقدت في ظل العز والجاه صعب خروجها من هذا العالم ، فإذا ضيق عليها ، وعكس مرادها ، رحلت إلى عالم الملكوت ، والأمر كله بيد الله . ليس لك أيها الفقير من الأمر شيء ، إنما أنت مأمور بتحريك الأسباب والله يفتح الباب .
(1/332)

ليس لك أيها الشيخ من الأمر شيء ، إنما أنت مذكر ، وعلى الله البلاغ ، فلا تأس على ما فاتك ، ولا تفرح بما آتاك ، فملكوت السماوات والأرض بيد الله ، { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم } .
قال القشيري : جرَّده - أي : نبيه صلى الله عليه وسلم لما به عرفه عن كُلِّ غيْرٍ وسبب ، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شيء ، ثم قال : ويقال : أقامه في وقتٍ مقاماً؛ رمى بقبضة من التراب ، فأصابت جميع الوجوه ، وقال : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] ، وقال في وقت آخر : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ } [ آل عِمرَان : 128 ] . ه .
يشير إلى أنهما مقامان : نيابة عن الله بالله ، ونيابة الله عن عبده ، والأول بقاء ، والثاني فناء ، قاله المحشي . قتل : الأول في مقام البسط ، والثاني في مقام القبض ، فقد قالوا : إذا بسط فلا فاقة ، وإذا قبض فلا طاعة . والله تعالى أعلم .
(1/333)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قلت : الكظم هو : الكف والحبس ، تقول : كظمت القربة : إذا ملأتها وسددت رأسها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا } وتزيدوا فيها إذا حلَّ الأجل { أضعافاً مضاعفة } ، ولعل التخصيص بحسب الواقع ، إذ كان الرجل يَحُلُّ أجلُ دَيْنِهِ ، فيقول للمدين : إما أن تقضي وإما أن تزيد ، فلا يزال يؤخره ويزيد في دينه حتى يستغرق مال المدين ، فنُهوا عن ذلك . ورغبهم في التقوى التي هي غنى الدارين . فقال : { واتقوا الله } فيما نهيتكم عنه ، { لعلك تفلحون } في الدارين . ثم خوفهم بالنار إن لم ينتهوا ، فقال : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } ، وفيه إشعار بأن النار موجودة؛ إذ لا يُعدُّ المعدوم ، وأنها بالذات معدة للكافرين ، وبالعرض للعاصين .
قال الورتجبي : في الآية إشارة إلى أن النار لم تعد للمؤمنين ، ولم تخلق لهم ، ولكن خوفهم بها زجراً وعظة ، كالأب البار المشفق على ولده يخوفه بالأسد والسيف ، وهو لا يضربه بالسيف ، ولا يلقيه إلى الأسد ، فهذه الآية تلطف وشفقة على عباده . ه .
{ وأطيعوا الله } فيما أمر ونهى ، { والرسول } فيما شرع وسَنَّ ، { لعلكم ترحمون } . والتعبير بلعل وعيسى في أمثال هذه : دليل على عون التوصل إلى ما جعل طريقاً له .
{ وسارعوا } : أي : بادروا { إلى مغفر من ربكم } ؛ كالإسلام والتوبة والإخلاص ، وسائر الطاعات التي توجب المغفرة ، وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على الاستئناف . وسارعوا أيضاً إلى { جنة عرضها السماوات والأرض } لو وصل بعضها ببعض ، وذكر العرض؛ للمباغلة في وصفها بالسعة؛ لأنه دون الطول . قال بعضهم : لم يُرد العَرض الذي هو ضد الطول ، وإنما أراد عظمها ، ومعناه : كعرض السماوات السبع والأرضين السبع في ظنكم ، أي : لا تدرك ببيان . { أُعِدّت } أي : هُيِّئَتْ { للمتقين } . وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة ، وأنها خارجة عن هذا العالم .
ثم وصف أهلها من المتقين بأوصاف الكمال ، فقال : { الذين ينفقون في السراء والضراء } أي : في حالتي الرخاء والشدة ، وفي الأحوال كلها ، كما هي حالة الأسخياء ، قال صلى الله عليه وسلم : " الجنَّةُ دَارُ الأسخياءِ " وقال أيضاً : " السَّخيُّ قريب ٌ مِنَ اللهِ ، قَرِيبٌ من الجنَّةِ ، قَرِيبٌ منَ النَّاس ، بعيدً من النَّارِ ، والبَخيلُ بَعيدٌ من الله ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ ، بَعِيدٌ ، مِنَّ النَّاس ، قرِيبٌ مِنَ النَّارِ ، ولجَاهِلٌ سَخِيٌ أحبُّ إلى اللهِ مِنَ العالمِ البَخِيل " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " السّخَاء شَجَرةٌ في الجنة ، أغصانُها في الدُّنيا ، من تعلق بَغُصنٍ من أغْصَانِها قادَته إلى الجنَّةِ ، والبخْلُ شَجرةٌ في النَّارِ ، أغصَانُها في الدُّنيا ، من تعلق ببعض من أغصانها قَادَته إلى النَّارِ " .
{ والكاظمين الغيظ } أي : الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ، قال عليه الصلاة والسلام " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وهُوا يَقْدِرُ على إمْضَائِهِ؛ مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ أمْناً وإِيمَاناً " .
(1/334)

وقال بعض الشعراء :
وَإذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُوراً كَاظِماً ... لِلْغَيْظِ ، تُبْصر مَا تَقُولُ وتَسْمَعُ
فَكَفَى بِهِ شَرَفاً ، تَصَبُّرُ سَاعَةٍ ... يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الإلَهُ ويَرْفَعُ
{ والعافين عن الناس } أي : عمن ظلمهم ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال عند ذلك :
" إنَّ هؤلاءِ في أُمتي قليلٌ ، مَنْ عَصَمَ الله ، وقد كَانُوا كثيراً في الأمم التي مَضَت " وعَنْ أبي هريرة : أن أبا بكر كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس ، فجاء رجل فوقع في أبي بكر ، وهو ساكت ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يبتسم ، ثم ردَّ أبو بكر بعضَ الرد ، فغضب عليه الصلاة والسلام - وقام ، فلحقه أبو بكر ، وقال : يا رسول الله ، شتمني وأنت تبتسم ، ثم رَدَدْتُ عليه بعضَ ما قال ، فغضبتَ وقُمتَ . قال : " حين كنتَ ساكتاً كان معك مَلَكٌ يردُّ عليه ، فما تكلمتَ وقع الشيطان ، فلم أكُنْ لأقعدَ في مقعدْ فيه الشيطان ، يا أبا بكر ، ثلاثٌ حق : تعلم أنه ليس عبد يظلم مظلمة فيعفو عنها إلا أعز الله بها نصره ، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله قلة ، وليس عبد يفتح عطية أو صلة إلا زاده الله بها كثرة " .
{ والله يحب المحسنين } الذين أحسنوا فيما بينهم وبين الله ، وفيما بينهم وبين عباد الله ، و " أل " : يحتمل أن تكون للجنس ، فيعم كل محسن ، أو للعهد ، فتكون الإشارة إلى من تقدم ذكرهم .
الإشارة : كل ما يُقوي مادة الحس فهو ربا؛ لأنه يربي الحسن ويقوي مادة الغفلة ، فلا ينبغي لمريد أن يضاعفه ويتعاطى أسباب تكثيره ، بل ينبغي أن يفر من موارده ، وهي ثلاثة : مباشرة الحس ، أو الفكر فيه ، أو الكلام مع أهله فيه . والذي يقوي مادة المعنى ثلاثة : صحبة أهل المعنى ، والفكرة في المعاني ، وذكر الله بالقلب . واتقوا الله في مباشرة الحسن { لعلكم تفلحون } بالوصول إلى صف المعاني ، واتقوا نار القطيعة التي أعدت لمنكر الخصوصية ، { وأطيعوا الله والرسول } فيما ندبكم إليه ، { لعلكم ترحمون } بالوصول إلى صفة المعاني ، واتقوا نار القطيعة التي أعدت لمنكر الخصوصية ، { وأطيعوا الله والرسول } فيما ندبكم إليه ، { لعلكم ترحمون } بإحياء قلوبكم وأرواحكم وأرواحكم بأسرار المعاني ، وسارعوا إلى ما يوجب تغطية مساوءكم ، حتى يغطي وصفكم بوصفه ، ونعتكم بنعته ، فيوصلكم بما منه إليكم ، لا بما منكم إليه ، فتدخلوا جنة المعارف ، التي لا نهاية لفضاء شهودها ، التي أعدت للمتقين السّوى ، الذي يبذلون مهجهم وأموالهم في حال الجلال والجمال ، { والكاظمين الغيظ } ؛ حيث ملكوا أنفسهم وأحوالهم ، { والعافين عن الناس } ؛ لأن الصوفي ماله مباح ودمه هدر . وكان بعض الصوفية يقول : إذا أردت أن تعرف حال الفقير فأغضبه ، وانظر إلى ما يخرج منه .
(1/335)

وقال شيخ شيوخنا رضي الله عنه : قطب التصوف : لا تغضب ولا تُغضب . ه .
ولعروة بن الزبير - رضي الله عنه :
لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ وإنْ كَرُمُوا ، ... حتى يُذَلّوا وإن عَزّوا لأقوام
ويُشتَموا فتَرى الألوانَ مُشرِقةٌ ، ... لا عَفْوَ ذُلَّ ، ولكن عَفْوَ أحلام .
{ والله يحب المحسنين } الذين حازوا مقام الإحسان ، فعبدوا الله بالشهود والعيان ، فعم إحسانهم ذا الإساءة والإحسان والإنس والجان . قال الحسن البصري : ( الإحسان : أن يعم إحسانه ، ولا يكون كالشمس والريح والمطر ) . أي : يخص بلداً دون بلد . وقال سفيان الثوري : ( ليس الإحسانُ أن تُحسنَ إلى من أحسن إليك ، وإنما الإحسان أن تحسن إلى مَن أساء إليك . فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة كنفقد السوق ، خذ مني وهَات ) . وقال السري السقطي : ( الإحسان : أن تُحسن وقت الإمكان ، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان ) ، وأنشدوا :
ليس في كلَّ ساعةٍ وأوان ... تَتَهَيَّأ صنائعُ الإحسان
فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها ... حذَراً من تعذُّر والإمْكَان
وقال الورتجبي : قوله : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة . . . } الخ ، علم الحق - سبحانه - عِلَلَ الخلق وميلهم إلى مُنى النفوس ، فدعاهم بطاعته إلى العلتين : المغفرة والجنة ، ودعا الخاصة إلى نفسه ، فقال : { ففرّوا إلى الله } ، ثم أعْلَم أن الكل في درك امتحان الجرم ، وأثبت بالآية ذنب الكل ، لأنهم وإن كانوا معصومين من الزلل ، فذنبهم قلة معرفتهم لأقدار الحق ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " لو أن الله عذب الملائكة لحق منه ، فقيل : إنهم معصومون ، فقال عليه الصلاة والسلام : من قلة معرفتهم بربهم " ولذلك دعاهم إلى المغفرة . ه . قال في الحاشية : وقوله : ( أثبت بالآية ذنب الكل ) ، يعني : شمول قوله : { يغفر لمن يشاء } مَنْ في السماوات الصادق بالملائكة ، وإنما تكون المغفرة بعد ذنب ، ولكنه في كل أحد على حسبه ، وأما قوله : دعاهم إلى المغفرة ، فكأنه من قوله : { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } ، وأن الخطاب يعم من في السماوات أيضاً ، وقد يتصور في حق الملائكة الاستنادُ لظواهر الأمور والاختلاف بينهم والاختصام ، مما هو معرض للخطأ ، وذلك من دواعي المغفرة ، وكذلك القصور عن معرفة كنه جلاله الله : نقصٌ لا يخلو منه مخلوق ، لاستحالة الإحاطة به علماً ، ولذلك كان الترقي في المعرفة لا حد له أبداً سرمداً . ه .
(1/336)

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والذين إذا فعلوا فاحشة } أي : فعلة بالغة في الفحش والقبح ، كالزنى ، { أو ظلموا أنفسهم } بأي ذنب كان ، أو فعلوا كبيرة أو صغيرة ، أو الفاحشة : ما يتعدى للغير ، وظلم النفس ما يخص ، أو الفاحشة بالفعل ، وظلم النفس بالقول ، { ذكروا الله } أي : عاقبه وغضبه وعرضه الأكبر ، أو { ذكروا الله } في أنفسهم أن الله سائلهم عنه ، أو كونه رقيباً عليهم ، أو { ذكروا الله } باللسان { فاستغفروا لذنوبهم } بالندم والتوبة ، { ومن يغفر الذنوب إلا الله } أي : لا أحد يغفره إلا الله ، والمراد : وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة ، والحث على الاستغفار .
{ ولم يصروا على ما فعلوا } أي : لم يدوموا عليها غير مستغفرين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " ما أصَرَّ مَن اسْتَغفَر ، ولو عَادَ في اليَوم سَبْعِينَ مَرَةً " وذلك إذا صحبه الندم ، وقال أيضاً : " لا كَبِيرةَ مَعَ الاستغفَار ، ولا صَغيرَةَ معَ الإصْرارِ " قال قتادة : إياكم والإصرار ، فإنما هلك المصرون الماضون قِدْماً في معاصي الله تعالى ، لم يتوبوا حتى أتاهم . ه . { وهم يعلمون } أن الإصرار يضر بهم ، أو : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنب؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- : " مَنْ أَذْنَبَ ذنْباً ، وعَلِمَ أَنَّ له ربّاً يَغْفُرِ الذنوب ، غَفَرَ له وإِنْ لمْ يسْتَغفر " وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى : " من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرتُ له ولا أبالي " وفي بعض الكتب المنزلة : " يا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ ما دَعَوْتني ورَجَوْتني لأغفرن لَكَ على مَا كَانَ منكَ ولا أُبَالِي " أو : { وهم يعلمون } أن التوبة تمحق الذنوب .
{ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم } ؛ تغطية لذوبهم ، { وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } ، ولا يلزم من إعدادها للتائبين اختصاصهم بها ، كما لا يلزم من إعداد النار للكفار اختصاصهم بها ، ثم مدح أجر التائبين فقال : { ونعم أجر العالمين } ، وانظر هذا الفرق العظيم الذي بين المحسنين وأهل اليمين ، قال في الآية الأولى : { والله يحب المحسنين } وقال في هذه الآية : { ونعم أجر العاملين } ، أهل الآية الأولى من خواص الأحباب ، وأهل هذه يأخذون أجرهم من وراء الباب . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى عين التحقيق .
الإشارة : أهل مقام الإحسان عملهم قلبي ، كالسخاء والعفو وكظم الغيظ ، وأهل اليمين عملهم بدني ، بين طاعة ومعصية وغفلة ويقظة ، إذا فعلوا فاحشة تابوا وستغفروا ، وإذا فعلوا طاعة فرحوا واستبشروا ، أهل مقام الإحسان غائبون عن رؤية أعمالهم ووجودهم ، وأهل اليمين معتمدون على أعمالهم ، إذا فعلوا طاعة قوى رجاؤهم ، وإذا زلَّوا نقص رجاؤهم ، أهل مقام الإحسان فانون عن أنفسهم باقون بربهم ، وأهل اليمين أنفسهم موجودة وأعمالهم لديهم مشهودة ، أهل مقام الإحسان محبوبون ، وأهل اليمين مُحِبُّون ، أهل مقام الإحسان فنيت عندهم الرسول والأشكال ، وبقي في نظرهم وجود الكبير المتعال ، وأهل اليمين : الأكوان عندهم موجودة ، وشموس المعارف عن قلوبهم مفقودة ، أهل مقام الإحسان يعبدون الله على نعت الشهود والعيان ، وأهل اليمين يعبدون الله من وراء حجاب الدليل والبرهان ، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان .
(1/337)

واعلم أن لمعرفة الشهود والعيان ثمرات ونتائج ، حصرها بعضهم في إحدى عشرة خصلة .
الأولى : الحرية ، ومعناها أن يكون العارف فرداً لِفَرْدٍ ، من غير أن يكون تحت رق شيء من الموجودات ، لا من إغراض الدنيا ولا من أغراض الآخرة ، فالحرية عبارة عن غاية التصفية والطهارة . قال بعضهم : ليس بحُرٍّ من بقي عليه من تصفية نفسه مقدار فص نواة ، المكاتب عبد ما بقي عليه درهم .
الثانية : الوجود ، وهو الفوز بحقيقة الأشياء في الأصل ، وهو عبارة عن إدراك مقام تضمحل فيه الرسوم ، بالاستغراق في الحقيقة الأزلية .
الثالثة : الجمع الأتم ، وهو الحال الذي يقضي بقطع الإشارات ، والشخوص عن الأمارات والعلامات ، بعد صحة التمكين والبراءة من التلوين .
الرابعة : الصحو ، وهو عبارة عن تمكين حال المشاهدة ، واتصالها ، مع برء الروح من لدغات الدَّهَشِ ، ولا يكمل الصحو إلا بحياة الروح بوارد الجمع الدائم .
الخامسة : التحقيق ، وهو الوصول إلى المعرفة بالله ، التي لا تدْركُ بالحواس ، لتخليص المشرب من الحق بالحق في الحق ، حتى تسقط المشاهدات ، وتبطل العبارات ، وتفنى الإشارات .
السادسة : البسط ، ونعني به : بسط الروح باسترسال شهود المعاني عند سقوط الأواني ، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
فما سكَنتْ والهمَ يوماً بموضع ... كذلك لم يسكُنْ مع النغَم الغَمُّ
السابعة : التلبيس ، وهو تغطية الأسرار بأستار الأسباب ، إبقاء للحكمة وستراً عن العامة .
الثامنة : البقاء ، والمراد به الخروج عن فناء المشاهدة إلى بقاء المعرفة ، من غير أُفُول بُخل بشمس المشاهدة ، ولا رجوع إلى شواهد الحس ، إنما هو استصحاب الجمع مع استنئاس الروح بحلاوة المعاني ، فهو كبائِن دانٍ . انظر بقيتها في [ بغية المسالك ] . وبالله التوفيق .
(1/338)

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
قلت : السُّدن : الطرق المسلوكة ، وقيل : الأمم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : قد مضت { من قبلكم سُننُ } جرت على الأمم المكذبة لأنبيائها قبلكم ، { ولن تجد لسنة الله تبديلاً } ، وهو إمهالي واستدراجي إياهم ، حتى يبلغ الكتاب الذي أجل لهم ، فإذا بلغهم أهلكتهم ، وأدلتُ الأنبياء وأتباعَهم عليهم ، فإذا هلكوا بقيت آثارهم دراسة ، اعتباراً لمن يأتي بعدهم ، { فسيروا في الأرض } وتعرفوا أخبارهم ، وانظروا { كيف كان عاقبة المكذبين } لأنبيائهم قبلكم ، فكذلك يكون شأنكم مع مَنْ كذَّبكم .
{ هذا } الذي أمرتكم به من الاعتبار ، { بيان للناس } لمن أراد أن يعتبر من الكفار ، وزيادة هداية واستبصار { للمتقين } .
ثم سلاَّهم وبشرهم فقال : { ولا تهنوا } أي : لا تضعفوا عن قتال عدوكم بما أصابكم ، { ولا تحزنوا } على من قُتل منكم ، وهم سبعون من الأنصار وخمسة من المهاجرين ، منهم : حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير - صاحب راية النبيّ صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن جحش ، وعثمان بن شماس ، وسعد مولى عتبة - رضي الله عنهم - . أو : { لا تحزنوا } لفوات الغنيمة { وأنتم الأعلون } بأن تكون لكم العاقبة والنصر ، أو : وحالكم أنكم أعلى منهم شأناً ، فإنكم على الحق وقتالكم لله ، وقتالكم في الجنة ، وهم على الباطل ، وقتالهم للشيطان ، وقتلاهم في النار ، فلا تفشلوا عن الجهاد { إن كنتم مؤمنين } ؛ فإن الإيمان يقتضي قوة القلب بالوثوق بالله والاعتماد عليه ، أو : { إن كنتم مؤمنين } بما وعدتكم من العلو والنصر . والله أعلم .
الإشارة : قد خلت من قبلكم ، أيها المريدون ، سنن الله في أوليائه مع المنكرين عليهم من عوام عباده ، فإنه أبعدهم عن ساحة حضرته ، وحرمهم من سابق عنايته ، حتى ماتوا على البُعد ، فاندرست آثارهم وخربت ديارهم ، فسيروا في الأرض وانظروا كيف كان عاقبة المكذبين لأوليائه ، هذا بيان للمعتبرين ، وزيادة هدى وموعظة للمتقين ، فلا تهنوا أيها الفقراء وتضعفوا عن طلب الحق بالرجوع عن طريق الجد والاجتهاد ، لما يصيبكم من أذى أهل العناد ، وأنتم الأعلون بالنصر والتأييد ، ورفع درجاتكم مع خواص أهل التوحيد ، إن كنتم مؤمنين بوعد الملك المجيد ، فمن طلب الله وجده ، وأنجز بالوفاء موعده ، لكن بعد تجرع كؤوس مرارة الصبر ، ودوام الحمد والشكر ، وأنشدوا :
لا تَحْسَبِ تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَ
(1/339)

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
قلت : القرح - بالفتح والضم - : الجرح ، وقيل : بالفتح : الجرح ، وبالضم : ألمه ووجعه . والمداولة : المفاعلة من الدولة ، وهي الغلبة ، و { الأيام } : نعت أو خبر ، و { نداولها } : خبر أو حال ، و { ليعلم } : متعلق بمحذوف ، أي : وفعل ما فعل من الادالة ليعلم ، أو عطف على علة محذوفة ، أي : نداولها ليكون كيت وكيت ، وليعلم . . . الخ ، إيذاناً بأن العلة فيه غير واحدة ، وأن ما يصيب المؤمن : فيه من المصالح ما لا يُعلم ، و { يعلم الصابرين } : منصوب بأن ، على أنَّ الواو للجمع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن يمسسكم } في غزوة أحد { قرح } كقتل أو جرح ، { فقد مس القوم } من أعدائكم يوم بدر { قرح مثله } ، فإن كان قُتل منكم خمسة وسبعون يوم أحد ، فقد قتل منهم يوم بدر سبعون وأسُرَ سبعون : أو : { فقد مسّ القوم } يوم أحد { قرح } مثل ما أصابكم ، فإنكم نلتم منهم وهزمتموهم ، قبل أن تخالفوا أمر الرسول - عليه الصلاة - ، كما نالوا منكم يومئذ . { وتلك الأيام نداولها بين الناس } أي : نُصرف دولتها بينهم ، فنديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى ، كما قال الشاعر :
فَيَوْمٌ عَلَيْنَا ويَوْمٌ لنَا ، ... ويَوْمٌ نُسَاءُ ، ويَوْمٌ نُسَرْ
فقد أديل المسلمون على المشركين يوم بدر ، فكانت الدولة لهم ، وأديل المشركون يوم أحد . والمراد بالأيام : أيام الدنيا ، أو أيام النصر والغلبة . وإنما أديل للمشركين يوم أحد ليتميز المؤمنون من المنافقين ، ويظهر علمهم للناس ، وليتخذ الله { منكم شهداء } حين ماتوا في الجهاد ، أكرمهم الله بالشهادة ، ولا تدل إدالة المشركين على أن الله يحبهم ، فإن الله { لا يحب الظالمين } . وإنما أدلهم { ليمحص الله الذي آمنوا } أي : ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب ، وأنما أدال المسلمين على المشركين ليمحق الكافرين ويقطع دابرهم . والمحق : نقص الشيء قليلاً قليلاً .
ثم عاتب المسلمين فقال : { أم حسبتم } أي : ظننتم { أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } علم ظهور ، { ويعلم الصابرين } أي : لا تظنوا أن تدخلوا الجنة كما دخلها مَنْ قُتل منكم ، ولم يقع منكم مثل ما وقع لهم من الجهاد والصبر على القتل والجرح؛ حتى يقع العلم ظاهراً بجهادكم وصبركم .
{ ولقد كنتم } قبل خروجكم إلى الجهاد { تمنون الموت } أي : الحرب؛ لأنه سبب الموت ، وتقولون : ليت لنا يوماً مثل يوم بدر ، فلقد لقيتموه وعينتموه يوم أحد { وأنتم تنظرون } من مات من إخوانكم ، فما لكم حين رأيتموه جبنتم وانهزمتم؟ وهو عتاب لمن طلب الخروج يوم أحد ، ثم انهزم عن الحرب ، ثم تداركهم بالتوبة والعفو ، على ما يأتي إن شاء الله . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إن يمسسكم يا معشر الفقراء قرح؛ كحبس أو ضرب أو سجن أو حَرج أو جلاء ، فقد مس العموم مثل ذلك ، غير أنكم تسيرون به إلى الله تعالى لمعرفتكم فيه ، وهم لا سير لهم لعدم معرفتهم ، أو إن يمسسكم قرح فقد مسَّ القوم المتقدمين من أهل الخصوصية مثل ما أصابكم ، ففيهم أسوة لكم ، وهذه عادة الله في أوليائه ، يديل عليهم حتى يتطهروا ويتخلصوا ، ثم يُديل لهم ، وإنما أديل عليهم حتى تيطهروا ويتخلصوا ، ثم يُديل لهم ، وإنما أديل عليهم أولاً ليتطهروا من البقايا وتكمل فيهم المزايا ، وليعلم الصادق في الطلب من الكاذب ، فإنَّ محبة الله مقرونة بالبلاء ، وليتخذ منهم شهداء إن ماتوا على ذلك ، كالحلاج وغيره ، أو يتخذ منهم شهداء الملكوت إن صبرا حتى ظفروا بالشهود .
(1/340)

{ والله لا يحب الظالمين } أي : المؤذين لأولياءه ، بل يمقتهم ويبعدهم .
{ وليمحص الله الذي آمنوا } بطريق الخصوص ، أي : يخلصهم من بقايا الحس ، سلط عليهم الناس ، وليَمحق المنكرين عليهم بما يصيبهم من إذايتهم ، فإن المنكر على أهل النسبة كمن يدخل يده في الغيران ، فإذا سلم من الأول والثاني ، قال : لا يلحقني منهم شيء ، فإذا أدخل يده في غار آخر لدغته حية فأهلكته .
أم حسبتم يا معشر المريدين أن تدخلوا جنة المعارف ، ولما يعلم الله الذين جاهدوا نفوسهم ، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم ، ولقد كنتم تمنون موت نفوسكم وتطلبون ما يعينكم على موتها من قبل أن تلقوا الجلال ، فقد رأيتموه وعاينتموه وأنتم تنظرون ما أصاب الأولياء غيركم ، فما لكم تجزعون منه وتفرون من مواطنه؟ . وكان شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول : العجب كل العجب ، ممن يطلب معرفة الله ، فإذا تعرف إليه أنكره .
وفي الحِكَم : " إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها ، وإن قلَّ عملك ، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها ، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك ، والأعمال أنت مهديها إليه ، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟ " . وبالله التوفيق .
(1/341)

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
قلت : { كتاباً } : مصدر ، أي : كتب الموت كتاباً مؤجلاً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما محمد إلا رسول } يصيبه ما أصابهم ، { قد } مضت { من قبله الرسل } ، فسيمضي كما مضوا بالموت أو القتل ، { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } بعد تقرر شريعته وظهور براهينه ، عاتبهم على تقدير أن لو صار منهم انقلاب لو مات صلى الله عليه وسلم أو قتل ، أو على صدر من بعض المنافقين وهم ساكتون .
قال أصحاب المغازي : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحُد ، في سبعمائة رجل ، وأمَّر عبدَ الله بنَ جبيرٍ على الرماة ، وهم خمسون رجلاً ، وقال : انضحوا عنا بالنبل ، لا يأتونا نم خلقنا ، لا تبرحوا مكانكم؛ كانت لنا أو علينا ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانكم ، فجاءت قريش ، وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة ، ومعهم النساء . ثم انتشب القتال فقال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه؟ " فجاء رجال فمنعهم ، حتى جاء أبو دُجانة ، فقال : وما حقه يا رسول الله؟ قال : " تضرب به العدو حتى ينحني " ، وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب ، فأخذه واعتم بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر بين الصفين ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع " .
ثم حمل النبيّ صلى الله عليه وسلم على المشركين فهزموهم ، قال الزبير : ( فرأيت هنداً وصواحبها هارباتٍ مصعدات في الجبل ) ، فلما نظر الرماة إلى القوم قك انكشفوا ، قالوا : الغنيمة الغنيمة فقال لهم بعضهم : لا تتركوا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يلتفتوا ، وانطلق عامتهم ، فلما رأى خالد قلة الرماة ، صاح في خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم ، وقتل عبد الله بن جبير ، واختلط الناس ، فقتل بعضُهم بعضاً ، ورمى عبدُ الله بن قمئة الحارثي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحجر ، فكسر أنفه ورباعيته ، وشجَّه في وجهه ، وكسر البيضة على رأسه ، فذبَّ عنه مصعبُ بن عمير ، وكان صاحب الراية ، فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم ن فرجع إلى قومه ، وقال : قد قتلت محمداً ، وصرخ صارخ : ألا إنَّ محمداً قد مات . وقيل : إنه الشيطان ، فانكفأ الناس ، وجعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - يدعو : " إليَّ عباد الله " ، فانحاز إليه ثلاثون من الصحابة ، وضموه حتى كشفوا عنه المشركين ، وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست ، حتى وقَى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان ، حتى وقعت على وجنتيه ، فردها النبيّ صلى الله عليه وسلم مكانها ، فعادت أحسن مما كانت .
(1/342)

وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات - فقال بعض المسلمين : ليت ابنُ أُبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان . وقال بعض المنافقين : لو كان نبيّاً ما قتل ، ارجعوا إلى دينكم الأول . فقال أنس بن النضر - عمُّ أنس بن مالك : ( إن كان قد قتل محمدٌ فَإِنَّ رب محمد لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، حتى تمتوا على ما مات عليه ) . ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني الكفار- ، ثم شدّ سيفه وقاتل حتى قُتل ، رحمة الله عليه .
فأنزل فيما قال المنافقون : { ومن ينقلب على عقبيه } بارتداده { فلن يضر الله شيئاً } وإنما يضر نفسه ، { وسيجزي الله الشاكرين } على نعمة الإسلام بالثبات عليه ، كأنس وأضرابه ، { وما كان } ينبغي { لنفس أن تموت إلا بإذن الله } أي : بإرادته ومشيئته ، أو بإذنه لملكٍ في قبض روحه ، والمعنى : أنَّ لكل نفس أجلاً مسمى في علمه تعالى وقضائه ، لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم ، بالتأخر عن القتال ولا بالإقدام عليه ، وفيه تشجيعهم على القتال ووعد للرسول بحفظه وتأخر أجله؛ فإن الله تعالى كتب أجل الموت { كتاباً مؤجلاً } ؛ مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر .
ونزل في الرماة الذين خالفوا المركز للغنيمة : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤتها منها } الجزاء الجليل ، { وسنجزي الشاكرين } الذين كروا نعم الله ، فلم يشغلهم شيء عن الجهاد في سبيل الله ، بل كان همهم رضي الله ورسوله دون شيء سواه .
الإشارة : ينبغي للمريد أن يستغني بالله ، فلا يركن إلى شيء سواه ، وتكون بصيرته نافذة حتى يغيب عن الواسطة بشهود الموسوط ، فإن مات شيخه لم ينقلب على عقبيه ، فإن تمكن من الشهود فقد استغنى عن كل موجود ، وإن لم يتمكن نظر من يكمله ، فالوقوف من الوسائط وقوف مع النعم دون شهود المنعم ، فلا يكون شاكراً للمْنعم حتى لا يحجبه عنه شيء ، ولما مات - عليه الصلاة والسلام - دهشت الناس ، وتحيّرت لوقوفهم مع شهود النعمة ، إلاَّ الصدِّيق؛ كان نفذ من شهود النعمة إلى شهود المُنعم ، فخطب حينئذٍ على الناس ، وقال : ( مَنْ كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّداً فإن مُحَمَّداً قَدْ ماتَ ، ومَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللّهَ حَيٌ لاَ يَمُوتِ ) . ثم قرأ : { وما محمد إلا رسول . . . } إلى قوله : { وسنجزي الشاكرين } ، وهم الذين نفذوا إلى شهود المنعم ، ولم يقفوا مع النعمة .
ودخل بعض العارفين على بعض الفقراء فوجده يبكي ، فقال له : ما يبكيك؟ قال : مات أستاذي ، فقال له العارف : ولم جعلت أستاذك يموت؟ وهلا جعلته حيّاً لا يمت . فنبهه على نفاذ بصيرته إلى شهود المنعم دون الوقوف مع النعمة ، فالشيخ الحقيقي هو الذي يغني صاحبه عنه وعن غيره ، بالدلالة على ربه .
(1/343)

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
قلت : { كأَيِّن } : أصله : أيْ ، دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى { كم } ، وأثبت التنوين نوناً على غير قياس ، وقرأ ابن كثير ، { وكائن } ، على وزن فاعل ، ووجهه : أنه قلب الياء قبل الهمزة فصار : كيَاءٍ ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فصار كائن ، وهما لغتان ، وقد جمع الشاعر بينهما في بيت ، فقال :
كَأيّنْ أبَدْنَا مِنْ عَدوٍّ بعِزِّنا ... وكَائِنْ أجَرْنا مِنْ ضَعيفٍ وخائِفِ
و { الرِبِّيون } : جمع رُبَّة ، أي : الفرقة . أي : معه جموع كثيرة ، وقيل : العلماء الأتقياء ، وقيل : الولاة ، وهو : إما مبتدأ فيوقف على { قُتل } ، أو نائب فاعل { قُتل } ، أو فاعل على من قرأ بالبناء له ، و { كثير } : نعت له ، كقوله : { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التّحْريم : 4 ] ؛ لأن فعيلاً يخبر به عن المفرد والجمع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكأين } ؛ وكم { من نبي قتل } في المعركة ومعه جموع كثيرة ، أو ربانيون علماء أتقياء ، فلم يفشلوا ولم يضعفوا ، بل ثبتوا على دينهم وجهاد عدوهم ، أو يقول : كثير من الأنبياء قتل معهم ربانيون كثير ، أي : ماتوا في الحرب فثبت الباقون ، ولم يفتروا ولم يضعفوا عن عدوهم ، ويترجح الأول بما صرَخَ به الصارخ يوم أحد : إن محمداً قد مات ، فضرب لهم المثل بقوله : { وكأين من نبي قُتل } ، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل نبيّ قط في المحاربة .
أو : { وكأين من نبيّ قاتل } أي : جاهد معه { ربِّيون كثير } ، وبعدما قتل نبيهم أو جموعهم { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله } أي : فما فتروا : ولم ينكسر جندهم؛ لأجل ما أصابهم من قتل نبيهم أو بعضهم ، { وما ضعفوا } عن جهاد عدوهم ولا عن دينهم ، { وما استكانوا } أي : خضعوا لعدوهم ، من السكون؛ لأن الخاضع يسكن لعدوه يفعل به ما يريد ، فالألف إشباع زائد ، أي : فما سكنوا لعدوهم بل صبروا له ، { والله يحب الصابرين } فينصرهم ويعزهم ويُعظم قدرهم .
{ وما كان قولهم } عند قتل نبيهم مع ثباتهم على دينه ، { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } الصغائر ، { وإسرافنا في أمرنا } أي : ما تجاوزنا به الحد في أمر ذنوبنا ، كالكبائر ، { وثبت أقدامنا } في مداحض الحرب؛ لئلا ننهزم ، { وانصرنا على القوم الكافرين } من أعدائنا ، فَهلاَّ فعلتم مثلهم ، وقلتم ذلك يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
{ فآتاهم الله } في ثواب الاستغفار واللجوء إلى الله { ثواب الدنيا } وهو النصر والغنيمة والعز وحسن الذكر ، { وحسن ثواب الآخرة } وهو النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد ، وخص ثواب الآخرة بالحسن؛ إشعاراً بفضله ، وأنه المعتد به عنده ، { والله يحب المحسنين } الثابتين على دينهم ، لأنهم أحسنوا فيما بينهم وبين ربهم بحفظ دينه ، فأحبهم الله وقربهم إلى حضرته .
الإشارة : وكم من المريدين والأتباع مات شيخهم أو قتل ، فثبتوا على طريقهم ، فما فَشِلوا ولا ضعفوا ، ولا خضعوا لمن يقطعهم عن ربهم ، بل صبروا على السير إلى ربهم ، أو الترقي في المقامات ، ومن لم يرشد منهم طلب من يكمل له ، { والله يحب الصابرين } ، فإذا أحبهم كان سمعهم وبصرهم ، كما في الحديث . وما كان حالهم عند موت شيخهم إلا الالتجاء إلى ربهم ، والاستغفار مما بقي من مساوئهم ، وطلب الثبات في مواطن حرب أنفسهم ، فأعطاهم الله عزّ الدنيا والآخرة عزّ الدنيا بالإيمان والمعرفة ، وعزّ الآخرة بدوام المشاهدة ، فكانوا أحباب الله؛ { والله يحب المحسنين } .
(1/344)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا الذين كفروا } وهم المنافقون ، لما قالوا للمسلمين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دينكم الأول ، ولو كان نبيّاً ما قتل ، { يردوكم على أعقابكم } راجعين عن إيمانكم ، { فتنقلبوا خاسرين } مفتونين عن دينكم ، فتحبط أعمالكم فتخسروا الدنيا والآخرة ، بل أثبتوا على إيمانكم ، فإن الله { مولاكم } سينصركم ويعزكم ، { وهو خير الناصرين } ، وقيل : إن تسكنوا إلى أبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم . وقيل : عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم؛ فإنه يجر إلى موافقتهم على دينهم ، لا سيما إن طالت مدة الاستئمان .
قلت : وهذا هو السبب في ارتداد من بقي من المسلمين بالأندلس حتى رجعوا نصارى ، هم وأولادهم ، والعياذ بالله من سوء القضاء .
الإشارة : يا أيها المريدون - وخصوصاً المتجردين - إن تطيعوا العامة ، وتركنوا إليهم ، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بطلب الدنيا وتعاطي أسبابها ، فتزلَّ قدمٌ بعد ثُبْوتها ، وتنحط من الهمة العالية إلى الهمة السفلى ، فإن الطباع تُسرق ، والمرء على دين خليله ، بل أثبتوا على التجريد وتحقيق التوحيد ، فإن الله مولاكم { وهو خير الناصرين } ؛ فينصركم ويعزكم ويغنيكم بلا سبب ، كما وعدكم؛ { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 ، 3 ] .
(1/345)

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
قلت : { الرعب } : الخوف ، وفيه الضم والسكون ، وهكذا كل ثلاثي ساكن الوسط ، كالقدس والعسر واليسر ، وشبه ذلك ، و { بما أشركوا } : مصدرية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : سنقذف { في قلوب الذين كفروا } كأبي سفيان وأصحابه ، { الرعب } والخوف ، حتى يرجعوا عنكم بلا سبب ، بسبب شركهم بالله { ما لم ينزل به سلطاناً } ولا حجة على استحقاق العبادة ، { ومأواهم النار } أي : هي مقامهم ، { وبئس مثوى الظالمين } أي : قبح مقامهم . ووضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ في العلة .
الإشارة : فيها تسلية للفقراء ، فإنَّ كل من هم بإذايتهم ألقى الله في قلبه الرعب ، حتى لا يقدر أن يتوصل إليهم بشيء مما أمَّل فيهم ، وقد رأيتهم هموا بقتلهم وضربهم وحبسهم ، وسعوا في ذلك جهدهم ، وعملوا في ذلك بينات على زعمهم ، تُوجب قتلهم ، فكفاهم الله أمرهم ، وألقى الرعب في قلوبهم ، فانقلبوا خائبين وماتوا ظالمين ، والله ولي المتقين .
(1/346)

