الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
وحين الغفلة: هو الوقت الذي يغفل فيه أهل المدينة عما يجري فيها وهو وقت استراحة الناس وتفرقهم وخلو الطريق منهم. قيل: كان ذلك في وقت القيلولة وكان موسى مجتازا بالمدينة وحده، قيل ليلحق بفرعون إذ كان فرعون قد مر بتلك المدينة. والمقصود من ذكر هذا الوقت الإشارة إلى أن قتله القبطي لم يشعر به أحد تمهيدا لقوله بعد { قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} الآيات ومقدمة لذكر خروجه من أرض مصر.
والإشارتان في قوله {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} تفصيل لما أجمل في قوله {رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} .
واسم الإشارة في مثل هذا لا يراعى فيه بعد ولا قرب، فلذلك قد تكون الإشارتان متماثلتين كما هنا وكما في قوله تعالى {لا إِلَى هَؤُلاءِ} ويجوز اختلافهما كقول المتلمس:
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد
والشيعة: الجماعة المنتمية إلى أحد، وتقدم آنفا في قوله {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} . والعدو: الجماعة التي يعاديها موسى، أي يبغضها. فالمراد بالذي من شيعته أنه رجل من بني إسرائيل، وبالذي من عدوه رجل من القبط قوم فرعون. والعدو وصف يستوي فيه الواحد والجمع كما تقدم عند قوله تعالى {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} في [سورة الشعراء: 77].
ومعنى كون {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} يجوز أن يكون المراد بهذين الوصفين أن موسى كان يعلم أنه من بني إسرائيل بإخبار قصة التقاطه من اليم وأن تكون أمه قد أقضت إليه بخبرها وخبره كما تقدم، فنشأ موسى على عداوة القبط وعلى إضمار المحبة لبني إسرائيل.
وأما وكزه القبطي فلم يكن إلا انتصارا للحق على جميع التقادير، ولذلك لما تكررت الخصومة بين ذاك الإسرائيلي وبين قبطي آخر وأراد موسى أن يبطش بالقبطي لم يقل له القبطي: إن تريد إلا أن تنصر قومك وإنما قال {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} [القصص: 19].
(20/29)

قيل: كان القبطي من عملة مخبز فرعون فأراد أن يحمل حطبا إلى الفرن فدعا إسرائيليا ليحمله فأبى فأراد أن يجبره على حمله وأن يضعه على ظهره فاختصما وتضاربا ضربا شديدا وهو المعبر عنه بالتقاتل على طريق الاستعارة.
والاستغاثة: طلب الغوث وهو التخليص من شدة أو العون على دفع مشقة. وإنما يكون الطلب بالنداء فذكر الاستغاثة يؤذن بأن الاسرائيلي كان مغلوبا وأن القطبي اشتد عليه وكان ظالما إذ لا يجبر أحد على عمل يعمله.
والوكز: الضرب باليد بجمع أصابعها كصورة عقد ثلاثة وسبعين، ويسمى الجمع بضم الجيم وسكون الميم.
و {فَقَضَى عَلَيْهِ} جملة تقال بمعنى مات لا تغير. ففاعل (قضى) محذوف أبدا على معنى قضى عليه قاض وهو الموت. ويجوز أن يكون عائدا إلى الله تعالى المفهوم من المقام إذ لا يقضي بالموت غيره كقوله {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14]. وقيل ضمير {فَقَضَى} عائد إلى موسى وليس هذا بالبين. فالمعنى: فوكزه موسى فمات القبطي. وكان هذا قتل خطأ صادف الوكز مقاتل القبطي ولم يرد موسى قتله. ووقع في سفر الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني أن موسى لما رأى المصري يضرب العبراني التفت هنا وهناك ورأى أن ليس أحد فقتل المصري وطمره في الرمل.
وجملة {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل: ماذا كان من أمر موسى حين فوجئ بموت القبطي. وحكاية ذلك للتنبيه على أن موسى لم يخطر بباله حينئذ إلا النظر في العاقبة الدينية. وقوله هو كلامه في نفسه.
والإشارة بهذا إلى الضربة الشديدة التي عليها الموت أو إلى الموت المشاهد من ضربته، أو إلى الغضب الذي تسبب عليه موت القبطي. والمعنى: أن الشيطان أو قد غضبه حتى بالغ في شدة الوكز. وإنما قال موسى ذلك لأن قتل النفس مستقبح في الشرائع البشرية فإن حفظ النفس المعصومة من أصول الأديان كلها. وكان موسى يعلم دين آبائه لعله بما تلقاه من أمه المرأة الصالحة في مدة رضاعه وفي مدة زيارته إياها.
وجملة {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} تعليل لكون شدة غضبه من عمل الشيطان إذ لولا الخاطر الشيطاني لاقتصر على القبطي أو كفه عن الذي من شيعته، فلما كان الشيطان عدوا للإنسان وكانت له مسالك إلى النفوس استدل موسى بفعله المؤدي إلى قتل نفس أنه
(20/30)

فعل ناشئ عن وسوسة الشيطان ولولاها لكان عمله جاريا على الأحوال المأذونة.
وفي هذا دليل على أن الأصل في النفس الإنسانية هو الخير وأنه الفطرة وأن الانحراف عنها يحتاج إلى سبب غير فطري وهو تخلل نزع الشيطان في النفس.
ومتعلق {عَدُوٌّ} محذوف لدلالة المقام أي عدو لآدم وذرية آدم.
ورتب على الأخبار عنه بالعداوة وصفه بالإضلال لأن العدو يعمل لإلحاق الضر بعدوه. و {مُبِينٌ} وصف لـ {مُضِلٌّ} لا خبر ثان ولا ثالث.
[16] {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
بدل اشتمال من جملة {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] لأن الجزم بكون ما صدر منه من عمل الشيطان وتغريره يشتمل على أن ذلك ظلم لنفسه، وأن يتوجه إلى الله بالاعتراف بخطئه ويفرع عليه طلب غفرانه. وسمى فعله ظلما لنفسه لأنه كان من أثر فرط الغضب لأجل رجل من شيعته، وكان يستطيع أن يملك من غضبه فكان تعجيله بوكز القبطي وكزة قاتلة ظلما جره لنفسه. وسماه في [سورة الشعراء: 20] ضلالا {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}.
وأراد بظلمه نفسه أنه تسبب لنفسه في مضرة إضمار القبط قتله، وإنه تجاوز الحد في عقاب القبطي على مضاربته الإسرائيلي. ولعله لم يستقص الظالم منهما وذلك انتصار جاهلي كما قال وداك ابن ثميل المازني يمدح قومه:
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
وقد اهتدى موسى إلى هذا كله بالإلهام إذ لم تكن يومئذ شريعة إلهية في القبط. ويجوز أن يكون علمه بذلك مما تلقاه من أمه وقومها من تدين ببقايا دين إسحاق ويعقوب.
ولا التفات في هذا إلى جواز صدور الذنب من النبي لأنه لم يكن يومئذ نبيا، ولا مسألة صدور الذنب من النبي قبل النبوة؛ لأن تلك مفروضة فيما تقرر حكمه من الذنوب بحسب شرع ذلك النبي أو شرع نبي هو متبعه مثل عيسى عليه السلام قبل نبوءته لوجود شريعة التوراة وهو من أتباعها.
(20/31)

والفاء في قوله {فَغَفَرَ لَهُ} للتعقيب، أي استجاب استغفاره فعجل له بالمغفرة.
وجملة {فَغَفَرَ لَهُ} معترضة بين جملة {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} وجملة {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 17] كان اعتراضها إعلاما لأهل القرآن بكرامة موسى عليه السلام عند ربه.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تعليل لجملة {فَغَفَرَ لَهُ} ؛ علل المغفرة له بأنه شديد الغفران ورحيم بعباده، مع تأكيد ذلك بصيغة القصر إيماء إلى أن ما جاء به هو من ظلم نفسه وما حفه من الأمور التي ذكرناها.
[17] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}
إعادة {قَالَ} أفاد تأكيدا لفعل {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}. أعيد القول للتنبيه على اتصال كلام موسى حيث وقع الفصل بينه بجملتي {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . ونظم الكلام: قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، رب بما أنعمت فلن أكون ظهيرا للمجرمين، وليس قوله {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} مستأنفا عن قوله {فَغَفَرَ لَهُ} لأن موسى لم يعلم أن الله غفر له إذ لم يكن يوحى إليه يومئذ.
والباء للسببية في {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} و(ما) موصولة. وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير مجرور بمثل ما جر به الموصول، والحذف في مثله كثير، والتقدير: بالذي أنعمت به علي. ويجوز أن تكون (ما) مصدرية وما صدق الإنعام عليه، هو ما أوتيه من الحكمة والعلم فتميزت عنده الحقائق ولم يبق للعوائد والتقاليد تأثير على شعوره. فأصبح لا ينظر الأشياء إلا بعين الحقيقة، ومن ذلك أن لا يكون ظهيرا وعونا للمجرمين.
وأراد من يتوسم منهم الإجرام منهم الإجرام، وأراد بهم الذين يستذلون الناس ويظلمونهم لأن القبطي أذل الإسرائيلي بغضبه على تحميله الحطب دون رضاه.
ولعل هذا الكلام ساقه مساق الاعتبار عن قتله القبطي وثوقا بأنه قتله خطأ.
واقتران جملة {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} بالفاء لأن الموصول كثيرا ما يعامل معاملة اسم الشرط فيقترن الشرط فيقترن خبره ومتعلقه بالفاء تشبيها له بجزاء الشرط وخاصة إذا كان الموصول مجرورا مقدما فإن المجرور المقدم قد يقصد به معنى الشرطية فيعامل معاملة الشرط في الحديث (كما تكونوا يول عليكم( بجزم (تكونوا) وإعطائه جوابا مجزوما.
(20/32)

والظهير: النصير.
وقد دل هذا النظم على أن موسى أراد أن يجعل عدم مظاهرته للمجرمين جزاء على نعمة الحكمة والعلم بأن جعل شكر تلك النعمة الانتصار للحق وتغيير الباطل لأنه إذا لم يغير الباطل والمنكر وأقرهما فقد صانع فاعلهما، والمصانعة مظاهرة. ومما يؤيد هذا التفسير أن موسى لما أصبح من الغد فوجد الرجل الذي استصرخه في أمسه يستصرخه على قبطي آخر أراد أن يبطش بالقبطي وفاء بوعده ربه إذ قال { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} لأن القبطي مشرك بالله والإسرائيلي موحد.
وقد جعل جمهور من السلف هذه الآية حجة على منع إعانة أهل الجور في شيء من أمورهم. ولعل وجه الاحتجاج بها أن الله حكاها عن موسى في معرض التنويه به فاقتضى ذلك انه من القول الحق.
[18-19] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}
أي أصبح خائفا من أن يطالب بدم القطبي الذي قتله وهو يترقب، أي يراقب ما يقال في شأنه ليكون متحفزا للاختفاء أو الخروج من المدينة لأن خبر قتل القبطي لم يفش أمره لأنه كان في وقت تخلو فيه أزقة المدينة كما تقدم، فلذلك كان موسى يترقب ان يظهر أمر القبطي المقتول.
و(إذا) للمفاجأة، أي ففاجأه أن الذي استنصره بالأمس يستنصره اليوم.
والتعريف في (الأمس) عوض عن المضاف إليه، أي بأمسه إذ ليس هو أمسا لوقت نزول الآية.
والاستصراخ: المبالغة في الصراخ، أي النداء، وهو المعبر عنه في القصة الماضية بالاستغاثة فخولف بين العبارتين للتفنن. وقول موسى له {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} تذمر من الإسرائيلي إذ كان استصراخه السالف سببا في قتل نفس، وهذا لا يقتضي عدم إجابة استصراخه وإنما هو بمنزلة التشاؤم واللوم عليه في كثرة خصوماته.
(20/33)

والغوي: الشديد الغواية وهي الضلال وسوء النظر، أي أنك تشاد من لا تطيقه ثم تروم الغوث مني يوما بعد يوم، وليس المراد أنه ظالم أو مفسد لأنه لو كان كذلك لما أراد أن يبطش بعدوه.
والبطش: الأخذ بالعنف، والمراد به الضرب. وظاهر قوله {عَدُوٌّ لَهُمَا} أنه قبطي. وربما جعل عدوا لهما لأن عداوته للإسرائيلي معروفة فاشية بين القبط وأما عداوته لموسى فلأنه أراد أن يظلم رجلا والظلم عدو لنفس موسى لأنه نشأ على زكاء نفس هيأها الله للرسالة. والاستفهام مستعمل في الإنكار.
والجبار: الذي يفعل ما يريد مما يضر بالناس ويؤاخذ الناس بالشدة دون الرفق. وتقدم في [سورة الرعد: 15] قوله { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، وفي [سورة مريم: 32] قوله {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} .
والمعنى: إنك تحاول أن تكون متصرفا بالانتقام وبالشدة ولا تحاول أن تكون من المصلحين بين الخصمين بأن تسعى في التراضي بينهما. ويظهر أن كلام القبطي زجر لموسى عن البطش به وصار بينهما حوارا أعقبه مجيء رجل من أقصى المدينة.
[20-21] {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
ظاهر النظم أن الرجل جاء على حين محاورة القبطي مع موسى فلذلك انطوى أمر محاورتهما إذ حدث في خلاله ما هو أهم منه وأجدى في القصة.
والظاهر أن أقصى المدينة هو ناحية قصور فرعون وقومه فإن عادة الملوك السكني في أطراف المدن توقيا من الثورات والغارات لتكون مساكنهم أسعد بخروجهم عند الخوف. وقد قيل: الأطراف منازل الأشراف. وأما قول أبي تمام:
كانت هي الوسط المحمي فاتصلت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فلذلك معنى آخر راجع إلى انتقاص العمران كقوله تعالى {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13].
وبهذا يظهر وجه ذكر المكان الذي جاء منه الرجل وأن الرجل كان يعرف موسى.
(20/34)

و {الْمَلأِ} : الجماعة أولو الشأن، وتقدم عند قوله تعالى {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي نوح في الأعراف [60]، وأراد بهم أهل دولة فرعون: فالمعنى: أن أولى الأمر يأتمرون بك، أي يتشاورون في قتلك. وهذا يقتضي أن القضية رفعت إلى فرعون وفي سفر الخروج في الإصحاح الثاني: (فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يقتل موسى). ولما علم هذا الرجل بذلك أسرع بالخبر لموسى لأنه كان معجبا بموسى واستقامته. وقد قيل كان هذا الرجل من بني إسرائيل. وقيل: كان من القبط ولكنه كان مؤمنا يكتم إيمانه، لعل الله ألهمه معرفة فساد الشرك بسلامة فطرته وهيأه لإنقاذ موسى من يد فرعون.
والسعي: السير السريع، وقد تقدم عند قوله {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} في [سورة طه: 20]. وتقدم بيان حقيقته ومجازه في قوله {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} في [سورة الإسراء: 19]. وجملة {يَسْعَى} في موضع الحال من {رَجُلٌ} الموصوف بأنه من {أَقْصَى الْمَدِينَةِ} . و{يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يتشاورون. وضمن معنى (يهمون) فعدي بالباء فكأنه قيل: يأتمرون ويهمون بقتلك.
وأصل الائتمار: قبول أمر الآمر فهو مطاوع أمره، قال امرؤ القيس:
ويعدو على المرء ما يأتمر
أي يضره ما يطيع فيه أمر نفسه. ثم شاع إطلاق الائتمار على التشاور لأن المتشاورين يأخذ بعضهم أمر بعض فيأتمر به الجميع، قال تعالى {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6].
وجملة {قَالَ يَا مُوسَى} بدل اشتمال من جملة { جَاءَ رَجُلٌ} لأن مجيئه يشتمل على قوله ذلك.
ومتعلق الخروج محذوف لدلالة المقام، أي فاخرج من المدينة.
وجملة {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} تعليل لأمره بالخروج. واللام في قوله {لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} صلة، لأن أكثر ما يستعمل فعل النصح معدى باللام. يقال: نصحت لك قال تعالى {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في [سورة التوبة: 91] ووهما قالوا: نصحت. وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة.
والترقب: حقيقته الانتظار، وهو مشتق من رقب إذا نظر أحوال شيء. ومنه سمي المكان المرتفع: مرقبة ومرتقبا، وهو هنا مستعار للحذر.
(20/35)

وجملة {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي} بدل اشتمال من جملة {يَتَرَقَّبُ} لأن ترقبه يشتمل على الدعاء إلى الله بأن ينجيه.
والقوم الظالمون هم قوم فرعون. ووصفهم بالظلم لأنهم مشركون ولأنهم راموا قتله قصاصا عن قتل خطأ وذلك ظلم لأن الخطأ في القتل لا يقتضي الجزاء بالقتل في نظر العقل والشرع.
ومحل العبرة من قصة موسى مع القبطي وخروجه من المدينة من قوله {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [القصص: 14] إلى هنا هو أن الله يصطفي من يشاء من عباده، وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته، وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء هيأ له أسبابه بقدرته فأبرزه على أتقن تدبير، وأن الناظر البصير في آثار ذلك التدبير يقتبس منها دلالة على صدق الرسول في دعوته كما أشار إليه قوله تعالى {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]. وإن أوضح تلك المظاهر استقامة السيرة ومحبة الحق، وأن دليل عناية الله بمن اصطفاه لذلك هو نصره على أعدائه ونجاته مما له من المكائد. وفي ذلك كله مثل للمشركين لو نظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي حالهم معه. ثم {إِنَّ} في قوله تعالى {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} الآية إيماء إلى أن رسوله صلى الله عليه وسلم سيخرج من مكة وأن الله منجيه من ظالميه.
[22] {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}
هذه هجرة نبوية تشبه هجرة إبراهيم عليه السلام إذ قال {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} . وقد ألهم الله موسى عليه السلام أن يقصد بلاد مدين إذ يجد فيها نبيا يبصره بآداب النبوة ولم يكن موسى يعلم إلى أين يتوجه ولا من سيجد في وجهته كما دل عليه قوله {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
فقوله تعالى {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} عطف على جمل محذوفة إذ التقدير: ولما خرج من المدينة هائما على وجهه فاتفق أن كان مسيره في طريق يؤدي إلى أرض مدين حينئذ قال {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . قال ابن عباس: خرج موسى ولا علم له بالطريق إلا حسن ظن ربه.
و {تَوَجَّهَ}: ولى وجهه، أي استقبل بسيره تلقاء مدين.
و {تِلْقَاءَ} : أصله مصدر على وزن التفعال بكسر التاء، وليس له نظير في كسر التاء
(20/36)

إلا تمثال، وهو بمعنى اللقاء والمقاربة. وشاع إطلاق هذا المصدر على جهته فصار من ظروف المكان التي تنصب على الظرفية. والتقدير: لما توجه جهة تلاقي مدين، أي جهة تلاقي بلاد مدين، وقد تقدم قوله تعالى {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} في [سورة الأعراف: 47].
و {مَدْيَنَ}: قوم من ذرية مدين بن إبراهيم. وقد مضى الكلام عليهم عند قوله تعالى {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} في [سورة الأعراف: 85].
وأرض مدين واقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر وكان موسى قد سلك إليها عند خروجه من بلد (رعمسيس) أو (منفيس) طريقا غربية جنوبية فسلك برية تمر به على أرض العمالقة وأرض الأدوميين ثم بلاد النبط إلى أرض مدين. تلك مسافة ثمانمائة وخمسين ميلا تقريبا. وإذ قد كان موسى في سيره ذلك راجلا فتلك المسافة تستدعي من المدة نحوا من خمسة وأربعين يوما. وكان يبيت في البرية لا محالة. وكان رجلا جلدا وقد ألهمه الله سواء السبيل فلم يضل في سيره.
والسواء: المستقيم النهج الذي لا التواء فيه. وقد ألهمه الله هذه الدعوة التي في طيها توفيقه إلى الدين الحق.
[23-24] {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
يدل قوله {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} أنه بلغ أرض مدين، وذلك حين ورد ماءهم. والورود هنا معناه الوصول والبلوغ كقوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] بالماء موضع الماء. وماء القوم هو الذي تعرف به ديارهم لأن القبائل كانت تقطن عند المياه وكانوا يكنون عن أرض القبيلة بماء بني فلان، فالمعنى: ولما ورد، أي عندما بلغ بلاد مدين. ويناسب الغريب إذا جاء ديار قوم أن يقصد الماء لأنه مجتمع الناس فهنالك يتعرف لمن يصاحبه ويضيفه.
و {لَمَّا} حرف توقيت وجود شيء بوجود غيره، أي عندما حل بأرض مدين وجد أمة.
(20/37)

والأمة: الجماعة الكثيرة العدد، وتقدم في قوله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في [البقرة: 213]. وحذف مفعول {يَسْقُونَ} لتعميم ما شأنه أن يسقى وهو الماشية والناس، ولأن الغرض لا يتعلق بمعرفة المسقي ولكن بما بعده من انزواء المرأتين عن السقي كما في (الكشاف) تبعا (لدلائل الإعجاز)، فيكون من تنزيل الفعل المتعدي منزلة اللازم، أو الحذف هنا للاختصار كما اختاره السكاكي وأيده شارحاه السعد والسيد. وأما حذف مفاعيل {تَذُودَانِ -لا نَسْقِي - فَسَقَى لَهُمَا} فيتعين فيها ما ذهب إليه الشيخان. وأمل ما ذهب إليه صاحب المفتاح وشارحاه فشيء لا دليل عليه في القرآن حتى يقدر محذوف وإنما استفادة كونهما تذودان غنما مرجعها إلى كتب الإسرائيليين.
ومعنى {مِنْ دُونِهِمُ} في مكان غير المكان الذي حول الماء، أي في جانب مباعد وللأمة من الناس لأن حقيقة كلمة (دون) أنها وصف للشيء الأسفل من غيره. وتتفرع من ذلك معان مجازية مختلفة العلاقات، ومنها ما وقع في هذه الآية. فـ(دون) بمعنى جهة يصل إليها المرء بعد المكان الذي فيه الساقون. شبه المكان الذي يبلغ إليه الماشي بعد مكان آخر بالمكان الأسفل من الآخر كأنه ينزل إليه الماشي لأن المشي يشبه بالصعود وبالهبوط باختلاف الاعتبار.
ويحذف الموصوف بـ(دون) لكثرة الاستعمال فيصير (دون) بمنزلة ذلك الاسم المحذوف.
وحرف {مِنْ} مع (دون) يجوز أن يكون للظرفية مثل {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]. ويجوز أن يكون بمعنى {عند} وهو معنى أثبته أبو عبيدة في قوله تعالى {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [آل عمران: 10]. والمعنى: ووجد امرأتين في جهة مبتعدة عن جهة الساقين.
و {تذودان} تطردان. وحقيقة الذود فلا يقال: ذدت الناس، إلا مجازا مرسلا، ومنه قوله في الحديث ((فليذادن أقوام عن حوضي)) الحديث.
والمعنى في الآية: تمنعان إبلا عن الماء. وفي التوراة: أن شعيبا كان صاحب غنم وأن موسى رعى غنمه. فيكون إطلاق {تَذُودَانِ} هنا مجازا مرسلا، أو تكون حقيقة الذود طرد الأنعام كلها عن حوض الماء. وكلام أئمة اللغة غير صريح في تبيين حقيقة هذا. وفي سفر الخروج: أنها كانت لهما غنم، والذود لا يكون إلا للماشية. والمقصود من حضور
(20/38)

الماء بالأنعام سقيها. فلما رأى موسى المرأتين تمنعان أنعامهما من الشرب سألهما: ما خطبكما? وهو سؤال عن قصتهما وشأنهما إذ حضرا الماء ولم يقتحما عليه لسقي غنمهما.
وجملة {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} بدل اشتمال من جملة {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} .
والخطب: الشأن والحدث المهم، وتقدم عند قوله تعالى {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [ يوسف : 51] فأجابتا بأنهما كرهتا أن تسقيا في حين اكتظاظ المكان بالرعاء وأنهما تستمران على عدم السقي كما اقتضاه التعبير بالمضارع إلى أن ينصرف الرعاء.
و {الرِّعَاءُ}: جمع راع.
والإصدار: الإرجاع عن السقي، أي حتى يسقي الرعاء ويصدروا مواشيهم، فالإصدار جعل الغير صادرا، أي حتى يذهب رعاء الإبل بأنعامهم فلا يبقى الزحام. وصدهما عن المزاحمة عادتهما كانتا ذواتي مروءة وتربية زكية.
وقرأ الجمهور {يُصْدِرَ} بضم الياء وكسر الدال. وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر {يُصْدِرَ} بفتح حرف المضارعة وضم الدال على إسناد الصدر إلى الرعاء، أي حتى يرجعوا عن الماء، أي بمواشيهم لأن وصف الرعاء يقتضي أن لهم مواشي، وهذا يقتضي أن تلك عادتهما كل يوم سقي، وليس في اللفظ دلالة على أنه عادة.
وكان قولهما {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} اعتذارا عن حضورهما للسقي مع الرجال لعدم وجدانهما رجلا يستقي لهما لأن الرجل الوحيد لهما هو أبوهما وهو شيخ كبير لا يستطيع ورود الماء لضعفه عن المزاحمة.
واسم المرأتين (ليَّا) و(صَفُّورة). وفي سفر الخروج: أن أباهما كاهن مدين. وسماه في ذلك السفر أول مرة رعويل ثم أعاد الكلام عليه فسماه يثرون ووصفه بحمي موسى، فالمسمى واحد. وقال ابن العبري في تاريخه: يثرون بن رعويل له سبع بنات خرج للسقي منهما اثنتان، فيكون شعيب هو المسمى عند اليهود يثرون. والتعبير عن النبي بالكاهن اصطلاح. لأن الكاهن يخبر عن الغيب ولأنه يطلق على القائم بأمور الدين عند اليهود. وللجزم بأنه شعيب الرسول جعل علماؤنا ما صدر منه هذه القصة شرعا سابقا ففرعوا عليه مسائل مبنية على أصل: أن شرع من قبلنا من الرسل الإلهيين شرع لنا ما لم
(20/39)

يرد ناسخ.
ومنها مباشرة المرأة الأعمال والسعي في طرق المعيشة، ووجوب استحيائها، وولاية الأب في النكاح، وجعل العمل البدني مهرا، وجمع النكاح والإجارة في عقد واحد، ومشروعية الإجارة. وقد استوفى الكلام عليها القرطبي. وفي أدلة الشريعة الإسلامية غنية عن الاستنباط مما في هذه الآية إلا أن بعض هذه الأحكام لا يوجد دليله في القرآن ففي هذه الآية دليل لها من الكتاب عند القائلين بأن شرع من قبلنا شرع لنا.
وفي إذنه لابنتيه بالسقي دليل على جواز معالجة المرأة أمور مالها وظهورها في مجامع الناس إذ كانت تستر ما يجب ستره فإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه شرعنا ولم يأت من شرعنا ما ينسخه. وأما تحاشي الناس من نحو ذلك فهو من المروءة والعادات متباينة فيه وأحوال الأمم فيه مختلفة وخاصة ما بين أخلاق البدو والحضر من الاختلاف.
ودخول {لَمَّا} التوقيتية يؤذن باقتران وصوله بوجود الساقين. واقتران فعل {سقى} بالفاء يؤذن بأنه بادر فسقى لهن، وذلك بفور وروده.
ومعنى {فَسَقَى لَهُمَا} أنه سقى ما جئن ليسقينه لأجلهما، فاللام للأجل، أي لا يدفعه لذلك إلا هما، أي رأفة بهما وغوثا لهما. وذلك من قوة مروءته أن اقتحم ذلك العمل الشاق على ما هو عليه من الإعياء عند الوصول.
والتولي: الرجوع على طريقه، وذلك يفيد أنه كان جالسا من قبل في ظل فرجع إليه. ويظهر أن {تَوَلَّى} مرادف (ولى) ولكن زيادة المبنى من شأنها أن تقتضي زيادة المعنى فيكون {تَوَلَّى} أشد من (ولى)، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى {وَلَّى مُدْبِراً} في [سورة النمل: 10].
وقد أعقب إيواءه إلى الظل بمناجاته ربه إذ قال {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . لما استراح من مشقة المتح والسقي لماشية المرأتين والاقتحام بها في عدد الرعاء العديد، ووجد برد الظل تذكر بهذه النعمة نعما سابقة أسداها الله إليه من نجاته من القتل وإيتائه الحكمة والعلم، وتخليصه من تبعة قتل القبطي، وإيصاله إلى أرض معمورة بأمة عظيمة بعد أن قطع فيافي ومفازات، تذكر جميع ذلك وهو في نعمة برد الظل والراحة من التعب فجاء بجملة جامعة للشكر والثناء والدعاء وهي { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
(20/40)

فَقِيرٌ} . والفقير: المحتاج فقوله {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} شكر على نعم سلفت.
وقوله {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} ثناء على الله بأنه معطى الخير.
والخير: ما فيه نفع وملاءمة لمن يتعلق هو به فمنه خير الدنيا ومنه خير الآخرة الذي قد يرى في صورة مشقة فإن العبرة بالعواقب، قال تعالى {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 85].
وقد أراد النوعين كما يرمز إلى ذلك التعبير عن إيتائه الخير بفعل {أُنْزِلَتْ} المشعر برفعة المعطى.
فأول ذلك إيتاء الحكمة والعلم.
ومن الخير إنجاؤه من القتل، وتربيته الكاملة في بذخة الملك وعزته، وحفظه من أن تتسرب إليه عقائد العائلة التي ربي فيها فكان منتفعا بمنافعها مجنبا رذائلها وأضرارها. ومن الخير أن جعل نصر قومه على يده، وأن أنجاه من القتل الثاني ظلما، وأن هداه إلى منجي من الأرض، ويسر له التعريف ببيت نبوءة، وأن آواه إلى ظل.
و(ما) من قوله {لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ} موصولة كما يقتضيه فعل المضي في قوله {أَنْزَلْتَ} لأن الشيء الذي أنزل فيما مضى صار معروفا غير نكرة، فقوله {مَا أَنْزَلْتَ} بمنزلة المعرف بلام الجنس لتلائم قوله {فَقِيرٌ} أي فقير لذلك النوع من الخير، أي لأمثاله.
وأحسن خير للغريب وجود مأوى له يطعم فيه ويبيت وزوجة يأنس إليها ويسكن.
فكان استجابة الله له بأن ألهم شعيبا أن يرسل وراءه لينزله عنده ويزوجه بنته، كما أشعرت بذلك فاء التعقيب في قوله {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} [القصص: 25].
[25] {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
{ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}
عرفت أن الفاء تؤذن بأن الله استجاب له فقيض شعيبا أن يرسل وراء موسى ليضيفه ويزوجه بنته، فلذلك يضمن له أنسا في دار غربة ومأوى وعشيرا صالحا. وتؤذن الفاء أيضا بأن شعيبا لم يتريث في الإرسال وراءه فأرسل إحدى البنتين اللتين سقى لهما وهي
(20/41)

(صفورة) فجاءته وهو لم يزل عن مكانه في الظل.
وذكر {تَمْشِي} ليبني عليه قوله {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} وإلا فإن فعل (جاءته) مغن عن ذكر {تَمْشِي} .
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف. والمعنى: أنها مستحيية في مشيها، أي تمشي غير متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة. وعن عمر بن الخطاب أنها كانت ساترة وجهها بثوبها، أي لأن ستر الوجه غير واجب عليها ولكنه مبالغة في الحياء. والاستحياء مبالغة في الحياء مثل قال تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} إلى قوله {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} .
وجملة {قَالَتْ} بدل من (جاءته). وإنما بينت له الغرض من دعوته مبادرة بالإكرام.
والجزاء: المكافأة على عمل حسن أو سيء بشيء مثله في الحسن أو الإساءة، قال تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وقال تعالى {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} .
وتأكيد الجملة في قوله {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} حكاية لما في كلامها من تحقيق الخبر للاهتمام به وإدخال المسرة على المخبر به.
والأجر: التعويض على عمل نافع للمعوض، ومنه سمي ثواب الطاعات أجرا، قال تعالى {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} . وانتصب {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} على المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير، وهو أن أراد ضيافته، وليس هو المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير، وهو أن أراد ضيافته، ليس هو من معنى إجارة الأجير لأنه لم يكن عن تقاول ولا شرط ولا عادة.
والجزاء إكرام، والإجارة تعاقد. ويدل لذلك قوله عقبه {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} فإنه دليل على أن أباها لم يسبق منه عزم على استئجار موسى. وكان فعل موسى معروفا محضا لا يطلب عليه جزاء لأنه لا يعرف المرأتين ولا بيتهما، وكان فعل شعيب كرما محضا ومحبة لقري كل غريب، وتضييف الغريب من سنة إبراهيم فلا غرو أن يعمل بها رجلان من ذرية إبراهيم عليه السلام.
و {مَا} في قوله {مَا سَقَيْتَ لَنَا} مصدرية، أي سقيك، ولام {لَنَا} لام العلة.
(20/42)

[25 ]{فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
كانت العوائد أن يفاتح الضيف بالسؤال عن حاله ومقدمه فلذلك قص موسى قصة خروجه ومجيئه على شعيب. وذلك يقتضي أن شعيبا سأله عن سبب قدومه، والقصص: الخبر. {وَقَصَّ عَلَيْهِ} أخبره.
والتعريف في {الْقَصَصَ} عوض عن المضاف إليه، أي قصصه، أو للعهد، أي القصص المذكور آنفا. وتقدم نظيره في أول سورة يوسف.
فطمأنه شعيب بأنه يزيل عن نفسه الخوف لأنه أصبح في مأمن من أن يناله حكم فرعون لأن بلاد مدين تابعة لملك الكنعانيين وهم أهل بأس ونجدة. ومعنى نهيه عن الخوف نهيه عن ظن أن تناله يد فرعون.
وجملة {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} تعليل للنهي عن الخوف. ووصف قوم فرعون بالظالمين تصديقا لما أخبره به موسى من رومهم قتله قصاصا عن قتل خطأ. وما سبق ذلك من خبر عداوتهم على بني إسرائيل.
[26-28] {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}
حذف ما لقيه موسى من شعيب من الجزاء بإضافته وإطعامه، وانتقل منه إلى عرض إحدى المرأتين على أبيها أن يستأجره للعمل في ماشيته إذ لم يكن لهم ببيتهم رجل يقوم بذلك وقد كبر أبوهما فلما رأت أمانته وورعه رأت أنه خير من يستأجر للعمل عندهم لقوته على العمل وأمانته.
والتاء في {أَبَتِ} عوض عن ياء المتكلم في النداء خاصة وهي يجوز كسرها وبه قرأ الجمهور. ويجوز فتحها وبه قرأ ابن عامر وأبو جعفر.
وجملة {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} علة للإشارة عليه باستئجاره، أي لأن مثله من يستأجر. وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلا لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة بدون تخلف، فالتعريف باللام في {الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} للجنس مراد به العموم. والخطاب في
(20/43)

{مَنِ اسْتَأْجَرْتَ} موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلا. فالتقدير: من استأجر المستأجر. و {مَنِ} موصولة في معنى المعرف بلام الجنس إذ لا يراد بالصلة هنا وصف خاص بمعين.
وجعل {خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ} مسندا إليه بجعله اسما لأن جعل {الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} خبرا مع صحة جعل {القوي الأمين} هو المسند إليه فإنهما متساويان في المعرفة من حيث إن المراد بالتعريف في الموصول المضاف إليه {خَيْرَ} ، وفي المعرف باللام هنا العموم في كليهما، فأوثر بالتقديم في جزأي الجملة ما هو أهم وأولى بالعناية وهو خير أجير، لأن الجملة سيقت مساق التعليل لجملة {اسْتَأْجِرْهُ} فوصف الأجير أهم في مقام تعليلها ونفس السامع أشد ترقبا لحاله.
ومجيء هذا العموم عقب الحديث عن شخص معين يؤذن بأن المتحدث عنه يشمله ذلك العموم فكان ذلك مصادفا المحز من البلاغة إذ صار إثبات الأمانة والقوة لهذا المتحدث عنه إثباتا للحكم بدليل. فتقدير معنى الكلام: استأجره فهو قوي أمين وإن خير من استأجرت مستأجر القوي الأمين. فكانت الجملة مشتملة على خصوصية تقديم الأهم وعلى إيجاز الحذف وعلى المذهب الكلامي، وبذلك استوفت غاية مقتضى الحال فكانت بالغة حد الإعجاز.
وعن عمر بن الخطاب أنه قال أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي . يريد أسأله أن يؤيدني بقوي أمين أستعين به.
والإشارة في قوله {هَاتَيْنِ} إلى المرأتين اللتين سقى لهما إن كانتا حاضرتين معا دون غيرهما من بنات شعيب لتعلق القضية بشأنهما، أو تكون الإشارة إليهما لحضورهما في ذهن موسى باعتبار قرب عهده بالسقي لهما إن كانت الأخرى غائبة حينئذ.
وفيه جواز عرض الرجل مولاته على من يتزوجها رغبة في صلاحه. وجعل لموسى اختيار إحداهما لأنه قد عرفها وكانت التي اختارها موسى (صفورة) وهي الصغرى كما جاء في رواية أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما اختارها دون أختها لأنها التي عرف أخلاقها باستحيائها وكلامها فكان ذلك ترجيحا لها عنده.
وكان هذا التخيير قبل انعقاد النكاح، فليس فيه جهل المعقود عليها.
وقوله {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} حرف {عَلَى} من صيغ الشرط في العقود.
(20/44)

و {تَأْجُرَنِي} مضارع آجره مثل نصره إذا كان أجيرا له. والحجج اسم جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة، مشتقة من أسم الحج لأن الحج يقع كل سنة وموسم الحج يقع في آخر شهر من السنة العربية.
والتزام جعل تزويجه مشروطا بعقد الإجارة بينهما عرض منه على موسى وليس بعقد نكاح ولا إجارة حتى يرضى موسى. وفي هذا العرض دليل لمسألة جمع عقد النكاح مع عقد الإجارة. والمسألة أصلها من السنة حديث المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتزوجها وزوجها من رجل كان حاضرا مجلسه ولم يكن عنده ما يصدقها فزوجه إياها بما معه من القرآن، أي على أن يعلمها إياه.
والمشهور من مذهب مالك أن الشرط المقارن لعقد النكاح إن كان مما ينافي عقد النكاح فهو باطل ويفسخ النكاح قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل. وأما غير المنافي لعقد النكاح فلا يفسخ النكاح لأجله ولكن يلغي الشرط. وعن مالك أيضا: تكره الشروط كلها ابتداء فإن وقع مضى. وقال أشهب وأصبغ: الشرط جائز واختاره أبو بكر بن العربي وهو الحق للآية، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم عليه الفروج" .
وظاهر الآية أيضا أن الإجارة المذكورة جعلت مهرا للبنت. ويحتمل أن المشروط التزام الإجارة لا غير، وأما المهر فتابع لما يعتبر في شرعهم ركنا في النكاح، والشرائع قد تختلف في معاني الماهيات الشرعية. وإذا أخذنا بظاهر الآية كانت دالة على أنهما جعلا المهر منافع إجارة الزوج لشعيب فيحتمل أن يكون ذلك برضاها لأنها سمعت وسكتت بناء على عوائد مرعية عندهم بأن ينتفع بتلك المنافع أبوها.
ويحتمل أن يكون لولي المرأة بالأصالة إن كان هو المستحق للمهر في تلك الشريعة، فإن عوائد الأمم مختلفة في تزويج ولاياهم. وإذ قد كان في الآية إجمال لم تكن كافية في الاحتجاج على جواز جعل مهر المرأة منافع من إجارة زوجها فيرجع النظر في صحة جعل المهر إجارة إلى التخريج على قواعد الشريعة والدخول تحت عموم معنى المهر، فإن منافع الإجارة ذات قيمة فلا مانع من أن تجعل مهرا.
والتحقيق من مذهب مالك أنه مكروه ويمضي. وأجاره الشافعي وعبد الملك بن حبيب من المالكية. وقال أبو حنيفة: لا يجوز جعل المهر منافع حر ويجوز كونه منافع عبد. ولم ير في الآية دليلا لأنها تحتمل عنده أن يكون النكاح مستوفيا شروطه فوقع الإجمال فيها. ووافقه أبن القاسم من أصحاب مالك.
(20/45)

وإذ قد كان حكم شرع من قبلنا مختلفا في جعله شرعا لنا كان حجة مختلفا فيها بين علماء أصول الفقه فزادها ضعفا في هذه الآية الإجمال الذي تطرقها فوجب الرجوع إلى أدلة أخرى من شريعة الإسلام. ودليل الجواز داخل تحت عموم معنى المهر. فإن كانت المنافع المجعولة مهرا حاصلة قبل البناء فالأمر ظاهر، وإن كان بعضها أو جميعها لا يتحقق إلا بعد البناء كما في هذه الآية رجعت المسألة إلى النكاح بمهر مؤجل وهو مكروه غير باطل. وإلى الإجارة بعوض غير قابل للتبعيض بتبعيض العمل فإذا لم يتم الأجير العمل في هذه رجعت إلى مسألة عجز العامل عن العمل بعد أن قبض الأجر.
وقد ورد في الصحيح وفي حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فظهر عليه أنه لم يقبلها وأن رجلا من أصحابه قال له: إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها. قال: هل عندك ما تصدقها? إلى أن قال له صلى الله عليه وسلم "التمس ولو خاتما من حديد" قال: ما عندي ولا خاتم من حديد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ما معك من القرآن"? قال: معي سورة كذا وسورة كذا لسور سماها. قال له: "قد ملكتكها بما معك من القرآن" . وفي رواية أن النبي أمره أن يعلمها عشرين آية مما معه من القرآن وتكون امرأته. فإن صحت هذه الزيادة كان الحديث جاريا على وفق ما في هذه الآية وكان حجة الصحيح فالقصة خصوصية يقتصر على موردها.
ولم يقع التعرض في الآية للعمل المستأجر عليه. وورد في سفر الخروج أنه رعى غنم يثرون وهو شعيب، ولا غرض للقرآن في بيان ذلك. ولم يقع التعرض إلى الأجر وقد علمت أن الظاهر أنه إنكاحه البنت فإذا لم نأخذ بهذا الظاهر كانت الآية غير متعرضة للأجر إذ لا غرض فيه من سوق القصة فيكون جاريا على ما هو متعارف عندهم في أجور الأعمال وكانت للقبائل عوائد في ذلك.
وقد أدركت منذ أول هذا القرن الرابع عشر أن راعي الغنم له في كل عام قميص وحذاء يسمى بلغة ونحو ذلك لا أضبطه الآن.
وقوله { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} جعل ذلك إلى موسى تفضلا منه أن اختاره ووكله إلى ما تكون عليه حاله في منتهى الحجج الثمان من رغبة في الزيادة.
و(من) ابتدائية. و(عند) مستعملة في الذات والنفس مجازا، والمجرور خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: فإتمام العشر من نفسك، أي لا مني، يعني: أن الإتمام ليس داخلا في العقيدة التي هي من الجانبين فكان مفهوم الظرف معتبرا هنا.
(20/46)

واحتج مالك بقوله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} على أن للأب إنكاح ابنته البكر بدون إذنها وهو أخذ بظاهرها إذ لم يتعرض لاستئذانها. ولمن يمنع ذلك أن يقول: إن عدم التعرض له لا يقتضي عدم وقوعه.
وقوله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} يريد الصالحين بالناس في حسن المعاملة ولين الجانب. قصد بذلك تعريف خلقه لصاحبه، وليس هذا من تزكية النفس المنهي عنه لأن المنهي عنه ما قصد به قائله الفخر والتمدح، فأما ما كان لغرض الدين أو المعاملة فلذلك حاصل لداع حسن كما قال يوسف {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .
و {أَشُقَّ عَلَيْكَ} معناه: أكون شاقا عليك، أي مكلفك مشقة، والمشقة: العسر والتعب والصعوبة في العمل. والأصل أن يوصف بالشاق العمل المتعب فإسناد أشق إلى ذاته إسناد مجازي لأنه سبب المشقة، أي ما أريد أن أشترط عليك ما فيه مشقتك. وهذا من السماحة الوارد فيها حديث: "رحم الله أمرأ سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى.."
وجملة {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} حكاية لجواب موسى عن كلام شعيب. واسم الإشارة إلى المذكور وهو {أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} إلى آخره. وهذا قبول موسى لما أوجبه شعيب وبه تم التعاقد على النكاح وعلى الإجارة، أي الأمر على ما شرطت علي وعليك. وأطلق {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} مجازا في معنى الثبوت واللزوم والارتباط، أي كل فيما هو من عمله.
و {أَيَّمَا} منصوب بـ {قَضَيْتُ} . و(أي) اسم موصول مبهم مثل (ما). وزيدت بعدها (ما) للتأكيد ليصير الموصول سبيها بأسماء الشرط لأن تأكيد ما في اسم الموصول من الإبهام يكسبه عموما فيشبه الشرط فلذلك جعل له جواب كجواب الشرط. والجملة كلها بدل اشتمال من جملة {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} لأن التخيير في منتهى الأجل مما اشتمل عليه التعاقد المفاد بجملة {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ}.
والعدوان بضم العين: الاعتداء على الحق، أي فلا تعتدي علي. فنفي جنس العدوان الذي منه عدوان مستأجره. واستشهد موسى على نفسه وعلى شعيب بشهادة الله.
وأصل الوكيل: الذي وكل إليه الأمر، وأراد هنا أنه وكل على الوفاء بما تعاقدا عليه حتى إذا أخل أحدهما بشيء كان الله مؤاخذه. ولما ضمن الوكيل معنى الشاهد عدي بحرف {عَلَى} وكان حقه أن يعدى بـ (إلى).
(20/47)

والعبرة من سياقة هذا الجزء من القصة المفتتح بقوله تعالى {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} إلى قوله {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} هو ما تضمنته من فضائل الأعمال ومناقب أهل الكمال وكيف هيأ الله تعالى موسى لتلقي الرسالة بأن قلبه في أطوار الفضائل، وأعظمها معاشرة رسول من رسل الله ومصاهرته، وما تتضمنه من خصال المروءة والفتوة التي استكنت في نفسه من فعل المعروف، وإغاثة الملهوف، والرأفة بالضعيف، والزهد، والقناعة، وشكر ربه على ما أسدى إليه، ومن العفاف والرغبة في عشرة الصالحين، والعمل لهم، والوفاء بالعقد، والثبات على العهد حتى كان خاتمة ذلك تشريفه بالرسالة وما تضمنته من خصال النبوة التي أبداها شعيب من حب القرى، وتأمين الخائف، والرفق في المعاملة، ليعتبر المشركون بذلك إن كان لهم اعتبار في مقايسة تلك الأحوال بأجناسها من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فيهتدوا إلى أن ما عرفوه به من زكي الخصال قبل رسالته وتقويم سيرته، وإعانته على نوائب الحق، وتزوجه أفضل امرأة من نساء قومه، إن هي إلا خصال فاذة فيه بين قومه وإن هي إلا بوارق لا نهطال سحاب الوحي عليه. والله أعلم حيث يجعل رسالته وليأتسي المسلمون بالأسوة الحسنة من أخلاق أهل النبوة والصلاح.
[29] {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}
لم يذكر القرآن أي الأجلين قضى موسى إذ لا يتعلق بتعيينه غرض في سياق القصة. وعن ابن عباس قضى أوفاهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل أي أن رسول الله المستقبل لا يصدر من مثله إلا الوفاء التام، وورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ضعيفة الأسانيد أنه سئل عن ذلك فأجاب بمثل ما قال ابن عباس. والأهل من إطلاقه الزوجة كما في الحديث: "والله ما علمت على أهلي إلا خيرا" .
وفي سفر الخروج: أنه استأذن صهره في الذهاب إلى مصر لافتقاد أخته وآله. وبقية القصة تقدمت في سورة النمل إلا زيادة قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} وذلك مساو لقوله هنا { إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} .
والجذوة مثلث الجيم، وقرئ بالوجوه الثلاثة، فالجمهور بكسر الجيم، وعاصم بفتح الجيم وحمزة وخلف بضمها، وهي العود الغليظ. قيل مطلقا وقيل المشتعل وهو الذي في (القاموس). فإن كان الأول فوصف الجذوة بأنها من النار وصف مخصص، وإن
(20/48)

كان الثاني فهو وصف كاشف، و {مِنْ} على الأول بيانية وعلى الثاني تبعيضية.
[30-32] { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ}
تقدم مثل هذا في سورة النمل إلا مخالفة ألفاظ مثل {أَتَاهَا} هنا و { جَاءَهَا} هناك. و {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} هنا، و{إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ} هناك بضمير عائد إلى الجلالة هنالك، وضمير الشأن هنا وهما متساويان في الموقع لأن ضمير الجلالة شأنه عظيم. وقوله هنا {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله هنالك {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ النمل: 9] وهذا يقتضي أن الأوصاف الثلاثة قيلت له حينئذ.
والقول في نكتة تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره له بإلقاء العصا كالقول الذي تقدم في سورة النمل لأن وصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} يدل على أن جميع الخلائق مسخرة له ليثبت بذلك قلب موسى من هول تلقي الرسالة.
{وَأَنْ أَلْقِ} هنا و {أَلْقِ} هناك، و {اسْلُكْ} هنا {وَأُدْخِلَ} هناك. وتلك المحالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها، وإلا زيادة {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} وهذا واد في سفح الطور. وشاطئه: جانبه وضفته.
ووصف الشاطئ بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار ويريدون هذا المعنى قال أمرؤ القيس:
على قطن بالشيم أيمن صوبه ... وأيسره على الستار فيذبل
(20/49)

وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل، أي جهة مغرب الشمس من الطور. ألا ترى أنهم سموا اليمن يمنا لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة وسموا الشام شاما لأنه على شام المستقبل لبابها، أي على شماله، فاعتبروا استقبال الكعبة، وهذا هو الملائم لقوله الآتي {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [ القصص: 44]
وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [ طه: 80] فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك.
وإن حمل على أنه تفضيل من اليمن وهو البركة فهو كوصفه بـ {الْمُقَدَّسِ} في سورة النازعات [ 16] {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً}
و {الْبُقْعَةِ} بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها. والمباركة لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى. وقوله {مِنَ الشَّجَرَةِ} يجوز أن يتعلق بفعل {نُودِيَ} فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون {مِنَ} للابتداء، أي سمع كلاما خارجا من الشجرة. ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا نعتا ثانيا للواد أو حالا فتكون {مِنَ} اتصالية، أي متصلا بالشجرة، أي عندها، أي البقعة التي تتصل بالشجرة.
والعريف في {الشَّجَرَةِ} تعريف الجنس وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة وليس التعريف للعهد إذا لم يتقدم ذكر الشجرة، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العليق وهو من شجر العضاه وقيل هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضا. وزيادة {أَقْبِلْ} وهي تصريح بمضمون قوله {لا تَخَفْ} في سورة النمل[10] لأنه لما أدبر خوفا من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله فكان الكلام هنالك إيجازا وكان هنا مساواة تفننا في حكاية القصتين، وكذلك زيادة {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} هنا ولم يحك في سورة النمل وهو تأكيد لمفاد {وَلا تَخَفْ} . وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد بـ(إن) وجعله من جملة الآمنين فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال: إنك آمن كما تقدم في قوله تعالى {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في [سورة البقرة: 67].
وقوله {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تنيينه، واعتكرت محامل كلماته فما استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى. وهي ألفاظ: جناح، ورهب، وحرف {مِنَ} . فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر. وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري. قال بعضهم:
(20/50)

إن في الكلام تقديما وتأخير وإن قوله {مِنَ الرَّهْبِ} متعلق بقوله {وَلَّى مُدْبِراً} على أن {مِنَ} حرف للتعليل، أي أدبر لسبب الخوف، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل {وَلَّى} وبين {مِنَ الرَّهْبِ} .
وقيل الجناح: اليد، ولا يحسن أن يكون مجازا عن اليد لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد. وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في الكشاف بعيد، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد. وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان. وللجناح حقيقة ومجازات مرسل بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن. ولذا فالوجه أن قوله {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} تمثيل بحال الطائر إذا سكن عن الطير أو عن الدفاع جعل كناية عن سكون اضطراب الخوف. ويكون {مِنَ} هنا للبدلية أي اسكن سكون الطائر بدلا من أن تطير خوفا. وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل وأصله لأبي علي الفارسي.و {الرَّهبِ} معروف أنه الخوف كقوله تعالى {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء: 90].
والمعنى: انكفف عن التخوف من أمر الرسالة. وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] فقوله {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} في معنى قوله تعالى {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [ القصص: 35]
وقرأ الجمهور {الرَّهْبِ} بفتح الراء والهاء، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء. وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة.
[32] {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}
تفريع على قوله { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} والإشارة إلى العصا وبياض اليد. والبرهان: الحجة القاطعة. و {مِنَ} للابتداء، و {إِلَى} للانتهاء المجازي أي حجتان على أن أرسل بهما إليهم.
(20/51)

وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} تعليل لجملة {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} لتضمنها أنهم بحيث يقرعون بالبراهين فبين أن سبب ذلك تمكن الكفر من نفوسهم حتى كان كالجبلة فيهم وبه قوام قوميتهم لما يؤذن به قوله {كَانُوا} . قوله {قَوْماً} كما تقدم في قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في [سورة البقرة: 164]. والفسق: الإشراك بالله.
وقرأ الجمهور {فَذَانِكَ} بتخفيف النون من (ذانك) على الأصل في التثنية. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بتشديد نون {فذانك} وهي لغة تميم وقيس. وعللها النحويون بأن تضعيف النون تعويض على الألف من (ذا) و(تا) المحذوفة لأجل صيغة التثنية. وفي الكشاف: أن التشديد عوض عن لام البعد التي تلحق اسم الإشارة فلذلك قال فالمخفف مثنى ذاك والمشدد مثنى ذلك . وهذا أحسن.
[33] {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}
جرى التأكيد على الغالب في استعمال أمثاله من الأخبار الغريبة ليتحقق السامع وقوعها وإلا فإن الله قد علم ذلك لما قال له {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} . والمعنى: فأخاف أن يذكروا قتلي القبطي فيقتلوني. فهذا كالاعتذار وهو يعلم أن رسالة لله لا يتخلص منها بعذر، ولكنه أراد أن يكون في أمن إلهي من أعدائه. فهذا تعريض بالدعاء، ومقدمة لطلب تأييده بهارون أخيه.
[34] {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}
هذا سؤال صريح يدل على أن موسى لا يريد بالأول التنصل من التبليغ ولكنه أراد تأييده بأخيه. وإنما عينه ولم يسأل مؤيدا ما لعلمه بأمانته وإخلاصه لله ولأخيه وعلمه بفصاحة لسانه.
و {رَدَّى} بالتخفيف مثل (ردء) بالهمز في آخره: العون. قرأه نافع وأبو جعفر {رَدَّى} مخففا. وقرأه الباقون {رِدْءاً} بالهمز على الأصل.
و {يُصَدِّقُنِي} قرأه الجمهور مجزوما في جواب الطلب بقوله {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} . وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أن الجملة حال من الهاء من {أَرْسِلْهُ} .
(20/52)

ومعنى تصديقه إياه أن يكون سببا في تصديق فرعون وملئه إياه بإبانته عن الأدلة التي يلقيها موسى في مقام مجادلة فرعون كما يقتضيه قوله {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} . فإنه فرع طلب إرساله معه على كونه أفصح لسانا وجعل تصديقه جواب ذلك الطلب أو حالا من المطلوب فهو تفريع على تفريع، فلا جرم أن يكون معناه مناسبا لمعنى المفرع عنه وهو أنه أفصح لسانا. وليس للفصاحة أثر في التصديق إلا بهذا المعنى.
وليس التصديق أن يقول لهم: صدق موسى، لأن ذلك يستوي فيه الفصيح وذو الفهاهة. فإسناد التصديق إلى هارون مجاز عقلي لأنه سببه، والمصدقون حقيقة هم الذين يحصل لهم العلم بأن موسى صادق فيما جاء به.
وجملة {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} تعليل لسؤال تأييده بهارون، فهذه مخافة ثانية من التكذيب، والأولى مخافة من القتل.
[35] {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}
استجاب الله له دعوتيه وزاده تفضلا بما لم يسأله فاستجابة الدعوة الثانية بقوله {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} ، واستجابة الأولى بقوله {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} ، والتفضل بقوله {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} ، فأعطى موسى ما يماثل ما لهارون من المقدرة على إقامة الحجة إذ قال {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} . وقد دل على ذلك ما تكلم به موسى عليه السلام من حجج في مجادلة فرعون كما في سورة الشعراء وهنا وما خاطب به بني إسرائيل مما حكي في سورة الأعراف. ولم يحك في القرآن أن هارون تكلم بدعوة فرعون على أن موسى سأل الله تعالى أن يحلل عقدة من لسانه كما في سورة طه، ولا شك إن الله استجاب له.
والشد: الربط، وشأن العامل بعضو إذا أراد أن يعمل به عملا متعبا للعضو أن يربط عليه لئلا يتفكك أو يعتريه كسر، وفي ضد ذلك قال تعالى {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] وقولهم: فت في عضده، وجعل الأخ هنا بمنزلة الرباط الذي يشد به. والمراد: أنه يؤيده بفصاحته، فتعليقه بالشد ملحق بباب المجاز العقلي. وهذا كله تمثيل لحال إيضاح حجته بحال تقوية من يريد عملا عظيما أن يشد على يده وهو التأييد الذي شاع في معنى الإعانة والإمداد، وإلا فالتأييد أيضا مشتق من اليد. فأصل معنى (أيد) جعل
(20/53)

يدا، فهو استعارة لإيجاد الإعانة.
والسلطان هنا مصدر بمعنى التسلط على القلوب والنفوس، أي مهابة في قلوب الأعداء ورعبا منكما كما ألقى على موسى محبة حين التقطه آل فرعون. وتقدم معنى السلطان حقيقة في قوله تعالى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} في [سورة الإسراء: 33].
وفرع على جعل السلطان {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} أي لا يؤذونكما بسوء وهو القتل ونحوه. فالوصول مستعمل مجازا في الإصابة. والمراد: الإصابة بسوء، بقرينة المقام.
وقوله {بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} يجوز أن يكون {بِآياتِنَا} متعلقا بمحذوف دل عليه قوله {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} [القصص: 32] تقديره: اذهبا بآياتنا على نحو ما قدر في قوله تعالى {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ} [النمل: 12] وقوله في سورة النمل بعد قوله {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] أي اذهبا في تسع آيات. وقد صرح بذلك في قوله في سورة الشعراء {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} .
ويجوز أن يتعلق بـ {نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} ، أي سلطانا عليهم بآياتنا حتى تكون رهبتهم منكما آية من آياتنا، ويجوز أن يتعلق بـ {لا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} أي يصرفون عن أذاكم بآيات منا كقول النبي صلى الله عليه وسلم "نصرت بالرعب" . ويجوز أن يكون متعلقا بقوله {الْغَالِبُونَ} أي تغلبونهم وتقهرونهم بآياتنا التي نؤيدكما بها. وتقديم المجرور على متعلقه في هذا الوجه للاهتمام بعظمة الآيات التي نؤيدكما بها. وتقديم المجرور على متعلقه في هذا الوجه الاهتمام بعظمة الآيات التي سيعطيانها. ويجوز أن تكون الباء حرف قسم تأكيدا لهما بأنهما الغالبون وتثبيتا لقلوبهما.
وعلى الوجوه كلها فالآيات تشمل خوارق العادات المشاهدة مثل الآيات التسع، وتشمل المعجزات الخفية كصرف قوم فرعون عن الإقدام على أذاهما مع ما لديهم من القوة وما هم عليه من العداوة بحيث لولا الصرفة من الله لأهلكوا موسى وأخاه.
ومحل العبرة من هذا الجزء من القصة التنبيه إلى الرسالة فيض من الله على من اصطفاه من عباده وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كرسالة موسى جاءته بغتة فنودي محمد في غار جبل حراء كما نودي موسى في جانب جبل الطور، وأنه اعتراه من الخوف مثل ما اعترى موسى، وأن الله ثبته كما ثبت موسى، وأن الله يكفيه أعداءه كما كفى موسى أعداءه.
[36] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا
(20/54)

بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}
طوي ما بين نداء الله إياه وبين حضوره عند فرعون من الأحداث عند فرعون من الأحداث لعدم تعلق العبرة به. وأسند المجيء بالآيات إلى موسى عليه السلام وحده دون هارون لأنه الرسول الأصلي الذي تأتي المعجزات على يديه بخلاف قوله {فَاذْهَبَا بِآياتِنَا} في [سورة الشعراء: 15]، وقوله {بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] إذ جعل تعلق الآيات بضميريها لأن معنى الملابسة معنى متسع فالمصاحب لصاحب الآيات هو ملابس له.
والآيات البينات هي خوارق العادات التي أظهرها، أي جاءهم بها آية بعد أية في مواقع مختلفة، قالوا عند كل آية { مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} .
والمفترى: المكذوب. ومعنى كونها سحرا مكذوبا أنه مكذوب ادعاء أنه من عند الله وإخفاء كونه سحرا.
والإشارة في قوله {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} إلى ادعاء الرسالة من عند الله لأن ذلك هو الذي يسمع وأما الآيات فلا تسمع. فمرجع اسمي الإشارة مختلف، أي ما سمعنا من يدعو آباءنا إلى مثل ما تدعو إليه فالكلام على حذف مضاف دل عليه حرف الظرفية، أي في زمن آبائنا. وقد جعلوا انتفاء بلوغ مثل هذه الدعوة إلى آبائهم حتى تصل إليهم بواسطة آبائهم الأولين، دليلا على بطلانها وذلك آخر ملجأ إليه المحجوج المغلوب حين لا يجد ما يدفع به الحق بدليل مقبول فيفزع إلى مثل هذه التلفيقات والمباهتات.
[37] {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
لما قالوا قولا في تكذيبه واستظهروا على قولهم بأن ما جاء به موسى شيء ما علمه آباؤهم أجاب موسى كلامهم بمثله في تأييد صدقه فإنه يعلمه الله، فما علم آبائهم في جانب علم الله بشيء، فلما تمسكوا بعلم آبائهم تمسك موسى بعلم الله تعالى، فقد احتج موسى بنفسه ولم يكل ذلك إلى هارون.
وكان مقتضى الاستعمال أن يحكى كلام موسى بفعل القول غير معطوف بالواو شأن حكاية المحاورات كما قدمناه غير مرة، فخولف ذلك هنا بمجيء حرف العطف في قراءة
(20/55)

الجمهور غير ابن كثير لأنه قصد هنا التوازن بين حجة ملأ فرعون وحجة موسى، ليظهر للسامع التفاوت بينهما في مصادفة الحق ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر، وبضدها تتبين الأشياء، فلهذا عطفت الجملة جريا على الأصل غير الغالب للتنبيه على النظر في معناهما. وقرأ ابن كثير {قَالَ مُوسَى} بدون واو وهي مرسومة في مصحف أهل مكة بدون واو على أصل حكاية المحاورات وقد حصل من مجموع القراءتين الوفاء بحق الخصوصيتين من مقتضى حالي الحكاية. وعبر عن الله بوصف الربوبية مضافا إلى ضميره للتنصيص على أن الذي يعلم الحق هو الإله الحق لا آلهتهم المزعومة.
ويظهر أن القبط لم يكن في لغتهم اسم على الرب واجب الوجود الحق ولكن أسماء آلهة مزعومة.
وعبر في جانب {مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} بفعل المضي وفي جانب {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} بالمضارع لأن المجيء بالهدى المحقق والمزعوم أمر قد تحقق ومضى سواء كان الجائي به موسى أم آباؤهم الأولون وعلماؤهم. وأما كيان عاقبة الدار لمن فمرجو لما يظهر بعد. ففي قوله {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} إشهاد لله تعالى وكلام منصف، أي ربي أعلم نتعيين الجائي بالهدى أنحن أم أنتم على نحو قوله تعالى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وفي قوله {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} تفويض إلى ما سيظهر من نصر أحد الفريقين على الآخر وهو تعويض بالوعيد بسوء عاقبتهم.
و {عَاقِبَةُ الدَّارِ} كلمة جرت مجرى المثل في خاتمة الخير بعد المشقة تشبيها لعامل العمل بالسائر المنتجع إذا صادف دار خصب واستقر بها وقال الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله. فأصل عاقبة الدار: الدار العاقبة. فأضيفت الصفة إلى موصوفها.
والعاقبة: هي الحالة العاقبة، أي التي تعقب، أي تجيء عقب غيرها، فيؤذن هذا اللفظ بتبديل حال إلى ما هو خير، فلذلك لا تطلق على العاقبة المحمودة. وقد تقدم في سورة الأنعام قوله {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} وفي سورة الرعد قوله {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} وقوله {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42].
وقرأ الجمهور {تَكُونَ} بالمثناة الفوقية على أصل تأنيث لفظ {عَاقِبَةُ الدَّارِ} وقرأ
(20/56)

حمزة والكسائي بالتحتية على الخيار في فعل الفاعل المجازي التأنيث.
وأيد ذلك كله بجملة {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، دلالة على ثقته بأنه على الحق وذلك يفت من أعضادهم، ويلقي رعب الشك في النجاة في قلوبهم. وضمير {إنه} ضمير الشأن لأن الجملة بعده ذات معنى له شأن وخطر.
[38] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
كلام فرعون المحكي هنا واقع في مقام غير مقام المحاور مع موسى فهو كلام اقبل به على خطاب أهل مجلسه إثر المحاور مع موسى فلذلك حكي بحرف العطف عطف القصة على القصة. فهذه قصة محاورة بين فرعون وملئه في شأن دعوة موسى فهي حقيقة بحرف العطف كما لا يخفى.
أراد فرعون بخطابه مع ملئه أن يثبتهم على عقيدة إلهيته فقال {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} إبطالا لقول موسى المحكي في سورة الشعراء {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} وقوله هناك {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} 1 [الشعراء: 24]. فأظهر لهم فرعون أن دعوة موسى لم ترج عنده وأنه لم يصدق بها فقال {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} .
والمراد بنفي علمه بذلك نفي وجود إله غيره بطريق الكناية يريهم أنه أحاط علمه بكل شيء حق فلو كان ثمة إله غيره لعلمه.
والمقصود بنفي وجود إله غيره نفي وجود الإله الذي أثبته موسى وهو خالق الجميع. وأما آلهتهم التي يزعمونها فإنها مما تقتضيه إلهية فرعون لأن فرعون عندهم هو مظهر الآلهة المزعومة عندهم لأنه في اعتقادهم ابن الآلهة وخلاصة سرهم، وكل الصيد في جوف الفرا.
وحيث قال موسى إن الإله الحق هو رب السماوات فقد حسب فرعون أن مملكة هذا الرب السماء تصورا مختلا ففرع على نفي إله غيره وعلى توهم أن الرب المزعوم مقره
ـــــــ
1 في المطبوعة (إن كنتم تعقلون) (57).
(20/57)