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
قلت : حسَّه : إذا قتله وأبطل حسه ، وجواب { إذا } : محذوف ، أي : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم امتحناكم بالهزيمة ، والواو لا ترتب ، والتقدير : حتى إذا تنازعتم وعصيتم وفشلتم سلبنا النصر عنكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد صدقكم الله } ما وعدكم من النصر لو صبرتم واتقيتم ، وذلك حين كنتم { تحسونهم } بالسيف ، وتقتلونهم حتى انهزموا هاربين ، بإذنه تعالى وإرادته ، { حتى إذا فشلتم } أي : جبنتم وضعف رأيكم وملتم إلى الغنيمة ، { وتنازعتم } في الثبات مع الرماة حين انهزم المشركون ، فقلتم : الغنيمةَ الغنيمةَ ، فما وقوفكم هنا! وقال آخرون : لا تخالفوا أمر الرسول ، ثم تركتم المركز ، { وعصيتم الرسول من بعد ما أراكم ما تحبون } من النصر والغنيمة ، امتحناكم حينئذ بالهزيمة .
فمنكم { من يريد الدنيا } ليصرفها في الآخرة ، وهم الذين خالفوا المركز وذهبوا للغنيمة ، { ومنكم من يريد الآخرة } صِرفاً ، وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير ، محافظةً على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { ثم صرفكم عنهم } حين خالفتم أمر الرسول ، { ليبتليكم } أي : ليختبركم ، فيتبين الصابر من الجازع ، والمخلص من المنافق ، { ولقد عفا عنكم } فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، لاستحقاقكم ذلك ، أو تجاوز عن ذنبكم وتفضل بالتوبة والمغفرة ، { والله ذو فضل } عظيم { على المؤمنين } ؛ يتفضل عليهم بالمغفرة في الأحوال كلها ، سواء أديل عليهم أو لهم ، فإن الابتلاء أيضاً رحمة وتطهير . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يقول للفقراء الذين استشرفوا على بلاد الخصوصية ، ثم فشلوا ورجعوا إلى بلاد العمومية : ولقد صدقكم الله وعده في إدراك الخصوصية لو صبرتم ، فإنكم حين كنتم تجاهدون نفوسكم وتحسونها بسيوف المخالفة ، لمعت لكم أنوار المشاهدة ، حتى إذا فشلتم وتفرقت قلوبكم ، وعصيتم شيوخكم قلَّت أمدادكم ، وأظلمت قلوبكم ، من بعد ما رأيتم ما تحبون من مبادئ المشاهدة ، فملتم إلى الدنيا الفانية ، فمنكم يا معشر المنتسبين من يريد الدنيا ، فصحب العارفين على حرف ، وهو الذي رجع وفشل ، ومنكم من يريد الآخرة وقطع يأسه من الرجوع إلى الدنيا ، وهو الذي ثبت حتى ظفر ، ثم صرفكم عن حصبة العارفين ، يا من أراد الدنيا من المنتسبين ، ليبتليكم ، هل صحبتموهم لله أو لغيره ، ولقد عفا عنكم وجعلكم من عوام المسلمين ، ولم يسلب عنكم الإيمان عقوبة لترك صحبة العارفين . أو لقد عفا عنكم إن رجعتم إلى صحبتهم والأدب معهم ، فإن الله { ذو فضل على المؤمنين } حيث لم يعاجلهم بالعقوبة . وبالله التوفيق .
وقال الورتجبي : قوله : { منكم من يريد الدنيا } ، أي : منكم من وقع في بحر غني القدم ، واتصف به بنعت التمكين ورؤية النعم في شكر المنعم ، كسليمان عليه السلام . ومنكم من وقع في بحر التنزيه وتقديس الأزلية ، فغلب عليه القدس والطهارة ، فخرج بنعت الفقر؛ تجريداً لتوحيده وإفرادِ قدمه من الحدث ، كمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال : " الفقر فخري " .
(1/347)

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
قلت : { إذْ } : ظرف لعفا ، أو اذكر . وأصعد : أبعد في الأرض ، وصعد : في الجبل ، فالإصعاد : الذهاب في الأرض المستوية ، والصعود : الارتقاء في العلو . وقرئ بهما معاً؛ لأنهما وقعا معاً ، فمنهم من فرّ ذاهباً في الأرض ، ومنهم من صعد إلى الجبل .
و { لكيلا } : متعلق بأثابكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولقد عفا عنكم حين كنتم { تُصْعِدُون } عن نبيه - عليه الصلاة والسلام - ، منهزمين عنه ، تبعدون عنه ، { ولا تلوون على أحد } أي : لا يلتفت بعضكم إلى بعض ، ولا ينتظر بعضكم بعضاً ، { والرسول } محمد صلى الله عليه وسلم { يدعوكم في أخراكم } أي : في ساقتكم ، يقول : " إليَّ عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكرُّ فله الجنة " ، وفيه مدح للرسول صلى الله عليه وسلم بالشجاعة والثبات ، حيث وقف في آخر المنهزمين ، فإن الآخر هو موقف الأبطال ، والفرار في حقه صلى الله عليه وسلم محال .
{ فأثابكم } أي : فجازاكم على ذلك الفرار ، { غمّاً } ؛ وهو ظهور المشركين عليكم وقتل إخوانكم ، بسبب غم أوصلتموه للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعصيانه والفرار عنه ، وقدَّر ذلك { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من الغنيمة ، { ولا } على { ما أصابكم } من الجرح والهزيمة ، لأن من استحق العقوبة والأدب لا يحزن على ما فاته ولا على ما أصابه؛ إذ جريمته تستحق أكثر من ذلك ، يرى ما نزل به بعض ما يستحقه ، فيهون عليه أمر ما نزل به أو ما فاته من الخير .
أو يقول : { فأثابكم غمّاً } متصلاً { بغم } ؛ فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغينمة ، والثاني : ما نالهم من القتل والهزيمة ، أو الأول : ما أصابهم من القتل والجراح ، والثاني : ما سمعوا من الإرجاف بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وذلك ليتمرنوا على المحن والشدائد حتى لا يجزعوا من شيء ، وبذلك وصفهم كعب بن زهير في لاميته ، حيث قال :
لاَ يَفْرَحُونَ إِذا نَالَتْ رِماحُهُمْ ... وَلَيْسُوا مجازيعاً إذا نِيلُوا
فإن المتمرّن على المصائب المتعوّد عليها يهون عليها أمرها ، فلا يحزن على ما أصابه ولا ما فاته ، { والله خبير بما تعملون } وبما قصدتم ، فيجازيكم على ذلك .
الإشارة : ما زال الدعاة إلى الله من أهل التربية النبوية يدعون الناس إلى الله ، ويعرفونهم بالطريق إلى الله ، يبنون لهم الطريق إلى عين التحقيق ، والناس يبعدون عنهم ويفرّون منهم ، وهم في أخراهم يقولون بلسان الحال أو المقال : يا عباد الله ، هلم إلينا نعرفُكم بالله ، وندلكم على الله ، فلا يلوي إليهم أحد ولا يلتفت إليهم بشر ، إلا من سبقت له العناية ، وأراد الحق تعالى أن يوصله إلى درجة الولاية ، " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " ، فأثابهم على الفرار غم الحجاب ، متصلاً بغم الأسباب ، فلا يحزنوا على ما فاتهم من المعرفة؛ إذ لم يعرفوا قدرها ، ولا على ما أصابهم من الغفلة والبطالة ، إذ لم يتفطنوا لها { والله خبير بما تعملون } يا معشر العباد ، من التودد أو العناد . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/348)

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
قلت : { نعاساً } : بد لمن { أمنة } ، أو هو المفعول ، و { أمنة } : حال منه ، مقدمة ، أو مفعول له ، أي : أنزل عليكم نعاساً لأجل الأمنة ، أو حال من كاف { عليكم } ، أي : أنزل عليكم حال كونكم آمنين . والأمنة : مصدر أمِن ، كالعظَمة والغَلَبة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ثم أنزل عليكم } أيها المؤمنون { من بعد الغم } الذي أصابكم بموت إخوانكم ، والإرجاف بقتل نبيكم ، الأمن والطمأنينة ، حتى أخذكم النعاس وأنتم في الحرب . قال أبو طلحة : ( غَشينَا النعاسُ ونحن في المصافّ ، حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه ) . وقال الزبير رضي الله عنه . لقد رأيتني حين اشتدّ الخوف ، ونحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أرسل الله - تعالى - علينا النوم ، والله إني لأسمع قول معتب ، والنعاس يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلُم : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } .
ثم إن هذا النعاس إنما { يغشى طائفة منكم } وهم المؤمنون ، أو : هذه الأمنة إنما تغشى طائفة منكم ، وأما المنافقون فقد { أهمتهم أنفسهم } ، أي : أوقعتهم في الهموم والغموم ، أو ما يهمهم إلا أنفسهم ، يُدبرون خلاصها ونجاتها ، فقد طارت قلوبهم من الخوف ، فلا يتصور في حقهم النوم ، { يظنون بالله غير الحق } أي : غير الظن الحق ، لأنهم ظنّوا أنه لا ينصر - عليه الصلاة والسلام ، وأن أمره مضمحل ، أو ظنوا أنه قتل ، ظنّاً كظن الجاهلية ، أهل الشرك ، { يقولون } أي : بعضهم لبعض : { هل لنا من الأمر من شيء } أي : عُزلنا عن تدبر أنفسنا ، فلم يبق لنا من الأمر من شيء . قاله ابنُ أُبي ، لَما بلغة قتل الخزرج .
{ قل } لهم يا محمد : { إن الأمر كله لله } ؛ ليس بيد غيره شيء من التدبير والاختيار ، حال كون المنافقين { يخفون في أنفسهم } من الكفر والنفاق { ما لا يُبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } أي : لو كان تدبيراً أو اختياراً ما خرجنا سلسلة المقادير ، رغماً على أنفكم ، فلو { كنتم في بيوتكم } آمنين { لبرز الذين كتب عليهم القتل } ، ووصل أجلهم { إلى مضاجعهم } ومصارعهم ، رغماً على أنفهم ، فإن الله قدَّر الأمور ودبرها في سابق أزله ، لا معقب لحكمه ، وإنما فعل ذلك ، وأخرجكم إلى المعركة { ليبتلي الله ما في صدوركم } أي : يختبر ما فيها من الخير أو الشر ، { وليمحص ما في قلوبكم } أي : يكشف ما فيها من النفاق أو الإخلاص ، فقد ظهر خبث سريرتكم ومرض قلوبكم بالنفاق الذي تمكن فيه ، { والله عليم بذات الصدور } أي : بخفاياها قبل إظهارها . وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء ، وإنما فعل ذلك ليُميِّز المؤمنين ويُظهَر حال المنافقين . قاله البيضاوي .
الإشارة : ثم أنزل عليكم أيها الواصلون المتمكنون ، أو من تعلق بكم من السائرين .
(1/349)

من بعد غم المجاهدة وتعب المراقبة أمنة في قلوبكم بالطمأنينة بشهود الله ، وراحة في جوارحكم من تعب الخدمة في السير إلى الله ، حتى وصلتم فنمتم في ظل الأمن والأمان ، وسكنتم في جوار الكريم المنان .
قال بعض العارفين : ( إذا انتقلت المعاملة إلى القلوب استراحت الجوارح ) ، وهذه الراحة إنما تحصل للعارفين ، أو من تعلق بهم من المريدين ، وطائفة من غيرهم؛ وهم المتفقرة الجاهلون ، الذين لا شيخ لهم ، قد أهمتهم أنفسهم ، تارة تصرعهم وتارة يصرعونها ، تارة تُشرق عليهم أنوارُ التوجه ، فيقوى رجاؤهم في الفتح ، وتارة تنقبض عنهم فيظنون بالله غير الحق ، ظن الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الفتح من شيء؟ .
قل لهم : { إن الأمر كله لله } ؛ يوصل من يشاء ويبعد من يشاء ، يُخفون في أنفسهم من العيوب والخواطر الرديئة ما لا يبدون لك ، فإذا طال عليهم الفتح ، وغلب عليهم الفقر ، ندموا على ما فاتهم من التمتع بالدنيا ، يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ها هنا بالذل والفقر والجوع ، قل لهم : ذلك الذي سبق في علم الله ، لا محيد لأحد عنه ، ليظهر الصادق في الطلب من الكاذب ، [ كن صادقاً تجد مرشداً ] ، فلو صدقتم في الطلب لأرشدكم إلى من يُوصلكم ويريحكم من التعب . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/350)

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين تولوا منكم } وانهزموا يوم أحد؛ { يوم التقى الجمعان } جمع المسلمين وجمع الكفار إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان { استزلهم } ، أي : طلب زللهم فأطاعوه ، أي : زين لهم الفرار فأطاعوه ، بسبب بعض { ما كسبوا } من الإثم ، كمخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والحرص على الغنيمة ، وذنوب اقترفوها قبل الجهاد ، فإن المعاصي تجر بعضها بعضاً ، كالطاعة ، { ولقد عفا الله عنهم } فيما فعلوا من الفرار؛ لتوبتهم واعتذارهم؛ { إن الله غفور } للذنوب ، { حليم } لا يعاجل بعقوبة المذنب كي يتوب .
الإشارة : إن الذين تولوا منكم يا معشر الفقراء ، ورجعوا عن صحبة الشيوخ ، حين التقى في قلبهم الخصمان : خصم يرغبهم في الثبوت ، وخصم يدلهم على الرجوع ، ثم غلب خصم الرجوع فرجعوا ، إنما استزلهم الشيطان بسوء أدبهم ، فإن تابوا ورجعوا ، أقبلوا عليهم ، وقَبل الله توبتهم ، وعفا عنهم ، فإنه سبحانه غفور حليم .
(1/351)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
قلت : { غُزّي } : جمع غازٍ ، كعافٍ وعفى ، وإنما وضع { إذا } موضع { إذ } ؛ لحكاية الحال ،
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } ونافقوا ، كعبد الله بن أُبي ، وأصحابه ، { وقالوا لإخوانهم } في النسب ، أو في المذهب ، أي : قالوا لأجلهم أو في شأنهم ، { إذا ضربوا في الأرض } أي : سافروا للتجارة أو غيرها فماتوا ، { أو كانوا غُزًّى } أي : غازين فقتلوا في الغزو : { لو كانوا عندنا } مُقيمين { ما ماتوا وما قتلوا } ، وإنما نطقوا بذلك { ليجعل الله ذلك } القول الناشىء عن الاعتقاد الفاسد { حسرة في قلوبهم } بالاغتمام على ما فات ، والتحسر على ما لم يأت ، { والله } هو { يحيي ويميت } بلا سبب في الإقامة والسفر ، فليس يمنع حذر من قدر ، { والله بما تعملون } ، أيها المؤمنون { بصير } ، ففيه تهديد لهم على أن يُماثلوا المنافقين في هذا الاعتقاد الفاسد ، ومن قرأ بالياء فهو تهديد لهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا ينبغي للأقوياء من أهل اليقين أن يتشبهوا بضعفاء اليقين ، كانوا علماء أو صالحين أو طالحين ، حيث يقولون لإخوانهم إذا سافروا لأرض مخوفة أو بلد الوباء . لو جلسوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، وما دَرَوْا أن الله قدَّر الآجال كما قدَّر الأرزاق وجميع الشؤون والأحوال ، وعيَّن لها أوقاتاً محدودة في أزله ، فكل مقدور يبرز في وقته ، " ما من نَفَسٍ تبديه ، إلا وله قدر فيك يمضيه " ، فما قدَّره في سابق علمه لا بد أن يكون ، وما لم يقدره لا يكون ، ولا تجلبه حركة ولا سكون . ولله در القائل :
مَا لاَ يُقَدَّرُ لاَ يَكُونُ بِحِيلَةٍ ... أَبَداً وَمَا هُوَ كائِنٌ سَيكُونُ
سَيَكُونُ ما هُوَ كائنٌ في وَقْتِهِ ... وَأخُو الجَهَالَةِ مُتْعَبٌ مَحْزُونُ
يَجْرِي الحَريصُ ولا يَنَالُ بِحرْصِهِ ... شَيْئاً ويَحْظَى عَاجِزٌ وَمَهِينٌ
فَدعَ الهُمُومَ ، تَعَرَّ مِنْ أثْوابِهَا ، ... إنْ كانَ عِنْدَكَ بالْقَضَاءِ يَقِينُ
هَوِّنْ عَلَيْكَ وَكُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقاً ... فَأخُوا الحَقِيقَةِ شَأنُه التَّهْوِينُ
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يتمثل بهذه الأبيات :
فَهَوَّنْ عَلَيْكَ فَإنَّ الأُمُورَ ... بكفِّ الإلَهِ مَقَادِيرُهَا
فَلَيْسَ يَأتِيكَ مَصْرُوفُهَا ... ولا عَازِبٌ عَنْكَ مَقْدُورُها
وكل من لم يحقق الإيمان بالقدر لا ينفك عن الحسرة والكدر ، ومن أراد النعيم المقيم فليثلج صدره ببرد الرضا والتسليم ، ومن أراد الروح والريحان فعليه بجنات العرفان ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواءه الطريق .
(1/352)

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
قلت : إذا اجتمع القسم والشرط ذكر جواب الأول وأغنى عن الثاني ، فقوله : { لمغفرة } : جواب القسم ، أغنى عن جواب { إن } ، والتقدير : إن قتلتم في سبيل الله غفر الله لكم ، ثم سد عنه { لمغفرة . . . } الخ ، ومن قرأ : { مِتم } بكسر الميم ، فهو من : مات يمات ، كهاب يهاب هِبتُ ، وخاف يخاف خِفتُ ، ومن قرأ بالضم : فمن مات يموت ، كقال يقول قُلت .
يقول الحقّ جلّ جلاله : إن السفر والغزو ليس هما مما يجلب الموت أو يقدم الأجل ، وعلى تقدير : لو وقع ذلك وحضر أجلكم فيه وقتلتم { في سبيل الله } بالسيف ، { أو متم } حتف أنفكم ، لما تنالون من المغفرة والرحمة والروح والريحان { خير مما تجمعون } من حطام الدنيا الفانية لو لم تموتوا ، وعلى أي وجه متم أو قتلتم فلا تحشرون إلا إلى الله ، لا إلى أحد غيره ، فيوفى جزاءكم ويعظم ثوابكم ، وأما البقاء في الدنيا فلا مطمع لأحد فيه ، سافر أو قعد في بيته ، وقدَّم أولاً القتل على الموت وأخره ثانياً؛ لأن الأول رتب عليه المغفرة والرحمة ، وهما في حق من فتل في الجهاد أعظم ممن مات بغيره ، فقدمه؛ اعتناء به ، وفي الثاني رتب عليه الحشر ، وهو مستوٍ في القتل والموت ، فلا مزية فيه للقتل على الموت . والله أعلم .
الإشارة : ولئن قتلتم نفوسكم وبذلتم مهجكم في طلب محبوبكم ، فظفرتم بالوصول إليه قبل موتكم ، أو متم في السير قبل الوصول إلى محبوبكم ، لما تنالون من كمال اليقين وشهود رب العالمين ، أو من المغفرة والرحمة التي تضمكم إلى جواره ، خير مما كنتم تجمعون من الدنيا قبل توجهكم إليه ، فإن الموت والحشر مكتوب على كل مخلوق ، فيظهر فوز المجاهدين والمتوجهين ، وغبن القاعدين المستوفين . وبالله التوفيق .
(1/353)

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
قلت : { فبما } : صلة . والفظ ، الجافي ، يقال : فظ فظاظةً وفظوظاً ، ورجل فظ ، وامرأة فظة ، والفض - بغير المشالة : التفرق ، ويطلق على الكسر ، ومنه : لا يفضض الله فاك .
يقول الحقّ جلّ جلاله : فبرحمة من الله ونعمة كنت سهلاً ليناً رفيقاً ، فحين عصوا أمرك ، وفروا عنك ، ألنت لهم جانبك ، ورفقت بهم ، بل اغتممت من أجلهم مما أصابهم ، { ولو كنت فظّاً } جافياً سيىء الخلق { غليظ القلب } قاسيَهُ فأغلظت لهم القول ، { لانفضوا من حولك } أي : لتفرقوا عنك ، ولم يسكنوا إليك ، { فاعف عنهم } فيما يختص بك ، { واستغفر لهم } في حق ربك حتى يشفعك فيهم { وشاورهم في الأمر } الذي يصح أن يشاور فيه؛ تطييباً لخاطرهم ، ورفعاً لأقدارهم ، واستخراجاً وتمهيداً لسنة المشاورة لغيرهم ، وخصوصاً الأمراء .
قال عليه الصلاة والسلام : " ما شقا عبد بمشورة ، وما سعد باستغناء برأي " قال أيضاً : " مَا خَابَ من اسْتَخَارَ ، وَلاَ نَدِمَ من اسْتَشَارَ " وقال أيضاً - عليه الصلاة والسلام - " إذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ أَسخيَاءَكُمْ ، وأَمرُكُم شُورَى بَيْنَكُم ، فَظَهْرُ الأرْض خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا . وإذا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ ، ولم تكن أموركم شُورَى بَيْنَكُم ، فبَطْنُ الأرْضِ خَيرٌ من ظَهْرِهَا " .
{ فإذا عزمت } على شيء بعد الشورى ، { فتوكل على الله } أي : ثق به وكيلاً ، { إن الله يحب المتوكلين } فينصرهم ويهديهم إلى ما فيه صلاحهم .
الإشارة : ما اتصف به نبينا - عليه الصلاة والسلام - من السهولة والليونة والرفق بالأمة ، اتصفت به ورثته من الأولياء العارفين ، والعلماء الراسخين ، ليتهيأ لهم الدعوة إلى الله ، أو إلى أحكام الله ، ولو كانوا فظاظاً غلاظاً لانفض الناس من حولهم ، ولم يتهيأ لهم تعريف ولا تعليم ، فينبغي لهم أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا ويصبروا على جفوة الناس ، ويستغفروا لهم ، ويشاوروهم في أمورهم ، اقتداء برسولهم ، فإذا عزموا على إمضاء شيء فليتوكلوا على الله؛ { إن الله يحب المتوكلين } .
قال الجنيد - رضي الله عنه - : ( التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه ) . وقال الثوري : أن تفني تدبيرك في تدبيره ، وترضى بالله وكيلاً ومدبراً ، قال الله تعالى : { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [ النِّساء : 81 ] . وقال ذو النون : ( خُلع الأرباب ، وقطع الأسباب ) وقال الخواص : قطع الخوف والرجاء مما سوى الله تعالى . وقال العرجي : رد العيش إلى يوم واحد ، وإسقاط هم غد . ه . وقال سهل : معرفة معطي أرزاق المخلوقين ، ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون عنده السماء كالصفر والأرض كالحديد ، لا ينزل من السماء قطر ، ولا يخرج من الأرض نبات ، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن من رزقه بيه هذين . ه . وقيل : هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل ، كاكتفاء الخليل بالخليل ، حين لم ينظر إلى عناية جبريل .
(1/354)

وقيل لبهلوان المجنون : متى يكون العبد متوكلاً؟ قال : إذا كان بالنفس غريباً بين الخلق ، وبالقلب قريباً إلى الحق .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَم النَّاسِ فَلْيَتقِ الله ، ومَنْ سَرَّه أن يكُون أغْنَى النَّاس فيكنِ بما في يد الله أوثق منه بما في يَده " .
قال ابن جزي : التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع وحفظها بعد حصولها ، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها ، وهو من أعلى المقامات ، لوجهين : أحدهما : قوله : { إن الله يحب المتوكلين } ، والآخر : الضمان الذي في قوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطّلاَق : 3 ] ، وقد يكون واجباً لقوله : { وَعَلَى اللَّهِ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المَائدة : 23 ] ، فجعله شرطاً في الإيمان ، ولظاهر قوله : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونِ } [ آل عِمرَان : 122 ] ؛ فإن الأمر محمول على الوجوب .
واعلم أن الناس في التوكل على ثلاث مراتب :
الأولى : أن يعتمد العبد على ربه ، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده ، الذي لا يشك في نصحيته له وقيامه بمصالحه . الثانية : أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه؛ لا يعرف سواها ولا يلجأ إِلاَّ إليها . الثالثة : أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدي الغاسل ، قد أسلم إليه نفسه بالكلية .
فصاحب الدرجة الأولى عنده حظ من النظر لنفسه ، بخلاف صاحب الثانية . وصاحب الثانية له حظ من الاختيار ، بخلاف صاحب الثالثة . وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص ، الذي تكلمتُ عليه في قوله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ } [ البَقَرَة : 163 ] ، فهي تقوى بقوته وتضعف بضعفه .
فإن قيل : هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا؟ فالجواب : أن الأسباب على ثلاثة أقسام :
أحدها : سبب معلوم قطعاً قد أجراه الله ، فهذا لا يجوز تركه؛ كالأكل لرفع الجوع وللباس لرفع البرد .
الثاني : سبب مظنون : كالتجارة وطلب المعاش ، وشبه ذلك ، فهذا لا يقدح فعله في التوكل ، فإن التوكل من أعمال القلوب لا من أعمال البدن ، ويجوز تركه لمن قوي عليه .
والثالث : سبب موهوم بعيد ، فهذا يقدح فعله في التوكل ، قلت : ولعل هذا مثل طلب الكيمياء والكنوز وعلم النار والسحر ، وشبه ذلك .
ثم فوق التوكل التفويض ، وهو : الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية ، فإن المتوكل له مراد واختيار ، وهو يطلب مراده في الاعتماد على ربه ، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار ، بل أسند الاختيار إلى الله تعالى ، فهو أكمل أدباً مع الله . ه . وأصله للغزالي ، وسيأتي بقية الكلام عند قوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ } [ الفُرقان : 58 ] . وبالله التوفيق .
(1/355)

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن ينصركم الله } كما نصركم يوم بدر ، { فلا غالب لكم } من أحد من الناس ، { وإن يخذلكم } كما خذكم يوم أحد ، { فمن } هذا { الذي ينصركم من بعده } تعالى ، أي : فلا ناصر سواه . وهذا تنبيه على الحث على التوكل ، وتحريض على ما يستوجب به النصر ، وهو الاعتماد على الله ، وتحذير مما يستوجب الخذلان ، وهو مخالفة أمره وعصيان رسوله ، أو الاعتماد على غيره ، ولذلك قال : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ؛ لِمَا علموا ألا ناصر سواه .
الإشارة : إن ينصركم الله على مجاهدة النفوس ، ودوام السير إلى حضرة القدوس ، فلا غالب لكم من النفس ، ولا من الناس ولا من الهوى ولا من الشيطان ، وإن يخلذكم - والعياذ بالله - فمن ذا الذي ينصركم من بعد خذلانه لكم؟ فليعتمد المريد في سيره على مولاه ، وليستنصر به في قطع حظوظه وهواه ، فإنه لا ناصر له سواه . وأنشدوا :
إِذَا كَانَ عُوْنُ اللّهِ لِلمَرْءِ نَاصِراً ... تَهَيَّأ لَهُ مِنْ كُلِّ صَعْبِ مُرَادُهُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللّهِ للْفَتَى ... فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/356)

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
قلت : الغلول : السرقة من الغنائم ، فمن قرأ بفتح الياء وضم الغين ، فمعناه : لا ينبغي له أن يأخذ شيئاً من الغنيمة خفية ، والمراد : تبرئة رسوله - عليه الصلاة والسلام - من ذلك . ومن قرأ بضم الياء ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون المعنى ، ما كان لنبي أن يُخان ، أي : أن تخونه أُمّتُه في المغانم ، وكذلك الأمراء ، وإنما خص النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لبشاعة ذلك مع النبيّ؛ لأن المعاصي تعظم بحضرته ، والثاني : أن يكون المعنى : ما كان لنبي أن يُنسب إلى الخيانة؛ كقوله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكّذِّبُونَكَ } [ الأنعَام : 33 ] أي : لا ينسبونك إلى الكذب .
يقوله الحقّ جلّ جلاله : { ما كان } ينبغي { لنبيٍّ أن يغل } ويأخذ شيئاً من الغنيمة خفية؛ لأن ذلك خيانة والنبوة تنافي ذلك ، والمراد : نزاهة الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك ، كقوله : { مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريَم : 35 ] ، ودفعُ ما توهمه الرماة ، فقد رُوِيَ أنه - عليه الصلاة والسلام -قال لهم لما تركوا المركز : " ألمْ أعْهَد إليكُمْ ألا تَتْركُوا المركَزَ حتَّى يأتيكُمْ أمْري؟ " قالوا : تَرَكْنا بقية إخْوانِنَا وُقوفاً ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " بل ظَننْتُم أنّا نَغُلّ ولا نقْسِمُ لكُمْ " فنزلت الآية . وقيل إنه - عليه الصلاة والسلام - : بعث طلائع ، فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسم على من معه فقط ، فنزلت ، فاسترجع ذلك منهم . وقيل : في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدر ، فقال المنافقون : لَعَلَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا ، فنزلت .
ثم ذكر وعيد الغلول ، فقال : { ومن يَغْلُلْ يأت بما غَلَ يوم القيامة } أي : يأتي بالذي غله يحمله على رقبته ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا ألقى أحَدكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَجِيءُ على رَقَبته بَعِيرٌ لَهُ رُغَاء ، أوْ بَقَرَةٌ لَهَ خُوَارٌ ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ " ثم قال : " اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثلاثاً " كما في البخاري .
{ ثم توفّى كل نفس } جزاء { ما كسبت } تاماً ، { وهم لا يظلمون } بنقص ثواب مُطيعهم ، ولا يزاد على عقاب عاصيهم وكان اللائق بما قبله أن يقول : ثم يوفى ما كسب . لكنه عمم الحكم؛ ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه ، وأنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله ، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى . قاله البيضاوي .
الإشارة : ما قيل في النبيّ - عليه الصلاة والسلام - يقال في ورثته الكرام ، كالأولياء والعلماء الأتقياء ، فإنهم ورثة الأنبياء ، فيُظن بهم أحسن المذاهب ، ويلتمس لهم أحسن المخارج ، لأن الأولياء دلّوا على معرفة الله ، والعلماء دلّوا على أحكام الله ، وبذلك جاءت الرسل من عند الله ، فلا يظن بهم نقص ولا خلل ، ولا غلول ولا دخل ، فلهم قسط ونصيب من حرمة الأنبياء ، ولا سيما خواص الأولياء ، ومن يظن بهم نقصاً أو خللاً ، ويغل قلبه على شيء من ذلك ، فسيرى وباله يوم تفضح السرائر ، { ثم توفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } ، فلحوم الأولياء والعلماء سموم قاتلة ، وظن السوء بهم خيانة حاصلة . والله تعالى أعلم .
(1/357)

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أفمن اتبع رضوان الله } بأن اعتقد في نبيه الكمال ، وأطاعه في وصف الجلال والجمال ، وهم المؤمنون ، حيث نزهوا نبيهم من النقائص ، ومَن هَجَسَ في قلبه شيء بادر إلى التوبة ، ثم اتصف بكمال الخصائص ، هل يكون { كمن باء } بغضب { من الله } ؟ وهم المنافقون ، حيث نافقوا الرسول واتهموه - عليه الصلاة والسلام - بالغلول .
أو يقول : { أفمن ابتع رضوان الله } بالطاعة والانقياد { كمن باء بسخط من الله } بالمعاصي وسوء الاعتقاد { ومأواه جهنم وبئس المصير } أي المنقلب ، والفرق بين المصير والمرجع : أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ، ولا كذلك المرجع . قاله البيضاوي .
{ وهم درجات عند الله } أي : أهل الرضوان درجات متفاوتة عند الله ، على قدر سعيهم في موجب الرضا ، وأهل السخط درجات أيضاً ، على قدر تفاوتهم في العصيان ، وهو على حذف مضاف ، أي : ذُوو درجات ، { والله بصير بما يعملون } ؛ { فيجازي كُلاًّ } على قدر سعيه .
الإشارة : { فأمن اتبع رضوان الله } بتعظيم الأولياء والعلماء وأهل النسبة ، كمن باء بسخط من الله بإهانة من أمر الله أن يُعظم ويُرفع ، ومأواه حجاب الحس وعذاب البعد ، { وبئس المصير } ، فأهل القرب درجات على قدر تقربهم إلى ربهم ، وأهل البعد درجات في البعد على قدر بعدهم من ربهم ، بشؤم ذنبهم وسوء أدبهم ، والله بصير بأعمالهم وما احتوت عليه قلوبهم .
(1/358)

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لقد منّ الله على المؤمنين } حيث { بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } أي : من جنسهم ، أو من نسبهم ، عربيّاً مثلهم ، ليفهموا كلامه بسهولة ، ويفتخروا به على غيرهم . وتخصيص المؤمنين بالمنة ، وإن كانت نعمته عامة؛ لزيادة انتفاعهم على غيرهم؛ لشرفهم وذكرهم به ، حال كونه { يتلو عليهم آياته } ؛ القرآن بعد أن كانوا جاهلية لا يعرفون الوحي ولا سمعوا به ، { ويزكيهم } أي : يطهرهم من دنس الذنوب ودرن العيوب ، { ويعلمهم الكتاب } أي : القرآن ، { والحكمة } أي : السنة ، { وإن كانوا } أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن كانوا { من قبل } بعثته { لفي ضلال مبين } أي : ظاهر بيِّن .
الإشارة : لقد منّ الله على المتوجهين إليه الطالبين لمعرفته ، حيث بعث لهم من يأخذ بأيديهم ، ويطوي مسافة البعد عنهم ، وهم شيوخ التربية ، يتلون عليهم آياته الدالة على كشف الحجاب وفتح الباب ، ويزكيهم من دنس العيوب المانعة لعلم الغيوب ، ثم يزكيهم من درن الحس إلى مشاهدة القرب والأنس ، ويعلمهم الكتاب المشتمل على عين التحقيق ، والحكمة المشتملة على التشريع وبيان الطريق ، فيجمعون لهم ما بين الحقيقة والشريعة ، وقد كانوا قبل ذلك في ضلال مبين عن الجمع بينهما . وهذه المنّة عامة في كل زمان ، إذا لا تخلو الأرض من داع يدعو إلى الله ، ومن اعتقد قطعه فقد قطع منّة الله ، واستعجز قدرة الله ، وسد باب الرحمة في وجه عباد الله ، والعياذ بالله .
(1/359)

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
قلت : الهمزة - للتفريع ، و { لَمَّا } : ظرف ، خافضة لشرطها ، منصوبة بجوابها ، وهي معطوفة على محذوف ، أي : أكان من كان يوم أحد ، ولمّا أصابتكم مصيبة ، قلتم ما قلتم ، و { قد أصبتم } : جملة حالية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : أحين { أصابتكم مصيبة } يوم أحد بقتل سبيعن منكم ، و { قد أصبتم مثليها } يوم بدر فقتلتم سبعين وأسرتم سبعين ، { قلتم أنَّى هذا } أي : من أين أصابنا هذا البلاء وقد وعدنا النصر؟ { قل } لهم : { هو من عند أنفسكم } أي : مما اقترفته أنفسكم من مخالفة المركز ، والنصر الموعود كان مشروطاً بالثبات والطاعة ، فلما اختل الشرط اختل المشورط ، { إن الله على كل شيء قدير } ؛ فيقدر على النصر بشرط وبغيره ، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والشروط؛ لأن هذا العلام قائم بين قدرة وحكمة .
أو : { قل هو من عند أنفسكم } باختياركم الفداء يوم بدر : رُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه قال : ( جاء جِبْريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال : خيِّرْ أصْحَابَكَ في الأسارى ، إن شاءوا القتل ، وإن شاءوا الفِدَاء ، عَلَى أنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ عاماً مقبلاً مِثْلُهمْ ، قالوا : الفِدَاء ويُقْتَلُ مِنَّا ) . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا أصاب المريد شيء من المصائب والبلايا ، فلا يستغرب وقوع ذلك به ، ولا يتبرم منه ، فإنه في دار المصائب والفجائع ، " لا تستغرب وقوع الأكدار ما دُمتَ في هذه الدار ، فإنما أبرزت ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها " . وإذا كان أصابته مصيبة في وقت ، فقد أصابته نعمٌ جمة في أوقات عديدة ، فليشكر الله على ما أولاه ، وليصبر على ما ابتلاه ، ليكون صباراً شكوراً .
قال الشيخ أبو الحسن - رضي الله عنه - : ( العارف هو الذي عرف إساءاته في إحسان الله إليه ، وعرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه ، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ) . وأيضاً : كل ما يصيب المؤمن فمن كسب يده ، ويعفو عن كثير .
وإن كان المريد وعد بالحفظ والنصر ، فقد يكون ذلك بشروط خفيت عليه ، فلم تحقق فيه ، فيخلف حفظه لينفذ قدر الله فيه ، { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ] .
وليتميز الصادق من الكاذب والمخلص من المنافق .
(1/360)

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
قلت : { وقيل لهم تعالوا } : استئناف ، أو معطوف على { نافقوا } ، و { الذين قالوا لإخوانهم } : بدل من الضمير المجرور في { لهم } ، أي وقيل للمنافقين : قاتلوا أو ادفعوا ، ثم فسرهم بقوله : وهم { الذين قالوا لإخوانهم . . . } الخ . أو من الواو في { يكتمون } ، أو منصوب على الذم ، أو مبتدأ ، والخبر : { قل . . . } على من يجيز إنشاء الخبر ، و { قعدوا } : جملة حالية ، على إضمار قد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما أصابكم } يا معشر المسلمين يوم أحد { يوم التقى } جمع المسلمين وجمع الكفار ، من القتل والجرح والهزيمة ، { فبإذن الله } وقضائه ، لا راد لإمضائه ، { وليعلم } علم ظهور في عالم الشهادة { المؤمنين } والمنافقين؛ فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء ، وقد ظهر نفاقهم حيث رجعوا مع عبد الله بن أبي ، وكانوا ثلاثمائة .
وذلك انَّ ابن أُبيّ كان رأيه ألا يخرج المسلمون إلى المشركين ، فلما طلب الخروجَ قومٌ من المسلمين ، فخرج - عليه الصلاة والسلام - كما تقدم ، غضب ابن أُبيّ ، وقال : أطاعهم وعصاني . فرجع ، ورجع مع أصحابه ، فتبعهم أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام ، وقال لهم : ارجعوا { قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } ، أي : كثروا سواد المسلمين ، فقال ابنُ أُبيّ - رأس المنافقين - : ما أرى أن يكون قتالاً ، ولو علمنا أن يكون قتال { لاتبعناكم } ، وكنا معكم .
قال تعالى : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } ؛ لظهور الكفر عليهم من كلامهم ، فأمارات الكفر عليهم أكثر من أمارات الإيمان ، أو : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن رجوعهم ومقالتهم تقوية للكفار عليهم وتخذيل للمسلمين ، { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } ، فهم يظهرون خلاف ما يبطنون ، لا تواطئ قلوبهم ألسنتم بالإيمان ، وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتغليظ ، { والله أعلم } منكم { بما تكتمون } من النفاق؛ لأنه يعلمه مفصلاً بعلم واجب ، وأنتم تعلمونه مجملاً بأمرات .
وهؤلاء المنافقون هم { الذي قالوا } في شأن إخوانهم الذي قُتلوا يوم أحد : { لو أطاعونا } وجلسوا في ديارهم { ما قتلوا } ، قالوا هذه المقالة وقد قعدوا عن الخروج ، { قل } لهم يا محمد : { فادْرءوا } أي : فادفعوا { عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أنكم تقدرون أن تدفعوا القتل عمن كتب عليه ، فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه حين يبلغ أجلكم ، فإنه أحرى بكم ، فالقعود لا يُنجي من الموت إذا وصل الأجل ، فإن أسباب الموت كثيرة ، فقد يكون القعود سبباً للموت إن بلغ الأجل ، وقد يكون الخروج سبباً للنجاة إن لم يبلغ . والله تعالى أعلم .
الإشارة : وما أصابكم يا معشر الفقراء عند توجهكم إلى الحق فارين من الخلق ، حين استشرفتم على الجمع وجمع الجمع فبإذن الله؛ فإن الداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور ، وليظهر الصادق من الكاذب ، فإن محبة الله مقرونة بالبلاء والطريق الموصلة إليها محفوفة بالمكاره ، مشروطة بقتل النفوس وحط الرؤوس ، ودفع العلائق ، والفرا من العوائق .
(1/361)

فإذا قيل للعوام : قاتلوا أنفسكم في سبيل الله لتدخلوا حضرة الله ، ادفعوا عن أنفسكم العلائق لتشرق عليكم أنوار الحقائق ، قالوا : قد انقطع هذا الطريق واندرست أرباب علم التحقيق ، ولو نعلم قتالاً بقي يُوصلنا إلى ربنا ، كما زعمتم؛ لاتبعناكم ودخلنا في طريقكم . وهم للكفر يومئذ أقرب للإيمان ، حيث تحكموا على القدرة الأزلية ، وسدوا باب الرحمة الإلهية ، وإنما يقولون ذلك احتجاجاً لنفوسهم ، وأبقاء على حظوظهم ، وليس ذلك من خالص قلوبهم ، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .
وإذا نزل بأهل النسبة نكبة أو بلية ، قالوا لأخوانهم ، الذين دخلوا في طريق القوم ، وقد قعدوا هُم مع العوام : لو أطاعونا ولم يدخلوا في هذا الشأن ، ما قتلوا أو عذبوا ، فقل لهم أيها الفقير : القضاء والقدر يجري على الجميع ، فادفعوا عن أنفسكم ما تكرهون ، إن كنتم صادقين أن المكاره لا تصيب إلا من توجه لقتال نفسه . والله تعالى . أعلم بأسرار كتابه .
(1/362)

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قلت : { ألاَّ خَوف عليهم } : بدل من { الذين لم يلحقوا } ، أو مفعول لأجله ، وكرر : { يستبشرون } ؛ ليذكر ما تعلق به من الفضل والنعمة ، أو : الأول بحال إخوانهم ، وهذا بحال أنفسهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولا تحسبن } أيها الرسول ، أو أيها السامع ، { الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل } هم { أحياء } ؛ لأن الله تعالى جعل أرواحهم في حواصل طير خضر ، يسرحون في الجنة حيث شاءوا عند ربهم ، بالكرامة والزلفى ، يُرزقون من ثمار الجنة ونعيمها ، فحالهم حال الأحياء في التمتع بأرزاق الجنة ، بخلاف سائر الأموات من المؤمنين؛ فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حق يدخلوا الجنة . قاله ابن جزي .
قلت : شهداء الملكوت - وهم العارفون - أعظم قدراً من شهداء السيوف ، وراجع ما تقدم في سورة البقرة .
{ فرحين بما آتاهم الله من فضله } من الكرامة والزلفى والنعيم الذي لا يفنى ، { ويسبشرون بالذين لم يلحقو بهم من خلفهم } أي : بإخوانهم الذي لم يُقتلوا فيلحقوا بهم من بعدهم . وتلك البشارة هي : { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، أو من أجل { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
والحاصل : أنهم يستبشرون بما تبين لهم من الكرامة في الآخرة ، وبحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين ، وهو أنهم إذا ماتوا أو قُتلوا ، كانوا أحياء ، حياة لا يدركها خوفُ وقوعِ محذور ، ولا حزن فوات محبوب . فالآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مُدرِك بذاته ، لا ينفى بخراب البدن ، ولا يتوقف على وجود البدن إدراكه وتألمُه والتذاذه . ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِيّاً } [ غَافِر : 46 ] ، وما رَوى ابنُ عباس من أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أرْواحُ الشهداء في أجْوافِ طَيْرِ خَضْرٍ ، تَرِدُ أنْهارَ الجنّةِ ، وتَأكُلُ منْ ثِمارِها ، وتَأوِي إلى قَنَادِيلَ مُعلَّقةٍ في ظلِّ العَرشِ " - قال معناه البيضاوي .
ولمّا ذكر استبشارهم بإخوانهم ذكر استبشارهم بما يخصهم فقال : { يستبشرون بنعمة من الله } ؛ وهو ثواب أعمالهم الجسماني ، { وفضل } وهو نعيم أرواحهم الروحاني ، وهو النظر إلى وجهه الكريم ، ويستبشرون أيضاً بكونه تعالى { لا يضيع أجر المؤمنين } ، ماتوا في الجهاد أو على فرشهم ، حيث حسنت سريرتهم وكرمت علانيتهم ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن لله عباداً يصرفهم عن القتل والزلازل والأسقام ، يطيل أعمارهم في حسن العمل ، ويحسن أرزاقهم ، ويحييهم في عافية ، ويميتهم في عافية على الفرش ، ويعطيهم منازل الشهداء " قلت : ولعلهم العارفون بالله ، جعلنا الله من خواصهم ، وسلك بنا مسالكهم . آمين .
الإشارة : لا تحسبن الذي بذلوا مُهجهم ، وقتلوا أنفسهم بخرق عوائدها ، وعكس مراداتها ، في طلب معرفة الله ، حتى ماتت نفوسهم ، وحييت أرواحهم بشهود محبوبهم ، حياة لا موت بعدها ، فلا تظن أيها السامع أنهم أموات ، ولو ماتوا حسّاً ، بل هم أحياء على الدوام ، وفي ذلك يقول الشاعر :
(1/363)

مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا ... قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ
فهم عند ربهم يشاهدونه مدة بقائهم ، يرزقون من ثمار المعارف وفواكه العلوم ، فرحين بما أتحفهم الله به من القرب والسر المكتوم ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم في المرتبة ممن تعلق بهم وأنهم سيصلون إلى ما وصلوا إليه من معرفة الحي القيوم ، فلا يلحقهم حينئذٍ خوف ولا حزن ولا هم ولا غم ، لما سكن في قلبهم من خمرة محبة الحبيب ، والقرب من القريب المجيب ، وفي ذلك يقول ابن الفارض .
وإِنْ خَطَرَتْ يوماً علَى خاطِر امْرِئ ... أقَامَتْ به الأفْرَاحُ ، وارتَحلَ الهمُّ
يسبشرون بنعمة أدب العبودية ، وفضل شهود أسرار عظمة الربوبية ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المحبين لطريق المخصوصين ، فإن طريق محبة طريق القوم عناية ، والتصديق بها ولاية ، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق .
ولما رجع أبو سفيان من غزوة أُحد ، هو وأصحابه ، حتى بلغوا الروحاء ، ندم وهم بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبه ، وقال : " لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس " ، فخرج صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي على ثمانية أميال من المدينة - وكان بأصحابه القرح ، فتحاملوا على أنفسهم كي لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين ، فذهبوا .
(1/364)

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
قلت : { الذين } : مبتدأ ، وجملة { للذين أحسنوا } : خبر ، أو صفة للمؤمنين قبله ، أو نصب على المدح .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الذين استجابوا لله والرسول } فأطاعوه فيما ندبهم إليه من اللحوق بالمشركين ، إرهاباً لهم ، { من بعد ما أصابهم القرح } أي : الجرح ، فتحاملوا على أنفسهم حتى ذهبوا مع نبيهم { للذين أحسنوا منهم } بأن فعلوا ما أمروا به ، { واتقوا } الله في مخالفة أمر رسوله ، { أجر عظيم } يوم يقدمون عليه .
الأشارة : الذين استجابوا لله فيما ندبهم من الوصول إلى حضرته ، وللرسول فيما طلبهم به من اتباع سنته ، فجعلوا قلوبهم محلاً لحضرته ، وجوارحهم متبعة لشريعته ، من بعد ما أصابهم في طلب الوصول إلى ذلك قرح وضرب وسجن وإهانة ، فصبروا حتى ظفروا بالجمع بين الحقيقة والشريعة ، للذين أحسنوا منهم بالثبات على السير إلى الوصول إلى الحق ، واتقوا كل ما يردهم إلى شهود الفرق ، أجر عظيم وخير جسيم ، بالعكوف في الحضرة ، والتنعم بالشهود والنظرة .
(1/365)

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قلت : الموصول بدل من الموصول قبله ، و { يخوف } : يتعدى إلى مفعولين؛ للتضعيف ، حذف الأول ، أي : يخوفكم أوليائه من الكفار ، أو حذف الثاني ، أي : يخوف أولياءه القاعدين عن الخروج إلى ملاقاة العدو .
وهنا تفسيران : أحدهما : أن يكون من تتمة غزوة أحد ، وهو الظاهر ، ليتصل الكلام بما بعده ، وذلك أن أبا سفيان لما هَمّ بالرجعة ليستأصل المسلمين ، لقيه معبد الخزاعي ، فقال له : إن محمداً خرج يطلبك في جمع لم أرَ مثله ، فدخله الرعب ، فلقيه ركب من عبد القيس يريد المدينة بالميرة ، فقال لهم : ثبطوا محمداً عن لحوقنا ، ولكم حمل بعير من الزبيب ، فلما لقوا المسلمين خوفوهم ، فقال : { حسبنا الله ونعم الوكيل } ، ومضوا حتى بلغوا حمراء الأسد ثم رجعوا ، فعلى هذا :
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الذين قال لهم الناس } وهم ركب عبد قيس حيث قالوا للمسلمين : { إن الناس } يعني أبا سفيان ومن معه ، { قد جمعوا لكم } ليرجعوا ليستأصلوكم { فاخشوهم } وارجعوا إلى دياركم { فزادهم } ذلك { إيماناً } ويقيناً وتثبيتاً في الدين ، وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص ، فيزيد بحسب التوجه إلى الله والتفرغ مما سواه ، وينقص بحسب التوجه إلى الدنيا وشغبها ، ويزيد أيضاً بالطاعة والنظر والاعتبار ، وينقص بالمعصية والغفلة والاغترار .
ولما قال لهم الركب ذلك؛ ليخوفهم ، { قالوا حسبنا الله } أي : كافينا الله وحده ، فلا نخاف غيره ، { ونعم الوكيل } أي : نعم من يتوكل عليه العبد ، وهي كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره ، وهي الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، { فانقلبوا } راجيعن من حمراء الأسد ، متلبسين { بنعمة من الله } وهي العافية والسلامة ، { وفضل } وهي زيادة الإيمان وشدة الإيقان ، { لم يمسسهم سوء } من جراحة وكيد عدو ، { واتبعوا رضوان الله } ، الذي هو مناط الفوز بخير الدارين ، { والله ذو فضل عظيم } ، فقد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان ، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو موجب الرضوان .
ثم حذَّرهم الحق تعالى ممن ثبّطهم عن اللحوق بالكافر ، وهو ركب عبد القيس ، تشبيهاً لهم بالشيطان ، فقال : { إنما ذلكم الشيطان } يخوفكم أولياءه من المشركين ، أو { يخوف أولياءه } القاعدين من المنافقين { فلا تخافوهم } ؛ فإن أمرهم بيدي ، { وخافوا إن كنتم مؤمنين } ؛ فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس .
التفسير الثاني : أن يكون الكلام على غزوة بدر الصغرى ، : وذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أُحد نادى : يا محمد ، موعدنا بدرٌ لقابل ، إن شئت ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إن شاء الله تعالى " ، فلما كان العام القابل ، خرج أبو سفيان من أهل مكة ، حتى نزل مرّ الظهران ، فأنزل الله الرعب في قلبه ، وبدا له أن يرجع ، فلقي نُعيم بن مسعود الأشجعي معتمراً ، فقال له : ائت المدينة وأعلمهم أنّا في جمع كثير ، وثبطهم عن الخروج ، ولك عندي عشر من الإبل ، فأتى المدينة فأخبرهم ، فكره أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم الخروج ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :
(1/366)

" والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرجَنّ ، ولو وَحْدِي " فرجع الجَبان وتأهب الشجعان ، فخرجوا حتى أتوا بدراً الصغرى ، ورجع أبو سفيان إلى مكة ، فسموا جيش السويق ، ووافق المسملون السوق ببدر ، وكانت معهم تجارات فباعوا وربحوا ، وانصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
فعلى هذا ، يقول الحقّ جلّ جلاله : { الذين استجابوا لله والرسول } ، يعني : في غزوة بدر الصغرى ، لميعاد أبي سفيان ، { من بعد ما أصابهم القرح } يعني : في غزوة أحد في العام الأول ، { للذين أحسنوا منهم } بالخروج مع الرسول ، { واتقوا } الله في مخالفته ، { أجر عظيم الذين قال لهم الناس } يعني نُعَيْم بن مسعود ، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم ، كما يقال : فلان يركب الخيل ، وما يركب إلا فرساً ، أو : لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه . { إن الناس قد جمعوا لكم } يعني : أبا سفيان وأهل مكة لما خرج إلى مَرّ الظهران . وقوله : { فانقلبوا بنعمة من الله } أي : عافية وسلامة ، { وفضل } ما أصابوا من التجارة ، وقوله : { إنما ذلكم الشيطان } يعني : نعيماً يخوفكم { أولياءه } والباقي ظاهر .
الإشارة : أهل القوة من المريدين إذا قيل لهم : إن الناس قد جمعوا لكم ليردوكم أو يؤذوكم فاخشوهم ، زادهم ذلك إيماناً وإيقاناً ، وتحققوا أنهم على الجادة ، لسلوكهم على منهاج من قبلهم؛ { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا } [ العَنكبوت : 2 ] الآية .
واكتفوا بعلم الله ونظره وبرعايته ونصره ، فانقلبوا بنعمة الشهود ، وفضل الترقي في عظمة الملك الودود ، لم يمسسهم في باطنهم سوء ولا نقصان ، واستوجبوا من الله الرضى والرضوان ، وإنما ذلكم شيطان يردهم عن مقام الشهود والعيان ، فلا ينبغي لهم أن يخافوا ومطلبهم مقام الإحسان ، الذي تُبْذل في طلبه الأرواح والأبدان . وبالله التوفيق .
(1/367)

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
قلت : حَزَنَ يحزُن كبلغ يبلُغ ، وأحزن يُحْزِن ، كأَكْرم يكرم ، لغتان ، والأولى أفصح .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا يهولك شأن { الذين يسارعون في الكفر } أي : يبادرون إلى الوقوع فيه ، كالمنافقين او الكفار جميعاً ، فلا تخف ضررهم؛ { إنهم لن يضروا الله شيئاً } أي : لن يضروا أولياء الله ، وإنما يرجع ضررهم إلى انفسهم . { يريد الله } - بسبب ما أظهر فيهم من المسارعة إلى الكفر - { ألاَّ يجعل لهم حظّاً في } ثواب { الآخرة } ؛ لِمَا سبق لهم من الشقاء ، حتى يموتوا على الكفر . وفي ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية ، حتى أراد أرحم الراحمين ألاَّ يكون لهم حظ من رحمته . { ولهم } مع ذلك { عذاب عظيم } .
ثم كرّر شأنهم تأكيد فقال : { إن الذين اشتروا الكر بالإيمان } أي : استبدلوا الإيمان الذي ينجيهم من العذاب ، لو دخلوا فيه ، بالكفر الذي يُوجب العذاب ، { لن يضروا الله ولهم عذاب أليم } موجع ، أو يكون في الكفار أصالة ، وهذا في المرتدين ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : إنكار العوام على الخصوص لا يضرهم ، ولا يغض من مرتبتهم ، بل يزيدهم رفعةً وعلواً وعزّاً وقرباً ، قال تعالى : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ النُّور : 11 ] ، وسَمِعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : " كلامُ الناس في الولي كناموسة نفخت على جبل " . أي : لا يلحقهم من ذلك إلا ما يلحق الجبل من نفخ الناموسة ، يريد الله ألا يجعل لهم من نصيب القرب شيئاً ، ولهم عذاب البعد والنصب ، في غم الحجاب وسوء الحساب ، لا سيما من تمكن من معرفتهم ، ثم استبدل صحبتهم بصحبة العوام ، فلا تسأل عن حرمانه التام ، والعياذ بالله .
(1/368)

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
قلت : من قرأ بالتحتية ، فالذين كفروا : فاعل ، و { إن } وما بعدها : سد مسد المفعولين ، ومن قرأ بالفوقية فالذين : مفعول أول ، و { إنما } : سد مسد الثاني ، و { ما } : مصدرية ، والإملال : الإمهال والتأخير . ومنه : { وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً } [ مريم : 46 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا يظنن الذين كفروا أن إمهالي لهم وإمدادهم بطول الحياة ، هو خير لهم ، إنما نمهلهم استدراجاً { ليزدادوا } إثماً وعقوبة ، { ولهم عذاب مهين } يهينهم ، ويخزيهم يوم يُعز المؤمنين .
الإشارة : إمهال العبد وإطالة عمره ، إن كانت أيامه مصروفةً في الطاعة واليقطةِ ، وزيادة المعرفة ، فإطالتها خير ، والبركة في العمر إنما هي بالتوفيق وزيادة المعرفة ، وفي الحكم : " من بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمان ما لا تدركه العبارة ولا تلحقه الإشارة " . وإن كانت أيام العمر مصروفة في الغفلة والبطالة وزيادة المعصية ، فالموت خير منها . وقد سُئل - عليه الصلاة والسلام - أيُّ الناس خَيْرٌ؟ قال : " مَنْ طَالَ عُمرُه وَحَسُنَ عَمَلُهُ ، قيل : فَأَيُّ النّاسِ شر؟ قال : مَنْ طَالَ عَمُرُهُ وَسَاءَ عَمله " والله تعالى أعلم .
ولمّا قال عليه الصلاة والسلام : " إنَّ اللهَ أطلعني على من يُؤمِنُ بي ممن يكْفُر " قال المنافقون : نحن معه ولا يعرفنا .
(1/369)

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
قلت : ماز يميز ، وميّز يُمَيِّز ، بمعنى واحد ، لكن في ميّز معنى التكثير .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لعامة المؤمنين والمنافقين : { ما كان الله } ليترك { المؤمنين على ما أنتم عليه } من الاختلاط ، لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، بل لا بد أن يختبركم حتى يتميز المنافق من المخلص ، بالوحي أو بالتكاليف الشاقة ، التي لا يصبر عليها إلا المخلصون ، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، ليختبر به بواطنكم ، ويستدل به على عقائدكم ، أو بما ظهر في غزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدل على الإيمان أو النفاق ، { وما كان الله ليُطلعكم على الغيب } حتى تعرفوا ما في القلوب من كفر أو إيمان ، أو تعرفوا : هل تَغْلُبون أو تُغْلَبُون . { ولكن الله يجتبي } لرسالته { من يشاء } ، فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات ، أو ينصب له ما يدل عليها ، { فآمنوا بالله } الذي اختص بعلم الغيب الحقيقي ، وآمنوا برسله الذين اختارهم لأسرار الغيوب ، لا يعلمون إلا ما علَّمهم .
رُوِيَ أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا : من يؤمن منا ومن يكفر؟ فنزلت الآية . وقيل : سببها ما تقدم من قول المنافقين ، ووجه المناسبة : هو ما صَدَرَ منهم يوم أُحُد من المقالات التي ميزتهم من المؤمنين . { وإن تؤمنوا } إيماناً حقيقياً { وتتقوا } النفاق والشرك { فلكم أجر عظيم } عند الله .
الإشارة : من سُنّة الله في المتوجهين إليه إذا كثروا ، وظهرت فيهم دعوى القوى ، أرسل الله عليهم ريح التصفية ، فيثبت الصحيح ، والخاوي تذروه الريح ، وما ان الله ليذرهم على ما هم عليه من غير اختبار ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، أي : مَنْ هِمَّتُه الله ومَنْ هِمَّتُه سواه ، وما كان الله ليُطلعكم على الغيب حتى يعلموا من يثبت ممن يرجع ، أو يعلموا ما يلحقهم من الجلال والجمال ، وإنما ذلك خاص بالرسل عليهم السلام ، وقد يُطلع على شيء من ذلك بعض خواص ورثتهم الكرام ، فالواجب على المريد أن يُؤمن بالقدر المغيب ، ولا يستشرف على الاطلاع عليه؛ " استشرافُك على ما بطن فيك من العيوب ، خير من استشرافك على ما حُجب عنك من الغيوب " . { وإن تؤمنوا } بمواقع القضاء والقدر ، { وتتقوا } القنوط والكدر ، { فلكم أجر عظيم } .
(1/370)

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
قلت : من قرأ بالخطاب؛ فالموصول مفعول أول ، و { خيراً } : مفعول ثان ، والضمير للفصل ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : لا تحسبن بُخلَ الذين يبخلون خيراً لهم ، ومن قرأ بالغيب؛ ف { الذين } : فاعل ، والمفعول الأول محذوف ، لدلالة { يبخلون } عليه ، لا يحسبن البخلاء خيراً لهم ، والطوق : ما يدار بالعنق .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا يظنن { الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } من الأموال ، فلم يؤدوا زكاتهم ، أن بخلهم خير لهم ، { بل هو شر لهم } ؛ لاستجلابه العذاب إليهم ، ثم بيَّنه بقوله : { سيطوقون ما بخلوا به } أي : يلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق للعنق ، وقيل : يطوق به حقيقة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " ما من رَجُل لا يؤدي زكاة ماله إلا إذا كان يوم القيامة - مُثِّلَ له شُجَاعاً أقْرع ، له زَبِيبتَان ، يطوِّقُه ، ثم يأخُذُ بِلْهزِمتيه - أي : شدقيه - يقول : أنا كنْزكَ ، أنا مَالُكَ ، ثم تلا هذه الآية : { ولا يحسبن . . . } " وقيل : يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من نار .
والمال الذي بخل به هو لله ، وسيرجع لله ، { ولله ميراث السماوات والأرض } فهو الذي يرث الأرض ومن عليها ، فكيف يبخل العبد بمال الله ، وهو يعلم أنه يرجع لله ، فيموت ويتركه لمن يسعد به! ولله درّ القائل ، حيث قال :
يا جَامِعَ الْمَالِ كَمْ تُضَرُّ به ... تَطْمَعُ بالله فِي الخُلُودِ معَهْ
هَلْ حَمَل المالَ مَيِّتٌ مَعَهْ؟ ... أمَا تَارهُ لِغَيْرِه جَمَعَهْ؟!
{ والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه منعكم ولا إعطاؤكم ، فيجازي كُلاً بعمله .
الإشارة : لا يحسبن الذي يبخلون بما أتاهم الله من فضل الرئاسة والجاه ، أن يبذلوها في طلب معرفة الله ، وبذلها : إسقاطها وإبدالها بالخمول ، والذل لله ، وإسقاط المنزلة بين عباد الله ، فلا يظنون أن بخلهم بذلك خير لهم ، بل هو شرٌّ لهم ، سيلزمون وبال ما بخلوا به يوم القيامة ، حين يرون منازل المقربين كالشمس الضاحية في أعلى عليين ، وهم مع عوام أهل اليمين ، محجوبون عن شهود رب العالمين ، إلا في وقت مخصوص وحين .
(1/371)

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
قلت : { وقتلهم } : معطوف على { ما } المفعولة أو النائبة عن الفاعل ، على القرائتين رفعاً ونصباً ، و { أن الله } : عطف على { ما } أي : ذلك العذاب بسبب ما قدمتم وبأن الله منتفٍ عنه الظلم ، فلا بد أن يعاقب المسيء ويثيب المحسن ، { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } : صفة للذين { قالوا إن الله فقير } ، أو بدل منه مجرور مثله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لقد سمع الله قول } اليهود { الذين قالوا إن الله فقير ونحن إغنياء } وقائله : فِنْحَاصُ بن عَازُرواء ، في جماعة منهم ، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بن قينقاع ، يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً ، فدخل أبو بكر رضي الله عنه مِدْرَاسَهُم ، فوجد خلقاً كثيراً اجتمعوا إلى فنحاص ، وهو من علمائهم - ومعه حبر آخر اسمه : ( أيشع ) ، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، فأسلِمْ وصَدِّق ، وأقْرِض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ، فقال فنحاص لعنه الله : يا أبا بكر؛ تزعم ان ربنا يستقرضنا أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقير من الغني ، ولو كان غنيّاً ما استقرض ، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه وقال : لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : عليه الصلاة والسلام : - " ما حملك على ما فعلت؟ " فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولاً قولاً عظيماً ، زعم أن الله فقير ، وهم أغنياء ، فجَحَد ما قال ، فنزلت الآية؛ تكذبياً له .
والمعنى : أن الله سمع مقالتهم الشنيعة ، وأنه سيعاقبهم عليها ، ولذلك قال : { سنكتب ما قالوا } أي : سنسطرها عليهم في صحائف أعمالهم ، أو سنحفظها في علمنا ولا نهملها ، لأنها كلمة عظيمة ، فيها الكفر بالله والاستهزاء بكتاب الله وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك نظمت مع قتلهم الأنبياء ، حيث عطفه عليه ، وفيه تنبيه على أن قولهم الشينع ليس هو أول جريمة ارتكبوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد أمثال هذا القول منه .
ثم ذكر عقابهم ، فقال : { ونقول } لهم يوم القيامة : { ذوقوا عذاب الحريق } أي : المُحْرِق ، والذوق : يطلق على إدراك المحسوسات كالمطعومات ، والمعنويات كما هنا ، وذكره هنا؛ لأن عذابهم مرتب على قولهم الناشئ عن البخل ، والتهالك على المال ، وغالب حاجة الإنسان إليه ، لتحصيل المطاعم ، ومعظم بخله للخوف من فقده .
{ ذلك } العذاب بسب ما { قدمت أيديكم } من قتل الأنبياء ، وقولكم هذا ، وسائر معاصيكم ، وعبّر بالأيدي؛ لأن غالب الأعمال بهن ، وبأن { الله ليس بظلام للعبيد } بل يجازي كلَّ عبد بما كسب من خير أو شر ، فأنتم ظلمتم أنفسكم .
(1/372)

ثم إن قوماً منهم ، وهو كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحُيَيْ بن أخطب وفنْحَاص ووهب بن يهوذا ، أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد؛ تزعم أن الله بعثك إلينا رسولاً ، وإن الله قد عهد إلينا يف التوراة ، ألاَّ نؤمن لرسول يزعم أنه نبيّ حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك ، فأنزل الله فيهم تكذيباً لهم : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } في التوراة وأوصانا { ألا نؤمن لرسول حتى ياتينا بقربان } ؛ كصدقة أو نسيكة ، { تأكله النار } كما كانت لأنبياء بني إسرائيل .
وذلك أن القرابين والغنائم كانت حراماً على بني إسرائيل ، وكانوا إذا قرَّبوا قُرباناً ، أو غنموا غنيمة ، فتقبل منهم ، ولم يُغل من الغنيمة ، نزلت نار بيضاء من السماء ، فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة ، فيكون ذلك علامة على القبول ، وإذا لم يتقبل بقي على حاله ، وهذا من تعنتهم وأباطيلهم ، لأن أكل القربان لم يُوجبْ الإيمانَ إلا لكونه معجزة ، وسائر المعجزات في ذلك سواء ، فلذلك ردَّ عليهم بقوله : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } أي : المعجزات الواضحات ، { وبالذي قلتم } من أكل النار القربان ، فكذبتموهم وقتلتموهم كزكريا ويحيى وغيرهما ، { فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } في دعواكم أنه ما منعكم من الإيمان إلا عدم ظهور هذه المعجزة ، فما لكم لم تؤمنوا بمن جاء بها حتى قتلتموه؟ والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما زالت خواص العامة مولعةً بالإنكار على خواص الخاصة ، يسترقون السمع منهم ، إذا سمعوا كلمة لم يبلغها علمُهم ، وفيها ما يوجب النقص من مرتبتهم ، حفظوها ، وحرفوها ، وأذاعوها ، يريدون بذلك إطفاء نورهم ، وإظهار عُوَراهم ، والله حفيظ عليهم ، سيكتب ما قالوا وما قصدوا من الإنكار على أوليائه ، ويقول لهم : ذوقوا عذاب البعد والحجاب . وما يتشبثون به في الإنكار عليهم : اقتراحهم الكرامات التي كانت للأولياء قبلهم ، ويقولون : لا نصدق بهم حتى يأتون بما أتى به فلان وفلان ، فقد كان من قبلهم يطعنون فيهم مع ظهور ذلك عليهم ، كما هو سنة الله فيهم . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } .
(1/373)

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قلت : { الزبر } : جمع زبور ، بمعنى مزبور ، أي : مكتوب ، من زبرت ، أي : كتبت ، وكل كتاب فهو زبور ، وقال امرؤ القيس :
لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي ... كَخَطِّ زَبَورٍ في عَسِيبٍ يَمَانِ
يقول الحقّ جلّ جلاله : في تسلية رسوله - عليه الصلاة والسلام - من تكذيب اليهود وغيرهم له : { فإن كذبوك } فليس ذلك ببدع؛ { فقد كُذبت رسل } مثلك { من قبلك } جاءوا قومهم بالمعجزات البينات ، وبالكتب المنزلات ، فيها مواعظ زاجرات ، { وبالكتاب المنير } المشتمل على الأحكام الشرعيات .
الإشارة : كما كُذبت الأنبياء كُذبت الأولياء ، بعد أن ظهر عليها من العلوم الباهرة والحكم الظاهرة والكرامات الواضحة ، وأعظمها المعرفة ، وهذه سنة ماضية ، ولن تجد سنة الله تبديلاً .
(1/374)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
قلت : { زحزح } : بُوعِدَ ، والزحزحة : الجذب والإخراج بعجلة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : كل نفس منفوسة لا بد أن تذوق حرارة الموت ، وتسقى كأس المنون ، وإنما توفون جزاء أعمالكم يوم القيامة ، يوم قيامكم من القبور ، خيراً كان أو شرّاً .
قال البيضاوي : ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ، أي : توفية بعض الأجور ، ويؤديه قوله صلى الله عليه وسلم : " القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجنةِ ، أو حُفْرةٌ مِنْ حُفَرِ النارِ " ، { فمن زحزح } أي : بُوعد { عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } بالنجاة ونيل المراد ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " من أحبَ أن يُزحزَحَ عن النارِ ويُدْخَل الجَنَةَ؛ فَلتُدرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وهو يُؤمنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ ، ويَأتِي ، إلى النَاسِ ما يُحِبُّ أن يُؤْتى إِليْه " .
{ وما الحياة الدنيا } وزخارفها ولذاتها { إلا متاع الغرور } ؛ فإن الغار - وهو المُدلِّس - يظهر ما هو حسن من متاعه ، ويخفي ما هو معيب ، كذلك الدنيا تبتهج لطالبها ، وتُظهر له حلاوتها وشهواتها ، حى تشغله عن ذكر الله وعن طاعته ، فيؤثرها على آخرته ، ثم يتركها أحوج ما يكون إليها ، فينقلبُ نادماً متحسراً ، وفي ذلك يقول الشاعر :
ومَنْ يحمد الدنيا لشيء يسره ... فسوف للعُسْرِ عن قَرِيبٍ يَلُومُها
إذا أدبرت كانتْ على المرء حسرةً ... وإن أقبلتْ كانت كثيراً هُمُومُها
الإشارة : النفس ، من حيث هي ، كلها تقبل الموت لمن قتلها وجاهدها ، وإنما وقع التفريط من أربابها ، فمن زحزحها عن نار الشهوات ، وقتلها بسيوف المخالفات ، حتى أدخلها جنات الحضرات ، فقد فاز فوزاً عظيماً ، وربح ربحاً كريماً . وبالله التوفيق .
(1/375)

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قلت : أصل { تبلونَّ } : تُبلوون كتُنصرون ، ثم قلبت الواو ألفاً ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، فصار تبلْونن ، ثم أكد بالنون ، فاجتمع ثلاث نونات ، حذفت نون الرفع فالتقى ساكنان؛ الواو ونون التوكيد ، فحركت الواو بالضمة المجانسة ، وهي النائب عن الفاعل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : والله { لتبلون } أي : لتختبرن { في أموالكم } ؛ بما يصيبها من الآفات ، وما كُلفتم به من النفقات ، { وأنفسكم } ؛ بالقتل والجراحات ، والأسر والأمراض وسائر العاهات . { ولتسمعُن من الذين أتوا الكتاب من قبلكم } ؛ اليهود { ومن الذين أشركوا } ، كفار مكة ، { أذى كثيراً } كقولهم : إن الله فقير ، وهجاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، والطعن في الدين ، وإغراء الكفرة على المسلمين ، أو غير ذلك من الأذى ، أعْلَمهم بذلك قبل وقوعه ، ليتأهبوا للصبر والاحتمال ، حتى لا يروعَهم نزولها حين الإنزال . { وتتقوا } الله فيما أمركم به ، { فإن ذلك من عزم الأمور } أي : من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله على فعلها ، وأوْجَبه على عباده . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من دخل في طريق الخصوص بالصدق والعزم على الوصول ، لا بد أن يُبتلى ويختبر في ماله ونفسه ، ليظهر صدقه في طلبه ، ولا بد أن يسمع من الناس أذى كثيراً ، فإن صبر ظفر ، وإن رجع خسر ، وهذه سنة الله في عباده : { وَلَنَبْلَوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محَمَّد : 31 ] ، قال الورتجبي : { لتبلون في أموالكم } ؛ بجمعها ومنها والتقصير في حقوق الله فيها ، { وأنفسكم } ؛ باتباع شهواتها ، وترك رياضتها ، وملازمتها أسباب الدنيا ، وخلوها من النظر في أمر الميعاد ، وقيل : { لتبلون في أموالكم } ؛ بالاشتغال بها أخذاً وإعطاء . ه .
(1/376)

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
قلت : الضمير في { نبذوه } : يعود على الكتاب ، أو الميثاق .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } وهم اليهود ، أخذ عليهم العهد ليبينن للناس ما في كتابهم من صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يكتمونه ، فنبذوا ذلك العهد أو الكتاب { وراء ظهورهم } ؛ فكتموا صفته - عليه الصلاة والسلام - خوفاً من زوال رئاستهم ، { واشتروا } بذلك العهد ، أي : استبدلوا به { ثمناً قليلاً } من حطام الدنيا ، وما كانوا يأخذونه من سفلتهم ، { فبئس ما يشترون } ، وهي تجر ذيلها على من كتم علماً سئل عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ كَتَمَ عِلْماً عَنْ أَهْله ألجِمَ بلِجَامٍ مِنْ نَارٍ " وعن عليّ رضي الله عنه : ( ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلِّموا ) . وقال محمد بن كعب : ( لا يحل للعالم أن يسكت على علمه ، ولا الجاهل أن يسكت على جهله ) .
الإشارة : أهل العلم إذا تحققوا بوجود الخصوصية عند ولي ، وكتموا ذلك حسداً وخوفاً على زوال رئاستهم ، دخلوا في وعيد الآية؛ لأنَّ العوام تابعون لهم ، فإذا كتموا أو أنكروا تبعُوهم على ذلك ، فيحملون أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ، والله تعالى أعلم .
(1/377)

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قلت : من قرأ بالخطاب ، فالذين : مفعول أول ، والثاني : محذوف ، أي : بمفازة من العذاب ، أو هو المذكور ، و { تحسبنهم } : تأكيد للفعل الأول ، ومن قرأ بالغيب ، فالذين : فاعل ، والمفعولان : محذوفان ، دلَّ عليهما ذكرُهما مع الثاني ، أي : لا يحسبوا أنفسهم فائزة . { فلا تحسبنهم } : من قرأ بفتح التاء؛ فالخطاب للرسول - عليه الصلاة والسلام- ، والفعل مبني ، ومن قرأ بالياء؛ فالخطاب للذين يفرحون ، والفعل معرب ، أي : لا يحسبن أنفسهم بمفازة من العذاب .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لا تحسبن } يا محمد { الذين يفرحون بما أتَوا } أي : بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ، { ويُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا } من الوفاء بالعهد ، وإظهار الحق ، والإخبار بالصدق ، أنهم فائزون من العذاب ، فلا تظنهم { بمفازة من العذاب } ، بل { لهم عذاب أليم } موجع ، { ولله ملك السماوات والأرض } ؛ إن شاء عذب وإن شاء رحم ، { والله على كل شيء قدير } فلا يعجزه من ذلك شيء ، أو : لا يظن الذي يفرحون بما أتوا ، ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ، فلا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : ( أنها نزلت في المنافقين ، كانوا إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم تخلَّفوا ، وإذا قدم اعتذروا ، فإذا قَبِل عذرهم فرحوا ، وأحبُّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ) . وما تقدم في التوطئة هو عن ابن عباس . وقال ابن حجر : ولا مانع من أن يتناول الآية كلَّ من أتى بحسنة وفَرِحَ بها فَرَحَ إعجاب ، وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا يظن أهل الفرق الذين يسندون الأفعال إلى أنفسهم ، غائبين عن فعل ربهم ، ويحبون أن يحمدهم الناس ويمدحهم بفعل غيرهم ، أنهم فائزون عن عذاب الفرق ، وحجاب العجب ، إذ لا فاعل سوى الحق ، فمن تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك ، فإن فرح العبد بالطاعة من حيث ظهورها عليه ، وهي عنوان العناية - ورأى نفسه فيها كالآلة ، معزولاً عن فعلها ، محمولاً بالقدرة الأزلية فيها ، فلا بأس عليه ، ويزيد بذلك تواضعاً وشكراً ، وإن فرح بها من حيث صدورها منه ، ويتبجح بها على عباد الله ، فهو عين العجب ، وفي الحكم : " لا تُفرحكَ الطاعة من حيث إنها صَدَرَتْ منك ، وافرح بها من حيث إنها هدية من الله عليك؛ { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يُونس : 58 ] " .
(1/378)

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن في خلق السماوات والأرض } وأظهارهما للعيان ، لَدلائل واضحة على وجود الصانع ، وكمال قدرته ، وعلمه ، لذوي العقول الكاملة الصافية ، الخالصة من شوائب الحس والوهم . قال البيضاوي : ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية؛ لأن مناط الاستدلال هو التغير ، وهذه متعرضة لجملة أنواعه ، فإنه - أي التغير - إما أن يكون في ذات الشيء ، كتغير الليل والنهار ، أو جزئه ، كتغير الناميات بتبدل صورها ، أو لخارج عنها ، كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " وَيْلٌ لمن قَرَأَهَا ولَمْ يَتَفَكَرْ فِيْهَا " .
الإشارة : الخلق هو الاختراع والإظهار ، فإظهار هذه التجليات الأربعة يدل على الحقّ - تعالى - تجلى لعباده بين الضدين ، بين النور والظلمة ، بين القدرة والحكمة ، بين الحس والمعنى ، وهكذا خلق من كل زوجين اثنين ، ليقع الفرار من إثنينية حسهما إلى فردية معناهما ، ففرّوا إلى الله ، فالسماوات والنهار نورانيان ، والأرض والليل ظلمانيان ، ففي ذلك دلالة على وحدة المعاني ، فلا تقف مع الأواني ، وخُض بحر المعاني ، لعلك تراني . وبالله التوفيق .
(1/379)

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف أولي الألباب : هم { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } ، أي : يذكرونه على الدوام ، قائمين وقاعدين ومضطجعين ، وعنه - صلى الله عليه وسلم - : " منْ أرادَ أن يَرْتَع في رِيَاضِ الجَنة فليُكثْر ذِكرَ الله " وقيل : يُصلّون على الهيئات الثلاث ، حسب الطاعة لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين ، وكان مريضاً : " صَلِّ قائِماً ، فإِنْ لَمْ تَسْتَطْع فقاعِداً ، فإنْ لَمْ تَسْتَطعْ فقاعِداً ، فإنْ لَمْ تَستطِعْ فعلى جَنْبِكَ وتُومئ إيماء " .
{ ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } استدلالاً واعتباراً ، وهو أفضل العبادات قال صلى الله عليه وسلم : " لا عبادة كالتفكر " ؛ لأن المخصوص بالقلب ، والمقصود من الخلق ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " بينَمَا رجلٌ مُسْتَلقٍ على فِرَاشهِ فَنَظَر إلى السماءِ والنُجومِ ، فَقَال : أشْهدُ أن لَكِ خَالِقًَ ، اللُهمَّ اغفرْ لي ، فَنَظَر اللّهُ إِليه فَغَفر لَهْ " وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله . قاله البيضاوي . وسيأتي مزيد من كلام على التفكر في الإشارة إن شاء الله .
فلما تفكروا في عجائب المصنوعات ، قالوا : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } أي : عبثاً من غير حكمة ، بل خلقته لحكمة بديعة ، من جملتها : ان يكون مبدأ لوجود الإنسان ، وسبباً لمعاشه ، ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك ، لينال الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية في جوارك ، { سبحانك } تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل ، { فَقِنَا عذابَ النار } التي استحقها من أعرض عن النظر والاعتبار ، وأخلّ بما يقتضيه من أحكام الواحد القهار ، { وما للظالمين من أنصار } يمنعونهم من دخول النار . ووضع المظهر موضع المضمر؛ للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار ، وانقطاع النصرة عنهم في دار البوار .
{ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان } ، وهو الرسول العظيم الشأن ، أو القرآن؛ قائلا : { أن آمنوا بربكم } ووحدوه ، فأجبنا نداءه وآمنا ، { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } الكبائر ، { وكفر عنا سيئاتنا } الصغائر ، { وتوفنا مع الأبرار } المصطفين الأخيار ، مخصوصين بصحبتهم ، معدودين في زمرتهم ، وفيه تنبيه على أنهم يُحبون لقاء الله فأحب الله لقاءهم ، { ربنا وآتنا ما وعدتنا على } تصديق { رسلك } من الثواب ، أو على ألسنة رسلك من الفضل والرحمة وحسن المآب ، سألوا ما وُعدوا على الامتثال ، لا خوفاً من إخلاف الوعدن بل مخافة ألاَّ يكونوا موعودين لسوء عاقبة ، أو قصور في الامتثال ، أو تعبداً ، أو استكانة . قاله البيضاوي .
{ ولا تخزنا يوم القيامة } أي : لا تُهِنَّا بسبب تقصيرنا ، { إنك لا تخلف الميعاد } بإثابة المؤمن وإجابة الداعي ، أو ميعاد البعث والحساب ، وتكرير { ربنا } ؛ للمبالغة في الابتهال ، والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها ، ففي بعض الآثار : ( من حزبه أمر فقال خمس مرات : " ربنا " ، أنجاه الله مما يخاف ) .
(1/380)