السماء أن أمر {هَامَانُ} وزيره أن يبني له صرحا يبلغ به عنان السماء ليرى الإله الذي زعمه موسى حتى إذا لم يجده رجع إلى قومه فأثبت لهم عدم إله في السماء إثبات معاينة، أراد أن يظهر لقومه في مظهر المتطلب للحق المستقصي للعوالم حتى إذا أخبر قومه بعد ذلك بأن نتيجة بحثه أسفرت عن كذب موسى ازدادوا ثقة ببطلان قول موسى عليه السلام.
وفي هذا الضغث من الجدل السفسطائي مبلغ من الدلالة على سوء انتظام تفكيره وتفكير ملئه، أو مبلغ تحيله وضعف آراء قومه.
و {هَامَانُ} لقب أو اسم لوزير فرعون كما تقدم آنفا. وأراد بقوله {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} أن يأمر {هَامَانُ} العملة أن يطبوا الطين ليكون آجرا ويبنوا به فكني عن البناء بمقدماته وهي إيقاد الأفران لتجفيف الطين المتخذ آجرا. والآجر كانوا يبنون به بيوتهم فكانوا يجعلون قوالب من طين يتصلب إذا طبخ وكانوا يخلطونه بالتبن ليتماسك قبل إدخاله التنور كما ورد وصف صنع الطين في الإصحاح الخامس من سفر الخروج.
وابتدأ بأمره بأول أشغال البناء للدلالة على العناية بالشروع من أول أوقات الأمر لأن ابتداء البناء يتأخر إلى ما بعد إحضار مواده فلذلك أمره بالأخذ في إحضار تلك المواد التي أولها الإيقاد، أي إشعال التنانير لطبخ الآجر. وعبر عن الآجر بالطين لأنه قوام صنع الآجر وهو طين معروف. وكأنه لم يأمره ببناء من حجر وكلس قصدا للتعجيل بإقامة هذا الصرح المرتفع إذ ليس مطلوبا طول بقائه بإحكام بنائه على مر العصور بل المراد سرعة الوصول إلى ارتفاعه كي يشهده الناس، ويحصل اليأس ثم ينقض من الأساس.
وعدل عن التعبير بالآجر، قال ابن الأثير في المثل السائر: لأن كلمة الآجر ونحوها كالقرمد والطوب كلمات مبتذلة فذكر بلفظ الطين اه. وأظهر من كلام ابن الأثير: أن العدول إلى الطين لأنه أخف وأفصح.
وإسناد الإيقاد على الطين إلى هامان مجاز عقلي باعتبار أنه الذي يأمر بذلك كما يقولون: بنى السلطان قنطرة وبنى المنصور بغداد.
وتقدم ذكر هامان آنفا وأنه وزير فرعون. وكانت أوامر الملوك في العصور الماضية تصدر بواسطة الوزير فكان الوزير هو المنفذ لأوامر الملك بواسطة أعوانه من كتاب وأمراء ووكلاء ونحوهم، كل فيما يليق به.
والصرح: القصر المرتفع، وقد تقدم عند قوله تعالى {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} في
(20/58)

[سورة النمل: 44].
ورجا أن يصل بهذا الصرح إلى السماء حيث مقر إله موسى. وهذا من فساد تفكيره إذ حسب أن السماء يوصل إليها بمثل هذا الصرح ما طال بناؤه، وأن الله مستقر في مكان من السماء.
والاطلاع: الطلوع القوي المتكلف لصعوبته.
وقوله {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} استعمل فيه الظن بمعنى القطع فكانت محاولته الوصول إلى السماء لزيادة تحقيق ظنه، أو لأنه أراد أن يقنع قومه بذلك. ولعله أراد بهذا تمويه الأمر على قومه ليلقي في اعتقادهم أن موسى ادعى أن الله في مكان معين يبلغ إليه ارتفاع صرحه. ثم يجعل عدم العثور على الإله في ذلك الارتفاع دليلا على عدم وجود الإله الذي ادعاه موسى. وكانت عقائد أهل الضلالة قائمة على التخيل الفاسد، وكانت دلائلها قائمة على تمويه الدجالين من زعمائهم.
وقوله {مِنَ الْكَاذِبِينَ} يدل على أنه يعده من الطائفة الذين شأنهم الكذب كما تقدم في قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . [البقرة: 67]
ولم يذكر القرآن أن هذا الصرح بني، وليس هو أحد الأهرام لأن الأهرام بنيت من حجارة لا من آجر، ولأنها جعلت مدافن للذين بنوها من الفراعنة. واختلف المفسرون هل وقع بناء هذا الصرح وتم أو لم يقع؛ فحكى بعضهم أنه تم وصعد فرعون إلى أعلاه ونزل وزعم أنه قتل رب موسى. وحكى بعضهم أن الصرح سقط قبل إتمام بنائه فأهلك خلقا كثيرا من عملة البناء والجند. وحكى بعضهم أنه لم يشرع في بنائه. وقد لاح لي في معنى الآية وجه آخر سأذكره في سورة المؤمن.
[39] {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}
الاستكبار: أشد من الكبر، أي تكبر تكبرا شديدا إذ طمع في الوصول إلى الرب العظيم وصل الغالب أو القرين.
و {جُنُودُهُ} : أتباعه. فاستكباره هو الأصل واستكبار جنوده تبع لاستكباره لأنهم يتبعونه ويتلقون ما يمليه عليهم من العقائد.
(20/59)

و {الْأَرْضِ} يجوز أن يراد بها المعهودة، أي أرض مصر وأن يراد بها الجنس أي في عالم الأرض لأنهم كانوا يوم إذ أعظم أمم الأرض.
وقوله {بِغَيْرِ الْحَقِّ} حالة لازمة لعاملها إذ لا يكون الاستكبار إلا بغير الحق.
وقوله {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} معلوم بالفحوى من كفرهم بالله، وإنما صرح به لأهمية إبطاله فلا يكتفي فيه بدلالة مفهوم الفحوى، ولأن في التصريح به تعريضا بالمشركين في أنهم وإياهم سواء فليضعوا أنفسهم في أي مقام من مقامات أهل الكفر، وقد كان أبو جهل يلقب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة وأخذا من تعريضات القرآن.
ومعنى ذلك: ظنوا أن لا بعث ولا رجوع بأنهم كفروا بالمرجوع إليه. فذكر {إِلَيْنَا} لحكاية الواقع وليس بقيد فلا يتوهم أنهم أنكروا البعث ولم ينكروا وجود الله مثل المشركين. وتقديم {إِلَيْنَا} على عامله لأجل الفاصلة.
ويجوز أن يكون المعنى: وظنوا أنهم في منعة من أن يرجعوا في قبضة قدرتنا كما دل عليه قوله في [سورة الشعراء: 24-25] {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} استعجابا من ذلك. وعلى هذا الاحتمال فالتعريض بالمشركين باق على حاله فأنهم ظنوا أنهم في منعة من الاستئصال فقالوا {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32].
قرأ نافع والحمزة والكسائي {لا يَرْجِعُونَ} بفتح الياء المضارعة من (رجع). وقرأه الباقون بضمها من (أرجع) إذا فعل به الرجوع.
[40] {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}
أي ظنوا أنهم لا يرجعون إلينا فعجلنا بهلاكهم فإن ذلك من الرجوع إلى الله لأن رجوع إلى حكمه وعقابه، ويعقبه رجوع أرواحهم إلى عقابه، فلهذا فرع على ظنهم ذلك الإعلام بأنه أخذ وجنوده وجعل هذا التفريع كالاعتراض بين حكاية أحوالهم.
وجعل في (الكشاف) هذا من الكلام الفخم لدلالته على عظمة شأن الله إذ كان قوله {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ويتضمن استعارة مكنية: شبه وجنوده بحصيات أخذهن في كفه فطرحهن في البحر. وإذا حمل الأخذ على حقيقته كان في استعارة مكنية أيضا لأنه يستتبع
(20/60)

تشبيها بقبضة تؤخذ باليد كقوله تعالى {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] وقوله {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]. ويجوز أن يجعل جميع ذلك استعارة تمثيلية كما لا يخفى.
وقوله {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} اعتبار بسوء عاقبتهم لأجل ظلمهم أنفسهم بالكفر وظلمهم الرسول بالاستكبار عن سماع دعوتهم. وهذا موضع العبرة من سوق هذه القصة ليعتبر بها المشركون فيقيسوا حال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بحال دعوة موسى عليه السلام ويقيسوا حالهم بحال فرعون وقومه، فيوقنوا بأن ما أصاب فرعون وقومه، فيوقنوا بأن ما أصاب فرعون وقومه من عقاب سيصيبهم لا محالة. وهذا من جملة محل العبرة بهذا الجزء من القصة ابتداء من قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ} [القصص: 36] ليعتبر الناس بأن شأن أهل الضلالة واحد فإنهم يتلقون دعاة الخير بالإعراض والاستكبار واختلاق المعاذير فكما قال فرعون وقومه {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36] قالت قريش {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]، وقالوا {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 7] أي التي أدركناها.
وكما طمع فرعون أن يبلغ إلى الله استكبارا منه في الأرض سأل المشركون {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21] وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله كما ظن أولئك فيوشك أن يصيبهم من الاستئصال ما أصاب أولئك.
[41] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ}
عطف على جملة {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ} أي استكبروا فكانوا ينصرون الضلال ويبثونه، أي جعلناه وجنوده أئمة للضلالة المفضية إلى النار فكأنهم يدعون إلى النار فكل يدعو بما تصل إليه يده؛ فدعوة فرعون أمره، ودعوة كهنته باختراع قواعد الضلالة وأوهامها، ودعوة جنوده، بتنفيذ ذلك والانتصار له.
والأيمة: جمع إمام وهو من يقتدى به في عمل من خير أو شر قال تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]. ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار: حلق نفوسهم منصرفة إلى الشر ومعرضة عن الإصغاء للرشد وكان وجودهم بين ناس ذلك شأنهم. فالجعل جعل تكويني بجعل أسباب ذلك، والله بعث إليهم الرسل لإرشادهم فلم
(20/61)

ينفع ذلك فلذلك أصروا على الكفر.
والدعاء إلى النار هو الدعاء إلى العمل الذي يوقع في النار فهي دعوة إلى النار بالمآل. وإذا كانوا يدعون إلى النار فهم من أهل النار بالأحرى فلذلك قال {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} أي لا يجدون من ينصرهم فيدفع عنهم عذاب النار. ومناسبة عطف {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} هي أن الدعاء يقتضي جندا وأتباعا يعتزون بهم في الدنيا ولكنهم لا يجدون عنهم يوم القيامة قال {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا} [البقرة: 167].
[42] {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}
إتباعهم باللعنة في الدنيا جعل اللعنة ملازمة لهم في علم الله تعالى؛ فقدر لهم هلاكا لا رحمة فيه، فعبر تلك الملازمة بالإتباع على وجه الاستعارة لأن التابع لا يفارق متبوعه، وكانت عاقبة تلك اللعنة إلقاءهم في اليم. ويجوز أن يراد باللعنة لعن الناس إياهم، يعني أن أهل الإيمان يلعنونهم.
وجزاؤهم يوم القيامة أنهم {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} ، والمقبوح المشتوم بكلمة قبح ، أي قبحه الله أو الناس، أي جعله قبيحا بين الناس في أعماله أي مذموما، يقال: قبحه بتخفيف الباء فهو مقبوح كما في هذه الآية ويقال: قبحه بتشديد الباء إذا نسبه إلى القبيح فهو مقبح، كما في حديث أم زرع مما قالت العاشرة: فعنده أقول فلا أقبح أي فلا يجعل قولي قبيحا عنده غير مرضي.
والإشارة إلى الدنيا بـ {هَذِهِ} لتهوين أمر الدنيا بالنسبة للآخرة.
والتخالف بين صيغتي قوله {وَأَتْبَعْنَاهُمْ} وقوله {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} ، لأن اللعنة في الدنيا قد انتهى أمرها بإغراقهم، أو لأن لعن المؤمنين إياهم في الدنيا يكون في أحيان يذكرونهم، فكلا الاحتمالين لا يقتضي الدوام فجيء معه بالجملة الفعلية. وأما تقبيح حالهم يوم القيامة فهو دائم معهم ملازم لهم فجيء في جانبه بالاسمية المقتضية الدوام والثبات.
وضمير {هُمْ} في قوله {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} ليس ضمير فصل ولكنه ضمير مبتدأ وبه كانت الجملة اسمية دالة على ثبات التقبيح لهم يوم القيامة.
(20/62)

[43] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
المقصود من الآيات السابقة ابتداء من قوله {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} [القصص: 30] إلى هنا الاعتبار بعاقبة المكذبين القائلين {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36] ليقاس النظير على النظير، فقد كان المشركين يقولون مثل ذلك يريدون إفحام الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه لو كان الله أرسله حقا لكان أرسل إلى الأجيال من قبله، ولما كان الله يترك الأجيال التي قبلهم بدون رسالة رسول ثم يرسل إلى الجيل الأخير، فكان قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} إتمام لتنظير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم برسالة موسى عليه السلام في أنها جاءت بعد فترة طويلة لا رسالة فيها، مع الإشارة إلى أن سبق إرسال الرسل إلى الأمم شيء واقع بشهادة التواتر، وأنه قد ترتب على تكذيب الأمم رسلهم إهلاك القرون الأولى فلم يكن ذلك موجبا لاستمرار إرسال الرسل متعاقبين بل كانوا يجيئون في أزمنة متفرقة؛ فإذا كان المشركون يحاولون بقولهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36] إبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعلة تأخر زمانها سفسطة ووهما فإن دليلهم مقدوح فيه بقادح القلب بأن الرسل قد جاءوا إلى الأمم من قبل ثم جاء موسى بعد فترة من الرسل. وقد كان المشركون لما بهرهم أمر الإسلام لاذوا باليهود يسترشدونهم في طرق المجادلة الدينية فكان المشركون يخلطون ما يلقنهم اليهود من المغالطات بما استقر في نفوسهم من تضليل أ
مة الشرك فيأتون بكلام يلعن بعضه بعضا، فمرة يقولون {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36] وهو من مجادلات الأميين، ومرة يقولون {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] وهو تلقبن اليهود، ومرة يقولون {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فكان القرآن يدمغ باطلهم بحجة الحق بإلزامهم تناقض مقالاتهم. وهذه الآية من ذلك فهي حجة بتنظير رسالة محمد برسالة موسى عليهما الصلاة والسلام والمقصود منها ذكر القرون الأولى.
وأما ذكر إهلاكهم فهو إدماج للنذارة في ضمن الاستدلال. وجملة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} تخلص من قصة بعثة موسى عليه السلام إلى تأييد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. والمقصود قوله (من بعد القرون الأولى).
ثم إن القرآن أعرض عن بيان حكمة الفتر التي تسبق إرسال الرسل، واقتصر على بيان الحكمة في الإرسال عقبها لأنه المهم في مقام نقض حجة المبطلين للرسالة أو اكتفاء
(20/63)

بأن ذلك أمر واقع لا يستطاع إنكاره وهو المقصود هنا، وأما حكمة الفصل بالفتر فشيء فوق مراتب عقولهم. فأشار بقوله {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إلى بيان حكمة الإرسال عقب الفترة. وأشار بقوله {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} إلى الأمم التي استأصلها الله لتكذيبها رسل الله.
فتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لوقوع ذلك حتى يحتاج معهم إلى التأكيد بالقسم، فموقع التأكيد هو قوله {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} .
و {الْكِتَابَ} : التوراة التي خاطب الله بها موسى عليه السلام. والبصائر: جمع بصيرة، وهي إدراك العقل، سمي بصيرة اشتقاقا من بصر العين، وجعل الكتاب بصائر باعتبار عدة دلائله وكثرة بيناته، كما في الآية الأخرى قال {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102].
و {الْقُرُونَ الْأُولَى} : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط. والقرن: الأمة، قال تعالى {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6]. وفي الحديث ((خير القرون قرني)) .
والناس هم الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل وقوم فرعون، ولمن يريد أن يهتدي بهديه مثل الذين تهودوا من عرب اليمن، {هُدىً وَرَحْمَةً} لهم، ولمن يقتبس منهم قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} . ومن جملة ما تشتمل عليه التوراة تحذيرها من عبادة الأصنام.
وضمير {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} عائد إلى الناس الذين خوطبوا بالتوراة، أي فكذلك إرسال محمد لكم هدى ورحمة لعلكم تتذكرون.
[44] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
لما بطلت شبهتهم التي حاولوا بها إحالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نقل الكلام إلى إثبات رسالته بالحجة الدامغة؛ وذلك بما أعلمه الله به من أخبار رسالة موسى مما لا قبل له بعلمه لولا أن ذلك وحي إليه من الله تعالى. فهذا تخلص من الاعتبار بدلالة الالتزام في قصة موسى إلى الصريح من إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
(20/64)

وجيء في الاستدلال بطريقة المذهب الكلامي حيث بني الاستدلال على انتفاء كون النبي عليه الصلاة والسلام موجودا في المكان الذي قضى الله فيه أمر الوحي إلى موسى، لينتقل منه إلى أن مثله ما كان يعمل ذلك إلا عن مشاهدة لأن طريق العلم بغير المشاهدة له مفقود منه ومن قومه إذ لم يكونوا أهل معرفة بأخبار الرسل كما كان أهل الكتاب، فلما انتفى طريق العلم المتعارف لأمثاله تعين أن طريق علمه هو إخبار الله تعالى إياه بخبر موسى.
ولما كان قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} نفيا لوجوده هناك وحضوره تعين أن المراد من الشاهدين أهل الشهادة، أي الخبر اليقين، وهم علماء بني إسرائيل لأنهم الذين أشهدهم الله على التوراة وما فيها، ألا ترى أنه ذمهم بكتمهم بعض ما تتضمنه التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [ البقرة: 140] والمعنى ما كنت من أهل ذلك الزمن ولا ممن تلقى أخبار ذلك بالخبر اليقين المتوتر من كتبهم يومئذ فتعين أن طريق علمك بذلك وحي الله تعالى.
والأمر المقضي: هو أمر النبوة لموسى إذ تلقاها موسى.
وقوله {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} هو من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله بالجانب الغربي، وهو كثير في الكلام العربي وإن أنكره نحاة البصرة وأكثروا من التأويل، والحق جوازه.
والجانب الغربي هو الذي ذكر آنفا بوصف {شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [القصص: 30] أي على بيت القبلة.
[45] {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}
{وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}
خفي اتصال هذا الاستدراك بالكلام الذي قبله وكيف يكون استدراكا وتعقيبا للكلام الأول برفع ما يتوهم ثبوته.
فبيانه أن قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43] مسوق مساق إبطال تعجب المشركين من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يسبقها رسالة رسول
(20/65)

إلى آبائهم الأولين، كما علمت مما تقدم آنفا، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالوا {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36]فكما كانت رسالة موسى عليه السلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. فالمعنى: فكان المشركون حقيقيين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ولكن الله أنشأ قرونا أي أمما بين زمن موسى وزمنهم فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالوا {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 7]. وحذف بقية الدليل وهو تقدير: فنسوا، الإيجاز لظهوره من قوله {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]، وقال عن النصارى {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14] وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]، فضمير الجمع في قوله {عَلَيْهِمُ} عائد إلى المشركين لا إلى القرون.
فتبين أن الاستدراك متصل بقوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43] وإن ما بين ذلك وبين هذا استطراد. وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب الكشاف. ولله دره في استشعاره، وشكر الله مبلغ جهده. وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكيين الآتيين بعد من قوله {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} وقوله {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 46]. و{الْعُمُرُ} الأمد كقوله {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16].
[45] {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}
هذا تكرير للدليل بمثل آخر مثل ما في قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي ما كنت مع موسى في وقت التكليم ولا كنت من أهل مدين إذ جاءهم موسى وحدث بينه وبين شعيب ما قصصنا عليك.
والثواء: الإقامة.
وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى المشركين من أهل مكة لا إلى أهل مدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آيات الله على المشركين.
والمراد بالآيات الآيات المتضمنة قصة موسى في أهل مدين من قوله {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} إلى قوله {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 22-29]. وبمثل
(20/66)

هذا المعنى قال مقاتل وهو الذي يستقيم به نظم الكلام، ولو جعل الضمير عائدا إلى أهل مدين لكان أن يقال: تشهد فيهم آياتنا.
وجملة {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} على حسب تفسير مقاتل في موضع الحال من ضمير {كُنْتَ} وهي حال مقدرة لاختلاف زمنها مع زمن عاملها كما هو ظاهر. والمعنى: ما كنت مقيما في أهل مدين كما يقيم المسافرون فإذا قفلوا من أسفارهم أخذوا يحدثون قومهم بما شاهدوا في البلاد والأخرى.
والاستدراك في قوله {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} ظاهر، أي ما كنت حاضرا في أهل مدين فتعلم خبر موسى عن معاينة ولكنا كنا مرسلينك بوحينا فعلمناك ما لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل هذا.
وعدل عن أن يقال: ولكنا أوحينا بذلك، إلى قوله {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} لأن المقصد الأهم هو إثبات وقوع الرسالة من الله للرد على المشركين في قوله وقول أمثالهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36] وتعلم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الالتزام مع ما يأتي من قوله {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً} [القصص: 46] الآية فالاحتجاج والتحدي في هذه الآية والآية التي قبلها تحد بما علمه النبي عليه الصلاة والسلام من خبر القصة الماضية.
[46] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
جانب الطور: هو الجانب الغربي، وهو الجانب الأيمن المتقدم وصفه بذلك الوصفين، فعري عن الوصف هنا لأنه صار معروفا، وقيد الكون المنفي بظرف {نَادَيْنَا} أي بزمن ندائنا.
وحذف مفعول النداء لظهور أنه نداء موسى من قبل الله تعالى وهو النداء الميقات أربعين ليلة وإنزال ألواح التوراة عقب تلك المناجاة كما حكي في الأعراف وكان ذلك في جانب الطور إذ كان بنو إسرائيل حول الطور كما قال تعالى {يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} وهو نفس المكان الذي نودي فيه موسى للمرة الأولى في رجوعه من ديار مدين كما تقدم، فالنداء الذي في قوله هنا {إِذْ نَادَيْنَا} غير النداء الذي في قوله {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن} إلى قوله {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص: 30] الآية لئلا يكون تكرار مع قوله: {وَمَا كُنْتَ
(20/67)

بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: 40]. وهذا الاحتجاج بما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من خبر استدعاء موسى عليه السلام للمناجاة. وتلك القصة لم تذكر في هذه السورة وإنما ذكرت في سورة أخرى مثل سورة الأعراف.
وقوله {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} كلمة {لَكِنْ} بسكون النون هنا باتفاق القراء فهي حرف لا عمل له فليس حرف لفقدان شرطيه: تقدم النفي أو النهي، وعدم الوقوع بعد واو عطف. وعليه فحرف {لَكِنْ} هنا لمجرد الاستدراك لا عمل له وهو معترض. والواو التي قبل {لَكِنْ} اعتراضية.
والاستدراك في قوله {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ناشئ عن دلالة قوله {وما كنت بجانب الطور} على معنى: ما كان علمك بذلك لحضورك، ولكن كان علمك رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.
فانتصاب {رَحْمَةً} مؤذن بأنه معمول لعامل نصب مأخوذ من سياق الكلام: إما على تقدير كون محذوف يدل عليه نفي الكون في قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ، والتقدير: ولكن كان علمك رحمة منا؛ وإما على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله، والتقدير: ولكن رحمناك رحمة بأن علمناك ذلك بالوحي رحمة، بقرينة قوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً} .
ويجوز أن يكون {رَحْمَةً} منصوبا على المفعول لأجله معمولا لفعل {لِتُنْذِرَ} فيكون فعل {لِتُنْذِرَ} متعلقا بكون محذوف هو منصب الاستدراك. وفي هذه التقادير توفير معان وذلك من بليغ الإيجاز. وعدل عن: رحمة منا، إلى {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} بالإظهار في مقام الإضمار لما يشعر به معنى الرب المضاف إلى ضمير المخاطب من العناية به عناية الرب بالمربوب.
ويتعلق {لِتُنْذِرَ قَوْماً} بما دل عليه مصدر {رَحْمَةً} على الوجوه المتقدمة. واللام للتعليل. والقوم: قريش والعرب، فهم المخاطبون ابتداء بالدين وكلهم لم يأتهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وأما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فكانا نذيرين حين لم تكن قبيلة قريش موجودة يومئذ ولا قبائل العرب العدنانية، وأما القحطانية فلم يرسل إليهم إبراهيم لأن اشتقاق نسب قريش كان من عدنان وعدنان بينه وبين إسماعيل قرون كثيرة.
وإنما اقتصر على قريش أو على العرب دون سائر الأمم التي بعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المنة عليهم أوفى إذ لم تسبق لهم شريعة من قبل فكان نظامهم مختلا غير مشوب
(20/68)

بإثارة من شريعة معصومة، فكانوا في ضرورة إلى إرسال نذير، وللتعريض بكفرانهم هذه النعمة، وليس في الكلام ما يقتضي تخصيص النذارة بهم ولا ما يقتضي أن غيرهم ممن أنذرهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يأتهم من قبله مثل اليهود والنصارى وأهل مدين.
وفي قوله {لِتُنْذِرَ} مع قوله {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} إشارة إلى أنهم بلغوا بالكفر حدا لا يتجاوزه حلم الله تعالى.
والتذكر: هو النظر العقلي في الأسباب التي دعت إلى حكمة إنذارهم وهي تناهي ضلالهم فوق جميع الأمم الضالة إذ جمعوا إلى الإشراك مفاسد جمة من قتل النفوس، وارتزاق بالغارات وبالمقامرة، واختلاط الأنساب، وانتهاك الأعراض. فوجب تذكيرهم بما فيه صلاح حالهم.
وتقدم آنفا نظير قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
[47] { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
وهذا متصل بقوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46]، لأن الإنذار يكون بين يدي عذاب.
و {لَوْلا} الأولى حرف امتناع لوجود، أي انتفاء جوابها لأجل وجود شرطها وهو حرف يلزم الابتداء فالواقع بعده مبتدأ والخبر عن المبتدأ الواقع بعد {لَوْلا} واجب الحذف وهو مقدر بكون عام. والمبتدأ هنا هو المصدر المنسبك من {أَنْ} وفعل {تُصِيبَهُمْ} والتقدير: لولا إصابتهم بمصيبة، وقد عقب الفعل السبوك بمصدر بفعل آخر وهو {فيقولوا} ، فوجب أن يدخل هذا الفعل المعطوف في الانسباك بمصدر، وهو معطوف بفاء التعقيب. فهذا المعطوف هو المقصود مثل قوله تعالى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فالمقصود هو (أن تذكر إحداهما الأخرى).
وإنما حيك نظم الكلام على هذا المنوال ولم يقل: ولولا أن يقولوا ربنا الخ حين تصيبهم مصيبة إلى آخره، لنكتة الاهتمام بالتحذير من إصابة المصيبة فوضعت في موضع المبتدأ دون موضع دون موضع الظرف لتساوي المبتدأ المقصود من جملة شرط {لَوْلا} فيصبح هو زظرفه عمدتين في الكلام، فالتقدير هنا: ولولا إصابتهم بمصيبة يعقبها قولهم {رَبَّنَا لَوْلا
(20/69)

أَرْسَلْتَ} الخ لما عبأنا بإرسالك إليهم لأنهم أهل عناد وتصميم على المفر.
فجواب {لَوْلا} محذوف دل عليه ما تقدم من قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} إلى قوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} ، أي ولكنا أعذرنا إليهم بإرسالك لنقطع معذرتهم. وجواب {لَوْلا} محذوف دل عليه الكلام السابق، أي لولا الرحمة بهم بتذكيرهم وإنذارهم لكانوا مستحقين حلول المصيبة بهم.
و {لَوْلا} الثانية حرف تحضيض، أي أرسلت إلينا قبل أن تأخذنا بعذاب فتصلح أحوالنا وأنت غني عن عذابنا. وانتصب {فَنَتَّبِعَ} (بأن) مضمرة وجوبا في جواب التحضيض.
وضمير {تُصِيبَهُمْ} عائد إلى القوم الذين لم يأتهم نذير من قبل. والمراد {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ما سلف من الشرك.
والمصيبة: ما يصيب الإنسان، أي يحل به من الأحوال، وغلب اختصاصها بما يحل بالمرء من العقوبة والأذى.
والباء في {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} للسببية، أي عقوبة كان سببها ما سبق على أعمالهم السيئة. والمراد بها هنا عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه، وتقدم عند قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} في [سورة النساء: 62]. وهي ما يحترجونه من الأعمال الفاحشة.
و(ما قدمت أيديهم) ما اعتقدوه من الإشراك وما عملوه من آثار الشرك.
والأيدي مستعار للعقول المكتسبة لعقائد الكفر. فشبه الاعتقاد القلبي بفعل اليد تشبيه معقول بمحسوس.
وهذه الآية تقتضي أن المشركين يستحقون العقاب بالمصائب في الدنيا ولو لم يأتهم رسول لأن أدلة وحدانية الله مستقرة في الفطرة ومع ذلك فإن رحمة الله أدركتهم فلم يصبهم بالمصائب حتى أرسل إليهم رسولا.
ومعنى الآية على أصول الأشعري وما بينه أصحاب طريقته مثل القشيري وأبي بكر بن العربي: أن ذنب الإشراك لا عذر فيه لصاحبه لأن توحيد الله قد دعي إليه الأنبياء والرسل من عهد آدم بحيث لا يعذر بجهله عاقل فإن الله قد وضعه في الفطرة إذ أخذ عهده
(20/70)

به على ذرية آدم كما أشار إليه قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} كما بيناه في [سورة الأعراف: 172].
ولكن الله يرأف بعباده إذا طالت السنون وانقرضت القرون وصار الناس مظنة الغفلة فيتعهدهم ببعثة الرسل للتذكير بما في الفطرة وليشرعوا لهم ما به صلاح الأمة.
فالمشركون الذين انقرضوا قبل البعثة المحمدية مؤاخذون بشركهم ومعاقبون عليه في الآخرة ولو شاء الله لعاقبهم عليه بالدنيا بالاستئصال ولكن الله أمهلهم، والمشركون الذين جاءتهم الرسل ولم يصدقوهم مستحقون عذاب الدنيا زيادة على عذاب الآخرة، قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21].
وأما الفرق الذين يعدون دليل توحيد الله بالإلهية عقليا مثل الماتريدية والمعتزلة فمعنى الآية على ظاهره، وهو قول ليس ببعيد.
[48] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}
الفاء فصيحة كالفاء في قوله عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وتقدير الكلام: فإن كان من معذرتهم أن يقولوا ذلك فقد أرسلنا إليهم رسولا بالحق فلما جاءهم الحق لفقوا المعاذير وقالوا: لا نؤمن به حتى نؤتى مثل ما أوتي موسى.
و{الْحَقُّ}: هو ما في القرآن من الهدى.
وإثبات المجيء إليه استعارة بتشبيه الحق بشخص وتشبيه سماعه بمجيء الشخص، أو هو مجاز عقلي وإنما الجائي الرسول الذي يبلغه عن الله، فعبر عنه بالحق لإدماج الثناء عليه في ضمن الكلام.
ولما بهرتهم آيات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجدوا من المعاذير إلا ما لقنهم اليهود وهو أن يقولوا: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ، أي بأن تكون آياته مثل آيات موسى التي يقصها عليهم اليهود وقص بعضها القرآن.
وضمير {يَكْفُرُوا} عائد إلى القوم من قوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً}[ القصص: 46] لتتناسق الضمائر من قوله {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ} [القصص: 47] وما بعده من الضمائر أمثاله.
(20/71)

فيشكل عليه أن الذين كفروا بما أوتي موسى هو قوم فرعون دون مشركي العرب فقال بعض المفسرين هذا من إلزام المماثل بفعل مثيله لأن الإشراك يجمع الفريقين فتكون أصول تفكيرهم واحدة وبتحد بهتانهم، فان القبط أقدم منهم في دين الشرك فهم أصولهم فيه والفرع يتبع أصله ويقول بقوله، كما قال تعالى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات: 52-53] أي متماثلون في سبب الكفر والطغيان فلا يحتاج بعضهم إلى وصية بعض بأصول الكفر. وهذا مثل قوله تعالى {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2-3] ثم قال {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5] أي بنصر الله إياهم إذ نصر المماثلين في كونهم غير مشركين إذ كان الروم يومئذ على دين المسيح.
فقولهم {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من باب التسليم الجدلي، أو من اضطرابهم في كفرهم فمرة يكونون معطلين ومرة يكونون مشترطين. والوجه أن المشركين كانوا يجحدون رسالة الرسل قاطبة. وكذلك حكاية قولهم {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} من قول مشركي مكة في موسى وهارون لما سمعوا قصتهما أو في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهو الأظهر وهو الذي يلتئم مع قوله بعده { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا } [القصص: 48-49].
وقرأ الجمهور {سِحْرَانِ} تثنية ساحر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف {قَالُوا سِحْرَانِ} على أنه من الإخبار بالمصدر للمبالغة، أي قالوا: هما ذوا سحر.
والتظاهر: التعاون.
والتنوين في {بِكُلٍّ} تنوين عوض عن المضاف إليه فيقدر المضاف إليه بحسب الاحتمالين إما بكل من الساحرين، وإما أن يقدر بكل من ادعى رسالة وهو أنسب بقول قريش لأنهم قالوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} .
[49-50 ]{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي أجب كلامهم المحكي من قولهم {سِحْرَانِ} وقولهم {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . [ القصص: 48]
(20/72)

عليهم المغلوبية فكان ذلك أدل على عجزهم وأثبت في إعجاز القرآن.
وهذا من التعليق على ما تحقق عدم وقوعه، فالمعلق حينئذ ممتنع الوقوع كقوله {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [ الزخرف:81] ولكونه ممتنع الوقوع أمر الله رسوله أن يقوله. وقد فهم من قوله {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا} ومن إقحام {فَاعْلَمْ} أنهم لا يأتون بذلك البتة وهذا من الإعجاز بالإخبار عن الغيب.
وجاء في آخر الكلام تذييل عجيب وهو أنه لا أحد أشد ضلالا من أحد اتبع هواه المنافي لهدى الله.
و {مَنْ} اسم استفهام عن ذات مبهمة وهو استفهام الإنكار فأفاد الانتفاء فصار معنى الاسمية الذي فيه في معنى نكرة في سياق النفي أفادت العموم فشمل هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وغيرهم. وبهذا العموم صار تذييلا وهو كقزله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} في [سورة البقرة: 140].
وأطلق الاتباع على العمل بما تميله إرادة المرء الناشئة عن ميله إلى المفاسد والأضرار تشبيها للعمل بالمشي وراء السائر، وفيه تشبيه الهوى بسائر، والهوى مصدر لمعنى المفعول كقول جعفر بن علبة:
هواي مع الركب اليمانين مصعد
وقوله {بغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} الباء فيه للملابسة وهو موضع الحال من فاعل {اتَّبَعَ هَوَاهُ} وهو حال كاشفة لتأكيد معنى الهوى لأن الهوى لا يكون ملابسا للهدى الرباني ولا صاحبه ملابسا له لأن الهدى يرجع إلى معنى إصابة المقصد الصالح.
وجعل الهدى من الله لأنه حق الهدى لأنه وارد من العالم بكل شيء فيكون معصوما من الخلل والخطأ.
ووجه كونه لا أضل منه أن الضلال في الأصل خطأ الطريق وأنه يقع في أحوال متفاوتة في عواقب المشقة أو الخطر أو الهلاك بالكلية، على حسب تفاوت شدة الضلال. وإتباع الهوى مع إلغاء أعمال النظر ومراجعته في النجاة يلقي بصاحبه إلى كثير من أحوال الضر بدون تحديد ولا انحصار.
فلا جرم يكون هذا الاتباع المفارق لجنس الهدى أشد الضلال فصاحبه أشد الضالين
(20/74)

ضلالا.
ثم ذيل هذا التذييل بما هو تمامه إذ فيه تعيين هذا الفريق المبهم الذي هو أشد الضالين ضلالا فإنه الفريق الذين كانوا قوما ظالمين، أي كان الظلم شأنهم وقوام قوميتهم ولذلك عبر عنهم بالقوم.
والمراد بالظالمين: الكاملون في الظلم، وهو ظلم الأنفس وظلم الناس، وأعظمه الإشراك وإتيان الفواحش والعدوان، فإن الله لا يخلق في نفوسهم الاهتداء عقابا منه على ظلمهم فهم باقون في الضلال يتخبطون فيه، فهم أضل الضالين، وهم مع ذلك متفاوتون في انتفاء هدى الله عنهم على تفوتهم في التصلب في ظلمهم؛ فقد يستمر أحدهم زمانا على ضلاله ثم يقدر الله له الهدى فيخلق في قلبه الإيمان. ولأجل هذا التفاوت في قابلية الإقلاع عن الضلال استمرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم الإيمان في عموم المدعوين إذ لا يعلم إلا الله مدى تفاوت الناس لقبول الهدى، فالهدى المنفي عن أن يتعلق بهم هنا هو الهدى التكويني.
وأما الهدى بمعنى الإرشاد فهو من عموم الدعوة. وهذا معنى قول الأئمة من الأشاعرة أن الله يخاطب بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن مثل أبي جهل لأن التعلق التكويني غير التعلق التشريعي.
وبين {هَوَاهُ} و {هُدىً} جناس محرف وجناس خط.
[51] {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
عطف على جملة {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}[القصص: 47] الآية، وما عطف عليها من قوله {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48].
والتوصيل: مبالغة في الوصل، وهو ضم بعض الشيء إلى بعض يقال: وصل الحبل إذا ضم قطعه بعضها إلى بعض فصار حبلا.
والقول المراد به القرآن قال تعالى { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] وقال {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]، فالتعريف للعهد، أي القول المعهود. وللتوصيل أحوال كثيرة فهو باعتبار ألفاظه وصل بعضه ببعض ولم ينزل جملة واحدة، وباعتبار معاينة وصل أصنافا
(20/75)

من الكلام وعداً، ووعيداً، وترغيباً، وترهيباً، وقصصاً ومواعظ وعبراً، ونصائح يعقب بعضها بعضا وينتقل من فن إلى فن وفي كل ذلك عون على نشاط الذهن للتذكر والتدبر.
واللام و {قد} كلاهما للتأكيد ردا عليه إذ جهلوا حكمة تنجيم نزول القرآن وذكرت لهم حكمة تنجيمه هنا بما يرجع إلى فائدتهم بقوله {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . وذكر في آية سورة الفرقان حكمة أخرى راجعة إلى فائدة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا1 لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} وفهم من ذلك أنهم لم يتذكروا. وضمير {لَهُمْ} عائد إلى المشركين.
[52-53] { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ }
لما أفهم قوله {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [القصص: 51] أنهم لم يفعلوا ولم يكونوا عند رجاء الراجي عقب ذلك بهذه الجملة المستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب لسؤال من يسأل هل تذكر غيرهم بالقرآن أو استوى الناس في عدم التذكر به. فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب من قبل نزول القرآن يؤمنون به إيمانا ثابتا.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب طائفة معهودة من أهل الكتاب شهد الله لهم بأنهم يؤمنون بالقرآن ويتدبرونه وهم بعض النصارى ممن كان بمكة مثل روقة بن نوفل، وصهيب، وبعض يهود المدينة مثل عبد الله بن سلام ورفاعة بن رفاعة القرظي ممن بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة فلما هاجر أظهروا إسلامهم.
وقيل: أريد بهم وفد من نصارى الحبشة اثنا عشر رجلا بعثهم النجاشي لاستعلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فجلسوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم يسمعون إلى ما يقولون فلما قاموا من عند النبي صلى الله عليه وسلم تبعهم أبو جهل ومن معه فقال لهم: خيبكم الله من ركب وقبحكم من وفد لم تلبثوا أن صدقتموه، فقالوا: سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. وبه ظهر أنهم لما رجعوا أسلم النجاشي وقد أسلم بعض نصارى الحبشة لما وفد إليهم أهل الهجرة إلى الحبشة وقرأوا عليهم القرآن وأفهموهم الدين.
ـــــــ
1 في المطبوعة {وقالوا لولا}
(20/76)

وضمير {مِنْ قَبْلِهِ} عائد إلى القول من {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص: 51]، وهو القرآن. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} لتقوي الخبر. وضمير الفصل مقيد للقصر الإضافي، أي هم يوقنون بخلاف هؤلاء الذين وصلنا لهم القول.
ومجيء المسند مضارعا للدلالة على استمرار إيمانهم وتجدده.
وحكاية إيمانهم بالمضي في قوله {آمَنَّا بِهِ} مع أنهم يقولون ذلك عند أول سماعهم القرآن: إما لأن المضي مستعمل في إنشاء الإيمان مثل استعماله في صيغ العقود، وإما للإشارة إلى أنهم آمنوا به من قبل نزوله، أي آمنوا بأنه سيجيء رسول بكتاب مصدق لما بين يديه، يعني إيمانا إجماليا يعقبه إيمان تفصيلي عند سماع آياته. وينظر إلى هذا المعنى قوله {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ، أي مصدقين بمجيء رسول الإسلام.
ويجوز أن يراد بـ {مُسْلِمِينَ} موحدين مصدقين بالرسل فإن التوحيد هو الإسلام كما قال إبراهيم {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
وجملة {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} في موقع التعليل لجملة {آمَنَّا بِهِ} .
وجملة {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} بيان لمعنى {آمَنَّا بِهِ} .
[54-55] {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}
التعبير عنهم باسم الإشارة منا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في [سورة البقرة: 5].
وعد الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال:
إحداها: أخروية، وهي {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم، أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن، فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيها للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد.
(20/77)

وفائدة هذا المجاز 'ظهار العناية حتى كأن المثيب يعطى ثم يكرر عطاءه ففي {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} تمثيلة. وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" . رواه الشعبي وقال لعطاء الخراساني: خذه بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.
والثانية: الصبر، والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات، وأعونها على الزيادة والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم أو صبرهم على أذى قريش، وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي. ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} وقوله {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} .
والخصلة الثالثة: درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس، وإسداء الخير إلى نفس أخرى، فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} .
وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة، وهو الخصلة الرابعة ولا يخفى مكانها من البر.
والخصلة الخامسة: الإعراض عن اللغو، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولبه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك.
والخصلة السادسة: الكلام الفصل وهو قولهم {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وهذا من أحسن ما يجاب السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم.
ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تنظم في سلك الإعجاز فألهمهم تلك الكلمات ثم شرفها بأن حكيت في نسج القرآن، كما ألهم عمر قوله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ
(20/78)

طَلَّقَكُنَّ} [ التحريم: 5] الآية.
ومعنى {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أن أعمالنا مستحقة لنا كناية عن ملازمتهم إياها وأما قولهم {لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فهو تتميم على حد {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].
والمقصود من السلام أنه سلام المتاركة المكنى بها عن الموادعة أن لا نعود لمخاطبتكم قال الحسن: كلمة: السلام عليكم، تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين. ولعل القرآن غير مقالتهم بالتقديم والتأخير لتكون مشتملة على الخصوصية المناسبة للإعجاز لأن تأخير الكلام الذي فيه المتاركة إلى آخر لخطاب أولى ليكون فيه براعة المقطع.
وحذف القرآن قولهم: لم نأل أنفسنا رشدا، للاستغناء عنه بقولهم {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} .
السابعة: ما أفصح عنه قولهم {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} من أن ذلك خلقهم أنهم يتطلبون العلم ومكارم الأخلاق. والجملة تعليل للمتاركة، أي لأنا لا نحب مخالطة أهل الجهالة بالله وبدين الحق وأهل خلق الجهل الذي هو ضد الحلم، فاستعمل الجهل في معنييه المشترك فيها ولعله تعريض بكنية أبي جهل الذي بذا عليهم بلسانه.
والظاهر أن هذه الكلمة يقولونها بين أنفسهم ولم يجهروا بها لأبي جهل وأصحابه بقرينة قوله {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} وقوله {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وبذلك يكون القول المحكي قولين: قول وجهوده لأبي جهل وصحبه، وقول دار بين أهل الوفد.
[56] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
لما ذكر معاذير المشركين وكفرهم بالقرآن، وأعلم رسوله أنهم يتبعون أهواءهم وأنهم مجردون عن هدى الله، ثم أثنى على فريق من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن، وكان ذلك يحزن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض قريش وهم أخص الناس به عن دعوته أقبل الله على خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم بما يسلي نفسه ويزيل كمده بأن ذكره بأن الهدى بيد الله. وهو كناية عن الأمر بالتفويض في ذلك إلى الله تعالى.
والجملة استئناف ابتدائي. وافتتاحها بحرف التوكيد اهتمام باستدعاء إقبال النبي عليه السلام على علم ما تضمنته على نحو ما قررناه آنفا في قوله {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
(20/79)

أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]. ومفعول {أَحْبَبْتَ} محذوف دل عليه {لا تَهْدِي} .
والتقدير: من أحببت هديه أو اهتداءه. وما صدق {مِنَ} الموصولة كل من دعاه النبي إلى الإسلام فإنه يحب اهتداءه.
وقد تضافرت الروايات على أن من أول المراد بذلك أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أغتم لموته على غير الإسلام كما في الأحاديث الصحيحة. قال الزجاج: أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب. وقال الطبري: وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان بالله وحده. قال القرطبي: وهو نص حديث البخاري ومسلم وقد تقدم ذلك في براءة.
وهذا من العام النازل على سبب خاص فيعمه وغيره وهو يقتضي أن تكون هذه السورة نزلت عقب موت أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب سنة ثلاث قبل الهجرة، أو كان وضع هذه الآية عقب الآيات التي قبلها بتوقيف خاص.
ومعنى {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أنه يخلق من يشاء قابلا للاهتداء في مدى معين وبعد دعوات محدودة حتى ينشرح صدره للأيمان فإذا تدبر ما خلقه الله عليه وحدده كثر في علمه وإرادته جعل منه الاهتداء في مدى معين وبعد دعوات محدودة حتى ينشرح صدره للإيمان فإذا تدبر ما خلقه الله عليه وحدده كثر في علمه وإرادته جعل منه الاهتداء، فالمراد الهداية بالفعل. وأما قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فهي الهداية بالدعوة والإرشاد فاختلف الإطلاقان.
ومفعول فعل المشيئة محذوف لدلالة ما فبله عليه، أي من يشاء اهتداءه، والمشيئة تعرف بحصول الاهتداء وتتوقف على ما سبق من علمه وتقديره.
وفي قوله {وهو أعلم بالمهتدين} إيماء إلى ذلك، أي هو أعلم من كل أحد بالمهتدين في أحوالهم ومقادير استعدادهم على حسب ما تهيأت إليه فطرهم من صحيح النظر وقبول الخير واتقاء العاقبة والانفعال لما يلقي إليها من الدعوة ودلائلها. ولكل ذلك حال ومدى ولكليهما أسباب تكوينية في الشخص وأسلافه وأسباب نمائه أو ضعفه من الكيان والوسط والعصر والتعقل.
[57] {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
هذه بعض معاذيرهم قالها فريق منهم ممن غلبه الحياء على أن يكابر ويجاهر بالتكذيب، وغلبه إلف ما هو عليه من حال الكفر على الاعتراف بالحق، فاعتذروا بهذه
(20/80)

المعذرة، فروي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وناسا من قريش جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحارث "إنا لنعلم أن قولك حق ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بهم وإنما نحن أكلة رأس" (أي أن جمعنا يشبه الرأس الواحد من الإبل وهذه الكلمة كناية عن القلة) فهؤلاء اعترفوا في ظاهر الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى.
والتخطف: مبالغة في الخطف، وهو انتزاع شيء بسرعة، وتقدم في قوله تعالى {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} في [سورة الأنفال: 26]. والمراد: يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم، فرد الله عليهم بأن قريشا مع قلتهم عدا وعدة أتاح الله لهم بلدا هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب واشتغالهم بالغارة على جيرتهم وجبى إليهم ثمرات كثيرة قرونا طويلة، فلو اعتبروا لعلموا إن لهم منعة ربانية وإن الله الذي أمنهم في القرون الخالية يومنهم إن استجابوا لله ورسوله.
والتمكين: الجعل في مكان، وتقدم في قوله تعالى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في [سورة الأنعام: 6]، وقوله في أول هذه السورة [6] {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ] . واستعمل هنا مجازا في الإعداد والتيسير.
والجبي: الجمع والجلب ومنه جباية الخراج.
والاستفهام إنكار أن يكون الله لم يمكن لهم حرما. ووجه الإنكار أنهم نزلوا منزلة من بنفي أن ذلك الحرم من تمكين الله فاستفهموا على هذا النفي استفهام إنكار.
وهذا الإنكار يقتضي توبيخا على هذه الحالة التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرما.
والواو عطفت جملة الاستفهام على جملة {وَقَالُوا} . والتقدير: ونحن مكنا لهم حرما.
و {كُلُّ شَيْءٍ} عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل {كُلُّ} في معنى الكثرة.
و {رِزْقاً} حال من {ثَمَرَاتُ} وهو مصدر بمعنى المفعول.
ومعنى {مِنْ لَدُنَّا} من عندنا، والعندية مجاز في التكريم والبركة، أي رزقا قدرناه
(20/81)

لهم إكراما فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص بالله تعالى.
وقد حصل في خلال الرد لقولهم إدماج للامتنان عليهم بهذه النعمة ليحصل لهم وازعان عن الكفر بالنعم: وازع إبطال معذرتهم عن الكفر، ووازع التذكير بنعمة المكفور به.
وموقع الاستدراك في قوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنه متعلق بالكلام المسوق مساق الرد على قولهم {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} إذ التقدير: أن تلك نعمة ربانية ولكن أكثرهم لا علم لهم فلذلك لم يتفطنوا إلى كنه هذه النعمة فحسبوا أن الإسلام مفض إلى اعتداء العرب عليهم ظنا بأن حرمتهم بين العرب مزية ونعمة أسداها إليهم قبائل العرب.
وفعل {لا يَعْلَمُونَ} منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول، أي ليسوا ذوي علم ونظر بل هم جهلة لا يتدبرون الأحوال. ونفي العلم عن أكثرهم لأن بعضهم أصحاب رأي فلو نظروا وتدبروا لما قالوا مقالتهم تلك.
ولو قدر لفعل {يَعْلَمُونَ} مفعول دل عليه الكلام، أي لا يعلمون تمكين الحرم لهم وأن جلب الثمرات إليهم من فضلنا لما استقام إسناد نفي العلم إلى أكثرهم بل كان يسند إلى جميعهم لإطباق كلمتهم على مقالة {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} .
وقرأ نافع وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {تجبى} بالمثناة الفوقية. وقرأ الباقون بالياء التحتية مراعاة للمضاف إليه وهو {كُلُّ شَيْءٍ} فأكسب المضاف تأنيثا.
[58] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} .
عطف على جملة {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص: 57] باعتبار ما تضمنته من الإنكار والتوبيخ، فإن ذلك يقتضي التعرض للانتقام شأن الأمم التي كفرت بنعم الله فهو تخويف لقريش من سوء عاقبة أقوام كانوا في مثل حالهم من الأمن والرزق فغمطوا النعمة وقابلوها بالبطر.
والبطر: التكبر. وفعله قاصر من باب فرح، فانتصاب {مَعِيشَتَهَا} بعد {بَطِرَتْ} على تضمين {بَطِرَتْ} معنى ( كفرت) لأن البطر وهو التكبر يستلزم عدم الاعتراف بما
(20/82)

يسدى إليه من الخير.
والمراد: بطرت حالة معيشتها، أي نعمة عيشها.
والمعيشة هنا اسم مصدر بمعنى العيش والمراد حالته فهو على حذف مضاف دل عليه المقام، ويعلم أنها حالة حسنة من قوله {بَطِرَتْ} وهي حالة الأمن والرزق.
والإشارة بـ {تِلْكَ} إلى {مَسَاكِنُهُمْ} الذي بين به اسم الإشارة لأنه في قوة تلك المساكن. وبذلك صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن منزل منزلة الحاضر بمرأى السامع، ولذلك فقوله {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} خبر عن اسم الإشارة. والتقدير: فمساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا.
والسكنى: الحلول في البيت ونحوه في الأوقات المعروفة بقصد الاستمرار زمنا طويلا.
ومعنى {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} لم يتركوا فيها خلفا لهم. وذلك كناية عن انقراضهم عن بكرة أبيهم.
وقوله {إِلَّا قَلِيلاً} احتراس أي إلا إقامة المارين بها المعتبرين بهلاك أهلها.
وانتصب {قَلِيلاً} على الاستثناء من عموم أزمان محذوفة. والتقدير: إلا أزمانا قليلا، أو على الاستثناء من مصدر محذوف. والتقدير: لم تسكن سكنا إلا سكنا قليلا، والسكن القليل: هو مطلق الحلول بغير نية إطالة فهي إلمام لا سكنى. فإطلاق السكنى على ذلك مشاكلة ليتأتى الاستثناء، أي لم تسكن إلا حلول المسافرين أو إناخة المنتجين مثل نزول جيش غزوة تبوك بحجر ثمود واستقائهم من بئر الناقة. والمعنى: فتلك مساكنهم خاوية خلاء لا يعمرها عامر، أي أن الله قدر بقاءها خالية لتبقى عبرة وموعظة بعذاب الله في الدنيا.
وبهذه الآية يظهر تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مر في طريقه إلى تبوك بحجر ثمود فقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبك مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين" أي خائفين أي اقتصار على ضرورة المرور لئلا يتعرضوا إلى تحقق حقيقة السكنى التي قدر الله انتفاءها بعد قومها فربما قدر إهلاك من يسكنها تحقيقا لقدره.
وجملة {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} عطف على جملة {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} وهو يفيد
(20/83)

أنها لم تسكن من بعدهم فلا يحل فيها قوم آخرون بعدهم فعبر عن تداول السكنى بالإرث على طريقة الاستعارة.
وقصر إرث تلك المساكن على الله تعالى حقيقي، أي لا يرثها غيرنا. وهو كناية عن حرمان تلك المساكن من الساكن. وتلك الكناية رمز إلى شدة غضب الله تعالى على أهلها الأولين بحيث تجاوز غضبه الساكنين إلى نفس المساكن فعاقبها بالحرمان من بهجة المساكين سكانها فإن كمال الموجودات هو به قوام حقائقها.
[59] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
أعقب الاعتبار بالقرى المهلكة ببيان أشراط هلاكها وسببه، استقصاء للإعذار لمشركي العرب، فبين لهم أن ليس من عادة الله تعالى أن يهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولا في القرية الكبرى منها لأن القرية الكبرى هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها فلا تخفى دعوة الرسول فيها ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعدادا لإدراك الأمور على وجهها فهذا بيان أشراط الإهلاك.
و {الْقُرَى} : هي المنازل لجماعات من الناس ذوات البيوت المبنية، وتقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} في [البقرة: 58].
وخصت بالذكر لأن العبرة بها أظهر لأنها إذا أهلكت بقيت آثارها وأطلالها ولم ينقطع خبرها من الأجيال الآتية بعدها ويعلم أن الحلل والخيام مثلها بحكم دلالة الفحوى.
وإفراغ النفي في صيغة ما كان فاعلا ونحوه من صيغ الجحود يفيد رسوخ هذه العدة واطرادها كما تقدم في نظائره منها قوله تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ} في [سورة آل عمران: 79] وقوله {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} في [سورة يونس: 37].
وقرى بلاد العرب كثيرة مثل مكة وجدة ومنى والطائف ويثرب وما حولها من القرى وكذلك قرى اليمن وقرى البحرين. وأم القرى هي القرية العظيمة منها وكانت مكة أعظم بلاد العرب شهرة وأذكرها بينهم وأكثرها مارة وزوارا لمكان الكعبة فيها والحج لها.
(20/84)

والمراد بإهلاك القرى إهلاك أهلها. وإنما علق الإهلاك بالقرى للإشارة إلى أن شدة الإهلاك بحيث يأتي على الأمة وأهلها وهو الإهلاك بالحوادث التي لا تستقر معها الديار بخلاف إهلاك الأمة فقد يكون بطاعون ونحوه فلا يترك أثرا في القرى.
وإسناد الخبر إلى الله بعنوان ربوبيته للنبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود بهذا الإنذار هم أمة محمد الذين كذبوا فالخطاب للنبي عليه السلام لهذا المقصد. ولهذا وقع الالتفات عنه إلى ضمير المتكلم في قوله {آيَاتِنَا} للإشارة إلى أن الآيات من عند الله وأن الدين دين الله.
وضمير {عليهم} عائد إلى المعلوم من القرى وهو أهلها كقوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [ يوسف: 82] ومنه قوله {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17].
وقد حصل في هذه الجملة تفنن في الأساليب إذ جمعت الاسم الظاهر وضمائر الغيبة والخطاب والتكلم.
ثم بين السبب بقوله {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أي ما كان من عادتنا في عبادنا أن نهلك أهل القرى في حالة ظلمهم أنفسهم بالإشراك، فالإشراك سبب الإهلاك وإرسال رسول شرطه، فيتم ظلمهم بتكذيبهم الرسول.
وجملة {وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} في موضع الحال، وهو حال مستثنى من أحوال محذوفة اقتضاها الاستثناء المفرغ، أي ما كنا مهلكي القرى في حال إلا في حال ظلم أهلها.
[60] {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ}
لما ذكرهم الله بنعمه عليهم تذكيرا أدمج في خلال الرد على قولهم {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] بقوله {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57] أعقبه بأن كل ما أوتوه من نعمة هو من متاع الحياة الدنيا كالأمن والرزق، ومن زينتها كاللباس والأنعام والمال، وأما ما عند الله من نعيم الآخرة من ذلك وأبقى لئلا يحسبوا أن هم فيه من الأمن والرزق هو الغاية المطلوبة فلا يتطلبوا ما به تحصيل النعيم العظيم الأبدي، وتحصيله بالإيمان. ولا يجعلوا ذلك موازنا لاتباع الهدى وإن كان في اتباع الهدى تفويت ما هم فيه من أرضهم وخيراتها لو سلم ذلك. هذا وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها.
(20/85)

و {مِنْ شَيْءٍ} بيان لـ {مَا أُوتِيتُمْ} والمراد من أشياء المنافع كما دل عليه المقام لأن الإيتاء شائع في إعطاء ما ينفع.
وقد التفت الكلام من الغيبة من قوله {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً} إلى الخطاب في قوله {أُوتِيتُمْ} لأن ما تقدم من الكلام أوجب توجيه التوبيخ مواجهة إليهم.
والمتاع: ما ينتفع به زمنا ثم يزول.
والزينة: ما يحسن الأجسام.
والمراد بكون ما عند الله خيرا، أن أجناس الآخرة خير مما أوتوه في كمال أجناسها، وأما كونه أبقى فهو بمعنى الخلود.
وتفرع على هذا الخبر استفهام توبيخي وتقريري على عدم عقل المخاطبين لأنهم لما لم يستدلوا بعقولهم على طريق الخير نزلوا منزلة من أفسد عقله فسئلوا: أهم كذلك?.
وقرأ الجمهور {تَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {يَعْقِلُونَ} بياء الغيبة على الالتفات عن خطابهم لتعجب المؤمنين من حالهم، وقيل: لأنهم لما كانوا لا يعقلون نزلوا منزلة الغائب لبعدهم عن مقام الخطاب.
[61] {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}
أحسب أن موقع الفريع هنا أن مما أومأ إليه قوله {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص: 60] ما كان المشركون يتبجحون به على المسلمين من وفرة الأموال ونعيم الترف حين كان معظم المسلمين فقراء ضعفاء قال تعالى {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] أي منعمين، وقال {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11] فيظهر من آيات القرآن أن المشركين كان من دأبهم التفاخر بما هم فيه من النعمة قال تعالى {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116] وقال {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} [الأنبياء: 13] فلما أنبأهم الله بأن ما هم فيه من الترف إن هو إلا متاع قليل، قابل ذلك بالنعيم الفائق الخالد الذي أعد للمؤمنين، وهي تفيد مع ذلك تحقيق معنى الجملة التي قبلها لأن الثانية زادت الأولى بيانا بأن ما أتوه زائل زوالا معوضا بضد المتاع والزينة وذلك قوله {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} .
(20/86)

فما صدق {مِنَ} الأولى هم الذين وعدهم الله الوعد الحسن وهم المؤمنون، وما صدق {مِنَ} الثانية جمع هم الكافرون. والاستفهام مستعمل في إنكار المشابهة والمماثلة التي أفادها كاف التشبيه فالمعنى أن الفريقين ليسوا سواء إذ لا يستوي أهل نعيم عاجل زائل وأهل نعيم آجل خالد.
وجملة {فَهُوَ لاقِيهِ} معترضة لبيان أنه وعد محقق، والفاء للتسبب.
وجملة {ثُمَّ هُوَ} الخ عطف على جملة {مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فهي من تمام صلة الموصول. و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لبيان أن رتبة مضمونها في الخسارة أعظم من مضمون التي قبلها، أي لم تقتصر خسارتهم على حرمانهم من نعيم الآخرة بل تجاوزت إلى التعويض بالعذاب الأليم.
ومعنى {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أنه من المحضرين للجزاء على ما دل عليه التوبيخ في {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [ القصص: 60] والمقابلة في قوله {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} المقتضية أن الفريق المعين موعودون بضد الحسن، فحذف متعلق {الْمُحْضَرِينَ} اختصارا كما حذف في قوله {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57] وقوله {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [ الصافات: 127، 128]
[62-63] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}
تخلص من إثبات بعثة الرسل وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى إبطال الشركاء لله، فالجملة معطوفة على جملة {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} [القصص: 61] مفيدة سبب كونهم من المحضرين، أي لأنهم من دون الله شركاء وزعموا أنهم يشفعون لهم فإذا هم لا يجدونهم يوم يحضرون للعذاب، فلك أن تجعل مبدأ الجملة قوله {يناديهم} فيكون عطفا على جملة {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61] أي يحضرون ويناديهم فيقول: أَينَ شَُركَائِي} الخ. ولك أن تجعل مبدأ الجملة قوله {يُنَادِيهِمْ} . ولك أن تجعله عطف مفردات فيكون {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} عطفا على {يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61] فيكون {يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} عين {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وكان حقه أن يأتي بدلا من {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لكنه عدل عن الإبدال إلى العطف لاختلاف حال ذلك اليوم باختلاف العنوان، فنزل منزلة يوم زيادة في تهويل ذلك اليوم.
(20/87)

ولك أن تجعل {يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبا بفعل مقدر بعد واو العطف بتقدير: اذكر، أو بتقدير فعل دل عليه معنى النداء. واستفهام التوبيخ من حصول أمر فظيع، تقديره: يوم يناديهم يكون ما لا يوصف من الرعب.
وضمير {يُنَادِيهِمْ} المرفوع عائد إلى الله تعالى. وضمير الجمع المنصوب عائد إلى المتحدث عنهم في الآيات السابقة ابتداء من قوله {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] فالمنادون جميع المشركين كما اقتضاه قوله تعالى {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
والاستفهام بكلمة {أَيْنَ} ظاهره استفهام عن المكان الذي يوجد فيه الشركاء، ولكنه مستعمل كناية عن انتفاء وجود الشركاء المزعومين يومئذ، فالاستفهام مستعمل في الانتفاء.
ومفعولا {تَزْعُمُونَ} محذوفان دل عليهما {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أي تزعمونهم شركائي، وهذا الحذف اختصار وهو جائز في مفعولي (ظن).
وجردت جملة {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} عن حرف العطف لأنها وقعت في موقع المحاورة فهي جواب عن قوله تعالى {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
والذين تصدوا للجواب هم بعض المنادين بـ {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} علموا أنهم الأحرياء بالجواب. وهؤلاء هم أئمة أهل الشرك من أهل مكة مثل أبي جهل وأمية بن خلف وسدنة أصنامهم كسادن العزى. ولذلك عبر عنهم بـ {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ولم يعبر عنهم بـ(قالوا).
ومعنى {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يجوز أن يكون {حَقَّ} بمعنى تحقق وثبت ويكون القول قولا معهودا وهو ما عهد للمسلمين من قوله تعالى و {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي1 لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] وقوله {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19] فالذين حق عليهم القول هم الذين حل الإبان الذي يحق عليهم فيه هذا لقول. والمعنى: أن الله ألجأهم إلى الاعتراف بأنهم أضلوا الضالين وأغووهم.
ويجوز أن يكون {حَقَّ} بمعنى وجب وتعين، أي حقعليهم الجواب لأنهم علموا أن قوله تعالى {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} موجه إليهم فلم يكن لهم بد من
ـــــــ
1 في المطبوعة: "حقت كلمة ربك لأملان ..."
(20/88)

إجابة ذلك السؤال. ويكون المراد بالقول جنس القول، أي الكلام الذي يقال في ذلك المقام وهو الجواب عن الاستفهام بقوله {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وعلى كلا الاحتمالين فالذين حق عليهم القول هم أئمة الكفر كما يقتضيه قوله تعالى {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا...} الخ.
والتعريف في {الْقَوْلُ} الأظهر أنه تعريف الجنس وهو ما دل عليه {قَالَ} ، أي قال الذين حق عليهم يقولوا، أي الذين كانوا أحرى بأن يجيبوا لعلهم بأن تبعة المسؤول عنه واقعة عليهم لأنه لما وجه التوبيخ إلى جملتهم تعين أن يتصدى للجواب الفريق الذين ثبتوا العامة على الشرك وأضلوا الدهماء.
وابتدأوا جوابهم بتوجيه النداء إلى الله بعنوان أنه ربهم، نداء أريد منه الاستعطاف بأنه الذي خلقهم اعترافا منهم بالعبودية وتمهيدا للتنصل من أن يكونوا هم المخترعين لدين الشرك فإنهم إنما تلقوه عن غيرهم من سلفهم، والإشارة بـ {هَؤُلاءِ} إلى بقية المنادين معهم قصدا لأن يتميزوا عمن سواهم من أهل الموقف وذلك بإلهام من الله ليزدادوا رعبا، وأن يكون لهم مطمع في التخليص. و {الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} خبر عن اسم الإشارة وهو اعتراف بأنهم أغووهم.
وجملة {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} استئناف بياني لجملة {الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} لأن اعترافهم بأنهم أغووهم يثير سؤال سائل متعجب كيف يعترفون بمثل هذا الجرم فأرادوا بيان الباعث لهم على إغواء إخوانهم وهو أنهم بثوا في عامة أتباعهم الغواية المستقرة في نفوسهم وظنوا أن ذلك الاعتراف يخفف عنهم من العذاب بقرينة قولهم {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}
وإنما لم يقتصر على جملة {أَغْوَيْنَاهُمْ} بأن يقال: هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا، لقصد الاهتمام بذكر هذا الإغواء بتأكيده اللفظي، وبإجماله في المرة الأولى وتفصيله في المرة الثانية، فليست على إعراب الحماسة عند قول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
إنما جاز أن يقول: فإذا تزول تزول، لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة، ومثله قول الله تعالى {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} ولو قال:
(20/89)

هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا، لأنه كقولك: الذي ضربته ضربته، والتي أكرمتها أكرمتها، ولكن لما اتصل بـ {أَغْوَيْنَاهُمْ} الثانية قوله {كَمَا غَوَيْنَا} أفاد الكلام كقولك: الذي ضربته لأنه جاهل. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما اخترناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك اهـ. وقد تقدم بيان كلامه عند قوله تعالى {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} في [سورة الإسراء: 7]، وقوله {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} في [سورة الشعراء: 130]، وقوله {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} في [سورة الفرقان: 72]، فإن تلك الآيات تطابق بيت الأحوص لاشتمالهن على {إِذَا} .
و {كَمَا غَوَيْنَا} صفة لمصدر، أي إغواء يوقع في نفوسهم غيا مثل الغي الذي في قلوبنا. ووجه الشبه في أنهم تلقوا الغواية من غيرهم فأفاد التشبيه أن المجيبين أغواهم مغوون قبلهم، وهم يحسبون هذا الجواب يدفع التبعة عنهم ويتوهمون أن السير على قدم الغاوين يبرر الغواية، وهذا كما حكى عنهم في [سورة الشعراء: 96-99] {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } . وحذف مفعول فعل {أَغْوَيْنَا} الأول وهو العائد من الصلة إلى الموصول لكثرة حذف أمثاله من كل عائد صلة هو ضمير نصب متصل وناصبه فعل أو وصف شبيه بالفعل، لأن اسم الموصول مغن عن ذكر هو دال عليه فكان حذف العائد اختصار. وذكر مفعول فعل {أَغْوَيْنَاهُمْ} الثاني اهتماما بذكره لعدم الاستغناء عنه في الاستعمال.
وجملة {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} استئناف. والتبرؤ: تفعل من البراءة وهي انتفاء ما يصم، فالتبرؤ: معالجة إثبات البراءة وتحقيقها. وهو يتعدى إلى من يحاول إثبات البراءة لأجله بحرف (إلى) الدال على الانتهاء المجازي؛ يقال: إني أبرأ إلى الله من كذا، أي أوجه براءتي إلى الله، كما يتعدى إلى الشيء الذي يصم بحرف (من) الاتصالية التي هي للابتداء المجازي قال تعالى {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69] وقد تدخل (من) على اسم ذات باعتبار مضاف مقدر نحو قوله تعالى {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48] أي من كفركم. والتقدير: من أعمالكم وشؤونكم إما من أعمال خاصة يدل عليها المقام أو من عدة أعمال.
فالمعنى هنا تحقق التبرؤ لديك، والمتبرأ منه هو مضمون جملة {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} فهي بيان لإجمال التبرؤ.
والمقصود: أنهم يتبرأون من أن يكونوا هم المزعوم أنهم شركاء وإنما قصارى
(20/90)

أمرهم أنهم مضلون وكان هذا المقصد إلجاء من الله إياهم ليعلنوا تنصلهم من إدعاء أنهم شركاء على رؤوس الملأ، أو حملهم على ذلك ما يشاهدون من فظاعة عذاب كل من ادعى المشركون له الإلهية باطلا لما سمعوا قوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. هذا ما انطوت عليه هذه الآية من المعاني.
وتقديم {إِيَّانَا} على {يَعْبُدُونَ} دون أن يقال يعبدوننا للاهتمام بهذا التبرؤ مع الرعاية على الفاصلة.
[64] {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}
هذا موجه إلى جميع الذين نودوا بقوله {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] فإن ذلك النداء كان توبيخا لهم على اتخاذهم آلهة شركاء لله تعالى. فلما شعروا بالمقصد من ندائهم وتصدى كبراؤهم للاعتذار عن اتخاذهم أتبع ذلك بهذا القول.
وأسند فعل القول إلى المجهول لأن الفاعل معلوم مما تقدم، أي وقال الله. والأمر مستعمل في الإطماع لتعقب الإطماع باليأس.
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين لأنهم الذين ادعوا لهم الشركة كما في آية [الأنعام: 94] {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} . والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا. وقوله {فلم يستجيبوا لهم} هو محل التأييس المقصود من الكلام.
وأما قوله تعالى {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } فيحتمل معاني كثيرة فرضها المفسرون؛ وجماع أقوالهم فيها أخذا وردا أن نجمعها في أربعة وجوه:
أحدها: أن يكون عطفا على جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . والرؤية بصرية، والعذاب عذاب الآخرة، أي أحضر لهم آلة العذاب ليعلموا أن شركاءهم لا يغنون عنهم شيئا. وعلى هذا تكون جملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مستأنفة ابتدائية مستقلة عن جملة {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} .
الثاني: أن تكون الواو للحال والرؤية أيضا بصرية والعذاب عذاب الآخرة، أي وقد رأوا العذاب فارتبكوا في الاهتداء إلى سبيل الخلاص فقيل لهم: ادعوا شركاءكم
(20/91)

لخلاصكم، وتكون جملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} كذلك مستأنفة ابتدائية.
الثالث: أن تكون الرؤية علمية، وحذف المفعول الثاني اختصارا، والعذاب عذاب الآخرة. والمعنى: وعلموا العذاب حائقا بهم، والواو للعطف أو الحال. وجملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل: ماذا صنعوا حين تحققوا أنهم معذبون? فأجيب بأنهم لو أنهم كانوا يهتدون سبيلا لسلكوه ولكنهم لا سبيل لهم إلى النجاة.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون {لَوْ} حرف شرط وجوابها محذوفا دل عليه حذف مفعول {يَهْتَدُونَ} أي يهتدون خلاصا أو سبيلا. والتقدير: لتخلصوا منه. وعلى الوجوه الثلاثة ففعل {كَانُوا} مزيد في الكلام لتوكيد خبر (أن) أي لو أنهم يهتدون اهتداء متمكنا من نفوسهم، وفي ذلك إيماء أنهم حينئذ لا قرارة لنفوسهم. وصيغة المضارع في {يَهْتَدُونَ} دالة على التجدد فالاهتداء منقطع منهم وهو كناية عن عدم الاهتداء من أصله.
الوجه الرابع: أن تكون {لَوْ} للتمني المستعمل في التحسر عليهم. والمراد اهتداؤهم في حياتهم الدنيا كيلا يقعوا في هذا العذاب، وفعل {كَانُوا} حينئذ في موقعه الدال على الاتصاف بالخبر في الماضي، وصيغة المضارع في {يَهْتَدُونَ} لقصد تجدد الهدى المتحسر على فواته عنهم فإن الهدى لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر إلى آخر حياته.
ووجه خامس عندي: أن يكون المراد بالعذاب عذاب الدنيا، والكلام على حذف مضاف تقديره: ورأوا آثار العذاب. والرؤية بصرية، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى في [سورة إبراهيم: 45] {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} ؛ وجملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذابا أعظم منه لاهتدوا فأقلعوا عن الشرك وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا لأنه يفيد معنى زائدا على ما أفادته جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . فهذه عدة معان يفيدها لفظ الآية، وكلها مقصود، فالآية من جوامع الكلم.
[65-66] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} هو {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [ القصص: 62] كرر
(20/92)

الحديث عنه باعتبار تعدد ما يقع فيه لأن مقام الموعظة يقتضي الإطناب في تعداد ما يستحق به التوبيخ. وكررت جملة {يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} لأن التكرار من مقتضيات مقام الموعظة. وهذا توبيخ لهم على تكذيبهم الرسل بعد انقضاء توبيخهم على الإشراك بالله.
والمراد: ماذا أجبتم المرسلين في الدعوة إلى توحيد الله وإبطال الشركاء. والمراد بـ {الْمُرْسَلِينَ} محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى في [سورة سبأ: 45] {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} . وله نظائر في القرآن منها قوله {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} يريد محمدا صلى الله عليه وسلم في [سورة يونس: 103] وقوله {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} الآيات في [سورة الشعراء: 105]، وإنما كذب كل فريق من أولئك رسولا واحدا. والذي اقتضى صيغة الجمع أن جميع المكذبين إنما كذبوا رسلهم بعلة استحالة رسالة البشر إلى البشر فهم إنما كذبوا بجنس المرسلين، ولام الجنس إذا دخلت على (جميع) أبطلت منه معنى الجمعية.
والاستفهام بـ {مَاذَا} صوري مقصود منه إظهار بلبلتهم. و(ذا) بعد (ما) الاستفهامية تعامل معاملة الموصول، أي ما الذي أجبتم المرسلين، أي ما جوابكم. والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر عن أمر مهم، والمراد به هنا الجواب عن سؤال {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} لأن ذلك الجواب إخبار عما وقع منهم مع رسلهم في الدنيا.
والمعنى: عميت الأنباء على جميع المسؤولين فسكتوا كلهم ولم ينتدب زعماؤهم للجواب كفعلهم في تلقي السؤال السابق: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62]
ومعنى {عَمِيَتْ} خفيت عليهم وهو مأخوذ من عمى البصر لأنه يجعل صاحبه لا يتبين الأشياء، فتصرفت من العمى معان كثيرة متشابهة يبينها تعدية الفعل كما عدي منا بحرف (على) المناسب للخفاء. ويقال: عمي عليه الطريق. إذا لم يعرف ما يوصل منه، قال عبد الله بن رواحة:
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
والمعنى: خفيت عليهم الأنباء ولم يهتدوا إلى جواب وذلك من الحيرة والوهل فإنهم لما نودوا {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] انبرى رؤساؤهم فلفقوا جوابا عدلوا به عن جادة الاستفهام إلى إنكار أن يكونوا هم الذين سنوا لقومهم عبادة الأصنام، فلما سئلوا عن جواب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عيوا عن الجواب فلم يجدوا مغالطة لأنهم لم
(20/93)

يكونوا مسبوقين من سلفهم بتكذيب الرسول فإن الرسول بعث إليهم أنفسهم.
ولهذا تفرع على (عميت عليهم الأنباء) قوله {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضا لاستخراج الآراء وذلك من شدة البهت والبغت على الجميع أنهم لا متنصل لهم من هذا السؤال فوجموا.
وإذ كان الاستفهام لتمهيد أنهم محقوقون بالعذاب علم من عجزهم عن الجواب عنه أنهم قد حق عليهم العذاب.
[67] {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}
تخلل بين حال المشركين ذكر حال الفريق المقابل وهو فريق المؤمنين على طريقة الاعتراض لأن الأحوال تزداد تميزا بذكر أضدادها، والفاء للتفريع على ما أفاده قوله {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} من أنهم حق عليهم العذاب.
ولما كانت (أما) تفيد التفصيل وهو التفكيك والفصل بين شيئين أو أشياء في حكم فهي مفيدة هنا أن غير المؤمنين خاسرون في الآخرة وذلك ما وقع الإيماء إليه بقوله {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [ القصص: 66] فإنه يكتفي بتفصيل أحد الشيئين عن ذكر مقابله ومنه قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} [النساء: 157] أي وأما الذين كفروا بالله فبضد ذلك.
والتوبة هنا: الإقلاع عن الشرك والندم على تقليده. وعطف الإيمان عليها لأن المقصود حصول إقلاع عن عقائد الشرك وإحلال عقائد الإسلام محلها ولذلك عطف عليه {وَعَمِلَ صَالِحاً} لأن بعض أهل الشرك كانوا شاعرين بفساد دينهم وكان يصدهم عن تقلد شعائر الإسلام أسباب مغرية من الأعراض الزائلة التي فتنوا بها.
و {عَسَى} ترج لتمثيل حالهم بحال من يرجى منه الفلاح. و {أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أشد في إثبات الفلاح من: أن يفلح، كما تقدم غير مرة.
[68] { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}
(20/94)

هذا من تمام الاعتراض وهي جملة {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [ القصص: 67] وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب منفتحة للاهتداء ولو بمراحل، وقلوب غير منفتحة له فهي قاسية صماء، وأنه الذي اختار فريقا على فريق. وفي أسباب النزول للواحدي {قال أهل التفسير نزلت جوابا للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] اهـ. يعنون بذلك الوليد بن المغيرة من أهل مكة وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف. وهما المراد بالقريتين. وتبعه الزمخشري وابن عطية. فإذا كان اتصال معناها بقوله {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، فإن قولهم {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} هو من جملة ما أجابوا به دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أن الله يخلق ما يشاء من خلقه من البشر وغيرهم ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله، وهذا في معنى قوله { الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124] وأن ليس ذلك لاختيار الناس ورغباتهم؛ والوجهان لا يتزاحمان.
والمقصود من الكلام هو قوله {وَيَخْتَارُ} فذكر {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} إيماء إلى أنه أعلم بمخلوقاته.
وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي يفيد القصر في هذا المقام إن لوحظ سبب النزول أي ربك وحده لا أنتم تختارون من يرسل إليكم.
وجوز أن يكون {مَا} من قوله {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} موصولة مفعولا لفعل {يَخْتَارُ} وأن عائد الموصول مجرور بـ(في) محذوفين. والتقدير: ويختار ما لهم فيه الخير، أي يختار لهم من الرسل ما يعلم أنه صالح بهم لا ما يشتهونه من رجالهم.
وجملة {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} استئناف مؤكد لمعنى القصر لئلا يتوهم أن الجملة قبله مفيدة مجرد التقوي. وصيغة {مَا كَانَ} تدل على نفي للكون يفيد أشد مما يفيد لو قيل: ما لهم الخيرة، كما تقدم في قوله تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} في [سورة مريم: 64].
والابتداء بقوله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} تمهيد للمقصود وهو قوله {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي كما أن الخلق من خصائصه فكذلك الاختيار.
و {الْخِيَرَةُ} بكسر الخاء وفتح التحتية: اسم لمصدر الاختيار مثل الطيرة اسم لمصدر
(20/95)

التطير. قال ابن الأثير: ولا نظير لهما. وفي (اللسان) ما يوهم أن نظيرهما: سبي طيبة، إذا لم يكن فيه غدر ولا نقض عهد. ويحتمل أنه أراد التنظير في الزنة لا في المعنى، لأنها زنة نادرة.
واللام في {لَهُمُ} للملك، أي ما كانوا يملكون اختيارا في المخلوقات حتى يقولوا {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. ونفي الملك عنهم مقابل لقوله {مَا يَشَاءُ} لأن {مَا يَشَاءُ} يفيد معنى ملك الاختيار.
وفي ذكر الله تعالى بعنوان كونه ربا للنبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه اختاره لأنه وخالفه فهو قد علم استعداده لقبول رسالته.
[68] {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
استئناف ابتدائي لإنشاء تنزيه الله وعلوه على طريقة الثناء عليه بتنزيه عن كل نقص وهي معترضة بين المتعاطفين. و {سُبْحَانَ} مصدر نائب مناب فعله كما تقدم في قوله {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32] في سورة البقرة. وأضيف {سُبْحَانَ} إلى اسمه العلم دون أن يقال: وسبحانه، بعد أن قال {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ} [القصص: 69] لأن اسم الجلالة مختص به تعالى وهو مستحق للتنزيه بذاته لأن استحقاق جميع المحامد مما تضمنه اسم الجلالة في أصل معناه قبل نقله إلى العلمية.
والمجرور يتنازعه كلا الفعلين. ووجه تقييد التنزيه والترفيع بـ(ما يشركون) أنه لم يجترئ أحد أن يصف الله تعالى بما لا يليق به ويستحيل عليه إلا أهل الشرك بزعمهم أن ما نسبوه إلى الله إنما هو كمال مثل اتخاذ الولد أو هو مما أنبأهم الله به، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]. وزعموا أن الآلهة شفعاؤهم عند الله. وقالوا في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وأما ما عدا ذلك فهم معترفون بالكمال لله، قال تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]. و{مَا} مصدرية أي سبحانه وتعالى عن إشراكهم.
[69] {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}
عطف على {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] أي هو خالقهم ومركبهم على النظام الذي تصدر عنه الأفعال والاعتقادات فيكونون مستعدين لقبول الخير والشر وتغليب أحدهما على الآخر اعتقادا وعملا، وهو يعلم ما تخفيه صدورهم، أي نفوسهم
(20/96)

وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم. فضمير {صُدُورُهُمْ} أي نفوسهم وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم. فضمير {صُدُورُهُمْ} عائد إلى {مَا} من قوله {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} باعتبار معناها، أي ما تكن صدور المخلوقات وما يعلنون. وحيث أجريت عليهم ضمائر العقلاء فقد تعين أن المقصود البشر من المخلوقات وهم المقصود من العموم في {مَا يَشَاءُ} [القصص: 68] فبحسب ما يعلم منهم يختارهم ويجازيهم فحصل بهذا إيماء إلى علة الاختيار وإلى الوعد والوعيد. وهذا منتهى الإيجاز.
وفي إحضار الجلالة بعنوان {وَرَبُّكَ} إيماء إلى أن مما تكنه صدورهم بغض محمد صلى الله عليه وسلم. وتقدم {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} آخر [النمل: 74].
[70] { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
عطف على جملة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] الآية. والمقصود هو قوله {وَلَهُ الْحُكْمُ} وإنما قدم عليه ما هو دليل على أنه المنفرد بالحكم مع إدماج صفات عظمته الذاتية المقتضية افتقار الكل إليه.
ولذلك ابتدئت الجملة بضمير الغائب ليعود إلى المتحدث عنه بجميع ما تقدم من قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] إلى هنا، أي الموصوف بتلك الصفات العظيمة والفاعل لتلك الأفعال الجليلة. والمذكور بعنوان {رَبُّكَ} [القصص: 68] هو المسمى الله اسما جامعا لجميع معاني الكمال. فضمير الغيبة مبتدأ واسم الجلالة خبره، أي فلا تلتبسوا فيه ولا تخطئوا بادعاء ما لا يليق باسمه. وقريب منه قوله {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [يونس: 64].
وقوله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر ثان عن ضمير الجلالة، خبر ثان عن ضمير الجلالة، وفي الخبر الثاني زيادة تقرير لمدلول الخبر الأول فإن اسم الجلالة اختص بالدلالة على الإله الحق إلا أن المشركين حرفوا أو أثبتوا الإلهية للأصنام مع اعترافهم بأنها إلهية دون إلهية الله تعالى فكان من حق النظر أن يعلم أن لا إله إلا هو، فكان هذا إبطال للشرك بعد إبطاله بحكاية تلاشيه عن أهل ملته يوم القيامة بقوله {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص: 64].
وأخبر عن اسم الجلالة خبرا ثانيا بقوله {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} وهو استدلال على انتفاء إلهية غيره بحجة أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يحمدون في الدنيا إلا
(20/97)

الله فلا تسمع أحدا من المشركين يقول: الحمد للعزى، مثلا.
فاللام في {لَهُ} للملك، أي لا يملك الحمد غيره، وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص وهو اختصاص حقيقي.
تعريف {الْحَمْدُ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي له كل حمد.
و {الْأُولَى} هي الدنيا وتخصيص الحمد به في الدنيا اختصاص لجنس الحمد به لأن حمد غيره مجاز كما تقدم في أول الفاتحة.
وأما الحمد في الآخرة فهو ما في قوله {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} . واختصاص الجنس به في الآخرة حقيقة.
وقوله {وَلَهُ الْحُكْمُ} اللام فيه أيضا للملك. والتقديم للاختصاص أيضا. والحكم: القضاء وهو تعيين نفع أو ضر للغير. وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله {فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} عليه، أي له الحكم في الدارين. والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز، وأما الحكم في الآخرة فمقصود على الله. وفي هذا إبطال لتصرف آلهة المشركين فيما يزعمونه من تصرفاتها وإبطال لشفاعتها التي يزعمونها في قولهم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أي في الآخرة إن كان ما زعمتم من البعث.
وأما جملة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فمسوقة مساق التخصيص بعد التعميم، فبعد أن أثبت لله كل حمد وكل حكم، أي أنكم ترجعون إليه في الآخرة فتمجدونه ويجري عليكم حكمه. والمقصود بهذا إلزامهم بإثبات البعث.
وتقديم المجرور في {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بالانتهاء إليه أي إلى حكمه.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تسمعون، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}
انتقال من الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته، وفي ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس وللتعويض
(20/98)

بكفر المشركين جلائل نعمه.
ومن أبدع الاستدلال أن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتكرر كل يوم مرتين، والذي يستوي في إدراكه كل مميز، والذي هو أجلى مظاهر التغير في هذا العالم فهو دليل الحدوث وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العالم فهو دليل الحدوث وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العلم حتى الأصنام فهي تظلم وتسود أجسامها بظلام الليل وتشرق وتضيء بضياء النهار، وكان الاستدلال بتعاقب الضياء والظلمة على الناس أقوى وأوضح من الاستدلال بتكوين أحدهما لو كان دائما، لأن قدرة خالق الضدين وجاعل أحدهما ينسخ الآخر كل يوم أظهر منها لو لم يخلق إلا أقواهما وأنفعهما، ولأن النعمة بتعاقبها دوما أشد من الإنعام بأفضلهما وأنفعهما لأنه لو كان دائما لكان مسؤوما ولحصلت منه طائفة من المنافع، وفقدت منافع ضده. فالتنقل في النعم مرغوب فيه ولو كان تنقلا إلى ما هو دون. وسيق إليهم هذا الاستدلال بأسلوب تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم اهتماما بهذا التذكير لهذا الاستدلال ولاشتمال على ضدين متعاقبين، حتى لو كانت عقولهم قاصرة عن إدراك دلالة أحد الضدين لكان في الضد الآخر تنبيه لهم، ولو قصروا عن حكمة كل واحد منهما كان في تعاقبهما ما يكفي للاستدلال.
وجئ في الشرطين بحرف {إِنْ} لأن الشرط مفروض فرضا مخالفا للواقع. وعلم أنه قصد الاستدلال بعبرة خلق النور، فلذلك فرض استمرار الليل، والمقصود ما بعده وهو قوله {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} .
والسرمد: الدائم الذي لا ينقطع. قال في (الكشاف): من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد وواحد فرد. والميم مزيدة ووزنه فعمل، ونظيره دلامص من الدلاص اهٍـ. دلامص (بضم الدال وكسر الميم) من صفات الدرع وأصلها دلاص (بدال مكسورة) أي براقة. ونسب إلى صاحب القاموس وبعض النحاة أن ميم سرمد أصلية وأن وزنه فعلل. والمراد بجعل الليل سرمدا أن لا يكون الله خلق الشمس ويكون خلق الأرض فكانت الأرض مظلمة.
والرؤية قلبية. والاستفهام في {أَرَأَيْتُمْ} تقريري، والاستفهام في {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} إنكاري وهم معترفون بهذا الانتفاء وأن خالق الليل والنهار هو الله تعالى لا غيره.
والمراد بالغاية في قوله {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إحاطة أزمنة الدنيا وليس المراد انتهاء
(20/99)

جعله سرمدا.
والإتيان بالضياء وبالليل مستعار للإيجار؛ شبه إيجاد الشيء الذي لم يكن موجودا بالإجاءة بشيء من مكان إلى مكان، ووجه الشبه المئول والظهور.
والضياء: النور. وهو في هذا العالم من شعاع الشمس قال تعالى { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} وتقدم في [سورة يونس: 5]. وعبر بالضياء دون النهار لأن ظلمة الليل قد تخف قليلا بنور القمر فكان ذكر الضياء إيماء إلى ذلك.
وفي تعدية فعل {يَأْتِيكُمْ} في الموضعين إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى أن إيجاد الضياء وإيجاد الليل نعمة على الناس. وهذا إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال على الانفراد بالإلهية. وإذ قد استمر المشركون على عبادة الأصنام بعد سطوع هذا الدليل وقد علموا أن الأصنام لا تقدر على إيجاد الضياء. جعلوا كأنهم لا يسمعون هذه الآيات التي أقامت الحجة الواضحة على فساد معتقدهم، ففرع على تلك الحجة الاستفهام الإنكاري عن انتفاء سماعهم بقوله {أَفَلا تَسْمَعُونَ} أي أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ومنه هذه الآية. وليس قوله {أَفَلا تَسْمَعُونَ} تذييلا.
وكرر الأمر بالقول في مقام التقرير لأن التقرير يناسبه التكرير مثل مقام التوبيخ ومقام التهويل.
وعكس الاستدلال الثاني بفرض أن يكون النهار وهو انتشار نور الشمس، سرمدا بأن خلق الله الأرض غير كروية الشكل بحيث يكون شعاع الشمس منتشرا على جميع سطح الأرض دوما.
ووصف الليل بـ {تَسْكُنُونَ فِيهِ} إدماج للمنة في أثناء الاستدلال للتذكير بالنعمة المشتملة على نعم كثيرة وتلك هي نعمة السكون فيه فإنها تشمل لذة الراحة، ولذة الخلاص من الحر، ولذة استعادة نشاط المجموع العصبي الذي به التفكير والعمل، ولذة الأمن من العدو.
ولم يوصف الضياء بشيء لكثرة منافعه واختلاف أنواعها.
وتفرع على هذا الاستدلال أيضا تنزيلهم منزلة من لا يبصرون الأشياء الدالة على عظيم صنع الله وتفرده بصنعها وهي منهم بمرأى الأعين.
(20/100)

وناسب السمع دليل فرض سرمدة الليل لأن الليل لو كان دائما لم تكن للناس رؤية فإن رؤية الأشياء مشروطة بانتشار شيء من النور على سطح الجسم المرئي، فالظلمة الخالصة لا ترى فيها المرئيات. ولذلك جيء في جانب فرض دوام الليل بالإنكار على عدم سماعهم، وجيء في جانب فرض دوام النهار بالإنكار على عدم إبصارهم.
وليس قوله {أَفَلا تُبْصِرُونَ} تذييلا.
[73] {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
تصريح بنعمة تعاقب الليل والنهار على الناس بقوله {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ، وذلك مما دلت عليه الآية السابقة بطريق الإدماج بقوله {يَأْتِيكُمْ} وبقوله { لِتَسْكُنُوا فِيهِ} كما تقدم آنفا.
وجملة {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} الخ معطوفة على جملة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} [القصص: 71].
و {مَنْ} تبعيضية فإن رحمة الله بالناس حقيقية كلية لها تحقق في وجود أنواعها وآحادها العديدة، والمجرور بـ {مَنْ} يتعلق بفعل {جَعَلَ لَكُمُ} ، وكذلك يتعلق به {لَكُمُ} ، والمقصود إظهار أن هذا رحمة من الله وأنه بعض من رحمته التي وسعت كل شيء ليتذكروا بهما نعما أخرى.
وقدم المجرور بـ {مِنْ رَحْمَتِهِ} على عامله للاهتمام بمنة الرحمة.
وقد سلك في قوله {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } طريقة اللف والنشر المعكوس فيعود {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إلى الليل، ويعود {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} إلى النهار، والتقدير: ولتبتغوا من فضله فيه، فحذف الضمير وجاره إيجازا اعتمادا على المقابلة.
والابتغاء من فضل الله: كناية عن العمل والطلب لتحصيل الرزق قال تعالى { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. والرزق: فضل من الله. وتقدم في قوله تعالى {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} في سورة البقرة. ولام {لِتَسْكُنُوا} ولام {وَلِتَبْتَغُوا} للتعليل، ومدخولاهما علتان للجعل المستفاد من فعل {جَعَلَ} .
(20/101)

وعطف على العلتين رجاء شكرهم على شكرهم على هاتين النعمتين اللتين هما من جملة رحمته بالناس فالشأن أن يتذكروا بذلك مظاهر الرحمة الربانية وجلائل النعم فيشكروه بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بأنهم كفروا فلم يشكروا.
وقرأ الجمهور {أَرَأَيْتُمْ} بألف بعد الراء تخفيفا لهمزة رأى. وقرأ الكسائي بحذف الهمزة زيادة في التخفيف وهي لغة.
[74-75] { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ}
كررت جملة {يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} مرة ثانية لأن التكرير من مقتضيات مقام التوبيخ فلذلك لم يقل: ويوم ننزع من كل أمة شهيدا، فأعيد ذكر أن الله يناديهم بهذا الاستفهام التقريعي وينزع من أمة شهيدا، فظاهر الآية أن ذلك النداء يكرر يوم القيامة. ويحتمل أنه إنما كررت حكايته وأنه نداء واحد يقع عقبه جواب الذين حق عليهم القول من مشركي العرب ويقع نزع شهيد من كل أمة عليهم فهو شامل لمشركي العرب وغيرهم من الأمم. وجيء بفعل المضي في {نَزَعْنَا} : إما للدلالة على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع، وإما لأن الواو للحال وهي يعقبها الماضي بـ(قد) وبدون (قد) أي هؤلاء شهيدا وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل: 89]. وشهيد كل أمة رسولها.
والنزع: جذب شيء من بين ما هو مختلط به واستعير هنا لإخراج بعض من جماعة كما في قوله تعالى {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} في [سورة مريم: 69]. وذلك أن الأمم تأتي إلى المحشر تتبع أنباءها، وهذا المجيء الأول، ثم تأتي الأنبياء مع كل واحد منهم من آمنوا به كما ورد في الحديث "يأتي النبي معه الرهط والنبي وحده ما معه أحد".
والتفت من الغيبة إلى التكلم في {وَنَزَعْنَا} لإظهار عظمة التكلم، وعطف {فَقُلْنَا} على {وَنَزَعْنَا} لأنه المقصود. والمخاطب بـ {هَاتُوا} هم المشركون، أي هاتوا برهانكم على إلهية أصنامكم.
(20/102)

و { هَاتُوا } اسم فعل معناه نالوا، وهات مبني على الكسر. وقد تقدم في قوله تعالى {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في [سورة البقرة: 111]، واستعيرت المناولة للإظهار.
والأمر مستعمل في التعجيز فهو يقتضي أنهم على الباطل فيما زعموه من الشركاء، ولما علموا عجزهم من إظهار برهان لهم في جعل الشركاء لله أيقنوا أن الحق مستحق لله تعالى، أي علموا معلم اليقين أنهم لا حق لهم في إثبات الشركاء وأن الحق لله إذ كان ينهاهم عن الشرك على لسان الرسول في الدنيا، وأن الحق لله إذ ناداهم بأمر التعجيز في قوله {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} .
و {ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} يشمل ما كانوا يكذبونه من المزاعم في إلهية الأصنام وما كانوا يفترون له الإلهية من الأصنام، كل ذلك كانوا يفترونه.
والضلال: أصله عدم الاهتداء إلى الطريق. واستعير هنا لعدم خطور الشيء في البال ولعدم حضوره في المحضر من استعمال اللفظ في مجازيه.
و {عَنْهُمْ} متعلق بفعل {ضَلَّ} . والمراد: ضل عن عقولهم وعن مقامهم؛ مثلوا بالمقصود للسائر في طريق حين يخطئ الطريق فلا يبلغ المكان المقصود. وعلق بالضلال ضمير ذواتهم ليشمل ضلال الأمرين فيفيد أنهم لم يجدوا حجة يرجون بها زعمهم إلهية الأصنام، ولم يجدوا الأصنام حاضرة للشفاعة فيهم فوجموا عن الجواب وأيقنوا بالمؤاخذة.
[76-77] {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}
كان من صنوف أذى أئمة الكفر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ومن دواعي تصلبهم في إعراضهم عن دعوته اعتزازهم بأموالهم وقالوا {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
(20/103)

الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أي على رجل من أهل الثروة فهي عندهم سبب العظمة ونبذهم المسلمين بأنهم ضعفاء القوم، وقد تكرر في القرآن توبيخهم على ذلك كقوله {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} [سبأ: 35] وقوله {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11] الآية. روى الواحدي عن ابن مسعود وغيره بأسانيد: أن الملأ من قريش وسادتهم منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والمطعم بن عدي والحارث بن نوفل. قالوا (أيريد محمد أن نكون تبعا لهؤلاء (يعنون خبابا، وبلالا، وعمارا، وصهيبا) فلو طرد محمد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم له في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأنزل الله تعالى {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} إلى قوله {ِالشَّاكِرِينَ} .[الأنعام : 52،53] وكان فيما تقدم من الآيات قريبا قوله تعالى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} إلى قوله {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 60-61] كما تقدم.
وقد ضرب الله الأمثال للمشركين في جميع أحوالهم بأمثال نظرائهم من الأمم السالفة فضرب في هذه السورة لحال تعاظمهم بأموالهم مثلا بحال قارون مع موسى وإن مثل قارون صالح لأن يكون مثلا لأبي لهب ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه في قرابتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وأذاهما إياه، وللعاصي بن وائل السهمي في أذاه لخباب بن الأرت وغيره، وللوليد بن المغيرة من التعاظم بماله وذويه. قال تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر: 11-12] فإن المراد به الوليد بن المغيرة.
فقوله {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} استئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلا لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل بن هشام ولها مزيد تعلق بجملة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} إلى قوله {يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:60-61].
ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله تعالى {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] الآية.
و {قَارُونَ} اسم معرب أصله في العبرانية (قورح) بضم القاف مشبعة وفتح الراء، وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت، وجالوت، فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن.
و(قورح هذا ابن عم موسى عليه السلام دنيا)، فهو قورح بن يصهار بن قهات بن
(20/104)

لاوى بن يعقوب. وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت فيكون يصاهر أخا عمرم، وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن (قورح) هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلا منهم على موسى وهارون عليهما السلام حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط (لاوى) فحسدهم قورح إذ كان ابن عمهم وقال لموسى وهارون ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب إن الجماعة مقدسة والرب معها فغضب الله على قورح وأتباعه وخسف بهم الأرض وذهبت أموال (قورح) كلها، وكان ذلك حين كان بنو إسرائيل على أبواب (أريحا) قبل فنحها. وذكر المفسرون ان فرعون كان جعل (قورح) رئيسا على بني إسرائيل في مصر وانه جمع ثروة عظيمة.
وما حكاه القرآن يبين سبب نشوء الحسد في نفسه لموسى لأن موسى لما جاء بالرسالة وخرج ببني إسرائيل زال تأمر {قَارُونَ} على قومه فحقد على موسى. وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن. وما لهم به من برهان. وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر {إِنَّ} وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين، ويكفرون بشرائع الله لظهور أن الإخبار عن قارون بأنه من قوم موسى ليس من شأنه أن يتردد فيه السامع حتى يؤكد له، فمصب التأكيد هو ما بعد قوله {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} إلى آخر القصة المنتهية بالخسف.
ويجوز أن تكون {إِنَّ} لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط بالاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدوا له ولأتباعه، فأمره أغرب من أمر فرعون.
وعدل عن أن يقال: كان من بني إسرائيل، لما في إضافة {قَوْمِ} إلى {مُوسَى} من الإيماء إلى أن لقارون اتصالا خاصا بموسى فهو اتصال القرابة.
وجملة {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} معترضة بين جملة {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} وجملة {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} ، والفاء فيها للترتيب والتعقيب، أي لم يلبث أن بطر النعمة واجترأ على ذوي قرابته، للتعجيب من بغي أحد على قومه كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
(20/105)

والبغي: الاعتداء، والاعتداء على الأمة الاستخفاف بحقوقها، وأول ذلك خرق شريعتها. وفي الإخبار عنه بأنه {مِنْ قَوْمِ مُوسَى} تمهيد للكناية بهذا الخبر عن إرادة التنظير بما عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي بعض قرابته من المشركين عليه.
وفي قوله {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} محسن بديعي وهو ما يسمى النثر المتزن، أي النثر الذي يجئ بميزان بعض بحور الشعر، فإن هذه الجملة جاءت على ميزان مصراع من بحر الخفيف، ووجه وقوع ذلك في القرآن أن الحال البلاغي يقتضي التعبير بألفاظ وتركيب يكون مجموعه في ميزان مصراع من أحد بحور الشعر.
وجملة {إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} صلة {مَا} الموصولة عند نحاة البصرة الذين لا يمنعون أن تقع {إِنَّ} في افتتاح صلة الموصول. ومنع الكوفيون من ذلك واعتذر منعهم بأن ذلك غير مسموع في كلام العرب ولذلك تأولوا {مَا} هنا بأنها نكرة موصوفة وأن الجملة بعدها في محل الصفة.
والمفاتح: جمع مفتح بكسر الميم وفتح المثناة الفوقية وهو آلة الفتح، وسمى المفتاح أيضا. وجمعه مفاتيح وقد تقدم عند قوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} في [سورة الأنعام: 59].
والكنوز: جمع كنز وهو مختزن المال من صندوق أو خزانة، وتقدم في قوله تعالى {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [سورة هود: 12] في سورة هود، وأنه كان يقدر بمقدار من المال مثل ما يقولون: بدرة مال، وأنه كان يجعل لذلك المقدار خزانة أو صندوق يسعه ولكل صندوق أو خزانة مفتاحه. وعن ابي رزين لقيط بن عامر العقيلي أحد الصحابة أنه قال (يكفي الكوفة مفتاح) أي مفتاح واحد، أي كنز واحد من المال له مفتاح، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين مثل:
جبان الكلب مهزول الفصيل
(وتنوء): تثقل. ويظهر أن الباء في قوله {بِالْعُصْبَةِ} باء الملابسة أن تثقل مع العصبة الذين يحملونها فهي لشدة ثقلها تثقل مع أن حملتها عصبة أولو قوة وليست هذه الباء باء السببية كالتي في قوله امرئ القيس:
وأردف إعجازا وناء بكلكل
ولا كمثال صاحب (الكشاف): ناء به الحمل، إذا أثقله الحمل حتى أماله.
(20/106)

وما قول أبي عبيدة بأن تركيب الآية فيه قلب، فلا يقبله من كان له قلب.
والعصبة: الجماعة، وتقدم في سورة يوسف. وأقرب الأقوال في مقدارها قول مجاهد أنه من عشرة إلى خمسة عشر. وكان اكتسب الأموال في مصر وخرج بها.
{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}
{إِذْ} ظرف منصوب بفعل {بغى عليهم} والمقصود من هذا الظرف القصة وليس القصد به توقيت البغي ولذلك قدره بعض المفسرين متعلقا بـ(اذكر) محذوفا وهو المعني في نظائره من القصص.
والمراد بالقوم بعضهم إما جماعة منهم وهم أهل الموعظة وإما موسى عليه السلام أطلق عليه اسم القوم لأن أقواله قدوة للقوم فكأنهم قالوا قوله.
والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى {وَفَرِحُوا بِهَا} في [يونس: 22]. ويطلق على البطر والإزدهاء، وهو الفرح المفرط المذموم، وتقدم في قوله تعالى {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في [سورة الرعد: 26] وهو التمحض للفرح. والفرح المنهي عنه هو المفرط منه، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضا عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} . وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مرادا به العجب والبطر. وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيدا لدلالة المقام بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، أي المفرطين في الفرح فإن صيغة (فعل) صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي، فالجملة علة للتي قبلها، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزا إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك.
وابتغاء الدار الآخرة طلبها، أي طلب نعيمها وثوابها. وعلق بفعل الابتغاء قوله {فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} بحرف الظرفية، أي اطلب بمعظمه وأكثره. والظرفية مجازية للدلالة على التغلغل ابتغاء الدار الآخرة في ما آتاه الله وما آتاه هو كنوز المال، فالظرفية هنا كالتي في
(20/107)

قوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] أي منها ومعظمها، وقول سبرة بن عمرو الفقعسي:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر
أي أطلب بكنوزك أسباب حصول الثواب بالإنفاق منها في سبيل الله وما أوجبه ورغب فيه من القربان ووجوه البر.
{تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}
جملة معترضة بين الجملتين الحافتين بها، والواو اعتراضية.
والنهي في {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ} مستعمل في الإباحة. والنسيان كناية عن الترك كقوله في حديث الخيل "ولم ينس حق الله في رقابها" ، أي لا نلومك على أن تأخذ نصيبك من الدنيا أي الذي لا يأتي على نصيب الآخرة. وهذا احتراس في الموعظة خشية نفور الموعوظ من موعظة الواعظ لأنهم لما قالوا لقارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} أوهموا أن يترك حظوظ الدنيا فلا يستعمل ماله إلا في القربات، فأفيد أن له استعمال بعضه في ما هو متمحض لنعيم الدنيا إذا آتى حق الله في أمواله. فقيل: أرادوا أن لك أن تأخذ ما أحل الله لك.
والنصيب: الحظ والقسط، وهو فعيل من النصب لأن ما يعطى لأحد ينصب له ويميز، وإضافة النصيب إلى ضميره دالة على أنه حقه وأن للمرء الانتفاع بماله في ما يلائمه في الدنيا خاصة مما ليس من القربات ولم يكن حراما. قال مالك: في رأيي معنى {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك. وقال قتادة: نصيب الدنيا هو الحلال كله. وبذلك تكون هذه الآية مثالا لاستعمال صيغة النهي لمعنى الإباحة. و {مِنَ} للتبغيض. والمراد بالدنيا نعيمها. فالمعنى: نصيبك الذي هو بعض نعيم الدنيا.
[77] { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}
الإحسان داخل في عموم ابتغاء الدار الآخرة ولكنه ذكر هنا ليبني عليه الاحتجاج بقوله {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .
والكاف للتشبيه، و(ما) مصدرية، أي كإحسان الله إليك، والمشبه هو الإحسان المأخوذ من {أَحْسَنَ} أي إحسانا شبيها بإحسان الله إليك. ومعنى الشبه: أن يكون الشكر على كل نعمة من جنسها. وقد شاع بين النحاة تسمية هذه الكاف كاف التعليل، ومثلها
(20/108)

قوله تعالى {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]. والتحقيق أن التعليل حاصل من معنى التشبيه وليس معنى مستقلا من معاني الكاف.
وحذف متعلق الإحسان لتعميم ما يحسن إليه فيشمل نفسه وقومه ودوابه ومخلوقات الله الداخلة في دائرة التمكن من الإحسان إليها. وفي الحديث "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" فالإحسان في كل شيء بحسبه، والإحسان لكل شيء بما يناسبه حتى الأذى المأذون فيه فبقدره ويكون بحسن القول وطلاقة الوجه وحسن اللقاء.
وعطف {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} للتحذير من خلط الاحسان بالفساد فإن الفساد ضد الإحسان، فالأمر بالإحسان يقتضي النهي عن الفساد وإنما نص عليه لأنه لما تعددت موارد الإحسان والإساءة فقد يغيب عن الذهن أن الإساءة إلى شيء مع الإحسان إلى أشياء يعتبر غير إحسان.
والمراد بالأرض أرضهم التي هم حالون بها، وإذ قد كانت جزءا من الكرة الأرضية فالإفساد فيها إفساد مظروف في عموم الأرض . وقد تقدمت نظائره منها في قوله تعالى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} في [سورة البقرة: 205].
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} علة للنهي عن الإفساد لن العمل الذي لا يحبه الله لا يجوز لعباده عمله وقد كان قارون موحدا على دين إسرائيل ولكنه كان شاكا في صدق مواعيد موسى وفي تشريعاته.
[78] {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}
جواب عن موعظة واعظيه من قومه. وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطف وهو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرت بطره وازدهاءه.
و{إِنَّمَا} هذه هي أداة الحصر المركبة من (إن) و(ما) الكافة مصيرتين كلمة واحدة وهي التي حقها أن تكتب موصولة النون بميم (ما). والمعنى: ما أوتيت هذا المال إلا على علم علمته.
وضمير {أُوتِيتُهُ} عائد إلى (ما) الموصولة في قولهم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
(20/109)

الْآخِرَةَ} [القصص: 77]. وبني الفعل للنائب بالفاعل من كلام واعظيه.
و {عَلَى عِلْمٍ} في موضع الحال من الضمير المرفوع.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ، فيجوز أن يكون المراد من العلم علم أحكام إنتاج المال من التوراة، أي أنا أعلم منكم بما تعظونني به، يعني بذلك قولهم له {لا تَفْرَحْ _وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ _ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} {القصص: 76-77}. وقد كان قارون مشهورا بالعلم بالتوراة ولكنه أضله الله على علم فأراد بهذا الجواب قطع موعظتهم نظير جواب عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لأبي شريح الكعبي حين قدم إلى المدينة أميرا من قبل يزيد بن معاوية سنة ستين فجعل يجهز الجيوش ويبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير الذي خرج على يزيد، فقال أبو شريح له: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "{إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب" فقال عمرو بن سعيد: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة.
ويجوز أن يكون المراد بالعلم علم اكتساب المال من التجارة ونحوها، فأراد بجوابه إنكار قولهم: آتاك الله صلفا منه وطغيانا.
وقوله {عِنْدِي} صفة لـ {عِلْمٍ} تأكيدا لتمكنه من العلم وشهرته به هذا هو الوجه في تفسير هذه الجملة من الآية وهو الذي يستقيم مع قوله تعالى عقبه {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} الآية، كما ستعرفه. وذكر المفسرون وجوها تسفر عن أشكال أخرى من تركيب نظم الآية في محمل معنى {عَلَى} ومحمل المراد من (العلم) ومحمل {عِنْدِي} فلا نطيل بذكرها فهي منك على طرف الثمام.
وقوله {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} الآية إقبال على خطاب المسلمين.
والهمزة في {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} للاستفهام الإنكاري التعجيبي تعجيبا من عدم جريه على
(20/110)

موجب علمه بأن الله أهلك أمما على بطرهم النعمة وإعجابهم لقوتهم ونسيانه حتى صار كأنه لم يعلمه تعجيبا من فوات مراعاة ذلك منه مع سعة علمه بغيره من باب "حفظت شيئا وغابت عنك أشياء"
وعطف هذا الاستفهام على جملة {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} . وهذه جملة معترضة بين أجزاء القصة.
والقوة: ما به يستعان على الأعمال الصعبة تشبيها لها بقوة الجسم التي تخول صاحبها حمل الأثقال ونحوها قال تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
والجمع: الجماعة من الناس. قيل: كان أشياع قارون مائتين وخمسين من بني إسرائيل رؤساء جماعات.
وجملة {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} تذييل للكلام فهو استئناف وليس عطفا على أن الله قد أهلك من قبله. والسؤال المنفي السؤال في الدنيا وليس سؤال الآخرة. والمعنى: يحتمل أن يكون السؤال كناية عن عدم الحاجة إلى السؤال عن ذنوبهم فهم كناية عن علم الله تعالى بذنوبهم، وهو كناية عن عقابهم على إجرامهم فهي كناية بوسائط. والكلام تهديد للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي، أي لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر، وأمهل المجرم فإذا أخذه بغتة وهذا كقوله تعالى {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
[79] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
عطف على جملة {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} إلى آخرها مع ما عطف عليها وتعلق بها، فدلت الفاء على أن خروجه بين قومه في زينته بعد ذلك كله كان من أجل أنه لم يقصر عن شيء من سيرته ولم يتعظ بتلك المواعظ ولا زمنا قصيرا بل أعقبها بخروجه هذه الخرجة المليئة صلفا وازدهاء. فالتقدير: قال إنما أوتيته على علم عندي فخرج، أي رفض الموعظة بقوله وفعله. وتعدية (خرج) بحرف {عَلَى} لتضمينه معنى النزول إشارة إلى أنه خروج متعال مترفع، و {فِي زِينَتِهِ} حال من ضمير (خرج).
(20/111)

والزينة: ما به جمال الشيء والتباهي به من الثياب والطيب والمراكب والسلاح والخدم، وتقدم قوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} في [سورة النور: 31]. وإنما فصلت جملة {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ولم تعطف لأنها تتنزل منزلة بدل الاشتمال لما اشتملت عليه الزينة من أنها مما يتمناه الراغبون في الدنيا. وذلك جامع لأحوال الرفاهية وعلى أخصر وجه لأن الذين يريدون الحياة الدنيا لهم أميال مختلفة ورغبات متفاوتة فكل يتمنى أمنية مما تلبس به قارون من الزينة، فحصل هذا المعنى مع حصول الإخبار عن انقسام قومه إلى مغترين بالزخارف العاجلة عن غير علم، وإلى علماء يؤثرون الآجل على العاجل، ولو عطفت جملة {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ} بالواو والفاء لفاتت هذه الخصوصية البليغة فصارت الجملة إما خبرا من جملة الأخبار عن حال قومه، أو جزء خبر من قصته.
و {الذين يريدون الحياة الدنيا} لما قوبلوا ب {الذين أوتوا العلم} [القصص:80] كان المعني بهم عامة الناس وضعفاء اليقين الذين تلهيهم زخارف الدنيا عما يكون في مطاويها من سوء العواقب فتقصر بصائرهم عن التدبر إذا رأوا زينة الدنيا فيتلهفون عليها ولا يتمنون غير حصولها فهؤلاء وإن كانوا مؤمنين إلا أن إيمانهم ضعيف فلذلك عظم في عيونهم ما عليه قارون من البذخ فقالوا {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي أنه لذو بخت وسعادة.
وأصل الحظ: القسم الذي يعطاه المقسوم له عند العطاء، وأريد به هنا ما قسم له من نعيم الدنيا.
والتوكيد في قوله {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} كناية عن التعجب حتى كأن السامع ينكر حظه فيؤكده المتكلم.
[80] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}
عطف على جملة {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [القصص:79] فهي مشاركة لها في معناها لأن ما تشتمل عليه خرجة قارون ما تدل عليه ملامحه من فتنة ببهرجته وبزته دالة على قلة اعتداده بثواب الله وعلى تمحضه للإقبال على لذائذ الدنيا ومفاخرها الباطلة ففي كلام الذين {أوتوا العلم} تنبيه على ذلك وإزالة لما تستجلبه حالة قارون من نفوس المبتلين بزخارف الدنيا.
(20/112)

و(ويل) اسم للهلاك وسوء الحال، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في [سورة البقرة: 79]. ويستعمل لفظ (ويل) في التعجب المشوب بالزجر، فليس الذين أوتوا العلم داعين بالويل على الذين يريدون الحياة الدنيا لأن المناسب لمقام الموعظة لين الخطاب ليكون أعون على الاتعاظ، ولكنهم يتعجبون من تعلق نفوس أولئك بزينة الحياة الدنيا واغتباطهم بحال قارون دون اهتمام بثواب الله الذي يستطيعون تحصيله بالإقبال على العمل بالدين والعمل النافع وهم يعلمون أن قارون غير متخلق بالفضائل الدينية.
وتقديم المسند إليه في قوله {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} ليتمكن الخبر في ذهن السامعين لأن الابتداء بما يدل على الثواب المضاف إلى أوسع الكرماء كرما مما تستشرف إليه النفس.
وعدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} دون: خير لكم، لما في الإظهار من الإشارة إلى أن ثواب الله إنما يناله المؤمنون الذين يعملون الصالحات وأنه على حسب صحة الإيمان ووفرة العمل، مع ما في الموصول من الشمول لمن كان منهم كذلك ولغيرهم ممن لم يحضر ذلك المقام.
[80] {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}
يجوز أن تكون الواو للعطف فهي من كلام الذين أوتوا العلم، أمروا الذين فتنهم حال قارون بأن يصبروا على حرمانهم مما فيه قارون.
ويجوز أن تكون الواو اعتراضية والجملة معترضة من جانب الله تعالى علم بها عباده فضيلة الصبر.
وضمير {يُلَقَّاهَا} عائد إلى مفهوم من الكلام يجري على التأنيث، أي الخصلة وهي ثواب الله أو السيرة القويمة، وهي سيرة الإيمان والعمل الصالح.
والتلقية: جعل الشيء لاقيا، أي مجتمعا مع شيء آخر. وتقدم عند قوله تعالى {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} في [سورة الفرقان: 75]. وهو مستعمل في الإعطاء على طريقة الاستعارة، أي لا يعطي تلك الخصلة أو السيرة إلا الصابرون ؛ لآن الصبر وسيلة لنوال الأمور العظيمة لاحتياج السعي لها إلى تجلد لما يعرض في خلاله من مصاعب وعقبات كأداء فإن لم يكن المرء متخلفا بالصبر خارت عزيمته فترك ذاك لذلك.
(20/113)

[81] {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} دلت الفاء على تعقيب ساعة خروجه قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلة عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله.
والخسف : انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها ، وعكسه . يقال : خسفت الأرض وخسف الله الأرض فانخسفت ، فهو يستعمل قاصرا ومعتديا ، وإنما يكون الخسف بقوة الزلزال. وأما قولهم : خسفت الشمس فذلك على التشبيه . والباء في قوله {فَخَسَفْنَا بِهِ} باء المصاحبة ، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره ، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها ، وتقدم قوله تعالى {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} في [سورة النحل: 45].
وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومن ظاهره ، وهما رجلان من سبط (روبين) وغير دار قارون ، فهو معجزة لموسى عليه السلام .
جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن قورح (وهو قارون) ومن معه لما آذوا موسى كما تقدم ، وذكرهم موسى بأن الله أعطاهم مزية خدمة خيمته ولكنه أعطى الكهانة بني هارون ولم تجد فيهم الموعظة غضب موسى عليهم ودعا عليهم ثم أمر الناس بأن يبتعدوا من حوالي دار قورح (قارون) وخيام جماعته. وقال موسى : إن مات هؤلاء كموت عامة الناس فاعلموا أن الله لم يرسلني إليكم وان ابتدع الله بدعة ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل مالهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء قد ازدروا بالرب . فلما فرغ موسى من كلامه انشقت الأرض التي هم عليها وابتلعتهم وبيوتهم وكل ما كان لقورح مع كل أمواله وخرجت نار من الأرض أهلكت المائتين والخمسين رجلا . وقد كان قارون معتزا على موسى بالطائفة التي كانت شايعته على موسى وهم كثير من رؤساء جماعة اللاويين وغيرهم ، فلذلك قال الله تعالى {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، إذ كان قد أعدهم للنصر على موسى رسول الله فخسف بهم معه وهو يراهم ، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} كما كان يحسب . يقال : انتصر فلان ، إذا حصل له النصر ، أي فما نصره أنصاره ولا حصل له النصر بنفسه.
[82] {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
(20/114)

يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
{أَصْبَحَ} هنا بمعنى صار.
و(الأمس) مستعمل في مطلق زمن مضى قريبا على طريقة المجاز المرسل و{مكان} مستعمل مجازا في الحالة المستقر فيها صاحبها، وقد يعبر عن الحالة أيضا بالمنزلة.
ومعنى {يَقُولُونَ} انهم بذلك ندامة على ما تمنوه ورجوعا إلى التفويض لحكمة الله فيما يختاره لمن يشاء من عباده. وحكي مضمون مقالاتهم بقوله تعالى {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية.
وكلمة {وَيْكَأَنَّ} عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاثة كلمات: (وي) وكاف الخطاب و(أن). فأما (وي) فهي اسم فعل بمعنى: أعجب، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب تنبيها عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة، وأما (أن) فهي (أن) المفتوحة الهمزة أخت (إن) المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه فيقدر لها حرف جر ماتزم حذفه لكثرة استعماله وكان حذفه مع (أن) جائزا فصار في هذا التركيب واجبا وهذا الحرف هو اللام أو (من) فالتقدير: أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء.
وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال: وي بمعنى أعجب، ويقال (ويك) بمعناه أيضا قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ...
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
ويقال: {وَيْكَأَنَّ} ، كما في هذه الآية وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي:
ويكأن من يكن له نشب يحـ ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
فخفف (أن) وكتبوها متصلة لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام فلم يتحققوا أصل تركيبها وكان القياس أن تكتب (ويك) مفصولة عن (أن) وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد. وذهب الخليل ويونس وسيبويه والجوهري والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين (وي) و(كأن) التي للتشبيه.
والمعنى: التعجب من الأمر وأنه يشبه أن يكون كذا والتشبيه مستعمل في الظن واليقين. والمعنى: أما تعجب كأن الله يبسط الرزق.
(20/115)

وذهب أبو عمرو بن العلاء والكسائي والليث وثعلب ونسبه في الكشاف إلى الكوفيين (وأبو عمرو بصري) أنها مركبة من أربع كلمات كلمة (ويل) وكاف الخطاب وفعل (أعلم) و(أن). وأصله: ويلك اعلم أنه كذا، فحذف لام الويل وحذف فعل (أعلم) فصار (ويكأنه). وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة لأنها صارت رمزا لمجموع كلماته فكانت مثل النحت.
ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف فالجمهور يقفون على {وَيْكَأَنَّهُ} بتمامه والبعض يقف على (وي) والبعض يقف على (ويك).
ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه واعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق فخاطب بعضهم بعضا بذلك وأعلنوه.
والبسط: مستعمل مجازا في السعة والكثرة.
و {يَقْدِرُ} مضارع قدر المتعدي، وهو بمعنى: أعدى بمقدار، وهو مجاز في القلة لأن التقدير يستلزم قلة المقدر لعسر تقدير الشيء الكثير قال تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وفائدة البيان بقوله {مِنْ عِبَادِهِ} الإيماء إلى أنه في بسطة الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيده فحقهم الرضى بما لهم مولاهم.
ومعنى {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} : لولا أن من الله علينا فحفظنا من رزق كرزق قارون لخسف بنا، أي لكنا طغينا مثل طغيان قارون فخسف بنا كما خسف به، أو لو لا أن من الله علينا بأن لم نكن من شيعته قارون لخسف بنا كما خسف به وبصاحبيه، أو لولا أن من الله علينا بثبات الإيمان.
وقرأ الجمهور {لَخَسَفَ بِنَا} على بناء فعل (خسف) للمجهول للعلم بالفاعل من قولهم: لولا أن من الله علينا. وقرأه يعقوب بفتح الخاء والسين، أي لخسف الله الأرض بنا.
وجملة {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} تكرير للتعجب، أي قد تبين أن سبب هلاك
(20/116)

قارون هو كفره برسول الله.
[83] {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} انتهت قصة قارون بما فيها من العبر من خير وشر، فأعقبت باستئناف كلام عن الجزاء على الخير وضده في الحياة الأبدية وأنها معدة للذين حالهم بضد حال قارون، مع مناسبة ذكر الجنة بعنوان الدار لذكر الخسف بدار قارون للمقابلة بين دار زائلة ودار خالدة.
وابتدئ الكلام بابتداء مشوق وهو اسم الإشارة إلى غير مذكور من قبل ليستشرف السامع إلى معرفة المشار إليه فيعقبه بيانه بالاسم المعرف باللام الواقع بيانا أو بدلا من اسم الإشارة كما في قوله عبيدة بن الأبرص:
تلك عرسي غضبى تريد زيالي
ألبين تريد أم لدلال ..
الأبيات.
وجملة {نَجْعَلُهَا} هو خبر المبتدأ وكاف الخطاب الذي في اسم الإشارة غير مراد به مخاطب معين موجه إلى كل سامع من قراء القرآن. ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود تبليغه إلى الأمة شأن جميع آي القرآن.
و {الدَّارُ} : محل السكنى، كقوله تعالى {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الأنعام. وأما إطلاق الدار على جهنم في قوله تعالى {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] فهو تهكم كقوله أبي الغول الطهوي:
ولا يرعون أكناف الهوينا ... إذا نزلوا ولا روض الهدون
فاستعمال الروض للهدون تهكم لأن المقام مقام تعريض.
و {الْآخِرَةُ} : مراد به الدائمة، أي التي لا دار بعدها، فاللفظ مستعمل في صريح معناه وكنايته.
ومعنى جعلها لهم أنها محضرة لأجلهم ليس لهم غيرها. وأما من عداهم فلهم أحوال ذات مراتب أفصحت عنها آيات أخرى وأخبار نبوية فإن أحكام الدين لا يقتصر في استنباطها على لوك كلمة واحدة.
(20/117)

وعن الفضيل بن عياض أنه قرأ هذه الآية ثم قال: ذهبت الأماني ههنا، أي أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب، وهذا قول المرجئة قال قائلهم:
كن مسلما ومن الذنوب فلا تخف ... حاشا المهيمن أن يرِي تنكيدا
لو شاء أن يصليك نار جهنم ... ما كان ألهم قلبك التوحيدا
ومعنى {لا يُرِيدُونَ} كناية عن: لا يفعلون، لأن من لا يريد الفعل لا يفعله إلا مكرها. وهذا من باب {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} كما تقدم في أول هذه السورة [5].
والعلو: التكبر عن الحق وعلى الخلق، والطغيان في الأعمال، والفساد: ضد الصلاح، وهو كل فعل مذموم في الشريعة أو لدى أهل العقول الراجحة.
وقوله {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} تذييل وهو معطوف على جملة {تِلْكَ الدَّارُ} وبه صارت جملة {تِلْكَ الدَّارُ} كلها تذييلا لما اشتملت عليه من إثبات الحكم للعام بالموصول من قوله {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} والمعرف بلام الاستغراق.
والعاقبة: وصف عومل معاملة الأسماء لكثرة الوصف به وهي الحالة الآخرة بعد حالة سابقة وغلب إطلاقها على عاقبة الخير. وتقدم عند قوله تعالى {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في أول الأنعام. [84] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
تتنزل جملة {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} منزلة بدل الاشتمال لجملة {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} لأن العاقبة ذات أحوال من الخير ودرجات من النعيم وهي على حسب ما يجيء به المتقون من الحسنات فتفاوت درجاتهم بتفاوتها.
وفي اختيار فعل {جَاءَ} في الموضعين هنا إشارة إلى أن المراد من حضر بالحسنة ومن حضر بالسيئة يوم العرض على الحساب. ففيه إشارة إلى أن العبرة بخاتمة الأمر وهي مسألة الموافاة. وأما اختيار فعل {عملوا} في قوله {الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} فلما فيه من التنبيه على أن عملهم هو علة جزائهم زيادة في التنبيه على عدل الله تعالى.
(20/118)

ومعنى {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أن كل حسنة تحتوي على خير لا محالة يصل إلى نفس المحسن أو إلى غيره فللجائي بالحسنة خير أفضل مما في حسنته من الخير، أو فله من الله إحسان عليها خير من الإحسان الذي في الحسنة قال تعالى في آيات أخرى {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أي فله من الجزاء حسنات أمثالها وهو تقدير بعلمه الله.
ولما ذكر جزاء الإحسان أعقب بضد ذلك مقابلة فضل الله تعالى على المحسن بعدله مع المسيء على عادة القرآن من قرن الترغيب بالترهيب.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} ما صدقه الذين عملوا السيئات، و {الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} الثاني هو عين {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} فكان المقام مقام الإضمار بأن يقال: ومن جاء بالسيئة فلا يجزون الخ؛ ولكنه عدل عن مقتضى الظاهر لأن في التصريح بوصفهم بـ {عَمِلُوا السَّيِّئاتِ} تكريرا لإسناد عمل السيئات إليهم لقصد تهجين هذا العمل الذميم وتبغيض السيئة إلى قلوب السامعين من المؤمنين.
وفي قوله {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} استثناء مفرغ عن فعل {يُجْزَى} المنفي المفيد بالنفي عموم أنواع الجزاء، والمستثنى تشبيه بليغ، أي جزاء شبيه الذي كانوا يعملونه. والمراد المشابهة والمماثلة في عرف الدين، أي جزاء وفاقا لما كانوا يعملون وجاريا على مقداره لا حيف فيه وذلك موكول إلى العلم الإلهي.
[85] {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
ابتداء كلام للتنويه بشأن محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده ووعده بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وإن إنكار أهل الضلال رسالته لا يضيره لأن الله أعلم بأنه على هدى وأنهم على ضلال بعد أن قدم لذلك من أحوال رسالة موسى عليه السلام ما فيه عبرة بالمقارنة بين حالي الرسولين وما لقياه من المعرضين.
وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام به. وجيء بالمسند إليه اسم موصول دون اسمه تعالى العلم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر. وأنه خبر الكرامة والتأييد أي أن الذي أعطاك القرآن ما كان إلا مقدرا نصرك وكرامتك؛ لأن إعطاء القرآن شيء لا نظير له فهو دليل على كمال عناية الله بالمعطى. قال كعب بن زهير:
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
(20/119)

وفيه إيماء إلى تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم
ومعنى {فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} اختاره لك من قولهم: فرض له كذا، إذا عين له فرضا، أي نصيبا. ولما ضمن {فَرَضَ} معنى (أنزل) لأن فرض القرآن هو إنزاله، عدي فرض بحرف (على).
والرد: إرجاع شيء إلى حاله أو مكانه. والمعاد: اسم مكان العود، أي الأول كما يقتضيه حرف الانتهاء. والتنكير في {مَعَادٍ} للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة، وموقعهما بعد قوله { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} 1 [القصص: 84]، أي إلى معاد أي معاد.
والمعاد يجوز أن يكون مستعملا في معنى آخر أحوال الشيء وقراره الذي لا انتقال منه تشبيها بالمكان العائد إليه بعد أن صدر منه أو كناية عن الأخارة فيكون مرادا به الحياة الآخرة. قال ابن عطية: وقد اشتهر يوم القيامة بالمعاد نه معاد الكل اهـ. أي فأبشر بما تلقى في معادك من الكرامة التي لا تعادلها كرامة والتي لا تعطى لأحد غيرك. فتنكير {مَعَادٍ} أفاد أنه عظيم الشأن، وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله.
ويجوز أن يراد بالمعاد معناه المشهود القريب من الحقيقة. وهو ما يعود إليه المرء إن غاب عنه، فيراد هنا بلده الذي كان به وهو مكة. وهذا الوجه يقتضي انه كناية عن خروجه منه ثم عوده إليه لأن الرد يستلزم المفارقة. وإذ قد كانت السورة مكية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة فالوعد بالرد كناية عن الخروج منه قبل أن يرد عليه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أري في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل كما في حديث البخاري، وكان قال له ورقة بن نوفل: يا ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك وغن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، فما كان ذلك كله ليغيب عن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه قد قيل: إن هذه الآية نزلت عليه وهو في الجحفة في طريقه إلى الهجرة كما تقدم في أول السورة فوعد بالرد عليها وهو دخوله إليها فاتحا لها ومتمكنا منها. فقد روي عن ابن عباس تفسير المعاد بذلك وكلا الوجهين يصح أن يكون مرادا على ما تقرر في المقدمة التاسعة.
ـــــــ
1 في المطبوعة (عشر أمثالها)
(20/120)

ثم تكون جملة {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} بالنسبة إلى الوجه الأول بمنزلة التفريع على جملة {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، أي رادك إلى يوم المعاد فمظهر المهتدي والضالين، فيكون علم الله بالمهتدي والضال مكنى به عن اتضاح الأمر بلا ريب لأن علم الله تعالى لا يعتريه تلبيس وتكون هذه الكناية تعريضا بالمشركين أنهم الضالون. وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المهتدي.
ولهذه النكتة عبر عن جانب المهتدي بفعل {مَنْ جَاءَ} للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهدي لم يكن معروفا من قبل كما يقتضيه: جاء بكذا، وعبر عن جانب الضالين بالجملة الاسمية المقتضية ثبات الضلال المشعر بان الضلال هو أمرهم القديم الراسخ فيهم مع ما أفاده حرف الظرفية من انغماسهم في الضلال وإحاطته بهم. ويكون المعنى حينئذ على حد قوله تعالى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] لظهور أن المبلغ لهذا الكلام لا يفرض في حقه أن يكون هو الشق الضال فيتعين أن الضال من خالفه.
وبالنسبة إلى الوجه الثاني تكون بمنزلة الموادعة والمتاركة وقطع المجادلة. فالمعنى: عد عن إثبات هداك وضلالهم وكلهم إلى يوم ردك إلى معادك يوم يتبين أن الله نصرك وخذلهم. وعلى المعنيين فجملة {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ} مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} جوابا لسؤال سائل يثيره أحد المعنيين.
وفي تقديم جملة {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} على جملة {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} إعداد لصلاحية الجملة الثانية للمعنيين المذكورين. فهذا من الدلالة على معاني الكلام بمواقعه وترتيب نظامه وتقديم الجمل عن مواضع تأخيرها لتوفير المعاني.
[86-87] {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}
عطف على جملة: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85] الخ باعتبار ما تضمنته من الوعد بالثواب الجزيل أو بالنصر المبين، أي كما حملك تبليغ القرآن فكان
(20/121)