قاله البيضاوي .
الإشارة : قدَّم الحق الذكر على الفكر على ترتيب السير ، فإن المريد يُؤمَر أول أَمرِهِ بذكر اللسان ، حتى يفضي إلى الجنان ، فينتقل الذكر إلى القلب ، ثم إلى الروح ، وهو الفكر ، ثم إلى السر ، وهو الشهود والعيان ، وهنا يخرس اللسان ، ويغيب الإنسان في أنوار العيان ، وفي ذلك يقول القائل :
مَا إنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُنِي ... سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ
حَتَّى كَأنَّ رقيباً مِنكَ يَهْتِفُ بِي : ... إيَّاكَ : وَيْحَكَ والتَّذْكَارَ! إيَّاكَ!
أمَا تَرَى الحَقَّ قَدْ لاحَتْ شَوَاهِدُهُ ... وَوَاصَلَ الكُلَّ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ
فإذا بلغ العبد هذا المقام - الذي هو مقام الإفراد - اتحدت عنده الأوراد ، وصار ورداً واحداً ، وهو عكوف القلب في الحضرة بين فكرة ونظرة ، أو إفراد القلب بالله ، وتغيبه عما سواه .
قال في الإحياء في كتاب الأوراد : الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد ، الذي أصبح وهمومه هم واحد ، فلا يحب إلا الله ، ولا يخاف إلا منه ، ولا يتوقع الرزق من غيره ، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه ، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة ، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها ، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد ، وهو حضور القلب مع الله في كل حال ، فلا يخطر بقلبه أمر ، ولا يقرع سمعه قارع ، ولا يلوح لنظره لائح ، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد ، فلا محرك ولا مسكن إلا الله . فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم ، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة ، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى : { ففرّوا إلى الله } ، وتحقق فيهم قوله : { إني ذاهب إلى ربي } ، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين ، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك ، فيدعيه لنفسه ، ويفتر عن وظائف عباداته ، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً ، ولا يخطر بقلبه معصية ، لا يزعجه هواجم الأحوال ، ولا يستفزه عظائم الأشغال ، وأنى تكون هذه المرتبة! . ه .
قلت : قوله : [ لا يخطر بقلبه معصية ] غير لازم؛ لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية لكنها تقل ولا تسكن .
وقال في موضع آخر : وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه؛ حُبّاً لجلاله وجماله ، وسار الأعمال تكون مؤكدات . قال : والعامل لأجر الجنة؛ درجته درجة البُلْه ، وإنه لينالها بعمله؛ إذ أكثر أهل الجنة البله . ه . وقال في كتاب كيمياء السعادة : وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء ، حتى قال بعض مشايخ الصوفية : من رأني في الابتداء ، قال : صار صديقاً ، ومن رآني في الانتهاء ، قال : صار زنديقاً ، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات ، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن ، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور ، وتفتر ظواهر الأعضاء ، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة ، وهيهات هيهات!! ، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغياتها ، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس .
(1/381)

ه .
قال شيخ شيوخنا - سيدي عبد الرحمن العارف - بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى : وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة . وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم . ولذلك قال الجنيد : أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب؛ لأنه أجمع لهمه ، قال : وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث؛ لئلا يتغير حاله . ه . قلت : ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره ، يسير به كيفما كان .
هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى ، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات ، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين . وفي الخبر : " تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة " .
وقال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها : الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد ، والتنسم بنسيم المعرفة ، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد ، والنظر لحسن الظن بالله تعالى . ثم قال : يا لها من مجالس ، ما أجلها ، ومن شرابٍ ما ألذه ، طوبى لمن رزقه . وقال القشيري رضي الله عنه التفكر نعت كل طالب ، وثمرته : الوصول بشرط العلم ، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق . ه .
وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها ، فقالت : كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر . وكذلك زوجة أبي بكر قالت : كان ليله أجمع في ناحية يتفكر . وكذا زوجة أبي الدرداء ، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول : طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً ، ونظره عبرة . وقال الحسن رضي الله عنه : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو ، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو . ه . وقال في الحكم : " ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة " . وقال أيضاً : " الفكرة سراج القلب ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له " . وقال أيضاً : " الفكرة فكرتان؛ فكرة تصديق وإيمان ، وفكرة شهود وعيان ، فالأولى لأرباب الاعتبار ، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار " .
وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين ، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين ، بل وقت منها يعدل ألف سنة ، كما قال الشاعر :
كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي ... قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه
فأوقات هؤلاء كلها ليلة القدر ، ومن لم يبلغ هذا المقام فليبك على نفسه على الدوام ، ومن ظفر بها ونالها حق له الهناء ، وفي أمثاله قال القائل :
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ ... لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ
حققنا الله بمقامهم ، وسقانا من منالهم ، آمين .
وقوله : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } بل هو ثابت بإثباتك ، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك ، فالباطل محال ، وكل ما سواه باطل ، كما قرره الرسول - عليه الصلاة والسلام . وقوله : { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا } أي : كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان ، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان ، { ربنا وآتنا ما وعدتنا } وهو الوصول إلى العيان . وبالله التوفيق .
(1/382)

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
قلت : { استجاب } : أخص من أجاب ، لأن استجاب مُستلزم لفعل ما طلب منه ، وأجاب يصدق بالوعد ، ويتعدى بنفسه وباللام ، و { بعضكم من بعض } : جملة معترضة . قاله البيضاوي فانظره .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فاستجاب لهم ربهم } فيما طلبوه؛ لأنه لا يرد السؤال ، ولا تخيب لديه الآمال ، ولذلك قال : { أني } أي : بسبب { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } ؛ لأنكم { بعضكم من بعض } ؛ لأن الذكر من الأنثى ، والأنثى من الذكر ، ولأنهما من أصل واحد ، ولفط الاتصال والاتحاد والاتفاق في الدين .
رُوِيَ " أَنَّ أمَّ سَلَمَة قالتْ : يا رَسُولَ اللّهِ ، أني أَسْمَعُ الله يَذكُر الرجَالَ في الهِجْرَةِ ولم يَذكُر النساء ، فنزلت : { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } [ آل عِمرَان : 195 ] " الخ .
ثم فصل أعمال العمال ، وما أعد لهم من الثواب فقال : { فالذين هاجروا } دار الشرك ، وفارقوا الأوطان والأصحاب والعشائر ، { وأخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي } بسبب إيمانهم بالله ، { وقاتلوا } الكفار ، و { قُتلوا } أي : ماتوا في الجهاد . وقرئ بالعكس؛ لأن الواو لا ترتب ، أو قتل بعضهم ، وقاتل الباقون ولم يضعفوا ، { لأكفرنّ عنهم سيئاتهم } أي : لأمحونها ، { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله } أي : أثيبهم من عند الله تفضلاً وإحساناً ، { والله عنده حسن الثواب } لا يعجزه شيء .
الإشارة : لما توجهوا إليه بهممهم العلية ، وعزائمهم القوية ، فقرعوا بابه بدوام ذكره ، والتفكر في عظمة ذاته ، وجميل إحسانه وبره ، وتضرعوا إليه بلسان الذل والانكسار ، وحال الخضوع والاضطرار ، أجابهم ففتح في وجوههم الباب ، وأدخلهم في حضرته مع الأحباب ، لأنه يجيب السؤال ، ولا يخيب الآمال ، بعد أن هاجروا الأوطان ، وفارقوا العشائر والإخوان ، إلا من يزيد بهم إلى الرحمن ، فقاتلوا نفوسهم حتى ماتت فحييت بالوصال ، إلى جوار الكبير المتعال ، قال الشاعر :
إنْ تُردْ وَصْلنَا فَمَوتكَ شَرْطٌ ... لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه
فمحا عن عين بصائرهم سيئات الأغيار ، وطهَّر قلوبهم من درن الأكدار ، حتى دخلوا جنة المعارف ، التي لا يحيط بوصفها وصف واصف ، تجري من تحتها أنهار العلوم ، وتنفتح منها مخازن الفهوم ، ثواباً من عند الحيّ القيوم والله تعالى أعلم .
(1/383)

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
قلت : النُزل - ويسكن - : ما يقدم للنازل من طعام وشراب وصلة ، وانتصابه : على الحال من { جنات } ، والعامل فيه : الظرف ، أو على المصدر المؤكد ، أي : أُنزلوها نزلاً .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لا يغرنك } أيها السامع أو أيها الرسول ، والمراد : تثبيته على ما كان عليه ، كقوله : { فلا تطع المكذبين } ، أي : دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط في الدنيا ، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات ، وما هم عليه من الخصب ولين عيش ، فإن ذلك { متاع قليل } بلغة فانية ، ومتعة زائلة ، وظلال آفلة ، وسحابة حائلة . قال صلى الله عليه وسلم : " ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاَّ مِثْلُ ما يَجْعَلُ أَحَدُكُم إصْبَعَهِ في اليَمِّ ، فَلْيَنْظُر بِمَ يَرْجِعَ " فلا بد أن يرحلوا عنها قهراً ، { ثم مأواهم } أي : مصيرهم { جهنم وبئس المهاد } ما مهدوا لأنفسهم .
والمعتبر عند الأكياس هو ما أعد الله للمتقين من الناس ، قال تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم } وخافوا عقابه ، { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } ، هيأ ذلك لهم وأعده { نزلاً من عند الله } هذا النزول الذي يقدم للضيف ، وأما ما أعد لهم بعد النزول فلا يُعتبر عن لسان ، ولذلك قال : { وما عند الله } من النعيم الذي لا يفنى ، جسماني وروحاني ، { خير للأبرار } مما ينقلب إليه الفجار . قيل : حقيقة البر : هو الذي لا يؤذي الذر .
الإشارة : لا يغرنك أيها الفقير ما ترى عليه أهل الدنيا من اتخاذ المنازل المشيدة ، والفرش الممهدة ، فإن الدنيا متاعها قليل ، وعزيزها قليل ، وغنيها فقير ، وكبيرها حقير ، واعتبر بحال نبيك - عليه الصلاة والسلام .
قال أنس رضي الله عنه : دَخلتُ علَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُو على سَرِير مرفل بالشريط - أي : مضفور به - وتحت رَأسِهِ وسَادَةٌ من أَدَم ، حَشْوُهَا لِيفٌ ، فدل عليه عمر ، وانحرف النبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة ، فرأى عمر الشريط في جَنْبِهِ ، فَبكَى ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما يُبْكِيكَ يا عمر " ؟ فقال : مَالِيَ لا أبْكِي وكِسْرى وقَيْصَرُ يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا ، وأنت على الحال الذي أرى ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " يا عمر أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهُم الدُّنيا وَلَنا الآخرَةُ " رواه البخاري .
وانظر ما أعدّ الله للمتقين الأبرار ، الذين صبروا قدر ساعة من نهار ، فأفضوا إلى جوار الكريم الغفار في دار القرآن ، { وما عند الله خير للأبرار } ، ولا سيما العارفين الكبار . قال الورتجبي : بيِّن الحق - تعالى - رفعة منزل المتقين في الجنان ، ثم أبْهم لطائف العناية بقوله : { وما عند الله خير للأبرار } أي : ما عنده من نعيم المشاهدة ، ولطائف القربة ، وحلاوة الوصلة ، خير مما هم فيه من نعيم الجنة ، وأيضاً : صرح في هذه الآية ببيان مراتب الولاية ، لأنه ذكر المتقين ، والتقوى : تقديس الباطن عن لوث الطبيعة ، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفة ، وذلك درجة الأولى من الولاية ، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة ، وبين أن أهل التقوى في الجنة ، والأبرار في الحضرة . ه .
(1/384)

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن من أهل الكتاب } ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود ، { لمن يؤمن بالله } إيماناً حقيقياً ، { وما أُنزل إليكم } من القرآن ، { وما أُنزل إليهم } من التوراة ، حال كونهم { خاشعين لله } خاضعين مخبتين وافين بالعهد ، { لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً } ، كما فعل المحرفون من أحبار اليهود ، { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } أي : ما وعدوا به من تضعيف أجرهم مرتين ، { إن الله سريع الحساب } ؛ فيُسرع إلى توفية أجورهم وإكرام منقلبهم؛ لأن الله عالم بالأعمال وما تستوجبه من النوال ، فلا يحتاج إلى تأمل ولا احتياط؛ لأنه غني عن التأمل والاحتياط .
وقيل : نزلت في النصارى : أربعين من نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأسلموا . وقيل : نزلت في النجاشي ، لما نَعَاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج - عليه الصلاة والسلام - ، وصلّى عليه ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا ، يصلّي على عِلْجٍ نصراني ، فنزلت الآية . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد رأينا بعض الفقهاء حصل لهم الإيمان بخصوص أهل زمانهم ، بتحققوا بولايتهم ، ونالوا شيئاً من محبتهم ، لكن لم تساعفهم الأقدار في صحبتهم ، فظهرت عليهم آثار أنوارهم ، واقتبسوا شيئاً من أسرارهم ، فتنوّرت سريرتهم ، وكملت شريعتهم ، وأظهر عليهم آثار الخشوع ، وأخذوا حظّاً من التواضع والخضوع ، متخلقين بالقناعة والورع ، قد ذهب عن قلبهم ما ابتلى به غيرهم من الجزع والهلع ، فلا جرم أن هؤلاء لهم أجرهم مرتين : أجر ما تحملوا من الشريعة لنفع العوام ، وأجبر ما اكتسبوا من محبة القوم؛ " المرءُ مَع مَنْ أَحب " وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/385)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قلت : المرابطة : أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، إرصاداً لمن حاربهم ، ثم أُطلق على كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب ، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده . المدار على خلوص النية ، خلاف ما قاله ابن عطية ، وسيأتي صوابه في تفسير المعنى ، إن شاء الله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } على مشاق الطاعات ، وما يصيبكم من الشدائد والأزْمَات ، وعلى مجانبة المعاصي والمخالفات ، وعلى شكر ما أوليتكم من مواهب العطيات { وصابروا } أي : غالبوا الأعداء في مواطن الصبر ، والثبوت في مداحض الحرب ، { ورابطوا } أبدانكم وخيولكم في الثغور لتحفظوا المسلمين من العدو الكفور ، كي تفوزوا بعظائم الأجور؛ قال صلى الله عليه وسلم : " من رَابَط يَوْماً ولَيلَة في سبيل اللّهِ كان كعدل صِيامِ شَهْر وصِيَامه ، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة ، ومن توفي في سبيل الله - أي : مرابطاً في سبيل الله - أجْرَى الله عليه أجره حتى يقضي بين أهلِ الجنَةِ وأهل النَّارِ " ومما يلحق بالرباط : " أنتظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ " ، كما في الحديث :
{ واتقوا الله } فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، { لعلكم تفلحون } فلاحاً لا خسران بعده أبداً .
الإشارة : { يا أيها الذين آمنوا } إيمان أهل الخصوص ، { اصبروا } على حفظ مراسم الشريعة ، { وصابروا } على تحصيل أنوار الطريقة ، { ورابطوا } قلبوكم على شهود أسرار الحقيقة ، أو : اصبروا على أداء العبادة ، وصابروا على تحقيق العبودية ، ورابطوا في تحصيل العبودة - أي : الحرية - أو : اصبروا على تحقيق مقام الإسلام ، وصابروا على دوام الإيمان ، ورابطوا على العكوف في مقام الإحسان ، أو : اصبروا على تخليص الطاعات ، وصابروا على رفض الحظوظ والشهوات ، ورابطوا أسراركم على أنوار المشاهدات ، { واتقوا الله } فلا تشهدوا معه سواه ، { لعلكم تفلحون } ، بتحقيق معرفة الله . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/386)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قلت : من قرأ : { والأرحامَ } بالنصب ، فعطف على لفظ الجلالة ، أي : اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزه بالخفض على الضمير من { به } ؛ كقول الشاعر :
فَالْيَوْمَ قَدْ بتّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا ... فَاذْهَبَ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
وجمهور البصريين يمنعون العطف على الضمير إلا بإعادة الجار ، فيقولون : مررت به وبزيد . وقال ابن مالك :
ولَيْس عِنْدي لاَزمَا إذْ قَدْ أَتَى ... في النَّظْم والنَّثْر الصَّحِيح مُثْبَتَا
والنثر الصحيح هو ما قرأ به حمزة ، وهذا هو التوجيه الصحيح ، وأما من جعل الواو للقسم فبعيد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الناس } أي : جميع الخلق ، اتقوا ربكم فيما كلفكم به ، ثم بيَّن موجب التقوى فقال : { الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني آدم ، { وخلق منها زوجها } يعني حواء ، من ضلع من أضلاعه ، { وبث } أي : نشر { منهما رجالاً كثيرًا ونساء } أي : نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات . قال البيضاوي : واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء ، إذْ الحكمة تقتضي أن يكنَّ أكثر ، وذكر : { كثيرًا } حملاً على الجمع ، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تُخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها . ه .
{ واتقوا الله الذي تساءَلون به } أي : يسأل بعضكم بعضَا فيقول : أسألك بالله العظيم ، { والأرحام } أي : واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، فمن قطعها قعطه الله ، ومن وصلها وصله الله ، كما في الحديث . أو تساءلون به وبالأرحام ، فيقول بعضكم لبعض : أسألك بالرحم التي بيني وبينك ، أو بالقرابة التي بيني وبينك . ثم هددهم على ترك ما أُمروا به فقال : { إن الله كان عليكم رقيباً } حافظًا مطلعًا شهيدًا عليكم في كل حال .
الإشارة : درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك ، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية ، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية ، في النشأة الأولية ، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة ، أو بين الفناء والبقاء .
وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة ، فقال : إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها ، استفاد مقام المراقبة ، وهو مقام شريف أصله علم وحال ، ثم يثُمر حالين . أما العلم : فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه ، ناظر إليه في جميع أعماله ، ويسمع جميع أقواله ، ويعلم كل ما يخطر على باله . وأما الحال : فهو ملازمة هذا العلم بالقلب ، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه . ولا يكفي العلم دون هذه الحال ، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين : الحياء من الله ، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات ، وكانت ثمرتهما عند المقربين : المشاهدة ، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال .
(1/387)

وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله " أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تَراه فإنْ لم تكنْ تَراه فإنه يَراك " ، فقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه " إشاره إلى الثمرة الثانية ، وهي الموجبة للتعظيم ، كمن يشاهد ملكًا عظيمًا فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة ، وقوله : " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إشارة إلى الثمرة الأولى ، ومعناه : إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقربين فاعلم أنه يراك ، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين ، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى ، ورأى أن كثيرًا من الناس قد يعجزون عنه ، تنزل منه إلى المقام الآخر .
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة ، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة ، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة ، وترك المعاصي ، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك ، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أول الأمر تكون المراقبة . . . الخ .
وبعد ذلك يحاسب العبدُ نفسَه على ما اشترطه وعاهد عليه ، فإن وجد نفسه قد وفَّى بما عاهد عليه الله يحمد الله ، وإن وجد نفسه قد حلَ عَقد المشارطة ونقض عهد المراقبة ، عاقب النفس عقابًا شديدًا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة ، وحافظ على المراقبة ، ثم اختبر بالمحاسبة ، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى . انتهى كلامه ، وهو مقتبس من الإحياء . والله تعالى أعلم .
(1/388)

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
قلت : اليتيم : مَنْ فقدَ أباه ، ولا يقال فيه اليتيم عُرفا إلا قبل البلوغ ، وهو هنا مجاز ، أي : من كان يتيمًا ، والحوبُ : الإثم ، ويقال فيه : حوبا ، بالضم والفتح ، مع الواو والألف ، مصدر حاب حوبًا وحوَبا وحابا .
يقول الحقْ جلّ جلاله : { وآتوا } أي أعطوا { اليتامى أموالهم } إذا بلغوا ، وأُنِس منهم الرشد ، وسمَّاهم يتامى بعد البلوغ اتساعًا؛ لقرب عهدهم بالصغر . حثًا على أن يُدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم ، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إذا أنِسَ فيهم الرشد ، ويدل على هذا ما قيل في سبب نزول الآية ، وهو أن رجلآ من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له ، فلما بلغ طلب مال أبيه ، فمنعه ، فنزلت الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله ، ونعوذ بالله من الحُوب الكبير . وقيل : إن العرب كانت لا تورِّث الصغار مع الكبار ، فأُمِرُوا أن يورثوهم ، وعلى هذا يكون اليتيم على حقيقته ، فعلى الأول : الخطاب للأوصياء ، وعلى الثاني : للعرب التي كانت لا تورث الصغار .
ثم قال : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أي : لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو : لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتُعطوا الخبيث مكانها من أموالكم . كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف . { ولا تأكلوا أموالهم } مضمومًا { إلى أموالكم } فتنفقونها معًا ، مع أن اليتيم لا يأكل كالكبير ، إلا إذا كان المنفَق قدَّر أكله ، أو لمصلحة . { إنه } أي : الأكل ، { كان حُوبًا كبيرًا } أي : إثمًا عظيمًا .
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله أغنياء القلوب ، وهم أكابر الأولياء الراسخون في علم الغيوب ، أن يَمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء ، من الغني بالله الذي منحهم الله ، حتى لا يلتفتوا إلى سواه ، وأن يَقبلوا كل من أتى إليهم من العباد ، سواء كان من أهل المحبة والوداد ، أو من أهل المخالفة والعناد ، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب ، بحيث يَقبلون من وجدوه طيب الأخلاق ، ويردون من وجدوه خبيث الأخلاق ، فإن هذا ليس من شأن أهل التربية النبوية ، بل من شأنهم أن يقبلوا الناس على السوية ، ويقلبوا فيهم الأعيان ، فيقبلون العاصي طائعًا ، والكافر مؤمنًا ، والغافل ذاكرًا ، والشحيح سخيًّا ، والخبيث طيبًا ، والمسيء محسنًا ، والجاهل عارفًا ، وهكذا؛ لما عندهم من الإكسير ، وهي الخمرة الأزلية ، أي : التي من شأنها أن تقلب الأعيان ، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه في وصفها :
تُهذبُ أخلاقَ النَّدامى فيَهْتَدي ... بها لطريقِ العزمِ مَن لا له عَزْم
ويكرُمُ مَنْ لم يَعْرِف الجودَ كَفُّه ... ويحلُمُ عند الغيْظِ مَنْ لا لهُ حِلم
وقوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } يعني : حتى تتحققوا بوصول الغني إلى قلوبهم ، فإن تحققتم فخذوا ما بذلوا لكم من أموالهم . والله تعالى أعلم .
(1/389)

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
قلت : { ما } من شأنها أن تقع على ما لا يعقل ، وهنا وقعت على النساء لقلة عقلهن حتى التحَقْنَ بمن لا يعقل و { مثنى وثلاث ورباع } أحوال من { ما } ممنوعة من الصرف للوصف والعدل ، أي : اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعًا أربعا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن خفتم } يا معشر الأولياء إلاَّ تعدلوا { في اليتامى } التي تحت حجركم إذا تزوجتم بهن طلبًا لمالهن ، مع قلة جمالهن ، فتهجروهن أو تسيئوا عشرتهن ، { فانكحوا ما طاب لكم } من غيرهن ، أو : وإن خفتم ألا تُقسطوا في صداقهن إذا أعجبنكم لِمَالِهنّ الذي بيدكم وجمالهن ، فانكحوا غيرهن ، ولا تنكحوهن إلا إذا أعطيتموهن صداق أمثالهن .
قالت عائشة رضي الله عنها : ( هي اليتيمة تكون في حِجر وليها ، فيرغب في مالها وجمالها ، ويرد أن ينكحها بأدنى صداقها ، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأُمِروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء ) . رواه البخاري .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : ( إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة وأكثر يعني قبل التحريم فإذا ضاق ماله أخذ من مال يتيمه ) ، فقال لهم : إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى أي : في أموالهن فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن { مثنى وثلاث ورباع } أي : اثنتين اثنتين لكل واحدٍ ، أو ثلاثاً ثلاثاً ، أو أربعًا أربعًا ، ولا تزيدوا ، فمنع ما كان في الجاهلية من الزيادة على الأربع ، وهو مُجمع عليه بنص الآية ، ولا عبرة بمن جوَّز تسعًا لظاهر الآية؛ لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد ، لا الجمع ، ولو أراد الجمع لقال تسعًا ، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانًا .
{ فإن خفتم ألا تعدلوا } بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع ، فاقتصروا على واحدة ، أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير؛ إذ لا يجب العدل بينهن ، { ذلك } الاقتصار على الواحدة { أدنى } أي : أقرب { ألا تعولوا } أي : تجوروا أو تميلوا ، أو ألا تجاوزوا ما فرض عليكم من العدل ، أو أدنى ألا يكثر عيالكم فتفتقروا ، وهي لغة حِمْيَر . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل أولياءه أصنافاً عديدة؛ فمنهم من غلب عليه فيض العلوم ، ومنهم من غلب عليه هجوم الأحوال ، ومنهم من غلب عليه تحقيق المقامات ، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كان الجنيد رضي الله عنه قطبًا في العلوم ، وكان أبو يزيد رضي الله عنه قطبًا في الأحوال ، وكان سهل بن عبد الله قطبًا في المقامات . ه . أي : كل واحد غلب واحد من ذلك ، مع مشاركته للآخر في الباقي ، فينبغي لكل واحد أن يخوض في فنِّه الذي خصَّه الله به ولا يتصدى لغيره . فقال لهم الحق جل جلاله من طريق الإشاره : فإن خفتم يا مَنْ غلبت عليهم الأحوال أو المقامات ، أَلاَّ تُقسطوا في يتامى العلوم التي اختص بها غيركم ، فانكحوا ما طاب لكم من ثيبات الأحوال وأبكار الحقائق ، كثيرة أو قليلة ، فإن خفتم أن تغلبكم الأحوال ، أو التنزل في المقامات ، ولا تعدلوا فيها ، فالزموا حالة واحدة ومقامًا واحدًا ، وهو المقام الذي ملكه وتحقق به ، فإن أقرب ألا ينحرف عن الاعتدال؛ لأن كثرة الأحوال تضر بالمريد كما هو مقرر في فنه . والله تعالى أعلم .
(1/390)

وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
قلت : { نِحلة } : مصدر من { آتوهن } ، لأنها في معنى الإيتاء ، يقال : نحله كذا نحلة ونحلا؛ إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ولا حكم حاكم ، والضمير في { منه } يعود على الصداق أو على " الإيتاء " ، و { نفسًا } تمييز ، و { هنيئاً مريئًا } : صفتان لمصدر محذوف ، أي : أكلاً هنيئًا ، وهو من هَنُؤ الطعام ومَرُؤ ، إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه ، وقيل الهنيء : ما يلذه الإنسان ، والمريء : ما تُحمد عاقبته .
يقول الحقّ جلّ جلاله : للأزواج : { وآتوا النساء } التي تزوجتموهن { صدقَاتهن نحلة } أي : عطية مُبتلة ، لا مطل فيها ولا ظلم ، { فإن طِبن لكم عن شيءٍ } من الصداق : وأعطينه لكم عن طيب أنفسهن { فكلوه هنيئًا } لاتبعة عليكم فيه ، { مريئًا } : سائغًا حلالاً لا شبهة فيه ، رُوي أن ناسًا كانوا يتحرّجون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئًا ، فنزلت . وقيل : الخطاب للأولياء ، لأن بعضهم كان يأكل صداق محجورته ، فأمروا أن يعطوهن صداقهن ، إلا إن أعطينَهم شيئًا عن طيب أنفسهن ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : وآتوا النفوس حقوقها من الراحة وقوت البشرية ، نحلة ، ولا تكلفوها فوق طاقتها ، فإن طبن لكم عن شيء من الأعمال أو الأحوال ، بانشراح صدر ونشاط ، فكلوه هنيئًا مريئاً ، فإنَّ العبادة مع النشاط والفرح بالله أعظم وأقرب للدوام ، وهذا في حق النفوس المطمئنة ، وأما النفوس الأمارة فلا يناسبها إلا قهرية المجاهدة مع السياسة؛ لئلا تمل ، أو تقول : من أقامه الحق تعالى في حال من الأحوال أو مقام من المقامات فليلزمه ، وليقم حيث أقامه الحق ، ويعطيه حقه ، فإن طاب وقته لحال من الأحوال فليأكله هنيئًا مريئًا . فالفقير ابن وقته ، ينظر ما يبرز له فيه من رزقه ، فكل ما وجد فيه قلبه فهو رزقه ، فليبادر إلى أكله لئلا يفوته رزقه منه . والله تعالى أعلم بأسرار كتابه .
(1/391)

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
قلت : { قيمًا } : مصدر قام قيامًا وقيما ، وأصله : قوامًا ، قلبت الواو ياء .
يقول الحقّ جلّ جلاله : للأوصياء : { ولا تؤتوا السفهاء } التي تحت حضانتكم { أموالكم } أي : أموالهم التي في أيديكم ، وإنما أضاف أموال اليتامى لهم حثًا على حفظها وتنميتها كأنها مال من أموالهم ، أي : ولا تمكنوا السفهاء من أموالهم التي جعلها الله في أيديكم { قيمًا } لمعاشهم ، تقومون بها عليهم ، ولكن احفظوها ، واتجروا فيها ، واجعلوا رزقهم وكسوتهم فيها باعتبار العادة ، فإن طلبوها منكم فعدوهم وعدًا جميلاً ، { وقولوا لهم قولاً معروفًا } أي : كلامًا لينًا بأن يقول له : حتى تكبر وترشد لتصلح للتصرف فيها . وشبه ذلك . وإنما قال : { وارزقوهم فيها } دون " منها "؛ لأن " فيها " يقتضي بقاءها بالتنمية والتجارة حتى تكون محلاً للرزق والكسوة دون " منها " ، وقيل : الخطاب للأزواج ، نهاهم أن يعمدوا إلى ما خولهم الله من المال فيعطوه إلى نسائهم وأولادهم ، ثم ينظرون إلى أيديهم . وإنما سمَّاهن سفهاء استخفافًا بعقلهن ، كما عبر عنهن ب " ما " التي لغير العاقل .
وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنما خُلقتْ النارُ للسفهاء قالها ثلاثًا ألا وإن السفهاءَ النساء إلا امرأة أطاعت قيِّمَها " . وقالت أمرأة : يا رسول الله : سميتنا السفهاء! فقال : " الله تعالى سماكن في كتابه " يشير إلى هذه الآية . وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : ( ثلاثة يَدْعُون الله فلا يُستجاب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه ، ورجل أعطى سفيهًا ماله ، وقد قال الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } ) .
قلت : إنما مُنعوا إجابة الدعاء لتفريطهم في مراسم الشريعة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا ينبغي للشيخ أن يُطلع المريد على أسرار التوحيد ، وهي أسرار المعاني التي جعلها الله تعالى قائمة بالأشياء ، حتى يكمل عقله ، ويتحقق أدبه ، ويظهر صدقه ، فإذا استعجلها قبل وقتها فليعده وعدًا قريبًا ، وليقل له قولاً معروفًا ، فكم من مريد استعجل الفتح قبل إبانه فعوقب بحرمانه ، وكم من مريد اطلع على أسرار الحقيقة قبل كمال خدمته فطُرد أو قتل ، ووقتها هو حين تبرز معه فتأخذه الحيرة ، اللهم إلا أن يراه الشيخ أهلاً لحملها؛ لرجحان عقله وكمال صدقه ، فيمكنه منها قبل أن تبرز معه ، ثم يربيه فيها ، وهذا الذي شهدناه من أشياخنا لشدة كرمهم رضي الله عنهم وأرضاهم ورزقنا حسن الأدب معهم ، فأطلق الحق تعالى الأموال بطريق الإشارة على أسرار المعاني ، وأمر الشيوخ أن يرزقوهم منها شيئًا فشيئًا بالتدريب والتدريج ، وأن يكسوهم بالشرائع ، ويحتمل أن تبقى الأموال على ظاهرها ، ويكون أمر الشيخ أن يمنعوا المريدين من أخذ الأموال قبل التمكين .
(1/392)

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
قلت : الابتلاء : الاختبار ، و " آنس " : أبصر . والرشد هو كمال العقل بحيث يعرف مصالح نفسه وتدبير ماله من غير تبذير ولا إفساد . و { إسرافًا وبدارًا } : حالان من " الواو " ، أو مفعولان لأجله ، و { أن يكبروا } مفعول ببدار .
يقول الحقّ جلّ جلاله : للأوصياء : واختبروا { اليتامى } قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في تصرفاتهم ، بأن يُدفع لهم الدرهم والدرهمان ، فإن ظهر عليه حسن التصرف زادهم قليلاً قليلا ، وإن ظهر عليهم التبذير كفَّ عنهم المال ، { حتى إذا بلغوا النكاح } ، وهو البلوغ بعلامته ، { فإن آنستم } أي : أبصرتم { منهم رشدًا } ، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله ، وإن لم يكن من أهل الدين واشترطه قوم ، { فادفعوا إليهم } حينئِذ { أموالهم } من غير تأخير . { ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبروا } أي : لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم فتزول من يدكم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم { ومَن كان غنيًّا فليستعفف } عن أكلها في أجرة قيامه بها ، { ومَن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف } بقدر حاجته وأجر سعيه ، وعنه صلى الله عليه وسلم : أنَّ رجُلاً قال لهُ : إنَّ في حجْرِي يتَيمًا أفآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟ قال : " بالمعْرُوفِ ، غَيْرَ مُتأثِّلٍ " مَالاً ولا وَاقٍ مَالَكَ بمَالِه " .
{ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا } في قبضها منكم { عليهم } ، فإنه أنفى للتهمة وأبعدُ من الخصومة ، وهو ندب ، وقيل : فرض ، فلا يصدق في الدفع إلا ببينة ، { وكفى بالله حسيبًا } أي : محاسبًا ، فلا تخالفوا ما أمرتم به ، ولا تجاوزوا ما حدّ لكم .
وإنما قال : { حسيبًا } ولم يقل : " شهيدًا " ، مع مناسبته ، تهديدًا للأوصياء لئلا يكتموا شيئًا من مال اليتامى ، فإذا علموا أن الله يحاسبهم على النقير والقطمير ، ويعاقبهم عليه ، انزجروا عن الكتمان . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي للشيخ أن يختبر المريد في معرفته وتحقيق بغيته ، فإذا بلغ مبلغ الرجال وتحققت فيه أوصاف الكمال ، بحيث تحقق فناؤه ، وكمل بقاؤه ، وتمت معرفته ، فيكون تصرفه كله بالله ومن الله وإلى الله ، يَفهم عن الله في كل شيء ، ويأخذ النصيب من كل شيء ، ولا يأخذ من نصيبه شيئًا ، قد تحلَّى بحلية الورع ، وزال عنه الجزع والطمع ، وزال عن قلبه خوف الخلق وهَمُّ الرزق واكتفى بنظر المَلِك الحق ، يأخذ الحقيقة من معدنها ، والشريعة من موضعها ، فإذا تحققت فيه هذه الأمور ، وأنس رشده ، فليُطلقُ له التصرف في نفسه ، وليأمره بتربية غيره ، إن رآه أهلاً لذلك ، ولا ينبغي أن يحجر عليه بعد ظهور رشده ، ولا يسرف عليه في الخدمة قبل رشده ، مخافة أن يزول من يده .
فإن كان غنيًا عن خدمته فليستعفف عنه ، وليجعل تربيته لله اقتداء بأنبياء الله . قال تعالى : { قُل لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } [ الأنعَام : 90 ] { وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشُّعَرَاء : 109 ] ، وإن كان محتاجًا إليها فليستخدمه بالمعروف ، ولا يكلفه ما يشق عليه ، فإذا دفع إليه السر ، وتمكن منه ، وأمره بالتربية أو التذكير فليشهد له بذلك ، ويوصي بخلافته عنه ، كي تطمِئن القلوب بالأخذ عنه ، { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً } [ النساء : 45 ] .
(1/393)

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
قلت : جملة { مما قل . . } الخ ، بدل { مما ترك } ، و { نصيبًا } : مصدر مؤكد كقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ } [ النساء : 11 ] أي : نصب لهم نصيبًا مقطوعًا ، أو حال ، أو على الاختصاص ، أعني : نصيبًا مقطوعًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وإذا مات ميت وترك مالاً فللرجال نصيب مما ترك آباءهم وأقاربهم ، وللنساء نصيب مما ترك والدهن وأقاربهن كالإخوة والأخوات ، مما ترك ذلك الميت قل أو كثر ، { نصيبًا مفروضًا } واجبًا محتمًا .
رُوِيَ أنَّ أَوْسَ بنَ ثَابتِ الأنْصَارِيَّ تُوفِيَّ ، وتَركَ امرأة يقال لها : ( أم كَحَّة ) وثلاثّ بناتٍ ، فأخذ ابْنَا عَمّ الميتِ المَالَ ، ولم يُعْطيا المرأَة ولا بَنَاتِه شيئًا ، وكان أَهلُ الجَاهلِيَّة لا يُورِّثُون النِّسَاءَ ولا الصغيرَ ولو كان ذكرًا ، ويقولون : إنما يَرث مَنْ يُحارب ويَذب عن الموروث ، فجاءت أمُ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ ، فقالت : يا رسول الله؛ إن أوس بن ثابت مات ، وترك بنات ثلاثًا ، وأنا اِمْرأته ، ولَيْس عِنْدِي مال أُنْفقُه عَليهنّ ، وقد تَرَك أبُوهُن مالاً حسنًا ، وهو عند سُويْدٍ وعَرْفَجَة ، فَدَعاهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فقالا : يا رسُولَ الله ولَدُها لا يَركُب فَرسًا ، ولا يَحْمِل سِلاَحًا ، لا ينُكأ عَدُوًّا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " انْصَرِفُوا حتى أرى ما يُحدِثُ الله تعالى " ، فانْصرَفُوا . فنزلت الآية . فأثبت الله لهن في الآية حقًا ، ولم يُبِّين كم هو فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُويد وعَرفجَة : " لا تُفرقا مِنْ مَال أوْسٍ شَيئًا ، فَإنّ الله تعالى جَعَل لِبنَاتِه نَصِيبًا ، ولم يبَّين كم هو حتى أنظُرَ ما يُنزل الله تعالى " ، فأنزل الله تعالى بعدُ : { يُوصِيكُمُ اللهُ ِفي أوْلادِكُمْ } [ النساء : 11 ] . . . إلى قوله . . . { الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ النساء : 13 ] . فأرسل إليهما : " أن ادفعا إلى أم كحة الثُّمْن ، وإلى بناته الثُّلثين ، ولكما باقي المال " .
الإشارة : كما جعل الله للنساء نصيبًا من الميراث الحسي جعل لهن نصيبًا من الميراث المعنوي ، وهو السر ، إن صحبتْ أهل السر ، وكان لها أبو الروحانية ، وهو الشيخ ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية ، وللنساء كذلك على قدر ما سبق في القسمة الأزلية ، قليلة كانت أو كثيرة ، نصيبًا مفروضًا معينًا في علم الله وقدره ، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال في آية السير ، فقال : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَاتِ } [ الأحزَاب : 35 ] إلى آخر الآية ، فمَنْ صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا . وبالله التوفيق .
(1/394)

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
قلت : الضمير في { منه } : يعود على المقسوم المفهوم من القسمة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا حضر } معكم في قسمة التركة ذَوو القرابة مِمَّنْ لا يرث ، كالأخوال والخالات والعمات ، { واليتامى والمساكين فارزقوهم } أي : فأعطوهم شيئًا من المال المقسوم تطييبًا لقلوبهم . فإن كان المال لغيركم ، أو كان الورثة غيرَ بالغين ، فقولوا لهم { قولاً معروفًا } ، بأن تُعلموهم أن المال لغيرنا ، ولو كان لنا لأعطيانكم ، والله يرزقنا وإياكم .
واختلف في هذا الأمر ، هل للندب وهو المشهور أو للوجوب ونسخ بآية المواريث؟ وقيل : لم يُنسخ ، وهي مما تهاون الناس بها . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يقول الحق جل جلاله لخواص أحبابه : إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس ، وتعاطيتهم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميعُ أشباحكم ، وروت منها عُروقكم ، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم ، ممن لا يُحل شرْب خمرتكم ، فإن كان من أهل المحبة والوداد ، أو من له بكم قرابة واستناد ، فلا تحرموه من شراب خمرتكم ، ولا من نفحات نسمتكم ، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم ، فارزقوه من ثمار علومكم ، واسقوه من شراب خمرتكم ، وذكَّروه بالله ، وقولوا له ما يدله على الله ، ويوصله إلى حضرة الله ، وهذا هو القول المعروف ، الذي هو بالنصح موصوف .
رُوِي أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى في سوق المدينة : يا معشر التجار ، اذهبوا إلى المسجد ، فأنَّ تركة مُحمدٍ تقسم فيه ، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد ، فذهب التُجَّارُ إلى المسجد النبوي ، فوجدوه معمورًا بالناس ، بعضهم يُصلي ، وبعضهم يتلو ، وبعضهم يذكر ، وبعضهم يعلم العلم ، فقالوا : يا أبا هريرة ، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة! فقال لهم : ( هذه تركة محمد صلى الله عليه وسلم ، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال ) أو كما قال رضي الله عنه .
(1/395)

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
قلت : هنا شرطية ، تخلص للاستقبال ، وجوابها : { خافوا } ، وحذف مفعول { يخشى } للعموم ، فيصدق بخشية العذاب وخشية العتاب وخشية البعد عن الأحباب ، على حساب حال المخاطبين بهذه الخشية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : للأوصياء الذين في ولايتهم أولاد الناس : { وليخش } الذين يتولون يتامى الناس ، فليحفظوا مالهم ، وليحسنوا تنميته لهم ولا يضيعوه ، وليخافوا عليهم الضيعة ، كما يخافون على أولادهم ، فإنهم لو ماتوا وتركوا { ذرية ضعافًا خافوا عليهم } ، فكما يخافون على أولادهم بعدهم كذلك يخافون على أولاد الناس ، { فليتقوا الله } في شأنهم ، وليحفظوا عليهم أموالهم ، وليرفقوا بهم ويلاطفوهم في الكلام ، كما يُحبون أن يلاطف بأولادهم ، { وليقولوا } لهم { قولاً سديدًا } أي : عدلاً صوابًا بالشفقة وحسن الأدب .
وقيل : الخطاب لمن حضر المريض عند الإيصاء فيقولون له : قدم لنفسك ، أعتق ، تصدق ، أعط كذا ، حتى يستغرق ماله ، فنهاهم الحق تعالى عن ذلك ، وقال لهم : كما تخافون الضيعة على أولادكم بعدكم خافوا على أولاد الناس ، فليتقوا الله في أمر المريض بإعطاء ماله كله ، { وليقولوا قولاً سديدًا } : عدلاً ، وهو الثلث ، وقيل : للمؤمنين كلهم عند موتهم ، بأن ينظروا للورثة ، فلا يسرفوا في الوصية بمجاوزة الثلث . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أمر الحق جل جلاله أهل التربية النبوية إذا خافوا على أولادهم الروحانيين أن ينقطعوا بعد موتهم ، أن يمدوهم بالمدد الأبهر ، ويدلوهم على الغني الأكبر ، حتى يتركوهم أغنياء بالله ، قد اكتفوا عن كل أحد سواه ، مخافة أن يسقطوا بعد موتهم في يد من يلعب بهم ، فليتقوا الله في شأنهم ، وليدلوهم على ربهم ، وهو القول السديد .
وينسحب حكمها على أولاد البشرية ، فمن خاف على أولاده بعد موته ، فليتق الله وليكثر من طاعة الله ، وليحسن إلى عباد الله ، في أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيُطعمهم مما خوله الله ، ففي بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام : " ما أحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ في مَاله إلا أحْسَنَ اللهُ الخِلافَةَ عَلَى تَرِكَته " وأما الإحسان إلى أرواحهم ، فيدلهم على الله ، ويرشدهم إلى طاعة الله ، ويعلمهم أحكام دين الله . فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده ، فيعيشون في حفظ ورعاية وعز ونصر ، كما هو مشاهد في أولاد الصالحين ، قال تعالى : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الْصَّالِحِينَ } [ الأعرَاف : 196 ] ، وتذكر قوله تعالى : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } [ الكهف : 82 ] .
وقال القشيري في هذه الآية : إن الذي ينبغي للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح ، لا المال ، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال ، وليكثروا لهم العقار والأسباب ، وليخلفوا العبيد والأثاث ، بل قال : { فليتقوا الله } فإنه يتولى الصالحين . ه المراد منه .
(1/396)

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
قلت : { ظلمًا } : تمييز ، أو مفعول لأجله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا } من غير موجب شرعي ، { إنما يأكلون في بطونهم نارًا } ، أي : ما يجُر إلى النار ويؤول إليها .
وعن أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يبعثُ اللهُ أقوامًا من قبورهم تتأججُ أفواههم نارًا " ، فقيل : مَنْ هم يا رسول الله؟ قال : " ألم تر أن الله يقول : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا } " أي : يحترقون في نار ، وأي نار!! والصَّلْى : هو الشيّ ، تقول : صليت الشيء : شويته ، وأصليته وصليته ، وذكر البطون مبالغة وتهجين لحالهم .
الإشارة : حذَّر الحق جلّ جلاله أهل الدعوى ، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة ، وادعوا مقام التربية ، مع كونهم جهالاً بالله ، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد ، أن يأخذوا أموال الضعفاء؛ الذين تعلقوا بهم؛ لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعًا في الوصول إلى الله . وهم ليسوا أهلاً لذلك ، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا ، وهو تكثيف الحجاب ، وزيادة العنت والتعب ، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا ، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا ، فأيُّ عذاب أعظم مِنْ هذا!! .
فتحصَّل من أول الآية إلى آخرها ، أن الحق تعالى أمر أهل الغني الأكبر ، وهم الذين أهلَّهم للتربية النبوية ، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل ، بالاستعفاف ، ولا يأخذ إلاّ قدر الحاجة ، من أموال مّنْ انتسب إليهم ، وسد الباب لأهل الدعوى ، لإنه مِنْ أكْلِ أموال الناس بالباطل ، لأنه يعطى على وجه لم يوجد في المعطى إليه ، إلا إذا كان وجه الصدقة المحضة ، مع أنه قد يكون غير مستحق لها . والله تعالى أعلم .
(1/397)

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يوصيكم الله } أي : يأمركم ويعهد إليكم ، { في أولادكم } ، أي : في بيان ميراثهم ، ثم فصَّله فقال { للذكر مثل حظ الأنثيين } ، أي يعُدُ كل ذكر بأنثيين ، فإذا ترك ابنًا وبنتًا ، كانت من ثلاثة للذكر سهمان وللبنت سهم ، وإذا ترك ابنًا وبنتين فله قسمتان ، ولكل واحدة قسمة ، وهكذا ، قال ابن جزي : هذه الآية نزلت بسبب سعد بن الربيع ، وقيل : بسبب جابر بن عبد الله ، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه؛ ورفَعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال . وقيل : نُسخت الوصية للوالدين والأقربين .
وإنما قال : { يوصيكم } بلفظ الفعل الدائم ، ولم يقل : أوصاكم ، تنبيهًا على نسخ ما مضى ، والشروع في حكم آخر ، وإنما قال : { يوصيكم } بالاسم الظاهر ، أي : { الله } ولم يقل : نوصيكم ، لأنه أراد تعظيم الوصية ، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء ، وإنما قال : { في أولادكم } ولم يقل : في أبنائكم؛ لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة ، وعلى ابن البنت ، وعلى الابن المتبنى ، وليسوا من الورثة ، فإن قيل : هلاّ قال : للأنثيين مثل حظ الذَّكر ، أو للأنثى نصف حظ الذَّكر؟ ، فالجواب ، أنه بدأ بالذَّكَرِ لفضله ، ولأن القصد ذكُر حظه ، ولو قال للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيل للإناث . ه .
الأشارة : كما أوصى الله تعالى في أولاد البشرية ، أوصى على أولاد الروحانية ، ويقع التفضيل في قسمة الإمداد على حسب التعظيم والمحبة والعطف من الشيخ ، فبقدر ما يقع في قلب الشيخ ، يسري إليه المدد ، فقد يأخذ مثل حظ رجلين أو أكثر ، على حسب ما سبق من القسمة الأزلية . والله تعالى أعلم .
ثم ذكر حكم البنات إذا انفردن ، فقال :
{ . . . فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ . . . }
قلت : أنث الضمير { كنّ } باعتبار الخبر ، أو يعود على المتروكات ، وما قاله الزمخشري بعيد . ومن قرأ { واحدةُ } بالرفع ، ففاعل كان التامة ، ومن قرأ بالنصب فخبر كان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : فإن كان المتروك من الأولاد { نساء } ليس معهن ذكور { فوق اثنتين } أي : اثنتين فما فوق ، { فلهن ثلثا ما ترك } ، والباقي للعاصب ، وأخذ ابن عباس بظاهر الآية ، فأعطاهما النصف كالواحدة ، والجمهور على خلافه ، وأن لفظ { فوق } زائدة كقوله { فاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاِق } [ الأنفال : 12 ] ، وقيل : أخذ الثلثين بالسُنة ، وإن { كانت } بنتًا { واحدة فلها النصف } ، والباقي للعاصب ، وفيه دليل على أن الابن يأخذ جميع المال إذا انفرد؛ لأن له مثل حظ الأنثيين .
الإشارة : انظر البنت ، إذا انفردت أخذت النصف ، وإذا اجتمعت مع غيرها نقص لها ، كذلك أمداد الأشياخ ، من انفرد عددهم وحده ، أخذ أكثر مما إذا اجتمع مع غيره ، لانجماع نظر الشيخ إليه ، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول له شيخه : ما زال يأتيك الرجال أي : إخوانك من الفقراء وكان وحده ، فيقول له : الله لا يجعل أحدًا يأتي حتى نشبع .
(1/398)

وكذلك أيضًا ، انفراد العبد بالعبادة ، في وقت الغفلة ، مددها أعظم من كونه مع غيره ، كالمجاهد خلف الفارين . وكذلك قال عليه الصلاة والسلام : " طوُبَى للغُرَبَاءِ " والله تعالى أعلم .
ثم ذكرت ميراث الأبوين ، فقال :
{ . . . وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ . . . }
قلت : { السدس } مبتدأ ، و { لأبويه } خبر ، { لكل واحد } ، بدل من { أبويه } ، ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان في السدس ، ولو قال : لأبوَيْه السدس؛ لأوهم الاشتراك .
يقول الحقّ جلّ جلاله : إذا مات الولد ، وترك أبويه ، فلكل { واحد منهما السدس إن كان له ولد } ذكرًا أو أنثى ، واحدًا أو متعددًا ، للصلب أو ولد ابن ، فكلهم يَردُّون الأبوين للسدس ، { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه } فقط ، { فلأمه الثلث } ، والباقي للأب ، { فإن كان له أخوة } ، أي : أخَوَان فأكثر ، سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم ، أو مختلفين ، { فلأمه السدس } ، والباقي للأب ، ولا شيء للأخوة معه .
وأخذ ابن عباس بظاهر الآية . فلم يحجبها للسدس باثنين ، وجعلها كالواحد ، واحتج بأن لفظ الإخوة جمع ، وأقله ثلاثة ، وأجيب بأن لفظ الجمع ، يقع على الاثنين كقوله { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] ، { إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } [ صَ : 21 ] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم " الاثْنَانِ فَما فَوْقَهمَا جَمَاعَةٌ " وهذا كله ، بعد إخراج الوصية وقضاء الدين ، وإنما قدّم الحق تعالى الوصية على الدَّين ، مع كون الدّين مقدمًا في القضاء من رأس المال؛ لأن أرباب الدّين أقوياء ، بخلاف الموصى لهم ، فقدمهم اعتناء بهم .
الإشارة : الروح كالأب ، والبشرية كالأم ، وعقد الصحبة مع الشيخ كالولد ، فأن كان الإنسان له صحبة مع شيخ التربية ، يعني له ورد منه ، فالبشرية والروحانية سواء ، إذ كلاهما يتهذبان ويتنوران بالأدب والمعرفة؛ الأدب للبشرية ، والمعرفة للروحانية ، إذ استمد بالطاعة الظاهرُ استمد الباطن ، وبالعكس ، وأن لم يكن عقد الصحبة موجودًا كان ميراث البشرية من الحس أقوى كميراث الأم مع فقد الولد ، أو تقول : الإنسان مركب من حس ومعنى ، فالحس كالأم ، والمعنى كالأب ، لأن المعاني قائمة بالحس ، والروح تستمد منها معًا ، فهي كالولد بينهما ، فإن كانت الروح حية بوجود المعرفة ، استمدت منهما معًا ، وإن كانت ميتة ، كان استمدادها من الحس أكثر ، كموت الولد في ميراث الأم .
أو تقول : الإنسان بين قدرة وحكمة ، القدرة كالأب ، والحكمة كالأم ، والقلب بينهما كالولد ، فإِنْ وُجد القلب استمدت الروح من القدرة والحكمة ، واستوى نظرها فيهما .
(1/399)

وإن فقد القلب غلب على الروح ميراث الحكمة ، كفَقْدِ الولد في ميراث الأم ، وإن كان للقلب أخوة من الأنوار والأسرار بهما فللروح من ميراث الحكمة السدس ، والباقي كله للقدرة ، ولا يعرف هذا إلا من حقق معرفة القدرة والحكمة ، ذوقًا وكشفًا ، وإلاَّ . . فليسلُم لأهل المعرفة . والله تعالى أعلم .
ثم ذكر الحق تعالى حكمة تقسيم تركة الأب والابن على ما فرض ، وأن ذلك لا يعلمه إلا هو : فقال :
{ . . . آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
يقول الحقّ جلّ جلاله : قد بينت لكم ما يرثُ الأبُ من ابنه ، وما يرث الولدُ من أبيه ، ولو وكلت ذلك إليكم لأفسدتم القسمة؛ لأنكم { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا } للأخر ، هل الأب أقرب نفعًا لابنه ، فتعطوه الميراث كله دون ولد الميت ، أو الولد أقرب نفعًا لأبيه ، من الأب لابنه ، فتخصونه بالإرث ، ففرضتُ ميران الأب وميراث الولد ، ولم نكل ذلك إليكم . { فريضة } حاصلة { من الله } ، { إن الله كان عليمًا } بمصالح العباد { حكيمًا } بما فرض وقدَّر .
وقال ابن عباس : لا تدرون أيهم أطوع لله عز وجل من الآباء والأبناء ، وأرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله تعالى يشفع المؤمنين في بعضهم بعضًا ، فيشفع الولد في والديه ، إن كان أرفع درجة منهما ، فيرفعهما الله إليه ، ويشفع الوالدين في ولدهما ، إن كانا أرفع درجة منه ، فيرتفع إليهما لتقر بذلك أعينهما ، ه . بالمعنى .
الإشارة : الإنسان لا تقوم روحانيته إلا ببشريته ، إلا بروحانيته ، فلا يدري أيهما أقرب له نفعًا ، لأن البشرية محل للعبودية ، والروحانية محل لشهود عظمة الربوبية ، ولا بد للجمع بينهما ، وكذلك الحس ، لا يقوم إلا بالمعنى ، والمعنى لا يقوم إلا بالحس ، فلا تدري أيهما أقرب نفعًا لك أيها المريد ، فتؤثره ، وإن كانت المعاني هي المقصودة بالسير ، لكن لا تقوم إلا بوجود الحس ، فلا بد من ملاحظته .
وقال الورتجبي هنا ما نصه : أشكل الأمر من تلك الطائفتين ، أيهم يبلغ درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربته ، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة لينجو بشفاعته سبعون الفًا بغير حساب ، أي : اخدموا آباءكم وارحموا أولادكم ، فربما يخرج منهم صاحب الولاية ، ليشفع لكم عند الله تعالى ، وحكمة الإبهام ههنا؛ ليشمل الرحمة والشفقة على الجمهور ، لتوقع ذلك الولي الصادق . ه .
قلت : فسر الآباء والأبناء بالحسيين ، وتشمل الآية أيضًا الآباء والأبناء المعنويين والروحانيين . والله تعالى أعلم .
(1/400)

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولكم } أيها الأزواج ، من ميراث أزواجكم { نصف } ما تركن { إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد } وارث ، ذكرًا أو أنثى ، مفردًا أو متعددًا ، من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها وإن سفل ، منكم أو من غيركم ، { فلكم الربع مما تركن } ، بعد قضاء الدين وإخراج الوصية .
{ ولهن } أي : الزوجات من ميراث الزوج { الربع } مما ترك { إن لم يكن } له ولد لا حق ، ذكرًا أو أنثى ، على وزان ما تقدم في الزوجة ، { فإن كان لكم ولد فلهن الثمن } تنفرد به إن كانت واحدة ، ويُقسم بينهن إن تعددن ، ولا ينقص لأهل السهام مما فرض الله لهم إلا ما نقصه العَوْل على مذهب الجمهور ، خلافًا لابن عباس ، فإنه لا يقول بالعول .
فإن قيل : لِمَ كرر قوله : { من بعد وصية } مع ميراث الزوج وميراث الزوجة ، ولم يذكره قبل ذلك إلا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين؟ فالجواب : أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة ، والموروث في ميراث الزوجة هو الزوج ، فكل واحدة قضية مستقلة ، فلذلك ذكر مع كل واحدة ، بخلاف الأول؛ فأن الموروث فيه واحد ، ذكرَ حكم ما يرث منه أولاده وأبواه ، وهي قضية واحدة ، فلذلك قال فيه : { من بعد وصية } مرة واحدة . قاله ابن جزي . قال البيضاوي : فرض للرجل بحق الزواج ضِعف ما للمرأة كما في النسب ، وهكذا قياس كل رجل وامرأة ، إذا اشتركا في الجهة والقرب ، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة . ه .
الأشارة : إذا ماتت النفس ، ولم تبق لها بقية ، وورثت الروحُ ما كان لها من العلوم الكسبية : النقلية والعقلية ، وأضافته إلى مَالهَا من العلوم الوهبية ، فانقلب الجميع وهبيًا ، قال بعض شيوخ أشياخنا : ( كنت أعرف أربعة عشر علمًا ، فلما دخلت علم الحقيقة شرطت ذلك كله ، فلم يبقى إلا الكتاب والسنة ) ، أو كما قال : وقال أبو سليمان الداراني : إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام ، جالت في الملكوت ، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم ، من غير أن يؤدي إليها عالمٌ علمًا .
فإن بقي للنفس بقية ، نقص ميراث الروح منها ، بقدر البقية ، كما أن الزوج ينقص ميراثه مع الفرع ، وكذلك إذا ماتت الروح بالرجوع عن طريق الجِد ، ورثت النفسُ ما كان لها من العلوم الوهبية ، والمعاني والأسرار القدسية ، فتأكلها ، وتردها نقلية حسية ، بعد أن كانت وهبية ذوقية ، فتتحسس المعاني ، وتتكثف الأواني .
(1/401)

والعياذ بالله من السلب بعد العطاء ، إلا أن ميراث النفس من الروح أقوى ، فإن بقي للروح شيء من الحياة ، نقص ميراث النفس منها ، كنقص الزوجة مع الفرع من ميراث الزوج ، والله تعالى أعلم .
ثم ذكر ميراث الأخ للأخ ، فقال :
{ . . . وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }
قلت : الكلالة : انقطاع النسل ، بحيث لم يبقى للميت فرع ولا أصل ، لا ذكر ولا أنثى ، وهو مصدر من تَكَلَّلهُ النسبُ ، إذا أحاط به كالإكليل ، لأن ورثته أحاطوا به ولَيْسوا منه . ونظم بعضهم معنى الكلالة ، فقال :
إن امرؤٌ يَسْأَلُ عن كَلاَلَة ... هو انْقِطاعُ النَّسْلِ لآ مَحَاله
لا والدُ يَبْقَى ولا مولوُد ... قدْ هَلَكَ الأبْنَاءُ والجُدُود
فتحتمل أن تطلق هنا على الميت ، أو على الورثة ، أو على الوراثة ، أو على القرابة أو على المال . فإن كانت على الميت ، فإعرابه خبر كان ، و { يورث } صفة ، أو { يورث } خبر كان ، و { كلالة } حال من الضمير في { يورث } ، أو " كان " تامة ، و { يورث } صفة و { كلالة } حال من الضمير . وإن كانت على الورثة ، فهو خبر كان ، على حذف مضاف؛ أي : ذا كلالة ، وإن كانت الوِرَاثة فهو مصدر في موضع الحال ، وإن كانت القرابة ، فهو مفعول من أجله ، أي : يورث من أجل القرابة . وإن كانت للمال ، فهو مفعول ثانِ ليورث ، وكل من هذه يحتمل أن تكون " كان " تامة أو ناقصة . قاله ابن جزي . و { غير مضار } ، منصوب على الحال ، أو العامل فيه { يوصى } ، و { مضار } أسم فاعل ، ووصية : مصدر ليوصي ، أو مفعول { مضار } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وإن كان الميث رجلاً أو امرأة ، يُورثان كلالة ، بحيث لا فرع لهما ولا أصل ، قد انقطع عمود نسبهما ، ولهما أخ أو أخت لأم { فلكل واحد منهما السدس } . { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } ، الذكر والأنثى سواء ، لأن الإدلاء للميت بمحض الأنوثة ، ومفهوم الآية : أنهما لا يرثان مع الأم والجدة ، كما لا يرثان مع البنت وبنت الابن ، إذ ليس حينئذٍ بكلالة ، وإنما قيدنا الأخ والأخت بكونهما للأم لأن الأخ الشقيق أو للأب سيأتي في آخر السورة . والأخت تقدم أنَّ لها النصف ، وأيضًا : قد قرأ سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، : " وله أخ أو أخت لأم " .
وهذا كله { من بعد وصية يوصى بها أو دين } حال كونه { غير مُضارٍ } في الوصية أو الدين ، كالوصية بأكثر من الثلث ، أو للوارث ، أو فِرارًا منه ، فإن عُلِم أنه قصد الإضرار ، رد ما زاد على الثلث ، واختلف في رد الثلث على قولين .
(1/402)

قاله ابن جزي . { وصيًة من الله } ، أي : نوصيكم وصية ، أو غير مضار وصية من الله . قال ابن عباس : ( الإضرار في الوصية من الكبائر ) . { والله عليم } بمصالح عباده ، يقسم المال على حسب المصلحة ، { حليم } لا يعاجل بالعقوبة من خالف حدوده .
الإشارة : اعلم أن الأخوة في الشيخ كالأخوة في النسب ، لأنهم يرضعون من ثدي واحدة ولبن واحد ، فإن مات أحدهم ، ورث أخوه المدد الذي كان يأخذه من شيخه ، وكذا إذا رجع فإنه موت فينقلب المدد إلى أخيه ، ومثاله كماء فُرِّقَ على قواديس ، فإذا انسدت إحدى القواديس رجع الماء إلى الأخرى ، فإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في ذلك المدد ، والله تعالى أعلم .
(1/403)

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
قلت : توحيد الضمير في { نُدخله } مراعاة للفظ { من } . وجمع الحال في { خالدين } مراعاة للمعنى . و { خالدين } و { خالدًا } : حال مقدرة من ضمير { نُدخله } ، كقولك ، كقولك : مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا ، وليسا صفتين لجنات ونارًا ، وإلا لوجب إبراز الضمير؛ لأنهما جرتا على غير مَنْ هُمَا له .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { تلك } الأحكام التي شرعناها لكم في أمر الوصايا والمواريث ، هي { حدود الله } حدَّها لكم لتقفوا معها ولا تتعدوها { ومن يطع الله } فيما أمر به وحدّه { ورسوله } فيما شرَّعه وسنَّه { ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز } أي : الفلاح { العظيم } ، { ومن يعص الله } فيما أمر ونهى ، { ورسوله } فيما شرعه ، { ويتعدّ حدوده } التي حدها ، فتجاوز إلى متابعة هواه ، { ندخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين } . وهذا إذا أنكر مشروعيتها فيكون كافرًا ، وإلاَّ كان عاصيًا في حكم المشيئة ، ومذهب أهل السنة أنه لا يخلد ، وحملوا الآية على الكافر ، أو عبارة عن طول المدة ، كما في قاتل النفس . والله أعلم .
الإشارة : قد حدَّ الحق جل جلاله لأهل الشريعة الظاهرة حدودًا قام ببيانها العلماء ، وحدَّ لأهل الحقيقة وهي سر الولاية حدودًا ، قام بها الأولياء ، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين ، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين ، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية ، وصحب أهلها كان المحسنين العارفين المقربين ، ودخل جنة المعارف ، ومن تعدَّ حدود الحقيقة ، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين ، وله عذاب الحجاب في غم الحساب ، وقال في الحاشية : في حد حدوده إشارة للعبودية ، في إخراج كل عن نظره واختياره ، ثم انقياده وذلته لحكم ربه ، والوقوف عند حدوده .
وقال الورتجبي : قيل : { تلك حدود الله } أي : الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها ، فإن التعدي فيها يهلكهم ، وقال أبو عثمان : ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره . ه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/404)

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } النساء { اللاتي يأتين الفاحشة } أي : الزنى ، سُمِّيَ فاحشة لفُحش قبحه وبشاعة فعله شرعًا ، { من نسائكم } المسلمات ، { فاستشهدوا عليهن } أي : اطلبوا مَنْ رَمَاهُنَّ بذلك أن يُشْهِدوا { عليهن أربعة منكم } ، أي : من عدول المؤمنين يرونهما كالمرود في المكحلة ، وإنما جعلوا أربعة مبالغة في الستر على المؤمن ، أو ليكون على كل حال واحد اثنان ، { فإن شهدوا } عليهن بذلك { فأمسكوهن في البيوت } ، واجعلوه سجنًا لهن { حتى يتوفاهن الموت } أي : يستوفي أجلّهن الموتُ ، أو يتوفاهن ملك الموت ، { أو يجعل الله لهن سبيلاً } كتعيين الحد المخلّص من السجن ، وكان هذا في أول الإسلام ثم نُسخ بما في سورة النور من الحدود ، ويحتمل أن يراد التوصية بإمساكهن بعد أن يُجلدن كي لا يَعُدْن إلى الزنى بسبب الخروج والتعرض للرجال .
واكتفى بذكر حدِّهن ، بما في سورة النور ، وهذا الإمساك كان خاصًا بالنساء بدليل قوله { واللذان يأتيانها منكم } أي : الزاني والزانية منكم ، { فآذوهما } بالتوبيخ والتقريع { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } أي : اقطعوا عنهما الأذى ، أو أعرِضوا عنهما بالإغماض عن ذكر مساوئهما .
قيل : إن هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً ، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد ، وقيل ، الحبس في المساحقات ، والإيذاء في اللواطين ، وما في سورة النور في الزناة . والذي يظهر . أن الحكم كان في أول الإسلام في الزنا : الإمساك للنساء في البيوت بعد الإيذاء بالتوبيخ ، فتُمسك في بيتها حتى تموت ، أو يجعل الله لها سبيلاً بالتزوج بمن يعفها عنه . والإيذاء للرجال بالتعيير والتقريع والتحجيم حتى تتحقق توبته ، ثم نسخ ذلك كله بالحدود ، وهو جَلْد البكر مائة وتغريبة عامًا ورجم المحصن . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي للعبد ، إذا طَغَتْ عليه نفسُه ، وأرادت ارتكاب الفواحش ، أن يستشهد عليها الحفظة ، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي ، فإن لم تستحِ ، فليعاقبها بالحبس في سجن الجوع والخلوة والصمت ، حتى تموت عن تلك الشهوات ، أو يجعل الله لها طريقًا بالوصول إلى شيخ يُغيِّبه عنها ، أو بوارد قوي من خوف مزعج أو شوق مقلق ، فإن تابت وأصلحت ، أعرض عنها واشتغل بذكر الله ، ثم يغيب عما سواه . وبالله التوفيق .
(1/405)

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنما التوبة } التي يُستحق { على الله } قبولُها فضلاً وإحسانًا هي { للذين يعملون السوء } أي : المعاصي متلبسين { بجهالة } أي : سفاهة وجهل وسوء أدب ، فكل من اشتغل بالمعصية فهو جاهل بالله ، قد انتزع منه الإيمان حتى يفرغ ، وإن كان عالمًا بكونها معصية ، { ثم يتوبون } بعد تلك المعصية { من قريب } أي : من زمن قريب ، وهو قبل حضور الموت؛ لقوله بعدُ : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله يقبلُ توبةَّ العبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرُ " وإنما جعله قريبًا لأن الدنيا سريعة الزوال ، متاعها قليل وزمانها قريب ، { فأولئك يتوب الله عليهم } تصديقاً لوعده المتقدم ، { وكان الله عليمًا } بإخلاصهم التوبة ، { حكيمًا } في ترك معاقبة التائب ، إذ الحكمة هي وضع الشيء في محله .
وعن الحسن : قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " لما أُهبط إبليسُ قال : وعزتك وعظمتك لا أفارق ابنَ آدم حتى تفارقَ روحُه جسدَه ، قال الله تعالى : وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها " وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ الشيطانَ قال : وعزتِك لا أبرح أُغوى عبادكَ ، ما دامتْ أرواحهم في أجسادهم . قال الله تعالى : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني " .
قال ابن جزي : وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها ، فيُقطع بقبول توبت عند جمهور العلماء . وقال أبو المعالي : يَغُلِب ذلك على الظن ولا يقعطع . ه .
{ وليست التوبة } مقبولة { للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت } أي : بلغت الحلقوم { قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } فلا توبة لهم ، { أولئك أعتدنا } أي : أعددنا وهيأنا { لهم عذابًا أليما } ، قال البيضاوي : سوَّى الحقُ تعالى بين من سوَّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة ، وبين من مات على الكفر في نفي التوبة؛ للمبالغة في عدم الاعتداد به في تلك الحالة ، وكأنه يقول : توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء . وقيل : المراد بالذين يعملون السوء : عصاة المؤمنين ، وبالذين يعملون السيئات : المنافقون؛ لتضاعف كفرهم ، وبالذين يموتون : الكفار . ه .
الإشارة : توبة العوام ليست كتوبة الخواص ، إنَّ الله يمهل العوام ترغيبًا لهم في الرجوع ، ويُعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم في القرب من الحضرة ، فكلما عظُم القربُ عظمت المحاسبة على ترك المراقبة ، منهم من يسامح له في لحظة ، ومنهم في ساعة ، ومنهم في ساعتين ، على قدر المقام ، ثم يُعاتبهم ويردهم إلى الحضرة .
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته : { إنما التوبة على الله } أي : إنما الهداية بعد الذلة ، على الله؛ لأنه الذي يُخلص من قَهْره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه ، كما قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعَام : 54 ] ، ونبه على وقوع الذنب بهم قهرًا ، ثم تداركهم بالهداية والإنابة ، فضلاً على علمه بتربيتهم وتدريجهم لمعرفته بالعلم والحكمة بقوله : { وكان الله عليمًا حكيمًا } . ه .
(1/406)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{ يَا أَيُّهَا ألَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ . . . }
قلت : أصل العضل : التضييق ، يقال : عضلَت الدجاجة ببيضها إذا ضاقت ، ثم أُطلق عُرفًا على منع المرأة من التزوج .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } لا يحل لكم أن تمنعوا النساء من النكاح لترثوا ما لهن { كرهًا } . قال ابن عباس : كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل ، وله امرأة كان قريبه من عصبته أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء تزوجها من غير صداق ، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يُعطها شيئًا ، وإن شاء عَضَلهَا وضيَّق عليها لتفتدى منه بما ورثت من الميت ، أو تموت فيرثُها ، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يُلقِيَ وليُّ زوجها ثوبَه عليها فهي أحق بنفسها . فكانوا على ذلك في أول الإسلام ، حتى توفي أبو قَيس بن الأَسْلتَ الأنصاري ، وترك امرأته " كبشة بنت معن الأنصارية " ، فقام ابنٌ له من غيرها فطرح ثوبه عليها ، تم تركها ولم يقربها ، ولم ينفق عليها ، يضارّها لتفتدى منه ، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله؛ إن أبا قيس تُوفي ووَرِثَ نكاحي ابنُه ، وقد أضرَّ بي وطوّل عليّ ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ، ولا يخلي سبيلي ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " اقعدي في بيتك حتى يأتَي فيك أمرُ الله " قالت : فانصرفتُ وسمعت بذلك النساءُ في المدينة فأتين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ ، فقلن : يا رسول الله : ما نحن إلا كهيئة كبشة ، غير أنه لا ينكحنا الأبناء ، ونكَحَنا أبناء العَم ، فنزلت الآية . فمعنى الآية على هذا : لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يُورثن عن الرجال كما يُورث المال .
وقيل : الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة ليرثوا مالها ، من غير غبطة بها ، وإنما يمسكها انتظارًا لموتها ، وقيل : الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج .
{ ولا } يحل لكم أيضًا أيها الأزواج أن { تعضلوهن } ، أي : تحبسوهن؛ من غير حاجة لكم فيهن؛ { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } من الصداق افتداء فيه بإضراره . قال ابن عباس رضي الله عنه : ( هي أيضًا في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويُسيئُون عشرتها حتى تفتدى بصداقها ) ، { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ، كالنشوز وسوء العشرة وعدم العفة ، فيحل له حينئِذ حبسها حتى تفتدى منه بصداقها ، فيأخذه خلعًا على مذهب مالك . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا يحل للمريد أن يُضيق على نفسه تضييقاً يُفضي إلى العطب ، فالنفس كالبهيمة : علفها واستخدامها ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(1/407)

" لا يكن أحدُكُم كالمنبت ، لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى " .
فبعض الناس يسمعون أن من ضيَّق على نفسه أورثته العلوم ، فيضيق عليها تضييقًا فاحشًا ليرث ذلك منها كرهًا ، وإنما يمنعها من شهواتها الزائدة على قيام البنية ، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة ، بحيث تطغى عليها ، فيضيق عليها بما لا يُفضي إلى الهلاك ، وهذا كله إنما ينفعه إذا صح مِلْكُه لها بالعقد الصحيح من الشيخ الكامل ، وإلاَّ كان تعبه باطلاً ، كمن يريد أن يرى امرأة غيره أو دابة غيره . والله تعالى أعلم .
ثم أمر الحق تعالى بحسن العشرة مع النساء ، فقال :
{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }
يقول الحقّ جلّ جلاله : وعاشروا النساء { بالمعروف } بأن تلاطفوهن في المقال وتجملوا معهن في الفعال ، أو يَتَزَيَّنُ لها كما تتزين له . قال الورتجبي : كونوا في معاشرتهن في مقام الأنس وروح المحبة ، وفرح العشق حيث أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة والولاية ، فإن معاشرة النساء لا تليق إلا في المستأنس بالله ، كالنبي صلى الله عليه وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال ، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عن كمال مقام أُنْسِه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته حيث قال : " حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثَلاث : الطيب ، والنساء ، وجُعلت قرة عيني في الصلاة " .
ثم قال : عن ذي النون : المستأنس بالله يستأنس بكل شيء مليح ووجه صبيح ، وبكل صوت طيب وبكل رائحة طيبة ، ثم قال : عن ابن المبارك : العشرة الصحيحة : ما لا يورثك الندم عاجلاً ولا آجلاً ، وقال أبو حفص : المعاشرة بالمعروف : حسن الخلق مع العيال فيما ساءك . ه .
{ فإن كرهتموهن } فاصبروا { فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا } إما ولدًا صالحًا أو عاقبة حسنة في الدين . قال ابن عمر : إن الرجل يستخير الله فيخار له فيسخط على ربه ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له . ه . حكى أن أبا الإمام مالك رضي الله عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء ، فبقي متفكرًا ولم يقربها ، فقالت له : هل استخرت ربك؟ فقال : نعم ، فقالت : أتَتَّهمُ ربك ، فدخل بها ، فحملت بالإمام مالك صاحب المذهب . وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة أي : لا يُبْغِضها إن سخط منها خُلقَا رضي منها آخر " قال الورتجبي : قيل : غيب عنك العواقب؛ لئلا تسكن إلى مألوف ، ولا تفر من مكروه .
الإشارة : إذا طهرت النفس من البقايا ، وكملت فيها المزايا ، وانقادت بكليتها إلى مولاها ، وجب الإحسان إليها والصلح معها ومعاشرتها بالمعروف ، فإنما تجب مجاهدتها ما دامت كافرة فإذا أسلمت وانقادت وجب محبتها والإحسان إليها . فإن كرهتها في حال اعوجاجها فجاهدتها ورضتها حتى استقامت كان في عاقبة ذلك خيرٌ كثير ، وعادت تأتي إليك بالعلوم اللدنية تشاهد فيها أسرارًا ربانية .
قال الورتجبي : كل أمر من الله سبحانه جاء على مخالفة النفس امتحانًا واختبارًا ، والنفس كارهة في العبودية فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت الرياضة والمجاهدة واستقامت في عبودية الله ، أول ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة ، قال الله تعالى : { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأوَى } [ النازعات : 40 ، 41 ] ، وفي أجواب ظلام المجاهدة للعارفين شموس المجاهدات وأقمار المكاشفات . ه . المراد منه .
(1/408)

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
قلت : { بهتانًا } : حال ، أو على إسقاط الخافض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن أردتم } أن تبدلوا زوجًا { مكان زوج } أخرى؛ بأن تُطلقوا الأولى وتتزوجوا غيرها ، وقد كنتم أعطيتم { إحداهن قنطارًا } أو أقل أو أكثر ، { فلا تأخذوا منه شيئًا } بل أدوه لها كاملاً . ثم وبَّخهم على ما كانوا يفعلون في الجاهلية ، فقال : { أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا } ، أي : مباهتين وآثمين ، أو بالبهتان والإثم الظاهر ، والبهتان : الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ، رُوي أن الرجل كان إذا أراد أن يتزوج امرأة جديدة ، بهت التي عنده بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه في تزوج الجديدة ، فَنُهُوا عن ذلك .
ثم استعظم ذلك فقال : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } بالمماسة والجماع حتى تقرر الصداق واستحقته بذلك ، وقد { أخذن منكم ميثاقاً غليظًا } وهو حسن الصحبة ، أو الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان ، أو تمكينها نفسها منه ، فإنها ما مكنته إلا لوفاء العهد في الصداق ودوام العشرة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا كان العبد مشتغلاً بجمع دنياه ، عاكفًا على حظوظه وهواه ، ثم استبدل مكان ذلك الانقطاع إلى مولاه والاشتغال بذكر الله ، حتى أفضى إلى شهود أنوار قدسه وسناه ، فلا ينبغي أن يرجع إلى شيء خرج عنه لله ، ولا يلتفت إلى ما ترك من أمر دنياه ، فإن الرجوع في الشيء من شيم اللئام وليس من شأن الكرام ، وتأمل ما قاله الشاعر :
إذا انْصَرَفَتْ نفسي عن الشيء لم تكن ... إليه بوجهِ آخرَ الدهرِ تُقبِلُ
وكيف تأخذُ ما خرجت عنه لله ، وقد أفضيت إلى شهود أنوار جماله وسُكْنَى حماه ، فاتحد عندك كل الوجود ، وكل شيء عن عين بصيرتك مفقود ، بعد أن أخذ عليك مواثيق العهود ، ألا ترجع إلى ما كان يقطعك عن حضرة الشهود ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/409)