ذلك علامة على أنه أعد لك الجزاء بالنصر في الدنيا والآخرة. كذلك إعطاؤه إياك الكتاب عن غير ترقب منك بل بمحض رحمة ربك، أي هو كذلك في أنه علامة لك على أن الله لا يترك نصرك على أعدائك فإنه ما اختارك لذلك إلا لأنه أعد لك نصرا مبينا وثوابا جزيلا.
وهذا أيضا من دلالة الجملة على معنى غير مصرح به بل على معنى تعريضي بدلالة موقع الجملة.
وإلقاء الكتاب إليه وحيه به إليه. أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة كما تقدم في قوله تعالى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} في [سورة النحل: 86-87].
والاستثناء في {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} استثناء منقطع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخامر نفسه رجاء أن يبعثه الله بكتاب من عنده بل كان ذلك مجرد رحمة من الله تعالى به واصطفاء له.
[86-87] {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
تفريع على جملة {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} وما عطف عليها وما تخلل بينهما مما اقتضى جميعه الوعد بنصره وظهور أمره وفوزه في الدنيا والآخرة، وأنه جاء من الله إلى قوم هم في ضلال مبين، وأن الذي رحمه فآتاه الكتاب على غير ترقب منه لا يجعل أمره سدى فأعقب ذلك بتحذيره من أدنى مظاهرة للمشركين فإن فعل الكون لما وقع في سياق النهي وكان سياق النهي مثل سياق النفي لأن النهي أخو النفي في سائر تصاريف الكلام كان وقوع فعل الكون في سياقه مفيدا تعميم النهي عن كل كون من أكوان المظاهرة للمشركين.
والظهير: المعين. والمظاهرة: المعونة، وهي مراتب أعلاها النصرة وأدناها المصانعة والتسامح، لأن في المصانعة على المرغوب إعانة لراغبه. فلما شمل النهي جميع أكوان المظاهرة لهم اقتضى النهي عن مصانعتهم والتسامح معهم، وهو يستلزم الأمر بضد المظاهرة فيكون كناية عن الأمر بالغلظة عليهم كصريح قوله تعالى {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} . وهذا المعنى يناسب كون الآيات آخر ما نزل قبل الهجرة وبعد متاركته المشركين ومغادرته الذي يعمرونه.
(20/122)

وقيل النهي للتهييج لإثارة غضب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وتقوية داعي شدته معهم. ووجه تأويل النهي بصرفه عن ظاهره أو عن بعض ظاهره هو أن المنهي عنه لا يفرض وقوعه من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينهى عنه فكان ذلك قرينة على أنه مؤول.
وتوجيه النهي إليه عن أن يصدوه عن آيات الله في قوله {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} كناية عن نهيه عن أن يتقبل منهم ما فيه صد عن آيات الله كما يقول العرب: لا أعرفنك تفعل كذا، كنوا به عن: أنه لا يفعله. فيعرف المتكلم الناهي فعله. والمقصود: تحذير المسلمين من الركون إلى الكافرين في شيء من شؤون الإسلام فإن المشركين يحاولون صرف المسلمين عن سماع القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
وقيل هو للتهييج أيضا، وتأويل هذا النهي أكد من تأويل قوله {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} .
ويجوز أن يكون النهي في {وَلا يَصُدُّنَّكَ} نهي صرفة كما كان الأمر في قوله {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} أمر تكوين. فالمعنى: أن الله قد ضمن لرسوله صرف المشركين عن أن يصدوه عن آيات الله وذلك إذ حال بينه وبينهم بأن أمره بالهجرة ويسرها له وللمسلمين معه.
والتقييد بالبعدية في قوله {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} لتعليل النهي أياما كان المراد منه، أي يجوز أن يصدوك عن آيات الله بعد إذ أنزلها عليك فإنه ما أنزلها إليك بطلا وعبثا كقوله تعالى {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 213].
والأمر في قوله {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} مستعمل في الأمر بالدوام على الدعوة إلى الله لا إلى إيجاد الدعوة لأن ذلك حاصل، أي لا يصرفك إعراض المشركين عن إعادة دعوتهم إعذارا لهم.
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملا في الأكمل من أنواعه، أي أنك بعد الخروج من مكة أشد تمكنا في الدعوة إلى الله مما كنت من فبل لأن تشغيب المشركين عليه كان يرنق صفاء تفرغه للدعوة.
وجميع هذه النواهي والأوامر داخلة في حيز التفريع بالفاء في قوله {فَلا تَكُونَنَّ
(20/123)

ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} .
أما قوله {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فإن حملت {مِنَ} فيه على معنى التبعيض كان النهي مؤولا يمثل ما أولوا به النهيين اللذين قبله أنه للتهييج، أو أن المقصود به المسلمون.
[88] {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
هذا النهي موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمقصود به إبطال الشرك وإظهار ضلال أهله إذ يزعمون أنهم معترفون بإلهية الله تعالى وأنهم إنما اتخذوا له شركاء وشفعاء، فبين لهم أن الله لا إله غيره، وأن انفراده بالإلهية في نفس الأمر يقضي ببطلان الإشراك في الاعتقاد ولو أضعف إشراك، فجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في معنى العلة للنهي الذي في الجملة قبلها.
وجملة {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} علة ثانية للنهي لأن هلاك الأشياء التي منها الأصنام وكل ما عبد مع الله وأشرك به دليل على انتفاء الإلهية عنها لأن الإلهية تنافي الهلاك وهو العدم.
والوجه مستعمل في معنى الذات. والمعنى: كل موجود هالك إلا الله تعالى. والهلاك: الزوال والانعدام.
وجملة {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تذييل فلذلك كانت مفصولة عما قبلها. وتقديم المجرور باللام لإفادة الحصر، والمحصور فيه هو الحكم الأتم، أي الذي لا يرده راد.
والرجوع مستعمل في معنى: آخر الكون على وجه الاستعارة، لأن حقيقته الانصراف إلى مكان قد فارقه فاستعمل في مصير الخلق وهو البعث بعد الموت؛ شبه برجوع صاحب المنزل إلى منزله، ووجه الشبه هو الاستقرار والخلود فهو مراد منه طول الإقامة.
وتقديم المجرور بـ(إلى) للاهتمام بالخبر لأن المشركين نفوا الرجوع من أصله ولم يقولوا بالشركة في ذلك حتى يكون التقديم للتخصيص.
والمقصود من تعدد هذه الجمل إثبات أن الله منفرد بالإلهية في ذاته وهو مدلول جملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . وذلك أيضا يدل على صفة القدم لأنه لما انتفى جنس الإلهية عن
(20/124)

غيره تعالى تعين أنه لم يوجده غيره فثبت له القدم الأزلي وأن الله تعالى باق لا يعتريه العدم لاستحالة عدم القديم، وذلك مدلول {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، وأنه تعالى منفرد في أفعاله بالتصرف المطلق الذي لا يرده غيره فيتضمن ذلك إثبات الإرادة والقدرة. وفي كل هذا رد على المشركين الذين جوزوا شركته في الإلهية، وأشركوا معه آلهتهم في التصرف بالشفاعة والغوث.
ثم أبطل إنكارهم البعث بقوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
(20/125)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة العنكبوت
اشتهرت هذه السورة بسورة العنكبوت من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رواه عكرمة قال: كان المشركون إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بهما، أي بهذه الإضافة فنزل قوله تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} يعني المستهزئين بهذا ومثله وقد تقدم الإلماع إلى ذلك عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} في [سورة البقرة: 26].
ووجه إطلاق هذا الاسم على هذه السورة أنها اختصت بذكر مثل العنكبوت في قوله تعالى فيها {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} .
وهي مكية كلها في قول الجمهور، ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة، وقيل بعضها مدني. روى الطبري والواحدي في أسباب النزول عن الشعبي أن الآيتين الأوليين منها أي إلى قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} نزلتا بعد الهجرة في أناس من أهل مكة اسلموا فكتب إليهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة أن لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا إلى المدينة فخرجوا مهاجرين فاتبعهم المشركون فردوهم.
وروى الطبري عن عكرمة عن ابن عباس أن قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} نزلت في قوم بمكة وذكر قريبا مما روى عن الشعبي.
وفي أسباب النزول للواحدي: عن مقاتل نزلت الآيتان الأوليان في مهجع مولى عمر بن الخطاب خرج في جيش المسلمين إلى بدر فرماه عامر بن الحضرمي من المشركين بسهم فقتله فجزع عليه أبوه وامرأته فأنزل الله هاتين الآيتين. وعن علي ابن أبي طالب أن
(20/126)

السورة كلها نزلت بين مكة والمدينة. وقيل: إن آية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] نزلت في ناس من ضعفة المسلمين بمكة كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم في باطن الأمر وأظهروا للمسلمين أنهم لم يزالوا على إسلامهم كما سيأتي عند تفسيرها.
وقال في الإتقان: ويضم إلى ما استثني من المكي فيها قوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60] لما أخرجه ابن أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة فقالوا كيف نقدم بلدا ليست لنا فيه معيشة فنزلت {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60].
وقيل هذه السورة آخر ما نزل بمكة وهو يناكد بظاهره جعلهم هذه السورة نازلة قبل سورة المطففين. وسورة المطففين آخر السور المكية. ويمكن الجمع بأن ابتداء نزول سورة العنكبوت قبل ابتداء نزول سورة المطففين ثم نزلت سورة المطففين كلها في المدة التي كانت تنزل فيها سورة العنكبوت ثم تم بعد ذلك جميع هذه السورة.
وهذه السورة هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الروم وقبل سورة المطففين، وسيأتي عند ذكر سورة الروم ما يقتضي أن العنكبوت نزلت في أواخر سنة إحدى قبل الهجرة فتكون من أخريات السور المكية بحيث لم ينزل بعدها بمكة إلا سورة المطففين.
وآياتها تسع وستون باتفاق أصحاب العدد من أهل الأمصار.
أغراض هذه السورة
افتتاح هذه السورة بالحروف المقطعة يؤذن بأن من أغراضها تحدي المشركين بالإتيان بمثل سورة منه كما بينا في سورة البقرة، وجدال المشركين في أن القرآن نزل من عند الله هو الأصل فيما حدث بين المسلمين والمشركين من الأحداث المعبر عنها بالفتنة في قوله هنا {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]. فتعين أن أول أغراض هذه السورة تثبيت المسلمين الذين فتنهم المشركون وصدوهم عن الإسلام أو عن الهجرة مع من هاجروا.
ووعد الله بنصر المؤمنين وخذل أهل الشرك وأنصارهم وملقنهم من أهل الكتاب.
(20/127)

والأمر بمجافاة المشركين والابتعاد منهم ولو كانوا اقرب القرابة.
ووجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين وأن لهم في سعة الأرض ما ينجيهم من أذى أهل الشرك.
ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ما عدا الظالمين منهم للمسلمين.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على إبلاغ القرآن وشرائع الإسلام.
والتأسي في ذلك بأحوال الأمم التي جاءتها الرسل، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بمثل ما جاءوا به.
وما تخلل أخبار من ذكر فيها من الرسل من العبر.
والاستدلال على أن القرآن منزل من عند الله بدليل أمية من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم.
وتذكير المشركين بنعم الله عليهم ليقلعوا عن عبادة ما سواه.
وإلزامهم بإثبات وحدانيته بأنهم يعترفون بأنه خالق من في السماوات ومن في الأرض.
والاستدلال على البعث بالنظر في بدء الخلق وهو أعجب من إعادته.
وإثبات الجزاء على الأعمال.
وتوعد المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم يتهكمون باستعجاله.
وضرب المثل لاتخاذ المشركين أولياء من دون الله بمثل وهي بيت العنكبوت.
[1] {الم}
تقدم القول في معاني أمثالها مستوفى عند مفتتح سورة البقرة.
واعلم أن التهجي المقصود به التعجيز يأتي في كثير من سور القرآن وليس يلزم أن يقع ذكر القرآن أو الكتاب بعد تلك الحروف وإن كان ذلك هو الغالب في سور القرآن ما عدا ثلاث سور وهي فاتحة سورة مريم وفاتحة هذه السورة وفاتحة سورة الروم. على أن هذه السورة لم تخل من إشارة إلى التحدي بإعجاز القرآن لقوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].
(20/128)

[2] {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}
الاستفهام في {أَحَسِبَ} مستعمل في الإنكار، أي إنكار حسبان ذلك. وحسب بمعنى ظن، وتقدم في قوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} في [سورة البقرة: 214]. والمراد بالناس كل الذين آمنوا، فالقول كناية عن حصول المقول في نفس المر، أي أحسب الناس وقوع تركهم لأن يقولوا آمنا، فقوله {أَنْ يُتْرَكُوا} مفعول أول لـ {حَسِبَ} .وقوله {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} شبه جملة في محل المفعول الثاني وهو مجرور بلام جر محذوف مع {أَنْ} حذفا مطردا، والتقدير: أحسب الناس تركهم غير مفتونين لأجل قولهم: آمنا، فإن أفعال الظن والعلم لا تتعدى إلى الذوات وإنما تتعدى إلى الأحوال والمعاني وكان حقها أن يكون مفعولها واحدا دالا على حالة، ولكن جرى استعمال الكلام على أن يجعلوا لها اسم ذات مفعولا، ثم يجعلوا ما يدل على حالة للذات مفعولا ثانيا. ولذلك قالوا: إن مفعولي أفعال القلوب أي العلم ونحوه أصلهما مبتدأ وخبر.
والترك: عدم تعهد الشيء بعد الاتصال به.
والترك هنا مستعمل في حقيقته لأن الذين آمنوا قد كانوا مخالطين للمشركين ومن زمرتهم، فلما آمنوا اختصوا بأنفسهم وخالفوا أحوال قومهم وذلك مظنة أن يتركهم المشركون وشأنهم، فلما أبى المشركون إلا منازعتهم طمعا في إقلاعهم عن الإيمان وقع ذلك منهم موقع المباغتة والتعجب، وتقدم الترك المجازي في قوله تعالى {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} أوائل [البقرة: 17].
و {أَنْ يَقُولُوا} في موضع نصب على نزع الخافض الذي هو لام التعليل والتقدير: لأجل أن يقولوا آمنا.
وجملة {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} حال، أي لا يحسبوا انهم سالمون من الفتنة إذا آمنوا.
والفتن والفتون: فساد حال الناس بالعدوان والأذى في الأنفس والأموال والأهلين. والاسم الفتنة، وقد تقدم عند قوله تعالى {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} في [سورة البقرة: 102].
وبناء فعلي {يُتْرَكُوا، يُفْتَنُونَ} للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور أن الفاعل قوم ليسوا بمؤمنين، أي أن يتركوا خالين عن فتون الكافرين إياهم لما هو معروف من الأحداث قبيل نزولها، ولما هو معلوم من دأب الناس أن يناصبوا العداء من خالفهم
(20/129)

في معتقداتهم ومن ترفع عن رذائلهم. والمعنى: أحسب الذين قالوا آمنا أن يتركهم أعداء الدين دون أن يفتنوهم. ومن فسروا الفتون هنا بما شمل التكاليف الشاقة مثل الهجرة والجهاد قد ابتعدوا عن مهيع المعنى واللفظ وناكدوا ما تفرع عنه من قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
وإنما لم نقدر فاعل {يُتْرَكُوا} و {يُفْتَنُونَ} أنه الله تعالى تحاشيا مع التشابه مع وجود مندوحة عنه.
وهذه الفتنة مراتب أعظمها التعذيب كما فعل ببلال، وعمار بن ياسر وأبويه.
[3] {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
انتقال إلى التنويه بالفتون لأجل الإيمان بالله بأنه سنة الله في سالف أهل الإيمان وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المؤمنين حين استظعفوا ما نالهم من الفتنة من المشركين واستبطأوا النصر على الظالمين، وذهولهم عن سنة الكون في تلك الحالة منزلة من ينكر أن من يخالف الدهماء في ضلالهم ويتجافى عن أخلاقهم ورذالتهم لا بد أن تلحقه منهم فتنة.
ولما كان هذا السنن من آثار ما طبع الله عليه عقول غالب البشر وتفكيرهم غير المعصوم بالدلائل وكان حاصلا في الأمم السالفة كلها أسند فتون تلك الأمم إلى الله تعالى إسنادا مجازيا لأنه خالق أسبابه كما خلق أسباب العصمة منه لمن كان أهلا للعصمة من مثله، وفي هذا الإسناد إيماء إلى ان الذي خلق أسباب تلك الفتن قريبها وبعيدها قادر على صرفها بأسباب تضادها. وإلى هذا يشير دعاء موسى عليه السلام المحكي في [سورة يونس: 88 ]{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} فسأل الله أن يخلق ضد الأسباب التي غرت فرعون وملأه وغشيت على قلبه بالضلال.
والمقصود التذكير بما لحق صالحي الأمم السالفة من الأذى والاضطهاد كما لقي صالحو النصارى من مشركي الرومان في عصور المسيحية الأولى، وقد قص القرآن بعض ذلك في سورة البروج.
وحكمها سار في حال كل من يتمسك بالحق بين قوم يستخفون به من المسلمين لأن
(20/130)

نكران الحق أنواع كثيرة.
والواو الداخلة على جملة {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يجوز أن تكون عاطفة على جملة {أَحَسِبَ النَّاسُ} ، ويجوز كونها عاطفة على جملة {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} فتكون بمعنى الحال، أي والحال قد فتنا الذين من قبلهم، وعلى كلا التقديرين فالجملة معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنه من قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} . فلك أن تسمي تلك الواو اعتراضية. وإسناد فعل {فَتَنَّا} إلى الله تعالى لقصد تشريف هذه الفتون بأنه جرى على سنة الله في الأمم. فالفاء في قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} تفريع على جملة {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، أي يفتنون فيعلم الله الذين صدقوا منهم والكاذبين. والمفرع هو علم الله الحاصل في المستقبل كما يقتضيه توكيد فعل العلم بنون التوكيد التي لا يؤكد بها المضارع إلا مستقبلا. وهو تعلق بالمعلوم شبيه بالتعلق التنجيزي لصفتي الإرادة والقدرة وإن لم يسموه بهذا الاسم.
والمراد بالصدق هنا ثبات الشيء ورسوخه، وبالكذب ارتفاعه وتزلزله؛ وذلك أن المؤمنين حين قالوا {آمَنَّا} [ العنكبوت: 2]لم يكن منهم من هو كاذب في إخباره عن نفسه بأنه اعتقد عقيدة الإيمان واتبع رسوله، فإذا لحقهم الفتون من أجل دخولهم في دين الإسلام فمن لم يعبأ بذلك ولم يترك أتباع الرسول فقد تبين رسوخ إيمانه ورباطة عزمه فكان إيمانه حقا وصدقا، ومن ترك الإيمان خوف الفتنة فقد استبان من حالة عدم رسوخ إيمانه وتزلزله، وهذا كقول النابغة:
أولئك قوم بأسهم غير كاذب
وقول الأعشى في ضده يصف راحلته:
جمالية تغتلي بالردا ... ف إذا كذب الآثمات الهجيرا
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في أول [سورة يونس: 2].
ولما كان علم الله بمن يكون إيمانه صادقا عند الفتون ومن يكون إيمانه كاذبا بهذين المعنيين متقررا في الأزل من قبل أن يحصل الفتون والصدق والكذب تعين تأويل فعل {فَلَيَعْلَمَنَّ} بمعنى: فليعلمن بكذب إيمانهم بهذا المعنى، فهو من تعلق العلم بحصول أمر كان في علم الله أنه سيكون وهو شبيه بتعلق الإرادة المعبر عنه بالتعلق التنجيزي ولا مانع
(20/131)

من إثبات تعلقين لعلم الله تعالى: أحدهما قديم، والآخر تنجيزي حادث. ولا يفضي ذلك إلى اتصاف الله تعالى بوصف حادث لأن تعلق الصفة تحقق مقتضاها في الخارج لا في ذات موصوفها، وتقدم عند قوله تعالى {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في [سورة البقرة: 143]، وقوله {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} في [آل عمران: 140].
ولك أن تجعل العلم هنا مكنى به عن وعد الصادقين ووعيد الكاذبين لأن العلم سبب للجزاء بما يقتضيه فكانت الكناية مقصودة وهو المعنى الأهم.
وقد عدل في قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} عن طريق التكلم إلى طريق الغيبة بإظهار اسم الجلالة على أسلوب الالتفات لما في هذا الإظهار من الجلالة ليعلم أن الجزاء على ذلك جزاء مالك الملك.
وتعريف المتصدقين بصدق الإيمان بالموصول والصلة الماضوية لإفادة أنهم اشتهروا بحدثان صدق الإيمان وان صدقهم محقق.
وأما تعريف المتصفين بالكذب بطريق التعريف باللام وبصيغة اسم الفاعل فلإفادة أنهم عهدوا بهذا الوصف وتميزوا به مع ما في ذلك من التفنن والرعاية على الفاصلة.
روى الطبري عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: نزلت هذه الآية {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا} إلى قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3] في عمار بن ياسر غذ كان يعذب في الله، أي وأمثاله عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة ابن هشام ممن كانوا يعذبون بمكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم الله بالنجاة لهم وللمستضعفين من المؤمنين.
[4] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
أعقب تثبيت المؤمنين على ما يصيبهم من فتون المشركين وما في ذلك من الوعد والوعيد بزجر المشركين على ما يعملونه من السيئات في جانب المؤمنين وأعظم تلك السيئات فتونهم المسلمين. فالمراد بالذين يعملون السيئات الفاتنون للمؤمنين.
وهذا ووعيدهم بان الله لا يفلتهم. وفي هذا أيضا زيادة تثبيت للمؤمنين بأن الله ينصرهم من أعدائهم.
فـ {أَمْ} للإضراب الانتقالي ويقدر بعدها استفهام إنكاري.
و {السَّيِّئَاتِ} : الأعمال السوء. وهي التنكيل والتعذيب وفتون المسلمين.
(20/132)

والسبق: مستعمل مجازا في النجاة والانفلات كقوله مرة بن عداء الفقعسي:
كأنك لم تسبق من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وقوله تعالى {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: 60-61] وقوله { فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 39-40].
وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ} في [سورة الأنفال: 59]. والمعنى: أم حسبوا أن قد شفوا غيظهم من المؤمنين، فهم بذلك غلبوا أولياءنا فغلبونا.
وجملة {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ذم لحسبانهم ذلك وإبطال له. فهي مقررة لمعنى الإنكار في جملة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} فلها حكم التوكيد فلذلك فصلت.
وهذه الجملة تقتضي أن يكون هذا الحسبان واقعا منهم. ومعنى وقوعه: انهم اعتقدوا ما يساوي هذا الحسبان لأنهم حين لم يستطع المؤمنون رد فتنهم قد اغتروا بأنهم غلبوا المؤمنين، وإذ قد كان المؤمنون يدعون إلى الله دون الأصنام فمن غلبهم فقد حسب انه غلب من يدعون إليه وهم لا يشعرون بهذا الحسبان، فأفهمه.
والحكم مستعمل في معنى الظن والاعتقاد تهكما بهم بأنهم نصبوا أنفسهم منصب الذي يحكم فيطاع و {مَا يَحْكُمُونَ} موصول وصلته، أي ساء الحكم الذي يحكمونه.
وهذه الآية وغن كانت واردة في شأن المشركين المؤذين للمؤمنين فهي تشير تحذير المسلمين من مشابهتهم في اقتراف السيئات استخفافا بوعيد الله عليها لأنهم في ذلك يأخذون بشيء من مشابهة حسبان الانفلات، وإن كان المؤمن لا يظن ذلك ولكنه ينزل منزلة من يظنه لإعراضه عن الوعيد حين يقترف السيئة.
[5] {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
هذا مسوق للمؤمنين خاصة لأنهم الذين يرجون لقاء الله، فالجملة مفيدة التصريح بما أومأ إليه قوله {أَنْ يَسْبِقُونَا} من الوعد بنصر المؤمنين على عدوهم مبينة لها ولذلك فصلت. ولولا هذا الوقع لكان حق الإخبار بها أن يجيء بواسطة حرف العطف. ورجاء لقاء الله: ظن وقوع الحضور لحساب الله.
ولقاء الله: الحشر للجزاء لأن الناس يتلقون خطاب الله المتعلق بهم، لهم أو عليهم، مباشرة بدون واسطة، وقد تقدم في قوله {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:
(20/133)

46] وقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في [سورة البقرة: 223].
و {أَجَلَ اللَّهِ} يجوز أن يكون الوقت الذي عينه الله في علمه للبعث والحساب فيكون من الإظهار في مقام الإضمار، ومقتضى الظاهر أن يقال فإنه لآت فعدل إلى الإظهار كما في إضافة {أَجَلَ} إلى اسم الجلالة من الإيماء إلى أنه لا يخلف. والمقصود الاهتمام بالتحريض على الاستعداد. ويجوز أن يكون المراد بـ {أَجَلَ اللَّهِ} الأجل الذي عينه الله لنصر المؤمنين وانتهاء فتنة المشركين إياهم باستئصال مساعير تلك الفتنة، وهم صناديد قريش وذلك بما كان من النصر يوم بدر ثم ما عقبه إلى فتح مكة فيكون الكلام تثبيتا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين حين استبطأ المؤمنون النصر للخلاص من فتنة المشركين حتى يعبدوا الله لا يفتنوهم في عبادته. والمعنى عليه: إن كنتم مؤمنين بالبعث إيقانا ينبعث من تصديق وعد الله به فإن تصديقكم بمجيء النصر أجدر لأنه وعدكم به، فـ {مَنْ} شرطية، وجعل فعل الشرط فعل الكون للدلالة على تمكن هذا الرجاء من فاعل فعل الشرط.
ولهذا كان قوله {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} جوابا لقوله {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} باعتبار دلالته على الجواب المقدر ليلتئم الربط بين مدلول جملة الشرط ومدلول جملة الجزاء. ولولا ذلك لاختل الربط بين الشرط والجزاء إذ يفضي إلى معنى من لم يكن يرجو لقاء الله فإن أجل الله غير آت. وهذا لا يستقيم في مجاري الكلام فلزم تقدير شيء من باب دلالة الاقتضاء.
وتأكيد جملة الجزاء بحرف التوكيد على الوجه الأول للتحريض والحث على الاستعداد للقاء الله، وعلى الوجه الثاني لقصد تحقيق النصر الموعود به تنزيلا لاستبطائه منزلة التردد لقصد إذكاء يقينهم بما وعد الله ولا يوهنهم طول المدة الذي يضخمه الانتظار. وبهذا يظهر وقع التذييل بوصفي {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} دون غيرهما من الصفات العلى للإيماء بوصف {السَّمِيعُ} إلى أن الله تعالى سمع مقالة بعضهم من الدعاء بتعجيل النصر كما أشار إليه قوله تعالى {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214]. وكقوله النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف)) .
والإيماء بوصف {الْعَلِيمُ} إلى أن الله علم ما في نفوسهم من استعجال النصر ولو
(20/134)

كان المراد من {أَجَلَ اللَّهِ} الموت لما كان وجه للإعلام بإتيانه بله تأكيده، وكذا لو كان المراد منه البعث لكان قوله {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} كافيا، فهذا وجه ما أشارت إليه الآيات بالمطوق والاقتضاء، والعدول بها عن هذا المهيع وإلى ما في الكشاف ومفاتيح الغيب أخذا من كلام أبي عبيدة تحويل لها عن مجراها وصرف كلمة الرجاء عن معناها وتفكيك لنظم الكلام عن أن يكون آخذا بعضه بحجز بعض.
وإظهار اسم الجلالة في جملة {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} مع كون مقتضى الظاهر الإضمار لتقدم اسم الجلالة في جملة الشرط {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} لئلا يلتبس معاد الضمير بأن يعاد إلى {مَنْ} إذ المقصود الإعلام بأجل مخصوص وهو وقت النصر الموعود كما في قوله تعالى {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 29-30].
وعبر بفعل الرجاء عن ترقب البعث لأن الكلام مسوق للمؤمنين وهم ممن يرجو لقاء الله لأنهم يترقبون البعث لما يأملون من الخيرات فيه. قال بلال رضي الله عنه حين احتضاره متمثلا بقول بعض الأشعريين الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم:
غدا ألقى الأحبة ... محمدا وصحبه
[6] {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
أي ومن جاهد ممن يرجون لقاء الله، فليست الواو للتقسيم، وليس {مَنْ جَاهَدَ} بقسيم لمن كانوا يرجون لقاء الله بل الجهاد من عوارض من كانوا يرجون لقاء الله.
والجهاد: مبالغة في الجهد الذي هو مصدر جهد كمنع، إذا جد في عمله وتكلف فيه تعبا، ولذلك شاع إطلاقه على القتال في نصر الإسلام. وهو هنا يجوز أن يكون الصبر على المشاق والأذى اللاحقة بالمسلمين لأجل دخولهم في الإسلام ونبذ دين الشرك حيث تصدى المشركون لأذاهم. فإطلاق الجهاد هنا هو مثل إطلاقه في قوله تعالى بعد هذا {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8]، ومثل إطلاقه في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قفل من إحدى غزواته "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" .
وهذا المحل هو المتبادر في هذه السورة بناء على أنها كلها مكية نه لم يكن جهاد القتال في مكة.
(20/135)

ومعنى {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} على هذا المحمل أن ما يلاقيه من المشاق لفائدة نفسه ليتأتى له الثبات على الإيمان الذي به ينجو من العذاب في الآخرة.
ويجوز أن يراد بالجهاد المعنى المنقول إليه في اصطلاح الشريعة وهو قتال الكفار لأجل نصر الإسلام والذب عن حوزته، ويكون ذكره هنا إعداد نفوس المسلمين لما سيلجأون إليه من قتال المشركين قبل أن يضطروا إليه فيكون كقوله تعالى {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]ومناسبة التعريض له على هذا المحمل هو أن قوله {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [ العنكبوت : 5]تضمن ترقبا لوعد نصرهم على عدوهم فقدم إليهم أن ذلك بعد جهاد شديد وهو ما وقع يوم بدر.
ومعنى {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} على هذا المحمل هو معناه في المحمل الأول لأن ذلك الجهاد يدافع صد المشركين إياهم عن إسلام، فكان الدوام على الإسلام موقوفا عليه، وزيادة معنى أخر وهو أن ذلك الجهاد وإن كان في ظاهر الأمر دفاعا عن دين الله فهو أيضا به نصرهم وسلامة حياة الأحياء منهم وأهلهم وأبنائهم وأساس سلطانهم في الأرض كما قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55]. وقال علقمة بن شيبان التميمي:
ونقاتل الأعداء عن أبنائنا ... وعلى بصائرنا وإن لم نبصر
والأوفق ببلاغة القرآن أن يكون المحملان مرادين كما قدمنا في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.
والقصر المستفاد من (إنما) هو قصر الجهاد على الكون لنفس المجاهد، أي الصالح نفسه إذ العلة لا تتعلق بالنفس بل بأحوالها، أي جهاد لفائدة نفسه لا لنفع ينجر إلى الله تعالى، فالقصر الحاصل بأداة (إنما) قصر ادعائي للتنبيه إلى ما يغفلون عنه-حين يجاهدون الجهاد بمعنييه-من الفوائد المنجرة إلى أنفس المجاهدين ولذلك عقب الرد المستفاد من القصر بتعليله بأن الله عني عن العالمين فلا يكون شيء من الجهاد لله تعالى ولكن نفعه للأمة.
فموقع حرف التأكيد هنا هو موقع فاء التفريع الذي نبه عليه صاحب دلائل الإعجاز وتقدم غير مرة.
(20/136)

[7] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} يجوز أن يكون عطفا على جملة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] لما تضمنته الجملة المعطوف عليها من التهديد والوعيد، فعطف عليها ما هو وعد وبشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات مع ما أفضى إلى ذكر هذا الوعد من قوله قبله {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] فإن مضمون جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية يفيد بيان كون جهاد من جاهد لنفسه.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} وسلك بها طريق العطف باعتبار ما أومأ إليه الموصول وصلته من أن سبب هذا الجزاء الحسن هو أنهم آمنوا وعملوا الصالحات وهو على الوجه إظهار في مقام الإضمار لنكتة هذا الإيماء.
فالجزاء فضل لأن العبد إذا امتثل أمر الله فإنما دفع عن نفسه تبعة العصيان؛ فأما الجزاء على طاعة مولاه فلذلك فضل من المولى، وغفران ما تقدم من سيئاتهم فضل عظيم لأنهم كانوا أحقاء بأن يؤاخذوا بما عملوه وبأن إقلاعهم عن ذلك في المستقبل لا يقتضي التجاوز عن الماضي لكنه زيادة في الفضل.
وانتصب {أَحْسَنَ} على أنه وصف لمصدر محذوف هو مفعول مطلق من فعل {لَنَجْزِيَنَّهُمْ} . والتقدير: ولنجزينهم جزاء أحسن.
وإضافته إلى {الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} لإفادة عظم الجزاء كله فهو مقدر بأحسن أعمالهم. وتقدير الكلام: لنجزينهم عن جميع صالحاتهم جزاء أحسن صالحاتهم. وشمل هذا من يكونون مشركين فيؤمنون ويعملون الصالحات بعد نزول هذه الآية.
[8-9] {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}
لم يترك القرآن فاذة من أحوال علائق المسلمين بالمشركين إلا بين واجبهم فيها المناسب لإيمانهم، ومن أشد تلك العلائق علاقة النسب فالنسب بين المشرك والمؤمن
(20/137)

يستدعي الإحسان وطيب المعاشر ولكن اختلاف الدين يستدعي المناواة والمغاضبة ولا سيما إذ كان المشركون متصلبين في شركهم ومشفقين من أن تأتي دعوة الإسلام على أساس دينهم فهم يلحقون الأذى بالمسلمين ليقلعوا عن متابعة الإسلام، فبين الله بهذه الآية ما على المسلم في معاملة أنسبائه من المشركين. وخص بالذكر منها نسب الوالدين لأنه أقرب نسب فيكون ما هو دونه أولى بالحكم الذي يشرع له.
وحدثت قضية أو قضيتان دعتا إلى تفصيل هذا الحكم. روى أن سعد بن أبي وقاص حين أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان يا سعد بلغني أنك صبأت، فوالله لا يظلني سقف بيت، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد، وبقيت كذلك ثلاثة أيام فشكا سعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.
وروي أنه لما أسلم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهاجر مع عمر بن الخطاب إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل وأخوه الحارث وكانا أخوي عياش لأمه فنزلا بعياش وقالا له: إن محمدا يأمر ببر الوالدين وقد تركت أمك وأقسمت أن لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبا لك منها لنا، فاخرج معنا. فاستشار عمر فقال عمر: هما يخدعانك، فلم يزالا به حتى عصى نصيحة عمر وخرج معهما. فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي كلت فاحملني معك. قال عياش: نعم، ونزل ليوطئ لنفسه ولأبي جهل. فأخذاه وشداه وثاقا وذهبا به إلى أمه فقالت له: لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد وأوثقته عندها، فقيل: إن هذه الآية نزلت في شأنهما.
والمقصود من الآية هو قوله {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} إلى آخره، وإنما افتتحت بـ {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} لأنه كالمقدمة للمقصود ليعلم أن الوصاية بالإحسان إلى الوالدين لا تقتضي طاعتهما في السوء ونحوه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1. ولقصد تقرير حكم الإحسان للوالدين في كل حال إلا في حال الإشراك حتى لا يلتبس على المسلمين وجه الجمع بين الأمر بالإحسان للوالدين وبين الأمر بعصيانهما إذا أمرا بالشرك لإبطال قول أبي جهل: أليس من دين محمد البر بالوالدين ونحوه.
ـــــــ
1 رواه أحمد والحاكم بهذا اللفظ ومعناه ثابت في "الصحيحين" بلفظ أطول .
(20/138)

وهذا من أساليب الجدل وهو الذي يسمى القول بالموجب وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع، ومنه في القرآن قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 10-11] فعلم أنه لا تعرض بين الإحسان إلى الوالدين وبين إلغاء أمرهما بما لا يرجع إلى شأنهما.
والتوصية: كالإيصاء، يقال: أوصى ووصى، وهي أمر بفعل شيء في مغيب الآمر به ففي الإيصاء معنى التحريض على المأمور به، وتقدم في قوله تعالى {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] وقوله {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ} في [البقرة: 132].
وفعل الوصاية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء، تقول: أوصى بأبنائه إلى فلان، على معنى أوصى بشؤونهم، ويتعدى إلى الفعل المأمور به بالباء أيضا وهو الأصل مثل {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} . فإذا جمع بين الموصى عليه والموصى به وغلب حذف الباء من البدل اكتفاء بوجودها في المبدل منه فكذلك قوله تعالى هنا {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} تقديره: وصينا الإنسان بوالديه بحسن، بنزع الخافض.
والحسن: اسم مصدر، أي بإحسان. والجملة {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} عطف على جملة {وَصَّيْنَا} وهو بتقدير قول محذوف لأن المعطوف عليه فيه معنى القول.
والمجاهد: الإفراط في بذل الجهد في العمل، أي ألحا لأجل أن تشرك بي.
والمراد بالعلم في قوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} العلم الحق المستند إلى دليل العقل أو الشرع، أي أن تشرك بي أشياء لا تجد في نفسك دليلا على استحقاقها العبادة كقوله تعالى {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]، أي علم بإمكان حصوله. وفي الكشاف: أن نفي العلم كناية عن نفي المعلوم، كأنه قال: أن تشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها، أي لا يصح أن يكون معلوما يعني انه من باب قولهم: هذا ليس بشيء كما صرح به في تفسير [سورة لقمان: 30] كقوله تعالى {مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} 1.
وجملة: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لزيادة تحقيق ما أشارت إليه مقدمة
ـــــــ
1 في المطبوعة (من شيء).
(20/139)

الآية من قوله {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} ، لأن بقية الآية لما آذنت بفظاعة أمر الشرك وحذرت من طاعة المرء والديه فيه كان ذلك مما يثير سؤالا في نفوس الأبناء أنهم هل يعملون الوالدين بالإساءة لأجل إشراكهما فأنبئوا أن عقابهما على الشرك مفوض إلى الله تعالى فهو الذي يجازي المحسنين والمسيئين.
والمرجع: البعث. والإنباء: الإخبار، وهو مستعمل كناية عن علمه تعالى بما يعملونه من ظاهر الأعمال وخفيها، أي ما يخفونه عن المسلمين وما يكنونه في قلوبهم، وذلك ايضاً كناية عن الجزاء عليه من خير أو شر، ففي قوله {فَأُنَبِّئُكُمْ} كنايتان: أولاهما إيماء، وثانيتهما تلويح، أي فأجازيكم ثوابا على عصيانهما فيما يأمران، وأجازيهما عذابا على إشراكهما.
فجملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} تصريح ببعض ما أفادته الكناية التي في قوله {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، اهتماما بجانب جزاء المؤمنين. وقد أشير إلى شرف هذا الجزاء بأنه جزاء الصالحين الكاملين كقوله {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}؛ ألا ترى إلى قول سليمان {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين}[ النمل: 19].
ومن لطيف مناسبة هذا الظرف في هذا المقام أن المؤمن لما أمر بعصيان والديه إذا أمراه بالشرك كان ذلك مما يثير بينه وبين أبويه جفاء وتفرقة فجعل الله جزاء عن وحشة تلك التفرقة أنسا بجعله في عداد الصالحين يأنس بهم.
[10] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}
هذا فريق من الذين أسلموا بمكة كان حالهم في علاقاتهم مع المشركين حال من لا يصبر على الأذى فإذا لحقهم أذى رجعوا إلى الشرك بقلوبهم وكتموا ذلك عن المسلمين فكانوا منافقين فأنزل الله فيهم هذه الآية قبل الهجرة، قاله الضحاك وجابر بن زيد. وقد تقدم في آخر سورة النحل أن من هؤلاء الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبا قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبه بن الحجاج. فهؤلاء استنزلهم الشيطان فعادوا إلى الكفر بقلوبهم لضعف إيمانهم وكان ما لحقهم من الأذى سبباً
(20/140)

لارتدادهم ولكنهم جعلوا يظهرون للمسلمين أنهم معهم. ولعل التظاهر كان بتمالؤ بينهم وبين المشركين فرضوا منهم بأن يختلطوا بالمسلمين ليأتوا المشركين بأخبار المسلمين: فعدهم الله منافقين وتوعدهم بهذه الآية.
وقد أومأ قوله تعالى {مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى أن إيمان هؤلاء لم يرسخ في قلوبهم وأومأ قوله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى أن هذا الفريق معذبون بعذاب الله، وأومأ قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11] إلى أنهم منافقون يبطنون الكفر، فلا جرم أنهم من الفريق الذين قال الله تعالى فيهم {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106]، وأنهم غير الفريق الذين استثنى الله تعالى بقوله { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106]. فليس بين هذه الآية وآيات أواخر سورة النحل اختلاف كما قد يتوهم من سكوت المفسرين عن بيان الأحكام المستنبطة من هذه الآية مع ذكرهم الإحكام المستنبطة من آيات سورة النحل.
وحرف الظرفية من قوله {أُوذِيَ فِي اللَّهِ} مستعمل في معنى التعليل كاللام، أي أوذي لأجل الله، أي لأجل اتباع ما دعاه الله إليه.
وقوله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} يريد جعلها مساوية لعذاب الله كما هو مقتضى أصل التشبيه، فهؤلاء إن كانوا قد اعتقدوا البعث والجزاء فمعنى هذا الجعل: أنهم سووا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما هو ظاهر التشبيه فتوقوا فتنة الناس وأهملوا جانب عذاب الله فلم يكترثوا به إعمالا لما هو عاجل ونبذا للآجل وكان الأحق بهم أن يجعلوا عذاب الله أعظم من أذى الناس، وإن كانوا نبذوا اعتقاد البعث تبعا لنبذهم الإيمان، فمعنى الجعل: أنهم جعلوه كعذاب الله عند المؤمنين الذين يؤمنون بالجزاء.
فالخبر من قوله {مِنَ النَّاسِ} إلى قوله {كَعَذَابِ اللَّهِ} مكنى به عن الذم والاستحماق على كلا الاحتمالين وإن كان الذم متفاوتا.
وبين الله تعالى نيتهم في إظهارهم الإسلام بأنهم جعلوا إظهار الإسلام عدة لما يتوقع من نصر المسلمين بأخارة فيجدون نفسهم متعرضين لفوائد ذلك النصر وهذا يدل على أن هذه الآية نزلت بقرب الهجرة من مكة حين دخل الناس في الإسلام وكان أمره في ازدياد.
وتأكيد جملة الشرط في قوله {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ} باللام الموطئة للقسم لتحقيق حصول الجواب عند حصول الشرط، وهو يقتضي تحقيق وقوع الأمرين.
(20/141)

ففيه وعد بأن الله تعالى ناصر المسلمين وأن المنافقين قائلون ذلك حينئذ، ولعل ذلك حصل يوم فتح مكة فقال ذلك من كان حيا من هذا الفريق، وهو قول يريدون به نيل رتبة السابقية في الإسلام. وذكر أهل التاريخ أن الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وسهيل بن عمرو، وجماعة من وجوه العرب كانوا على باب عمر ينتظرون الإذن لهم، وكان على الباب بلال وسلمان وعمار بن ياسر، فخرج إذن عمر أن يدخل سلمان وبلال وعمار فتمعرت وجوه البقية فقال لهم سهيل بن عمرو: ((لم تتمعر وجوهكم، دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر)).
وقوله {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} تذييل، والواو اعتراضية، والاستفهام إنكاري إنكارا عليهم قولهم {آمَنَّا بِاللَّهِ} وقولهم {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} ، لأنهم قالوا ذلك ظنا منهم أن يروج كذبهم ونفاقهم على رسول الله، فكان الإنكار عليهم متضمنا أنهم كاذبون في قوليهم المذكورين.
والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم لقصد إسماعهم هذا الخطاب فإنهم يحضرون مجالس النبي والمؤمنين ويستمعون ما ينزل من القرآن وما يتلى منه بعد نزوله، فيشعرون أن الله مطلع على ضمائرهم.
ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا وجه الله به الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة التقرير بما أنعم الله به عليه من إنبائه بأحوال الملتبسين بالنفاق. وهذا الأسلوب شائع في الاستفهام التقريري وكثيرا ما يلتبس بالإنكاري ولا يفرق بينهما إلا المقام، أي فلا تصدق مقالهم.
والتفضيل في قوله {بِأَعْلَمَ} مراعى فيه علم بعض المسلمين ببعض ما في صدور هؤلاء المنافقين ممن أوتوا فراسة وصدق نظر. ولك أن تجعل اسم التفضيل مسلوب المفاضلة، أي أليس الله عالما علما تفصيليا لا تخفى عليه خافية.
[11] {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}
خص بالذكر فريقان هما ممن شمله عموم قوله {الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10] اهتماما بهاذين الفريقين وحاليهما: فريق الذين آمنوا، وفريق المنافقين لأن العلم بما في صدور الفريقين من إيماء ونفاق يترتب عليه الجزاء المناسب لحاليهما في العاجل والآجل، فلذلك ترغيب وترهيب.
(20/142)

ووجه تأكيد كلا الفعلين بلام القسم ونون التوكيد أن المقصود من هذا الخبر رد اعتقاد المنافقين أن الله لا يطلع رسوله على ما في نفوسهم، فالمقصود من الخبرين هو ثانيهما أعني قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} .
وأما قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} فهو تمهيد لما بعده وتنصيص على عدم التباس الإيمان المكذوب بالإيمان الحق.
وفي هذا أيضا إرادة المعنى الكنائي من العلم وهو مجازة كل فريق على حسب ما علم الله من حاله.
وجيء في جانب هاذين بالفعل المضارع المستقبل إذ نون التوكيد لا يؤكد بها الخبر المثبت إلا وهو مستقبل؛ إما لأن العلم مكنى به عن لازمه وهو مقابلة ك فريق بما يستحقه بحسب ما علم من حاله والمجازاة أمر مستقبل، وإما لأن المراد علم بمستقبل وهو اختلاف أحوالهم يوم يجيء النصر، فلعل من كانوا منافقين وقت نزول الآية يكونون مؤمنين يوم النصر ويبقى قوم على نفاقهم.
والمخالفة بين المؤمنين والمنافقين في التعبير عن الأولين بطريق الموصول والصلة الماضوية وعن الآخرين بطريق اللام واسم الفاعل لما يؤذن به الموصول من اشتهارهم بالإيمان وما يؤذن به الفعل الماضي من تمكن الإيمان منهم وسابقيته، وما يؤذن به التعريف باللام من كونهم عهدوا بالنفاق وطريانه عليهم بعد أن كانوا مؤمنين، ففيه تعريف بسوء عاقبتهم مع ما في ذلك من التفنن ورعاية الفاصلة.
[12] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
هذا غرض آخر من أغراض مخالطة المشركين مع المؤمنين وهو محاولة المشركين ارتداد المسلمين بمحاولات فتنة بالشك والمغالطة للذين لم يقدروا على فتنتهم بالأذى والعذاب: إما لعزتهم وخشية بأسهم مثل عمر بن الخطاب فقد قيل: إن هذه المقالة قيلت له، وإما لكثرتهم حين كثر المسلمون وأعيت المشركين حيل الصد عن الإسلام.
والمراد بالذين كفروا طائفة منهم وهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب (قبل أن يسلم) قالوا للمسلمين ومنهم عمر بن الخطاب: لا
(20/143)

نبعث نحن ولا أنتم فإن عسى كان ذلك فإنا نحمل عنكم آثامكم. وإنما قالوا ذلك جهلا وغرورا حاولوا بهما ان يحجوا المسلمين في إيمانهم بالبعث توهما منهم بأنهم إن كان البعث واقعا فسيكونون في الحياة الآخرة كما كانوا في الدنيا أهل ذمام وحمالة ونقض وإبرام شأن سادة العرب أنهم إذا شفعوا شفعوا وإن تحملوا حملوا.
وهذا كقول العاصي بن وائل لخباب بن الأرت: لئن بعثني الله ليكونن لي مال فأقضيك دينك، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]. وكل هذا من الجدال بالباطل وهو طريقة جدلية إن بنيت على الحق كما ينسب إلى علي بن أبي طالب في ضد هذا:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فليست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
وحكى الله عنهم قولهم {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} بصيغة الأمر بلام الأمر: إما لأنهم نطقوا بمثل ذلك لبلاغتهم، وإما لإفادة ما تضمنته مقالتهم من تأكيد تحملهم بذلك. فصيغة أمرهم أنفسهم بالحمل آكد من الخبر عن أنفسهم بذلك، ومن الشرط وما في معناه، لأن الأمر يستدعي الامتثال فكانت صيغة الأمر دالة على تحقيق الوفاء بالحمالة.
وواو العطف لجملة {وَلْنَحْمِلْ} على جملة {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} مراد منها المعية بين مضمون الجملتين في الأمر وليس المراد منه الجمع في الحصول فالجملتان في قوة جملتي شرط وجزاء، والتعويل على القرينة.
فكان هذا القول أدل على تأكيد الالتزام بالحالة إن اتبع المسلمون سبيل المشركين، من أن يقال: إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، بصيغة الشرط، أو أن يقال: اتبعوا سبيلنا فنحمل خطاياكم، بفاء السببية.
والحمل: مجاز تمثيلي لحال الملتزم بمشقة غيره بحال من يحمل متاع غيره فيؤول إلى معنى الحمالة والضمان.
ودل قوله {خَطَايَاكُمْ} على العموم لأنه جمع مضاف وهو من صيغ العموم.
وقوله {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} إبطال لقولهم {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ، نقض العموم في الإثبات بعموم في النفي، لأن {شَيْءٍ} في سياق النفي يفيد العموم لأنه نكرة، وزيادة حرف {مِنْ} تنصيص على العموم.
(20/144)

وليس من بينها شيء من ذنوب المسلمين لأن المسلمين سالمون من تضليل المشركين بما كشف الله لهم من بهتانهم.
وجملة {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} تذييل جامع لمؤاخذتهم بجميع ما اختلقوه من الإفك والتضليل سواء ما أضلوا به أتباعهم وما حاولوا به بتضليل المسلمين فلم يقعوا في أشراكهم، وقد شمل ذلك كله لفظ الافتراء، كما عبر عن محاولتهم تغرير المسلمين بأنهم فيه كاذبون.
[14-15] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}
سيقت هذه القصة واللاتي بعدها شواهد على ما لقي الرسل والذين آمنوا معهم من تكذيب المشركين كما صرح به قوله عقب القصتين {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [العنكبوت: 18] على أحد الوجهين الآتيين.
وابتدئت القصص بقصة أول رسول بعثه الله لأهل الأرض فإن لأوليات الحوادث وقعا في نفوس المتأملين في التاريخ، وقد تقدم تفصيل قصته في سورة هود.
وزادت هذه الآية أنه لبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة. وظاهر الآية أن هذه مدة رسالته إلى قومه ولا غرض في معرفة عمره يوم بعثه الله إلى قومه، وفي ذلك اختلاف بين المفسرين وفائدة ذكر هذه المدة للدلالة على شدة مصابرته على أذى قومه ودوامه على إبلاغ الدعوة تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم. وأوثر تمييز { أَلْفَ} بـ {سَنَةٍ} لطلب الخفة بلفظ {سَنَةٍ} ، وميز {خَمْسِينَ} بلفظ {عَاماً} لئلا يكر لفظ {سَنَةٍ} .
والفاء من قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} عطف على {أَرْسَلْنَا} كما عطف عليه {فَلَبِثَ} وقد طوي ذكر ما ترتب عليه أخذهم بالطوفان وهو استمرار تكذيبهم.
وجملة {وَهُمْ ظَالِمُونَ} حال، أي أخذهم وهم متلبسون بالظلم، أي الشرك وتكذيب الرسول، تلبسا ثابتا لهم متقررا وهذا تعريض للمشركين بأنهم سيأخذهم عذاب.
وفاء {فَأَنْجَيْنَاهُ} عطف على {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} . وهذا إيماء إلى أن الله منجي المؤمنين من العذاب.
(20/146)

وقوله {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} الضمير للسفينة. ومعنى كونها آية أنها دليل على وقوع الطوفان عذابا من الله للمكذبين الرسل، فكانت السفينة آية ماثلة في عصور جميع الأمم الذين جاءتهم الرسل بعد نوح موعظة للمكذبين وحجة للمؤمنين. وقد أبقى الله بقية السفينة إلى صدور الأمة الإسلامية ففي صحيح البخاري: قال قتادة: بقيت بقايا السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة . ويقال إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج. وكان الجودي قرب (باقردى) وهي قرية من جزيرة ابن عمر بالموصل شرقي دجلة (وباقردى) بموحدة بعدها ألف ثم قاف مكسورة ويجوز فتحها ودال فألف مقصورة وقال تعالى في [سورة القمر: 15] {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وإنما قال {لِلْعَالَمِينَ} الشامل لجميع سكان الأرض لأن من لم يشاهد بقايا سفينة نوح يشاهد السفن فيتذكر سفينة نوح وكيف كان صنعها بوحي من الله لإنجاء نوح ومن شاء الله نجاته، ولأن الذين من أهل قريتها يخبرون عنها وتنقل أخبارهم فتصير متواترة.
وهذا وقد وقع في الإصحاح الثامن من سفر التكوين من التوراة واستقر الفلك على جبال آراراط وقد اختلف الباحثون في تعيين جبال أراراط، فمنهم من قال إنه اسم الجودي وعينوا أنه من جبال بلاد الأكراد في الحد الجنوبي لأرمينيا في سهول ما بين النهرين ووصفوه بأن نهر دجلة يجري بين مرتفعاته بحيث لا يمكن العبور بين الجبل ونهر دجلة إلا في الصيف، وأيدوا قولهم بوجود بقية سفينة على قمة ذلك الجبل. وبعضهم زعم أن أراراط في بلاد أرمينيا وهو قريب من القول الأول لتجاور مواطن الكردستان وأرمينيا وقد تختلف حدود المواطن باختلاف الدول والفتوح.
ويجوز أن يكون ضمير النصب في {وَجَعَلْنَاهَا} عائدا إلى الخبر المذكور بتأويل القصة أو الحادثة.
[16-17] {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
انتقل من خبر نوح إلى خبر إبراهيم لمناسبة إنجاء إبراهيم من النار كإنجاء نوح من الماء. وفيه تنبيه إلى عظم القدرة إذ أنجت من الماء ومن النار.
(20/147)

و {إِبْرَاهِيمَ} عطف على {نُوحاً} [العنكبوت: 14]. والتقدير: وأرسلنا إبراهيم.
و {إِذْ} ظرف متعلق بـ {أَرْسَلْنَا} المقدر، أي في وقت قوله لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ} الخ وهو أول زمن دعوته. واقتضى قوله {اعْبُدُوا اللَّهَ} أنهم لم يكونوا عابدين لله أصلاً.
وجملة {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تعليل للأمر بعبادة الله. وقد أجمل الخبر في هذه الجملة وفصل بقوله {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} الآية.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إن كنتم تعلمون أدلة اختصاص الله بالإلهية فمفعول العلم محذوف لدلالة ما قبله عليه. ويجوز جعل فعل {تَعْلَمُونَ} منزلا منزلة اللازم، أي إن كنتم أهل علم ونظر.
وجملة {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} تعليل لجملة {اعْبُدُوا اللَّهَ} . وقصرهم على عبادة الأوثان يجوز أن يكون قصرا على عبادتهم الأوثان، أي دون أن يعبدوا الله فهو قصر حقيقي إذ كان قوم إبراهيم لا يعبدون الله فالقصر منصب على قوله {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي إنما تعبدون غير الله وبذلك يكون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حالا من {أَوْثَاناً} ، أي حال كونها معبودة من دون الله، وهذا مقابل قوله {اعْبُدُوا اللَّهَ } دون أن يقول لهم: لا تعبدوا إلا الله؛ لكن قوم إبراهيم قد وصفوا بالشرك في قوله تعالى في [سورة الأنعام: 78] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} فهم مثل مشركي العرب، فالقصر منصب على عبادتهم الموصوفة بالوثنية، أي ما تعبدون إلا صورا لا إدراك لها، فيكون قصر قلب لإبطال اعتقادهم إلهية تلك الصور كما قال تعالى {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} .
وعلى كلا الوجهين يتخرج معنى قوله {مِنْ دُونِ اللَّهِ} فإن {دُونِ} يجوز أن تكون بمعنى (غير) فتكون {مِنْ} زائدة، والمعنى: تعبدون أوثانا غير الله. ويجوز أن تكون كلمة {دُونِ} اسما للمكان المباعد فهي إذن مستعارة لمعنى المخالفة فتكون {مِنْ} ابتدائية، والمعنى: تعبدون أوثانا موصوفة بأنها مخالفة لصفات الله.
والأوثان: جمع وثن بفتحتين، وهو صورة من حجر أو خشب مجسمة على صورة إنسان أو حيوان. والوثن أخص من الصنم لأن الصنم يطلق على حجارة غير مصورة مثل أكثر أصنام العرب كصنم ذي الخصلة لخثعم، وكانت أصنام قوم إبراهيم صورا قال تعالى {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95]. وتقدم وصف أصنامهم في سورة الأنبياء.
و {تَخْلُقُونَ} مضارع خلق الخبر، أي اختلقه، أي كذبه ووضعه، أي وتضعون لها
(20/148)

أخبارا ومناقب وأعمالا مكذوبة موهومة.
الإفك: الكذب. وتقدم في قوله {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} في [سورة النور: 11].
وجملة {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} إن كان قوم إبراهيم يعترفون لله تعالى بالإلهية والخلق والرزق ولكنهم يجعلون له شركاء في العبادة ليكونوا لهم شفعاء كحال مشركي العرب تكون الجملة تعليلا لجملة {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أي هو المستحق للعبادة التي هي شكر على نعمه، وإن كان قومه لا يثبتون إلهية لغير أصنامهم كانت جملة {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مستأنفة ابتدائية إبطالا لاعتقادهم أن آلهتهم ترزقهم، ويرجح هذا الاحتمال التفريع في قوله {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} . وقد تقدم في سورة الشعراء التردد في حال إشراك قوم إبراهيم وكذلك في سورة الأنبياء.
وتنكير {رِزْقاً} في سياق النفي يدل على عموم نفي قدرة أصنامهم على كل رزق ولو قليلا. وتفريع الأمر بابتغاء الرزق من الله إبطال لظنهم الرزق من أصنامهم أو تذكير بان الرازق هو الله، فابتغاء الرزق منه يقتضي تخصيصه بالعبادة كما دل عليه عطف {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} . وقد سلك إبراهيم مسلك الاستدلال بالنعم الحسية لأن إثباتها أقرب إلى أذهان العموم.
و {عِنْدَ} ظرف مكان وهو مجاز. شبه طلب الرزق من الله بالبحث عن شيء في مكان يختص به فاستعير له {عِنْدَ} الدالة على المكان المختص بما يضاف إليه الظرف.
وعدي الشكر باللام جريا على أكثر استعماله في كلام العرب لقصد إفادة ما في اللام من معنى الاختصاص أي الاستحقاق.
ولام التعريف في {الرِّزْقَ} لام الجنس المفيدة للاستغراق بمعونة المقام، أي فاطلبوا كل رزق قل أو كثر من الله دون غيره. والمعرف بلام الجنس في قوة النكرة فكأنه قيل: فابتغوا عند الله رزقا، ولذلك لم تكن إعادة لفظ الرزق بالتعريف مقتضية كونه غير الأول، فلا تنطبق هنا قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى.
وجملة {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تعليل للأمر بعبادته وشكره، أي لأنه الذي يجازي على ذلك ثوابا وعلى ضده عقابا إذ إلى الله لا إلى غيره مرجعكم بعد الموت. وفي هذا إدماج تعليل العبادة بإثبات البعث.
(20/149)

[18] {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
يجوز أن تكون هذه الجملة من بقية مقالة إبراهيم عليه السلام بأن يكون رأى منهم مخائل التكذيب ففرض وقوعه، أو يكون سبق تكذيبهم إياه مقالته هذه، فيكون الغرض من هذه الجملة لازم الخبر وهو أن تكذيبهم إياه ليس بعجيب فلا يضيره ولا يحسبوا انهم يضيرونه به ويتشفون منه فإن ذلك قد انتاب الرسل قبله من أممهم، ولذلك أجمع القراء على قراءة فعل {تُكَذِّبُوا} بتاء الخطاب ولم يختلفوا فيه اختلافهم في قراءة قوله {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 19] الخ.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية واعتراض هذا الكلام بين كلام إبراهيم وجواب قومه، فهو كلام موجه من جانب الله تعالى إلى المشركين التفت به من الغيبة إلى الخطاب تسجيلا عليهم، والمقصود منه بيان فائدة سوق قصة نوح وإبراهيم وأن للرسول صلى الله عليه وسلم إسوة برسل الأمم الذين قبله وخاصة إبراهيم جد العرب المقصودين بالخطاب على هذا الوجه.
وجملة {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} إعلام للمخاطبين بان تكذيبهم لا يلحقه منه ما فيه تشف منه؛ فإن كان من كلام إبراهيم فالمراد بالرسول إبراهيم سلك مسلك الإظهار في مقام الإضمار لإيذان عنوان الرسول بأن واجبه وإبلاغ ما أرسل به بينا واضحا، وإن كان من خطاب الله مشركي قريش فالمراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقد غلب عليه هذا الوصف في القرآن مع الإيذان بأن عنوان الرسالة لا يقتضي إلا التبليغ الواضح.
[19] {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
يجري هذا الكلام على الوجهين المذكورين في قوله {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} . ويترجح أن هذا مسوق من جانب الله تعالى إلى المشركين بان الجمهور قرأوا {أَوَلَمْ يَرَوْا} بياء الغيبة ولم يجر مثل قوله {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} . ومناسبة التعرض لهذا هو ما جرى من الإشارة إلى البعث في قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تنظيرا لحال مشركي العرب بحال قوم إبراهيم.
(20/150)

وقرأ الجمهور {أَوَلَمْ يَرَوْا} بياء الغائب والضمير عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا}، أو إلى معلوم من سياق الكلام. وعلى وجه أن يكون قوله {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} الخ خارجا عن مقالة إبراهيم يكون ضمير الغائب في {أَوَلَمْ يَرَوْا} التفاتا. والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لنكتة إبعادهم عن شرف الحضور بعد الإخبار عنهم بأنهم مكذبون.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {أَوَلَمْ تروا} بالفوقية على طريقة {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} [العنكبوت: 18] على الوجهين المذكورين.
والهمزة للاستفهام الإنكاري عن عدم الرؤية، نزلوا منزلة من لم ير فأنكر عليهم.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية1، والاستدلال بما هو مشاهدة من تجدد المخلوقات في كل حين بالولادة وبروز النبات دليل واضح لكل ذي بصر.
وإبداء الخلق: بدؤه وإيجاده بعد أن لم يكن موجودا. يقال: أبدأ بهمزة في أوله وبدأ بدونها وقد وردا معا في هذه الآية إذ قال {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] ثم قال {فانظروا كيف بدأ الخلق} ولم يجيء في أسمائه تعالى إلا المبدئ دون البادئ.
وأحسب أنه لا يقال (أبدأ) بهمز في أوله إلا إذا كان معطوفا عليه (يعيد) ولم أر من قيده بهذا.
والخلق: مصدر بمعنى المفعول، أي المخلوق كقوله تعالى {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 11].
وجيء {يُبْدِئُ} بصيغة المضارع لإفادة تجدد بدء الخلق كلما وجه الناظر بصره في المخلوقات، والجملة انتهت بقوله {يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} . وأما جملة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} فهي مستأنفة ابتدائية فليست معمولة لفعل {يَرَوْا} لأن إعادة الخلق بعد انعدامه ليست مرئية لهم ولا هم يظنونها فتعين أن تكون جملة {ثم يعيده} مستقلة معترضة بين جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} وجملة {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} . و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن أمر إعادة الخلق أهم وأرفع رتبة من بدئه لأنه غير مشاهد ولأنهم ينكرونه ولا ينكرون بدء الخلق قال في الكشاف:
ـــــــ
1 سيجيء مقابل هذا بعد بضعة وعشرين سطراً.
(20/151)

هو كقولك: مازلت أوثر فلانا واستخفله على من أخلفه يعني فجملة: وأستخلفه، ليست معطوفة على جملة: أوثر، ولا داخلة في خبر: مازلت، لأنك تقوله قبل أن تستخلفه فضلا عن تكرر الاستخلاف منك. هذه طريقة الكشاف وهو يجعل موقع {ثُمَّ يُعِيدُهُ} كموقع التفريع على الاستفهام الإنكاري.
واعلم أن هذين الفعلين (يبدئ ويعيد) وما تصرف منهما مما جرى استعمالهما متزاوجين بمنزلة الاتباع كقوله تعالى {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} في [سورة سبأ: 49]. قال في الكشاف في سورة سبأ: فجعلوا قولهم: لا يبدئ ولا يعيد، مثلا في الهلاك، ومنه قول عبيد:
فاليوم لا يبدي ولا يعيد
ويقال: أبدأ وأعاد بمعنى تصرف تصرفا واسعا، قال بشار:
فهمومي مظلة ... بادئات وعودا
ويجوز أن تكون الرؤية علمية متعدية إلى مفعولين: أنكر عليهم تركهم النظر والاستدلال الموصل إلى علم كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده لأن أدلة بدء الخلق تفضي بالناظر إلى العلم بأن الله يعيد الخلق فتكون {ثُمَّ} عاطفة فعل {يُعِيدُهُ} على فعل {يُبْدِئُ} والجميع داخل في حيز الإنكار.
و {كَيْفَ} اسم استفهام وهي معلقة فعل {يَرَوْا} عن العمل في معموله أو معموليه. والمعنى: ألم يتأملوا في هذا السؤال، أي في الجواب عنه. والاستفهام بـ {كَيْفَ} مستعمل في التنبيه ولفت النظر لا في طلب الإخبار.
وجملة {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} مبينة لما تضمنه الاستفهام من إنكار عدم الرؤية المؤدية إلى العلم بوقوع الإعادة، إذ أحالوها مع أن إعادة الخلق إن لم تكن أيسر من الإعادة في العرف فلا أقل من كونها مساوية لها وهذا كقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى المصدر المفاد من {يُعِيدُهُ} مثل عود الضمير على نظيره في قوله {وهو أهون عليه} . ووجه توكيد الجملة بـ{إِنَّ} رد دعواهم أنه مستحيل.
[20] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ
(20/152)