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
قلت : أوقع { ما } على ما يعقل لقلة عقل النساء ، كما تقدم ، أو مصدرية ، والاستثناء منقطع أو متصل على وجه المبالغه في التحريم ، أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف لآبائكم إن قدرتم عليه ، فهو كقول الشاعر :
لا عَيُبَ فِيِهمْ غيَر أَنَّ سُيُوفَهُم بِهِنَّ ... فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا تتزوجوا ما تزوج به { آباؤكم من النساء } بالعقد في الحرائر والوطء في الإماء ، { إلا ما قد سلف } فإن الله قد عفا عنكم بعد فسخه وردَّه ، { إنه كان فاحشة } عظيمة عند الله ، ما أحله لأحد من الأمم قبلكم ، { ومقتًا } أي : ممقوتًا فاعله عند الله عند ذوي المروءات من عباد الله ، وكان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه مَقيتًا ومقتيًا . { وساء سبيلاً } ، وبئس طريقًا لمن يريد أن يسلكه بعد التحريم .
فالمراد بالنكاح في الآية : العقد ، فعلى هذا لا تحرم المرأة على الولد إذا زنا بها أبوه على المشهور ، قال في الرسالة : ولا يحرم بالزنا حلال . ه .
الإشارة : ما جرى في آباء البشرية يجري في آباء الروحانية من طريق الأدب لا من طريق الشرع ، فلا ينبغي للمريد أن يتزوج بامرأة شيخه ، مات عنها أو طلقها ، فإن ذلك قبيح ومقت عند أرباب الأدب ، وأما بنت الشيخ فإن قدر على القيام بتعظيمها فلا بأس ، وقد تزوج سيدنا علي كرم الله وجهه بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن السلامة في الترك أكثر .
وهنا إشارة أخرى أرق ، وهي أن يشير بالنساء إلى الأحوال ، فلا ينبغي للفقير أن يتعاطى أحوال الشيخ ، ويفعل مثله . فإن الشيخ في مقام وهو في مقام ، فإذا رجع الشيخ إلى الأسباب وتعاطى العلويات ، فلا يقتدى به . إلا أن يدرك مقامه ، وكان شيخ شيخنا يقول : ( لا تقتدوا بالأشياخ في أفعالهم ، وإنما اقتدوا بهم في أقوالهم ، فإن أقوالهم لكم ولهم ، وأفعالهم خاصة بهم ) . إلا ما قد سلف لهم من الأحوال في حال سيرهم ، فخذوها وسيروا من حيث ساروا ، حتى تدركوا ما أدركوا ، وافعلوا ما شئتم . والله تعالى أعلم .
(1/410)

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ . . . }
قلت : { كتاب الله عليكم } : مصدر مؤكد . أي : كتب الله ذلك كتاباً ، أو على الإغراء .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { حرمت عليكم } من النساء أصنافٌ : منها بالنسب ومنها بالرضاع ومنها بالمصاهرة : فأما التي تحرم بالنسب فهي { أمهاتكم } ، وهي الأم ، والجدة من الأم ومن الأب ما عَلَوْن ، { وبناتكم } وهي البنت وبنت الابن ، وبنت البنت ما سفلن ، { وأخواتكم } وهي الأخت الشقيقة والتي للأب والأخت للأم ، { وعماتكم } وهي أخت الوالد وأخت الجد ما علت ، شقيقة أو لأب أو لأم ، { خالاتكم } وهي أخت الأم وأخت الجدة ما علت ، شقيقة أو لأب أو لأم ، { وبنات الأخ } الشقيق ، أو للأب ، وما تناسل منهم . { وبنات الأخت } ، فيدخل كل ما تناسل من الأخت الشقيقه أو للأب أو للأم .
والضابط في ذلك : أنه يحرم على الرجل أصوله وإن علت ، وفصوله وإن سفلت ، وفصول أبويه ما سفلت ، وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه .
ثم ذكر ما يحرم بالرضاع ، فقال : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } ذلك تعالى صنفين ، وحرمت السُّنَّةُ كل ما يحرم من النسب . قال صلى الله عليه وسلم " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " فيدخل الأصناف السبعة ، وهي الأم من الرضاع والبنت والأخت والعمة والخالة وبن الأخ وبنت الأخت .
ثم ذكر ما يحرم بالمصاهرة ، فقال : { وأمهات نسائكم } ، وتقدمت زوجة الأب ، وسيأتي حليلة الابن ، { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } لا مفهوم لهذا القيد ، لكنه جرى مجرى الغالب ، فهي محرمة ، كانت في حجره أم لا ، على قول الجمهور ، ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره . وأما قوله : { اللاتي دخلتم بهن } فهو معتبر إجماعًا ، فلو عقد على المرأة ولم يدخل بها ، فله طلاقها ويأخذ ابنتها ، ولذلك قال : { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } أن تنكحوهن .
{ وحلائل أبنائكم } وهي التي عقد عليها الابن فحلت له ، فتحرم على الأب بمجرد العقد . والحاصل : أن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة يحرمن بالعقد ، وأما بنت المرأة فلا تحرم إلا بالدخول بأمها ، فالعقد على البنات يُحرم الأمهات ، والدخول بالأمهات يُحرم البنات . وقوله تعالى : { الذين من أصلابكم } احترز به من زوجة المتبنِّي فلا تحرم حليلته ، كقضية زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1/411)

{ وأن تجمعوا بين الأختين } ، شقيقتين أو للأب أو للأم ، وهذا في النكاح ، وأما في الملك دون الوطء فلا بأس ، أما في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة ، وأجازه الظاهرية ، { إلا ما قد سلف } أي : في الجاهلية ، فقد عفا عنكم ، { إن الله كان غفورًا رحيمًا } ، قال ابن عباس : ( كانت العرب تُحرم كل ما حرمت الشريعة إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فلذلك ذكر الحق تعالى : { إلا ما قد سلف } فيهما .
{ و } حَرم الله تعالى { المحصنات من النساء } وهُنَّ اللاتي في عصمة أزواجهن ، فلا يحل نكاحهن ما دُمْنَ في عصمة الزوج ، { إلا ما ملكت أيمانكم } من الغنيمة ، فإذا سُبيت الكافرة ، ولها زوج ، جاز لمن ملكها أن يطأها بالملك بعد الاستبراء ، قال في المختصر : وهدم السبيْ النكاحَ ، إلا أن تُسبى وتُسلْم في عدتها فهو أحق بها ، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى أَوْطَاس ، فأصابوا سبيًا من العدو ، ولهن أزواج من المشركين فتأثموا من غشيانهن ، فنزلت الآية مُبيحة لذلك ، { كتاب الله عليكم } أي : كتب الله ذلك عليكم كتاباً ، وهو ما حرّم في الآية من النساء .
الإشارة : اعلم أن الإنسان لا يصير كاملاً عارفًا حتى يولد ثلاث مرات بعد الأم الحسية ، أولها : خروجه من بطن حب الدنيا الدنية ، ثم من الغفلة والشهوات الجسمانية ، ثم من ضيق الأكوان الظلمانية ، إلى فضاء المشاهدة والمعاينة ، وقال بعض الأولياء : ( ليس منا من لم يولد مرتين ) : فاعتبر الأولى والثالثة ، فإذا خرج الإنسان من هذه البطون حرَّم الله عليه نكاحها والرجوع إليها .
وكذا يحرم عليه الرجوع إلى ما تولد منه من الزلات ، والأحوال الظلمانية ، وما كان ألفه وتواخى معه من البطالات والمألوفات ، وما وجد عليه أسلافه من التعصبات والحميات والرئاسات ، ولا فرق بين ما واجهه من ذلك من قبل الآباء والأمهات ، وكذلك ما ارتضع من ثدي الشهوات من لِبان الغفلة ، وتراكم الأَكِنَّات ، فليبادر إلى تحريمها ، وفطام نفسه عنها ، قبل تحكمها ، كما قال البوصيري رضي الله عنه :
والنَّفْسُ كالطِّفلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ ... عَلَى حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
وكذا يحرم عليه ، صحبة من ارتضع معه في هذا الثدي قبل الفطام؛ من الأخوة والأخوات ، وكذا أمهات الخطايا ، وهي حب الدنيا والرياسة والجاه ، وكذلك حرمت عليكم ربائب العلائق والعوائق ، لتدخلوا بلاد الحقائق ، فإن لم تكونوا من أهل الحقائق فلا جناح عليكم إذ كنتم من عوام الخلائق ، وكذلك يحرم عليكم ما حل لأبناء جنسكم من تعاطي الأسباب والاشتغال بها عن خدمة رب الأرباب ، وأن تجمعوا بين حب الدنيا ومحبة المولى . قال الشافعي رضي الله عنه : ( من ادَّعى أنه جمَعَ بين حب الدنيا وحب خالقها ، فقد كذب ) .
إلا ما قد سلف في أيام البطالة ، وكذا يحرم على المريد المتجرد المستشرف على المعاني تعاطى العلوم الظاهرة ، التي دخل بها أهل الظاهر وأفتضوا بكارتها إلا ما ملكه قبل التجريد ، فلا يضره إن غاب عنها في أسرار التوحيد ، والله تعالى أعلم بأسرار غيبه .
(1/412)

ثم ذكر الحق تعالى ما يحلّ من النساء ، فقال :
{ . . . وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
قلت : { وأُحِلَّ } عطف على الفعل العامل في " كتاب الله عليكم " أي : كتب الله عليكم تحريم ما ذكر ، وأحل ما سوى ذلك . ومن قرأ بالبناء للمفعول فعطف على " حُرمت " . و { أن تبتغوا } مفعول لأجله ، أي : إرادة أن تبتغوا . أو بدل من { وراء ذلكم } ، و { محصنين } حال من الواو . والسفاح : الزنا ، من السفح وهو الصب ، لأنه يصب المنيّ في غير محله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأُحل لكم } أن تتزوجوا من النساء ما سوى ذلكم المحرمات ، وما سوى ما حرمته السنة بالرضاع ، كما تقدم ، والجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، فقد حرَمتْه السُنة ، وإنما أحل لكم نكاح النساء إرادة أن تطلبوا بأموالكم الحلال ، فتصرفوها في مهور النساء . . . حال كونكم { مُحصنين } أي : أعفة متحصنين بها من الحرام ، { غير مسافحين } أي : غير زناة ، تصبون الماء في غير موضعه ، { فما استمتعتم به منهن } أي : من تمتعتم به من المنكوحات { فآتوهن أجورهن } أي : مهورهن ، لأن المهر في مقابلة الاستمتاع { فريضة } ، أي : مفروضة مقدرة ، لا جَهْلَ فيها ولا إبهام ، { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به } من زيادة على المهر المشروط ، أو نقص منه ، { من بعد الفريضة } ، التي وقع العقد عليها ، { إن الله كان عليمًا } بمصالح خلقه ، { حكيمًا } فيما شرع من الأحكام .
وقيل قوله : { فما استمتعتم به . . . } إلى آخره . نزل في نكاح المتعة ، التي كانت ثلاثة أيام في فتح مكة ، ثم نُسِخَ بما رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أباحه ، ثم أصبح يقول : " أيُّهَا النَّاسِ ، إِنِّي كُنْتُ أمرتكم بالاسِتْمْتَاعِ مِنَ هذه النَّساء ، ألا إنَّ اللهَ حَرَمَ ذَلِكَ إلىَ يَوْمِ القِيَامةِ " وهو النكاح المؤقت بوقت معلوم ، سُمي به لأن الغرض منه مجرد الاستمتاع . وتمتعها بما يُعطى لها . وجوَّزه ابن عباس رضي الله عنه ثم رجع عنه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يقول الحق جل جلاله من طريق الإشارة : إذا خرجتم من بطن الشهوات ، ورفضتم ما كنتم عليه من العوائد والمألوفات ، وزهدتم فيما يشغل فكرتكم من العلوم الرسميات ، حل لكم ما وراء ذلكم من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، التي هي وراء طور العقول ولا تدرك بالطروس ولا بالنقول ، وإليها أشار ابن الفارض رضي الله عنه حيث قال :
ولا تكُ مِمَنْ طَيّشَتْهُ طروسه ... بحيثُ استخفت عقَلَهُ واستفزّتِ
فَثمَ وراء النّقلِ عِلْمٌ يَدِقُّ عن ... مَدارِكِ غايات العقولِ السليمهِ
تَلَقيْتُه منّي وعني أَخَذْتهُ ... ونفسي كانت من عَطاءٍ مُمدَّهِ
أردنا منكم أن تبتغوا ببذل أموالكم ومُهجكم تلك العلوم المقدسة ، والأسرار المطهرة ، متحصنين من دنس الحس والهوى ، غير مباشرين لنجاسة الدنيا ، ولا مصطحبين مع أهلها ، لتتمتعوا بشهود أسرارنا ، وأنوار قدسنا ، فما استمتعتم به من ذلك ، فصونوه من غير أهله ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من إعطائه لأهله ، من بعد حفظه عمن لا يستحقه ، والله تعالى أعلم .
(1/413)

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَإنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ . . . }
قلت : الطول : الغنى والسعة ، ويطلق على العلو ، مصدر طال طَوْلاً ، وهو مفعول { يستطع } ، أو مصدر له لتقارب معناهما ، و { أن ينكح } بدل منه على الأول ، أو مفعول به على الثاني ، أي : لأن ينكح ، و { محصنات غير مسافحات } ، حالان ، والعامل فيه : { أنكحوهن } ، والخدن : الخليل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن لم يستطع منكم طَوْلاً } أي : لم يجد غني يقدر به على نكاح { المحصنات } ، أي : الحرائر { المؤمنات } ، فليتزوج من ما ملكت أيمانكم ، من الإماء المؤمنات دون الكافرات ، فإن أظهرت الإيمان فاكتفوا بذلك ، وعلم الباطن لا يعلمه إلا الله ، { والله أعلم بإيمانكم } فلا يمنعكم من نكاحهن خوف المعرة ، فإنما أنتم جنس واحد ، ودينكم واحد ، { بعضكم من بعض } فلا تستنكفوا من نكاحهن ، { فانكحوهن بإذن أهلهن } ، أي أربابهن ، حتى يعقدوا لكم نكاحهن ، { وآتوهن أجورهن } : أي : مهورهن ، وهن أحق به دون ساداتهن ، على مذهب مالك ، { بالمعروف } من غير مطل ، ولا نقص ، على ما تقتضيه السنة . حال كونهن { محصنات } أي : عفيفات { غير مسافحات } أي : غير زانيات { ولا متخذات أخدان } ، أي : أصحاب يزنون بهن . وكان في الجاهلية مِن النساء مَنْ تتخذ صاحبًا واحدًا تزني معه خاصة ، ومنها من لا ترد يد لامس .
قال ابنُ جزي : مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين : أحداهما : عدم الطول؛ وهو ألاَّ يجد ما يتزوج به حُرة ، والآخر : خوف العنت؛ وهو الزنا . لقوله بعد هذا : { ذلك لمن خشي العنت منكم } ، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين ، على القول بأن دليل الخطاب لا يُعتبر ، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة ، لقوله : { من فتياتكم المؤمنات } إلا أهل العراق فلم يشترطوه . ه .
الإشارة : فمن لم يستطع أن ينكح أبكار الحقائق ، لكونه لم يقدر أن يدفع عن قلبه الشواغل والعلائق ، فليتنزل لنكاح العلوم الرسمية والأعمال الحسية ، بأخذها من أربابها ، ويحصنها بالإخلاص في أخذها ، ويقوم بحقها بقدر الإمكان ، وهو بذلها لأهلها والصبر على نشرها ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، فإن صح قصده ، وخلص عمله ، قيض الله له وليًا من أوليائه يغنيه بالله ، حتى يصير من الأغنياء به ، فيتأهل لنكاح الحرائر ، ويلتحق بأولياء الله الأكابر ، { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 20 ] .
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه لما تكلم على ثمرات المحبة قال : فترى النفس مائلة لطاعته ، والعقل متحصنًا بمعرفته ، والروح مأخوذة في حضرته ، والسر مغمورًا في مشاهدته ، والعبد يستزيد من حبه فيُزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته ، فيكسى حُلل التقريب على بساط القُربة ، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم .
(1/414)

ه . فعلم الحقائق أبكار ، وما يوصل إليه من علوم الطريقة ثيبات حرائر ، وما سواها من علوم الرسوم إماء بالنسبة إلى غيرها ، والله تعالى أعلم .
ثم ذكر حدَّ الأمَةِ إذا زنت ، فقالت :
{ . . . فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ . . . }
قلت : أحصن الرجل بفتح الهمزة وضمها : صار محصنًا بالفتح والكسر ، وهذا مما اتحد فيه البناء للفاعل والمفعول . وقيل بالفتح ، معناه : أسلم ، وبالضم : تزوج .
يقول الحقّ جلّ جلاله : إن الإماء إذا تزوجن { فإن أتين بفاحشة } ، وهو الزنا ، فعليهن نصف ما على الحرة من الحد ، وهو خمسون ، لأن حد البكر مائة . ويفهم منه أنها لا ترجم؛ لأن الرجم لا يتبعض . وكذلك الذكور من العبيد عليهم نصف الحدود كلها ، ولا رجم عليهم ، وسمَى الحد عذابًا ، كقوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] .
الإشارة : بقدر ما يعلو المقام يُشدد العقاب ، وبقدر ما يحصل من القرب يُطلَب الآداب ، فليست المعصية في البعد كالمعصية في القرب ، وليس يُطلب من البعيد ما يُطلب من القريب ، وانظر إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى لهن : { يَا نِسَآءَ النَّبِيّ مَن يَأَتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَاَبُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] . وما ذلك إلا لحظوتهن وشدة قربهن من الله . ولذلك كان لا يدخل الحضرة إلا أهل الآداب والتهذيب ، بعد التدريج والتدريب ، وتأمل قضيةَ الجنيد ، حيث قيل له في المنام : مثلُك لا يُرضى منه هذا ، حيث خطر على قلبه الاعتراض على السائل ، غير أن المقربين يعاتبون ، ويردون إلى الحضرة ، وأهلُ البُعد يزيدون بُعداً ، ولكن لا يشعرون ، والله تعالى أعلم .
ثم ذكر شرط تزوج الأمة لعادم الطَوْل ، فقال :
{ . . . ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }
قلت : العنت : المشقة والضرر ، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم ، ولا سيما بأفحش الفواحش؛ وهو الزنا ، { يريد الله ليبين لكم } ، أي : لأن يُبين ، واللام زائدة في المفعول ، لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإدارة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ذلك } أي : نكاح الإماء إنما أبَحْتُهُ لمن خشي الوقوع في الزنا ، الذي هو أقبح الفواحش ، فنكاح الأمةُ ، وإرقاق الولد يباع في الأسواق أخف من الزنا . { وأن تصبروا } عن نكاحهن ، مع التعفف عن الزنا ، { خير لكم } لئلا يرق أولادكم . وعن أنس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ أرادَ أنْ يَلْقَى اللهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّج الْحَرائِر "
(1/415)

وقال أبو هريرة : سمعته صلى الله عليه وسلم يقول : " الحَرَائِر صَلاحُ البَيْتَ ، والإمَاءُ هَلاكُ البَيت " .
{ والله غفور } لكم فيما سلف من المخالفة ، { رحيم } بكم ، حيث رخَّص لكم عند خوف الإثم نكاحَ الأمَة ، { يريد الله ليبين لكم } شرائع دينكم ، ومصالح أموركم ، { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } أي : مناهج مَنْ تقدمكم من أهل الرشد ، كالأنبياء والصالحين ، لتسلكوا مناهجهم ، كحفظ الأموال والأنساب ، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات ، فإنهن محرمات على من قبلكم ، { ويتوب عليكم } أي : يغفر ذنوبكم الماضية ، أو يرشدكم إلى التوبة ، أو يمنعكم من المعاصي بالعصمة . { والله عليم } بما أسلفتم وما تستقبلونه من أفعالكم ، { حكيم } بما دبر وأبرم .
{ والله يريد أن يتوب عليكم } كرره توطئة لقوله : { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا } عن الحق { ميلاً عظيمًا } بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات ، وكأنه تعالى يقول : إنا نريد توبتكم ورشدكم ، والذين يتبعون الشهوات يريدون ميلكم وإضلالكم ، والمراد بهم الزناة؛ لأنهم يودون أن يكون الناس كلهم زناة ، وأمَّا من تعاطى شهوة النكاح في الحلال ، فإنه متبع للحق لا لهم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإنِّي مُبَاهِ بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة " وقد كان سيدنا علي كرم الله وجهه أزهدَ الصحابة ، وكان له أربع حرائر وسبعُ جواري سُرِّيَّاتٍ ، وقيل : سبع عشرة ، وقيل : المراد بهم اليهود والنصارى ، لأن اليهود يُحلون الأقارب من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت . وقيل : المجوس .
{ يريد الله أن يخفّف عنكم } فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفية السمحة السهلة ، ورخص لكم عند المضايق في نكاح الأمة . { وخُلق الإنسانُ ضعيفًا } في كل شيء ، لأنه خُلق من ضعف ، ويؤول إلى ضعف ، أسير جَوعة ، صريع شبعة ، وخصوصًا عن شهوة النساء ، فإنه لا يصبر عن الجماع ، ولا يكون في شيء أضعفَ منه في أمر النساء ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال : ( ألا تروني أني لا أقوم إلا رفدًا ، ولا آكل إلا ما لُيِّن لي ، وقد مات صاحبي يعني ذكره منذ زمان ، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي ، وأن لي ما تطلع عليه الشمس ، مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه ، على أنه لا سمع ولا بصر ) .
قال ابن عباس : ثماني آيات في سورة النساء ، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، { يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] ، { وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 27 ] ، { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } [ النساء : 28 ] ، { إن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ . . . } [ النساء : 31 ] الآية ، { إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ . . . } [ النساء : 48 ] الآية ، { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ . . . } [ النساء : 40 ] ، { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظلِمْ نَفْسَهُ . . . } [ النساء : 110 ] الآية ، { مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ . . . } [ النساء : 147 ] الآية . ه .
الأشارة : إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية ، أو الأعمال الحسية ، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق ، وإن صبر وتماسك ، حتى يتقوى على حمل أعبائها ، فهو خير له ، لأن الرجوع إلى الحس ، لا يؤمن من الحبس ، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم ، رحيم حين جعل له الرخصة ، { يريد الله ليبين لكم } سلوك الطريق إلى عين التحقيق ، ويهديكم طرق الوصول ، كما هدى مَنْ قبلكم ، ويتوب فيما خطر ببالكم ، من الفترة أو الوقفة ، والله يريد أن يتعطف عليكم ، لترجعوا إليه بكليتكم .
(1/416)

وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات ، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم ، يرد الله أن يخفف عنكم ، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم ، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم . اللهم قونا على ما نريد ، وأيدنا فيما تريد ، إنك على كل شيء قدير .
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء ، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن ، وما يحل وما يحرم منهن ، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال .
(1/417)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ . . . }
قلت : الاستثناء منقطع ، وكان تامة لمن رفَع ، وناقصه لمن نصب ، واسمها : ضمير الأموال ، على حذف مضاف ، إلاَّ أن تكون الأموال أموالَ تجارة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } الذي لا تُجوزه الشريعة ، كالربا والقمار ، والغصب والسرقة ، والخيانة والكهانة والسحر وغير ذلك { إلا أن تكون } ، أي : لكن إن وجدت { تجارة } صحيحة { عن تراضٍ منكم } أي : اتفاق منكم على البيع ، وبه استدلت المالكية على انعقاد البيع بالعقد ولو لم يحصل تفرق بالأبدان .
وقال الشافعي : إنما يتم بالتفرق بالأبدان ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " البَيِّعَان بالخِيَار مَا لَمْ يتَفَرَّقَا " وحمله مالك على التفرق بالكلام ، وقال أكثر المفسرين : التخيير ، هو أن يُخير كلُ واحد منهما صاحبة بعد عقد البيع ، وقد ابتاع عمرو بن جرير فرسًا ، ثم خَيَّر صاحبه بعد البيع ، ثم قال : سمعت أبا هريرة يقول : البيع عن تراض . قال البيضاوي : وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحل بها انتقال مال الغير ، لأنها أغلب وأوفق لذوي المروءات ، ويجوز أن يُراد بها الانتقال مطلقًا . وقيل : المقصود بالنهي : صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى ، وبالتجارة : صرفه فيما يرضى . ه .
الإشارة : لا تصرفوا أموالكم ولا أحوالكم في غير ما يُقربكم إلى الحق؛ فإن ما سوى الحق كله باطل ، كما قال الشاعر :
ألا كُلُّ شيء مَا خَلآ اللهَ باطلُ ... وكُلٌّ نَعِيمٍ لا مَحَالةَ زائل
إلا أن يكون صرفه في تجارة رابحة ، تقربكم من الحبيب ، وتجلبُكم إلى حضرة القريب ، فتلك تجارة رابحة وصفقة نافعة . والله تعالى أعلم .
ثم تكلم على بعض ما يتعلق بحفظ الأبدان ، وسيأتي تمامه في قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ . . . } [ النساء : 92 ] إلى آخر الآيات ، فقال :
{ . . . وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، بالخنق أو بالنخع أو بالجرح ، الذي يؤدي إلى الموت ، أو بالإلقاء إلى التهلكة . وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزوة ذَات السَّلاَسِلِ ، فأجنَبتُ في لَيْلَة بَارِدَة ، فَأشْفَقْتُ على نفسي وصَليْتُ بأصحَابِي صَلاة الصُبح بالتيمم . فلَمّا قَدِمتُ ذَكَرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا عَمرُو صلَّيتَ بأصحَابِكَ وأنت جُنُب؟ " قلت : نعم يا رسول الله ، أشفيتُ إن اغتسلتُ أن أهلك ، فذكرت قوله تعالى : { لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا } ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل شيئاً ) .
أو : ولا تقتلوا إخوانكم في الإسلام ، فإن المؤمنين كنفس واحدة .
(1/418)

قال البيضاوي : جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم . ه .
وإنما نهاكم عن قتل أنفسكم رأفة ، ورحمة بكم ، { إن الله كان بكم رحيمًا } ، فقد أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ، وأنتم نهاكم عنه . { ومن يفعل ذلك } القتل . أو جميع ما سبق من المحرمات { عدوانًا وظلمًا } ، أي : إفراطًا في التجاوز عن الحد ، وإتيانًا بما لا يستحق ، أو تعديًا على الغير وظلمًا على النفس ، بتعريضها للعقاب ، { فسوف نصليه نارًا } أي : نحرقه ونشويه فيها . { وكان ذلك على الله يسيرًا } .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَن قَتَل نفسَهُ بِشَيءٍ عُذِبَ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا " وهو تغليظ ، أو لمن استحل ذلك . وهذا الوعيد الذي ذكره الحق هنا في قتل الإنسان بيده ، أهون مما ذكره في قتل الغير ، الذي يأتي ، لأنه زاد هناك الغصب واللعنة والعذاب العظيم ، أما قول ابن عطية : إنه أجمع المفسرون أن هذه الآية في قتل بعضهم بعضًا ، فليس بصحيح ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : ولا تقتلوا أنفسكم باتباع الشهوات وتراكم الغفلات ، فإنه يفوتها الحياة الحقيقية ، وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه : ( لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظ نفسه ، فكأنما قتلها ) . وحظ النفس هو تزكيتها وتحليتها بالكمالات ، أو قُوتها من العلم اليقين ، والمعرفة وصحة التمكين ، والمراد بالنفس هذا الروح ، وأما ما اصطلحت عليه الصوفية من أن النفس يجب قتلها ، فإن مرادهم بذلك النفس الأمارة ، فإن الروح ما دامت مُظلمة بالمعاصي والهوى سميت نفسًا ، فإذا تطهرت وتزكت سميت روحًا . وهو المراد هنا . سماها نفسًا باعتبار ما كانت عليه . والله تعالى أعلم .
(1/419)

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
قلت : المدخل بالضم : مصدر ، بمعنى الإدخال ، وبالفتح : المكان ، ويحتمل المصدر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي تُنهون عنها { نكفر عنكم سيئاتكم } الصغائر { وندخلكم مُدْخلاً كريمًا } وهو الجنة ، أو إدخالاً مصحوبًا بالكرامة والتعظيم ، واختلف في الكبائر ، هل تعرف بالعد أو بالحد؟ فقيل : سبع ، وقيل : سبعون ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : كل معصية فهي كبيرة . عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ : الإشراك باللهِ ، والسَّحرَ ، وقَتلَ النَّفس بغير حقها ، وأكلَ الرَيّا ، وأكلَ مَالِ اليَتِيمِ ، والفرار مِن الزَّحفِ ، ورَمي المُحصنَاتٍ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ " .
قال ابن جزي : لا شك أن هذه مِنَ الكبائر لنص الشارع عليها ، وزاد بعضهم عليها أشياء ورد النص عليها في الحديث أنها من الكبائر ، منها عقوق الوالدين ، وشهادة الزور ، واليمين الغموس ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، والنهبة ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، ومنع ابن السبيل الماء ، والإلحاد في البيت الحرام ، والنميمة ، وترك التحرّز من البول ، والغلول ، واستطالة الرجل في عرض أخيه ، والجور في الحكم .
وقيل في حدّها : كل جريمة تؤذن بقلة الدين ورقة الديانة ، وقيل : ذنوب الظاهر صغائر ، وذنوب الباطن كبائر . وقيل : كل ما فيه حق الغير فهو كبائر ، وما كان بينك وبين الله تعالى صغائر ، واحتج هذا بقوله عليه الصلاة والسلام : " يُنَادِي يومَ القيامة مناد من بُطنان العرش : يا أمّة أحمد ، إنّ الله تعالى يقول : أمَّا ما كان لي قِبلَكُمُ فقد وهبتهُ لكم ، وبقيت التباعات ، فَتواهبُوها ، وادخلوا الجنة " .
الأشارة : كل ما يُبعد العبد عن حضرة ربه فهو من أكبر الكبائر ، فمن اجتنب ذلك واتقى كل ما يشغله عن الله أدخله الله مدخلاً كريمًا ، وهو حضرة الشهود والتلذذ برؤية المعبود ، والترقي في أسرار الحبيب الودود . قال الورتجبي : قال أبو تراب : أمر الله باجتناب الكبائر ، وهي الدعاوى الفاسدة ، والإشارات الباطلة ، وإطلاق اللفظ بغير الحقيقة . ه .
(1/420)

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولا تتمنوا ما فضَّل الله به } من الميراث { بعضكم على بعض } ، كتضعيف الذكر على الأنثى ، فللرجال { نصيب مما اكتسبوا } أي : مما أصابوا وأحرزوا في القسمة ، { وللنساء نصيب مما اكتسبن } منه ، قلَّ أو كثر ، فلتقنع بما قسم الله لها ، ولا تعترض على أحكام الشريعة ، ولكن { اسألوا الله من فضله } يُعطكم من غير الميراث ، هكذا فسرها ابن عباس .
وقال مجاهد : قالت أُم سلمة : يغزو الرجال ولا نغزو ، فليتنا رجال نغزو ، ونبلغ ما يبلغ الرجال . فنزلت . فيكون المعنى : ولا تتمنوا ما فضل اللهُ به الرجال على النساء كالغزو وغيره ، فللرجال نصيب مما اكتسبوا من ثواب الجهاد وسائر أعمالهم ، { وللنساء نصيب مما اكتسبن } من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهم وسائر بقية أعمالهن .
والتحقيق أنها عامة في جميع المراتب الدينية والدنيويه لأن ذلك ذريعة إلى التحاسد والتعادي ، ومعربة عن عدم الرضا بما قسم الله له ، وإلى التشهي لحصول الشيء له من غير طلب ، وهو مذموم؛ لأن تمنّي ما لم يقدر له ، معارضة لحِكمة القدر ، وتمنّي ما قدر له بكسب ، بطالة وتضييع حظ ، وتمنّي ما قدر له بغير كسب ، ضياع ومحال ، قاله البيضاوي . فللرجال نصيب من أجل ما اكتسبوا من الأعمال ، وتحملوا من المشاق ، فيعطيهم الله على قدر ما اكتسبوا { وللنساء نصيب مما اكتسبن } كذلك ، فلا فائدة في تمني ما للناس ، ولكن { اسألوا الله من فضله } يُعطكم مثله ، أو أكثر من خزائنه التي لا تنفذ . { إن الله كان بكل شيءٍ عليمًا } وهو يعلم ما يستحقه كل إنسان ، فيُفَضِّل من شاء بما شاء عن علم وبيان ، ومناسبة الآية حينئِذ لما قبلها : أن تجنب الكبائر فضل من الله ونعمة ، وهو أفضل ممن يقع فيها ، لكن لا ينبغي تمني ذلك من غير عمل ، ولكن يسأل الله من فضله حتى يُلحقه بأهل العصمة . وبالله التوفيق .
الإشارة : قد وقع التفضيل في مقامات الأولياء كالأنبياء ، لكن لا ينبغي تعيين الفاضل من المفضول ، لِما يؤدي إليه من التنقيص فيؤدي إلى الغيبة ، والتفضيل يقع بزيادة اليقين وصحة التمكين ، والترقي في أنوار التوحيد وأسرار التفريد . يكون أيضًا بهداية الخلق على يده ، وظهور إحسانه ورفده ، فإذا رأى العبدُ أنه لم يبلغ إلى مقام غيره فلا يتمنى ذلك المقام بعينه ، فقد يكون مقامه عند الله في عمله أعظم ، وقد يكون أدون ، فيُسيء الأدب ، فالخير كله في العبودية والرضى بأحكام الربوبية ، فللأقوياء نصيب مما اكتسبوا بالقوة والمجاهدة التي خلق الله فيهم ، حكمةً وفضلاً ، وللضعفاء نصيب مما اكتسبوا قسمة وعدلاً ، ولكن يسأل الله من فضله العظيم ، فإن الله بكل شيء عليم ، فقد يُعطى بلا سبب ويُبَلِّغ بلا تعب .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سَلُوا الله مِن فَضلِهِ فَإنَّ اللهَ يُحِبُ أن يُسألَ " وفي حديث أخر : " مَن لَم يَسألِ اللهَ يَغضَب عَلَيهِ " وقال الورتجبي : أمر بالسؤال ونهى عن التمني؛ لأن السؤال افتقار ، والتمني ، اختيار . ه . والله تعالى أعلم .
(1/421)

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
قلت : التنوين في " كل " : للعوض ، و { مما ترك } بيان للمعوض منه ، أي : ولكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي : أي : ورثة ، وهم الذرية والعصبة يرثون من ذلك المال ، والوالدان على هذا فاعل ، ويحتمل أن يكون مبتدأ والتنوين عوض عن الميت الموروث ، أي : ولكل ميت جعلنا ورثة يرثون مما ترك ذلك الميت ، وهم الوالدان والأقربون فيوقف على { ترك } ، و { مما } يتعلق بمحذوف ، و { الذين } مبتدأ ، و { فآتوهم } خبر ، دخلت الفاء لما في المبتدأ من العموم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولكل ميت جعلنا وَرَثَة يرثون { مما ترك } ذلك الميت ، وهم { الوالدان والأقربون } ، أو لكل تركة جعلنا لها { موالي } أي : ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون ، { والذين عقدت أيمانكم } وهم موالي الحِلف ، كانوا يتحالفون في الجاهلية على النصرة والمؤازرة ، يقول الرجل لآخر : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثأري ثأرك . فيضرب بعضهم على يد الآخر في عقد ذلك الحلف . فلذلك قال : { عقدت أيمانكم } فكان في أول الإسلام يرث من حليفه السدس ، وإليه أشار بقوله : { فآتوهم نصيبهم } ، ثم نسخ .
وقيل : نزلت في المؤاخاة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، فكان يرث السدس ، ثم نُسخ بقوله { وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ الأنفال : 75 ] . وعن أبي حنيفة : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث . وقال ابن عباس : آتوهم نصيبهم من النصرة التي تعاقدوا عليه ، فيُوفي لهم بها ، فلا نسخ .
{ إن الله كان على كل شيء شهيدًا } ، هو تهديد لم تعدى الحدود ، ونقض العهود . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ولكل زمان جعلنا أولياء كبراء ، يرثون مما ترك أشياخهم من خصوصية الولاية وسر العناية ، إلى يوم القيامة؛ فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة ويظهر المحجة ، فيقال لهم : والذين عقدت أيمانكم في الصحبة معكم ، فظهر صدقهم ، وبانت خدمتهم ، فآتوهم نصيبهم مما خصكم الله به من سر الولاية ولطف العناية ، { إن الله كان على كل شيء شهيدًا } ، لا يخفى عليه من يستحق الخلافة ويرث سرَ الولاية . والله تعالى أعلم .
(1/422)

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
قلت : { فالصالحات } مبتدأ ، وما بعده إخبار عنه ، وأتى بالفاء المؤذنة بالنسببية والتفريع ، وكأنه تعالى يقول : الرجال قوامون على النساء ، فمن كانت صالحة قام عليها بما تستحقه من حسن المعاشرة ، ومن كانت ناشزة عاملها بما تستحقه من الوعظ وغيره . وكل ما هنا من لفظ ( ما ) فهي مصدرية . إلا ما قرأ به أبو جعفر : [ بما حفظ الله ] بالنصب ، فهي عنده موصولة اسمية ، أي : بالأمر الذي حفظ الله؛ وهو طاعتها لله فحفظها بذلك ، وقيل إنها مصدرية . انظر الثعلبي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الرجال قوّامون على النساء } أي : قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية ، في التأديب والإنفاق والتعليم ، ذلك لأمرين : أحدهما وهبي ، والآخر كسبي؛ فالوهبي : هو تفضيل الله لهم على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خُصوا بالنبوة ، والإمامة ، والولاية ، وإقامة الشعائر ، والشهادة ، في مجامع القضايا ، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوهما ، والتعصيب ، وزيادة السهم في الميراث ، والاستبداد بالطلاق . والكسبي هو : { بما أنفقوا من أموالهم } في مهورهن ، ونفقتهن ، وكسوتهن .
فيجب على الزوج أن يقوم العدل في أمر نسائه ، فالمرأة الصالحة القانتة ، أي : المطيعة لزوجها ولله تعالى ، الحافظة للغيب ، أي : لما غاب عن زوجها من مال بيته وفرجها وسر زوجها ، حفظت ذلك بحفظ الله ، أي : بما جعل الله فيها من الأمانة والحفظ ، وبما ربط على قلبها من الديانة ، أو بحفظها حق الله ، فلما حفظت حقوق الله حفظها الله بعصمته ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " احفَظَ اللهَ يَحفَظكَ " فمن كانت على هذا الوصف من النساء فيجب على الزوج حُسن القيام بها ، ومقابلتها في القيام بما قابلته من الإحسان ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " خير النساء أمرأةٌ إن نَظَرتَ إلَيهَا سَرَّتكَ ، وإن أمرتها أطَاعَتكَ ، وإن غِبتَ حفظتك في مَالِها ونَفسِهَا " وتلا هذه الآية .
وأما النساء التي { تخافون } أي : تتيقنون { نشوزهن } أي : ترفعهن عن طاعة أزواجهن وعصيانهن ، { فعظوهن } بالقول ، فإن لم ينفع فاهجروهن في المضاجع ، أي : لا تدخلوا معهن في لحاف ، أو لا تجامعوهن ، فإن لم ينفع فاضربوهن ضربًا غير مؤلم ولا شائن . قال صلى الله عليه وسلم : " عَلِّق السَّوطَ حَيثُ يَرَاهُ أهلُ البيت " وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : ( كنتُ رابعَ نسوة عند الزبير بن العوام ، فإذا غضب على إحدانا ، ضربها بعود المِشجب ، حتى ينكسر ) . والمشجب : أعواد مركبة يجعل عليها الثياب .
{ فإن أطعنكم } يا معشر الأزواج ، أو عقدن التوبة مما مضى ، { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } أي : لا تطلبوا عليهن طريقًا تجعلونه سبيلاً لإيذائهن ، بل اجعلوا ما كان منها من النشوز كأن لم يكن ، ( فإنَّ التَّائِبَ مِن الذَّنبِ كَمَن لا ذَنَب لَهُ ) .
(1/423)