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
اعتراض انتقالي من الإنكار عليهم ترك الاستدلال بما هو بمرأى منهم، إلى إرشادهم للاستدلال بما هو بعيد عنهم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم وخلف بعضها عن بعض، فإن تعود الناس بما بين أيديهم يصرف عقولهم عن التأمل فيما وراء ذلك من دلائل دقائقها على ما تدل عليه، فلذلك أمر الله رسوله أن يدعوهم إلى السير في الأرض ليشاهدوا آثار خلق الله الأشياء من عدم فيوقنوا أن إعادتها بعد زوالها ليس بأعجب من ابتداء صنعها.
وإنما أمر بالسير في الأرض لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحتوياتها ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها فيرى كثيرا من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها، فإذا شاهد ذلك جال نظر فكره في تكوينها بعد العدم جولانا لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه، لأنه لما نشأ فيها من زمن الطفولة فما بعده قبل حدوث التفكير في عقله اعتاد أن يمر ببصره عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثالها مما كان غائبا عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال، فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة. وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فنذر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل فيفطن إلى أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن وأنه قادر على إيجاد أمثالها فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها.
والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن لأن للشيء المتقرر تحققا محسوسا.
وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشئ النشأة الآخرة.
ولذلك أعقب بجملة {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} فهي جملة مستقلة. و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي كما تقدم في قوله {ثُمَّ يُعِيدُهُ} .
وإظهار اسم الجلالة بعد تقدم ضميره في قوله {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} وكان مقتضى الظاهر أن يقول: ثم ينشئ. قال في الكشاف: لأن الكلام كان واقعا في الإعادة فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فالذي لم يعجزه
(20/153)

الإبداء فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة. فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ اه. يريد أن العدول عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتسجيل وقوع هذا الإنشاء الثاني، فتكون الجملة مستقلة حتى تكون عنوان اعتقاد بمنزلة المثل لأن في اسم الجلالة إحضارا لجميع الصفات الذاتية التي بها التكوين، وليفيد وقوع المسند إليه مخبرا عنه بمسند فعلي معنى التقوي.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل، أي قدير على البعث وعلى كل شيء إذا أراده. وإظهار اسم الجلالة لتكون جملة التذييل مستقلة بنفسها فتجري مجرى الأمثال.
والنشأة بوزن فعلة: المرة من النشء وهو الإيجاد، وكذلك قرأها الجمهور، عبر عنها بصيغة المرة لأنها نشأة دفعية تخالف النشء الأول ويقال: النشأة بمد بعد الشين بوزن الكآبة ومثلها الرأفة والرءافة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {النَّشْأَةَ} بالمد. ووصفها بـ {الْآخِرَةَ} إيماء بأنها مساوية للنشأة الأولى فلا شبهة لهم في إحالة وقوعها. وأما قوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [الواقعة: 62] فلذلك على سبيل المشاكلة التقديرية لأن قوله قبله {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}[ الواقعة: 61] يتضمن النشأة الآخرة فعبر عن مقالتها بالنشأة.
[21] {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}
لما ذكر النشأة الآخرة أتبع ذكرها بذكر أهم ما تشتمل عليه وما أوجدت لأجله وهو الثواب والعقاب.
وابتدئ بذكر العقاب لأن الخطاب جار مع منكري البعث الذين حظهم فيه هو التعذيب. ومفعولا فعلي المشيئة محذوفان جريا على غالب الاستعمال فيهما. والتقدير: من يشاء تعذيبه ومن يشاء رحمته. والفريقان معلومان من آيات الوعد والوعيد؛ فأصحاب الوعد شاء الله رحمتهم وأصحاب الوعيد شاء تعذيبهم، فمن الذين شاء تعذيبهم المشركون ومن الذين شاء رحمتهم المؤمنون، والمقصود هنا هم الفريقان معا كما دل عليه الخطاب العام في قوله {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} .
والقلب: الرجوع، أي وإليه ترجعون.
(20/154)

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتأكيد إذ ليس المقام للحصر إذ ليس ثمة اعتقاد مردود. وفي هذا إعادة إثبات وقوع البعث وتعريض بالوعيد.
[22] {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
عطفت على جملة {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} باعتبار ما تضمنته من الوعيد.
والمعجز حقيقته: هو الذي يجعل غيره عاجزا عن فعل ما، وهو هنا مجاز في الغلبة والانفلات من المكنة، وقد تقدم عند قوله تعالى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في [سورة الأنعام: 134].
فالمعنى: وما أنتم بمفلتين من العذاب. ومفعول (معجزين) محذوف للعلم به، أي بمعجزين الله.
ويتعلق قوله {فِي الْأَرْضِ} {بِمُعْجِزِينَ} ، أي ليس لكم انفلات في الأرض، أي لا تجدون موئلا ينجيكم من قدرتنا عليكم في مكان من الأرض سهلها وجبلها، وبدوها وحضرها.
وعطف {وَلا فِي السَّمَاءِ} على {فِي الْأَرْضِ} احتراس وتأييس من الطمع في النجاة وإن كانوا لا مطمع لهم في الالتحاق بالسماء. وهذا كقول الأعشى:
فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم
ومنه قوله تعالى {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} ، ولم تقع مثل هذه الزيادة في آية [سورة الشورى: 30-31] {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} لأن تلك الآية جمعت خطايا للمسلمين والمشركين بقوله {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] إذ العفو عن المسلمين. وما هنا من المبالغة المفروضة وهي من المبالغة المقبولة كما في قول أبي بن سلمي الضبي:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
وهي أظهر في قوله تعالى { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن: 33]. وفي هذا إشارة إلى إبطال اغترارهم بتأخير
(20/155)

الوعيد الذي توعدوه في الدنيا.
ولما آيسهم من الانفلات بأنفسهم في جميع الأمكنة أعقبه بتأييسهم من الانفلات من الوعيد بسعي غيرهم لهم من أولياء يتوسطون في دفع العذاب عنهم بنحو السعاية أو الشفاعة، أو من نصراء يدافعون عنهم بالمغالبة والقوة.
[23] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
بيان لما في قوله {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21] وإنما عطف لما فيه من زيادة الإخبار بأنهم لا ينالهم الله برحمة وأنه يصيبهم بعذاب أليم.
والكفر بآيات الله: هو كفرهم بالقرآن. والكفر بلقائه: إنكار البعث.
واسم الإشارة يفيد أن ما سيذكره بعده نالهم من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة من أوصاف، أي أنهم استحقوا اليأس من الرحمة وإصابتهم بالعذاب الأليم لأجل كفرهم بالقرآن وإنكارهم البعث على أسلوب {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
وأخبر عن يأسهم من رحمة الله بالفعل المضي تنبيها على تحقيق وقوعه. والمعنى: أولئك سييأسون من رحمة الله لا محالة.
والتعبير بالاسم الظاهر في قوله {بِآياتِ اللَّهِ} دون ضمير التكلم للتنويه بشأن الآيات حيث أضيفت إلى الاسم الجليل لما في الاسم الجليل من التذكير بأنه حقيق بأن لا يكفر بآياته. والعدول إلى التكلم في قوله {رَحْمَتِي} التفات عاد به أسلوب الكلام إلى مقتضى الظاهر، وإعادة اسم الإشارة لتأكيد التنبيه على استحقاقهم ذلك.
[24] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
لما تم الاعتراض الواقع في خلال قصة إبراهيم عاد الكلام إلى بقية القصة بذكر ما أجابه به قومه.
والفاء تفريع على جملة {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [العنكبوت: 16]
وجيء بصيغة حصر الجواب في قوله {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} للدلالة على أنهم لم
(20/156)

يترددوا في جوابه وكانت كلمتهم واحدة في تكذيبه وإتلافه وهذا من تصلبهم في كفرهم.
ثم ترددوا في طريق إهلاكه بين القتل بالسيف والإتلاف بالإحراق ثم استقر أمرهم على إحراقه لما دل عليه قوله تعالى {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} و {جَوَابَ قَوْمِهِ} خبر {كَانَ} واسمها {أَنْ قَالُوا} . وغالب الاستعمال أن يؤخر اسمها إذا كان {أَنْ} المصدرية وصلتها كما تقدم في قوله تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} في آخر [سورة النور: 51]، ولذلك لم يقرأ الاسم الموالي لفعل الكون في أمثالها في غير القراءات الشاذة إلا منصوبا.
وقد أجمل إنجاؤه من النار هنا وهو مفصل في سورة الأنبياء.
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى الإنجاء من {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} وجعل ذلك الإنجاء آيات ولم يجعل آية واحدة لأنه آية لكل من شهده من قومه ولأنه يدل على قدرة الله، وكرامة رسوله، وتصديق وعده، وإهانة عدوه، وأن المخلوقات كلها جليلها وحقيرها مسخرة لقدرة الله تعالى.
وجيء بلفظ {قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ليدل على أن إيمانهم متمكن منهم ومن مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في [سورة البقرة: 164]. فلذلك آيات على عظيم عناية الله تعالى برسله فصدق أهل الإيمان في مختلف العصور. ففي قوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تعريض بأن تلك الآيات لم يصدق بها قوم إبراهيم لشدة مكابرتهم وكون الإيمان لا يخالط عقولهم.
[25] {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
يجوز أن تكون مقالته هذه سابقة على إلقائه في النار وأن تكون بعد أن أنجاه الله من النار. والأظهر من ترتيب الكلام أنها كانت بعد أن أنجاه الله من النار، أراد به إعلان مكابرتهن الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان بعد وضوح الحجة عليهم بمعجزة سلامته من حرق النار. وتقدم ذكر الأوثان قريبا.
ومحط القصر بـ {إِنَّمَا} هو المفعول لأجله؛ أما قصر المعبودات من دون الله على
(20/157)

كونها أوثانا فقد سبق في قوله {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} [العنكبوت: 17] أي ما اتخذتم أوثانا إلا لأجل مودة بعضكم بعضا. ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضا الداعية لإباية المخالفة. والمودة: المحبة والإلف، ويتعين أن يكون ضمير {بَيْنِكُمْ } شاملا للأوثان.
والمودة: المحبة. فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضا فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها قال تعال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].
قال الفخر: أي مودة بين الأوثان وعبدتها فإن من غلبت عليه اللذات الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين مجمع من الأكابر لا يلتفت إلى اللذة العقلية من الحياء وحسن السيرة بل يحصل ما فيه لذة جسمه. فهم كانوا قليلي العقول فغلبت عليهم اللذات الجسمية فلم يتسع عقلهم لمعبود غير جسماني ورأوا تلك الأصنام مزينة بألوان وجواهر فأحبوها.
وفعل {اتَّخَذْتُمُ} مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف {مَوَدَّةَ} منصوبا منونا بدون إضافة، و {بَيْنِكُمْ} منصوبا على الظرفية. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب {مَوَدَّةَ} منصوبا غير منون بل مضافا إلى {بَيْنِكُمْ} ، و {بَيْنِكُمْ} مجرور أو هو من إضافة المظروف إلى الظرف. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب مرفوعا مضافا على أن تكون (ما) في {إِنَّمَا} موصولة وحقها أن تكتب مفصولة، و {مَوَدَّةَ} خبر {إِنَّ} تكون كتابة {إِنَّمَا} متصلة من قبيل الرسم غير القياسي فيكون الإخبار عنها بأنها مودة إخبارا مجازيا عقليا باعتبار أن الاتخاذ سبب عن المودة. ولما في المجاز من المبالغة كان فيه تأكيد للخبر بعد تأكيده ب {إِنَّ} فيقوم التأكيدان مقام الحصر إذ ليس الحصر إلا تأكيدا على تأكيد كما قال السكاكي، أي لأنه بمنزلة إعادة الخبر حيث يثبت ثم يؤكد بنفي ما عداه.
والخبر مستعمل في غير إفادة الحكم بل في التنبيه على الخطأ بقرينة قوله عقبه {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} . ونظيره جملة صلة الموصول في
(20/158)

قول عبدة بن الطيب1:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
ولما كان في قوله {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} شائبة ثبوت منفعة لهم في عبادة الأوثان إذ يكتسبون بذلك مودة بينهم تلذ لنفوسهم قرنه بقوله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} الخ تنبيها لسوء عاقبة هذه المودة وإزالة للغرور والغفلة، ليعلموا أن اللذات العاجلة لا عبرة بها إن كانت تعقب ندامة آجلة.
ومعنى {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} أن المخاطبين يكفرون بالأصنام التي كانوا يعبدونها إذ يجحدون يوم القيامة أنهم كانوا يعبدونها.
وهذه مجاز تلحق بعضهم من بعض، ثم ذكر ما يعمهم من عذاب الخزي بقوله {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} .
ثم ذكر ما يعمهم جميعا من انعدام النصير فقال {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} فنفى عنهم جنس الناصر. وهو من يزيل عنهم ذلك الخزي. وجيء في نفي الناصر بصيغة الجمع هنا خلافا لقوله آنفا {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت: 22] لأنهم لما تألبوا على إبراهيم وتجمعوا لنضرة أصنامهم كان جزائهم حرمانهم من النصراء مطابقة بين الجزاء والحالة التي جوزوا عليها. على أن المفرد والجمع في حيز النفي سواء في إفادة نفي كل فرد من الجنس.
[26] { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}
جملة معترضة بين الإخبار عن إبراهيم اعتراض التفريع، وأفادت الفاء مبادرة لوط
ـــــــ
1 الطبيب لقب أبي عبدة واسمه يزيد بن عمرو. وتب في أكثر النسخ من كتب الأدب مخطوطه ومطبوعها: الطبيب بموحدتين بينهما وفي قليل من كتب الأدب بتحتية بعد الطاء ولم أقف على من حقق ضبطه بوجه لا التباس فيه.
(20/159)

بتصديق إبراهيم. والاقتصار على ذكر لوط يدل على أنه لم يؤمن به إلا لوط لأنه الرجل الفرد الذي آمن به وأما امرأة إبراهيم وامرأة لوط فلا يشملهما اسم القوم في قوله تعالى {وإبراهيم إذ قال لقومه} الآية لأن القوم خاص برجال القبيلة قال زهير:
أقوم آل حصن أم نساء
وفي التوراة أنه كانت معه زوجه (سارة) وزوج لوط واسمها (ملكة). ولوط هو ابن (هارون) أخي إبراهيم، فلوط يومئذ من أمة إبراهيم عليهما السلام.
[26] {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
عطف على جملة {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24].
فضمير {قَالَ} عائد إلى إبراهيم، أي أعلن أنه مهاجر ديار قومه وذلك لأن الله أمره بمفارقة أهل الكفر.
وهذه أول هجرة لأجل الدين ولذلك جعلها هجرة إلى ربه. والمهاجرة مفاعلة من الهجر: وهو ترك شيء كان ملازما له، والمفاعلة للمبالغة أو لأن الذي يهجر قومه يكونون هم قد هجروه أيضا.
وحرف {إِلَى} في قوله {إِلَى رَبِّي} للانتهاء المجازي إذ جعل هجرته إلى الأرض التي أمره الله بأن يهاجر إليها كأنها هجرة إلى ذات الله تعالى فتكون {إِلَى} تخييلا لاستعارة مكنية؛ أو جعل هجرته من المكان الذي لا يعبد أهله الله لطلب مكان ليس فيه مشركون بالله كأنه هجرة إلى الله، فتكون {إِلَى} على هذا الوجه مستعارة لمعنى لام التعليل استعارة تبعية.
ورشحت هذه الاستعارة على كلا الوجهين بقوله {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وهي جملة واقعة موقع التعليل لمضمون {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}، لأن من كان عزيزا يعتز به جاره ونزيله.
وإتباع وصف {الْعَزِيزُ} بـ {الْحَكِيمُ} لإفادة أن عزته محكمة واقعة موقعها المحمود عند العقلاء مثل نصر المظلوم، ونصر الداعي إلى الحق، ويجوز أن يكون {الْحَكِيمُ} بمعنى الحاكم فيكون زيادة تأكيد معنى {الْعَزِيزُ} .
وقد مضت قصة إبراهيم وقومه وبلادهم مفصلة في سورة الأنبياء.
[27] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ
(20/160)

فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}
هذا الكلام عقبت به قصة إبراهيم تبيانا لفضله إذ لا علاقة له بالقصة. والظاهر أن يكون المراد بـ {وهبنا، وجعلنا} الإعلام بذلك فيكون من تمام القصة كما في سورة هود. وتقدم نظير هذه الآية في الأنعام في ذكر فضائل إبراهيم. والكتاب مراد به الجنس فالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن كتب نزلت في ذرية إبراهيم.
[27] {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
جمع الله له أجرين: أجرا في الدنيا بنصره على أعدائه وبحسن السمعة وبث التوحيد ووفرة النسل، وأجرا في الآخرة وهو كونه في زمرة الصالحين، والتعريف للكمال، أي من كمل الصالحين.
[28-30] {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}
الانتقال من رسالة إبراهيم إلى قومه إلى رسالة لوط لمناسبة أنه شابه إبراهيم في أن أنجاه الله من عذاب الرجز. والقول في صدر هذه الآية كالقول في آية {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} المتقدم آنفا. وتقدم نظيرها في سورة النمل وفي سورة الشعراء.
وما بين الآيات من تفاوت هو تفنن في حكاية القصة للغرض الذي ذكرته في المقدمة السابعة، إلا قوله هنا {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} فإنه لم يقع له نظير فيما مضى.
وقوم لوط من الكنعانيين وتقدم ذكرهم في سورة الأعراف.
وتوكيد الجملة بـ(إن) واللام توكيد لتعلق النسبة بالمفعول لا تأكيد للنسبة، فالمقصود
(20/161)

تحقيق أن الذي يفعلونه فاحشة، أي عمل قبيح بالغ الغاية في القبح، لأن الفحش بلوغ الغاية في شيء قبيح لأنهم كانوا غير شاعرين بشناعة عملهم وقبحه.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} بهمزة واحدة على الإخبار المستعمل في التوبيخ. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزتين: همزة الاستفهام وهمزة (إن). وقرأ الجميع {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} بهمزتين. وفي الكشاف: قال أبو عبيد وجدت الأول {أي إنكم لتأتون الفاحشة} في الإمام بحرف واحد بغير ياء، أي بغير الياء التي تكتب الهمزة المكسورة على صورتها ورأيت الثاني (أي {أينكم لتأتون الرجال} ) بحرفي الياء والنون اه. يعني الياء بعد همزة الاستفهام والنون نون إن . ولعله يعني بالإمام مصحف البصرة أو الكوفة فتكون قراءة قرائهما رواية مخالفة لصورة الرسم.
وجملة {أينكم لتأتون الرجال} الخ بدل اشتمال من مضمون جملة {لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ، باعتبار ما عطف على جملة {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} من قوله {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} الخ لأن قطع السبيل وإتيان المنكر في ناديهم مما يشتمل عليه إتيان الفاحشة.
وأدخل استفهام الإنكار على جميع التفصيل وأعيد حرف التأكيد لتتطابق جملة البدل مع الجملة المبدل منها لأنها الجزء الأول من هذه الجملة المبدلة عند قطع النظر عما عطف عليها تكون من الجملة المبدل منها بمنزلة البدل المطابق.
وقطع السبيل: قطع الطريق، أي التصدي للمارين فيه بأخذ أموالهم أو قتل أنفسهم أو إكراههم على الفاحشة. وكان قوم لوط يقعدون بالطرق ليأخذوا من المارة من يختارونه.
فقطع السبيل فساد في ذاته وهو أفسد في هذا المقصد. وأما إتيان المنكر في ناديهم فإنهم جعلوا ناديهم للحديث في ذكر هذه الفاحشة والاستعداد لها ومقدماتها كالتغازل برمي الحصى اقتراعا بينهم على من يرمونه، والتظاهر بتزيين الفاحشة زيادة في فسادها وقبحها لأنه معين على نبذ التستر منها ومعين على شيوعها في الناس.
وفي قوله {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} تشديد في الإنكار عليهم في أنهم الذين سنوا هذه الفاحشة السيئة للناس وكانت لا تخطر لأحد ببال، وإن كثيرا من المفاسد تكون الناس في غفلة عن ارتكابها لعدم الاعتياد بها حتى إذا أقدم أحد على فعلها وشوهد
(20/162)

ذلك منه تنبهت الأذهان إليها وتعلقت الشهوات بها.
والنادي: المكان الذي ينتدي فيه الناس، أي يجتمعون نهارا للمحادثة والمشاورة وهو مشتق من الندو بوزن العفو وهو الاجتماع نهارا. وأما مكان الاجتماع ليلا فهو السامر، ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسم ناديا.
[29-30] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}
الكلام فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا في قوله {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ} [العنكبوت: 24] الآية، والأمر في {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} للتعجيز وهو يقتضي أنه أنذرهم العذاب في أثناء دعوته. ولم يتقدم ذكر ذلك في قصة لوط فيما مضى لكن الإنذار من شؤون دعوة الرسل.
وأراد بالنصر عقاب المكذبين ليريهم صدق ما أبلغهم من رسالة الله.
ووصفهم بـ {الْمُفْسِدِينَ} لأنهم يفسدون أنفسهم بشناعات أعمالهم ويفسدون الناس بحملهم على الفواحش وتدريبهم بها، وفي هذا الوصف تمهيد للإجابة بالنصر لأن الله لا يحب المفسدين.
[31-32] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}
{لَمَّا} أداة تدل على التوقيت، والأصل أنها ظرف ملازم الإضافة إلى جملة. ومدلولها وجود لوجود، أي وجود مضمون الجملة التي تضاف إليها عند وجود الجملة التي تتعلق بها فهي تستلزم جملتين: أولاهما فعلية ماضوية وتضاف إليها {لَمَّا} ، والثانية فعلية أو اسمية مشتملة على ما يصلح لأن يتعلق به الظرف من فعل أو اسم مشتق، ويطلق على الجملة الثانية الواقعة بعد {لَمَّا} اسم الجزاء تسامحا.
ولما كانت {لَمَّا} ظرفا مبهما تعين أن يكون مضمون الجملة التي تضاف إليها {لَمَّا} معلوما للسامع، إذ التوقيت الإعلام بمقارنة زمن مجهول بزمن معلوم. فوجود {لَمَّا} هنا يقتضي أن مجيء الملائكة بالبشرى أمر معلوم للسامع مع أنه لم يتقدم ذكر
(20/163)

للبشرى، فتعين أن يكون التعريف في البشرى تعريف العهد لاقتضاء {لَمَّا} أن تكون معلومة، فالبشرى هي ما دل عليه قوله تعالى آنفا {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] كما تقدم بيانه.
والبشرى: اسم للبشارة وهي الإخبار بما فيه مسرة للمخبر-بفتح الباء-وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في [سورة البقرة: 119].
ومن لطف الله بإبراهيم أن قدم له البشرى قبل إعلامه بإهلاك قوم لوط لعلمه تعالى بحلم إبراهيم. والمعنى: قالوا لإبراهيم إنا مهلكو أهل هذه القرية الخ.
والقرية هي (سدوم) قرية قوم لوط. وقد تقدم ذكرها في سورة الأعراف.
وجملة {إن أهلها كانوا ظالمين} تعليل للإهلاك وقصد به استئناس إبراهيم لقبول هذا الخبر المحزن، وأيضا لأن العدل يقتضي أن لا يكون العقاب إلا على ذنب يقتضيه.
والظلم: ظلمهم أنفسهم بالكفر والفواحش، وظلمهم الناس بالغصب على الفواحش والتدرب بها.
وقوله {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} خبر مستعمل في التذكير بسنة الله مع رسله من الإنجاء من العذاب الذي يحل بأقوامهم. فهو من التعريض للملائكة بتخصيص لوط ممن شملتهم القرية في حكم الإهلاك، ولوط وإن لم يكن من أهل القرية بالأصالة إلا أن كونه بينهم يقتضي الخشية عليه من أن يشمله الإهلاك. ولهذا قال {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} بحرف الظرفية ولم يقل: إن منها.
وجواب الملائكة إبراهيم بأنهم أعلم بمن فيها يريدون أنهم أعلم منه بأحوال من في القرية، فهو جواب عما اقتضاه تعريضه بالتذكير بإنجاء لوط، أي نحن أعلم منك باستحقاق لوط النجاة عند الله، واستحقاق غيره العذاب فإن الملائكة لا يسبقون الله بالقول وهم بأمره يعملون وكان جوابهم مطمئنا إبراهيم. فالمراد من علمهم بمن في القرية علمهم باختلاف أحوال أهلها المرتب عليها استحقاق العذاب، أو الكرامة بالنجاة.
وإنما كان الملائكة أعلم من إبراهيم بذلك لأن علمهم سابق على علمه ولأنه علم يقين ملقى من وحي الله فيما سخر له أولئك الملائكة إذ كان إبراهيم لم يوح الله إليه بشيء في ذلك، ولأنه علم تفصيلي لا إجمالي، وعمومي لا خصوصي. فلأجل هذا الأخير أجابوا بـ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} . ولم يقولوا: نحن أعلم بلوط، وكونهم أعلم من إبراهيم
(20/164)

في هذا الشأن لا يقتضي أنهم علم من إبراهيم في غيره فإن لإبراهيم علم النبوة والشريعة وسياسة الأمة، والملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يشتغلون بغير ذلك إلا متى سخرهم الله لعمل. وبالأولى لا يقتضي كونهم أعلم بهذا منه أن يكونوا أفضل من إبراهيم، فإن قول أهل الحق إن الرسل أفضل من الملائكة، والمزية لا تقتضي الأفضلية، ولكل فريق علم أطلعه الله عليه وخصه به كما خص الخضر بما لم يعلمه موسى، وخص موسى بما لا يعلمه الخضر، ولذلك عتب الله على موسى لما سئل: هل يوجد أعلم منك? فقال: لا، لأنه كان حق الجواب أن يفكك في أنواع العلم.
وجملة {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} بيان لجملة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} فلذلك لم تعطف عليها وفصلت، فقد علموا بإذن الله أن لا ينجو إلا لوط وأهله، أي بنتاه لا غير ويهلك الباقون حتى امرأة لوط.
وفعل {كَانَتْ} مستعمل في معنى تكون، فعبر بصيغة الماضي تشبيها للفعل المحقق وقوعه بالفعل الذي مضى مثل قوله {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، ويجوز أن يكون مرادا به الكون في علم الله وتقديره، كما في آية [النمل: 57] {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} فتكون صيغة الماضي حقيقة.
وتقدم الكلام على نظير قوله {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} في سورة النمل.
[33] {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}
قد أشعر قوله {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] أن الملائكة يحلون بالقرية واقتضى ذلك أن يخبروا لوطا بحلولهم بالقرية، وأنهم مرسلون من عند الله استجابة لطلب لوط النصر على قومه، فكان هذا المجيء مقدرا حصوله، فمن ثم جعل شرطا لحرف {لَمَّا} كما تقدم آنفا في قوله {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} .
و {أَنَّ} حرف مزيد للتوكيد وأكثر ما يزاد بعد {لَمَّا} وهو يفيد تحقيق الربط بين مضمون الجملتين اللتين بعد {لَمَّا} ، فهي لتحقيق الربط بين مجيء الرسل ومساءة لوط بهم. ومعنى تحقيقه هنا سرعة الاقتران والتوقيت بين الشرط والجزاء تنبيها على أن الإشاء عقبت مجيئهم وفاجأته من غير ريث، وذلك لما يعلم من عادة معاملة قومه مع الوافدين على قريتهم فلم يكون لوط عالما بأنهم ملائكة لأنهم جاءوا في صورة رجال فأريد هنا
(20/165)

التنبيه على أن ما حدث به من المساءة وضيق الذرع كان قبل أن يعلم بأنهم ملائكة جاءوا لإهلاك أهل القرية وقبل أن يقولوا {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} .
ولم تقع {أَنَّ} المؤكدة في آية سورة هود لأن في تلك السورة تفصيلا لسبب إساءته وضيق ذرعه فكان ذلك مغنيا عن التنبيه عليه في هذه الآية فكان التأكيد هنا ضربا من الإطناب. وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود وتفسيرها هناك.
وبناء فعل {سِيءَ} للمجهول لأن المقصود حصول المفعول دون فاعله.
وعطف عليه جملة {وَقَالُوا لا تَخَفْ} لأنها من جملة ما وقع عقب مجيء الرسل لوطا. وقد طويت جمل دل عليها قوله {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} وهي الجمل التي ذكرت معانيها في قوله {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} إلى قوله {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} في [سورة هود: 81]. وقدموا تأمينه قبل إعلامه بأنهم منزلون العذاب على أهل القرية تعجيلا بتطمينه.
وعطف {وَلا تَحْزَنْ} على {لا تَخَفْ} جمع بين تأمينه من ضر العذاب وبين إعلامه بأن الذين سيهلكون ليسوا أهلا لأن يحزن عليهم، ومن أولئك امرأته لأنه لا يحزن على من ليس بمؤمن به.
وجملة {إِنَّا مُنَجُّوكَ} تعليل للنهي عن الأمرين.
واستثناء امرأته من عموم أهله استثناء من التعليل لا من النهي، ففي ذلك معذرة له بما عسى أن يحصل له من الحزن على هلاك امرأته مع أنه كان يحسبها مخلصة له، وقد بينا وجه ذلك في تفسير سورة هود.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {مُنَجُّوكَ} بسكون النون. وقرأ الباقون بفتح النون وتشديد الجيم.
[34] {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
جملة مستأنفة وقعت بيانا لما في جملة {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} [العنكبوت:33] من الإيذان بأن ثمة حادثا يخاف منه ويحزن له.
والرجز: العذاب المؤلم. ومعنى كونه من السماء أنه أنزل عليهم من الأفق وقد
(20/166)

مضى بيانه في سورة هود.
[35] {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
عطف على جملة {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} الخ عطف آية على آية لأن قصة لوط آية بما تضمنته من الخبر، وآثار قرية قومه آية أخرى بما يمكن مشاهدته لأهل البصر. ويجوز أن تكون جملة معترضة في آخر القصة. وعلى كلا الوجهين فهو من كلام الله. ونون المتكلم المعظم ضمير الجلالة وليست ضمير الملائكة. والآية: العلامة الدالة على أمر.
ومفعول {تَرَكْنَا} يجوز أن يكون {آيَةً} فيجعل (من) حرف جر وهو مجرور وصفا لـ {آيَةً} قدم على موصوفه للاهتمام فيجعل حالا من { آيَةً } .
ويجوز أن تكون (من) للابتداء، أي تركنا صادرة من آثارها ومعرفة خبرها، وهي آية واضحة دائمة على طول الزمان إلى الآن ولذلك وصفت بـ {بَيِّنَةً} ، ولم توصف آية السفينة بـ {بَيِّنَةً} في قوله {وجعلناها آية للعالمين} ، لأن السفينة قد بليت ألواحها وحديدها أو بقي منها لا يظهر إلا بعد تفتيش إن كان.
ويجوز جعل (من) اسما بمعنى بعض على رأي من رأى ذلك من المحققين، فتكون (من) مفعولا مضافا إلى ضمير (قرية). وتقدم بيان ذلك عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية في [سورة البقرة: 8]. والمعنى: ولقد تركنا من القرية آثارا دالة لقوم يستعملون عقولهم في الاستدلال بالآثار على أحوال أهلها. وهذه العلامة هي بقايا قريتهم مغمورة بماء بحيرة لوط تلوح من تحت المياه شواهد القرية، وبقايا لون الكبريت والمعدن التي رجمت بها قريتهم وفي ذلك عدة أدلة باختلاف مدارك المستدلين.
ويتعلق قوله {لقوم يعقلون} بقوله {تَرَكْنَا} ، أو يجعل ظرفا مستقرا صفة لـ {آيَةً} .
[36] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
عطف على {وَلُوطاً} [العنكبوت: 28] المعطوف على {نُوحاً} [العنكبوت: 14] المعمول لـ {أَرْسَلْنَا} [العنكبوت: 14]. فالتقدير: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً.
والمناسبة في الانتقال من قصة لوط وقومه إلى قصة مدين ورسولهم أن مدين
(20/167)

كان من أبناء إبراهيم وأن الله أنجاه من العذاب كما أنجى لوطا.
وتقديم المجرور في قوله {إِلَى مَدْيَنَ} ليتأتى الإيجاز في وصف شعيب بأنه أخوهم لأن هذا الوصف غير موجود في نوح وإبراهيم ولوط. وتقدم معنى كونه أخا لهم في سورة هود.
وقوله {فَقَالَ} عطف على الفعل المقدر، أي أرسلناه فعقب إرساله بأن قال.
والرجاء: الترقب واعتقاد الوقوع في المستقبل. وأمره إياهم بترقب اليوم الآخر دل على أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث وتقدم الكلام على نظير قوله {تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} عند قوله تعالى {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} في [سورة البقرة: 60]. وتقدمت قصة شعيب في سورة هود.
[37] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
الأخذ: الإعدام والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع الإزالة.
والرجفة: الزلزال الشديد الذي ترتجف منه الأرض، وفي سورة هود سميت بالصيحة لأن لتلك الرجفة صوتا شديدا كالصيحة. وتقدم تفسير ذلك.
وقد أشير في قصة إبراهيم ولوط إلى ما له تعلق بالغرض المسوق فيه، وهو المصابرة على إبلاغ الرسالة، والصبر على أذى الكافرين، ونصر الله إياهم، وتعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.
[38] {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}
لما جرى ذكر أهل مدين وقوم لوط أكملت القصص بالإشارة إلى عاد وثمود إذ قد عرف القرآن اقتران هذه الأمم في نسق القصص.
والواو عاطفة قصة على قصة.
وانتصاب {عَاداً} يجوز أن يكون بفعل مقدر يدل عليه السياق، تقديره: وأهلكنا عادا، لأن قوله تعالى آنفا {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [العنكبوت: 37] يدل على معنى الإهلاك، قاله الزجاج وتبعه الزمخشري. ومعلوم أنه إهلاك خاص من بطش الله تعالى، فظهر تقدير: وأهلكنا عادا.
(20/168)

ويجوز أن يقدر فعل (واذكر) كما هو ظاهر ومقدر في كثير من قصص القرآن.
ويجوز أن يكون معطوفا على ضمير {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [العنكبوت: 37] والتقدير: وأخذت عادا وثمودا. وعن الكسائي أنه منصوب بالعطف على {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من قوله تعالى{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3]. وهذا بعيد لطول بعد المعطوف عليه. والأظهر أن نجعله منصوبا بفعل تقديره (وأخذنا) يفسره قوله {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] لأن (كلا) اسم يعم المذكورين فلما جاء منتصبا بـ {أَخَذْنَا} تعين أن ما قبله منصوب بمثله وتنوين العوض الذي لحق (كلا) هو الرابط وأصل نسج الكلام: وعادا وثمودا وقارون وفرعون الخ... كلهم أخذنا بذنبه.
وجملة {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} في موضع الحال أو هي معترضة. والمعنى: تبين لكم من مشاهدة مساكنهم أنهم كانوا فيها فأهلكوا عن بكرة أبيهم.
ومساكن عاد وثمود معروفة عند العرب ومنقولة بينهم أخبارها وأحوالها ويمرون عليها في أسفارهم إلى اليمن وإلى الشام.
والضمير المستتر في {تَبَيَّنَ} عائد على المصدر المأخوذ من الفعل المقدر، أي يتبين لكم إهلاكهم أو أخذنا إياهم.
وجملة { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} معطوفة على جملة {وَعَاداً وَثَمُودَ} .
والتزيين: التحسين. والمراد: زين لهم أعمالهم الشنيعة فأوهمهم بوسوسته أنها حسنة. وقد تقدم عند قوله تعالى {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في [سورة الأنعام: 108].
والصد: المنع عن عمل. والسبيل: هنا ما يوصل إلى المطلوب الحق وهو السعادة الدائمة، فإن الشيطان بتسويله لهم كفرهم قد حرمهم من السعادة الأخروية فكأنه منعهم من سلوك طريق يبلغهم إلى المقر النافع.
والاستبصار: البصارة بالأمور، والسين والتاء للتأكيد مثل: استجاب واستمسك واستكبر. والمعنى: أنهم كانوا أهل بصائر، أي عقول فلا عذر لهم في صدهم عن السبيل. وفي هذه الجملة اقتضاء أن ضلال عاد كان ضلالا ناشئا عن فساد اعتقادهم وكفرهم المتأصل فيهم والموروث عن آبائهم وأنهم لم ينجوا من عذاب الله لأنهم كانوا يستطيعون النظر في دلائل الوحدانية وصدق رسلهم.
(20/169)

[39] {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}
كما ضرب الله المثل لقريش بالأمم التي كذبت رسلها فانتقم الله منها، كذلك ضرب المثل لصناديد قريش مثل أبي جهل، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وأبي لهب، بصناديد بعض الأمم السالفة كانوا سبب مصاب أنفسهم ومصاب قومهم الذين اتبعوهم، إنذارا لقريش بما عسى أن يصيبهم من جراء تغرير قادتهم بهم وإلقائهم في خطر سوء العاقبة. وهؤلاء الثلاثة جاءهم موسى بالبينات. وتقدمت قصصهم وقصة قارون في سورة القصص.
فأما ما جاء به موسى من البينات لفرعون وهامان فهي المعجزات التي تحداهم بها على صدقه فأعرض فرعون عنها وأتبعه هامان وقومه. وأما ما جاء به موسى لقارون فنهيه عن البطر.
وأومأ قوله تعالى {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى أنهم كفروا عن عناد وكبرياء لا عن جهل وغلواء كما قال تعالى {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فكان حالهم كحال صناديد قريش الذين لا يظن أن فطنتهم لم تبلغ بهم إلى تحقق أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صدق وأن ما جاء به القرآن حق ولكن غلبت الأنفة. وموقع جملة {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى} كموقع جملة {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38].
والاستكبار: شدة الكبر، فالسين والتاء للتأكيد كقوله {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} .
وتعليق قوله {فِي الْأَرْضِ} بـ {اسْتَكْبَرُوا} للإشعار بأن استكبار كل منهم كان في جميع البلاد التي هو منها، فيومئ ذلك أن كل واحد من هؤلاء كان سيدا مطاعا في الأرض.
فالتعريف في {الْأَرْضِ} للعهد، فيصح أن يكون المعهود هو أرض كل منهم، أو أن يكون المعهود الكرة الأرضية مبالغة في انتشار استكبار كل منهم في البلاد حتى كأنه يعم الدنيا كلها.
ومعنى السبق في قوله {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} الانفلات من تصريف الحكم فيهم. وقد
(20/170)

تقدم في قوله تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا} في [سورة الأنفال: 59]، فالواو للحال، أي استكبروا في حال انهم لم يفدهم استكبارهم.
وإقحام فعل الكون بعد النفي لأن المنفي هو ما حسبوه نتيجة استكبارهم، أي أنهم لا ينالهم أحد لعظمتهم. ومثل هذا الحال مثل أبي جهل حين قتله ابنا عفراء يوم بدر فقال له عبد الله بن مسعود حين وجده محتضرا: أنت أبو جهل? فقال: وهل أعمد من رجل قتلتموه لو غير أكار قتلني أي زراع يعني رجلا من الأنصار لأن الأنصار أهل حرث وزرع .
[40] {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
أفادت الفاء التفريع على الكلام السابق لما اشتمل عليه من أن الشيطان زين لهم أعمالهم ومن استكبار الآخرين، أي فكان من عاقبة ذلك أن أخذهم الله بذنوبهم العظيمة الناشئة عن تزيين الشيطان لهم أعمالهم وعن استكبارهم في الأرض، وليس المفرع هو أخذ الله إياهم بذنوبهم لأن ذلك قد أشعر به ما قبل التفريع، ولكنه ذكر ليفضى بذكره إلى تفصيل أنواع أخذهم وهو قوله {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} إلى آخره، فالفاء في قوله {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ} الخ لتفريع ذلك التفصيل على الإجمال الذي تقدمه فتحصل خصوصية الإجمال ثم التفصيل، وللدلالة على عظيم تصرف الله.
فأما الذين أرسل عليهم حاصب فهم عاد. والحاصب: الريح الشديدة، سميت حاصبا لأنها تقلع الحصباء من الأرض. قال أبو وجرة السعدي:
صببت عليكم حاصبي فتركتكم ... كأصرام عاد حين جللها الرمد
فجعل الحاصب مما أصاب عادا. وليس المراد بهم قوم لوط كالذي في قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ} [القمر: 34وط مر آنفا الكلام على عذابهم مفصلا فلا يدخلون في هذا الإجمال.
والذين أخذتهم الصيحة هم ثمود. والذين خسفت بهم الأرض هو قارون وأهله. وقد تقدم ذكر الخسف في سورة القصص [81-82] والذين أغرقهم: فرعون وهامان ومن
(20/171)

معهما من قومهما. وقد جاء هذا على طريقة النشر على ترتيب اللف.
والأخذ: الإتلاف والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع إزالة الشيء من مكانه فاستعير له فعل {أَخَذْنَا} . وقد نفي عن الله تعالى ظلم هؤلاء لأن إيلامهم كان جزاء على أعمالهم وكل ما كان من نوع الجزاء يوصف بالعدل وقد نفى الله عن نفسه الوصف بالظلم فوجب الإيمان به سمعا لا عقلا في مقام الجزاء، وأما في مقام التكوين فلا. وظلمهم أنفسهم هو تسببهم في عذاب أنفسهم فجروا إليها العقاب لأن النفس أولى الأشياء برأفة صاحبها بها وتفكيره في أسباب خيرها.
والاستدراك ناشئ عن نفي الظلم عن الله في عقابهم لأنه يتوهم منه انتفاء موجب العقاب فالاستدراك لرفع هذا التوهم.
[41] {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
لما بينت لهم الأشباه والأمثال من الأمم التي اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله أعقب ذلك بضرب المثل لحال جميع أولئك وحال من ماثلهم من مشركي قريش في اتخاذهم ما يحسبونه دافعا عنهم وهو أضعف من أن يدفع عن نفسه، بحال العنكبوت تتخذ لنفسها بيتا تحسب أنها تعتصم به من المعتدي عليها فإذا هو لا يصمد ولا يثبت لأضعف تحريك فيسقط ويتمزق. والمقصود بهذا الكلام مشركو قريش، وتعلم مساواة غيرهم لهم في ذلك بدلالة لحن الخطاب، والقرينة قوله بعده {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [العنكبوت: 42] فضمير {اتَّخَذُوا} عائد إلى معلوم من سياق الكلام وهو مشركو قريش.
وجملة {اتَّخَذَتْ بَيْتاً} حال من {الْعَنْكَبُوتِ} وهي قيد في التشبيه. وهذه الهيئة المشبه بها مع الهيئة المشبهة قابلة لتفريق التشبيه على أجزائها فالمشركون أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدوه، وأولياؤهم أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الغناء عمن اتخذوها وقت الحاجة إليها وتزول بأقل تحريك، وأقصى ما ينتفعون به منها نفع ضعيف وهو السكنى فيها وتوهم أن تدفع عنهم كما ينتفع المشركون بأوهامهم في أصنامهم. وهو تمثيل بديع من مبتكرات القرآن كما سيأتي قريبا عند قوله {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ}
(20/172)

في هذه السورة [43].
و {الْعَنْكَبُوتِ} : صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف، منها صنف يسمى ليث العناكب وهو الذي يفترس الذباب، وكلها تتخذ لأنفسها نسيجا تنسجه من لعابها يكون خيوطا مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانبا أغلظ وأكثر اتصال خيوط تحتجب فيه وتفرخ فيه. وسمي بيتا لشبهه بالخيمة في أنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر.
وجملة {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} معترضة مبينة وجه الشبه، وهذه الجملة تجري مجرى المثل فيضرب لقلة جدوى شيء فاقتضى ذلك أن الأديان التي يعبد أهلها غير الله هي أحقر الديانات وأبعدها عن الخير والرشد وإن كانت متفاوتة فيما يعرض لتلك العبادات من الضلالات كما تتفاوت بيوت العنكبوت في غلظها بحسب تفاوت الدويبات التي تنسجها في القوة والضعف.
وجملة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} متصلة بجملة {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} لا بجملة {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} . فتقدير جواب {لَوْ} هكذا: لو كانوا يعلمون أن ذلك مثلهم، أي ولكنهم لا يعلمون انعدام غناء ما اتخذوه عنهم. وأما أوهنية بيت العنكبوت فلا يجهلها أحد.
[42] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] المفيد أنهم لا يعلمون، أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضا دفعا بهم إلى أن يتهموا عقولهم وأن عليهم النظر في حقائق الأشياء تعريضا بقصور علمهم كقوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي علمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية فعموا وصموا عن هذا وذاك.
و {مَا} من قوله {مَا تَدْعُونَ} يجوز أن تكون نافية معلقة فعل {يَعْلَمُ} عن العمل،
(20/173)

وتكون {مِنْ} زائدة لتوكيد النفي، ومجرورها مفعول في المعنى لـ {تَدْعُونَ} ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد. ومعنى الكلام: أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجودا ولكنكم تدعون أمورا عدمية، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية. فهي في بابها كالعدم فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية. ولا يتوهم السامع أن المراد نفي أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله، لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه وهذا كقوله تعالى {لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} في [سورة البقرة: 113]، و {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} في سورة المائدة[68] وكقوله النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان "إنهم ليسوا بشيء" أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب.
وحاصل المعنى: أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرب لها مثلا ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلا بالعنكبوت الذي اتخذها، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في إبطال إلهية الأصنام وفي أنها كالعدم.
ويجوز أن تكون {مَا} استفهامية معلقة فعل {يعلم} عن العمل من باب قولهم: علمت هل زيد قائم، أي علمت جوابه. و {مِنْ} بيانية لما في {مَا} الاستفهامية من الإبهام، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم. ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل {مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي قد علم الله ذلك، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتا، وللمعبودات مثلا ببيت العنكبوت، وأنتم لو سئلتم: ما تدعون من دون الله، لتلعثمتم ولم تحيروا جوابا؛ فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها، لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها فلا يلبث قليلا حتى يفتضح فاسد معتقده من تعذر إفصاحه عنه.
وجعل بعض المفسرين {يَعْلَمُ} هنا متعديا إلى مفعول واحد وأنه بمعنى (يعرف) وجعل {مَا} موصولة مفعول {يَدْعُونَ} والعائد محذوفا، ويعكر عليه أن إسناد العلم بمعنى المعرفة وهو المتعدي إلى مفعول واحد إلى الله يؤول إلى إسناد فعل المعرفة إلى الله بناء على إثبات الفرق بين فعل (علم) وفعل (عرف) عند من فسر المعرفة بإدراك الشيء بواسطة آثاره وخصائصه المحسوسة، وأنها أضعف من العلم لأن العلم شاع في معرفة حقائق الأشياء ونسبها.
(20/174)

وعن الخليل بن أحمد1 العلم معرفتان مجتمعتان، ففي قولك: عرفت زيدا قائما، يكون (قائما) حالا من (زيدا)، وفي قولك: علمت زيدا قائما، يكون (قائما) مفعولا ثانيا لـ(لعلمت) اهـ. يريد أن فعل (عرف) يدل على إدراك واحد وهو إدراك الذات، وفعل (علم) يدل على إدراكين هما إدراك الذات وإدراك ثبوت حكم لها، على نحو ما قاله أهل المنطق في التصور والتصديق، فلذلك لم يرد في الكتاب والسنة إسناد فعل المعرفة إلى الله فكيف يسند إليه ما يؤول بمعناها.
وجملة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل لجملة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} لأن الجملة على كلا المعنيين في معاني {مَا} تدل على أن الذي بين حقارة حال الأصنام واختلال عقول عابديها فلم يعبأ بفضحها وكشفها بما يسوءها مع وفرة أتباعها ومع أوهام أنها لا يمسها أحد بسوء إلا كانت ألبا عليه؛ فلو كان للأصنام حظ في الإلهية لما سلم من ضرها من يحقرها كقوله تعالى {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء: 42] كما تقدم، وأنه لما فضح عقول عبادها لم يخشهم على أوليائه بله ذاته، فهو عزيز لا يغلب، وحكيم لا تنطلي عليه الأوهام والسفاسط بخلاف حال هاتيك وأولئك.
وقرأ الجمهور {تَدْعُونَ} بالفوقية على طريق الالتفات. وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتحتية.
[43] {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}
بعد أن بين الله لهم فساد معتقدهم في الأصنام، وأعقبه بتوقيفهم على جهلهم بذلك، نعى عليهم هنا أنهم ليسوا بأهل لتفهم تلك الدلائل التي قربت إليهم بطريقة التمثيل، فاسم الإشارة يبينه الاسم المبدل منه وهو {الْأَمْثَالُ} .
والإشارة إلى حاضر في الأذهان فإن كل من سمع القرآن حصل في ذهنه بعض تلك الأمثال. واسم الإشارة للتنويه بالأمثال المضروبة في القرآن التي منها هذا المثل بالعنكبوت.
وجملة {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} خبر عن اسم الإشارة. وهذه الجملة الخبرية مستعملة في الامتنان والطول لأن في ضرب الأمثال تقريبا لفهم الأمور الدقيقة. قال الزمخشري:
ـــــــ
1 نقله عنه أبو بكر بن العربي في كتاب (العواصم من القواصم).
(20/175)

ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المتحقق والغائب كالمشاهد . وقد تقدم بيان مزية ضرب الأمثال عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} في [سورة البقرة: 26].
ولهذا أتبعت هذه الجملة بجملة {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . والعقل هنا بمعنى الفهم، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كملت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هزءا وسخرية، فقالت قريش لما سمعوا قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، وقوله {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} [العنكبوت: 41] قالوا: ما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب والعنكبوت والبعوض. وهذا من بهتانهم، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالا، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.
[44] {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}
بعد أن بين الله تعالى عدم انتفاع المشركين بالحجة ومقدماتها ونتائجها الموصلة إلى بطلان إلهية الأصنام مستوفاة مغنية لمن يريد التأمل والتدبر في صحة مقدماتها بإنصاف نقل الكلام إلى مخاطبة المؤمنين لإفادة التنويه بشأن المؤمنين إذ انتفعوا بما هو أدق من ذلك وهو حالة النظر والفكر في دلالة الكائنات على أن خالقها هو الله، وأن لا شيء غيره حقيقا بمشاركته في إلهيتة، فأفاد أن المؤمنين قد اهتدوا إلى العلم ببطلان إلهية الأصنام خلافا للمشركين الذين لم يهتدوا بذلك. فأفهم ذلك أن من لم يعقلوها ليسوا بعالمين أخذا من مفهوم الصفة في قوله {لِلْمُؤْمِنِينَ} إذا اعتبر المعنى الوصفي من قوله {لِلْمُؤْمِنِينَ} ، أو أخذا من الاقتصار على ذكر المؤمنين في قوله {إن في ذلك لآية للمؤمنين} إذا اعتبر عنوان المؤمنين لقبا.
والاقتصار عند ذكر دليل الوحدانية على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة المفيد بأن المشركين لم ينتفعوا بذلك يشبه الاحتباك بين الآيتين. والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة، أي خلقهما على أحوالهما كلها بما ليس بباطل. والباطل في كل شيء لا وفاء فيه بما جعل هو له. وضد الباطل الحق، فالحق في كل
(20/176)

عمل هو إتقانه وحصول المراد منه، قال تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27].
والمراد بالسماوات والأرض ما يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما. وهذا الخلق المتقن الذي لا تقصير فيه عما أريد منه هو آية على وحدانية الخالق وعلى صفات ذاته وأفعاله.
[45] {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}
بعد أن ضرب الله للناس المثل بالأمم السالفة جاء بالحجة المبينة فساد معتقد المشركين، ونوه بصحة عقائد المؤمنين بمنتهى البيان الذي ليس وراءه مطلب أقبل على رسوله بالخطاب الذي يزيد تثبيته على نشر الدعوة وملازمة الشرائع وإعلان كلمة الله بذلك، وما فيه زيادة صلاح المؤمنين الذين انتفعوا بدلائل الوحدانية. وما الرسول عليه الصلاة والسلام إلا قدوة للمؤمنين وسيدهم فأمره أمر لهم كما دل عليه التذييل بقوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} بصيغة جمع المخاطبين كقوله {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}، فأمره بتلاوة القرآن إذ ما فرط فيه من شيء من الإرشاد.
وحذف متعلق فعل {اتْلُ} ليعم التلاوة على المسلمين وعلى المشركين. وهذا كقوله تعالى {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} إلى قوله {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} 1 [النمل: 91-92].
وأمره بإقامة الصلاة لأن الصلاة عمل عظيم، وهذا الأمر يشمل الأمة فقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في آيات كثيرة.
وعلل الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فموقع {إِنَّ} هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل موجه إلى الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الفحشاء والمنكر فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سر إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه تعالى؛ فأخبر أن الصلاة تنهى عن
ـــــــ
1 في المطبوعة (فإنما يضل عليها) .
(20/177)

الفحشاء والمنكر، والمقصود أنها تنهى المصلي.
وإذ قد كانت حقيقة النهي غير قائمة بالصلاة تعين أن فعل {تَنْهَى} مستعمل في معنى مجازي بعلاقة أو مشابهة. والمقصود، أن الصلاة تيسر للمصلي ترك الفحشاء والمنكر. وليس المعنى أن الصلاة صارفة المصلي عن أن يرتكب الفحشاء والمنكر فإن المشاهد يخالفه إذ كم من مصل يقيم صلاته ويقترف بعض الفحشاء والمنكر.
كما أنه يصح أن يكون المراد أنها تصرف المصلي عن الفحشاء والمنكر ما دام متلبسا بأداء الصلاة لقلة جدوى هذا المعنى. فإن أكثر الأعمال يصرف المشتغل به عن الاشتغال بغيره.
وإذ كانت الآية مسوقة للتنويه بالصلاة وبيان مزيتها في الدين تعين أن يكون المراد أن الصلاة تحذر من الفحشاء والمنكر تحذيرا هو من خصائصها.
وللمفسرين طرائق في تعليل ذلك منها: ما قاله بعضهم: إن المراد به ما للصلاة من ثواب عند الله، فإن ذلك غرض آخر وليس منصبا إلى ترك الفحشاء والمنكر ولكنه من وسائل توفير الحسنات لعلها أن تغمر السيئات، فيتعين لتفسير هذه الآية تفسيرا مقبولا أن نعتبر حكمها عاما في كل صلاة فلا يختص بصلوات الأبرار، وبذلك تسقط عدة وجوه مما فسروا به الآية.
قال ابن عطية: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات صلحت بذلك نفسه وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر اه. وفيه اعتبار قيود في الصلاة لا تناسب التعميم وإن كانت من شأن الصلاة التي يحق أن يلقنها المسلمون في ابتداء تلقينهم قواعد الإسلام.
والوجه عندي في معنى الآية: أن يحمل فعل {تَنْهَى} على المجاز الأقرب إلى الحقيقة وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله تعالى إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله. وهذا كما يقال: صديقك مرآة ترى فيها عيوبك. ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجه إليه بالدعاء والاستغفار وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه فذلك صد عن الفحشاء والمنكر.
(20/178)

وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته والتباعد عن سخطه. وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه.
فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإن الله قال {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ولم يقل تصد وتحول ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر.
ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها. ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
روى أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: سينهاه ما تقول أي صلاته بالليل.
واعلم أن التعريف في قوله {الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} تعريف الجنس فكلما تذكر المصلي عند صلاته عظمة ربه ووجوب طاعته وذكر ما قد يفعله من الفحشاء والمنكر كانت صلاته حينئذ قد نهته عن بعض أفراد الفحشاء والمنكر.
والفحشاء: اسم للفاحشة، والفحش: تجاوز الحد المقبول. فالمراد من الفاحشة: الفعلة المتجاوزة ما يقبل بين الناس. وتقدم في قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في [سورة البقرة: 169]. والمقصود هنا من الفاحشة: تجاوز الحد المأذون فيه شرعا من القول والفعل، وبالمنكر: ما ينكره ولا يرضى بوقوعه.
وكأن الجمع بين الفاحشة والمنكر منظور فيه إلى اختلاف جهة ذمه والنهي عنه.
وقوله {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يجوز أن يكون عطفا على جملة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} فيكون عطف علة على علة، ويكون المراد بذكر الله هو الصلاة كما في قوله تعالى {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي صلاة الجمعة. ويكون العدول عن لفظ الصلاة الذي هو كالاسم لها إلى التعبير عنها بطريق الإضافة للإيماء إلى تعليل أن الصلاة
(20/179)

تنهى عن الفحشاء والمنكر، أي إنما كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر لأنها ذكر الله وذكر الله أمر كبير، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة مقصود به قوة الوصف كما في قولنا: الله أكبر، لا تريد أنه أكبر من كبير آخر.
ويجوز أن يكون عطفا على جملة {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} . والمعنى: واذكر الله فإن ذكر الله أمر عظيم، فيصح أن يكون المراد من الذكر تذكر عظمة الله تعالى. ويجوز أن يكون المراد ذكر الله باللسان ليعم ذكر الله في الصلاة وغيرها. واسم التفضيل أيضا مسلوب المفاضلة ويكون في معنى قول معاذ بن جبل "ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله" .
ويجوز أن يكون المراد بالذكر تذكر ما أمر الله به ونهى عنه، أي مراقبة الله تعالى وحذر غضبه، فالتفضيل على بابه، أي ولذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة في ذلك النهي، وذلك لإمكان تكرار هذا الذكر أكثر من تكرر الصلاة فيكون قريبا من قول عمر رضي الله عنه: أفضل من شكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.
ولك أن تقول: ذكر الله هو الإيمان بوجوده وبأنه واحد. فلما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أمر المؤمنين بعملين عظيمين من البر أردفه بأن الإيمان بالله هو أعظم من ذلك إذ هو الأصل كقوله تعالى {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 13-17]. وذلك من رد العجز على الصدر عاد به إلى تعظيم أمر التوحيد وتفظيع الشرك من قوله {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [العنكبوت: 42] إلى هنا.
وقوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} تذييل لما قبله، وهو وعد ووعيد باعتبار ما اشتمل عليه قوله {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاة} وقوله {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .
والصنع: العمل.
[46] {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
عطف على جملة {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [ العنكبوت: 45] الآية، باعتبار ما
(20/180)

تستلزمه تلك من متاركة المشركين والكف عن مجادلتهم بعد قوله تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] كما تقدم آنفا. وقد كانت هذه توطئة لما سيحدث من الدعوة في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مجادلة أهل الكتاب لا تعرض للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين في مكة، ولكن لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في إبان نزول أواخر هذه السورة على وشك الهجرة إلى المدينة وكانت الآيات السابقة مجادلة للمشركين غليظة عليهم من تمثيل حالهم بحال العنكبوت، وقوله {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} هيأ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام طريقة مجادلة أهل الكتاب. فهذه الآية معترضة بين محاجة المشركين والعود إليها في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 47] الآيات.
وجيء في النهي بصيغة الجمع ليعم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو قبل قدومه المدينة.
والمجادلة: مفاعلة من الجدل، وهو إقامة الدليل على رأي اختلف فيه صاحبه مع غيره، وقد تقدم في قوله تعالى {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في [سورة النساء: 107]. وبهذا يعلم أن لا علاقة لهذه الآية بحكم قتال أهل الكتاب حتى ينتقل من ذلك إلى أنها هل نسخت أم بقي حكمها لأن ذلك خروج بها عن مهيعها. والمجادلة تعرض في أوقات المسلم وأوقات القتال.
و{أَهْلَ الْكِتَابِ}: اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن. والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولها. ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران.
و {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} مستثنى من محذوف دل عليه المستثنى، تقديره: لا تجادلوهم بجدال إلا بجدال بالتي هي أحسن. و{أَحْسَنُ} اسم تفضيل يجوز أن يكون على بابه فيقدر المفضل عليه مما دلت عليه القرينة، أي بأحسن من مجادلتكم المشركين، أو بأحسن من مجادلتهم إياكم كما تدل عليه صيغة المفاعلة.
ويجوز كون اسم التفضيل مسلوب المفاضلة لقصد المبالغة في الحسن، أي إلا بالمجادلة الحسنى كقوله تعالى {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} في آخر [سورة النحل: 125]. فالله جعل الخيار للنبي صلى الله عليه وسلم في مجادلة المشركين بين أن يجادلهم بالحسنى كما اقتضته آية سورة النحل، وبين أن يجادلهم بالشدة كقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] فإن الإغلاظ
(20/181)

شامل لجميع المعاملات ومنها المجادلات ولا يختص بخصوص الجهاد فإن الجهاد كله إغلاظ فلا يكون عطف الإغلاظ على الجهاد إلا إغلاظا غير الجهاد.
ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به فهم متأهلون لقبول الحجة غير مظنون بهم المكابرة ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجة دون إغلاظ حذرا من تنفيرهم، بخلاف المشركين فقد ظهر من تصلبهم وصلفهم وجلافتهم ما أيأس من إقناعهم بالحجة النظرية وعين أن يعاملوا بالغلظة وأن يبالغ في تهجين دينهم وتفظيع طريقتهم لأن ذلك أقرب نجوعا لهم.
وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب، وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللين، فإن هم قابلوا الحسنى بضدها انتقل الحكم إلى الاستثناء الذي في قوله {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . و {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأبوا أن يتلقوا الدعوة فهؤلاء ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حسدا، وبغضا على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم، وجعلوا يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم ونشأ منهم المنافقون وكل هذا ظلم واعتداء.
وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام وكانوا يقولون: إن محمدا رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم "أتشهد أني رسول الله? فقال:أشهد أنك رسول الأميين" فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه وهو اليوم الذي أسلم فيه عبد الله بن سلام فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام.
وعطف {وَقُولُوا آمَنَّا} إلى آخر الآية تعليم لمقدمة المجادلة بالتي هي أحسن. وهذا مما يسمى تحرير محل النزاع وتقريب شقة الخلاف وذلك تأصيل طرق الإلزام في المناظرة وهو أن يقال قد اتفقنا على كذا وكذا فلنحتج على ما عدا ذلك، فإن ما أمروا بقوله هنا مما اتفق عليه الفريقان فينبغي أن يكون هو السبيل إلى الوفاق وليس هو بداخل في حيز المجادلة لأن المجادلة تقع في موضع الاختلاف ولأن ما أمروا بقوله هنا هو إخبار عما يعتقده المسلمون وإنما تكون المجادلة فيما يعتقده أهل الكتاب مما يخالف عقائد المسلمين مثل قوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} إلى قوله {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 65-67]. ولأجل أن مضمون هذه الآية لا يدخل في حيز المجادلة عطفت على ما قبلها ولو كانت مما
(20/182)

شملته المجادلة لكان ذلك مقتضيا فصلها لأنها مثل بدل الاشتمال.
ومعنى {بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا} القرآن. والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتابا على غير أنبيائهم، ولذلك عقب بقوله {وَأُنْزِلَ إِلَيْنَا} . وقوله {وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: والذي أنزل إليكم، أي الكتاب وهو التوراة بقرينة قوله {إليكم}. والمعنى: إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} [المائدة: 59]، وكذلك قوله {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد. فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان.
وقوله {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مراد به كلا الفريقين فريقر المتكلمين وفريق المخاطبين، فيشمل المسلمين وأهل الكتاب فيكون المراد بوصف {مُسْلِمُونَ} أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله، أي عدم الإشراك به، أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره. وتقديم المجرور على عامله في قوله {لَهُ مُسْلِمُونَ} لإفادة الاختصاص تعريضا بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية.
[47] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}
هذا عود إلى مجادلة المشركين في إثبات أن القرآن منزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى: ومثل ذلك التنزيل البديع أنزلنا إليك ا لكتاب، فهو بديع في فصاحته،وشرف معانيه، وعذوبة تراكيبه، وارتفاعه على كل كلام من كلام البلغاء، وفي تنجيمه، وغير ذلك. وقد تقدم بيان مثل هذه الإشارة عند قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في [سورة البقرة: 143].
وقد تفرع على بداعة تنزيله الإخبار بأن الذين علمهم الله الكتاب يؤمنون به أي يصدقون أنه من عند الله لأنهم أدرى بأساليب الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء وأعلم بسمات الرسل وشمائلهم.
وإنما قال {فالذين أتيناهم الكتاب} دون أن يقول: فأهل الكتاب، لأن في {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} تذكيرا لهم بأنهم أمناء عليه كما قال تعالى {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ} [المائدة: 44].
(20/183)

وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به، أي إيمان من آمن منهم مستمر يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما.
والإشارة بـ {هَؤُلاءِ} إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم. وهكذا اصطلاح القرآن حيث يذكر {هَؤُلاءِ} بدون سبق ما يصلح للإشارة إليه، وهذا قد ألهمني الله إليه، وتقدم عند قوله تعالى {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} في [سورة الأنعام: 89]. والمعنى: ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به، أي بأن القرآن منزل من الله، وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد، ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك عنادا وكبرا مثل الوليد بن المغيرة.
وقد أشار قوله تعالى {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحودا منهم لأجل تصلبهم في الكفر. فالتعريف في {الْكَافِرُونَ} للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرف، أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه، ليظهر وجه الاختلاف بين {وَمَا يَجْحَدُ} وبين {الْكَافِرُونَ} إذ لولا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام: وما يجحد إلا الجاحدون.
وعبر عن الكتاب بالآيات لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحديه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله. وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين لأن جحودهم واقع، وفيه تهيئة لتوجيهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم.
[48] {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}
هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة وقد ورد الاستدلال بها في القرآن في مواضع كقوله {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَان} [الشورى: 52] وقوله {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
ومعنى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} أنك لم تكن تقرأ كتابا حتى يقول أحد:
(20/184)

هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل.
{وَلا تَخُطُّهُ} أي لا تكتب كتابا ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما التعلم بالقراءة والتعلم بالكتابة استقصاء في تحقيق وصف الأمية فإن الذي يحفظ كتابا ولا يعرف يكتب لا يعد أميا كالعلماء العمي، والذي يستطيع أن يكتب ما يلقى إليه ولا يحفظ علما لا يعد أميا مثل النساخ فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية.
و {إِذْن} جواب وجزاء لشرط مقدر بـ {لَوْ} لأنه مفروض دل عليه قوله {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} {وَلا تَخُطُّهُ} . والتقدير: لو كنت تتلو قبله كتابا أو تخطه لارتاب المبطلون. ومجيء جواب {إِذْن} مقترنا باللام التي يغلب اقتران جواب {لَوْ} بها دليل على أن المقدر شرط بـ {لَوْ} كما في قول قريط العنبري:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا
إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قال المرزوقي في (شرح الحماسة) وفائدة (إذن) هو أنه أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل قال له: ولو استباحوا إبلك ماذا كان يفعل بنو مازن? فقال:
إذن لقام بنصري معشر خشن
ويجوز أن يكون أيضا: إذن لقام، جواب (لو) كأنه أجيب بجوابين. وهذا كما تقول: لو كنت حرا لاستقبحت ما يفعله العبيد إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار اهـ. يعني يجوز أن تكون جملة: إذن لقام، بدلا من جملة: لم تستبح. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} في {سورة المؤمنين: 91]. والارتياب: حصول الريب في النفس وهو الشك.
ووجه التلازم بين التلاوة والكتابة المتقدمين على نزول القرآن، وبين حصول الشك في نفوس المشركين أنه لو كان ذلك واقعا لاحتمل عندهم أن يكون القرآن من جنس ما كان يتلوه من قبل من كتب سالفة وأن يكون مما خطه من قبل من كلام تلقاه فقام اليوم بنشره ويدعو به. وإنما جعل ذلك موجب ريب دون أن يكون موجب جزم بالتكذيب لأن نظم القرآن وبلاغته وما احتوى عليه من المعاني يبطل أن يكون من نوع ما سبق من الكتب والقصص والخطب والشعر، ولكن ذلك لما كان مستدعيا تأملا لم يمنع من خطور خاطر الارتياب على الإجمال قبل إتمام النظر والتأمل بحيث يكون دوام الارتياب بهتانا ومكابرة.
(20/185)

وتقييد {تَخُطُّهُ} بقيد {بِيَمِينِكَ} للتأكيد لأن الخط لا يكون إلا باليمين فهو كقوله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]
ووصف المكذبين بالمبطلين منظور فيه لحالهم في الواقع لأنهم كذبوا مع انتفاء شبهة الكذب فكان تكذيبهم الآن باطلا، فهم مبطلون متوغلون في الباطل؛ فالقول في وصفهم بالمبطلين كالقول في وصفهم بالكافرين.
[49] {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}
{بل} إبطال لما اقتضاه الفرض من قوله {إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]، أي بل القرآن لا ريب يتطرقه في أنه من عند الله، فهو كله آيات دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من عند الله لما اشتمل عليه من الإعجاز في لفظه ومعناه ولما أيد ذلك الإعجاز من كون الآتي به أميا لم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخط، أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمراد من {صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} صدر النبي صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالجمع تعظيما له.
و {الْعِلْمَ} الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوة كقوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} ومعنى الآية أن كونه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم هو شأن كل ما ينزل من القرآن حين نزوله، فإذا أنزل فإنه يجوز أن يخطه الكاتبون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كتابا للوحي فكانوا ربما كتبوا الآية في حين نزولها كما دل عليه حديث زيد بن ثابت في قوله تعالى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] وكذلك يكون بعد نزوله متلوا، فالمنفي هو أن يكون متلوا قبل نزوله. هذا الذي يقتضيه سياق الإضراب عن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو كتابا قبل هذا القرآن بحيث يظن أن ما جاء به من القرآن مما كان يتلوه من قبل فلما انتفى ذلك ناسب أن يكشف عن حال تلقي القرآن، فذلك هو موقع قوله {صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} كما قال { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193-194] وقال {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].
وأما الإخبار بأنه آيات بينات فذلك تمهيد للغرض وإكمال لمقتضاه، ولهذا فالوجه أن يكون الجار والمجرور في قوله {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} خبرا ثانيا عن
(20/186)

الضمير. ويلتئم التقدير هكذا: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك بل هو ألقي في صدرك وهو آيات بينات. ويجوز أن يكون المراد بـ {صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحفاظ المسلمين، وهذا يقتضي أن يكون قوله {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} تتميما للثناء على القرآن وأن الغرض هو الإخبار عن القرآن بأنه آيات بينات فيكون المجرور صفة لـ {آيَاتٌ} ، والإبطال مقتصر على قوله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} .
وجملة {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} تذييل يؤذن بأن المشركين جحدوا آيات القرآن على ما هي عليه من وضوح الدلالة على أنها من عند الله لأنهم ظالمون لا إنصاف لهم وشأن الظالمين جحد الحق، يحملهم على جحده هوى نفوسهم للظلم، كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] فهم متوغلون في الظلم كما تقدم في وصفهم بالكافرين والمبطلين.
[50] {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
لما ذكر الجاحدين لآية القرآن ثلاث مرات ووصفهم بالكافرين والمبطلين والظالمين انتقل الكلام إلى مقالتهم الناشئة عن جحودهم، وذلك طلبهم أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بآيات مرئية خارقة للعادة تدل على أن الله خلقها تصديقا للرسول كما خلق ناقة صالح وعصا موسى. وهذا من خلافتهم أن لا يتأثروا إلا للأمور المشاهدة وهم يحسبون أن الرسول عليه الصلاة والسلام ينتصب للمعاندة معهم فيهم يقترحون عليه ما يرغبونه ليجعلوا ما يسألونه من الخوارق حديث النوادي حتى يكون محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم كمحضر المشعوذين وأصحاب الخنقطرات. وقد قدمت بيان هذا الوهم عند قوله تعالى {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} في [سورة الأنعام: 37].
ومعنى {عِنْدَ اللَّهِ} أنها من عمل القدرة الذي يجري على وفق إرادته تعالى فلكونها منوطة بإرادته شبهت بالشيء المحفوظ عند مالكه.
وأفادت {إِنَّمَا} قصر النبي عليه الصلاة والسلام على صفة النذارة، أي الرسالة لا يتجاوزها إلى خلق الآيات أو اقتراحها على ربه، فهو قصر إفراد ردا على زعمهم أن من حق الموصوف بالرسالة أن يأتي بالخوارق المشاهدة.
(20/187)

والمعنى: أنه لا يسلم أن التبليغ يحتاج إلى الإتيان بالخوارق على حسب رغبة الناس واقتراحهم حتى يكونوا معذورين في عدم تصديق الرسول إذا لم يأتهم بآية حسب اقتراحهم.
وخص بالذكر من أحوال الرسالة وصف النذير تعريضا بالمشركين بأن حالهم يقتضي الإنذار وهو توقع الشر.
والمبين: الموضح للإنذار بالدلائل العقلية الدالة على صدق ما يخبر به.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {آيَاتٌ} . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {آيَةٍ} . والجمع والإفراد في هذا سواء لأن القصد إلى الجنس، فالآية الواحدة كافية في التصديق.
[51] {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
عطف على جملة {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50] وهو ارتقاء في المجادلة.
والاستفهام تعجيبي إنكاري. والمعنى: وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية. ومقدار كل ثلاث آيات مقدار معجز، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله.
{والكتاب} القرآن. وعدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء.
وجملة {يتلى عليهم} مستأنفة أو حال، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع. واختير المضارع دون الوصف بأن يقال: متلو عليهم، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار، فحصل من مادة {يُتْلَى} ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة.
وقد أشار قوله {يُتْلَى عَلَيْهِمْ} وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات.
المزية الأولى: ما أشار إليه قوله {يُتْلَى عَلَيْهِمْ} من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدراك إعجازه فريق خاص في زمن
(20/188)

خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمه، فهو يتلى، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة.
المزية الثانية : كونه مما يتلى، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالا مرئية لأن إدراك المتلو إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزة القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية.
المزية الثالثة : ما أشار إليه قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً} فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وبـ {يُتْلَى عَلَيْهِمْ}، فالإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى {الْكِتَابَ} ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم. وتنكير {رَحْمَةً} للتعظيم، أي لا يقادر قدرها. فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم، فالقرآن مع كونه معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات هو أيضا وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها.
المزية الرابعة : ما أشار إليه قوله {وَذِكْرَى} فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال، وإعداد إلى الحياة الثانية، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خير الدارين، وبذلك فضل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقا.
المزية الخامسة : أن كون القران كتابا متلوا مستطاعا إدراك خصائصه لكل عربي، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أئمة العربية، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، فأشار قوله {يُعْرِضُوا} إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية.
وعلق بالرحمة والذكرى قوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن
(20/189)

زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها.
واستحضار المؤمنين بعنوان (قوم يؤمنون) دون أن يقال: للمؤمنين، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلما وعلوا، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال. وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها.
[52] {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
{ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
بعد أن ألقمهم حجر الحجة الدامغة أمر بأن يجعل الله حكما بينه وبينهم لما استمر تكذيبهم بعد الدلائل القاطعة.
وهذا من الكلام المنصف المقصود منه استدراج المخاطب.
و {كفى بالله} بمعنى هو كاف لي في إظهار الحق؛ والباء مزيدة للتوكيد. وقد تقدم نظيره في قوله {وكفى بالله شهيدا} في سورة النساء.
والشهيد: الشاهد. ولما ضمن معنى الحاكم عدي بظرف {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} قال الحارث بن حلزة في عمرو بن هند الملك:
وهو الرب والشهيد على يو ... م الحيارين والبلاء بلاء
وجملة {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مقررة لمعنى الاكتفاء به شهيدا فهي تتنزل منها منزلة التوكيد.
[52] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
بعد أن أنصفهم بقوله {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} استمر في الانتصاف بما لا يستطيعون إنكاره وهو أن الذين اعتقدوا الباطل وكفروا بالله هم الخاسرون في الحكومة والقضية الموكولة إلى الله تعالى؛ فهم إن تأملوا في إيمانهم بالله حق التأمل وجدوا أنفسهم غير مؤمنين بإلهيته لأنهم أشركوا معه ما ليس حقيقا بالإلهية فعلموا أنهم كفروا بالله فتعين
(20/190)

أنهم آمنوا بالباطل فالكلام موجه كقوله {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، وقول حسان في أبي سفيان بن حرب أيام جاهليته:
أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
وفي الجمع بين {آمَنُوا} {وَكَفَرُوا} محسن المضادة وهو الطباق.
والباطل: ضد الحق، أي ما ليس بحقيق أن يؤمن به، أي ما ليس بإله حق ولكنهم يدعون له الإلهية وذلك إيمانهم بإلهية الأصنام. وأما كفرهم بالله فلأنهم أشركوا معه في الإلهية فكفروا بأعظم صفاته وهي الوحدانية. واسم الإشارة يفيد التنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف التي ذكرت لهم قبل اسم الإشارة، مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
والقصر المستفاد من تعريف جزأي جملة {هُمُ الْخَاسِرُونَ} قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران العظيم بحيث إن كل خسران في جانب خسرانهم كالعدم؛ فكأنهم انفردوا بالخسران فأطلق عليهم المركب المفيد قصر الخسران عليهم وذلك لأنهم حقت عليهم الشقاوة العظمى الأبدية. واستعير الخسران لانعكاس المأمول من العمل المكد تشبيها بحال من كد في التجارة لينال مالا فأفنى رأس ماله، وقد تقدم عند قوله تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16].
[53-55] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
عطف على جملة {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت: 50] استقصاء في الرد على شبهاتهم وإبطالا لتعلات إعراضهم الناشئ عن المكابرة، وهم يخيلون أنهم إنما أعرضوا لعدم اقتناعهم بآية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومناسبة وقوعه هنا أنه لما ذكر كفرهم بالله وكان النبي عليه الصلاة والسلام ينذرهم على ذلك بالعذاب وكانوا يستعجلونه به ذكر توركهم عليه عقب ذكر الكفر. واستعجال العذاب: طلب تعجيله وهو العذاب الذي توعدوا به. وقصدهم من ذلك الاستخفاف بالوعيد. وتقدم الكلام على تركيب {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} في قوله تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} في [سورة يونس: 11]، وقوله {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ
(20/191)

قَبْلَ الْحَسَنَةِ} في [سورة الرعد: 6]. والتعريف في (العذاب) تعريف الجنس. وحكي استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجيب منها كما في قوله تعالى {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} .
وقد أبطل ما قصدوه بقوله {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} وذلك أن حلول العذاب ليس بيد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا جاريا على طلبهم واستبطائهم فإن الله هو المقدر لوقت حلوله بهم في أجل قدره بعلمه.
والمسمى أريد به المعين المحدود أي في علم الله تعالى. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} في [سورة الحج: 5].
والمعنى: لولا الأجل المعين لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلا لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ولكن أراد الله تأخيره لحكم علمها، منها إمهالهم ليؤمن منهم من آمن بعد الوعيد، وليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم العذاب لأنه حكيم لا يخالف ما قدره بحكمته، حليم يمهل عباده. فالمعنى: لولا أجل مسمى لجاءهم العذاب في وقت طلبهم تعجيله، ثم أنذرهم بأنه بغتة وأن إتيانه محقق لما دل عليه لام ا لقسم ونون التوكيد وذلك عند حلول الأجل المقدر له. وقد حل بهم عذاب يوم بدر بغتة كما قال تعالى {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} فاستأصل صناديدهم يومئذ وسقط في أيديهم.
وإذ قد كان الله أعد لهم عذابا أعظم من عذاب يوم بدر وهو عذاب جهنم الذي يعم جميعهم أعقب إنذارهم بعذاب يوم بدر بإنذارهم بالعذاب الأعظم. وأعيد لأجله ذكر استعجالهم بالعذاب معترضا بين المتعاطفين إيماء إلى أن ذلك جواب استعجالهم فإنهم استعجلوا العذاب فأنذروا بعذابين، أحدهما أعجل من الآخر. وفي إعادة { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} تهديد وإنذار بأخذهم، فجملة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ} معطوفة على جملة {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} فهما عذابان كما هو مقتضى ظاهر العطف.
والإحاطة كناية عن عدم إفلاتهم منها.
والمراد بالكافرين المستعجلون. واستحضروا بوصف الكافرين للدلالة على أنه موجب إحاطة العذاب بهم. واستعمل اسم الفاعل في الإحاطة المستقبلة مع أن شأن اسم الفاعل أن يفيد الاتصاف في زمن الحال، تنزيلا للمستقبل منزلة زمان الحال تنبيها على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في إخباره.
(20/192)

ويتعلق {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} بـ(محيطة)، أي تحيط بهم يوم يغشاهم العذاب. وفي قوله {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} تصوير للإحاطة. والغشيان: التغطية والحجب.
وقوله {مِنْ فَوْقِهِمْ } بيان للغشيان لتصويره تفظيعا لحاله كقوله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وتأكيدا لمعنى الغشيان لرفع احتمال المجاز، فهو في موضع الحال من {الْعَذَابِ} وهي حال مؤكدة.
وقوله {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} احتراس عما قد يوهمه الغشيان من الفوقية خاصة، أي تصيبهم نار من تحتهم تتوهج إليهم وهم فوقها، ولما كان معطوفا على الحال بالواو وكان غير صالح لأن يكون قيدا لـ {يَغْشَاهُمُ} لأن الغشيان هو التغطية فتقتضي العلو تعين تقدير فعل يتعلق به {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} ، وهو أن يقدر عامل محذوف. وقد عد هذا العمل من خصائص الواو في العطف أن تعطف عاملا محذوفا دل عليه معموله- كقول عبد الله بن الزبعرى:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
يريد: وممسكا رمحا لأن الرمح لا يتقلد يصلح أن يكون مفعولا معه وأبو عبيدة والأصمعي والجرمي واليزيدي، ومن وافقهم يجعلون هذا من قيبل تضمين الفعل معنى فعل صالح للتعلق بالمذكور فيقدر في هذه الآية تضمين فعل {يَغْشَاهُمُ} معنى يصيبهم أو يأخذهم . والمقصود من هذا الكناية عن أن العذاب محيط بهم، فلذلك لم يذكر الجانبان الأيمن والأيسر لأن الغرض من الكناية قد حصل. والمقام مقام إيجاز لأنه مقام غضب وتهديد بخلاف قوله تعالى {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] لأنه حكاية لإلحاح الشيطان في الوسوسة.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي {وَيَقُولُ} بالياء التحتية والضمير عائد إلى معلوم من المقام. فالتقدير: ويقول الله. وعدل عن ضمير التكلم على خلاف مقتضى الظاهر على طريقة الالتفات على رأي كثير من أئمة البلاغة، أو يقدر: ويقول الملك الموكل بجهنم، أو التقدير: ويقول العذاب، بأن يجعل الله للنار أصواتا كأنها قول القائل: ذوقوا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالنون وهي نون العظمة.
ومعنى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} جزاؤه لأن الجزاء لما كان بقدر المجزي أطلق عليه
(20/193)

اسمه مجازا مرسلا أو مجازا بالحذف.
[56] {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}
استئناف ابتدائي وقع اعتراضا بين الجملتين المتعاطفتين: جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وجملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [العنكبوت: 58] الآية. وهذا أمر بالهجرة من دار الكفر. ومناسبته لما قبله أن الله لما ذكر عناد المشركين في تصديق القرآن وذكر إيمان أهل الكتاب به آذن المؤمنين من أهل مكة أن يخرجوا من دار المكذبين إلى دار الذين يصدقون بالقرآن وهم أهل المدينة فإنهم يومئذ ما بين مسلمين وبين يهود فيكون المؤمنون في جوارهم آمنين من الفتن يعبدون ربهم غير مفتونين. وقد كان فريق من أهل مكة مستضعفين قد آمنوا بقلوبهم ولم يستطيعوا إظهار إيمانهم خوفا من المشركين مثل الحارث بن ربيعة بن الأسود كما تقدم عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في أول هذه السورة، وكان لهم العذر حين كانوا لا يجدون ملجأ سالما من أهل الشرك، وكان فريق من المسلمين استطاعوا الهجرة إلى الحبشة من قبل، فلما أسلم أهل المدينة زال عذر المؤمنين المستضعفين إذ أصبح في استطاعتهم أن يهاجروا إلى المدينة فلذلك قال الله تعالى {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . فقوله {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} كلام مستعمل مجازا مركبا في التذكير بأن في الأرض بلادا يستطيع المسلم أن يقطنها آمنا، فهو كقول إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر الأرض رحب فسيحة
فهل تعجزني بقعة من بقاعها
ألا تراه كيف فرع على كونها رحبا قوله: فهل تعجزني بقعة. وكذلك في الآية فرع على كونها واسعة الأمر بعبادة الله وحده للخروج مما كان يفتن به المستضعفون من المؤمنين إذ يكرهون على عبادة الأصنام كما تقدم في قوله تعالى {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106].
فالمعنى: أن أرضي التي تأمنون فيها من أهل الشرك واسعة، وهي المدينة والقرى المجاورة لها مثل خيبر والنضير وقريظة وقينقاع، وما صارت كلها مأمنا إلا بعد أن أسلم أهل المدينة لأن تلك القرى أحلاف لأهل المدينة من الأوس والخزرج.
وأشعر قوله {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أن علة الأمر لهم بالهجرة هي تمكينهم من إظهار
(20/194)

التوحيد وإقامة الدين. وهذا هو المعيار في وجوب الهجرة من البلد الذي يفتن فيه المسلم في دينه وتجري عليه فيه أحكام غير إسلامية. والنداء بعنوان التعريف بالإضافة لتشريف المضاف. ومصطلح القرآن أن (عباد) إذا أضيف إلى ضمير الجلالة فالمراد بهم المؤمنون غالبا إلا إذا قامت قرينة كقوله {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان: 17]، وعليه فلا وصف بـ {الَّذِينَ آمَنُوا} لما في الموصول من الدلالة على أنهم آمنوا بالله حقا ولكنهم فتنوا إلى حد الإكراه على إظهار الكفر.
والفاء في قوله {فَإِيَّايَ} فاء التفريع والفاء في قوله {فَاعْبُدُونِ} إما مؤكدة للفاء الأولى للدلالة على تحقيق التفريع في الفعل وفي معموله، أي فلا تعبدوا غيري فاعبدون؛ وإما مؤذنة بمحذوف هو ناصب ضمير المتكلم تأكيدا للعبادة. والتقدير: وإياي اعبدوا فاعبدون. وهو أنسب بدلالة التقديم على الاختصاص لأنه لما أفاد الأمر بتخصيصه بالعبادة كان ذكر الفاء علامة تقدير على تقدير فعل محذوف قصد من تقديره التأكيد، وقد تقدم في قوله تعالى {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} في أوائل [سورة البقرة: 40].
وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفا، وللرعاية على الفاصلة. ونظائره كثيرة.
[57] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
اعتراض ثان بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها تأكيد الوعيد الذي تضمنته جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} إلى آخرها والوعد الذي تضمنته جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} أي الموت مدرك جميع الأنفس ثم يرجعون إلى الله. وقصد منها أيضا تهوين ما يلاقيه المؤمنون من الأذى في الله ولو بلغ إلى الموت بالنسبة لما يترقبهم من فضل الله وثوابه الخالد، وفيه إيذان بأنهم يترقبهم جهاد في سبيل الله.
وقرأ الجمهور {تُرْجَعُونَ} بتاء الخطاب على أنه خطاب للمؤمنين في قوله {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} . وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة تبعا لقوله {يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} .
[58-59] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
(20/195)

عطف على جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} .
وجيء بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر، أي نبوئهم غرفا لأجل إيمانهم وعملهم الصالح.
والتبوئة: الإنزال والإسكان، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} في [سورة يونس: 93]. وقرأ الجمهور {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} بموحدة بعد نون العظمة وهمزة بعد الواو. وقرأ حمزة والكسائي وخلف {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} بمثلثة بعد النون وتحتية بعد الواو من أثواه بهمزة التعدية إذا جعله ثاويا، أي مقيما في مكان.
والغرف: جمع غرفة وهو البيت المعتلى على غيره. وتقدم عند قوله تعالى {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} في آخر [سورة الفرقان: 75].
وجملة {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الخ إنشاء ثناه وتعجيب على الأجر الذي أعطوه، فلذلك قطعت عن العطف. وقوله {الَّذِينَ صَبَرُوا} خبر مبتدأ محذوف اتباعا للاستعمال، والتقدير: هم الذين صبروا. والمراد: صبرهم على إقامة الدين وتحمل أذى المشركين، وقد علموا أنهم لاقوه فتوكلوا على ربهم ولم يعبأوا بقطيعة قومهم ولا بحرمانهم من أموالهم ثم فارقوا أوطانهم فرارا بدينهم من الفتن.
ومن اللطائف مقابلة غشيان العذاب الكفار من فوقهم ومن تحت أرجلهم بغشيان النعيم المؤمنين من فوقهم بالغرف ومن تحتهم بالأنهار.
وتقديم المجرور على متعلقه من قوله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} للاهتمام. وتقدم معنى التوكل عند قوله تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في [سورة آل عمران: 159].
[60] {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
عطف على جملة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57] فإن الله لما هون بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أنهم يقولون في أنفسهم: إنا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة. واستخفاف العرب بالموت سجية كما أن خشية المعرة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، فأعقب ذلك بأن ذكرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم. وضرب لهم
(20/196)

المثل برزق الدواب، وللمناسبة في قوله تعالى {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقا في البلاد التي يهاجرون إليها، وهو أيضا مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 59]، وفي الحديث لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون؛ ضمن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله. وتوكلهم هو حق التوكل، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم.
وتقدم الكلام على {كَأَيِّنْ} عند قوله تعالى {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في [سورة آل عمران: 146].
وقوله {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} خبر غير مقصود منه إفادة الحكم بل هو مستعمل مجازا مركبا في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين. وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدواب الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها، وهي السوائم الوحشية، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} ولذلك عطف {وَإِيَّاكُمْ} على ضمير {دَابَّةٍ} . والمقصود: التمثيل في التيسير والإلهام للأسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرزق مختلفة.
والحمل في قوله {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} يجوز أن يكون مستعملا في حقيقته، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض: ويجوز أن يستعمل مجازا في التكلف له، مثل قول جرير:
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له
أي لا تتكلف لرزقها. وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفارة، قيل وبعض الطير كالعقعق.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {اللَّهُ يَرْزُقُهَا} دون أن يقول: يرزقها الله، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص، أي الله يرزقها لا غيره، فلماذا تعبدون أصناما ليس بيدها رزق.
وجملة {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} عطف على جملة {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} . فالمعنى:
(20/197)

الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق.
[61] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} هذا الكلام عائد إلى قوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] تعجيبا من نقائض كفرهم، أي هم كفروا بالله وإن سألهم سائل عمن خلق السماوات والأرض يعترفوا بأن هو خالق ذلك ولا يثبتون لأصنامهم شيئا من الخلق فكيف يلتقي هذا مع ادعائهم الإلهية لأصنامهم. ولذلك قال الله {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصرفون عن توحيد الله وعن إبطال إشراكهم به ما لا يخلق شيئا.
وهذا الإلزام مبني على أنهم لا يستطيعون إذا سئلوا إلا الاعتراف لأنه كذلك في الواقع ولأن القرآن يتلى عليهم كلما نزل منه شيء يتعلق بهم ويتلوه المسلمون على مسامعهم فلو استطاعوا إنكار ما نسب إليهم لصدعوا به.
وضمير جمع الغائبين عائد إلى الذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله واستعجلوا بالعذاب بقرينة قوله {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . والاستفهام في قوله {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} إنكار وتعجيب. وتخصيص تسخير الشمس والقمر بالذكر من بين مظاهر خلق السماوات والأرض لما في حركتهما من دلالة على عظيم القدرة، مع ما في ذلك من المنة على الناس إذ ناط بحركتهما أوقات الليل والنهار وضبط الشهور والفصول.
وتسخير الشيء: إلجاؤه لعمل شديد. وأحسب أنه حقيقة سواء كان المسخر بالفتح ذا إرادة أم كان جمادا. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} في [سورة الأعراف: 54].
[62] {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
هذا إلزام آخر لهم بإبطال شركهم وافتضاح تناقضهم فإنهم كانوا معترفين بأن الرازق هو الله تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} في [سورة يونس: 31]. وإنما جاء أسلوب هذا الاستدلال
(20/198)

مخالفا لأسلوب الذي قبله والذي بعده فعدل عن تركيب {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [العنكبوت: 61] تفننا في الأساليب لتجديد نشاط السامع.
وأدمج في الاستدلال على انفراده تعالى بالرزق التذكير بأنه تعالى يرزق عباده على حسب مشيئته دليلا على أنه المختار في تصرفه وليس ذلك على مقادير حاجاتهم ولا على ما يبدو من الانتفاع بما يرزقونه.
وبسط الرزق: إكثاره، وقدره: تقليله. والمقصود: أنه الرازق لأحوال الرزق، وقد تقدم في قوله تعالى {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} في [سورة الرعد: 26]. فجاءت هذه الآية على وزان قوله في [سورة الروم: 37] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فجمع بين ضمير المشركين في أولها وبين كون الآيات للمؤمنين في آخرها.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يبسط الرزق ويقدر. والتعبير بالمضارع لإفادة تجدد البسط والقدر. وزيادة {له} بعد {وَيَقْدِرُ} في هذه الآية دون آية سورة الرعد وآية القصص للتعريض بتبصير المؤمنين الذين ابتلوا في أموالهم من اعتداء المشركين عليها كما أشار إليه قوله آنفا {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60] بأن ذلك القدر في الرزق هو لهم لا عليهم لما ينجر لهم منه من الثواب ورفع الدرجات، فغلب في هذا الغرض جانب المؤمنين ولهذا لم يعد {يَقْدِرُ} بحرف (على) كما هو مقتضى معنى القدر كما في قوله تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. وقال بعض المفسرين: إن المشركين عبروا المسلمين بالفقر، وقيل: إن بعض المسلمين قالوا إن هاجرنا لم نجد ما ننفق.
والضمير المجرور باللام عائد إلى (من يشاء من عباده) باعتبار أن (من يشاء) عام ليس بشخص معين لا سيما وقد بين عمومه بقوله {مِنْ عِبَادِهِ} . والمعنى: أنه يبسط الرزق لفريق ويقدر لفريق.
والتذييل بقوله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يطلع عليها الناس، وإن الله يعلم صبر الصابرين وجزع الجازعين كما تقدم في قوله في أول السورة {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] قال تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
(20/199)

أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
[63] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
أعيد أسلوب السؤال والجواب ليتصل ربط الأدلة بعضها ببعض على قرب. فقد كان المشركون لا يدعون أن الأصنام تنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم.
وأدمج في الاستدلال عليهم بانفراده تعالى بإنزال المطر أن الله أحيا به الأرض بعد موتها وإن كان أكثر المشركين ينسبون المسببات إلى أسبابها العادية كما تبين في بحث الحقيقة والمجاز العقليين في قولهم: أنبت الربيع البقل، أنه حقيقة عقلية في كلام أهل الشرك لأنهم مع ذلك لا ينسبون الإنبات إلى أصنامهم، وقد اعترفوا بأن سبب الإنبات وهو المطر منزل من عند الله فيلزمهم أن الإنبات من الله على كل تقدير.
وفي هذا الإدماج استدلال تقريبي لإثبات البعث كما قال {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] وقال {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19].
ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضيا للتأكيد بزيادة {مِنَ} في قوله {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم فلذلك لم يكن مقتض لزيادة (من) في آية البقرة، وفي آية [الجاثية: 5] {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} .
وقد أشار قوله {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} إلى موت الأرض، أي موت نباتها يكون بإمساك المطر عنها في فصول الجفاف أو في سنين الجدب لأنه قابله بكون إنزال المطر لإرادته إحياء الأرض بقوله {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} ، فلا جرم أن يكون موتها بتقدير الله للعلم بأن موت الأرض كان بعد حياة سبقت من نوع هذه الحياة، فصارت الآية دالة على أنه المتصرف بإحياء الأرض وإماتتها، ويعلم منه أن محيي الحيوان ومميته بطريقة لحن الخطاب. فانتظم من هذه الآيات المفتتحة بقوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [العنكبوت: 61] إلى هنا أصول صفات أفعال الله تعالى، وهي: الخلق، والرزق،
(20/200)

والإحياء، والإماتة، من أجل ذلك عقبت بأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بان يحمده بكلام يدل على تخصيصه بالحمد.
[63] {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}
لما اتضحت الحجة على المشركين بأن الله منفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ولزم من ذلك أن ليس لأصنامهم شرك في هذه الأفعال التي هي أصول نظام ما على الأرض من الموجودات فكان ذلك موجبا لإبطال شركهم بما لا يستطيعون إنكاره ولا تأويله بعد أن قرعت أسماعهم دلائله وهم واجمون لا يبدون تكذيبا فلزم من ذلك صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما دعاهم إليه. وكذبهم فيما تطاولوا به عليه في أمر الله ورسوله بأن يحمده على أن نصره بالحجة نصرا يؤذن بأنه سينصره بالقوة. وتلك نعمة عظيمة تستحق أن يحمد الله عليها إذ هو الذي لقنها رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابه وما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان.
فهذا الحمد المأمور به متعلقه محذوف تقديره: الحمد لله على ذلك. وهو الحجج المتقدمة، وليس خاصا بحجة إنزال الماء من السماء، وكذلك شأن القيود الواردة بعد جمل متعددة أن ترجع إلى جميعها، وكذلك ترجع معها متعلقاتها بكسر اللام وقرينة المقام كنار على علم، ألا ترى أن كل حجة من تلك الحجج تستأهل أن يحمد الله على إقامتها فلا تختص بالحمد حجة إنزال المطر فقد قال تعالى في [سورة لقمان: 25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فلذلك لا يجعل قوله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} اعتراضا.
و {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إضراب انتقال من حمد الله على وضوح الحجج إلى ذم المشركين بأن أكثرهم لا يتفطنون لنهوض تلك الحجج الواضحة فكأنهم لا عقل لهم لأن وضوح الحجج يقتضي أن يفطن لنتائجها كل ذي مسكة من عقل فنزلوا منزلة من لا عقول لهم.
وإنما أسند عدم العقل إلى أكثرهم دون جميعهم لأن من عقلائهم وأهل الفطن منهم من وضحت له تلك الحجج فمنهم من آمنوا، ومنهم من أصروا على الكفر عنادا.
[64] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
هذا الكلام مبلغ إلى الفريقين اللذين تضمنهما قوله تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}
(20/201)

[العنكبوت: 63] فإن عقلاءهم آثروا باطل الدنيا على الحق الذي وضح لهم، ودهماءهم لم يشعروا بغير أمور الدنيا، وجميعهم أنكروا البعث فأعقب الله ما أوضحه لهم من الدلائل بأن نبههم على أن الحياة الدنيا كالخيال وأن الحياة الثانية هي الحياة الحق والمراد بالحياة ما تشتمل عليه من الأحوال وذلك يسري إلى الحياة نفسها.
واللهو: ما يلهو به الناس، أي يشتغلون به عن الأمور المكدرة أو يعمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال.
واللعب: ما يقصد به الهزل والانبساط. وتقدم تفسير اللعب واللهو ووجه حصر الحياة الدنيا فيهما عند قوله تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} في [سورة الأنعام: 32].
والحصر: ادعائي كما تقدم. وقد زادت هذه الآية بتوجيه اسم الإشارة إلى الحياة وهي إشارة تحقير وقلة اكتراث، كقول قيس بن الخطيم مشيرا إلى الموت:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
ولم توجه الإشارة إلى الحياة في سورة الأنعام. ووجه ذلك أن هذه الآية لم يتقدم فيها ما يقتضي تحقير الحياة فجيء باسم الإشارة لإفادة تحقيرها، وأما آية سورة الأنعام فتقدم قوله {إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31] فذكر لهم في تلك الآية ما سيظهر لهم إذا جاءتهم الساعة من ذهاب حياتهم الدنيا سدى.
وأما تقديم ذكر اللهو هنا وذكر اللعب في سورة الأنعام فلأن آية سورة الأنعام لم تشتمل على اسم إشارة يقصد منه تحقير الحياة الدنيا فكان الابتداء بأنها لعب مشيرا إلى تحقيرها لأن اللعب أعرق في قلة الجدوى من اللهو.
ولما أشير في هذه الآية إلى الحياة الآخرة في قوله {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} [العنكبوت: 63] زاده تصريحا بأن الحياة الآخرة هي الحياة الحق فصيغ لها وزن الفعلان الذي هو صيغة تنبئ عن معنى التحرك توضيحا لمعنى كمال الحياة بقدر المتعارف، فإن التحرك والاضطراب أمارة على قوة الحيوية في الشيء مثل الغليان واللهبان. وهم قد جهلوا الحياة الآخرة من أصلها فلذلك قال {لو كانوا يعلمون} . وجواب {لو} محذوف دليله ما تقدم، أو هو الجواب مقدما.
[65-66] { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
(20/202)

أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها، والمفرع عليه محذوف ليس هو واحدا من الأخبار المتقدمة بخصوصه ولكنه مجموع ما تدل عليه قوة الحديث عنهم وما تقتضيه الفاء. والتقدير: هم أي المشركون على ما وصفوا به من الغفلة عن دلائل الوحدانية وإلغائهم ما في أحوالهم من دلائل الاعتراف لله بها لا يضرعون إلا إلى الله فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله، فضمائر جمع الغائبين عائدة إلى المشركين.
وهذا انتقال إلى إلزامهم بما يقتضيه دعاؤهم حين لا يشركون فيه إلها آخر مع الله بعد إلزامهم بموجبات اعترافاتهم فإنهم يدعون أصنامهم في شؤون من أحوالهم ويستنصرونهم ولكنهم إذا أصابهم هول توجهوا بتضرعهم إلى الله.
وإنما خص بالذكر حال خوفهم من هول البحر في هذه الآية وفي آيات كثيرة مثل ما في سورة يونس وما في سورة الإسراء لأن أسفارهم في البر كانوا لا يعتريهم فيها خوف يعم جميع السفر لأنهم كانوا يسافرون قوافل، معهم سلاحهم، ويمرون بسبل يألفونها فلا يعترضهم خوف عام، فأما سفرهم في البحر فإنهم يفرقون من هوله ولا يدفعه عنهم وفرة عدد ولا قوة عدد، فهم يضرعون إلى الله بطلب النجاة ولعلهم لا يدعون أصنامهم حينئذ.
فأما تسخير المخلوقات فما كانوا يطمعون به إلا من الله تعالى، وأيضا كان يخامرهم الخوف عند ركوبهم في البحر لقلة إلفهم بركوبه إذ كان معظم أسفارهم في البراري.
وقد تقدم تعدية الركوب بحرف (في) عند قوله {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} في [سورة هود: 41]. والإخلاص: التمحيض والإفراد.
والدين: المعاملة. والمراد به هنا الدعاء، أي دعوا الله غير مشركين معه أصنامهم. ويفسر ذلك قوله {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
فجيء بحرف المفاجأة للدلالة على أنهم ابتدروا إلى الإشراك في حين حصولهم في البر، أي أسرعوا إلى ما اعتادوه من زيارة أصنامهم والذبح لها. والمفاجأة عرفية بحسب ما يقتضيه الإرساء في البر والوصول إلى مواطنهم فكانوا يبادرون بإطعام الطعام عند الرجوع من السفر.
واللام في {لِيَكْفُرُوا} لام التعليل وهي لام كي وهي متعلقة بفعل {يُشْرِكُونَ} . والكفر هنا ليس هو الشرك ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله {بِمَا آتَيْنَاهُمْ} فإن الإيتاء بمعنى الإنعام وبقرينة تفريعه على {يُشْرِكُونَ} فالعلة مغايرة للمعلول وكفران النعمة مسبب عن
(20/203)

الإشراك لأنهم لما بادروا إلى شؤون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة، فاللام استعارة تبعية؛ شبه المسبب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضا عن فاء التفريع.
وأما اللام في قوله {وَلِيَتَمَتَّعُوا} بكسر اللام على أنها لام التعليل في قراءة ورش عن نافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب. وقرأه قالون عن نافع وابن كثير، وحمزة والكسائي، وخلف بسكونها فهي لام الأمر، وهي بعد حرف العطف تسكن وتكسر، وعليه فالأمر مستعمل في التهديد نظير قوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وهو عطف جملة التهديد على جملة {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} الخ... نظير قوله في [سورة الروم: 34] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
والتمتع: الانتفاع القصير زمنه.
وجملة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تفريع على التهديد بالوعيد.
[67] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}
هذا تذكير خاص لأهل مكة وإنما خصوا من بين المشركين من العرب لأن أهل مكة قدوة لجميع القبائل؛ ألا ترى أن أكثر قبائل العرب كانوا ينتظرون ماذا يكون من أهل مكة فلما أسلم أهل مكة يوم الفتح أقبلت وفود القبائل معلنة إسلامهم.
والجملة معطوفة على جملة {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ} باعتبار ما اشتملت عليه تلك الجملة من تقريعهم على كفران نعم الله تعالى، ولذلك عقبت هذه الجملة بقوله {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} .
والاستفهام إنكاري، وجعلت نعمة أمن بلدهم كالشيء المشاهد فأنكر عليهم عدم رؤيته، فقوله {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} مفعول {يَرَوْا} .
ومعنى هذه الآية يعلم مما تقدم عند الكلام على قوله تعالى { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} في [سورة القصص: 57] وقد كان أهل مكة في بحبوحة من الأمن وكان غيرهم من القبائل حول مكة وما بعد منها يغزو بعضهم بعضا ويتغاورون ويتناهبون، وأهل مكة آمنون لا يعدو عليهم أحد مع قلتهم، فذكرهم الله هذه النعمة عليهم.
(20/204)

والباطل: هو الشرك كما تقدم عند قوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} في هذه السورة [العنكبوت:52] و(نعمة الله) المراد بها الجنس الذي منه إنجاؤهم من الغرق وما عداه من النعم المحسوسة المعروفة، ومن النعم الخفية التي لو تأملوا لأدركوا عظمها، ومنها نعمة الرسالة المحمدية. والمضارع في المواضع الثلاثة دال على تجدد الفعل.
[68] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ}
لما أوفاهم ما يستأهلونه من تشنيع أحوالهم وسوء انتظام شؤونهم جاء في عقبه بتذييل يجمعها في أنها افتراء على الله وتكذيب بالحق، ثم جزاهم الجزاء الأوفى اللائق بحالهم وهو أن النار مثواهم.
وافتتح تشخيص حالهم بالاستفهام عن وجود فريق هم أظلم من هؤلاء الذين افتروا على الله وكذبوا بالحق توجيها لأذهان السامعين نحو البحث هل يجدون أظلم منهم حتى إذا أجادوا التأمل واستقروا مظان الظلمة واستعرضوا أصنافهم تيقنوا أن ليس ثمة ظلم أشد من ظلم هؤلاء.
وإنما كانوا أشد الظالمين ظلما لأن الظلم الاعتداء على أحد بمنعه من حقه وأشد من المنع أن يمنعه مستحقه ويعطيه من لا يستحقه، وأن يلصق بأحد ما هو بريء منه. ثم إن الاستحقاق وعدمه قد يثبتان بحكم العوائد وقد يثبتان بأحكام الشرائع وقد يثبتان بقضايا العقول السليمة وهو أعلى مراتب الثبوت ومدار أمور أهل الشرك على الافتراء على الله بأن سلبوا عنه ما هو متصف به من صفات الإلهية الثابتة بدلالة العقول، وأثبتوا له ما هو منزه عنه من الصفات والأفعال بدلالة العقول، وعلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونكران دلالة المعجزة التي يقتضيها العقل، وعلى رمي الرسول عليه الصلاة والسلام بما هو بريء منه بشهادة العقل والعادة التي عرفوها منه بهتانا وكذبا، فكانوا بمجموع الأمرين وضعوا أشياء في مواضع لا يمكن أن تكون مواضعها فكانوا أظلم الناس لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول.
وتقييد الافتراء بالحال المؤكدة في قوله {كَذِباً} لزيادة تفظيع الافتراء لأن اسم الكذب مشتهر القبح في عرف الناس، وإنما اختير الافتراء للدلالة على أنهم يتعمدون الاختلاق تعمدا لا تخالطه شبهة.
وتقييد تكذيبهم بالحق بقوله {لَمَّا جَاءَهُ} لإدماج ذم المكذبين بنكران نعمة إرسال الحق إليهم التي لم يقدروها قدرها، وكان شأن العقلاء أن
(20/205)

يتطلبوا الحق ويرحلوا في طلبه، وهؤلاء جاءهم الحق بين أيديهم فكذبوا به.
وأيضا فإن {لَمَّا} التوقيتية تؤذن بأن تكذيبهم حصل بدارا عند مجيء الحق، أي دون أن يتركوا لأنفسهم مهلة النظر.
وجملة {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} بيان لجملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} وتقرير لها لأن في جملة {ومن أظلم ممن افترى على الله} إلى آخرها إيذانا إجماليا بجزاء فظيع يترقبهم، فكان بيانه بمضمون جملة {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} ، وهو بألفاظه ونظمه يفيد تمكنهم من عذاب جهنم إذ جعلت مثواهم. فالمثوى: مكان الثواء. والثواء: الإقامة الطويلة والسكنى. وعلق ذلك بعنوان الكافرين للتنبيه على استحقاقهم ذلك لأجل كفرهم.
والتعريف في {الكافرين} تعريف العهد، أي لهؤلاء الكافرين وهم الذين ذكروا من قبل بأنهم افتروا على الله كذبا وكذبوا بالحق، فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لإحضارهم بوصف الكفر.
والهمزة في {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ} للاستفهام التقريري، وأصلها: إما الإنكار بتنزيل المقر منزلة المنكر ليكون إقراره أشد لزوما له، وإما أن تكون للاستفهام فلما دخلت على النفي أفادت التقرير لأن إنكار النفي إثبات للمنفي وهو إثبات مستعمل في التقرير على وجه الكناية. وهذا التقرير بالهمزة هو غالب استعمال الاستفهام مع النفي، ومنه قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
فإنه لا يحتمل غير معنى التقرير بشهادة الذوق ولياقة مقام مدح الخليفة. وهذا تقرير لمن يسمع هذا الكلام. جعل كون جهنم مثواهم أمرا مسلما معروفا بحيث يقر به كل من يسأل عنه كناية عن تحقق المغبة على طريقة إيماء الكناية.
[69] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}
ختم توبيخ المشركين وذمهم بالتنويه بالمؤمنين إظهارا لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظا وتحقيرا. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرف بلام العهد. وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة
(20/206)

{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال كما علمت من قبل. وجيء بالموصول للإيماء إلى أن الصلة سبب الخبر. ومعنى {جَاهَدُوا فِينَا} جاهدوا في مرضاتنا، والدين الذي اخترناه لهم. والظرفية مجازية، يقال: هي ظرفية تعليل تفيد مبالغة في التعليل.
والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، أي لنزيدنهم هدى، وسبل الله: الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه؛ شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف.
والمراد بـ {الْمُحْسِنِينَ} جميع الذين كانوا محسنين، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عام. وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين. وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل: فأولئك المحسنون لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريرا للمعاني ولذلك جاء في تعليم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قوله " كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" .
والمعية: هنا مجاز في العناية والاهتمام بهم.
والجملة في معنى التذييل بما فيها من معنى العموم. وإنما جيء بها معطوفة للدلالة على أن المهم من سوقها هو ما تضمنته من أحوال المؤمنين، فعطفت على حالتهم الأخرى وأفادت التذييل بعموم حكمها.
وفي قوله {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} إيماء إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة.
(20/207)

المجلد الحادي والعشرون
سورة الروم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الروم
هذه السورة تسمى سورة الروم في عهد النبيء صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما في حديث الترمذي عن ابن عباس ونيار بن مكرم الأسلمي، وسيأتي قريبا في تفسير الآية الأولى من السورة.
ووجه ذلك أنه ورد فيها ذكر اسم الروم ولم يرد في غيرها من القرآن.
وهي مكية كلها بالاتفاق، حكاه ابن عطية والقرطبي، ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في السور المختلف في مكيتها ولا في بعض آيها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: أن هذه السورة نزلت يوم بدر فتكون عنده مدنية. قال أبو سعيد: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين وفرحوا بذلك فنزلت {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 1- 5] وكان يقرؤها {غُلِبَتِ} بفتح اللام، وهذا قول لم يتابعه أحد، وأنه قرأ {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] بالبناء للنائب، ونسب مثل هذه القراءة إلى علي وابن عباس وابن عمر. وتأولها أبو السعود في "تفسيره" آخذاً من "الكشاف" بأنها إشارة إلى غلب المسلمين على الروم. قال أبو السعود: وغلبهم المسلمون في غزوة مؤتة سنة تسع. وعن ابن عباس كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان. وعن الحسن البصري أن قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] الآية مدنية بناء على أن تلك الآية تشير إلى الصلوات الخمس وهو يرى أن الصلوات الخمس فرضت بالمدينة وأن الذي كان فرضا قبل الهجرة هو ركعتان في أي وقت تيسر للمسلم. وهذا مبني على شذوذ.
(21/5)

وهي السورة الرابعة والثمانون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الانشقاق وقبل سورة العنكبوت. وقد روي عن قتادة وغيره أن غلب الروم على الفرس كان في عام بيعة الرضوان، ولذلك استفاضت الروايات وكان بعد قتل أبي بن خلف يوم أحد.
واتفقت الروايات على أن غلب الروم للفرس وقع بعد مضي سبع سنين من غلب الفرس على الروم الذي نزلت عنده هذه السورة. ومن قال: إن ذلك كان بعد تسع سنين بتقديم التاء المثناة فقد حمل على التصحيف كما رواه القرطبي عن القشيري يقتضي أن نزول سورة الروم كان في إحدى عشرة قبل الهجرة لأن بيعة الرضوان كانت في سنة ست بعد الهجرة. وعن أبي سعيد الخذري أن انتصار الروم على فارس يوافق يومه يوم بدر.
وعدد آيها في عد أهل المدينة وأهل مكة تسع وخمسون. وفي عدد أهل الشام والبصرة والكوفة ستون. وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن ابن عباس والواحدي وغير واحد: أنه لما تحارب الفرس والروم الحرب التي سنذكرها عند قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 2، 3] وتغلب الفرس على الروم كان المشركون من أهل مكة فرحين بغلب الفرس على الروم لأن الفرس كانوا مشركين ولم يكونوا أهل كتاب فكان حالهم أقرب إلى حال قريش ولأن عرب الحجاز والعراق كانوا من أنصار الفرس وكان عرب الشام من أنصار الروم فأظهرت قريش التطاول على المسلمين بذلك فأنزل الله هذه السورة مقتا لهم وإبطالا لتطاولهم بأن الله سينصر الروم على الفرس بعد سنين. فلذلك لما نزلت الآيات الأولى من هذه السورة خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 4], وراهن أبو بكر المشركين على ذلك كما سيأتي.
أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة سبب نزولها على ما سر المشركين من تغلب الفرس على الروم، فقمع الله تعالى تطاول المشركين به وتحداهم بأن العاقبة للروم في الغلب على الفرس بعد سنين قليلة.
ثم تطرق من ذلك إلى تجهيل المشركين بأنهم لا تغوص أفهامهم في الاعتبار بالأحداث ولا في أسباب نهوض وانحدار الأمم من الجانب الرباني، ومن ذلك إهمالهم النظر في الحياة الثانية ولم يتعظوا بهلاك الأمم السالفة المماثلة لهم في الإشراك بالله، وانتقل من ذلك إلى ذكر البعث. واستدل لذلك ولوحدانيته تعالى بدلائل من آيات الله في
(21/6)

تكوين نظام العالم ونظام حياة الإنسان. ثم حض النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين على التمسك بهذا الدين وأثنى عليه. ونظر بين الفضائل التي يدعو إليها الإسلام وبين حال المشركين ورذائلهم، وضرب أمثالا لإحياء مختلف الأموات بعد زوال الحياة عنها ولإحياء الأمم بعد يأس الناس منها، وأمثالا لحدوث القوة بعد الضعف وبعكس ذلك. وختم ذلك بالعود إلى إثبات البعث ثم بتثبيت النبيء صلى الله عليه وسلم ووعده بالنصر.
ومن أعظم ما اشتملت عليه التصريح بأن الإسلام دين فطر الله الناس عليه وأن من ابتغى غيره دينا فقد حاول تبديل ما خلق الله وأنى له ذلك.
[1] {الم [1]} .
تقدم القول على نظيره في سور كثيرة وخاصة في سورة العنكبوت، وأن هذه السورة إحدى ثلاث سور مما افتتح بحروف التهجي المقطعة غير معقبة بما يشير إلى القرآن، وتقدم في أول سورة مريم.
[2- 4] {غُلِبَتِ الرُّومُ [2] فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [3] فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [4] بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [5]} .
{غُلِبَتِ الرُّومُ [2] فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [3] فِي بِضْعِ سِنِينَ} .
قوله: {غُلِبَتِ الرُّومُ} خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية، أي نحن نعلم بأن الروم غلبت، فلا يهنكم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنا نعلم أنهم سيغلبون من غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلبا.
فالمقصود من الكلام هو جملة {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} وكان ما قبله تمهيدا له. وإسناد الفعل إلى المجهول لأن الغرض هو الحديث عن المغلوب لا على الغالب ولأنه قد عرف أن الذين غلبوا الروم هم الفرس.
و {الرُّومُ} : اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوربا. تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوربا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول. وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة
(21/7)

اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين. وسموا الروم أيضا ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبيء صلى الله عليه وسلم المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام إذ قال أبو سفيان لأصحابه "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر".
وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكون أمة الروم من الخليطين، هو أن اليونان كان لهم استيلاء على صقلية وبعض بلاد إيطاليا وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجا بسبب الفتوحات وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بفتوحات يوليوس قيصر لمصر وشمال أفريقيا وبلاد اليونان وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده فصارت تبلغ من رومة إلى أرمينيا والعراق. ودخلت فيها بلاد اليونان ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقابلة الذين على نهر الطونة ولحق بها البيزنطينيون المنسبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البسفور. وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين. وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ثم ألفوا اتحادا بينهم وبين أهل رودس وساقس وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني. وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة وانضوت تحت سلطة رومة فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصرا لرومة وانفرد بالسلطة في حدود سنة 322 مسيحية، وجمع شتات المملكة فجعل للملكة عاصمتين عاصمة غربية هي رومة وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها قسطنطينية ، وانصرفت همته إلى سكناها فنالت شهرة تفوق رومة. وبعد موته سنة 337 قسمت المملكة بين أولاده، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه قسطنطينيوس ، فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم وبقيت مملكة رومة مملكة الرومان. وزاد انفصال المملكتين في سنة 395 حين قسم طيودسيوس بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه فجعلها قسمين مملكة شرقية ومملكة غربية، فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها القسطنطينية. ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطينيين نسبة إلى بيزنطة اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطئ البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها كما تقدم آنفا. وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح وسمي ميناها بالقرن الذهبي. وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا. وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية.
(21/8)

وهذا الغلب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية. وذلك أن خسرو ابن هرمز ملك الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيصر الروم، فنازل إنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحادة بلاد العرب بين بصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.
فالتعريف {الْأَرْضِ} للعهد، أي أرض الروم المتحدث عنهم، أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي في أدنى أرضهم، أو أدنى أرض الله. وحذف متعلق {أَدْنَى} لظهور أن تقديره: من أرضكم، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة الروم من بلاد العرب. وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم.
وقوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ, فِي بِضْعِ سِنِينَ} إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله. وضمائر الجمع عائدة إلى الروم.
و {غَلَبِهِمْ} مصدر مضاف إلى مفعوله. وحذف مفعول {سَيَغْلِبُونَ} للعلم بأن تقديره: سيغلبون الذين غلبوهم، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوما آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرس الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم.
وفائدة ذكر {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يظن نصر لهم بعدها، فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحد تحدى به ا لقرآن المشركين، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديرا خارقا للعادة معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين.
ولفظ {بِضْعِ} بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} في سورة يوسف [42]. وهذا أجل لرد الكرة لهم على الفرس.
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على
(21/9)

المقصود إجمالا وأن لا يتنازل إلى التفصيل لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ففي ذلك تفريج عليهم. وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الجهة الرابعة في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب مثلهم فكانت فارس يوم نزلت {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} قاهرين للروم فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: "أما أنهم سيغلبون" ونزلت هذه الآية فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1- 3] فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك قال: بلى- وذلك قبل تحريم الرهان - وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه. فسمى أبو بكر لهم ست سنين فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان فمضت ست السنين قبل أن يظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ألا أخفضت يا أبا بكر، ألا جعلته إلى دون العشر فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع" . وعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير. وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أبي بن خلف، وأنهم جعلوا الرهان خمس قلائص، وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجل ستة أعوام غيروه فجعلوه تسعة أعوام وازدادوا في عدد القلائص، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبيء صلى الله عليه وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمان، وكان عبد الرحمان أيامئذ مشركا باقيا بمكة. وأنه لما أراد أبي بن خلف الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمان بكفيل فأعطاه كفيلا. ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبيء صلى الله عليه وسلم، فلما غلب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف. وقد كان تغلب الروم على الفرس في سنة ست وورد الخبر إلى المسلمين. وفي حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: "لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين". والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية. وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين بتقديم السين وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع
(21/10)

هو تصحيف. وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام ونزل حمص ولقي أبا سفيان بن حرب في رهط من أهل مكة جاءوا تجارا إلى الشام.
واعلم أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأبي بن خلف وتقرير النبيء صلى الله عليه وسلم إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب. وأما الجمهور فهذا يرونه منسوخا بما ورد من النهي عن القمار نهيا مطلقا لم يقيد بغير أهل الحرب. وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين أبي بكر وأبي بن خلف جرت على الإباحة الأصلية إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ فلا دليل فيها على إباحة المراهنة وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريع أنف وليس من النسخ في شيء.
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} .
جملة معترضة بين المتعاطفات. والمراد بالأمر أمر التقدير والتكوين، أي أن الله قدر الغلب الأول والثاني قبل أن يقعا، أي من قبل غلب الروم على الفرس وهو المدة التي من يوم غلب الفرس عليهم ومن بعد غلب الروم على الفرس. فهنالك مضافان إليهما محذوفان. فبنيت {قَبْلُ} و {بَعْدُ} على الضم لحذف المضاف إليه لافتقار معناهما إلى تقدير مضافين إليهما فأشبهتا الحرف في افتقار معناه إلى الاتصال بغيره. وهذا البناء هو الأفصح في الاستعمال إذا حذف ما تضاف إليه {قَبْلُ} و {بَعْدُ} وقدر لوجود دليل عليه في الكلام، وأما إذا لم تقصد إضافتهما بل أريد بهما الزمن السابق والزمن اللاحق فإنهما يعربان كسائر الأسماء النكرات، كما قال عبد الله بن يعرب بن معاوية أو يزيد بن الصعق:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الحميم
أي وكنت في زمن سبق لا يقصد تعيينه. وجوز الفراء فيهما مع حذف المضاف إليه أن تبقى فيهما حركة الإعراب بدون تنوين، ودرج عليه ابن هشام وأنكره الزجاج وجعل من الخطإ رواية قول الشاعر الذي لا يعرف اسمه:
ومن قبل نادى كل مولى قرابة ... فما عطفت مولى عليه العواطف
بكسر لام "قبل" رادا قول الفراء أنه روي بكسر دون تنوين يريد الزجاج، أي الواجب أن يروى بالضم.
(21/11)

وتقديم المجرور في قوله: {لِلَّهِ الْأَمْر} لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عبادها، فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفا كما دل عليه التذييل بقوله: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاء} .
فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعللوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عللا توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم. وهذ المعنى كان النبيء صلى الله عليه وسلم يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبيء فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم فخطب النبيء صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" . وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادث المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواما وتضر بآخرين ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعودا به من قبل ليعلم الناس كلهم أنه متحدى به قبل وقوعه لا مدعى به بعد وقوعه، ولهذا قال تعالى بعد الوعود: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} .
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [5]}.
عطف على جملة {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} الخ أي: ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون بنصر الله أي بنصر الله إياهم على الذين كانوا غلبوهم من قبل، وكان غلبهم السابق أيضا بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديهم، وقد أومأ إلى هذا قوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} .
والجملة المضافة إلى {إِذْ} في قوله: {وَيَوْمَئِذٍ} محذوفة عوض عنها التنوين. والتقدير: ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون، فـ {يَوْمَ} منصوب على الظرفية وعامله {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} . وأضيف النصر إلى اسم الجلالة للتنويه بذلك النصر وأنه عناية لأجل المسلمين.
وجملة {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} تذييل لأن النصر المذكور فيها عام بعموم مفعوله وهو {مَنْ يَشَاءُ} فكل منصور داخل في هذا العموم، أي من يشاء نصره لحكم يعلمها، فالمشيئة هي الإرادة، أي ينصر من يريد نصره، وإرادته تعالى لا يسأل عنها، ولذلك
(21/12)

عقب بقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} إن العزيز المطلق هو الذي يغلب كل مغالب له، وعقبه بـ {الرَّحِيمِ} للإشارة إلى أن عزته تعالى لا تخلو من رحمة بعباده ولولا رحمته لما أدال للمغلوب دولة على غالبه مع أنه تعالى هو الذي أراد غلبة الغالب الأول، فكان الأمر الأول بعزته والأمر الثاني برحمته للمغلوب المنكوب وترتيب الصفتين العليتين منظور فيه لمقابلة كل صفة منهما بالذي يناسب ذكره من الغلبين، فالمراد رحمته في الدنيا.
[6، 7] {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [6] يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [7]}.
انتصب {وَعْدَ اللَّهِ} على المفعولية المطلقة. وهذا من المفعول المطلق المؤكد لمعنى جملة قبله هي بمعناه ويسميه النحويون مصدرا مؤكدا لنفسه تسمية غريبة يريدون بنفسه معناه دون لفظه. ومثله في "الكشاف" ومثلوه بنحو "لك علي ألف عرفا" لأن عرفا بمعنى اعترافا، أكد مضمون جملة: لك علي ألف، وكذلك {وَعْدَ اللَّهِ} أكد مضمون جملة {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} . [الروم: 3، 4].
وإضافة الوعد إلى الله تلويح بأنه وعد محقق الإيفاء لأن وعد الصادق القادر الغني لا موجب لإخلافه.
وجملة {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} بيان للمقصود من جملة {وَعْدَ اللَّهِ} فإنها دلت على أنه وعد محقق بطريق التلويح، فبين ذلك بالصريح بجملة {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . ولكونها في موقع البيان فصلت ولم تعطف، وفائدة الإجمال ثم التفصيل تقرير الحكم لتأكيده، ولما في جملة {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} من إدخال الروع على المشركين بهذا التأكيد. وسماه وعدا نظرا لحال المؤمنين الذي هو أهم هنا. وهو أيضا وعيد للمشركين بخذلان أشياعهم ومن يفتخرون بمماثلة دينهم.
وموقع الاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} هو ما اقتضاه الإجمال. وتفصيله من كون ذلك أمرا لا ارتياب فيه وأنه وعد الله الصادق الوعد القادر على نصر المغلوب فيجعله غالبا، فاستدرك بأن مراهنة المشركين على عدم وقوعه نشأت عن قصور عقولهم فأحالوا أن تكون للروم بعد ضعفهم دولة على الفرس الذين قهروهم في زمن قصير هو بضع سنين ولم يعلموا أن ما قدره الله أعظم.
فالمراد بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} ابتداء المشركون لأنهم سمعوا الوعد وراهنوا على عدم
(21/13)

وقوعه. ويشمل المراد أيضا كل من كان يعد انتصار الروم على الفرس في مثل هذه المدة مستحيلا، من رجال الدولة ورجال الحرب من الفرس الذين كانوا مزدهين بانتصارهم، ومن أهل الأمم الأخرى، ومن الروم أنفسهم، فلذلك عبر عن هذه الجمهرة بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} بصيغة التفضيل. والتعريف في {النَّاسِ} للاستغراق.
ومفعول {يَعْلَمُونَ} محذوف دل عليه قوله: {سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 3, 4]. فالتقدير: لا يعلمون هذا الغلب القريب العجيب. ويجوز أن يكون المراد تنزيل الفعل منزلة اللازم بأن نزلوا منزلة من لا علم عندهم أصلا لأنهم لما لم يصلوا إلى إدراك الأمور الدقيقة وفهم الدلائل القياسية كان ما عندهم من بعض العلم شبيها بالعدم إذ لم يبلغوا به الكمال الذي بلغه الراسخون أهل النظر، فيكون في ذلك مبالغة في تجهيلهم وهو مما يقتضيه المقام.
ولما كان في أسباب تكذيبهم الوعد بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين أنهم يعدون ذلك محالا، وكان عدهم إياهم كذلك من التباس الاستبعاد العادي بالمحال، مع الغفلة عن المقادير النادرة التي يقدرها الله تعالى ويقدر لها أسبابا ليست في الحسبان فتأتي على حسب ما جرى به قدره لا على حسب ما يقدره الناس، وكان من حق العاقل أن يفرض الاحتمالات كلها وينظر فيها بالسبر والتقييم، أنحى الله ذلك عليهم بأن أعقب إخباره عن انتفاء علمهم صدق وعد القرآن، بأن وصف حالة علمهم كلها بأن قصارى تفكيرهم منحصر في ظواهر الحياة الدنيا غير المحتاجة إلى النظر العقلي وهي المحسوسات والمجربات والأمارات، ولا يعلمون بواطن الدلالات المحتاجة إلى إعمال الفكر والنظر.
والوجه أن تكون {مِنْ} في قوله: {مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تبعيضية، أي يعلمون ظواهر ما في الدنيا، أي ولا يعلمون دقائقها وهي العلوم الحقيقية وكلها حاصلة في الدنيا. وبهذا الاعتبار كانت الدنيا مزرعة الآخرة.
والكلام يشعر بذم حالهم، ومحط الذم هو جملة {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} . فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمذمة لأن المؤمنين كانوا أيضا يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالما آخر هو عالم الغيب. وقد اقتصر في تجهيلهم بعالم الغيب على تجهيلهم بوجود الحياة الآخرة اقتصارا بديعا حصل به التخلص من غرض الوعد بنصر الروم إلى غرض أهم وهو إثبات البعث مع أنه يستلزم إثبات عالم الغيب ويكون مثالا لجهلهم بعالم
(21/14)

الغيب وذما لجهلهم به بأنه أوقعهم في ورطة إهمال رجاء الآخرة وإهمال الاستعداد لما يقتضيه ذلك الرجاء، فذلك موقع قوله: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ؛ فجملة {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بدل من جملة {لا يَعْلَمُونَ} بدل اشتمال باعتبار ما بعد الجملة من قوله: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} لأن علمهم يشتمل على معنى نفي علم بمغيبات الآخرة وإن كانوا يعلمون ظواهر الحياة الدنيا.
وجملة {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يجوز أن تجعلها عطفا على جملة {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فحصل الإخبار عنهم بعلم أشياء وعدم العلم بأشياء، ولك أن تجعل جملة {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ} الخ في موقع الحال، والواو واو الحال.
وعبر عن جهلهم الآخرة بالغفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة فكان جهلهم بذلك شبيها بالغفلة لأنه بحيث ينكشف لو اهتموا بالنظر فاستعير له {غَافِلُونَ} استعارة تبعية.
{وَهُمْ} الأولى في موضع مبتدأ و {هُمْ} الثانية ضمير فصل. والجملة الاسمية دالة على تمكنهم من الغفلة عن الآخرة وثباتهم في تلك الغفلة، وضمير الفصل لإفادة الاختصاص بهم، أي هم الغافلون عن الآخرة دون المؤمنين.
ومن البديع الجمع بين {لا يَعْلَمُونَ} و {يَعْلَمُونَ} . وفيه الطباق من حيث ما دل عليه اللفظان لا من جهة متعلقهما. وقريب منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].
[8] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [8]}.
عطف على جملة {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة.
فضمير {يَتَفَكَّرُوا} عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركو مكة. والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم. والتقدير: هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم. ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين:
أحدهما: اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب.
(21/15)

وثانيهما: تمردهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين.
والتفكر: إعمال الفكر، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه، وهو التأمل في الدلالة العقلية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في سورة الأنعام [50].
والأنفس: جمع نفس. والنفس يطلق على الذات كلها، ويطلق على باطن الإنسان، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] كقول عمر يوم السقيفة: "وكنت زوت في نفسي مقالة" أي في عقلي وباطني.
وحرف {فِي} من قوله: {فِي أَنْفُسِهِم} يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفا لمصدر {يَتَفَكَّرُوا} ، أي تفكرا مستقرا في أنفسهم. وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر. وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر {فِي أَنْفُسِهِم} لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع، كقوله: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك} [العنكبوت: 48] وقوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، وتكون جملة {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الخ على هذا مبينة لجملة {يَتَفَكَّرُوا} إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} [الأعراف: 184].
ويجوز أن يكون {فِي} للظرفية المجازية متعلقة بفعل {يَتَفَكَّرُوا} تعلق المفعول بالفعل، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم. والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]؛ فإن حق النظر المؤدي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وهذا كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض، وتكون جملة {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله: {أَنْفُسَهُم} إذ الكلام على حذف مضاف، تقديره: في دلالة أنفسهم، فإن دلالة {أَنْفُسَهُم} تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن {أَنْفُسَهُم} مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم.
وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل {يَتَفَكَّرُوا} عن العمل في مفعولين لوجود النفي
(21/16)

بعده. ومعنى {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} : أن خلقهم ملابس للحق.
والحق هنا هو ما يحق أن يكون حكمة لخلق السماوات والأرض وعلة له، وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره: أنت ابني حقا، ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالا على معنى الكمال في نحو: أنت الحبيب، لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته، وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابلته، ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواء. دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة، وأخبار الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها، وقياس ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فطره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحوال تجدد الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالمه كما قال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] وذلك بما أودع فيه من العقل. ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتا مترامي الأطراف، كما قال البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ... لدى الفضل حتى عد ألف بواحد
فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده، كل ذلك دل على هذا المعنى؛ ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسان خالقه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شعب العقل مخولا إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته، وأن يتوخى الصواب أو أن لا يتوخاه، فلما كلفه خالقه باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله، وقصر تارة عنها قصورا متفاوتا، فكان من الحكمة أن لا يهمل مسترسلا في خطوات القصور والفساد، وذلك إما بتسليط قوة ملجئة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقا إلى الصلاح باختياره المحمود، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدم استئصاله، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة، فتعين
(21/17)

استعمال إراضته على الصلاح، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثوابا للصالحين على قدر صلاحهم وعقابا للمفسدين بمقدار عملهم، واقعا ذلك كله في عالم غير هذا العالم، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة، وتنبيها على الحكمة، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب، وكان من حق آثار هاته الحكم أن لا يحرم الصالح من ثوابه، وأن لا يفوت المفسد بما به ليظهر حق أهل الكمال ومن دونهم من المراتب، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدودا بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلا معينا، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال، وتميز أهل النقص من أهل الكمال.
فكان جعل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، ولذلك نبه عليه بخصوصه اهتماما بشأنه، وتنبيها على مكانه، وإظهارا أنه المقصد بكيانه، فعطفه على الحق للاهتمام به، كما عطف ضده على الباطل، في قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون115] فقال {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} .
وقد مضى في سورة الأنعام [73] قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} الآية. وفائدة ذكر السماوات هنا أن في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نعرف نسبة تعلقها بهذا العالم، فنكل أمره إلى الله ونقيس غائبه على الشاهد، فنوقن بأنه ما خلق إلا بالحق كذلك. فشواهد حقية البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات، ولذلك أعقبه بقوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} ، وهذا كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
والمسمى: المقدر. أطلقت التسمية على التقدير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} في سورة الحج [5]. وعند قوله تعالى: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} في سورة العنكبوت [53]. وجملة {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} تذييل.
وتأكيده بـ {إِنَّ} لتنزيل السامع منزلة من يشك في وجود من يحجد لقاء الله بعد هذا الدليل الذي مضى بله أن يكون الكافرون به كثيرا. والمراد بالكثير هنا: مشركو أهل مكة
(21/18)

وبقية مشركي العرب المنكرين للبعث ومن ماثلهم من الدهريين. ولم يعبر هنا بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} [العنكبوت: 60] لأن المثبتين للبعث كثيرون مثل أهل الكتاب والصابئة والمجوس والقبط.
[9] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [9]} .
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
عطف على جملة {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] وهو مثل الذي عطف هو عليه متصل بما يتضمنه قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] أن من أسباب عدم علمهم تكذيبهم الرسول عليه ا لصلاة والسلام الذي أنبأهم بالبعث، فلما سيق إليهم دليل حكمة البعث والجزاء بالحق أعقب بإنذارهم موعظة لهم بعواقب الأمم الذين كذبوا رسلهم لأن المقصود هو عاقبة تكذيبهم رسل الله وهو قوله: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} الآية.
والأمر بالسير في الأرض تقدم في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في سورة الأنعام [11], وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} في سورة العنكبوت [20].
والاستفهام في {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} تقريري. وجاء التقرير على النفي للوجه الذي ذكرناه في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُم} [لأعراف: 148] وقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} في الأنعام [130], وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} في آخر العنكبوت [68].
و {الْأَرْضِ} : اسم للكرة التي عليها الناس.
والنظر: هنا نظر العين لأن قريشا كانوا يمرون في أسفارهم إلى الشام على ديار ثمود وقوم لوط وفي أسفارهم إلى اليمن على ديار عاد. وكيفية العاقبة هي حالة آخر أمرهم من خراب بلادهم وانقطاع أعقابهم فعاضد دلالة التفكر التي في قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] الآية بدلالة الحس بقوله: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . و {كَيْفَ} استفهام معلق فعل {يَنْظُرُوا} عن مفعوله، فكأنه قيل: فينظروا ثم استؤنف فقيل: كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
(21/19)

والعاقبة: آخر الأمر من الخير والشر، بخلاف العقبى فهي للخير خاصة إلا في مقام المشاكلة، وتقدم ذكر العاقبة في قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} في الأعراف [128]. وقد جمع قوله: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وعيدا على تكذيبهم النبيء صلى الله عليه وسلم وتجهيلا لإحالتهم الممكن، حيث أيقنوا بأن الفرس لا يغلبون بعد انتصارهم. فهذه آثار أمم عظيمة كانت سائدة على الأرض فزال ملكهم وخلت بلادهم من سبب تغلب أمم أخرى عليهم.
والمراد بالذين من قبلهم عاد وثمود وقوم لوط وأمثالهم الذين شاهد العرب آثارهم. والمعنى: أنهم كانوا من قبلهم في مثل حالتهم من الشرك وتكذيب الرسل المرسلين إليهم، كما دل عليه قوله عقبه {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} الآية.
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
كل أولئك كانوا أشد قوة من قريش وأكثر تعميرا في الأرض، وكلهم جاءتهم رسل، وكلهم كانت عاقبتهم الاستئصال، كل هذه ما تقر به قريش.
وجملة {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} بيان لجملة {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
والشدة: صلابة جسم، وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيها لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول، وتقدم في قوله: {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} في سورة النمل [33].
والقوة: حالة يقاوم بها صاحبها ما يوجب انخرامه، فمن ذلك قوة البدن، وقوة الخشب، وتستعار القوة لما به تدفع العادية وتستقيم الحالة؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} [النمل: 33] فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عدد حربية وأموال وأبناء وأزواج. وحالة مشركي قريش لا تداني أحوال تلك الأمم في القوة، وناهيك بعاد فقد كانوا مضرب الأمثال في القوة في سائر أمورهم، والعرب تصف الشيء العظيم في جنسه بأنه عادي نسبة إلى عاد.
وعطف {أَثَارُوا} على {كَانُوا} فهو فعل مشتق من الإثارة بكسر الهمزة، وهي تحريك أجزاء الشيء، فالإثارة: رفع الشيء المستقر وقلبه بعد استقراره قال تعالى {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [الروم: 48] أي تسوقه وتدفعه من مكان إلى مكان.
(21/20)

وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطنا ظاهرا وهو الحرث، قال تعالى: {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} [البقرة: 71]، وقال النابغة يصف بقر الوحش إذا حفرت التراب:
يثرن الحصى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل
ويجوز أن يكون {أَثَارُوا} هنا تمثيلا لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكنا ويهيجه، ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة. وهذا الاحتمال أنسب بالمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة. وضمير {أَثَارُوا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {كَانُوا أَشَدّ} .
ومعنى عمارة الأرض: جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع. يقال: ضيعة عامرة، أي معمورة بما تعمر به الضياع، ويقال في ضده: ضيعة غامرة. ولكون قريش لم تكن لهم إثارة في الأرض بكلا المعنيين إذ كانوا بواد غير ذي زرع لم يقل في هذا الجانب: أكثر مما أثاروها.
وضميرا جمع المذكر في قوله: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} راجع أولهما إلى ما رجع إليه ضمير {أَثَارُوا} وثانيهما إلى ما رجع إليه ضمير {يَسِيرُوا فِي الْأَرْض}. ويعرف توزيع الضميرين بالقرينة مثل توزيع الإشارة في قوله تعالى: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} في سورة [القصص: 15] كالضميرين في قول عباس بن مرداس يذكر قتال هوازن يوم حنين:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} في سورة يونس [58], أي عمر الذين من قبلهم الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء، فإن لقريش عمارة في الأرض من غرس قليل وبناء وتفجير ولكنه يتضاءل أمام عمارة الأمم السالفة من عاد وثمود.
وتفريع {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} على قوله: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَات} إيجاز حذف بديع، لأن مجيء الرسل بالبينات يقتضي تصديقا وتكذيبا فلما فرع عليه أنهم ظلموا أنفسهم علم أنهم كذبوا الرسل وأن الله جازاهم على تكذيبهم رسله بأن عاقبهم عقابا لو كان لغير
(21/21)

جرم لشابه الظلم، فجعل من مجموع نفي ظلم الله إياهم ومن إثبات ظلمهم أنفسهم معرفة أنهم كذبوا الرسل وعاندوهم وحل بهم ما هو معلوم من مشاهدة ديارهم وتناقل أخبارهم.
والاستدراك ناشئ على ما يقتضيه نفي ظلم الله إياهم من أنهم عوملوا معاملة سيئة لو لم يستحقوها لكانت معاملة ظلم. وعبر عن ظلمهم أنفسهم بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ظلمهم وتكرره وأن الله أمهلهم فلم يقلعوا حتى أخذهم بما دلت عليه تلك العاقبة، والقرينة قوله: {كَانُوا} .
وتقديم {أَنْفُسَهُم} وهو مفعول {يَظْلِمُونَ} على فعله للاهتمام بأنفسهم في تسليط ظلمهم عليها لأنه ظلم يتعجب منه، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة. وليس تقديم المفعول هنا للحصر لأن الحصر حاصل من جملتي النفي والإثبات.
[10] {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [10]}.
{ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن هذه العاقبة أعظم رتبة في السوء من عذاب الدنيا، فيجوز أن يكون هذا الكلام تذييلا لحكاية ما حل بالأمم السالفة من قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9].
والمعنى: ثم عاقبة كل من أساءوا السوأى مثلهم، فيكون تعريضا بالتهديد لمشركي العرب كقوله تعالى: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، فالمراد بـ {الَّذِينَ أَسَاءُوا} كل مسيء من جنس تلك الإساءة وهي الشرك. ويجوز أن يكون إنذارا لمشركي العرب المتحدث عنهم من قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] فيكونوا المراد بـ {الَّذِينَ أَسَاءُوا} ، ويكون إظهارا في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لقصد الإيماء بالصلة، أي أن سبب عاقبتهم السوأى هو إساءتهم. وأصل الكلام: ثم كان عاقبتهم السوأى. وهذا إنذار بعد الموعظة ونص بعد القياس، فإن الله وعظ المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعواقب الأمم التي كذبت رسلها ليكونوا على حذر من مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة، وأوقع فعل {كَانَ} الماضي في موقع المضارع للتنبيه على تحقيق وقوعه مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّه} [النحل: 1] إتماما للنذارة.
والعاقبة: الحالة الأخيرة التي تعقب حالة قبلها. وتقدمت في قوله: {ثُمَّ انْظُرُوا
(21/22)

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في سورة الأنعام [11], وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} في سورة طه [132]. و {الَّذِينَ أَسَاءُوا} هم كفار قريش. والمراد {بآيَاتِ اللَّه} القرآن ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم.
و {السُّوأَى} : تأنيث الأسوإ، أي الحالة الزائدة في الاتصاف بالسوء وهو أشد الشر، كما أن الحسنى مؤنث الأحسن في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] وتعريف {السُّوأَى} تعريف الجنس إذ ليس ثمة عاقبة معهودة.
ويحتمل أن يراد بـ {الَّذِينَ أَسَاءُوا} الأمم الذين أثاروا الأرض وعمروها فتكون من وضع الظاهر موضع المضمر توسلا إلى الحكم عليهم بأنهم أساءوا واستحقوا السوأى وهي جهنم. وفعل {كَانَ} على ما هو عليه من التنبيه على تحقق الوقوع.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {عَاقِبَةُ} بالرفع على أصل الترتيب بين اسم {كَانَ} وخبرها. وقرأه البقية بالنصب على أنه خبر {كَانَ} مقدم على اسمها وهو استعمال كثير. والفصل بين {كَانَ} ومرفوعها بالخبر سوغ حذف تاء التأنيث من فعل {كَانَ} .
و {أَنْ كَذَّبُوا} تعليل لكون عاقبتهم السوأى بحذف اللام مع {أَنَّ} و {آيَاتِ اللَّه} : القرآن والمعجزات.
والباء في {بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} للتعدية، وتقديم المجرور للاهتمام بشأن الآيات، وللرعاية على الفاصلة.
[11] {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [11]}.
استئناف ابتدائي، وهو شروع فيما أقيمت عليه هذه السورة من بسط دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس بإيجادهم وإعدامهم وبإمدادهم وأطوار حياتهم، لإبطال أن يكون لشركائهم شيء من التصرف في ذلك. فهي دلائل ساطعة على ثبوت الوحدانية التي عموا عنها.
وإذ كان نزول أول السورة على سبب ابتهاج المشركين لتغلب الفرس على الروم فقطع الله تطاولهم على المسلمين بأن أخبر أن عاقبة النصر للروم على الفرس نصرا باقيا، وكان مثار التنازع بين المشركين والمؤمنين ميل كل فريق إلى مقاربه في الدين جعل ذلك الحدث مناسبة لإفاضة الاستدلال في هذه السورة على إبطال دين الشرك.
(21/23)

وقد فصلت هذه الدلائل على أربعة استئنافات متماثلة الأسلوب، ابتدئ كل واحد منهم باسم الجلالة مجرى عليه أخبار عن حقائق لا قبل لهم بدحضها لأنهم لا يسعهم إلا الإقرار ببعضها أو العجز عن نقض دليلها.
فالاستئناف الأول المبدوء بقوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} , والثاني المبدوء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} [الروم: 40]، والثالث: المبدوء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم: 48]، والرابع المبدوء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم: 54].
فأما قوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فاستدلال بما لا يسعهم إلا الاعتراف به وهو بدء الخلق إذ لا ينازعون في أن الله وحده هو خالق الخلق ولذلك قال الله تعالى {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [الرعد: 16] الآية. وأما قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} فهو إدماج لأنه إذا سلم له بدء الخلق كان تسليم إعادته أولى وأجدر. وحسن موقع الاستئناف وروده بعد ذكر أمم غابرة وأمم حاضرة خلف بعضها بعضا، وإذ كان ذلك مثالا لإعادة الأشخاص بعد فنائها وذكر عاقبة مصير المكذبين للرسل في العاجلة، ناسب في مقام الاعتبار أن يقام لهم الاستدلال على إمكان البعث ليقع ذكر ما يعقبه من الجزاء موقع الإقناع لهم.
وتقديم اسم الجلالة على المسند الفعلي لمجرد التقوي. و {ثُمَّ} هنا للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، وذلك أن شأن الإرجاع إلى الله أعظم من إعادة الخلق إذ هو المقصد من الإعادة ومن بدء الخلق. فالخطاب في {تُرْجَعُونَ} للمشركين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
وقرأ الجمهور {تُرْجَعُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بياء الغيبة على طريقة ما قبله.
[12، 13] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [12] وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [13]} .
عطف على جملة {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] تبيينا لحال المشركين في وقت ذلك الإرجاع كأنه قيل: ثم إليه ترجعون ويومئذ يبلس المجرمون. وله مزيد اتصال بجملة {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]، وكان مقتضى الظاهر أن يقال ويومئذ يبلس المجرمون أو ويومئذ تبلسون، أي ويوم ترجعون إليه يبلس المجرمون، فعدل عن تقدير
(21/24)

الجملة المضاف إليها {يَوْمِ} التي يدل عليها {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] بذكر جملة أخرى هي في معناها لتزيد الإرجاع بيانا أنه إرجاع الناس إليه يوم تقوم الساعة، فهو إطناب لأجل البيان وزيادة التهويل لما يقتضيه إسناد القيام إلى الساعة من المباغتة والرعب. ويدل لهذا القصد تكرير هذا الظرف في الآية بعدها بهذا الإطناب. وشاع إطلاق {السَّاعَةُ} على وقت الحشر والحساب. وأصل الساعة: المقدار من الزمن، ويتعين تحديده بالإضافة أو التعريف.
والإبلاس: سكون بحيرة. يقال: أبلس، إذا لم يجد مخرجا من شدة هو فيها. وتقدم عند قوله تعالى: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُون} في سورة المؤمنين [77].
و{الْمُجْرِمُونَ}: المشركون، وهم الذين أجريت عليهم ضمائر الغيبة وضمائر الخطاب بقرينة قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} .
والإظهار في مقام الإضمار لإجراء وصف الإجرام عليهم وكان مقتضى الظاهر أنه يقال: تبلسون، بالخطاب أو بياء الغيبة. ووصفوا بالإجرام لتحقير دين الشرك وأنه مشتمل على إجرام كبير. وقد ذكر أحد أسباب الإبلاس وأعظمها حينئذ وهو أنهم لم يجدوا شفعاء من آلهتهم التي أشركوا بها وكانوا يسحبونها شفعاء عند الله، فلما نظروا وقلبوا النظر فلم يجدوا شفعاء خابوا وخسئوا وأبلسوا، ولهم أسباب خيبة أخرى لم يتعلق الغرض بذكرها. وأما ما ينالهم من العذاب فذلك حالة يأس لا حالة إبلاس. و {مِنْ} تبعيضية، وليس الكلام من قبيل التجريد.
ونفي فعل {يَكُنْ} بـ {لَمْ} التي تخلص المضارع للمضي للإشارة إلى تحقيق حصول هذا النفي مثل قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
ومقابلة ضمير الجمع بصيغة جمع الشركاء من باب التوزيع، أي لم يكن لأحد من المجرمين أحد شفيع فضلا عن عدة شفعاء.
وكذلك قوله: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِين} لأن المراد أنهم يكفرون بهم يوم تقوم الساعة كقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ويلعن بعضكم بعضا} [العنكبوت: 25].
وكتب في المصحف {شْفَعُؤُاْ} بواو بعد العين وألف بعد الواو، أرادوا بالجمع بين الواو والألف أن ينبهوا على أن الهمزة مضمومة ليعلم أن {شُفَعَاءُ} اسم}كان{وأن ليس اسمها قوله: {مِنْ شُرَكَائِهِمْ} بتوهم أن {مِنْ} اسم بمعنى بعض، أو أنها مزيدة في النفي،
(21/25)

فأثبتوا الواو تحقيقا لضم الهمزة وأثبتوا الألف لأن الألف صورة للهمزة.
[14- 16] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [14] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [15] وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [16]}.
أعيد {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} لزيادة التهويل الذي تقدم بيانه آنفا. وكرر {يَوْمَئِذٍ} لتأكيد حقيقة الظرفية. ولما ذكر إبلاس المشركين المشعر بتوقعهم السوء والعذاب أعقب بتفصيل أحوال الناس يومئذ مع بيان مغبة إبلاس الفريق الكافرين.
والضمير في {يَتَفَرَّقُونَ} عائد إلى معلوم من المقام دل عليه ذكر المجرمين فعلم أن فريقا آخر ضدهم لأن ذكر إبلاس المجرمين يومئذ يفهم أن غيرهم ليسوا كذلك على وجه الإجمال.
والتفرق: انقسام الجمع وتشتت أجزاء الكل. وقد كني به هنا عن التباعد لأن التفرق يلازمه التباعد عرفا. وقد فصل التفرق هنا بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى آخره.
والروضة: كل أرض ذات أشجار وماء وأزهار في البادية أو في الجنان. ومن أمثال العرب "أحسن من بيضة في روضة" يريدون بيضة النعامة. وقد جمع محاسن الروضة قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب1 شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
و{ يحبرون} : يسرون من الحبور، وهو السرور الشديد يقال: حبره: إذا سره سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره.
و {مُحْضَرُونَ} يجوز أن يكون من الإحضار، أي جعل الشيء حاضرا، أي لا يغيبون عنه، أي لا يخرجون منه، وهو يفيد التأييد بطريق الكناية لأنه لما ذكر بعد قوله: {فِي الْعَذَابِ} ناسب أن لا يكون المقصود من وصفهم المحضرين أنهم كائنون في
ـــــــ
1 أراد بالكوكب النور تشبيهاً له بكوكب نجوم السماء في البياض والاستدارة.
(21/26)

العذاب لئلا يكون مجرد تأكيد بمدلول في الظرفية فإن التأسيس أوقع من التأكيد، ويجوز أن يكون محضرون بمعنى مأتي بهم إلى العذاب فقد كثر في القرآن استعمال محضر ونحوه بمعنى معاقب، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]، واسم الإشارة تنبيه على أنهم أحرياء بتلك العقوبة لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
وكتب في رسم المصحف {وَلِقَائِي} بهمزة على ياء تحتية للتنبيه على أن الهمزة مكسورة وذلك من الرسم التوفيقي، ومقتضى القياس أن تكتب الهمزة في السطر بعد الألف.
[17، 18] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [17] وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ [18]}.
الفاء تقتضي اتصال ما بعدها بما قبلها وهي فاء فصيحة، أو عطف تفريع على ما قبلها وقد كان أول الكلام قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: 8]، والضمير عائد إلى أكثر الناس في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] والمراد بهم الكفار فالتفريع أو الإفصاح ناشئ عن ذلك فيكون المقصود من {سُبْحَانَ اللَّهِ} إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه من العجز عن إحياء الناس بعد موتهم وإنشاء ثناء عليه.
والخطاب في {تُمْسُونَ} و {تُصْبِحُونَ} تابع للخطاب الذي قبله في قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11]، وهو موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات من ضمائر الغيبة المبتدئة من قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 11] إلى آخرها كما علمت آنفا. وهذا هو الأنسب باستعمال مصدر {سُبْحَانَ} في مواقع استعماله في الكلام وفي القرآن مثل قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] وهو الغالب في استعمال مصدر {سُبْحَانَ} في الكلام إن لم يكن هو المتعين كما تقتضيه أقوال أئمة اللغة. وهذا غير استعمال نحو قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] وقول الأعشى في داليته:
وسبح على حين العشيات والضحى
وقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} ، و {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [النور: 48]، و {وَعَشِيّاً} ، و {وَحِينَ تُظْهِرُون} ظروف متعلقة بما في إنشاء التنزيه من معنى الفعل، أي ينشأ تنزيه الله في هذه الأوقات
(21/27)

وهي الأجزاء التي يتجزأ الزمان إليها، والمقصود التأييد كما تقول: سبحان الله دوما. وسلك به مسلك الإطناب لأنه مناسب لمقام الثناء. وجوز بعض المفسرين أن يكون {سُبْحَانَ} هنا مصدرا واقعا بدلا عن فعل أمر بالتسبيح كأنه قيل: فسبحوا الله سبحانا. وعليه يخرج ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن? قال: نعم. وتلا قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى قوله: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} . فإذا صح ما روي عنه فتأويله: أن {سُبْحَانَ} أمر بأن يقولوا: سبحان الله، وهو كناية عن الصلاة لأن الصلاة تشتمل على قول: سبحان ربي الأعلى وبحمده.
وقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} إلى آخره إشارة إلى أوقات الصلوات وهو يقتضي أن يكون الخطاب موجها إلى المؤمنين. والمناسبة مع سابقه أنه لما وعدهم بحسن مصيرهم لقنهم شكر نعمة الله بإقامة الصلاة في أجزاء اليوم والليلة. وهذا التفريع يؤذن بأن التسبيح والتحميد الواقعين إنشاء ثناء على الله كناية عن الشكر عن النعمة لأن التصدي لإنشاء الثناء عقب حصول الإنعام أو الوعد به يدل على أن المادح ما بعثه على المدح في ذلك المقام إلا قصد الجزاء على النعمة بما في طوقه، كما ورد "فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له".
وليست الصلوات الخمس وأوقاتها هي المراد من الآية ولكن نسجت على نسج صالح لشموله الصلوات الخمس وأوقاتها وذلك من إعجاز القرآن، لأن الصلاة وإن كان فيها تسبيح ويطلق عليها السبحة فلا يطلق عليها: سبحان الله. وأضيف الحين إلى جملتي {تُمْسُونَ} و {تُصْبِحُونَ} . وقدم فعل الإمساء على فعل الإصباح: إما لأن الاستعمال العربي يعتبرون فيه الليالي مبدأ عدد الأيام كثيرا قال تعالى {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِين} [سبأ: 18]، وإما لأن الكلام لما وقع عقب ذكر الحشر من قوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11]، وذكر قيام الساعة ناسب أن يكون الإمساء وهو آخر اليوم خاطرا في الذهن فقدم لهم ذكره.
و {عَشِيّاً} عطف على {حِينَ تُمْسُونَ} . وقوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} جملة معترضة بين الظروف تفيد أن تسبيح المؤمنين لله ليس لمنفعة الله تعالى بل لمنفعة المسبحين لأن الله محمود في السماوات والأرض فهو غني عن حمدنا.
وتقديم المجرور في {وَلَهُ الْحَمْدُ} لإفادة القصر الادعائي لجنس الحمد على الله تعالى لأن حمده هو الحمد الكامل على نحو قولهم: فلان الشجاع، كما تقدم في طالعة
(21/28)

سورة الفاتحة. ولك أن تجعل التقديم للاهتمام بضمير الجلالة.
والإمساء: حلول المساء. والإصباح: حلول الصباح. وتقدم في قوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} في سورة الأنعام [96]. والإمساء: اقتراب غروب الشمس إلى العشاء. والصباح: أول النهار. والإظهار: حلول وقت الظهر وهو نصف النهار.
وقد استعمل الإفعال الذي همزته للدخول في المكان مثل: أنجد، وأتهم، وأيمن، وأشأم في حلول الأوقات من المساء والصباح والظهر تشبيها لذلك الحلول بالكون في المكان. فيكثر أن يقال: أصبح وأضحى وأمسى وأعتم وأشرق، قال تعالى {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60].
والعشي: ما بعد العصر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} في سورة الأنعام [52].
[19] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [19]}.
هذه الجملة بدل من جملة {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 11]. ويجوز أيضا أن تكون موقع العلة لجملة {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] وما عطف عليها، أي هو مستحق للتسبيح والحمد لتصرفه في المخلوقات بالإيجاد العجيب وبالإحياء بعد الموت. واختير من تصرفاته العظيمة تصرف الإحياء والإماتة في الحيوان والنبات لأنه تخلص للغرض المقصود من إثبات البعث ردا للكلام على ما تقدم من قوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11].
فتحصل من ذلك أن الأمر بتسبيحه وحمده معلول بأمرين: إيفاء حق شكره المفاد بفاء التفريع في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} [الروم: 17]، وإيفاء حق التعظيم والإجلال، والمقصود هو إخراج الحي من الميت. وأما عطف {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فللاحتراس من اقتصار قدرته على بعض التصرفات ولإظهار عجيب قدرته أنها تفعل الضدين. وفي الآية الطباق. وهذا الخطاب للمؤمنين تعريض بالرد على المشركين.
والإخراج: فصل شيء محوي عن حاويه. يقال: أخرجه من الدار، وأخرج يده من جيبه، فهو هنا مستعمل لإنشاء شيء من شيء. والإتيان بصيغة المضارع في {يَخْرُجُ} .
(21/29)

و {يُحْيِي} لاستحضار الحالة العجيبة مثل قوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم: 48]. فهذا الإخراج والإحياء آية عظيمة على استحقاقه التعظيم والإفراد بالعبادة إذ أودع هذا النظام العجيب في الموجودات فجعل في الشيء الذي لا حياة له قوة وخصائص تجعله ينتج الأشياء الحية الثابتة المتصرفة ويجعل في تراب الأرض قوى تخرج الزرع والنبات حيا ناميا.
وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها: إنشاء الأجنة من النطف، وإنشاء الفراخ من البيض؛ وإخراج الميت من الحي يظهر في العكس وقد تقدم في سورة آل عمران. وفي الآية إيماء إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أئمة الكفر وقد قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم "ما كان أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك، فقال لها النبيء صلى الله عليه وسلم: "وأيضا" "أي ستزيدين حبا لنا بسبب نور الإسلام" . وإخراج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من أبيها. ولما كلمت أم كلثوم بنت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إسلامها وهجرتها إلى المدينة حين جاء أخواها يرومان ردها إلى مكة حسب شروط الهدنة فقالت: يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف فأخشى أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي، فقرأ النبيء صلى الله عليه وسلم {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ، ونزلت آية الامتحان فلم يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما وكانت أول النساء المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية.
والتشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} راجع إلى ما يصلح له من المذكور قبله وهو ما فيه إنشاء حياة شيء بعد موته بناء على ما قدمناه من أن قوله: {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ليس مقصودا من الاستدلال ولكنه احتراس وتكملة. ويجوز أن يكون التشبيه راجعا إلى أقرب مذكور وهو إحياء الأرض بعد موتها، أي وكإخراج النبات من الأرض بعد موته فيها يكون إخراجكم من الأرض بعد أن كنتم أمواتا فيها، كما قال تعالى {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح: 17، 18] ولا وجه لاقتصار التشيبه على الثاني دون الأول.
والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان فليس البعث بعد الموت بأعجب من ابتداء الخلق ولكن المشركين حكموا الإلف في موضع تحكيم العقل. وقرأ نافع وحفص وحمزة {الْمَيِّتَ} بتشديد الياء. وقرأه الباقون بالتخفيف. وقرأ الجمهور {تُخْرِجُونَ} بضم التاء
(21/30)

الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي بفتحها.
[20] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [20]}.
لما كان الاستدلال على البعث متضمنا آيات على تفرده تعالى بالتصرف ودلالته على الوحدانية انتقل من ذلك الاستدلال إلى آيات على ذلك التصرف العظيم غير ما فيه إثبات البعث تثبيتا للمؤمنين وإعذار لمن أشركوا في الإلهية. وقد سبقت ست آيات على الوحدانية، وابتدئت بكلمة {وَمِنْ آيَاتِهِ} تنبيها على اتحاد غرضها، فهذه هي الآية الأولى ولها شبه بالاستدلال على البعث لأن خلق الناس من تراب وبث الحياة والانتشار فيهم هو ضرب من ضروب إخراج الحي من الميت، فلذلك كانت هي الأولى في الذكر لمناسبتها لما قبلها فجعلت تخلصا من دلائل البعث إلى دلائل عظيم القدرة. وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الإنسان وتقويم بشريته.
وتقدم كيف كان الخلق من تراب عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} في سورة المؤمنين [12، 13].
فضمير النصب في {خَلَقَكُمْ} عائد إلى جميع الناس وهذا في معنى قوله تعالى في سورة الحج [5] {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} الآية.
وهذا استدلال للناس بأنفسهم لأنهم أشعر بها مما سواها، والناس يعلمون أن النطف أصل الخلقة، وهم إذا تأملوا علموا أن النطفة تتكون من ا لغذاء، وأن الغذاء يتكون من نبات الأرض، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فعلموا أنهم مخلوقون من تراب، فبذلك استقام جعل التكوين من التراب آية للناس أي علامة على عظيم القدرة مع كونه أمرا خفيا. على أنه يمكن أن يكون الاستدلال مبنيا على ما هو شائع بين البشر أن أصل الإنسان تراب حسبما أنبأت به الأديان كلها.
وبهذا التأويل يصح أيضا أن يكون معنى {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} خلق أصلكم وهو آدم، وأول الوجوه أظهرها. فالتراب موات لا حياة فيه وطبعه مناف لطبع الحياة لأن التراب بارد يابس وذلك طبع الموت، والحياة تقتضي حرارة ورطوبة فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي المدرك. وقد أشير إلى الحياة والإدراك بقوله: {إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} ، وإلى التصرف والحركة بقوله: {تَنْتَشِرُونَ} . ولما كان تمام البشرية ينشأ عن تطور التراب إلى نبات ثم إلى نطفة ثم إلى أطوار التخلق في أزمنة متتالية عطفت الجملة بحرف المهلة الدال على تراخي الزمن
(21/31)

مع تراخي الرتبة الذي هو الأصل في عطف الجمل بحرف {ثُمَّ} .
وصدرت الجملة بحرف المفاجأة لأن الكون بشرا يظهر للناس فجأة بوضع الأجنة أو خروج الفراخ من البيض، وما بين ذلك من الأطوار التي اقتضاها حرف المهلة هي أطوار خفية غير مشاهدة؛ فكان الجمع بين حرف المهلة وحرف المفاجأة تنبيها على ذلك التطور العجيب. وحصل من المقارنة بين حرف المهلة وحرف المفاجأة شبه الطباق وإن كان مرجع كل من الحرفين غير مرجع الآخر.
والانتشار: الظهور على الأرض والتباعد بين الناس في الأعمال قال تعالى {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10].
[21] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [21]}.
هذه آية ثانية فيها عظة وتذكير بنظام الناس العام وهو نظام الازدواج وكينونة العائلة وأساس التناسل، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزا في الجبلة لا يشذ عنه إلا الشذاذ.
وهي آية تنطوي على عدة آيات منها: أن جعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جعل تناسله بالتزاوج ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعلها من صنف آخر لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف، وأن جعل في ذلك التزاوج أنسا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجا عنيفا أو مهلكا كتزاوج الضفادع، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة فالزوجان يكونان من قبل التزواج متجاهلين فيصبحان بعد التزواج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزواج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة، ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آيات عدة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان: صنف الذكر، وصنف الأنثى، وإيداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما. وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين. وقد أدمج في الاعتبار بهذه الآية امتنان بنعمة في هذه الآية أشار إليها بقوله: {لَكُمُ} أي لأجل نفعكم.
و {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} متعلق بـ {آيَاتٍ} لما فيه من معنى الدلالة. وجعلت الآيات لقوم يتفكرون لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها ويزيد الناظر بصارة بمنافع أخرى في ضمنها.
(21/32)

والذين يتفكرون: المؤمنون وأهل الرأي من المشركين الذين يؤمنون بعد نزول هذه الآية. والخطاب في قوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} لجميع نوع الإنسان الذكور والإناث.
والزوج: هو الذي به يصير للواحد ثان فيطلق على امرأة الرجل ورجل المرأة فجعل الله لكل فرد زوجه.
ومعنى {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من نوعكم، فجميع الأزواج من نوع الناس، وأما قول تأبط شرا:
وتزوجت في الشبيبة غولا ... بغزال وصدقتي زق خمر
فمن تكاذيبهم، وكذلك ما يزعمه المشعوذون من التزوج بالجنيات وما يزعمه أهل الخرافات والروايات من وجود بنات في البحر وأنها قد يتزوج بعض الإنس ببعضها.
والسكون: هنا مستعار للتأنس وفرح النفس لأن في ذلك زوال اضطراب الوحشة والكمد والسكون الذي هو زوال اضطراب الجسم كما قالوا: اطمأن إلى كذا وانقطع إلى كذا.
وضمن {لِتَسْكُنُوا} معنى لتميلوا فعدي بحرف "إلى" وإن كان حقه أن يعلق بـ"عند" ونحوها من الظروف.
والمودة: المحبة. والرحمة: صفة تبعث على حسن المعاملة.
وإنما جعل في ذلك آيات كثيرة باعتبار اشتمال ذلك الخلق على دقائق كثيرة متولد بعضها عن بعض يظهرها التأمل والتدبر بحيث يتجمع منها آيات كثيرة.
واللام في قوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} معناه شبه التمليك وهو معنى أثبته صاحب "مغني اللبيب" ويظهر أنه واسطة بين معنى التمليك ومعنى التعليل. ومثله في "المغني" بقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل: 72] وذكر في المعنى العشرين من معاني اللام أن ابن مالك في "كافيته" سماه لام التعدية ولعله يريد تعدية خاصة، ومثله بقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5].
[22] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ [22]}
هذه الآية الثالثة وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها؛
(21/33)

فخلق السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقارنة المتلازمة كالليل والنهار والفصول، والمتضادة كالعلو والانخفاض.
وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات، وخص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض، واختلاف مسامته أشعة الشمس لها؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض. ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيدا له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض. وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحوال عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية، فلذلك ذكرت هذه الآية عقب الآيتين السابقتين حسب الترتيب السابق. وقد ظهر وجه المقارنة بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف ألسن البشر وألوانهم، وتقدم في سورة آل عمران [190] قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .
والألسنة: جمع لسان، وهو يطلق على اللغة كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبرهيم: 4] وقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103].
واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كونه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة. فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد، وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة، وتطرق التغير إلى لغاتهم تطرقا تدريجيا؛ على أن توسع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافا في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقا عليه بينها باختلاف لهجات النطق، واختلاف التصرف، فكان لاختلاف الألسنة موجبان. فمحل العبرة هو اختلاف مع اتحاد
(21/34)

أصل النوع كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] ولما في ذلك الاختلاف من الأسرار المقتضية إياه. ووقع في الإصحاح الحادي عشر من "سفر التكوين" ما يوهم ظاهره أن اختلاف الألسن حصل دفعة واحدة بعد الطوفان في أرض بابل وأن البشر تفرقوا بعد ذلك. والظاهر أنه وقع في العبارة تقديم وتأخير وأن التفرق وقع قبل تبلبل الألسن. وقد علل في ذلك "الإصحاح" بما ينزه الله عن مدلوله.
وقيل: أراد باختلاف الألسنة اختلاف الأصوات بحيث تتمايز أصوات الناس المتكلمين بلغة واحدة فنعرف صاحب الصوت وإن كان غير مرئي. وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية أيضا لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم، وله لون واحد لا محالة، ولعله البياض المشوب بحمرة، فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة، ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض، ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلوينا في الجلد، ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلا على اختلاف النوع بل هو نوع واحد، فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسوادن وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في "أرجوزته" في الطب بقوله:
بالنزح حر غير الأجساد ... حتى كسا بياضها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا ... حتى غدت جلودها بضاضا
وكان أصل اللون البياض لأنه غير محتاج إلى علة ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون. ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر. ومن العلماء وهو كوقيي1 جعل أصول ألوان البشر ثلاثة: الأبيض والأسود والأصفر، وهو لون أهل الصين. ومنهم من زاد الأحمر وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنود أمريكا. واعلم أن من مجموع اختلاف اللغات واختلاف الألوان تمايزت الأجذام البشرية واتحدت مختلطات أنسابها. وقد قسموا أجذام البشر الآن إلى ثلاثة أجذام أصلية وهي الجذم القوقاسي الأبيض، والجذم المغولي الأصفر، والجذم الحبشي الأسود، وفرعوها إلى ثمانية وهي الأبيض والأسود والحبشي والأحمر والأصفر والسامي والهندي والملابي
ـــــــ
1 كُوقييْ: عالم طبيعي فرنسي ولد سنة 1769 وتوفي سنة 1832.
(21/35)

نسبة إلى بلاد الملايو.
وجعل ذلك آيات في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} لما علمت من تفاصيل دلائله وعلله، أي آيات لجميع الناس، وهو نظير قوله آنفا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
واللام في قوله: {لِلْعَالَمِينَ} نظير ما تقدم في الآية قبلها. وجعل ذلك آيات للعالمين لأنه مقرر معلوم لديهم بمكنهم الشعور بآياته بمجرد التفات الذهن دون إمعان نظر. وقرأ الجمهور {لِلْعَالَمِينَ} بفتح اللام. وقرأه حفص بكسر اللام أي لأولي العلم.
[23] {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [23]}.
هذه آية رابعة وهي كائنة في أعراض من أعراض الناس لا يخلو عنها أحد من أفرادهم، إلا أنها أعراض مفارقة غير ملازمة فكانت دون الأعراض التي أقيمت عليها الآية الثالثة ولذلك ذكرت هذه الآية بعدها.
وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانونا يسترد به قوة مجموعه العصبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده فيعتريه شبه موت يخدر إدراكه ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقدارا كافيا لاسترجاع قوته فيفيق من نومته وتعود إليه حياته كاملة، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} في سورة البقرة [255]. والمنام مصدر ميمي للنوم أو هو اسم مصدر.
وقوله: {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} متعلق بـ {مَنَامُكُمْ} . والباء للظرفية بمعنى "في" فالناس ينامون بالليل ومنهم من ينام بالنهار في القائلة وبخاصة أهل الأعمال المضنية إذا استراحوا منها في منتصف النهار خصوصا في البلاد الحارة أو في فصل الحر.
والابتغاء من فضل الله: طلب الرزق بالعمل لأن فضل الله الرزق، وجعل هذا كناية عن الهبوب إلى العمل لأن الابتغاء يستلزم الهبوب من النوم، وذلك آية أخرى لأنه نشاط القوة بعد أن خارت وفشلت. ولكون ابتغاء الرزق من خصائص النهار أطلق هنا فلم يقيد بالليل والنهار. ولك أن تجعل عدم تقييده بمثل ما قيد به {مَنَامُكُمْ} للاستغناء بدلالة القيد
(21/36)

الذي قبله بتقدير: وابتغاؤكم من فضله فيهما. وقد تكلف صاحب "الكشاف" فجعل الكلام من قبيل اللف والنشر؛ على أن اللف وقع فيه تفريق، ووجهه محشيه القزويني بأن التقديم للاهتمام بآية الليل والنهار.
وقد جعلت دلالات المنام والابتغاء من فضل الله {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} لوجهين: أحدهما : أن هذين حالتان متعاورتان على الناس قد اعتادوهما فقل من يتدبر في دلالتهما على دقيق صنع الله تعالى؛ فمعظم الناس في حاجة إلى من يوقفهم على هذه الدلالة ويرشدهم إليها. وثانيهما : أن في ما يسمعه الناس من أحوال النوم ما هو أشد دلالة على عظيم صنع الله تعالى مما يشعر به صاحب النوم من أحوال نومه، لأن النائم لا يعرف من نومه إلا الاستعداد له وإلا أنه حين يهب من نومه يعلم أنه كان نائما؛ فأما حالة النائم في حين نومه ومقدار تنبهه لمن يوقظه، وشعوره بالأصوات التي تقع بقربه، والأضواء التي تنتشر على بصره فتنبهه أو لا تنبهه، كل ذلك لا يتلقاه النائم إلا بطريق الخبر من الذين يكونون أيقاظا في وقت نومه. فطريق العلم بتفاصيل أحوال النائمين واختلافها السمع، وقد يشاهد المرء حال نوم غيره إلا أن عبرته بنومه الخاص به أشد، فطريق السمع هو أعم الطرق لمعرفة تفاصيل أحوال النوم، فلذلك قيل {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . وأيضا لأن النوم يحول دون الشعور بالمسموعات بادئ ذي بدء قبل أن يحول دون الشعور بالمبصرات.
وأجريت صفة {يَسْمَعُونَ} على {قَوْمٍ} للإيماء إلى أن السمع متمكن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]. ووجه جعل ذلك آيات لما ينطوي عليه من تعدد الدلالات بتعدد المستدلين وتولد دقائق تلك الآية بعضها عن بعض كما تقدم آنفا.
ومعنى اللام في قوله: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} كما تقدم في معناه عند قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
[24] {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [24]}
تلك آية خامسة وهي متعلقة بالإنسان وليست متصلة به، فإن البرق آية من آيات صنع الله وهو من خلق القوى الكهربائية النورانية في الأسحبة وجعلها آثارا مشاهدة، وكم من قوى أمثالها منبثة في العوالم العلوية لا تشاهد آثارها. ومن الحكم الإلهية في كون البرق
(21/37)

مرئيا أن ذلك يثير في النفوس خوفا من أن يكون الله سلطه عقابا، وطمعا في أن يكون أراد به خيرا للناس فيطمعون في نزول المطر، ولذلك أعقبه بقوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} فإن نزول المطر مما يخطر بالبال عند ذكر البرق.
وقوله: {مِنْ آيَاتِهِ} جار ومجرور يحتاج إلى تقدير كون إن كان ظرفا مستقرا، أو إلى متعلق إن كان ظرفا لغوا. وموقع هذا الجار والمجرور في هذه الآية وارد على مثل مواقع أمثاله في الآيات السابقة واللاحقة الشبيهة بها، وذلك مما يدعو إلى اعتبار ما يذكر بعد الجار والمجرور في معنى مبتدأ مخبر عنه بالجار والمجرور المقدم عليه حملا على نظائره، فيكون المعنى: ومن آياته إرادته إياكم البرق الخ، فلذلك قال أئمة النحو: يجوز هنا جعل الفعل المضارع بمعنى المصدر من غير وجود "أن" ولا تقديرها، أي من غير نصب المضارع بتقدير "أن" محذوفة، وجعلوا منه قول عروة بن الورد.
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذي آثار
وقول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
وجعلوا منه قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] برفع {أَعْبُدُ} في مشهور القراءات، وقولهم في المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل عليها متاعه صدقة" وقوله فيه: "وتميط الأذى عن الطريق صدقة" رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
ومن بديع الاستعمال تفنن هذه الآيات في التعبير عن معاني المصدر بأنواع صيغة الواردة في الاستعمال، من تعبير بصيغة صريح المصدر تارة كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 22] وقوله: {وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23]، وبالمصدر الذي ينسبك من اقتران {أَنْ} المصدرية بالفعل الماضي {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم: 21] واقترانها بالفعل المضارع {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]، وباسم المصدر تارة {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم: 23] ومرة بالفعل المجرد المؤول بالمصدر {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}.
ولك أن تجعل المجرور متعلقا بـ {يُرِيكُمُ} وتكون {مِنْ} ابتدائية في موضع الحال من البرق، وتكون جملة {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} معطوفة على جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ
(21/38)

وَالنَّهَارِ} [الروم: 23] الخ. فيكون تغيير الأسلوب لأن مناط هذه الآية هو تقرير الناس بها إذ هي غير متصلة بذواتهم فليس حظهم منها سوى مشاهدتها والإقرار بأنها آية بينة، فهذا التقرير كالذي في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]، وليتأتى عطف {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} عليه لأنه تكملة لهذه الآية.
وقوله: {خَوْفاً وَطَمَعاً} مفعول لأجله معطوف عليه. والمراد: خوفا تخافونه وطمعا تطمعونه. فالمصدران مؤولان بمعنى الإرادة، أي إرادة أن تخافوا خوفا وتطمعوا. وقد تقدم الكلام على البرق في قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} في سورة الرعد [12]. وتقدم هنالك أن {خَوْفاً} مفعول له و {طَمَعاً} كذلك وتوجيه ذلك.
وجعلت هذه الآية آيات لانطوائها على دقائق عظيمة في خلق القوى التي هي أسباب البرق ونزول المطر وخروج النبات من الأرض بعد جفافها وموتها. ونيط الانتفاع بهذه الآيات بأصحاب صفة العقل لأن العقل المستقيم غير المشوب بعاهة العناد والمكابرة كاف في فهم ما في تلك المذكورات من الدلائل والحكم على نحو ما قرر في نظائره آنفا.
وإجراء {يَعْقِلُونَ} على لفظ {قَوْمٍ} للإيماء إلى ما تقدم ذكره آنفا في مثله. ومعنى اللام في قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} مثل معنى أختها في قوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
[25] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [25]}.
ختمت الآيات بهذه الآية السادسة وهي التي دلت على عظيم القدرة على حفظ نظام المخلوقات العظيمة بعد خلقها؛ فخلق السماوات والأرض آية مستقلة تقدمت، وبقاء نظامهما على ممر القرون آية أخرى. وموقع العبرة من هاته الآية هو أولها وهو أن تقوم السماء والأرض هذا القيام المتقن بأمر الله دون غيره.
فمعنى القيام هنا: البقاء الكامل الذي يشبه بقاء القائم غير المضطجع وغير القاعد من قولهم: قامت السوق، إذا عظم فيها البيع والشراء. وهذا هو المعبر عنه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] وقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65].
والأمر المضاف إلى الله هو أمره التكويني وهو مجموع ما وضعه الله من نظام العالم
(21/39)

العلوي والسفلي، ذلك النظام الحارس لهما من تطرق الاختلال بإيجاد ذلك النظام.
و {بِأَمْرِهِ} متعلق بفعل {تَقُومَ} ، والباء للسببية.
و {ثم} عاطفة الجملة على الجملة. والمقصود من الجملة المعطوفة الاحتراس عما قد يتوهم من قوله: {أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} من أبدية وجود السماوات والأرض، فأفادت الجملة أن هذا النظام الأرضي يعتوره الاختلال إذا أراد الله انقضاء العالم الأرضي وإحضار الخلق إلى الحشر تسجيلا على المشركين بإثبات البعث. فمضمون جملة {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} ليس من تمام هذه الآية السادسة ولكنه تكملة وإدماج موجه إلى منكري البعث.
وفي متعلق المجرور في قوله: {مِنَ الْأَرْضِ} اضطراب؛ فالذي ذهب إليه صاحب "الكشاف" أنه متعلق بـ {دَعَاكُمْ} لأن {دَعَاكُمْ} لما اشتمل على فاعل ومفعول فالمتعلق بالفعل يجوز أن يكون من شؤون الفاعل ويجوز أن يكون من شؤون المفعول على حسب القرينة، كما تقول: دعوت فلانا من أعلى الجبل فنزل إلي، أي دعوته وهو في أعلى الجبل. وهذا الاستعمال خلاف الغالب ولكن دلت عليه القرينة مع التفصي من أن يكون المجرور متعلقا ب {تَخْرُجُونَ} لأن ما بعد حرف المفاجأة لا يعمل فيما قبلها، على أن في هذا المنع نظرا. ولا يجوز تعليقه بـ {دَعْوَةَ} لعدم اشتمال المصدر على فاعل ومفعول، وهو وجيه وكفاك بذوق قائله. وأقول: قريب منه قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. و {مِنْ} لابتداء المكان، والمجرور ظرف لغو. ويجوز أن يكون المجرور حالا من ضمير النصب في {دَعَاكُمْ} فهو ظرف مستقر. ويجوز أن يكون {مِنَ الْأَرْضِ} متعلقا بـ {تُخْرِجُونَ} قدم عليه. وهذا ذكر في "مغنى اللبيب" أنه حكاه عنهم أبو حاتم في كتاب "الوقف" ، وهذا أحسن وأبعد عن التكلف، وعليه فتقديم المجرور للاهتمام تعريضا بخطئهم إذ أحالوا أن يكون لهم خروج من الأرض عن بعد صيرورتهم فيها في قولهم المحكي عنهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] وقولهم {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل: 67].
وأما قضية تقديم المعمول على {إِذَا} الفجائية فإذا سلم عدم جوازه فإن التوسع في المجرور والمظروف من حديث البحر، فمن العجب كيف سد باب التوسع فيه صاحب "مغني اللبيب" في الجهة الثانية من الباب الخامس. وجيء بحرف المفاجأة في قوله: {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} لإفادة سرعة خروجهم إلى الحشر كقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا
(21/40)

هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13, 14] و {إِذاً} الفجائية تقتضي أن يكون ما بعدها مبتدأ. وجيء بخبر المبتدأ جملة فعلية لإفادة التقوي الحاصل من تحمل الفعل ضمير المبتدأ فكأنه أعيد ذكره كما أشار إليه صاحب "المفتاح" . وجيء بالمضارع لاستحضار الصورة العجيبة في ذلك الخروج كقوله: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51].
[26] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُون} َ [26]}.
أتبع ذكر إقامة الله تعالى السماوات والأرض بالتذكير بأن كل العقلاء في السماوات والأرض عبيد لله تعالى فيكون من مكملات ما تضمنته جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] فعطفت عليها هذه ا لجملة زيادة لبيان معنى إقامته السماء والأرض.
فاللام في قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لام الملك، واللام في قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} لام التقوية، أي تقوية تعدية العامل إلى معموله لضعف العامل بكونه فرعا في العمل، وبتأخيره عن معموله. وعليه تكون {مَنْ} صادقة على العقلاء كما هو الغالب في استعمالها. وظاهر معنى القنوت امتثال الأمر، فيجوز أن يكون المعنى: أنهم منقادون لأمره. وإذ قد كان في العقلاء عصاة كثيرون تعين تأويل القنوت باستعماله في الامتثال لأمر التكوين، أو في الشهادة لله بالوحدانية بدلالة الحال، وهذا هو المقصود هنا لأن هذا الكلام أورد بعد ذكر الآيات الست إيراد الفذلكة بإثبات الوحدانية فلا يحمل قنوتهم على امتثالهم لما يأمرهم الله به من أمر التكليف مباشرة أو بواسطة لأن المخلوقات متفاوتون في الامتثال للتكليف؛ فالشيطان أمره الله مباشرة بالسجود آدم فلم يمتثل، وآدم أمره الله مباشرة أن لا يأكل من الشجرة فأكل منها؛ إلا أن ذلك قبل ابتداء التكليف.
والمخلوقات السماوية ممتثلون لأمره ساعون في مرضاته قال تعالى {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. وأما المخلوقات الأرضية العقلاء فهم مخلوقون للطاعة قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56], فزيغ الزائغين عن طاعة الله تعالى انحراف منهم عن الفطرة التي فطروا عليها، وهم في انحرافهم متفاوتون؛ فالضالون الذين أشركوا بالله فجعلوا له أندادا، والعصاة الذين لم يخرجوا عن توحيده، ولكنهم ربما خالفوا بعض أوامره قليلا أو كثيرا، هم في ذلك آخذون بجانب من الإباق متفاوتون فيه. فجملة {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} معطوفة على جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
(21/41)

تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]. ويجوز أن تكون جملة {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} تكملة لجملة {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] على معنى: وله يومئذ من في السماوات والأرض كل له قانتون، فالقنوت بمعنى الامتثال الواقع في ذلك اليوم وهو امتثال الخضوع لأن امتثال التكليف قد انقضى بانقضاء الدنيا، أي لا يسعهم إلا الخضوع فيها يأمر الله به من شأنهم {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24], فتكون الجملة معطوفة على جملة {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]. والقنوت تقدم في قوله: {قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} في سورة النحل [120].
[27] {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27]} .
تقدم نظير صدر هذه الآية في هذه السورة وأعيد هنا ليبنى عليه قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} تكملة للدليل إذ لم تذكر هذه التكملة هناك. فهذا ابتداء بتوجيه الكلام إلى المشركين لرجوعه إلى نظيره المسوق إليهم. وهذا أشبه بالتسليم الجدلي في المناظرة، ذلك لأنهم لما اعترفوا بأن الله هو بادئ خلق الإنسان، وأنكروا إعادته بعد الموت، واستدل عليهم هنالك بقياس المساواة، ولما كان إنكارهم الإعادة بعد الموت متضمنا تحديد مفعول القدرة الإلهية جاء التنازل في الاستدلال إلى أن تحديد مفعول القدرة لو سلم لهم لكان يقتضي إمكان البعث بقياس الأحرى فإن إعادة المصنوع مرة ثانية أهون على الصانع من صنعته الأولى وأدخل تحت تأثير قدرته فيما تعارفه الناس في مقدوراتهم. فقوله: {أَهْوَنُ} اسم تفضيل، وموقعه موقع الكلام الموجه، فظاهره أن {أَهْوَنُ} مستعمل في معنى المفاضلة على طريقة إرخاء العنان والتسليم الجدلي، أي الخلق الثاني أسهل من الخلق الأول، وهذا في معنى قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]. ومراده: أن إعادة الخلق مرة ثانية مساوية لبدء الخلق في تعلق القدرة الإلهية، فتحمل صيغة التفضيل على معنى قوة الفعل المصوغة له كقوله: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]. وللإشارة إلى أن قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} مجرد تقريب لأفهامهم عقب بقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي ثبت له واستحق الشأن الأتم الذي لا يقاس بشؤون الناس المتعارفة وإنما لقصد التقريب لأفهامكم.
(21/42)

و {الْأَعْلَى} : معناه الأعظم البالغ نهاية حقيقة العظمة والقوة. قال حجة الإسلام في "الإحياء" : "لا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء الشمس ولكنهم ينالون منها ما تحيا به أبصارهم وقد تأنق بعضهم في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام المجيد إلى فهم الإنسان لعلو درجة الكلام المجيد وقصور رتبة الأفهام البشرية فإن الناس إذا أرادوا أن يفهموا الدواب ما يريدون من تقديمها وتأخيرها ونحوه وروأها تقصر عن فهم الكلام الصادر عن العقول مع حسنه وترتيبه نزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إليها بأصوات يضعونها لائقة بها من الصفير ونحوه من الأصوات القريبة من أصواتها" اهـ.
وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صفة للمثل أو حال منه، أي كان استحقاقه المثل الأعلى مستقرا في السماوات والأرض، أي في كائنات السموات والأرض، فالمراد: أهلها، على حد {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، أي هو موصوف بأشرف الصفات وأعظم الشؤون على ألسنة العقلاء وهي الملائكة والبشر المعتد بعقولهم ولا اعتداد بالمعطلين منهم لسخافة عقولهم وفي دلائل الأدلة الكائنة في السماوات وفي الأرض، فكل تلك الأدلة شاهدة بأن لله المثل الأعلى.
ومن جملة المثل الأعلى عزته وحكمته تعالى؛ فخصا بالذكر هنا لأنهما الصفتان اللتان تظهر آثارهما في الغرض المتحدث عنه وهو بدء الخلق وإعادته؛ فالعزة تقتضي الغنى المطلق فهي تقتضي تمام القدرة. والحكمة تقتضي عموم العلم. ومن آثار القدرة والحكمة أنه يعيد الخلق بقدرته وأن الغاية من ذلك الجزاء وهو من حكمته.
[28] {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [28]}.
أتبع ضرب المثل لإمكان إعادة الخلق عقب دليل بدئه بضرب مثل لإبطال الشرك عقب دليليه المتقدمين في قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم: 19] وقوله: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19] لينتظم الدليل على هذين الأصلين المهمين: أصل الوحدانية، وأصل البعث، وينكشف بالتمثيل والتقريب بعد نهوضه بدليل العقل. والخطاب للمشركين.
وضرب المثل: إيقاعه ووضعه، وعليه فانتصاب {مَثَلاً} على المفعول به، أو يراد
(21/43)

بضربه جعله ضربا، أي مثلا ونظيرا، وعليه فانتصاب {مَثَلاً} على المفعولية المطلقة لأن {مَثَلاً} حينئذ يرادف ضربا مصدر ضرب بهذا المعنى. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26]. واللام في قوله: {لَكُمُ} لام التعليل، أي ضرب مثلا لأجلكم، أي لأجل إفهامكم.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ابتدائية متعلقة بـ {ضَرَبَ} ، أي جعل لكم مثلا منتزعا من أنفسكم، والأنفس هنا جنس الناس كقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، أي مثلا من أحوال جماعتكم إذ لا تخلو الجماعة عن ناس لهم عبيد وهم يعرفون أحوال العبيد مع سادتهم سواء منهم من يملك عبيدا ومن لا عبيد له. فالخطاب لجميع الأمة باعتبار وجود فريق فيهم ينطبق عليهم هذا المثل. والاستفهام مستعمل في الإنكار ومناط الإنكار قوله: {فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ} إلى آخره، أي من شركاء لهم هذا الشأن.
و {مِنْ} في قوله: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} تبعيضية، و {مِنْ} في قوله: {مِنْ شُرَكَاءَ} زائدة مؤكدة لمعنى النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري. فالجمع بين هذه الحروف في كلام واحد من قبيل الجناس التام.
والشركاء: جمع شريك، وهو المشارك في المال لقوله: {فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ} ، والفاء للتفريع على الشركة، أي فتكونوا متساوين فيما أنتم فيه شركاء.
وجملة {تَخَافُونَهُمْ} في موضع الحال من ضمير الفاعل في {سَوَاءٌ} . والخوف: انفعال نفساني ينشأ من توقع إصابة مكروه يبقى، وهو هنا التوقي من التفريط في حظوظهم من الأرزاق وليس هو الرعب بقرينة قوله: {كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، أي كما تتوقون أنفسكم من إضاعة حقوقكم عندهم.
والأنفس الثاني بمعنى: أنفس الذين لهم شركاء مما ملكت أيمانهم من المخاطبين لأنهم بعض المخاطبين.
وهذا المثل تشبيه هيئة مركبة بهيئة مركبة؛ شبهت الهيئة المنتزعة من زعم المشركين أن الأصنام شركاء لله في التصرف ودافعون عن أوليائهم ما يريده الله من تسلط عقاب أو نحوه إذ زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وهم مع ذلك يعترفون بأنها مخلوقة لله فإنهم يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك. هذه الهيئة شبهت بهيئة ناس لهم عبيد صاروا شركاء في أرزاق سادتهم شركة على السواء فصار سادتهم يحذرون إذا أرادوا أن
(21/44)

يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم. وهذا التشبيه وإن كان منصرفا لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيدا، وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس، وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم، وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام،وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفا يأبونه. فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهة منفية منكرة، ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود لينتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازا لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة.
ولذلك عقب بجملة {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلا كهذا التفصيل وضوحا بينا، وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24] ستئناف ابتدائي. والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض، والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم، فيزداد المؤمنون يقينا ويؤمن الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة.
وفي ذكر لفظ {قَوْمٍ} وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [162]، وتقدمت له نظائر كثيرة. والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله: {يَعْقِلُونَ} [الروم: 24].
وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول، وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
وقوله: {كَذَلِكَ} تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا} [البقرة: 143].
(21/45)

[29] {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [29]}.
إضراب إبطالي لما تضمنه التعريض الذي في قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28] إذ اقتضى أن الشأن أن ينتفع الناس بمثل هذا المثل فيقلع المشركون منهم عن إشراكهم ويلجوا حظيرة الإيمان، ولكنهم اتبعوا أهواءهم وما تسوله لهم نفوسهم ولم يطلبوا الحق ويتفهموا دلائله فهم عن العلم بمنأى. فالتقدير: فما نفعتهم الآيات المفصلة بل اتبعوا أهواءهم.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} : المشركون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 31] وتقييد اتباع الهوى بأنه بغير علم تشنيع لهذا الاتباع فإنه اتباع شهوة مع جهالة، فإن العالم إذا اتبع الهوى كان متحرزا من التوغل في هواه لعلمه بفساده، وليس ما هنا مماثلا لقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] في أنه قيد كاشف من حيث إن الهوى لا يكون إلا ملتبسا بمغايرة هدى الله.
والفاء في {فَمَنْ يَهْدِي} للتفريع، أي يترتب على اتباعهم أهواءهم بغير علم انتفاء الهدى عنهم أبدا. و {مَنْ} اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي فيفيد عموم نفي الهادي لهم، إذ التقدير: لا أحد يهدي من أضل الله لا غيرهم ولا انفسهم، فإنهم من عموم ما صدق {مَنْ يَهْدِي} .
ومعنى {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} : من قدر له الضلال وطبع على قلبه، فإسناد الإضلال إلى الله إسناد لتكوينه على ذلك لا للأمر به وذلك بين. ومعنى انتفاء هاديهم: أن من يحاوله لا يجد له في نفوسهم مسلكا.
ثم عطف على جملة نفي هداهم خبر آخر عن حالهم وهو {مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ردا على المشركين الزاعمين أنهم إذا أصابوا خطيئة عند الله أن الأصنام تشفع لهم عند الله.
[30] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [30]}
الفاء فصيحة. والتقدير: إذا علمت أحوال المعرضين عن دلائل الحق فأقم وجهك للدين.
والأمر مستعمل في طلب الدوام. والمقصود: أن لا تهتم بإعراضهم، كقوله تعالى:
(21/46)

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] وقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] "أي من آمن" وقوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
فالمعنى: فأقم وجهك للدين والمؤمنون معك، كما يؤذن به قوله بعده {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: 31] بصيغة الجمع.
وإقامة الوجه: تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يمينا ولا شمالا. وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يمنة ولا يسرة، وهذا كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ} [الأعراف: 29] وقوله حكاية عن إبراهيم {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] وقوله تعالى: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20]، أي أعطيته لله، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وأن لا يلتفت إلى معبود غيره.
والتعريف في {الدِّينِ} للعهد وهو دينهم الذي هم عليه وهو دين الإسلام. و {حَنِيفاً} يجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في فعل {أَقِمْ} فيكون حالا للنبيء صلى الله عليه وسلم كما كان وصفا لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120], وهذا هو الأظهر في تفسيره. ويجوز كونه حالا من الدين على ما فسر به الزجاج فيكون استعارة بتشبيه الدين برجل حنيف في خلوه من شوائب الشرك، فيكون الحنيف تمثيلية وفي إثباته للدين استعارة تصريحية.
وحنيف: صيغة مبالغة في الاتصاف بالحنف وهو الميل، وغلب استعمال هذا الوصف في الميل عن الباطل، أي العدول عنه بالتوجه إلى الحق، أي عادلا ومنقطعا عن الشرك كقوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وقد مضى في سورة البقرة [135].
و {فِطْرَتَ اللَّهِ} بدل من {حَنِيفاً} بدل اشتمال فهو في معنى الحال من {الدِّينِ} أيضا وهو حال ثانية فإن الحال كالخبر تتعدد بدون عطف على التحقيق عند النحاة. وهذا أحسن لأنه أصرح في إفادة أن هذا الدين مختص بوصفين هما: التبرؤ من الإشراك، وموافقته الفطرة، فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه. ونظيره قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف: 1، 2] أي الدين الذي هو فطرة الله لأن التوحيد هو الفطرة، والإشراك تبديل للفطرة. والفطرة أصله اسم هيئة من الفطر وهو الخلق مثل الخلقة كما بينه قوله: {الَّتِي فَطَرَ
(21/47)

النَّاسَ عَلَيْهَا} أي جبل الناس وخلقهم عليها، أي متمكنين منها. فحرف الاستعلاء مستعار لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكنا يشبه تمكن المعتلي على شيء، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5]، وحقيقة المعنى: التي فطر الناس بها.
ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقن اعتقادا ضالا لاهتدى إلى التوحيد بفطرته. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي الفطرة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي معدة ومهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه. اهـ.
وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه: بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدا وعقلا، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية.
وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتابه "النجاة" فقال: "ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأيا ولم يعتقد مذهبا ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات، ثم يعرض على ذهنه شيئا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة، وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلا، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة، وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات بل هي مبادئ للمحسوسات. فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها: إما شهادة الكل مثل: أن العدل جميل، وإما شهادة الأكثر؛ وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم. وليست
(21/48)

الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأولي عقلي ولا وهمي فإنها غير فطرية، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبى وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس أو الاستقراء الكثير، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقا صرفا فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق. اهـ. فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي: إما أمور فطرية أيضا، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته.
وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة. وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى "مقاصد الشريعة الإسلامية" . واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها، وسبروا أحوال البشر، وتعرضت أفهامهم زمانا لتصاريف الشريعة، وتوسموا مراميها، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء.
إن المجتمع الإنساني قد مني عصورا طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته، فتلك يخاف منها أن تتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحق، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كل سبيل، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خير دليل. وكون الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ
(21/49)