وقال ابن عُيَيْنَة : أي لا تكلفوهن بحبكم . ه . وقال الورتجبي : إذا حصل منهن صورة طاعة الرجال فلا يطلب منهن موافقة الطباع ، فإن ذلك منازعة للقدر . قال تعالى : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ } [ الرُّوم : 30 ] ، وذكر حديث " الأروَاح جُنودٌ مُجنَّدةٌ " .
ثم هدد الأزواج فقال : { إن الله كان عليًّا كبيراً } فاحذروه ، فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت ولايتكم ، أو : إنه على علو شأنه ، يتجاوز عن سيئاتكم ، فأنتم أولى بالعفو عن نسائكم ، أو : أنه يتعالى ويَكبر أن يظلم أحدًا أو يُنقص حقه .
وسبب نزول الآية : أن سَعدَ بنَ الرَّبِيع ، وَكَانَ مِن النُقَبَاءِ ، لَطَمَ امرأته حَبيبَةَ بِنتَ زَيدِ بن أبي زُهَيرِ ، وكانت نَشَزَتَ عَليهِ ، فَانطَلَقَ أبُوُها معَهَا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفرَشتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَها ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لِتقتَصَّ مِنهُ ، " فَانصرَفَت لتقتصّ منه فقال صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا ، هذا جِبرِيلُ أتَاني وأنزَلَ الله هَذِهِ الآية : { الرجال قوامون على النساء } " إلى آخرها ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أَرَدنَا أمرًا ، وأرَادَ اللهُ أمرًا ، والَّذِي أرَاد اللهُ خَير " فرفع القِصَاص . وقيل : نزلت في غيره ممن وقع له مثل هذا من النشوز . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الرجال الأقوياء قوامون على نفوسهم قهارون لها ، بفضل القوة التي مكنهم الله منها ، وبما أنفقوا عليها من المجاهدات والرياضات ، فهم ينظرون إليها ويتهمونها في كل حين ، فإن صلحت وأطاعت وانقادت لما يراد منها من أحكام العبودية ، والقيام بوظائف الربوبية ، عاملوها بالإكرام والإجمال ، ورفعوا عنها الآداب والنكال ، وإن نشزت وترفعت أدبوها وهجروها عن مواطن شهواتها ومضاجع نومها ، وضربوها على قدر لجاجها وغفلتها .
وكان الشيخ أبو يزيد يأخذ قبضة من القضبان ويذهب إلى خلوته ، فكلما غفلت ضربها ، حتى يكسرها كلها ، وكان بعض أصحابنا يأخذ خشبة ويذهب إلى خلوته ، فكلما غفل ضرب رأسه به ، حتى يأتي رأسُه كلَّه مفلول ، وبلغني أن بعض أصحابنا كان يُدخل في لحمة رجله سكيناً كلما غفل قلبه ، وهذا إغراق ، وخير الأمور أوسطها . وبالله التوفيق .
(1/424)

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
قلت : الشقاق : المخالفة والمساورة ، وأضيف إلى الظرف توسعًا كقوله : { بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ } [ سَبَأ : 32 ] ، والأصل : شقاقًا بينهما ، والضمير في { يُريدا } للحكمين ، وفي { بينهما } للزوجين ، وقيل : للحكمين معًا ، وقيل : للزوجين معًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن خفتم } يا معشر الحكام ، أي علمتم خلافَا بين الزوجين ومشاررة ، ولم تدروا الظالم من المظلوم ، { فابعثوا } رجلين أمينين يحكمان بينهما ، يكون أحداهما من أهله والآخر من أهلها ، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للإصلاح ، فإن بعثهما الحاكمُ أجنبيين صح ، وكذا إن أقامهما الزوجان .
وما اتفق عليه الحكمان لزم الزوجين من خُلع أو طلاق أو وفاق . وقال أبو حنيفة : ليس لهما التطليق إلاَّ أن يجعل لهما ، وإذا اختلفا لم يلزم شيء ، ويستأنفان الحكم ، قال ابن جُزَي : ومشهور مذهب مالك : أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين ، وقيل : الزوجان ، وجرت عادة القضاء أن يبعثوا امرأة أمينة ولا يبعثوا الحكمين ، قال بعض العلماء : هو تغيير القرآن والسنة الجارية . ه .
فإن بُعِث الحكمان ، فإن أرادا إصلاحًا بين الزوجين ، واتفقا عليه ، وفق الله بينهما ببركة قصدهما ، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه . { إن الله كان عليمًا خبيرًا } بما في الظواهر والبواطن ، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق .
الإشارة : وإن خفتم ، أيها الشيوخ ، على صاحبكم منازعة النفس والروح؛ فكانت النفس تجمح به إلى أسفل سافلين ، بمتابعة هواها وعصيان مولاها ، والروح تجنح به إلى أعلى عليين ، بجهاد هواها ومشاهدة مولاها ، فابعثوا له واردين قويين ، إما شوق مقلق يرحل الروح إلى مولاها ، أو خوف مزعج يزجر النفس عن هواها . فإن أراد الله بذلك العبد إصلاحًا لحاله أرسلهما معًا متفقين على تخليصه وارتفاعه ، فيتقدم الخوف المزعج ويستدركه الشوق المقلق ، فيلتحق بأهل التحقيق من أهل التوفيق ، وما ذلك على الله بعزيز ، وفي الحكم : " لا يُخرِج الشهوةَ من القلب إلا خوف مزعج ، أو شوق مقلق " . والله تعالى أعلم .
(1/425)

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
قلت : الجُنب بالضم : البعيد ، يقال فيه : جُنُب وأجنب وأجنبي ، وسمي الجُنبُ جُنُبًا لأنه يبعد من المسجد وعن الصلاة وعن التلاوة ، و ( مختال ) أسم فاعل ، وأصله : مختيل ، بالكسر ، من الخُيَلاَء وهو التكبر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واعبدوا الله } أي : وَحِّدُوه وأطيعوه { ولا تشركوا به شيئًا } جليًا أو خفيًا في اعتقادكم أو في عبادتكم ، فمن قصد الحج والتجارة ، فقد أشرك مع الله في عبادته ، وأحسنوا بالوالدين إحسانًا حسنًا ، وهو برهما والقيام بحقهما ، { وبذي القربى } ، أي : القرابة في النسب ، أو الدين { واليتامى } لضعف حالهم ، { والمساكين } لقلة ما بيدهم ، وقد شكى بعض الناس قساوة قلبه ، فقال له عليه الصلاة والسلام : " إن أردتَ أن يلين قلبُك ، فأطعم والمسكين وامسح رأس اليتيم ، وأطعمه " .
{ والجار ذي القربى } الذي قّرُب جواره أو نسبه ، { والجار الجُنب } الذي بَعُد مكانه أو نسبه ، وحَدَّد بعضُهم الجوار بأربعين دارًا من كل ناحية . وقال ابن عباس : الجار ذي القربى : الجار الذي بينك وبينه قرابة ، والجار الجنب : الجار من قوم آخرين . ه .
قيل يا رسول الله : ما حق الجار على الجار قال : " إن دعاك أجبتَه ، وإن أصابته فاقةٌ عُدتَ عليه ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن مرض عُددته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، وإن توفي شهدت جنازته ، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذه بقُتار قدرك أي : بخارها إلا أن تغرف له منها ، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها ، فإن لم تفعل فأدخلها سرًا ، ولا يخرج ولدك منها بشيء فيغيظ ولده ، " ثم قال : " الجيران ثلاثة : فَجَارٌ له ثلاثة حقوق : حق الجوَارِ ، وحق القرابة ، وحق الإسلام ، وجار له حقان : حق الجِوَار ، وحق الإسلام ، وجَارٌ له حق واحد : وهو المشرك من أهل الكتاب " .
{ والصاحب بالجنب } ، وهي الرفيق في أمر حسن ، كتعلم وتصرف وصناعة وسفر ، فإنه صحبك بجنبك ، وعن علي كرم الله وجهه ( أنها الزّوجة ) ، فيتأكد في حقها الإحسان زيادة على المعاشرة بالمعروف ، قال بعضهم : أول قدم في الولاية؛ كفّ الأذى وحمل الجفا ، ومعيار ذلك حسن معاشرة الأهل والولد ، وقال عليه الصلاة والسلام : " خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنسَائِه ، وأنَا خَيْرُكُمْ لِنسَائِي " { وابن السبيل } ، وهو الضيف أو المسافر لغرابته ، { وما ملكت أيمانكم } ، من الإماء والعبيد ، وكَانَ آخِرُ كلامِ النّبُي عليه الصلاة والسلام : " الصلاةَ الصَلاةَ وَمَا مَلَكتْ أيمانُكُمْ " .
{ إن الله لا يحب مَن كان مختالاً } أي : متكبراً ، يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم ، { فخورا } يتفاخر عليهم بماله وجاهه ، وما خوله الله من نعمه ، فهو جدير أن تسلب منه .
(1/426)

الإشارة : واعبدوا الله ، أي : بالقيام بوظائف العبودية ، ومشاهدة عظمة الربوبية ، وقال بعض الحكماء : العبودية : ترك الاختيار ، وملازمة الذل والافتقار . وقيل : العبودية أربعة أشياء : الوفاء بالعهود ، والحفظ للحدود ، والرضا بالموجود ، والصبر على المفقود ، وعنوان ذلك صفاء التوحيد ، ولذلك قال : { ولا تشركوا به شيئًا } أي : لا تَرَوْا معه غيره ، كما قال القائل :
مُذْ عَرَفْتُ الإِلهَ لَم أرَ غَيْرًا ... وكَذَا الغَيْرُ عِنْدنَا ممْنُوعُ
وقال آخر : ( لو كُلفت أن أرى غيره ، لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده ) . فإذا حصلت العبودية في الظاهر ، وتحقق التوحيد في الباطن ، ظهرت عليه مكارم الأخلاق فيُحسن إلى الأقارب والأجانب ، ويجود عليهم بالحس والمعنى ، لأن الفتوة من شأن أهل التوحيد ، ومن شيم أهل التجريد ، كما هو معلوم من حالهم ، نفعنا الله بذكرهم ، وخرطنا في سلكهم . آمين .
قال الورتجبي : " الوالدين " : مشايخ المعرفة . ثم نقل عن الجنيد ، أنه قال : أمرني أبي أمرًا ، وأمرني السري أمرًا . فقدمت أمر السري على أمر أبي ، وكل ما وجدت فهو من بركاته . ه . وذوو القربى هم الأخوة في الشيخ ، { واليتامى } : من قصدهم من المتفقرة الجاهلة ، { والمساكين } : ضعفاء اليقين من العامة ، أمر الله تعالى أهل الخصوصية بالإحسان إليهم والبرور بهم ، وهو أن يقرهم في طريقهم ، وبحوشهم إلى ربهم .
{ والجار ذي القربى } وهو جارك في السكنى وأخوك في النسبة ، فيستحق عليك زيادة الإحسان . { والجار الجنب } : من جاورك من العوام فتنصحه وترشده ، { والصاحب بالجنب } : من رافقك في أمر من العوام ، كَسَفَرٍ وغيره ، { وابن السبيل } : من نزل بأهل الخصوصية من الأضياف ، فلهم حق الضيافة عليهم حسًّا ومعنًى ، { وما ملكت أيمانكم } : ما لكم تصرف عليهم الأهل والبنين والإماء والعبيد ، فتقربونهم إلى حضرة الملك المجيد . ثم أمرهم بالتواضع والإقبال على الخاص والعام . فقال : { إن الله لا يحب مَن كان مختالاً فخورًا } . والله تعالى أعلم .
(1/427)

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
قلت : { الذين } بدل مِن : " مَن كان " ، أو منصوب على الذم ، أو مرفوع عليه ، أي : هم . أو مبتدأ حذف خبره ، أي : نعذبهم عذابًا مُهينًا ، أو أحقاء بكل ملامة ، و { الذين ينفقون } : عطف على الأولى ، أو مبتدأ حُذف خبره ، أي : الشيطان قرينهم . والبخل فيه لغتان : البُخل والبَخَل بحركتين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الذين يبخلون } بأموالهم على أقاربهم وجيرانهم ، { ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله } من الغنى ، فيظهرون القلة والعيلة ، أو يكتمون العلم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، هم أحقاء بكل لوم وعتاب . { وأعتدنا للكافرين } منهم { عذابًا مُهينًا } يهينهم ويخزيهم ، نزلت في اليهود ، كانوا يقولون للأنصار : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر ، وكتموا صفته عليه الصلاة والسلام وَوَضعَ الظاهر موضع المضمر كأنه يقول : وأعتدنا لهم ، إشعارًا بأن مَن هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى ، ومن كفر بنعمة الله وأهانها استحق عذابًا مهينًا .
{ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } طالبًا لمدحهم وخوفًا من ذمهم ، { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ، يتحرّون بإنفاقهم مراضية ، فالشيطان قرينهم لا يفارقهم ، { ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا } ، فلمّا كان الشيطان قرينهم زين لهم التهالك على الأموال والرياء في الأعمال ، وإنما أشرك أهل الرياء مع البخلاء في الوعيد من حيث إنهما طَرَفَا تفريط وإفراط ، وهما سواء في القبح واستجلاب الذم .
{ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } أي : لا ملامة عليهم ولا تبعة تحيق بهم؛ لو أخلصوا الإيمان وأنفقوا مما رزقهم الكريم المنان . قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يُجيب إليه احتياطاً ، فكيف إذا تضمن المنافع . وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخره في الآية الأخرى : لأن القصد بذكره هنا التخصيص ، وثَم التقليل . ه . { وكان الله بهم عليمًا } لا يخفى عليه شيء من أمورهم وقصدهم .
الإشارة : قال بعض الصوفية : ( من أقبح كل قبيح صوفي شحيح ) ، فالصوفية العارفون رضي الله عنهم الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق تعالى أهل العناد ، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية ، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية ، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق ، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق ، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه ، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله ، هجم عليهم اليقين ، وتمكنوا من شهود رب العالمين ، فلا يقرب ساحتهم الشيطان ، ولا يرون في الدارين إلا الملك الديان ، تحبهم ملائكة الرحمن ، ويحن إليهم الأنس والجان . نفعنا الله بمحبتهم ، وخرطنا في مسلكهم ، آمين .
(1/428)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
قلت : الذرة : النملة الصغيرة الحمراء . وتطلق على جزء من أجزاء الهباء . ومن نَصَب { حسنة } فَخَبَرُ كان . وأُنث الضمير باعتبار الخبر . أو لإضافة مثقال إلى ذرة ، فاكتسب التأنيث ، ومن رفع فهي تامة ، وحذف نونها على غير قياس ، تشبيهًا لها بحروف العلة . وضاعف وضّعف بمعنى واحد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الله لا يظلم } أحدًا بحيث ينقص من ثواب عمله ، أو يزيد في عقبا ما يستحقه ، ولو مثقال ذرة . بل يجازي كلاً على قدر عمله . فإن كان صالحًا ، ولو صغر قدره ، عظُم أجره . { فإن تك حسنة يُضاعفها } بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، بحسب الإخلاص . قال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ اللهَ يُعْطِي المُؤمنَ عَلى الحَسَنة ألفي ألف حَسَنة " ، ثم تلا { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الآية .
{ ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا } ، وخيرًا جسيمًا ، فضلاً منه وإحسانًا . قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ لا يظلم المُؤمنَ حَسنةً ، بل يُثاب عليها الرزق في الدُنيَا ويجزيه بها في الآخِرَةِ . والكَافِر يعطيه بها في الدُّنيَا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكُن لَهُ حَسَنةٌ " .
الإشارة : كما أن الحق تعالى لا يظلم طالبي الأجور ، بل يضاعف لهم في زيادة الحور والقصور ، كذلك لا يبخس طالبي القرب والحضور ، ورفع الحُجب والستور . بل كلما فعلوا من أنواع المجاهدات ضاعف لهم أنوار المشاهدات . وكلما نقص لهم من الحس ولو مثقال ذرة زادهم في المعنى قَدْرَهُ وأكثر شهودًا ونظرة . وكلما يقهر النفس ولو مقدار الفتيل ، شربوا مقداره وأكثر من خمرة الجليل ، وهذا كله مع صحبة المشايخ أهل التربية ، وإلاَّ فلا تزيده مجاهدته إلا حَجبًا وبعدًا عن الخصوصية . والله تعالى أعلم .
(1/429)

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قلت : { كيف } إذا كان الكلام بعدها تامًا أُعربت حالاً ، كقولك : كيف جاء زيد؟ وإذا كان ناقصًا ، كانت خبرًا ، كقولك : كيف زيد؟ وهي هنا خبر؟ أي : كيف الأمر أذا . . . الخ . وهي مبنية لتضمنها معنى الاستفهام ، والعامل في { إذا } مضمون المبتدأ ، أو الخبر ، أي : كيف يستقر الأمر أو يكون إذا جئنا؟ ومن قرأ { تَسوّى } بالشد ، فأصله تتسوى ، أدغمت الأولى في الثانية ، ومن قرأ { لو تُسوّى } بالبناء للمفعول فحذف الثانية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فكيف } يكون حال هؤلاء الكفرة واليهود { إذا } قامت القيامة و { جئنا من كل أمة بشهيد } يشهد عليها بخيرها وشرها ، وهو نبيهم الذي أرسل اليهم ، { وجئنا بك } أنت يا محمد { على هؤلاء } الأمة التي بعثت إليهم { شهيدًا } عليهم ، أو على صدق هؤلاء الشهداء شهيدًا ، تشهد على صدق رسالتهم وتبليغهم؟ لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم ، وقيل : { وعلى هؤلاء } الكفرة المستفهم عن حالهم ، وقيل : على المؤمنين لقوله : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] . { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول } أي : الذين جمعوا بين الكفر والعصيان يتمنون أن { تسوى بهم الأرض } فيكونون ترابًا لما يرون من هول المطلع ، فإذا شهدت عليهم الرسل بالكفر قالوا : { واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعَام : 23 ] ، فيُنطق ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بشركهم فيفتضحون { ولا يكتمون الله حديثاً } واحدًا ، لأنهم كلما هموا بالكتمان شهدت عليهم جوارحهم بالكفر والعصيان .
وقيل : إن القيامة مواطن ، في موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا ، وفي موطن يتكلمون ويقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا بد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية ، حتى مات محجوبًا عن مشاهدة أسرار الربوبية ، لا سيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم ، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السني ، مصاحبين للمقربين في جوار الأنبياء والمرسلين ، وهو في مقام أهل اليمين ، ثم يعاقب على ما أسر عليه من الكبائر ، وهي معاصي القلوب والضمائر ، وهذا إذا مات على الإسلام ، وإلا فالإنكار على الأولياء شُؤمُه سوء الخاتمة . والعياذ بالله من ذلك . وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء ، والعلماء يشهدون على العموم ، ونبينا عليه الصلاة والسلام يزكي من يحتاج إلى التزكية . والله تعالى أعلم .
(1/430)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قلت : جملة { وأنتم سكارى } : حال ، وسكارى : جمع سكران ، ويجمع على سُكارى بالفتح وسكْرى بالسكون ، و { لا جُنُبًا } عطف على جملة الحال ، و { جُنب } يستوي فيه الواحد والاثنان والجماعة والمذكر والمؤنث ، لأنه يجري مجرى المصدر فلا يُثنى ولا يُجمع . و { إلا عابري } مستثنى من عام الأحوال ، وأصل الغائط : الموضع المنخفض من الأرض ، ثم أطلق على الواقع فيه مما يخرج من الإنسان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } : لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من خمر ، أو غلبة نوم ، أو شدة غفلة ، { حتى تعلموا ما تقولون } في صلاتكم ، وتتدبروا ما تقرأون فيها ، فالصلاة من غير حضور خاوية ، وعند الخصوص باطلة ، رُوِي أن عبد الرحمن بن عَوف صنَع مأدبة ، ودَعَا إليها نفرًا من الصحابة ، حين كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلُوا ، وجاء وقت صلاة المغرب ، فتقدم أحدهم ليصلي بهم ، فقرأ : أعبد ما تعبدون من غير نفي فنزلت الآية قبل تحريم الخمر ، ثم حرمت بآية المائدة .
ولا تقربوها حالة جنابتكم في آي حال كان ، { إلا عابري سبيل } أي : في وقت سفركم ، حيث لم تجدوا ماءً ، بدليل ما يأتي ، فيتيمم ويقرب الصلاة وهو جنب ، وفيه دليل أن التيمم لا يرفع الحدث ، قيل المراد بالصلاة مواضعها ، وهي المساجد فلا يدخلها الجنب إلا مارًا ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه وقال أبو حنيفة : لا يجوز المرور ، إلاَّ إذا كان فيه الماء والطريق . وقال مالك : لا يدخل إلا بالتيمم ولا يمر به أصلاً .
فلا تقربوا الصلاة وأنتم جنب { حتى تغتسلوا } .
{ وإن كنتم مرضى } تخافون ضرر الماء ، أو زيادته ، أو تأخر برء ، أو منع الوصول إلى الماء ، { أو على سفر } لم تجدوه فيه ، { أو } كنتم في الحضر مُحدِثِين حيث { جاء أحد منكم من الغائط } ، أو البول ، أو بغيره من الأحداث ، { أو لامستم النساء } أي : مست بشرتكم بشرتهن ، بقصد اللذة أو عند وجدانها ، وبه قال مالك . وقال الشافعي : ينقض مطلقًا ، قصد أم لا ، وجد أم لا ، ولو بميتة ، وقال أبو حنيفة : إن كانت ملامسه فاحشة بحيث يحصل الانتشار نقضت ، وإلا فلا .
وقال ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن الحسن : لا تنقض الملامسة مطلقًا ، ويقاس على اللمس سائر نواقض الأسباب ، فتحصَّل أن " أو " تبقى على أصلها من التقسيم ، فتكون الآية نصًا في تيمم الحاضر الصحيح ، وبه قال مالك ، ولا يعيد . وقال الشافعي : يُصلي بالتيمم ويُعيد ، وقال أبو حنيفة : لا يُصلي حتى يجد الماء ، ومن قال : " أو " بمعنى الواو فخروج عن الأصل بلا داع .
ثم قيّد التيمم في هذه الأحوال بفقد الماء ، فقال : { فلم تجدوا ماء } كافيًا ، أو لم تقدروا على استعماله ، { فتيمموا } أي : اقصدوا { صعيداً طيبًا } أي : ظاهرًا ، وهو ما صعد على وجه الأرض من جنسها؛ كتراب ، وهو الأفضل ، وثلج وخضخاض وحجر ومدر ، لا شجر وحشيش ومعدن ذهب وفضة ، وما التحق بالعقاقير ، كشب ، وملح ، وكبريت ، وغاسول وشبهه ، فلا يجوز .
(1/431)

وقال أبو حنيفة : بكل شيء من الأرض وما اتصل بها كشجر وكُحل ، وزنيخ ، وشب ونورة ، وجص ، وجوهر ، إلا منخالة الذهب والفضة والرصاص . وقال الشافعي : لا يجوز إلا بالتراب المنبت خاصة ، وبه فسر الطيب ، واشترط علوق التراب بيده ، ولم يشترطه غيره .
ثم علّم الكيفية فقال : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } . قال مالك : اليد اسم للكف بدليل قطع السارق منه ، فجعل المسح إلى المرفق سنة . وقال الشافعي : فرض ، قياسًا على الوضوء ، { إن الله كان عفوًّا غفورًا } فلذلك يسَّر عليكم ورخص لكم في التيمم .
الإشاره : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا صلاة الحضرة القدسية ، وأنتم سكارى بحب الدنيا الدنية ، حتى يذهب عنكم سُكر حبها ، وتعلموا ما تقولون في مناجاة خالقها ، ولا جنبًا من جنابة الغفلة ، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة ، حتى تغتسلوا بماء الغيب ، الذي يحصل به طهارة الجنان ، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان . وإليه أشار ابن العربي الحاتمي : كما في طبقات الشعراني ، ونسبها غيرُه للجنيد رضي الله عنهم أجمعين وهو الأصح بقوله :
تَوَضَّأ بماءِ الغَيبِ إن كُنتَ ذا سِرٍّ ... وإلاَّ تَيَمَّم بالصَّعِيدِ أو الصَّخر
ِ وقّدَّم إمَامًا كُنتَ أنتَ إمَامَه ... وصَلِّ صلاة الظُّهرِ في أولِ العَصر
ِ فَهَذِي صَلاةُ العَارِفينَ بربّهِم ... فإن كُنتَ مِنهم فانضَحِ البرِّ بالبَحر
أي : إن لم تقدر على الطهارة الأصلية؛ وهي الغيبة عن الأحداث الكونية ، فاقصد العبادة الحسية ، وقَّدم الشريعة أو من قام بها من أهل التربية النبوية أمامك ، بعد أن كان يطلبك من قبل أن تعرفه ، وأجمع ظُهر الشريعة لعصر الحقيقة ، فهذه صلاة العارفين ، فإن كنت منهم فانضح بَرَّ ظاهرك بحقيقة باطنك ، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر . لهذا أشار تعالى بقوله : { وإن كنتم مرضى } بحب الهوى ، { أو على سفر } في عجلة شغل الدنيا ، أو جاء أحد منكم من غائط الحس ، أو لامستم العلوم الرسمية ، وانطبع صُورُ خيالها في قلوبكم ، ولم تجدوا من يسقيكم ماء الغيب ، وهي الخمرة الآزلية ، فاقصدوا الأعمال الحسية ، فلعلها توصلكم إلى الأعمال الباطنية ، { إن الله كان عفوًا غفورًا } ، وفي الحِكَم : " كيف يشرق قلبٌ صورُ الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته ، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟ " .
(1/432)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
قلت : دخلت الباء على الفاعل في { كفى بالله } ، لتضمنه معنى أكتف بالله وكيلاً .
يقول الحقّ جلّ جلاله { ألم تر } يا محمد ، أو يا من يسمع ، ببصرك أو بقلبك { إلى } حال { الذين أوتوا نصيبًا } يسيرًا { من } علم { الكتاب } أي : التوراة ، وهم أحبار اليهود ، { يشترون الظلال } بالهدى ، أي : يستبدلونها بها بعد تمكنهم منها عادة ، { ويُريدون أن تضلوا السبيل } أي : الطريق الموصلة إلى الحق ، أي : يتمنون انحرافكم عنها ، فإذا سمعوا عنكم ما يحرفكم عنه فرحوا واستبشروا ، لأنهم انحرفوا عنها فحرفوا كتابهم وبدلوا ، فتمنوا أن تكونوا مثلهم ، فاحذروا ما يتوقع منكم أعداؤكم ، فإن الله أعلم بهم منكم ، فسيكفيكم الله أمرهم ، فثقوا به وتوكلوا عليه ، فكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا ، فسيتولى أمركم وينصركم على من عاداكم . وبالله التوفيق .
الإشارة : من شأن أهل الإنكار ، ولا سيما من سلف له في أسلافه رياسة أو إظهار ، إذا سمعوا بأهل النسبة وقع لهم شيء من الأكدار ، فرحوا واستبشروا ، وودوا لو حادوا كلهم عن سبيل الحق ، والله مطلع على أسرارهم ، وكاف بأسهم وشرهم ، { وكفى بالله وليًا } لأوليائه ونصيرًا لأحبابه ، والله تعالى أعلم .
(1/433)

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
قلت : { من الذين هادوا } : خبر عن محذوف ، أي : منهم قوم يحرفون ، أو بيان للذين قبله ، أو متعلق بأعدائكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : من اليهود قوم تمردوا في الكفر؛ وهم أحبارهم ، { يُحرّفون الكلم } وهو التوراة { عن مواضعه } أي : يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ، بإزالة لفظه أو تأويله . وقال ابن عباس : ( لا يقدر أحد أن يُحرّف كلام الله ولكن يفسرونه على غير وجهه ) ، { ويقولون } لمن دعاهم إليه ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم : { سمعنا } قولك ، { وعصينا } أمرك ، { واسمع } منا { غير مسمع } قولك ، أي : لا نلتفت إليه ، أو دعاء بالصمم : أي : لا سمعت ، أو غير مسمع منا مكروهًا ، نفاقًا ، ويقولون له مكان انظرنا : { راعنا } قاصدين بذلك الشتم والسخرية ، من الرعونة ، وقد كان الصحابة يخاطبون به الرسول عليه الصلاة والسلام ومعناه : انظرنا . أو راعنا بقلبك ، فوجد اليهود بها سبيلاً إلى الشتم ، فنهاهم الله عن ذلك ، وبقيت اليهود تقولها شتماً واستهزاءً { ليًّا بألسنتهم } ، أي : فَتلاً لها عن معناها ، من الانتظار إلى ما قصدوا من رَميِه بالرُّعُونة ، { وطعنًا في الدين } أي : استهزاء به ، { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } مكان سمعنا وعصينا ، { واسمع } منا فقط ، مكان : واسمع غير مسمع ، { وانظرنا } مكان راعنا ، { لَكَانَ } قولهم ذلك { خيرًا لهم وأقوم } وأعدل ، { ولكن لعنهم الله } أي : طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم ، { فلا يؤمنون إلا } إيمانًا { قليلاً } لا يعبأ به وهو الإيمان بالبعض والكفر بالبعض من الآيات والرسل . والله تعالى أعلم .
الإشارة : والله ما ربح من ربح ، إلا بالأدب والتعظيم ، وما خسر من خسر إلا من فقدهما . قال بعضهم : " اجعل عملك ملحًا ، وأدبك دقيقًا " . وآداب الظاهر عنوان آداب الباطن ، ويظهر الأدب في حسن الخطاب ، ورد الجواب ، وفي حسن الأفعال ، وظهور محاسن الخلال . والله تعالى أعلم .
(1/434)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ياأيها الذين أوتوا الكتاب } من اليهود { آمنوا بما نزلنا } من القرآن { مصدقًا لما معكم } من التوراة { من قبل أن نطمس وُجُوهاً } أي : نغير صُورها ونمحو تخطيط أشكالها ، فلا تبقى عين ولا أنف ولا حاجب ، { فنرُدها على } هيئة { أدبارها } من الأقفاء ، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا ، { أو نلعنهم } أي : نخزيهم بالمسخ ، { كما لعنَّا أصحاب السبت } ، فمسخناهم قردة وخنازير ، { وكان أمر الله مفعولاً } ، لا مرد له ، ولعله كان مشروطاً بعدم إيمان بعضهم ، أو يراد بطمس الوجوه ما يكسوها من الذلة والصغار . ويراد باللعن حقيقته ، أي : نلعنهم على لسانك كما لُعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم .
وهذه الآية كانت سبب إسلام كعب الأحبار ، سمعها من بعض الصحابة فأسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . والمسخ جائز على هذه الأمة ، كما وقع الأمم السابقة ، بدليل ما في كتاب الأشربة من البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليكوننَّ من أمَّتي أقوام يَستحلُّون الحِر والحَريرَ ، والخمر والمعازف ، ولينزلنَّ أقوام إلى جَنِب علَمِ ، يَروحُ عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة ، فيقولون : ارجع إلينا غَدًا ، فيُبيَّتُهم الله ، ويضع عليهم العَلَم ، ويَمسَخُ آخرين قِردَة وخنازيرَ إلى يوم القيامة " .
الإشارة : حملة الشريعة يخاطبون بالإيمان بأهل الحقيقة ، لأنها لبها وصفاؤها ، فإن امتنعوا من الإيمان بها ومن الإذعان لأهلها ، طمس الله وجوه قلوبهم ، وملأها خوفًا وجزعًا وحبًا للدنيا ، وردها على أدبارها ، فلا تفهم أسرارَ الكتاب ولا تفقه إشارة الخطاب ، فإن قصّروا عن حقوق الشريعة ، وغيَّروا أحكامها مُسخوا قردة وخنازير . وفي نوادر الأصول بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تَكُونُ فِي أُمَّتي قزَعةٌ ، فَيَصيرُ النَّاسُ إلى عُلَمَائِهِمْ ، فإذا هُم قِردَةٌ وخَنَازِيرُ " .
قال الترمذي الحكيم : فالمسخ : تغيير الخلقة عن جهتها ، فإنما حل بهم المسخ لأنهم غيَّروا الحق عن جهته ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، فمسخوا عن أعين الخلق ، وقلوبُهم عن رؤية الحق . فمسخ الله صورهم وبدَّل خِلقتهم ، كما بدلوا الحق باطلاً . ه . وبالله التوفيق .
(1/435)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } لأنه بتَّ الحكم على خلود عذابه ، لأن الله تعالى غيور لا أحد أغير منه . كما في الحديث ، ومن عادة الملوك إذا خرج أحدٌ من رعيته ونصر غيره لا يقبل منه إلا الرجوع أو الموت . ولا شفاعة تنفع في غير الرجوع عنه . { ويغفر ما دون ذلك } الشرك { لمن يشاء } من الكبائر والصغائر . تاب أم لا . فالعصاة أذا لم يتوبوا في مشيئة الله ، { ومن يُشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا } ؛ ارتكب ما تستحقر دونه الآثام . وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : ولما رأت الصوفية أن الشرك لا يُغفر ، ولا يُسمح في شيء منه ، جليًا أو خفيًا ، حققوا إخلاصهم ، ودققوا معاملتهم مع ربهم ، وفتشوا على قلوبهم ، هل بقي فيها شيء من محبة غير مولاهم ، أو خوفٌ من شيء دونه ، وطهروا توحيدهم من نسبة التأثير لشيء من الكائنات ، فتوجهوا إلى الله في إزالة ذلك عنهم .
قال بعضهم : شربتُ لبنًا فأصابني انتفاخ ، فقلت ضرني ذلك اللبن ، فلما كنت ذات يوم أتلو ، هذه الآية قلت : يا رب؛ أنا لا أشرك بك شيئًا ، فقال لي هاتفٌ : ولا يوم اللبن ، فبادرت إلى التوبة . اه . بالمعنى . والله تعالى أعلم .
(1/436)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم تر } يا محمد { إلى الذين يزكون أنفسهم } ، وهم اليهود ، قالوا : نَحنُ أبنَاءُ اللهِ وَأحبَّاؤُه ، وقيل : طائفة منهم ، أتَوا بأطفَالِهِم إلىَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا : هَل عَلَى هؤُلآءِ ذَنبٌ ، قال : " لآ " . قَالوُا : واللهِ مَا نَحنُ إلا كَهَيئَتِهِم ، مَا عَمِلنَا بالنّهَارِ يُكَفَّر عَنَّا باللَّيلِ ، وما عملنا باللَّيلِ يُكَفَّر عَنَّا بالنّهَارِ ، فنزلت فيهم الآية . وفي معناهم : من زكى نفسه وأثنى عليها قبل معرفتها .
{ بل الله يُزكي من يشاء } لأنه العالم بخفيات النفوس وكمائنها ، وما انطوت عليه من قبيح أو حسن ، فيزكي من يستحق التزكية ، ويفضح المُدَّعِين ، { ولا يُظلمون فتيلاً } ، وهو الخيط الذي في شق النواة ، يضرب مثلاً لحقارة الشيء ، فأن الله لا يظلم مثقال ذرة ، { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في زعمهم أنهم أبناء الله ، أو أنهم مغفور لهم ، { وكفى به } أي : بالافتراء ، { إثماً مبينًا } أي : ظاهرًا لا يخفى على أحد .
الإشارة : قال بعض الصوفية : للنفس من النقائص ما لله من الكمالات ، فلا ينبغي للعبد أن يُزكي نفسه ، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت . قال أبو سليمان الداراني : لي أربعون سنة وأنا مُتَّهٍمٌ لنفسي . وفي الحِكَم " أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ : الرضا عن النفس ، وأصلُ كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ : عدمُ الرضا منك عنها ، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خيرٌ من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه ، فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه؟! وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟! " .
(1/437)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
قلت : الجبت في الأصل : اسم صنم ، فاستعمل في كل ما عُبد من دون الله ، { والطاغوت } : كل باطل من معبود أو غيره ، أو الجبت : السحر ، { والطاغوت } : الساحر ، وبالجملة : هو كل ما عُبد أو أطيع من دون الله ، وقال الجوهري : الجبت : اسم لكل صنم ولكل عاصٍ ولكل ساحر وكل مُضِلّ ، { والطاغوت } : الشيطان ، وأصله : طغيوت ، فعلوت ، من الطغيان ، ثم قلب فصار طيَغوت ، ثم قلبت الياء ألفًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من } علم { الكتاب } ، وهم أحبار اليهود { يُؤمنون بالجبت والطاغوت } ؛ يقرون بصحة عبادتهما ، { ويقولون للذين كفروا هؤلاء } الكفرة { أهدى من الذين آمنوا } طريقًا ، نزلت في اليهود - لعنهم الله - : كانوا يقولون : إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : في حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ، خرجا في سبعين راكبًا إلى مكة يُحالفون قريشًا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أُحد ، وينقضون العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كَعبُ على أبي سفيان ، فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش . فقال أهل مكة : أنتم أهل كتاب ، ومحمدٌ صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكيدة منكم . فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين ، وآمنوا بهما ، ففعلوا ، فذلك قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } .
ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأيُّنا أهدى سبيلاً وأقرب إلى الحق ، نحن أو محمد؟ قال كعب : اعرضوا عليَّ دينَكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكومَاءَ أي : العظيمة من النوق ونسقي الماء ، ونَقري الضيف ، ونفك العاني ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمدٌ فارقَ دينَ أبائه ، وقطع الرحم وفارق الحرم ، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً . ه .
{ أولئك الذين لعنهم الله } وأبعدهم وأسحقهم { ومَن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا } ينصره من عذاب الله . فقد قُتل هؤلاء كلهم شر قتلة ، وذهبوا إلى الهاوية . عائذاً بالله .
الإشارة : قال الورتجبي : وبَّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم الذين اختاروا الرياسة ، وأنكروا على أهل الولاية ، وآثروا صحبة المخالفين ، يقبلون هواجس نفَوسهم التي هي الجبت ، ويَحظُون على آثار الطاغوت ، التي هي إبليس . ه .
قلت : وينسحب التوبيخ على من فضّل أهل الظاهر على أهل الباطن ، وفضَّل العلماء على الأولياء ، ويقولون : هم أهدى منهم سبيلاً . هيهات! بينهم من البَون ما بين السماء والأرض .
والكلام إنما هو في التفضيل بين العارفين بالله ، الذين جمعوا بين الفناء والبقاء ، وبين العلماء والأتقياء . وأما العُبَّاد والزهاد والصالحون فلا شك أن العلماء الأتقياء أفضل منهم ، وإليهم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله :
(1/438)

" فَضلُ العَالِمِ على العابِد كَفَضِلِي عَلَى أدناكُم " وكذلك الأحاديث التي وردت في تفضيل العلماء . وأما العارفون بالله فهم أعظم العلماء ، لأن علمهم متعلق بذات الله كشفًا وذوقًا ، وعلماء الظاهر علمهم متعلق بأحكام الله . مفرقُون عن الله ، بل هم أشد حجابًا من غيرهم عن الله . قال بعض الأولياء : أشد الناس حجابًا عن الله : العلماء ثم العباد ثم الزهاد . ه . لأن حلاوة ما هم فيه تمنعهم عن الانتقال عنه ، وقد تقدم الكلام عند قوله : { كُنتٌمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عِمرَان : 110 ] بأبلغ من هذا . والله تعالى أعلم .
(1/439)

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
قلت : { أم } : منقطعة ، بمعنى بل ، والهمزة للإنكار ، وهو إنكار وجحدٌ لما زعمت اليهود من أنَّ المُلكَ سيصيرُ لهم ، و { إذًا } إن فُصل بينها وبين المضارع ، ب " لا " ففيها الإهمال والإعمال ، وقد قرىء : ( وإذًا لا يلبثوا ) ، والنقير : النقرة التي في ظهر النواة ، وهو هنا كنابة عن نهاية بخلهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : مُنكِرًا على اليهود : أيحصل لهم { نصيب من المُلك } والرياسة؟ هيهات ، لا يكون هذا أبدًا ، فكيف يكون لهم الملك وهم أبخل الناس؟ . فإذا أُوتوا شيئًا من الملك لا يُعطون الناس نقيرًا ، فما بالك بأكثر ، والملك والنصر ولا يكونان إلا لأجل الكرم والجود والشجاعة ، وإصابة الرأي وحسن التدبير ، وهم بعداء من هذه المكارم .
الإشارة : لا يُمكن اللهُ من العز والنصر والتصرف الظاهر أو الباطن إلا أهل السخاء والجود ، فمن جاد بمالِهِ حتى لا يبالي كم أعطى ولا لمن أعطى ، مكّنه الله من العز والتصرف الحسي ، ومن جاد بنفسه وجاهه ، وبذلهما في مرضاة ربه ، مكّنه الله من العز والنصر والتصرف المعنوي؛ يتصرف بهمته في الوجود بأسره ، من عرشه إلى فرشه ، ويدوم عزه ونصره أبد الأبد . والله تعالى أعلم .
(1/440)

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
قلت : { أم } بمعنى بل ، و { سعيرًا } تمييز .
يقول الحقّ جلّ جلاله : توبيخًا لليهود على الحسد : { أم يحسدون الناس } ، أي : العرب حيث انتقلت النبوة إليهم ، وقد كانت في أسلافهم ، { على ما آتاهم الله من فضله } ، وهو ظهور النبوة فيهم ، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه اجتمع فيه ما افترق في سائر الناس ، حسدوه على ما آتاه الله من فضله ، من النبوة وغيرها ، وقالوا لعنهم الله : ما له همٌّ إلا النساء ولو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء .
فكَّذبهم الله تعالى وردَّ عليهم بقوله : { فقد آتينا آل إبراهيم } وهم : يوسف وداود وسليمان ، { الكتاب والحكمة } أي : النبوّة ، { وآتيناهم مُلكّاً عظيمًا } . فقد اجتمع لداود عليه السلام مائة امرأة . ولسليمان عليه السلام ألف امرأة : ثلاثمائة مهيرة ، أي بالمهر وسبعمائة سرية ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام حين نزلت الآية : ألف امرأة عن رجل ، ومائة امرأة عند آخر ، أكثر من تسع نسوة ، فسكتوا .
{ فمنهم } أي : اليهود ، { من آمن به } أي : بمحمد عليه الصلاة والسلام كعبد الله بن سلام وأصحابة ، { ومنهم من صدّ عنه } أي : أعرض عنه ، أو : من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، { ومنهم من صدّ عنه } ، ولم يكن في ذلك توهين لقدر إبراهيم ، فكذلك لا يُوهن كفرُ هؤلاء أمرَك ، أو : من أسلافهم من آمن بما أُوتي آل إبراهيم من الكتاب والحكمة والمُلك ، { ومنهم مَن صدّ عنه } ، كما فعلوا مع سليمان وغيره . { وكفى بجهنم سعيرًا } لمن كفر بما جاء به أحد من الرسل ، أي : فإن لم يُعاجَلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم .
ثم بيَّن مآل من كفر ، فقال : { إن الذين كفروا بآياتنا } المنزلة على رسلنا ، أو الدالة على وحدانيتنا ، { سوف نصليهم نارًا } أي : نحرقهم بها ونشويهم ، { كلما نضجت جلودهم } أي : لانت واحترقت { بدّلناهم جلودًا غيرها } ، قال صلى الله عليه وسلم : " تُبدَّلُ في ساعةٍ مائةَ مَرَّة " وقال الحسن : ( تأكلهم النارُ في كل يوم سبعين ألف مرة ، كلما أكلتهم وأنضجتهم قيل لهم : عودوا فيعودوان كما كانوا ) . وقال مجاهد : ( ما بين جلده ولحمه دود ، لها جلبة أي حركة وهرير كجلبة حمر الوحش ) . رَوى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " غلظٌ جِلدِ الكَافِرِ اثنَانٍ وأربعَونَ ذرَاعًا ، وضِرسه مِثلُ أحُد " .
وإنما بدلت جلودهم { ليذوقوا } ألم { العذاب } ، أي : يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه ، والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها ، فلا محذور ، { إن الله كان عزيزًا } لا يمتنع عليه ما يريد ، { حكيمًا } يعاقب على قدر حكمته .
(1/441)

ثم ذكر مقابل هؤلاء فقال : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا لهم فيها أزواج مطهرة } مما يستقذر { وندخلهم ظلاً ظليلاً } أي دائمًا لا تنسخه شمس ، ولا يصحبه برد ، قدَّم وعيد الكفار على وعد المؤمنين ، لأن الكلام فيهم ، وذكر المؤمنين بالعرض . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الحسد خلق مذموم ، لا يتطهر منه إلا الصديقون ، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة ، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد ، وقد قيل : الحسود لا يسود . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أن قال : " الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ " وقال سفيان : ( بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول : الحاسدُ عدو نعمتي ، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي ) . وأنشدوا :
ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا ... أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب
أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه ... إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب
جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي ... وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب
وقال آخر :
إن تحسُدُوني فإني غيرُ لائمكم ... قَبَلى من الناسِ أهل الفضلِ قّد حُسِدُوا
فَدَامَ لي وَلَهُم ما كَانَ بي وبهم ... وماتَ أكثَرُنا غيظًا بما يَجِدُ
ثم إن الحسود لا تزول عداواته ، ولا تنفع مداواته ، وهو ظالم يشتكي كأنه مظلوم . ولقد صدق القائل :
كلُ العَدَاوةِ قد تُرجىَ إزالتُها ... إلا عداوة مَن عَادَاكَ مِن حَسَدٍ
وقال حكيم الشعراء :
وأظلمُ خَلقِ اللهِ مَن بَاتَ حَاسِدًا ... لِمَن بَاتَ في نَعمَائِه يَتَقَلَّبُ
وقال آخر :
أني لأرحمُ حاسِدِيَّ لفرطِ ما ... ضَمَّت صُدُوُرُهُم مِن الأوغَارِ
نَظَرُوا صنيعَ اللهِ في فَعُيُونهُم ... في جَنَّةٍ وقَلوبُهُم في نارِ
قال بعض الحكماء : ( الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات : إحداها : اكتساب الذنوب؛ لأن الحسد حرام . الثانية : سوء الأدب مع الله تعالى فإنَّ حقيقة الحسد : كراهية إنعام الله على غيره ، واعتراض على الله في فعله . الثالثة : تألم قلبه وكثرة همه وغمه ) . عافانا الله من ذلك كله ، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب ، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب ، وهو محل الراحة والأمن في الدارين ، وهو الظل الظليل . والله تعالى أعلم .
(1/442)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
قلت : " ما " في { نِعِمَّا } تمميز أو فاعل ، والمخصوص محذوف ، أي نعم شيئًا شيء يعظكم به ، أو نعم الذي يعظكم به ذلك الأمر ، وهو رد الأمانات والعدل في الحكومات .
قال زيد بن أسلم وشهر بن حوشب : نزلت الآية في شأن الأمراء . ه . قلت : وأن نزلت في شأن عثمان بن طلحة سَادِن الكَعبَةِ فهي عامة . والمخاطب بذلك أولاً الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأمراء ، أمره الحق تعالى أن يرد المفاتح إلى عثمان ، وذلك أن عثمان أغلق باب الكعبة يوم فتح مكة وأبى أن يدفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل الكعبة ، وقال : لو عَلمِتُ أنه رَسُول الله ما منعتُهُ ، فَلَوى عَلِيَّ يده ، وأخذّها مِنهُ ، فدخل رسول الله صلى عليه وسلم وصَلّى رَكعَتينِ ، فلما خَرَجَ سألُه العباس أن يُعطيه المفتَاح ، وَيَجمَعَ له السِّدَانَةَ والسِّقَايةَ ، فأمره اللهُ تعالى أن يرده إليه ، فأمر عَلِيًّا بأن يَرُدَّه وَيَعتَذِر إليه ، وكان ذلك سببًا لإسلام عثمان ، ونزل الأمر بأن السِّدَانَة في أولاده أبدًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الله يأمركم } ، يا معشر الأمراء ، أن تردوا { الأمانات إلى أهلها } من أنفسكم ، أو من رعيتكم فتُنصفوا المظلوم من الظالم ، حتى يؤدي ما ائتُمن عليه من دَينٍ ، أو وديعة ، أو غصب ، أو سرقة ، أو غير ذلك من حقوق العباد ، بعضهم من بعض ، وأن تؤدوا الزكاة إلى من يستحقها ، وتصرفوا بيت المال فيمن يستحقه ، لا تظلموا أهلها ، ولا تضيعوا منها شيئاً في غير مستحقها .
{ و } يأمركم { إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } في من يَنفُذُ عليه حكمُكُم ، { إن الله نعمًا يعظكم به } أي : إن الله يعظكم بأمر نعم ما هو ، { إن الله كان سميعًا بصيرًا } لا يخفى عليه أحكامكم ، ولا ما أخفيتم من أمانات غيركم .
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله شيوخ التربية أن يؤدوا السر إلى من يستحقه من الفقراء ، إذا تحققوا أهليتهم له ، بحيث تخلوا عن الرذائل ، كالحسد والكبر وغيرهما ، وتحلوا بالفضائل ، كسلامة الصدر وسخاوة النفوس وحسن الخلق ، وغير ذلك من أوصاف الكمال ، فإن تحققوا بالتخلية والتحلية ، استحقوا الاطلاع على أسرار الربوبية ، التي هي أمانات عند أهل الخصوصية ، وأمرهم أن يحكموا بين الفقراء بالعدل ، فيمدوا كلاً على قدر صِدقِه وخِدمَتِه ، والله تعالى أعلم .
(1/443)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
أعاد العامل في قوله : { وأطيعوا الرسول } ، إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة ، ولم يُعده في { أولى الأمر } إشارة إلى أنه يوجد منهم من لا تجب طاعته ، ثم بيّنه بقوله : { فإن تنازعتم في شيء } كأنه قيل : فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم ، وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله . قال الطيبي ، وسيأتي تحريرُ ذلك إن شاء الله تعالى .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله } فيما أمركم به ونهاكم عنه ، { وأطيعوا الرسول } كذلك . { وأولي الأمر منكم } أي : مَن ولي أمرَكم . من وُلاَةِ العدل كالخلفاء والأمراء بعدهم ، تجب طاعتهم فيما أمَروُا به من الطاعة دون المعصية إلا لخوف هرج ، قال عليه الصلاة والسلام : " إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعرُوف " ، فأن لم يعدل : وجبت طاعته خوفًا من الفتنة . وهذا هو الأصح . لقوله عليه الصلاة والسلام : " سَيَليكم ولاة ، فيليكم البَرُّ ببره ، والفاجر بفجوره ، فاستمعوا لهم ، وأطيعوا في كل ما وافق الحق ، فصلوا وراءهم ، فإن أحسنوا فلهم ، وإن أساؤوا فلكم وعليهم " رواه أبو هريرة .
وفي حديث آخر : " لا أن تَروا كُفرًا بَوَاحًا ، لكم عليه من اللهِ بُرهَانٌ " أي : فيجب عزلهم . وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو وائل فقال : يا رسول الله؛ أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألون حقهم؟ . فقال صلى الله عليه وسلم : " اسمَعُوا وأطِيعُوا ، فَإنَّ عليهم ما حُمِّلُوا وَعَليكُم ما حُملتم " .
وقال جابر بن عبد الله والحسن والضحاك ومجاهد : أولو الأمر هم الفقهاء والعلماء ، أهل الدين والفضل ، يُعلَّمون الناس معالم دينهم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، دليله . قوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ . . . } [ النساء : 83 ] الآية . قال أبو الأسود : ليس شيء أعز من العلم ، الملوك حُكَّام على الناس ، والعلماء حُكَّام على الملوك . ه .
{ فإن تنازعتم } أنتم وأولو الأمر ، أو بعضكم مع بعض أي : اختلفتم في حكم شيء من أمر الدين فلم تعلموا حكمه ، { فردّوه إلى الله } أي : إلى كتاب الله ، { و } إلى { الرسول } في زمانه ، أو سنته بعد موته ، فإن لم يوجد بالنص فبالقياس . فالأحكام ثلاثة : مثبت بالكتاب ، ومثبت بالسنة ، ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس . وعن إبراهيم بن يسار قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اعملُوا بالقرآن : أحلُّوا حَلاَلهُ ، وحرَّمُوا حرامَهُ ، وآمنوا بِه ولا تكفُروا بشيءٍ منهُ ، وما اشتبه عليكُم فردُّوه إلي الله تعالى وإلى أولى العِلم من بَعدي ، كيما يُخبرُونكم به " ، ثم قال : " وليَسعُكُم القرآن وما فيهِ من البَيَانِ؛ فإنه شافعٌ مشفَّعٌ ، وما حِلٌ مُصدَّقَّ " ، وأن له بكل حَرفٍ نُورًا يومَ القِيَاَمَة " .
(1/444)

فردوا الأحكام إليه وإلى الرسول ، { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر } فأن الإيمان يُوجِبُ ذلك . { ذلك } الرد { خير } لكم { وأحسن تأويلاً } من تأويلكم بالرأي من غير رد ، وأحسن عاقبة ومآلاً ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : أولو الأمر عند الصوفية ، هم شيوخ التربية العارفون بالله ، فيجب على المريدين طاعتهم في المنشط والمكره ، وفي كل ما أمروا به ، فمن خالف أو قال : " لِمَ " لَم يفلح أبدًا ، ويكفي الإشارة عن التصريح عند الحذاق أهل الاعتناء ، فإن تعارض أمر الأمراء وأمر الشيوخ ، قدَّم أمر الشيخ إلا لفتنة فادحة ، فإن الشيخ يأمر بطاعتهم أيضًا لما يؤدي من الهرج بالفقراء ، فإن تنازعتم يا معشر الفقراء ، في شيء من علم الشريعة أو الطريقُ ، فردوه إلى الكتاب والسنُّة . قال الجنيد رضي الله عنه : طريقتنا هذه مؤيدة بالكتاب والسنة ، فمن لم يقرأ القرآن ويتعلم الحديث لا يُقتدى به في هذا الشأن . ه . ويكفي المهم من ذلك ، وهو ما يتوقف عليه أمر عبادته . والله تعالى أعلم .
(1/445)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
قلت : { رأيت المنافقين } ، وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالنفاق وذمًا لهم به . وكان القياس : رأيتهم ، و { صدودًا } : مصدر ، أو اسم مصدر الذي هو الصد ، والفرق بينه وبين المصدر : أن المصدر اسم للمعنى الذي هو الحدث ، واسم المصدر اسم للفظ المحسوس ، و { يحلفون } حال . و { في أنفسهم } يتعلق بقُل ، وقيل ببليغًا . وهو ضعيف؛ لأن الصفات لا يتقدم عليها معمولها ، اللهم إلا أن يتوسع في الظروف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم تر } يا محمد { إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } وهم المنافقون ، { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } ، كعب بن الأشرف لفرط طغيانه . وفي معناه كل من يحكم بالباطل ، { وقد أُمروا أن يكفروا به } ، ويؤمنوا بالله ويرضوا بحكمه . { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا } ، بأن يصرفهم عن حكم الله ورسوله .
قال ابن عباس : إنَّ منافقًا خَاصَمَ يَهُودِيًّا فَدَعَاهُ اليَهُوديُّ إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحكم لليهودي بالحق؛ فلم يرض المنافق ، وقال : نتحاكم إلى عُمَر ، فقال اليهودي : نعم فذهبا إلى عمر رضي الله عنه فقال اليهودي : قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضى بقضائه وخاصم إليك ، فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ . قال : نعم ، فقال : على رسلكما حتى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ سيفه فخرج ، فضرب به عنق المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله ورسوله ، فنزلت الآية . . وقال جبريل رضي الله عنه : إن عمر فرّق بين الحق والباطل . فسُمي الفاروق .
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين } أي : بعضَهم ، { يصدون عنك } غير راضين بحكمك { صدودًا } عظيمًا . { فكيف } يكون حالهم { إذا أصابتهم مصيبة } كقتل عمر المنافقَ ، بسبب ما قدمت { أيديهم } من عدم الرضى بحكم الله ، { ثم جاؤوك } يطلبون ديّة صاحبهم ، { يحلفون بالله إن أردنا } بالإنصراف إلى عمر { إلا أحسانًا } منه بالخصمين ، { وتوفيقاً } بينهما ، قطعًا للنزاع بينهما ، قال تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } من النفاق ، فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من الله شيئًا ، أو يعلم الله ما في قلوبهم من الطمع في الدية ، { فأعرض عنهم } ، أي : عن قبول معذرتهم ولا تمكنهم من طمعهم ، { وقل لهم في أنفسهم } ، أي : خاليًا بهم { قولاً بليغًا } يبلغ إلى قلوبهم ، ويؤثر فيهم ، لينزجروا عن طلب دم صاحبهم ، وإنما أمر أن يعظهم خاليّا لأن النصح في ذلك أنجح ، وأقرب للقبول ، ولذلك قيل : من نصحك وَحدَكَ فقد نصحك ، ومن نصحك مع الناس فقد فضحك . والله أعلم .
الإشارة : كل من دخل تحت ولاية شيخ التربية ، وجب أن يرد حكوماته كلها إليه ، ويرضى بما قضى عليه ، وترى بعض الفقراء يزعمون أنهم في تربية الشيخ وتحت أحكامه ، ثم يتحاكمون إلى حُكام الجور وقضاة الزمان في أمر الدنيا وما يرجع إليها ، فهؤلاء قد ضلوا ضلالاً بعيدًا .
(1/446)

إلا أن يتوبوا ويُصلحوا ما أفسدوا ، بإصلاح قلب الشيخ حتى يجبر كسرهم ، فالمريد الصادق لا يصل إلى الحاكم ، ولو ذهب ماله كله ، فإن كان ولا بد . فليوكل عنه في ذلك .
فيكيف إذا أصابت هؤلاء مصيبة وهي ظلمة القلب ، وفتنة الدنيا بسبب ما قدمت أيديهم من تخطى حكم شيخهم إلى حُكم غيره ، ثم جاؤوك يحلفون بالله ما أردنا إلا أحسانًا وهو حفظ مالنا ، وتوفيقًا بيننا وبين خصمنا ، فيجب على الشيخ أن يُعرض عن عتابهم ويذكرهم حتى يتوبوا ، فإن تابوا فإن الله غفور رحيم .
(1/447)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
قلت : { توابًا رحيمًا } مفعولاً ( وَجَدَ ) أن كانت علمية ، أو { توابًا } حال ، و { رحيمًا } بدل منه ، أو حال من ضميره إن فسرت بصادف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما أرسلنا من رسول } من لدن آدم إلى زمانك ، { إلا ليُطاع بإذن الله } وأمره بطاعته ، فمن لم يطعه ولم يرض بأحكامه فهو كافر به . { ولو أنهم } أي : المنافقون حين { ظلموا أنفسهم } بالترافع إلى غيرك ، والتحاكم إلى الطاغوت { جاؤوك } تائبين { فاستغفروا الله } بالتوبة ، { واستغفر لهم الرسول } حين اعتذروا إليه حتى انتصب لهم شفيعًا ، { لوجدوا الله } أي : تحققوا كونه { توابًا رحيمًا } ، قابلاً لتوبتهم متفضلاً عليهم بالرحمة والغفران . وإنما عدل عن الخطاب في قوله : { واستغفر لهم الرسولُ } ولم يقل : واستغفرت لهم ، تفخيمًا لشأنه ، وتنبيهًا على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائبين ، وإن عَظُم جُرمُهم ، ويشفع لهم ، ومن جلالة منصبه أن يشفع في عظائم الذنوب وكبائرها .
ثم أقسم بربوبيته على نفي إيمان من لم يرض بحكم رسوله ، فقال : { فلا وربك لا يؤمنون } إيمانًا حقيقيًا { حتى يحكموك } أي : يترافعوا إليك ، راضين بحكمك ، { فيما شَجَر بينهم } أي : اختلط بينهم واختلفوا فيه { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا } أي : ضيقًا وشكًا { مما قضيت } ، بل تنشرح صدورهم لحكمك؛ لأنه حق من عند الله . { ويُسلموا } لأمرك { تسليمًا } . أي ينقادوا لأمرك ظاهرًا وباطنًا .
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } ، توبة من ذنوبكم ، كما كتبناه على بني إسرائيل ، أو في الجهاد في سبيل الله ، { أو اخرجوا من دياركم } كما خرج بنو إسرائيل حين أمرناهم بالهجرة من مصر ، { ما فعلوه إلا قليل منهم } وهم المخلصون . قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ( لو كتب ذلك علينا أنا أول خارج ) . قال ثابت بن قيس بن شماس : ( لو أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل نفسي لفعلت ) . وكذلك قال عُمر وعمارُ بن ياسر وابنُ مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أمرنا لفعلنا . فبلغ ذلك النبيُ صلى الله عليه وسلم فقال : " إنَّ مِن أُمَّتِي رِجَالاً : الإيمَانُ في قُلُوبِهِم أثبَتُ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي " فهؤلاء من القليل .
وسبب نزول قوله : { فلا وربك . . . } الخ : قضية الزُّبَيرِ مع حَاطِب في شرَاج الحَرَّة ، كَانَا يسقيانِ به النّخل ، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام : " اسقِ يا زُبيرُ وأرسِل إلى جارِكَ " فقال حَاطبُ : لأن كَان ابن عمتك . فقال عليه الصلاة والسلام : " اسقِ يا زُبيرُ ، واحِبِس الماءَ حتَّى يبلغ الجدر واستوف حقك " وقيل : نزلت في اليهودي مع المنافق المتقدم ، وهو أليق بالسياق .
{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من طاعة الرسول ، والرضى بحكمه ، { لكان خيرًا لهم } في آجلهم وعاجلهم ، { وأشد تثبيتًا } في دينهم وقوة في إيمانهم ، أو تثبيتًا لثواب أعمالهم ، { وإذًا } لو فعلوا ذلك { لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا ولهديناهم صراطًا مستقيمًا } يصلون بسلوكه إلى حضرة القدس ، ودوام الأنس ، ويفتح لهم أسرار العلوم ، ومخازن الفهوم ، قال صلى الله عليه وسلم :
(1/448)

" من عَمِلَ بما عِلَمَ أورثه الله علمَ ما لم يعلم " والله تعالى أعلم .
الإشارة : كما أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته ، أمر بطاعة ورثته بعد مماته ، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون في الأحكام ، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام ، فالعلماء حُكَّام على العموم ، والأولياء حكام على الخصوص ، أعني من تعلق بهم من أهل الإرادة ، فمن لم يرض بحكم العلماء ، ووجد في نفسه حرجًا مما قضوا به عليه ، ففيه شُبعة من النفاق ، وخصلة من المنافقين . ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم ، ومن عُش تربيتهم ، لأن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحكم ورثته هو حكم الله ، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان .
فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله ، القهرية والتكليفية ، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية ، كيفما كان ، فقرًا أو غنى ، ذلاً أو عزًا ، منعًا أو عطاء ، قبضًا أو بسطًا ، مرضًا أو صحة ، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير . ويرضى بذلك ظاهرَا وباطنًا ، وينسلخ من تدبيره واختياره؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه ، وأرحم به من أمه وأبيه : وبالله التوفيق . وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/449)

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
قلت : { رفيقاً } : تمييز لما في { حَسُن } من معنى التعجب أو المدح ، ولم يجمع؛ لأن فعيلا يُحمل على الواحد والجمع ، أو لأنه أريد حسن كل واحد منهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن يطع الله والرسول } ويرضى بأحكامهما ويمتثل أمرهما ويجتنب نهيهما ، { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } ، وهم أكرم الخلق عند الله وأعظمهم قدرًا { من النبيين } والمرسلين { والصديقين } وهم من كثر صدقهم وتصديقهم وعظم يقينهم؛ وهم الأولياء العارفون بالله ، { والشهداء } الذين ماتوا جهادًا في سبيل الله ، { والصالحين } وهم العلماء الأتقياء ، ومن صلح حاله من عامة المسلمين .
قال البيضاوي : قسمهم أربعة أقسام ، بحسب منازلهم في العلم والعمل ، وحث كافة الناس على ألاَّ يتأخروا عنهم ، وهم : الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل ، المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل . ثم الصديقون الذين صعِدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات ، وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان ، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها . ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد في إظهار الحق ، حتى بذلوا مُهَجَهُم في أعلاء كلمة الله ، ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته ، وأحوالهم في مرضاته ، ولك أن تقول : المُنعَمُ عليهم هم العارفون بالله ، وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان ، أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان ، والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب ، بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبًا ، وهم الأنبياء ، أو لا ، فيكونون كمن يرى الشيء بعيدًا ، وهم الصديقون ، والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة ، وهم العلماء الراسخون الذين هم شهداء الله في أرضه ، وإما أن يكون بأمارات وإقناعات تطمئن إليها نفوسهم ، وهم الصالحون . انتهى كلامه .
وفيه نظر من وجهين : أحدهما : أنه أطلق على أهل الاستدلال أنهم عارفون ، ولا يقال عند الصوفية فيه عارف ، حتى يترقى عن مقام الاستدلال ، وإلا فهو عالم فقط ، والثاني : أنه جعل الصديقين بمنزلة من يرى الشيء بعيدًا ، وأهل الفناء لم يبق لهم بُعدٌ ، بل غابوا في القرب حتى امتحى اسمهم ورسمهم . فأيُّ بينونة وأيُّ بُعد يبقى للعارف ، لولا فقدان الذوق ، ولكن لكلِّ فنِ أربابُه ، وسيأتي في الإشارة تحقيق ذلك إن شاء الله .
ثم قال جلّ جلاله : { وحسن أولئك رفيقًا } أي : ما أحسنهم رفقًا في الفراديس العُلى ، فهم يتمتعون فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم ، وإن كانوا أعلى منهم ، فلا يلزم من كونه معهم أن تستوي درجته معهم ، قال في الحاشية : وتعقل مرافقة من دون النبي في المدانات من حاله وكشفه ، بحيث لا يحجب عنه ، وإن كان لا مطمع له في منزلته ، واعتبر برؤية البصائر له وعدم غيبته عنهم وأنسهم به والاستفادة منه ، رُوِي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
(1/450)

" يزور الأعلَون من أهل الجنة الأسفلين ، ولا يزور الأسفلون الأعلين ، إلا من كان يزور في الله في الدنيا ، فذلك يزور الجنة حيث شاء " .
رُوِيَ أن ثَوبَانَ مَولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أتاه يومًا وَقَد تَغَيَّر وَجهُهُ وَنَحَلَ جِسمُهُ ، فسأله عليه الصلاة والسلام عن حاله ، فقال : ما بي وَجَعٌ ، غَيرَ أنِّي إذَا لَمْ أرَكَ اشتقْتُ إليك ، واستَوحَشتُ وَحشةً شَدِيدَةً حَتَى ألقَاكَ ، ثمَّ ذَكَرتُ الآخِرَةَ فخفت ألا أرَاكَ هُنَاكَ؛ لأني عرفت أنكَ تُرفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ . وإن دخلتُ الجَنَّة ، كُنتُ في مَنزلٍ أدون مِن مَنزِلكَ ، وأن لَم أدخُلِ الجَنَّةَ فّذَلكَ حَرِيّ ألا أرَاكَ أبَدًا . فنزلت الآية { ومَن يطع الله والرسول . . . } الخ .
{ ذلك الفضل من الله } إشارة إلى ما للمطيعين من الأجور ، ومزيد القرب والحضور ، وأنه فضل تفضل على عباده ، { وكفى بالله عليمًا } بمقادير الأعمال والمقامات . فيُجازى كُلاًّ على حسب مقامه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الطاعة التي توجب المعية الحسية في النعيم الحسي الجسماني هي الطاعة الظاهرة الحسية . والطاعة التي توجب المعية المعنوية في النعيم الروحاني هي الطاعة الباطنية القلبية . فالمعية الحسية صاحبها مفروق ، والمعية المعنوية صاحبها مجموع ، لا يغيب عن حبيبه لحظة . هؤلاء هم الصديقون المقربون . وفوقهم الأنبياء ، وتحتهم الشهداء والصالحون .
وبيان ذلك أن العلم بالله تعالى : إما أن يكون عن كشف الحجاب وانقشاع السحاب ، أعني سحاب الأثر ، وهم أهل الشهود والعيان . وإما أن يكون من وراء الحجاب ، يأخذون أجرهم من وراء الباب ، يستدلون بالآثار على المؤثر . وهم أهل الدليل والبرهان . والأولون إما أن يرتقوا إلى مكافحة الوحي ورؤية الملائكة الكرام . وهم الأنبياء والرسل عليه الصلاة والسلام - ، وإما أن يقصروا عن درجة الوحي ويكون لهم وحي إلهام ، وهم الصديقون؛ أهل الحال والمقام ، فقد اشتركوا في مقام العيانِ . لكن مقام الحضرة فضاؤه واسع ، والترقي في معارج أسرار التوحيد غير متناهٍ ، فحيث انتهى قدم الولي ابتدأ ترقي النبي ، وأما أهل الحجاب فإما أن يكون علمهم بالله بالبراهين القطعية والدلائل السمعية ، وهم العلماء الراسخون ، وهو مقام الشهداء ، وإما أن يكون علمهم بالرياضات والمجاهدات وتواتر الكرامات ، وهم العباد والزهاد . وهو مقام الصالحين ، ويلتحق بهم عوام المسلمين ، لأن كل مقام من هذه المقامات في درجات ومقامات لا يحصرها إلا العالم بها . والله تعالى أعلم .
(1/451)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
قلت : الحِذر والحَذَر واحد ، كالشِّبه والشِّبَه ، وبَطًأ يستعمل لازمًا بمعنى ثقل ، ومتعديًا بالتضعيف أي : بطَّأ غيره ، و { لَمَن ليبطئن } اللام الأولى للابتداء ، والثانية للقسم ، أي : وإنَّ منكم أُقسم بالله لمن ليبطئن . وجملة : { كأن لم يكن } : اعتراضية بين القول والمقول ، تنبيهًا على ضعف عقيدتهم ، وأن قولهم هذا قولُ من لا مواصلة بينكم وبينه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } تأهبوا واستعدوا لجهاد الأعداء ، و { خذوا حذركم } منهم؛ بالعُدَّةِ والعَدَد ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، ولا حجة فيه للقدرية؛ لأن هذا من الأسباب التي ستر الله بها أسرار القدرة . وقد قال لنبيِّه عليه الصلاة والسلام : { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } [ التوبة : 51 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " اعقلها وتوكل " وفي ذلك طمأنينة للقلوب التي لم تطمئن وتشريعًا للضعفاء ، فإذا تأهبتم واستعددتم { فأنفروا } أي : اخرجوا إلى الجهاد { ثُباتٍ } أي : جماعات متفرقة ، سرية بعد سرية ، { أو انفروا جميعًا } أي : مجتمعين مع نبيكم ، أو مع أميركم .
{ وإن منكم } يا معشر المسلمين { لمن ليبطئن } الناس عن الجهاد ، أول ليتثاقلن ويتخلفن عنه ، وهو عبدالله بن أُبُيّ المنافق ، وأشباهه من المنافقين ، { فإن أصابتكم مصيبة } ؛ كقتل أو هزيمة { قال قد أنعم الله عليّ } حين تخلفت { إذا لم أكن معهم شهيدًا } فيصيبني ما أصابهم . { ولئن أصابكم فضل من الله } ، كنصر وغنيمة ، { ليقولن } لفرط عداوته : { يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزًا عظيمًا } ، بالمال والعز . كأن ذلك المنافق ، لم يكن بينكم وبينه مودة ولا مواصلة أصلاً ، حيث يتربص الدوائر ، يفرح بمصيبتكم ويتحسر بعزكم ونصركم .
فإن تثاقل هذا عن القتال أو بطَّأ غيره ، { فليقاتل في سبيل الله } أهلُ الإخلاص والإيمان { الذين يشرون } ، أي : يبيعون { الحياة الدنيا بالآخرة } ، فيؤثرون الآخرة الباقية على الدنيا الفانية ، { ومن يقاتل في سبيل الله } لإعلاء كلمة الله { فيُقتل } شهيدًا { أو يَغلب } عدوه وينصره الله { فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا } ، وإنما قال تعالى : { فيُقتل أو يَغلب } تنبيهًا على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة ، حتى يعز نفسه بالشهادة ، أو الدين بالظفر والنصر . وألا يكون قصده بالذات القتل ، بل إعلاء الحق وإعزاز الدين . قاله البيضاوي .
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص؛ خذوا حذركم من خدع النفوس ، لئلا تعوقكم عن حضرة القدوس ، فانفروا إلى جهادها ثُباتٍ أو جماعة؛ " فإن يد الله مع الجماعة ، فالصحبة عند الصوفية شرط مؤكد وأمر محتم . والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح ، فالنفس الحية لا تموت مع الأحياء ، وإنما تموت مع الأموات ، فهي كالحوت ما دامت في البحر مع الحيتان لا تموت أبدًا ، فإذا أخرجتها وعزلتها عن أبناء جنسها ماتت سريعًا .
(1/452)

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
قلت : { ما } مبتدأ . و { لكم } خبر . و { لا تقاتلون } حال ، و { المستضعفين } عطف على اسم الجلالة ، أي : أيَ شيء حصل لكم حال كونكم غير مجاهدين في سبيل الله وفي تخليص المستضعفين؟ و { الظالم } نعت للقرية ، وإنما ذُكَّر ولم يؤنث ، لأنه أسند إلى المذكر ، واسم الفاعل إذا جرى على غير مَن هُوَ لَهُ أجرى مجرى الفعل ، فيذكر ويؤنث باعتبار الفاعل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما لكم } يا معشر المسلمين { لا تقاتلون في سبيل الله } ، وفي تخليص إخوانكم { المستضعفين } بمكة ، الذين حبسهم العدو أو أسرهم ومنعهم من الهجرة؛ { من الرجال والنساء والولدان } ، فهم في أيديهم مغللون ممتحنون . قال البيضاوي : وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيهًا على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان ، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء ، حتى تشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية . ه .
ثم ذكر دعاءهم فقال : { الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية } أي : مكة { الظالم أهلها } بالشرك والطغيان حتى تعدى إلى النساء والصبيان . { واجعل لنا من لدنك وليًّا } يصوننا عن أذاهم ، { ونصيرًا } يمنعنا من التخلف عن الهجرة إلى رسولك صلى الله عليه وسلم ، فاستجاب الله دعاءهم بأن يسَّر لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وجعل لمن بقي منهم أعظم ولي وناصر ، بفتح مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم ونصرهم ، واستعمل عليهم عتَّاب بن أسيد ، فحماهم وأعزهم حتى صارو أعزاء أهلها ، كما هي عادته سبحانه في إجابة دعاء المضطرين .
الإشارة : ما لكم يا معشر العِباد ، وخصوصًا المريدين من أهل الجد والاجتهاد ، لا تجاهدون نفوسكم في طريق الوصول إلى الله ، كي تنالوا بذلك مشاهدة جماله وسناه ، وتخلصوا ما كمن في نفوسكم من الأسرار ، وما احتوت عليه من العلوم والأنوار . فإن قرية البشرية قد احتوت عليها وأسرتها بظلمات شهواتها ، واستضعفتها بتراكم غفلتها وتكثيف حجاب حسها . فمن جاهدها استخلص جواهر تلك العلوم والأسرار مِن صَدَفِها . وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه :
ولم تزل كُلُّ النُّفُوسِ الأحيا ... عَلاَّمة درَّاكة للأشيَا
وإنما تَعُوقُها الأبدَان ... والأنفس النزع والشَّيطَان
فكلُّ مَن أذَاقَضهم جهادَه ... أظهرَ للقاعد خَرقَ العاده
وقال أيضًا :
وَهِيَ مِن النفوس في كُمُون ... كما يكون الحَبُّ في الغُصُون
فالرجال : الأسرار والأنوار ، والنساء : العلوم والأذكار ، والولدان : الحكم بنات الأفكار . فكل هؤلاء مستضعفون تحت قهر البشرية الظالم أهلها . ومن الأنفس النزع والشياطين المغوية ، فكل من جاهد هؤلاء القواطع أظهر تلك العلوم والأنوار السواطع ، واستخلص رُوحه من أسر حجاب الأكوان ، وأفضى إلى فضاء الشهود والعيان . وبالله التوفيق . وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/453)

الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
يقول الحقّ جلّ جلاله : في مدح المخلصين : { الذين آمنوا يُقاتلون في سبيل الله } ، وابتغاء مرضات الله ، وإعلاء كلمة الله ، { والذين كفروا } ، من أهل مكة وغيرهم ، { يُقاتلون في سبيل الطاغوت } وهو الشيطان ، { فقاتلوا } يا أولياء الله { أولياء الشيطان } ولا يهولكم كيده؛ { إن كيد الشيطان كان ضعيفًا } ، وكيد الله للكافرين كان قويًا متينًا ، فلا تخافوا أولياءه ، فأنهم اعتمدوا على أضعف شيء وأوهنه ، وأنتم اعتمدتم على أقوى شيء وأمتَنِه .
الإشارة : كل ما سوى الله طاغوت ، فمن قصد بجهاده أو عمله رضى الله والوصول إلى حضرته دون شيء سواه ، كان من أولياء الله ، ومن قصد بجهاده أو أعماله حظًا دنيويًا أو أخرويًا خرج من دائرة الولاية ، فإما أن يكون مع عامة أهل الإيمان ، أو من أولياء الشيطان . قال صلى الله عليه وسلم " إنَّما الأعمَالُ بالنيات ، وإنما لكلِّ امرىءٍ مَا نَوَى ، فمن كانَت هجرَتُه إلى الله ورسولِه فهجرتُه إلى اللهْ ورسولِه ، ومن كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبهُا أو امرأةٍ ينكِحُها ، فهجرتُه إلى ما هَاجَرَ إليه " وقال في الحِكَم : " لا ترحل من كَونٍ إلى كَونٍ ، فتكون كحمار الرحى ، يسير والذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه ، ولكن أرحل من الأكوانِ إلى المُكَوِّنِ ، { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } [ النُجُم : 42 ] " .
(1/454)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ . . . }
قلت : { أو أشد } عطف على الكاف النائبة عن المصدر ، أي : خشيةً مثل خشية الله أو أشد ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : مثل خشيتهم الله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم تر } يا محمد { إلى الذين } طلبوا منك فرضَ الجهاد حرصًا على أن يجاهدوا ، فقيل لهم على لسان الرسل : { كُفّوا أيديكم } عنه إلى أوَانِ فَرضِه ، واشتغلوا بما أُمِرتم به من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، { فلما كُتب عليهم القتال } دخلهم الخوف { إذا فريق منهم يخشون الناس } أي : الكفار ، أن يقتلوهم مثل خشية عقاب { الله } أو أشد خشية منه . { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } في هذا الوقت { لولا } : هلاّ { أخّرتنا إلى أجل قريب } نتمتع فيه بحياتنا أو إلى أن نموت بآجالنا . قلت : والظاهر أنهم قالوا ذلك في نفوسهم ، خواطر خطرت لهم ، ولم يفوهوا به ، إن نزلت في الصحابة رضي الله عنهم ، وإن كانت في المنافقين فيمكن أن ينطقوا بها .
{ قل متاع الدنيا قليل } وعيشها ذليل ، وأجلها قريب ، { والآخرة خير لمن اتقى } ، وحياتها خير وأبقى ، وسَتَقدُمون على مولاكم ، فيكرم مثواكم ، ويوفيكم جزاء أعمالكم ، { ولا تظلمون فتيلاً } من ثواب أعمالكم ، ولا تنقصون من أيام أعماركم ، جاهدتم أو قعدتم .
{ أينما تكونوا يدرككم الموت } عند انقضاء آجالكم ، { ولو كنتم في بروج مشيدة } عالية محصنة . فإن كان الموت لا بد منه ففي الجهاد أفضل ، لأنه حياة لا موتَ بعده . قال الكلبي : نزلت في قوم من الصحابة ، منهم : عبد الرحمن بن عوف ، والمِقدادُ وقٌدامة بن مَظعون وغيرهم ، كانوا يُؤذَونَ بمكة ، ويستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في القتال ، فيقول لهم : كفوا أيديكم حتى يُؤذن فيه لكم ، فلما هاجروا إلى المدينة وأُمروا به ، كرهه بعضهم كراهية الطبع البشري ، فخطر ببالهم شيءٌ مما حكى الله عنهم . فلما كانوا في عين العناية ومحل القرب والهداية عوقبوا على تلك الخواطر ، ولو كان غيرهم من أهل البُعد لسُومح له في ذلك ، وقيل : نزلت في قوم من المؤمنين أُمروا بالجهاد فنافقوا من الجُبن ، وتخلفوا عن الجهاد ، وهذا أليق بما بعده من قوله : { إن تصبهم حسنة } . والله تعالى أعلم .
الإشارة : نرى بعض الفقراء يبطشون إلى مقام التجريد ومجاهدة نفوسهم قبل كمال يقينهم ، فإذا أُمِروا بذلك ، ورأوا ميادين الحروب واشتعال نيران قتل النفوس ، وأمروا بالصبر على المكاره ، من مواجهة الإنكار ولحوق الذل والافتقار ، جبنوا وكلَّوا ورجعوا القهقرى ، فيقال لهم : متاعُ الدنيا قليل وعزيزها ذليل ، وغنيها فقير ، وكبيرها حقير ، وما تنالون من الله في جزاء مجاهدتكم خيرٌ وأبقى ، ولا تُظلمون فتيلاً من مجاهدتكم لنفوسكم ، فلو صبرتم لفزتم بالوصول إلى حضرة ربكم ، فلما جبُنتُم ورجعتم ، كان جزاؤكم الحرمان ، عما ظفر به أهل العرفان .
(1/455)