الْقَيِّمُ} . فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحا للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحا يسرا لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة.
وفي قوله: {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} بيان لمعنى الإضافة في قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ} ، وتصريح بأن الله خلق الناس سالمة عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جراء التلقي والتعود، وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ، أي كما تولد البهيمة من ابل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها، أي تولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء، و"تحسون" تدركون بالحس، أي حاسة البصر. فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة، أي في تفاريعها. وفي "صحيح مسلم" أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم -أي غير مشركين- وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" الحديث1.
وجملة {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} مبينة لمعنى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فهي جارية مجرى حال ثالثة من {الدِّينِ} على تقدير رابط محذوف. والتقدير: لا تبديل لخلق الله فيه، أي في هذا الدين، فهو كقوله في حديث أم زرع في قول الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة أي في ذلك الليل.
فمعنى {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أنه الدين الحنيف الذي ليس فيه تبديل لخلق الله خلاف دين أهل الشرك، قال تعالى عن الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. ويجوز أن تكون جملة {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة. فتكون {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} خبرا مستعملا في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله: {لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. فنفي الجنس مراد به جنس من التبديل خاص بالوصف لا نفي وقوع جنس التبديل فهو من العام المراد به الخصوص
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في صفة أهل الجنة من كتاب "الجنة والنار" . وهو حديث طويل.
(21/50)

بالقرينة. واسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدين مع تعظيمه.
و {الْقَيِّمُ} : وصف بوزن فيعل مثل هين ولين يفيد قوة الاتصاف بمصدره، أي البالغ قوة القيام مثل استقام الذي هو مبالغة في قام كاستجاب.
والقيام: حقيقته الانتصاب ضد القعود والاضطجاع، ويطلق مجازا على انتفاء الاعوجاج يقال: عود مستقيم وقيم، فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطإ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، كما في قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف: 1، 2] وقال تعالى {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} في سورة براءة [36].
ويطلق أيضا على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33], ومنه قلنا لراعي التلامذة ومراقب أحوالهم: قيم. ويطلق القيم على المهيمن والحافظ. والمعاني كلها صالحة للحمل عليها هنا، فإن هذا الكتاب معصوم عن الخطأ ومتكفل بمصالح الناس وشاهدا على الكتب السالفة تصحيحا ونسخا قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وتقدم في طالع سورة المائدة [48]. فهذا الدين به قوام أمر الأمة. قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل: يا معاذ ما قوام هذه الأمة? قال: الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت. يريد معاذ بالإخلاص التوحيد كقوله تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
والاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} لدفع توهم واهم يقول إذا كان هو دين الفطرة وهو القيم فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه، فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فإنهم جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل ولا يعلمون منه إلا ما لا يفيدهم مهمهم لأنهم لم يسعوا في أن يبلغهم على الوجه الصحيح؛ ففعل {لا يَعْلَمُونَ} غير متطلب مفعولا بل هو منزل منزلة اللازم لأن المعنى لا علم عندهم على نحو ما قرر في نظيره في أول هذه السورة.
والمراد بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} المشركون إذ أعرضوا عن دعوة الإسلام، وأهل الكتاب إذ أبوا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أديانهم بعد إبطالها لانتهاء صلاحية تفاريعها بانقضاء الأحوال التي شرعت لها انقضاء لا مطمع بعده لأن تعود.
(21/51)

ومقابل {أَكْثَرَ النَّاسِ} هم المؤمنون، وشر ذمة من علماء أهل الكتاب علموا أحقية الإسلام وبقوا على أديانهم عنادا: فهم يعلمون ويكابرون، أو تحيرا: فهم في شك بين علم وجهل.
[31، 32] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [31] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [32]} .
{مُنِيبِينَ} حال من ضمير {فَأَقِمْ} [الروم: 30] للإشارة إلى أن الخطاب الموجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مراد منه نفسه والمؤمنون معه كما تقدم.
والمنيب: الملازم للطاعة. ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيه للصيرورة، والنوبة: حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس. وأصلها: فعلة بصيغة المرة لأنها مرة من النوب وهو قيام أحد مقام غيره، ومنه النيابة، ويقال: تناوبوا عمل كذا. وفي حديث عمر: "كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما" الحديث، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهدا متكررا، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها قال تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} في سورة هود [75]. وفسرت الإنابة أيضا بالتوبة. وقد قيل: إن ناب مرادف تاب، وهو المناسب لقوله في الآية الموالية {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33]. والأمر الذي في قوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} مستعمل في طلب الدوام.
و {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} هم المشركون لأنهم اتخذوا عدة آلهة. وإنما كررت {مِنْ} التبعيضية لاعتبار الذين فرقوا دينهم بدلا من المشركين بدلا مطابقا أو بيانا، فإظهار حرف الجر ثانية مع الاستغناء عنه بالبدلية تأكيد بإظهار العامل كما تقدم في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] وشأن البدل والبيان أن يجوز معهما إظهار العامل المقدر فيخرجان عن إعراب التوابع إلى الإعراب المستقل ويكونان في المعنى بدلا أو بيانا ولهذا قال النحاة: إن البدل على نية تكرار العامل. وقال المحققون: إن البدل معرب بالعامل المقدر، ومثله البيان وهما سيان. وتقدم الكلام على معنى {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} في آخر سورة الأنعام [159].
وقرأ الجمهور {فَرَّقُوا} بتشديد الراء. وقرأه حمزة والكسائي {فَرَّقُوا دِينَهُمْ} بألف
(21/52)

بعد الفاء فالمراد بالدين دين الإسلام. ومعنى مفارقتهم إياه ابتعادهم منه، فاستعيرت المفارقة للنبذ إذ كان الإسلام هو الدين الذي فطر الله عليه الناس فلما لم يتبعوه جعل إعراضهم عنه كالمفارقة لشيء كان مجتمعا معه، وليس المراد الارتداد عن الإسلام.
والشيع: جمع شيعة وهي الجماعة التي تشايع، أي توافق رأيا، وتقدم قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} في سورة مريم [69].
والحزب: الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة. و {مَا لَدَيْهِمْ} هو ما اتفقوا عليه. والفرح: الرضا والابتهاج. وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها، فإذا اختلفوا في أمور الدين الاختلاف الذي يقتضيه اختلاف الاجتهاد أو اختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد فليحذروا أن يجرهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعا متعادين متفرقين يلعن بعضهم بعضا ويذيق بعضهم بأس بعض. وتقدم {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} في سورة المؤمنين [53].
[33، 34] {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [33] لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [34]}.
عطف على جملة {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم: 32] أي فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وإذا مسهم ضر فدعوا الله وحده فرحمهم عادوا إلى شركهم وكفرهم نعمة الذي رحمهم. فالمقصود من الجملة هو قوله: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} ، فمحل انتظامه في مذام المشركين أنهم يرجعون إلى الكفر، بخلاف حال المؤمنين فإنهم أذاقهم الله رحمة بعد ضر شكروا نعمة ربهم وذلك من إنابتهم إلى الله. ونسج الكلام على هذا الأسلوب ليكون بمنزلة التذييل بما في لفظ {النَّاسَ} من العموم وإدماجا لفضيلة المؤمنين الذين لا يكفرون نعمة الرحيم. فالتعريف في {النَّاسَ} للاستغراق.
والضر، بضم الضاد: سوء الحال في البدن أو العيش أو المال، وهذا نحو ما أصاب قريشا من الشدة والقحط حتى كانوا يرون في الجو مثل الدخان من شدة الجفاف، وحتى أكلوا العظام والميتة، وقد أصاب ذلك مشركيهم ومؤمنيهم وكانت شدته على المشركين لأنهم كانوا في رفاهية، فالشدة أقوى عليهم. فأرسلوا إلى النبيء صلى الله عليه وسلم يستشفعون به أن يدعو الله بكشف الضر عنهم فدعا فأمطروا فعادوا إلى ترفهم، قال تعالى: {فَارْتَقِبْ
(21/53)

يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآيات، فدعاؤهم ربهم يشمل طلبهم أن يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم. و {مُنِيبِينَ} حال من الناس كلهم أي استووا في الإنابة إليه أي راجعين إليه بعد، واشتغل المشركون عنه بدعاء الأصنام، قال تعالى {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} . وتقدم {مُنِيبِينَ} آنفا.
والمس: مستعار للإصابة. وحقيقة: المس أنه وضع اليد على شيء ليعرف وجوده أو يختبر حاله، وتقدم في قوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في العقود [73]. واختير هنا لما يستلزمه من خفة الإصابة، أي يدعون الله إذا أصابهم خفيف ضر بله الضر الشديد.
والإذاقة: مستعارة للإصابة أيضا، وحقيقتها: إصابة المطعوم بطرف اللسان وهي أضعف إصابات الأعضاء للأجسام فهي أقل من المضغ والبلع، وتقدم في قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود [95]، و {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ} في سورة يونس [21]. واختير فعل الإذاقة لما يدل عليه من إسراعهم إلى الإشراك عند ابتداء إصابة الرحمة لهم.
والرحمة: تخليصهم من الشدة. و {ثُمّ} للتراخي الرتبي لأن إشراكهم بالله بعد الدعاء والإنابة وحصول رحمته أعجب من إشراكهم السابق، ففي التراخي الرتبي معنى التعجيب من تجدد إشراكهم، وحرف المفاجأة {إِذَا} يفيد أيضا أن هذا الفريق أسرعوا العودة إلى الشرك بحدثان ذوق الرحمة لتأصل الكفر منهم وكمونه في نفوسهم.
وضمير {مِنْهُ} عائد إلى الله تعالى. و {مِنْ} ابتدائية متعلقة بـ {أَصَابَهُمْ} . و {رَحْمَةً} فاعل {أَصَابَهُمْ} ولم يؤنث لها الفعل لأن تأنيث مسمى الرحمة غير حقيقي ولأجل الفصل بالمجرور. وتقديم المجرور على الفاعل للاهتمام به ليظهر أن الذي أصابهم هو من فضل الله وتقديره لا غير ذلك.
واللام في قوله: {لِيَكْفُرُوا} لام التعليل وهي مستعارة لمعنى التسبب الذي حقه أن يفاد بالفاء لأنهم لما أشركوا لم يريدوا بشركهم أن يجعلوه علة للكفر بالنعمة ولكنهم أشركوا محبة للشرك فكان الشرك مفضيا إلى كفرهم نعمة الله خشية الإفضاء والتسبب بالعلة الغائية على نحو قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].
وضمير {لِيَكْفُرُوا} عائد إلى الفريق باعتبار معناه.
(21/54)

والإيتاء: إعطاء النافع، أي بما أنعمنا عليهم من النعم التي هي نعمة الإيجاد والرزق وكشف الضر عنهم. ثم التفت عن الغيبة إلى الخطاب بقوله: {فَتَمَتَّعُوا} توبيخا لهم وإنذارا. وجيء بفاء التفريع في قوله: {فَتَمَتَّعُوا} لأن الإنذار والتوبيخ مفرعان عن الكلام السابق. والأمر في "تمتعوا" مستعمل في التهديد والتوبيخ. والتمتع: الانتفاع بالملائم وبالنعمة مدة تنقضي.
والفاء في {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تفريع للإنذار على التوبيخ، وهو رشيق. و"سوف تعلمون" إنذار بأنهم يعلمون في المستقبل شيئا عظيما، والعلم كناية عن حصول الأمر الذي يعلم، أي عن حلول مصائب بهم لا يعلمون كنهها الآن، وهو إيماء إلى عظمتها وأنها غير مترقبة لهم. وهذا إشارة إلى ما سيصابون به يوم بدر من الاستئصال والخزي وهم كانوا يستعجلون بعذاب من جنس ما عذب به الأمم الماضية مثل عاد وثمود، وكانت الغاية واحدة؛ فإن إصابتهم بعذاب سيوف المسلمين أبلغ في كون استئصالهم بأيدي المؤمنين مباشرة، وأظهر في إنجاء المؤمنين من عذاب لا يصيب الذين ظلموا خاصة وذلك هو المراد في قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 15، 16]. والبطشة الكبرى: بطشة يوم بدر.
[35] {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [35]
{أَمْ} منقطعة، فهي مثل "بل" للإضراب وهو إضراب انتقالي. وإذ كان حرف {أَمْ} حرف عطف فيجوز أن يكون ما بعدها إضرابا عن الكلام السابق فهو عطف قصة على قصة بمنزلة ابتداء، والكلام توبيخ ولوم متصل بالتوبيخ الذي أفاده قوله: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم: 34]. وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن مخاطبتكم إلى مخاطبة المسلمين تعجيبا من حال أهل الشرك. ويجوز أن يكون ما بعدها متصلا بقوله: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم: 29] فهو عطف ذم على ذم وما بينهما اعتراض.
وحيثما وقعت {أَمْ} فالاستفهام مقدر بعدها لأنها ملازمة لمعنى الاستفهام. فالتقدير: بل أنزلنا عليهم سلطانا وهو استفهام إنكاري، أي ما أنزلنا عليهم سلطانا، ومعنى الاستفهام الإنكاري أنه تقرير على الإنكار كأن السائل يسأل المسؤول ليقر بنفي المسؤول عنه.
(21/55)

والسلطان: الحجة. ولما جعل السلطان مفعولا للإنزال من عند الله تعين أن المراد به كتاب كما قالوا {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93]. ويتعين أن المراد بالتكلم الدلالة بالكتابة كقوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29], أي تدل كتابته، أي كتب فيه بالقلم القدرة أن الشرك حق كقوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21]. وقدم {بِهِ} على {يشْرِكُونَ} للاهتمام بالتنبيه على سبب إشراكهم الداخل في حيز الإنكار للرعاية على الفاصلة.
[36, 37] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [36] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [37]} .
أعيد الكلام على أحوال المشركين زيادة في بسط الحالة التي يتلقون بها الرحمة وضدها تلقيا يستوون فيه بعد أن ميز فيما تقدم حال تلقي المشركين للرحمة بالكفران المقتضي أن المؤمنين لا يتلقونها بالكفران. فأريد تنبيههم هنا إلى حالة تلقيهم ضد الرحمة بالقنوط ليحذروا ذلك ويرتاضوا برجاء الفرج والابتهال إلى الله في ذلك والأخذ في أسباب انكشافها. والرحمة أطلقت على أثر الرحمة وهو المنافع والأحوال الحسنة الملائمة كما ينبغي عنه مقابلتها بالسيئة وهي ما يسوء صاحبه ويحزنه فالمقصد من هذه الآية تخلق المسلمين بالخلق الكامل، فـ {النَّاسَ} مراد به خصوص المشركين بقرينة أن الآية ختمت بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وقدمت في هذه الآية إصابة الرحمة على إصابة السيئة عكس التي قبلها للاهتمام بالحالة التي جعلت مبدأ العبرة وأصل الاستدلال، فقوله: {فَرِحُوا بِهَا} وصف لحال الناس عندما تصيبهم الرحمة ليبنى عليه ضده في قوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} لما يقتضيه القنوط من التذمر والغضب، فليس في الكلام تعريض بإنكار الفرح حتى نضطر إلى تفسير الفرح بالبطر ونحوه لأنه عدول عن الظاهر بلا داع. والمعنى: أنهم كما يفرحون عند الرحمة ولا يخطر ببالهم زوالها ولا يحزنون من خشيته، فكذلك ينبغي أن يصبروا عند ما يمسهم الضر ولا يقنطوا من زواله لأن قنوطهم من زواله غير جار على قياس حالهم عندما تصيبهم رحمة حين لا يتوقعون زوالها، فالقنوط هو محل الإنكار عليهم وهذا كقوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49] في أن محل التعجيب هو اليأس والقنوط، وتقدم ذكر الإذاقة آنفا. والقنوط: اليأس، وتقدم في سورة الحجر [55]
(21/56)

عند قوله تعالى: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} .
وأدمج في خلال الإنكار عليهم قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} لتنبيههم إلى أن ما يصيبهم من حالة سيئة في الدنيا إنما سببها أفعالهم التي جعلها الله أسبابا لمسببات مؤثرة لا يحيط بأسرارها ودقائقها إلا الله تعالى، فما على الناس إلا أن يحاسبوا أنفسهم ويجروا أسباب إصابة السيئات، ويتداركوا ما فات، فذلك أنجى لهم من السيئات وأجدر من القنوط. وهذا أدب جليل من آداب التنزيل قال تعالى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
وقرأ الجمهور {يقنطون} بفتح النون على أنه مضارع قنط من باب حسب. وقرأه أبو عمرو والكسائي بكسر النون على أنه مضارع قنط من باب ضرب وهما لغتان فيه.
ثم أنكر عليهم إهمال التأمل في سنة الله الشائعة في الناس: من لحاق الضر وانفراجه، ومن قسمة الحظوظ في الرزق بين بسط وتقتير فإنه كثير الوقوع كل حين فكما أنهم لم يقنطوا من بسط الرزق عليهم في حين تقتيره فكدحوا في طلب الرزق بالأسباب والدعاء فكذلك كان حقهم أن يتلقوا السوء النادر بمثل ما يتلقون به ضيق الرزق، فيسعوا في كشف السيئة بالتوبة والابتهال إلى الله وبتعاطي أسباب زوالها من الأسباب التي نصبها الله تعالى، فجملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} الخ عطف على جملة {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} . والاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ أنكر عليهم عدم الرؤية تنزيلا لرؤيتهم ذلك منزلة عدم الرؤية لإهمال آثارها من الاعتبار بها. فالتقدير: إذا هم يقنطون كيف لم يروا بسط الله الرزق وتقتيره كأنهم لم يروا ذلك. والرؤية بصرية.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تذييل، أي في جميع ما ذكر آيات كثيرة حاصلة كثرتها من اشتمال كل حالة من تلك الأحوال على أسباب خفية وظاهرة، ومسبباتها كذلك، ومن تعدد أحوال الناس من الاعتبار بها والأخذ منها، كل على حسب استعداده. وخص القوم المؤمنون بذلك لأنهم أعمق بصائر بما ارتاضت عليه أنفسهم من آداب الإيمان ومن نصب أنفسهم لطلب العلم والحكمة من علوم الدين وحكمة النبوءة.
[38] {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [38].
فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها، وقد اشتمل الكلام
(21/57)

قبلها على لحاق آثار رحمة الله بالناس، وإصابة السوء إياهم، وعلى أن ما يصيبهم من السوء بما قدمت أيدي الناس، وذكر بسط الرزق وتقديره. وتضمن ذلك أن الفرح يلهيهم عن الشكر، وأن القنوط يلهيهم عن المحاسبة في الأسباب، فكان الأمر بإيتاء الضعفاء والمنكوبين إرشادا إلى وسائل شكر النعمة عند حصولها شكرا من نوعها واستكشاف الضر عند نزوله، وإلى أن من الحق التوسعة على المضيق عليهم الرزق، كما يحب أن يوسع عليه رزقه؛ فالخطاب بالأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم باعتبار من معه من المؤمنين ممن يحق عليه الإيتاء وهو الذي بسط له في الرزق، أي فآتوا ذا القربى حقه بقرينة قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] الآية. ويجوز أن يكون خطابا لغير معين من المؤمنين.
والإيتاء: الإعطاء. وهو مشعر بأن المعطى مال، ويقوي ذلك وقوع الآية عقب قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الروم: 37]. وصيغة الأمر من قوله: {فَآتِ} مجمل. والأصل في محملها لاوجوب مع أن المأمور بإيتائه عبر عنه بأنه حق والأصل في الحق الوجوب. وظاهر الآية يقتضي أن المراد حق في مال المؤتي.
وعن مجاهد وقتادة: صلة الرحم - أي بالمال - فرض من الله عز وجل لا تقبل صدقة أحد ورحمه محتاجة. وقال الحسن: حق ذي القربى المواساة في اليسر، وقول ميسور في العسر. وقال ابن عطية: معظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة" ، وللمساكين وابن السبيل حق، وبين أن حق هذين في المال اهـ. أقول ولذلك قال جمع كثير: إن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وقال فريق: لم تنسخ بل للقريب حق في البر على كل حال، أي لا نسخ في جميع ما تضمنته بل نسخ بعضه بآية المواريث وبقي ما عداه. قلت: وما بقي غير منسوخ مختلفة أحكامه، وهو مجمل تبينه أدلة أخرى متفرقة من الشريعة.
و {الْقُرْبَى} : قرب النسب والرحم. وتقدم عند قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} في سورة النساء [36].
و {الْمِسْكِينِ} تقدم في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} في سورة التوبة [60]. و {ابْنَ السَّبِيلِ} : المسافر المجتاز بالقرية أو بالحي.
ووقع الحق مجملا والحوالة في بيانه على ما هو متعارف بين الناس وعلى ما يبينه النبيء صلى الله عليه وسلم. وكانت الصدقة قبل الهجرة واجبة على الجملة موكولة إلى حرص المؤمن. وقد أطلق عليها اسم الزكاة في آيات مكية كثيرة، وقرنت بالصلاة؛ فالمراد بها في تلك الآيات الصدقة الواجبة وكانت غير مضبوطة بنصب ثم ضبطت بأصناف ونصب ومقادير
(21/58)

مخرجة عنها. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "فإن الزكاة حق المال". وإنما ضبطت بعد الهجرة فصار ما عداها من الصدقة غير واجب. وقصر اسم الزكاة على الواجبة وأطلق على ما عداها اسم الصدقة أو البر أو نحو ذلك، فجماع حق هؤلاء الثلاثة المواساة بالمال، فدل على أن ذلك واجب لهم. وكان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بفرض الزكاة، ثم إن لكل صنف من هؤلاء الثلاثة حقا؛ فحق ذي القربى يختلف بحسب حاجته؛ فللغني حقه في الإهداء توددا، وللمحتاج حق أقوى. والظاهر أن المراد ذو القرابة الضعيف المال الذي لم يبلغ به ضعفه مبلغ المسكنة بقرينة التعبير عنه بالحق، وبقرينة مقابلته بقوله: {لِترْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39] على أحد الاحتمالات في تفسيره. وأما إعطاء القريب الغني فلعله غير مراد هنا وليس مما يشمله لفظ {حَقَّهُ} وإنما يدخل في حسن المعاملة المرغب فيها.
وحق المسكين: سد خلته. وحق ابن السبيل: الضيافة كما في الحديث "جائزته يوم وليلة" والمقصود إبطال عادة أهل الجاهلية إذ كانوا يؤثرون البعيد على القريب في الإهداء والإيصاء حبا للمدحة، ويؤثرون بعطاياهم السادة وأهل السمعة تقربا إليهم، فأمر المسلمون أن يتجنبوا ذلك قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} ، كما تقدم في سورة البقرة [180].
ولذلك عقب بقوله هنا {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ، أي الذين يتوخون بعطاياهم إرضاء الله وتحصيل ثوابه وهم المؤمنون. والإشارة بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} إلى الإيتاء المأخوذ من قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} الآية.
وذكر الوجه هنا تمثيل كأن المعطي أعطى المال بمرأى من الله لأن الوجه هو محل النظر. وفيه أيضا مشاكلة تقديرية لأن هذا الأمر أريد به مقابلة ما كان يفعله أهل الجاهلية من الإعطاء لوجه المعطى من أهل الوجاهة في القوم فجعل هنا الإعطاء لوجه الله. والمراد: أنه لامتثال أمره وتحصيل رضاه.
واسم الإشارة في قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} للتنويه بالمأمور به. و {خَيْرٌ} يجوز أن يكون تفضيلا والمفضل عليه مفهوم من السياق أن ذلك خير من صنيع أهل الجاهلية الذين يعطون الأغنياء البعداء للرياء والسمعة، أو المراد ذلك خير من بذل المال في المراباة التي تذكر بعد في قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً} الآية [الروم: 39]. ويجوز أن يكون الخير ما قابل الشر، أي ذلك فيه خير للمؤمنين، وهو ثواب الله.
(21/59)

وفي قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} صيغة قصر من أجل ضمير الفصل، وهو قصر إضافي، أي أولئك المتفردون بالفلاح، وهو نجاح عملهم في إيتاء من ذكر لوجه الله تعالى لا للرياء والفخر. فمن آتى للرياء والفخر فلا فلاح له من إيتائه.
[39] {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [39]} .
لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لذوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضى الله تعالى به وكان الربا فاشيا في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خلة، وشأن المقرض أنه ذو جدة فمعاملته المقترض منه بالربا افتراص لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين.
و {مَا} شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملة {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم: 38] الخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق. فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجه الله الذين كانوا يقرضون بالربا قبل تحريمه.
ومعنى {آتَيْتُمْ} : آتى بعضكم بعضا لأن الإيتاء يقتضي معطيا وآخذا.
وقوله: {لِترْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} خطاب للفريق الآخذ.
و {لِترْبُوَ} لتزيدوا، أي لأنفسكم أموالا على أموالكم. وقوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} {فِي} للظرفية المجازية بمعنى "من" الابتدائية، أي لتنالوا زيادة وأرباحا تحصل لكم من أموال الناس، فحرف {فِي} هنا كالذي في قول سبرة الفقعسي:
ونشرب في أثمانها ونقامر1
ـــــــ
1 أوله: نحابي أكفاءنا ونهينها. وهوو من شعر الحماسة يذكر فيه إبل الدية. قال ذلك من أبيات يذكر أن أحد بني أسد عيره بأخذ الدية عن قتيل.
(21/60)

أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} في سورة النساء [5].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ رِباً} وقوله: {مِنْ زَكَاةٍ} بيانية مبينة لإبهام {مَا} الشرطية في الموضعين. وتقدم الربا في سورة البقرة.
وقوله: {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} جواب الشرط. ومعنى {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} أنه عمل ناقص عند الله غير ذاك عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير.
وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276], ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً} في سورة آل عمران [130]. وهذا المعنى مروي عن السدي والحسن. وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى {فِي} من قوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} .
ويجوز أن يكون لفظ {رِباً} في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصد الزيادة في أموالهم تقربا إليهم، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والملق. ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئا وإنما نفعه لأنفسهم. ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى: وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس، وتصير كلمة {لِترْبُوَ} توكيدا لفظيا ليعلق به قوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} .
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} الخ رجوع إلى قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حقه} [الروم: 38] الآية لأن ذلك الحق هو المسمى بالزكاة.
وجملة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} جواب {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} ، أي فمؤتوه المضعفون، أي أولئك الذين حصل لهم الإضعاف وهو إضعاف الثواب. وضمير الفصل جنس المضعفين على هؤلاء، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بإضعاف من عداهم لأن إضعاف من عداهم إضعاف دنيوي زائل. واسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} للتنويه بهؤلاء والدلالة على أنهم أحرياء بالفلاح. واسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار اقتضاه مقام اجتلاب اسم الإشارة.
وقرأ الجمهور {ءاتَيْتُمْ} بهمزتين، أي أعطيتم. وقرأه ابن كثير {آتَيْتُمْ} بهمزة
(21/61)

واحدة، أي قصدتم، أي فعلتم. وقرأ الجمهور {لِيَرْبُوَ} بتحتية مفتوحة وفتحة إعراب على واو {لِيَرْبُوَ} . وكتب في المصاحف بألف بعد الواو وليس واو الجماعة بالاتفاق، ورسم المصحف سنة، وقرأ نافع {لُتوبوا} بتاء الخطاب مضمومة وواو ساكنة هي واو الجماعة.
[40] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [40]}.
هذا الاستئناف الثاني من الأربعة التي أقيمت عليها دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس وإبطال ما زعموه من الإشراك في الإلهية كما أنبأ عنه قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} ، وإدماجا للاستدلال على وقوع البعث. وقد جاء هذا الاستئناف على طريقة قوله: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] واطرد الافتتاح بمثله في الآيات التي أريد بها إثبات البعث كما تقدم عند قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} وسيأتي في الآيتين بعد هذه.
و {ثُمَّ} مستعمل في معنيي التراخي الزمني والرتبي.
و {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} استفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك زيدت {مِنْ} الدالة على تحقيق نفي الجنس كله في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} . والمعنى: ما من شركائكم من يفعل شيئا من ذلكم. فـ {مِنْ} الأولى بيانية هي بيان للإبهام الذي في {مَنْ يَفْعَلُ} ، فيكون {مَنْ يَفْعَلُ} مبتدأ وخبره محذوف دل عليه الاستفهام، تقديره: حصل، أو وجد، أو هي تبعيضية صفة لمقدر، أي هل أحد من شركائكم. و{مِنْ} الثانية في قوله: {مِنْ ذَلِكُمْ} تبعيضية في موضع الحال {مِنْ شَيْءٍ} . و {مِنْ} الثالثة زائدة لاستغراق النفي.
وإضافة {شُرَكَا} إلى ضمير المخاطبين من المشركين لأن المخاطبين هم الذين خلعوا على الأصنام وصف الشركاء لله فكانوا شركاء بزعم المخاطبين وليسوا شركاء في نفس الأمر، وهذا جار مجرى التهكم، كقول خالد بن الصعق لعمرو بن معد يكرب في مجمع من مجامع العرب بظاهر الكوفة فجعل عمرو يحدثهم عن غاراته فزعم أنه أغار على نهد فخرجوا إليه يقدمهم خالد بن الصعق وأنه قتله، فقال له خالد بن الصعق: "مهلا أبا ثور قتيلك يسمع" أي القتيل بزعمك. والقرينة قوله: "يسمع" كما أن القرينة في هذه الآية هي جملة التنزيه عن الشريك. والإشارة بـ {ذَلِكُمْ} إلى الخلق، والرزق، والإماتة،
(21/62)

والإحياء، وهي مصادر الأفعال المذكورة. وأفرد اسم الإشارة بتأويل المذكور.
وجملة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} مستأنفة لإنشاء تنزيه الله تعالى عن الشريك في الإلهية. وموقعها بعد الجملتين السابقتين موقع النتيجة بعد القياس، فإن حاصل معنى الجملة الأولى أن الإله الحق وهو مسمى اسم الجلالة هو الذي خلق ورزق ويميت ويحيي، فهذا في قوة مقدمة هي صغرى قياس، وحاصل الجملة الثانية أن لا أحد من الأصنام بفاعل ذلك، وهذه في قوة مقدمة هي كبرى قياس وهو من الشكل الثاني، وحاصل معنى تنزيه الله عن الشريك أن لا شيء من الأصنام بإله. وهذه نتيجة قياس من الشكل الثاني. ودليل المقدمة الصغرى إقرار الخصم، ودليل المقدمة الكبرى العقل. وقرأ الجمهور {تُشْرِكُونَ} بفوقية على الخطاب تبعا للخطاب في {آتَيْتُمْ} [الروم: 39]. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
[41] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [41]}
موقع هذه الآية ومعناها صالح لعدة وجوه من الموعظة، وهي من جوامع كلم القرآن. والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها للإقلاع عن الإشراك وعن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فأما موقعها فيجوز أن تكون متصلة بقوله قبلها {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآيات [الروم: 9]، فلما طولبوا بالإقرار على ما رأوه من آثار الأمم الخالية، أو أنكر عليهم عدم النظر في تلك الآثار، أتبع ذلك بما أدى إليه طريق الموعظة من قوله: {هُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27], ومن ذكر الإنذار بعذاب الآخرة، والتذكير بدلائل الوحدانية ونعم الله تعالى، وتفريع استحقاقه تعالى الشكر لذاته ولأجل إنعامه استحقاقا مستقرا إدراكه في الفطرة البشرية، وما تخلل ذلك من الإرشاد والموعظة، عاد الكلام إلى التذكير بأن ما حل بالأمم الماضية من المصائب ما كان إلا بما كسبت أيديهم، أي بأعمالهم، فيوشك أن يحل مثل ما حل بهم بالمخاطبين الذين كسبت أيديهم مثل ما كسبت أيدي أولئك.
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع النتيجة من مجموع الاستدلال أو موقع الاستئناف البياني بتقدير سؤال عن سبب ما حل بأولئك الأمم. ويجوز أن تقع هذه الآية موقع التكملة لقوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ} [الروم: 33] الآية، فهي خبر مستعمل
(21/63)

في التنديم على ما حل بالمكذبين المخاطبين من ضر ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه، كما يؤذن به قوله عقب ذلك {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . فالإتيان بلفظ الناس في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود، ومقتضى الظاهر أن يقال "بما كسبت أيديهم". فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصار أولئك، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سوق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة بـ {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2].
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مس الضر إياهم حتى لجأوا إلى الضراعة إلى الله، وما بينها وبين جملة {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضر} [الروم: 33] إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض. ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمة وبين ذكر ما حل بالأمم الماضية اعتراضا ينبئ أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح.
و {الْفَسَادَ} : سوء الحال، وهو ضد الصلاح، ودل قوله: {فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} على أنه سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها. ثم التعريف في {الْفَسَادَ} : إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برها وبحرها أنه فساد في أحوال البر والبحر، لا في أعمال الناس بدليل قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضاره، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ، وفي موتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.
وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلة الحيتان واللؤلؤ والمرجان فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب ، وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس. وقيل: أريد بالبر البوادي وأهل الغمور وبالبحر المدن والقرى، وهو عن مجاهد وعكرمة وقال: إن العرب تسمي الأمصار
(21/64)

بحرا. قيل: ومنه قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أبي بن سلول: "ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه". يعني بالبحرة مدينة يثرب وفيه بعد. وكأن الذي دعا إلى سلوك هذا الوجه في إطلاق البحر أنه لم يعرف أنه حدث اختلال في سير الناس في البحر وقلة فيما يخرج منه. وقد ذكر أهل السير أن قريشا أصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعظام، ولم يذكروا أنهم تعطلت أسفارهم في البحر ولا انقطعت عنهم حيتان البحر، على أنهم ما كانوا يعرفون بالاقتيات من الحيتان.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون الباء في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} للعوض، أي جزاء لهم بأعمالهم، كالباء في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30], ويكون اللام في قوله: {لِيُذِيقَهُمْ} على حقيقة معنى التعليل.
ويجوز أن يكون المراد بالفساد الشرك قاله قتادة والسدي فتكون هذه الآية متصلة بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} إلى قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40], فتكون الجملة إتماما للاستدلال على وحدانية الله تعالى تنبيها على أن الله خلق العالم سالما من الإشراك، وأن الإشراك ظهر بما كسبت أيدي الناس من صنيعهم، وهذا معنى قوله في الحديث القدسي في "صحيح مسلم" : "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي" الحديث.
فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى: ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر والواقعة في الجزائر والشطوط، ويكون الباء في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} للسببية، ويكون اللام في قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} لام العاقبة، والمعنى: فأذقناهم بعض الذي عملوا، فجعلت لام العاقبة في موضع الفاء كما في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8], أي فأذقنا الذين أشركوا بعض ما استحقوه من العذاب لشركهم. ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام محكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالا سيئة مفسدة، فكانت وشائج لأمثالها:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم قال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ*إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 4- 6],
(21/65)

وعلى هذا الوجه يكون محمل الباء ومحمل اللام مثل محملهما على الوجه الرابع. وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفيا.
ومحمل صيغة فعل {ظَهَرَ} على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مشاهد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة. وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به فكأنه قد وقع على طريقة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]. وأياما كان الفساد من معهود أو شامل، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله كما دل عليه قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} ، وأن الله يقدر أسبابه تقديرا خاصا ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم.
وهو المراد بما كسبت أيديهم لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية.
و {مَا} موصولة، وحذف العائد من الصلة، وتقديره: بما كسبته أيدي الناس، أي بسبب أعمالهم. وأعظم ما كسبته أيدي الناس من الأعمال السيئة الإشراك وهو المقصود هنا وإن كان الحكم عاما. ويعلم أن مراتب ظهور الفساد حاصلة على مقادير ما كسبت أيدي الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسئل: أي الذنب أعظم? "أن تدعو لله ندا وهو خلقك" ، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وقال {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقا} . [الجن: 16].
ويجري حكم تعريف {النَّاسِ} على نحو ما يجري في تعريف {الْفَسَادَ} من عهد أو عموم، فالمعهود هم المشركون وقد شاع في القرآن تغليب اسم {النَّاسِ} عليهم.
والإذاقة: استعارة مكنية؛ شبه ما يصيبهم من الآلام فيحسون بها بإصابة الطعام حاسة المطعم. ولما كان ما عملوه لا يصيبهم بعينه تعين أن بعض الذي عملوا أطلق على جزاء العمل ولذلك فالبعضية تبعيض للجزاء، فالمراد بعض الجزاء على جميع العمل لا الجزاء على بعض العمل، أي أن ما يذيقهم من العذاب هو بعض ما يستحقونه. وفي هذا تهديد إن لم يقلعوا عن مساوئ أعمالهم كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [الفاطر: 45]، ثم وراء ذلك عذاب الآخرة كما قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127]
(21/66)

والعدول عن أن يقال: بعض أعمالهم إلى {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} للإيماء إلى ما في الموصول من قوة التعريف، أي أعمالهم المعروفة عندهم المتقرر صدروها منهم.
والرجاء المستفاد من {لَعَلَّ} يشير إلى أن ما ظهر من فساد كاف لإقلاعهم عما هم اكتسبوه، وأن حالهم حال من يرجى رجوعه فإن هم لم يرجعوا فقد تبين تمردهم وعدم إجداء الموعظة فيهم، وهذا كقوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126].
والرجوع مستعار للإقلاع عن المعاصي كأن الذي عصى ربه عبد أبق عن سيده، أو دابة قد أبدت، ثم رجع. وفي الحديث "لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا دابته عنده" .
وقرأ الجمهور {لِيُذِيقَهُمْ} بالياء التحتية، أي ليذيقهم الله. ومعاد الضمير قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [الروم: 40]. وقرأه قنبل عن ابن كثير وروح عن عاصم بنون العظمة.
[42] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [42]}.
لما وعظهم بما أصابهم من فساد الأحوال ونبههم إلى أنها بعض الجزاء على ما كسبت أيديهم عرض لهم بالإنذار بفساد أعظم قد يحل بهم مثله وهو ما أصاب الذين من قبلهم بسبب ما كانوا عليه من نظير حال هؤلاء في الإشراك فأمرهم بالسير في الأرض والنظر في مصير الأمم التي أشركت وكذبت مثل عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم لأن كثيرا من المشركين قد اجتازوا في أسفارهم بديار تلك الأمم كما قال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138]. فهذا تكرير وتأكيد لقوله السابق {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9], وإنما أعيد اهتماما بهذه العبرة مع مناسبة قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41].
والعاقبة: نهاية الأمر. والمراد بالعاقبة الجنس، وهو متعدد الأفراد بتعدد الذين من قبل، ولكل قوم عاقبة.
(21/67)

وجملة {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} واقعة موقع التعليل لجملة {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} ، أي سبب تلك العاقبة المنظورة هو إشراك الأكثرين منهم، أي أن أكثر تلك الأمم التي شوهدت عاقبتها الفظيعة كان من أهل الشرك فتعلمون أن سبب حلول تلك لعاقبة بهم هو شركهم، وبعض تلك الأمم لم يكونوا مشركين وإنما أصابهم ما أصابهم لتكذيبهم رسلهم مثل أهل مدين قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43].
[43] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [43]}
تفرع على الإنذار والتحذير من عواقب الشرك تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على شريعته, ووعد بأن يأتيه النصر كقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99], مع التعريض بالإرشاد إلى الخلاص من الشرك باتباع الدين القيم، أي الحق. وهذا تأكيد للأمر بإقامة الوجه للدين في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم: 30], فإن ذلك لما فرع في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9]، وما اتصل من تسلسل الحجج والمواعظ فرع أيضا نظيره هذا على قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 42] وقد تقدم الكلام على نظير قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} وعلى معنى إقامة الوجه عند قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم: 30].
و {الْقَيِّمُ} بوزن فيعل، وهي زنة تدل على قوة ما تصاغ منه، أي الشديد القيام، والقيام هنا مجاز في الإصابة لأن الصواب يشبه بالقيام، وضده يشبه بالعوج، وقد جمعهما قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف: 1، 2] فوصف الإسلام في الآية السابقة بالحنيف والفطرة ووصف هنا بالقيم. وبين {أَقِمْ} و {الْقَيِّمُ} محسن الجناس.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر إعراض عن صريح خطاب المشركين. والمقصود التعريض بأنهم حرموا أنفسهم من اتباع هذا الدين العظيم الذي فيه النجاة. يؤخذ هذا التعريض من أمر النبيء عليه الصلاة والسلام بالدوام على الإسلام ومن قوله عقب ذلك {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} الآية.
والمرد: مصدر ميمي من الرد وهو الدفع، و {لَهُ} يتعلق به، و {مِنَ اللَّهِ} متعلق بـ {يَأْتِي} و {مِنَ} ابتدائية. والمراد "باليوم" يوم عذاب في الدنيا وأنه إذا جاء لا يرده عن المجازين به راد لأنه آت من الله. والظاهر أن المراد به يوم بدر.
(21/68)

و {يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدعون فقلبت التاء صادا لتقارب مخرجيهما لتأتي التخفيف بالإدغام. والتصدع: مطاوع الصدع، وحقيقة الصدع: الكسر والشق، ومنه تصدع القدح.
والمراد باليوم يوم الحشر. والتصدع: التفرق والتمايز. ويكون ضمير الجمع عائدا إلى جميع الناس، أي يومئذ يفترق المؤمنون من الكافرين على نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14- 16].
[44، 45] {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [44] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [45]}.
هذه الجملة تتنزل منزلة البيان لإجمال الجملة التي قبلها وهي {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43], إذ التثبيت على الدين بعد ذكر ما أصاب المشركين من الفساد بسبب شركهم يتضمن تحقير شأنهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فبين ذلك بأنهم لا يضرون بكفرهم إلا أنفسهم، والذي يكشف هذا المعنى تقديم المسند في قوله: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} فإنه يفيد تخصيصه بالمسند إليه، أي فكفره عليه لا عليك ولا على المؤمنين، ولهذا ابتدئ بذكر حال من كفر ثم ذكر بعده {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً} . واقتضى حرف الاستعلاء أن في الكفر تبعة وشدة وضرا على الكافر، لأن "على" تقتضي ذلك في مثل هذا المقام، كما اقتضى اللام في قوله: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أن لمجرورها نفعا وغنما، ومنه قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وقال توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وأفرد ضمير {كُفْرُهُ} رعيا للفظ {مَنْ} . وهذا التركيب من جوامع الكلم لدلالته على ما لا يحصى من المضار في الكفر على الكافر وأنه لا يضر غيره، مع تمام الإيجاز، وهو وعيد لأنه في معنى: من كفر فجزاؤه عقاب الله، فاكتفي عن التصريح بذلك اكتفاء بدلالة "على" من قوله: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وبمقابلة حالهم بحال من عمل صالحا بقوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} .
وأما قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} فهو بيان أيضا لما في جملة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43] من الأمر بملازمة التحلي بالإسلام وما في ذلك من الخير العاجل والآجل مع ما تقتضيه عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والترهيب
(21/69)

بالترغيب فهو كالتكملة للبيان. وإنما قوبل {مَنْ كَفَرَ} بـ {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً} ولم يقابل بـ"من آمن" للتنويه بشأن المؤمنين بأنهم أهل الأعمال الصالحة دون الكافرين. فاستغني بذكر العمل الصالح عن ذكر الإيمان لأنه يتضمنه، ولتحريض المؤمنين على الأعمال الصالحة لئلا يتكلوا على الإيمان وحده فتفوتهم النجاة التامة. وهذا اصطلاح القرآن في الغالب أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح كما في قوله قبل هذه الآية {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14- 16] حتى توهمت المعتزلة والخوارج أن العمل الصالح شرط في قبول الإيمان.
وتقديم {فَلِأَنْفُسِهِمْ} على {يَمْهَدُونَ} للاهتمام بهذا الاستحقاق وللرعاية على الفاصلة وليس للاختصاص.
{يَمْهَدُونَ} يجعلون مهادا، والمهاد: الفراش. مثلت حالة المؤمنين في عملهم الصالح بحال من يتطلب راحة رقاده فيوطئ فراشه ويسويه لئلا يتعرض له في مضجعه من النتوء أو اليبس ما يستفز منامه.
وتقديم {لِأَنْفُسِهِمْ} على {يَمْهَدُونَ} للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بذكر أنفس المؤمنين لأن قرينة عدم الاختصاص واضحة. وروعي في جمع ضمير {يَمْهَدُونَ} معنى {مِنْ} دون لفظها مع ما تقتضيه الفاصلة من ترجيح تلك المراعاة.
ويتعلق {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} بـ {يمهدون} أي يمهدون لعلة أن يجزي الله إياهم من فضله. وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} للاهتمام بالتصريح بأنهم أصحاب صلة الإيمان والعمل الصالح وأن جزاء الله إياهم مناسب لذلك لتقرير ذلك في الأذهان، مع التنويه بوصفهم ذلك بتكريره وتقريره كما أنبأ عن ذلك قوله عقبه {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
وقد فهم من قوله: {مِنْ فَضْلِهِ} أن الله يجازيهم أضعافا لرضاه عنهم ومحبته إياهم كما اقتضاه تعليل ذلك بجملة {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} المقتضي أنه يحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فحصل بقوله: {إنه لا يحب الكافرين} تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس فإن قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} دل بصريحه على أنهم أهل الجزاء بالفضل، ودل بمفهومه على أنهم أهل الولاية.
(21/70)

وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} يدل يتعليله لما قبله على أن الكافرين محرومون من الفضل، وبمفهومه على أن الجزاء موفور للمؤمنين فضلا وأن العقاب معين للكافرين عدلا.
[64] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [46]}.
عود إلى تعداد الآيات الدالة على تفرده بالإلهية فهو عطف على جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] وما تخلل بينهما من أفانين الاستدلال على الوحدانية والبعث ومن طرائق الموعظة لتطرية نشاط السامعين لهذه الدلائل الموضحة المبينة. والإرسال مستعار لتقدير الوصول، أي يقدر تكوين الرياح ونظامها الذي يوجهها إلى بلد محتاج المطر.
والمبشرات: المؤذنة بالخير وهو المطر. وأصل البشارة: الخبر السار. شبهت الرياح برسل موجهة بأخبار المسرة. وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في سورة البقرة [25]، وقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} في سورة النحل [58]، وذلك أن الرياح تسوق سحاب المطر إلى حيث بمطر. وتقدم الكلام على الرياح في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} في سورة البقرة [164] وعلى كونها لواقح في سورة الحجر [22].
وقوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ} عطف على {مُبَشِّرَاتٍ} لأن {مُبَشِّرَاتٍ} في معنى التعليل للإرسال. وتقدم الكلام على الإذاقة آنفا.
و {مِنْ رَحْمَتِهِ} صفة لموصوف محذوف دل عليه فعل {لِيُذِيقَكُمْ} أي مذوقا. و {مِنْ} ابتدائية، ورحمة الله: هي المطر.
وجريان الفلك بالرياح من حكمة خلق الرياح ومن نعمه، وتقدم في آية سورة البقرة [164].
والتقييد بقوله: {بِأَمْرِهِ} تعليم للمؤمنين وتحقيق للمنة، أي لولا تقدير الله ذلك وجعله أسباب حصوله لما جرت الفلك، وتحت هذا معان كثيرة يجمعها إلهام الله البشر لصنع الفلك وتهذيب أسباب سيرها. وخلق نظام الريح والبحر لتسخير سيرها كما دل على
(21/71)

ذلك قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، وقد تقدم ذلك في سورة الحج [36]، وتقدم هنالك معنى {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} .
[47] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [47]}.
هذه جملة معترضة مستطردة أثارها ذكر سير الفلك في عداد النعم فعقب ذلك بما كان سير الفلك فيه تذكير بنقمة الطوفان لقوم نوح، وبجعل الله الفلك لنجاة نوح وصالحي قومه من نقمة الطوفان، فأريد تحذير المكذبين من قريش أن يصيبهم ما أصاب المكذبين قبلهم، وكان تلك النقمة نصر المؤمنين، أي نصر الرسل وأتباعهم؛ ألا ترى إلى حكاية قول نوح {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} في سورة المؤمنين [26]، وقوله تعالى هنا {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . والواو اعتراضية وليست للعطف.
والانتقام من النقم وهو الكراهية والغضب، وفعله كضرب وعلم قال تعالى {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [الأعراف: 126]. وفي المثل مثله كمثل الأرقم إن يقتل ينقم - بفتح القاف - وإن يترك يلقم. والانتقام: العقوبة لمن يفعل ما لا يرضي كأنه صيغ منه الافتعال للدلالة على حصول أثر النقم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} وقوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} في سورة الأعراف [136].
وكلمة {حَقّاً عَلَيْنَا} من صيغ الالتزام، قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105]، وهو محقوق بكذا، أي لازم له، قال الأعشى:
لمحقوقه أن تستجيبي لصوته
فإن وعد الصادق حق. قال تعالى {وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنباء: 104]. وقد اختصر طريق الإفصاح عن هذا الغرض أعني غرض الوعد بالنصر والوعيد له فأدرج تحت ذكر النصر معنى الانتصار، وأدرج ذكر الفريقين: فريق المصدقين الموعود، وفريق المكذبين المتوعد، وقد أخلى الكلام أولا عن ذكرهما.
وعن أبي بكر شعبة راوي عاصم أنه كان يقف على قوله: {حَقّاً} فيكون في {كَانَ} ضمير يعود على الانتقام، أي وكان الانتقام من المجرمين حقا، أي عدلا، ثم يستأنف بقوله: {عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وكأنه أراد التخلص من إيهام أن يكون للعباد حق على الله
(21/72)

إيجابا فرارا من مذهب الاعتزال وهو غير لازم كما علمت. قال ابن عطية: وهو وقف ضعيف، وكذلك قال الكواشي عن أبي حاتم.
[48, 49] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [48] وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [49]}.
جاءت هذه الجملة على أسلوب أمثالها كما تقدم في قوله: {هو الذي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27], وجاءت المناسبة وهنا لذكر الاستدلال بإرسال الرياح في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] استدلالا على التفرد بالتصرف وتصوير الصنع الحكيم الدال على سعة العلم، ثم أعقب بالاستدلال بإرسال الرياح تسلا إلى ذكر إحياء الأرض بعد موتها المستدل به على البعث، فقد أفادت صيغة الحصر بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} أنه المتصرف في هذا الشأن العجيب دون غيره، وكفى بهذا إبطالا لإلهية الأصنام، لأنها لا تستطيع مثل هذا الصنع الذي هو أقرب التصرفات في شؤون نفع البشر. والتعبير بصيغة المضارع في: {يُرْسِلُ} ، و {تُثِيرُ} ، و {يَبْسُطُهُ} ، و {يَجْعَلُهُ} لاستحضار الصور العجيبة في تلك التصرفات حتى كأن السامع يشاهد تكوينها مع الدلالة على تجدد ذلك.
وجمع {الرِّيَاحَ} لما شاع في استعمالهم من إطلاقها بصيغة الجمع على ريح البشارة بالمطر لأن الرياح التي تثير السحاب هي الرياح المختلفة جهات هبوبها بين: جنوب وشمال وصبا ودبور، اسم الريح المفردة فإنه غلب في الاستعمال إطلاق على ريح القوة والشدة لأنها تتصل واردة من صوب واحد فلا تزال تشتد. وروي أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال: "اللهم اجعلها رياحا لا ريحا" 1. وقد تقدم قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} في سورة البقرة [164].
والإثارة: تحريك القار تحريكا يضطرب به عن موضعه. وإثارة السحاب إنشاؤه بما تحدثه الرياح في الأجواء من رطوبة تحصل من تفاعل الحرارة والبرودة.
والبسط: النشر. والسماء: الجو الأعلى وهو جو الأسحبة.
ـــــــ
1 عن البيهقي بسند ضعيف.
(21/73)

و {كَيْفَ} هنا مجردة نن معنى الاستفهام، وموقعها المفعولية المطلقة من {يَبْسُطُهُ} لأنها نائبة عن المصدر، أي يبسطه بسطا كيفيته يشاؤها الله، وقد تقدم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} في سورة آل عمران [6]. وتقدم أن من زعم أنها شرط لم يصادف الصواب.
و{كِسَفاً} بكسر ففتح في قراءة الجمهور جمع كسف بكسر فسكون، ويقال: كسفة بهاء تأنيث وهو القطعة. وقد تقدم في قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} في سورة الإسراء [92]. وتقدم الكسف في قوله: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في سورة الشعراء [187]. والمعنى: أنه يبسط السحاب في السماء تارة، أي يجعله ممتدا عاما في جو السماء وهو المدجن الذي يظلم به الجو ويقال المغلق، ويجعله كسفا أي تارة أخرى كما دلت عليه المقابلة، أي يجعله غمامات لأن حالة جعله كسفا غير حالة بسطه في السماء، فتعين أن يكون الجمع بينهما في الذكر مرادا منه اختلاف أحوال السحاب. والمقصود من هذا: أن اختلاف الحال آية على سعة القدرة.
والخطاب في {فَتَرَى الْوَدْقَ} خطاب لغير معين وهو كل من يتأتى منه سماع هذا وتتأتى منه رؤية الودق. والودق: المطر. وضمير {خِلالِهِ} للسحاب بحالتيه المذكورتين وهما حالة بسطه في السماء وحالة جعله كسفا فإن المطر ينزل من خلال السحاب المغلق والغمامات. والخلال: جمع خلل بفتحتين وهو الفرجة بين شيئين. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة النور [43].
وذكر اختلاف أحوال العباد في وقت نزول المطر وفي وقت انحباسه بين استبشار وإبلاس إدماج للتذكير برحمة الله إياهم وللاعتبار باختلاف تأثرات نفوسهم في السراء والضراء، وفي ذلك إيماء إلى عظيم تصرف الله في خلقة الإنسان إذ جعله قابلا لاختلاف الانفعال مع اتحاد العقل والقلب كما جعل السحاب مختلف الانفعال من بسط وتقطع مع اتحاد الفعل وهو خروج الودق من خلاله.
و {إِنّ} في قوله: {وَإِنْ كَانُوا} مخففة مهملة عن العمل، واللام في قوله: {لَمُبْلِسِينَ} اللام الفارقة بين {إِنّ} المخففة و {إِنّ} الشرطية.
والإبلاس: يأس مع انكسار. وقوله: {مِنْ قَبْلِهِ} تكرير لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} [الروم: 49]لتوكيد معنى قبلية نزول المطر وتقريره في نفوس السامعين. قال ابن
(21/74)

عطية: أفاد التأكيد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار اهـ. يعني أن إعادة قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} زيادة تنبيه على الحالة التي كانت من قبل نزول المطر. وقال في "الكشاف" "فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم" اهـ. يعني أن فائدة إعادة {مِنْ قَبْلِهِ} أن مدة ما قبل نزول المطر مدة طويلة فأثير إلى قوتها بالتوكيد.
وضمير {قَبْلِهِ} عائد إلى المصدر المأخوذ من {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي تنزيله.
[50] {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [50]} .
رتب على ما تقرر من استحضار صورة تكوين المطر واستبشار الناس بنزوله بعد الإبلاس، أن اعترض بذكر الأمر بالنظر إلى أثر الرحمة وإغاثة الله عباده حين يحيي لهم الأرض بعد موتها بالجفاف. والأمر بالنظر للاعتبار والاستدلال. والنظر: رؤية العين. وعبر عن الجفاف بالموت لأن قوام الحياة الرطوبة، وعبر عن ضده بالإحياء. والخطاب بـ {انْظُرْ} لغير معين ليعم كل من يتأتى منه النظر مثل قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ} [الروم: 48].
و {رَحْمَةِ اللَّهِ} : هي صفته التي تتعلق بإمداد مخلوقاته ذوات الإدراك بما يلائمها ويدفع عنها ما يؤلمها وذلك هو الإنعام.
وأثر الشيء: ما ينشأ عنه مما يدل عليه. فبرحمة الله دلت عليها الآثار الدالة على وجوده وتصرفه بما فيه رحمة للخلق. و {كَيْفَ} بدل من {أَثَرِ} أو مفعول لـ {انْظُرْ} أي انظر هيئة إحياء الله الأرض بعد موتها، تلك الحالة التي هي أثر من آثار رحمته الناس على حد قوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] إذ جعلوا {كَيْفَ} بدلا من الإبل بدل اشتمال وإن أباه ابن هشام في "مغني اللبيب" . وقد مضى عند قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} في سورة الفرقان [45]، وتقدم آنفا في قوله: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48].
وأطلق على إنبات الأرض إحياء وعلى قحولتها الموت على سبيل الاستعارة.
وجملة {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} استئناف وهو إدماج؛ أدمج دليل البعث عقب
(21/75)

الاعتبار بإحياء الأرض بعد موتها. وحرف التوكيد يفيد مع تقرير الخبر زيادة معنى فاء التسبب كقول بشار:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
إذ التقدير: فالنجاح في التكبير، كما تقرر غير مرة. واسم الإشارة عائد إلى اسم الله تعالى بما أجرى عليه من الإخبار بإحياء الأرض بعد موتها ليفيد اسم الإشارة معنى أنه جدير بما يرد بعده من الخبر عن المشار إليه، فالمعنى: أن الله الذي يحيي الأرض بعد موتها لمحيي الموتى، تقريبا لتصور البعث. وعدل عن الموصول إلى الإشارة للإيجاز، ولما في الإشارة من التعظيم. وذيل ذلك بقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإنه يعم جميع الأشياء والبعث من جملتها إذ ليس هو إلا إيجاد خلق وهو مقدور لله تعالى كما أنشأ الخلق أول مرة. والشبه تام لأن إحياء الأرض إيجاد أمثال ما كان عليها من النبات فكذلك إحياء الموتى إيجاد أمثالهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم {إِلَى أَثَرِ} بالإفراد. وقرأه الباقون {إِلَى آثَارِ} بصيغة الجمع.
[51] {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [51]}.
عطف على جملة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49] وما بينها اعتراض واستطراد لغرض قد علمته آنفا. وهذه الجملة سيقت للتنبيه على أن الكفران مطبوع في نفوسهم بحيث يعاودهم بأدنى سبب فهم إذا أصابتهم النعمة استبشروا ولم يشكروا وإذا أصابتهم البأساء أسرعوا إلى الكفران فصور لكفرهم أعجب صورة وهي إظهارهم إياه بحدثان ما كانوا مستبشرين منه إذ يكون الزرع أخضر والأمل في الارتزاق منه قريبا فيصيبه إعصار فيحترق فيضجون من ذلك وتكون حالهم حالة من يكفر بالله وتجري على أقوالهم عبارات السخط والقنوط، كما قال بعض رجاز الأعراب إذ أصاب قومه قحط:
رب العباد ما لنا لك ... قد كنت تسقينا فما بدا لك
أنزل علينا الغيث لا أبا لك
فالضمير المنصوب في {رَأَوْهُ} عائد إلى {أَثَرِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم: 50]وهو الزرع والكلأ والشجر. والاصفرار في الزرع ونحوه مؤذن بيبسه، وسموا صفارا بضم وتخفيف الفاء: داء يصيب الزرع.
(21/76)

والمصفر: اسم فاعل مقتض الوصف بمعناه في الحال، أي فرأوه يصير أصفر، فالتعبير بـ {مُصْفَرّاً} لتصوير حدثان الاصفرار عليه دون أن يقال: فرأوه أصفر.
وظل: بمعنى صار، والإتيان بفعل التصبير مع الإخبار عنه بالمضارع لتصوير مبادرتهم إلى الكفر ثم استمرارهم عليه. والحاصل أن المعنى أنه يغلب الكفر على أحوالهم.
واعلم أن الإتيان بالأفعال الثلاثة ماضية لأن وقوعها في سياق الشرط يمحضها للاستقبال، فأوثرت صيغة المضي لأنها أخف والمتكلم مخبر في اجتلاب أي الصيغتين مع الشرط، مثل قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] بصيغة المضارع لأن المقام للنفي بـ {لا} وهي لا تدخل على الماضي المسند إلى مفرد إلا في الدعاء.
[52، 53] {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [52] وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [53]}
الفاء للترتيب على قوله: {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51]المفيد أن الكفر غالب أحوالهم لأنهم بين كفر بالله وبين إعراض عن شكره، أو الفاء فصيحة تدل على كلام مقدر، أي إن كبر عليك إعراضهم وساءك استرسالهم على الكفر فإنهم كالموتى وإنك لا تسمع الموتى. وهذا معذرة للنبيء صلى الله عليه وسلم ونداء على أنه بذل الجهد في التبليغ. وفيما عدا الفاء فالآية نظير التي في آخر سورة النمل ونزيد هنا فنقول: إن تعداد التشابيه منظور فيه إلى اختلاف أحوال طوائف المشركين فكان لكل فريق تشبيه: فمنهم من غلب عليهم التوغل في الشرك فلا يصدقون بما يخالفه ولا يتأثرون بالقرآن والدعوة إلى الحق فهؤلاء بمنزلة الأموات أشباح بلا إدراك، وهؤلاء هم دهماؤهم وأغلبهم ولذلك ابتدئ بهم. ومنهم من يعرض عن استماع القرآن وهم الذين يقولون {فِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ويقولون: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] وهؤلاء هم ساداتهم ومدبروا أمرهم يخافون إن أصغوا إلى القرآن أن يملك مشاعرهم فلذلك يتباعدون عن سماعه، ولهذا قيد الذي شهوا به بوقت توليهم مدبرين إعراضا عن الدعوة، فهو تشبيه تمثيل. ومنهم من سلكوا مسلك ساداتهم واقتفوا خطاهم فانحرفت أفهامهم عن الصواب فهم يسمعون القرآن ولا يستطيعون العمل به، وهؤلاء هم الذين اعتادوا متابعة أهوائهم وهم الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] ويحصل من جميع ذلك تشبيه جماعتهم بجماعة تجمع أمواتا وصما وعميا فليس هذا من تعدد
(21/77)

التشبه لمشبه واحد كالذي في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19].
وقرأ الجمهور {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ} بتاء فوقية مضمومة وكسر ميم {تُسْمِعُ} ونصب {الصُّمَّ} ، على أنه خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم. وقرأه ابن كثير {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ} بتحتية مفتوحة وبفتح ميم {يَسْمَعُ} ورفع {الصُّمُّ} على الفاعلية لـ {يَسْمَعُ} . وقرأ الجمهور {بِهَادِي} بموحدة وبألف بعد الهاء وبإضافة {هَادِي} إلى {الْعُمْيَ} ، وقرأه حمزة وحده {تَهْدِي} بمثناة فوقية وبدون ألف بعد الهاء على الخطاب وبنصب {الْعُمْيَ} على المفعولية.
[54] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [54]} .
هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكرية لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم أو من إعادتها بعد انعدامها ويتطور وبدونه مما يزيد إمكان البعث وضوحا عند منكريه، فموقع هذه الآية كموقع قوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [الروم: 48] ونظائرها كما تقدم؛ ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 55] الآية.
ثم قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} مبتدأ وصفة، وقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} هو الخبر، أي يخلق ما يشاء مما أخبر به وأنتم تنكرون. والضعف بضم الضاد في الآية وهو أفصح وهو لغة قريش. ويجوز في ضاده الفتح وهو لغة تميم. وروي أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قرأتها على رسول الله {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} - يعني لفتح الضاد - فأقرأني {مِنْ ضَعْفٍ} - يعني بضم الضاد -. وقرأ الجمهور ألفاظ {ضَعْفٍ} الثلاثة - بضم الضاد - في الثلاثة. وقرأها عاصم وحمزة بفتح الضاد، فلهما سند لا محالة يعارض حديث ابن عمر. والجمع بين هذه القراءة وبين حديث ابن عمر أن النبيء صلى الله عليه وسلم نطق بلغة الضم لأنها لغة قومه، وأن الفتح رخصة لمن يقرأ بلغة قبيلة أخرى، ومن لم يكن له لغة تخصه فهو مخير بين القراءتين. والضعف: الوهن واللين.
و {مِنْ} ابتدائية، أي مبتدأ خلقه من ضعف، أي من حالة ضعف، وهي حالة كونه جنينا ثم صبيا إلى أن يبلغ أشده، وهذا كقوله: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]
(21/78)

يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه، قال تعالى {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 28].
والمعنى: أنه كما أنشأكم أطوارا تبتدئ من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار، ولهذا أخبر عنه بقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} .
وذكر وصف العلم والقدرة لأن التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شؤون العلم، وإبرازه على أحكم وجه هو من أثر القدرة.
وتنكير {ضَعِف} و {قُوَّةٍ} للنوعية؛ ف {ضَعِف} المذكور ثانيا هو عين {ضَعِف} المذكور أولا، و {قُوَّةٍ} المذكورة ثانيا عين {قُوَّةٍ} المذكورة أولا. وقولهم: النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، يريدون به التنكير المقصود منه الفرد الشائع لا التنكير المراد به النوعية. وعطف {وَشَيْبَةً} للإيماء إلى أن هذا الضعف لا قوة بعده وأن بعده العدم بما شاع من أن الشيب نذير الموت.
والشيبة: اسم مصدر الشيب. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} في سورة مريم [4].
[55] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [55]}.
لما ذكر عدم انتفاع المشركين بآيات القرآن وشبهوا بالأموات والصم والعمي فظهرت فظاعة حالهم في العاجلة أتبع ذلك بوصف حالهم حين تقوم الساعة في استصحاب مكابرتهم التي عاشوا عليها في الدنيا، بأن الله حين يعيد خلقهم وينشئ لهم أجساما كأجسامهم ويعيد إليهم عقولهم يكون تفكيرهم يومئذ على وفاق ما كانوا عليه في الدنيا من السفسطة والمغالطة والغرور، فإذا نشروا من القبور وشعروا بصحة أجسامهم وعقولهم وكانوا قد علموا في آخر أوقات حياتهم أنهم ميتون خامرتهم حينئذ عقيدة إنكار البعث وحجتهم السفسطائية من قولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] هنالك يريدون أن يقنعوا أنفسهم بصحة دليلهم القديم ويلتمسون اعتلالا لتخلف المدلول بعلة أن بعثهم إليهم أنهم محقون في إنكاره في الدنيا إذ كانوا قد أخبروا أن البعث يكون بعد فناء الأجسام، فهم أرادوا الاعتذار عن إنكارهم البعث
(21/79)

حين تحققوه بما حاصلة: أنهم لو عملوا أن البعث يكون بعد ساعة من الحلول في القبر لأقروا به. وقد أنبأ عن هذا تسمية كلامهم هذا معذرة بقوله عقبه: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُم} [الروم: 57]. وهذه فتنة أصيبوا بها حين البعث جعلها الله لهم ليكونوا هزأة لأهل النشور. ويتضح غلطهم وسوء فهمهم كما دل عليه قوله تعالى بعد ذلك: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَان} الآية [الروم: 56]، وقد أومأ إلى أن هذا هو المراد من الآية أنه قال عقب ذلك {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} ، أي كهذا الخطأ كانوا في الدنيا يصرفون عن الحق بمثل هذه الترهات. وتقدم شيء من هذا في المعنى عند قوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} في سورة طه [103، 104]. وبلغ من ضلالهم في ذلك أنهم يقسمون عليه، وهذا بعد ما يجزي بينهم من الجدال من قول بعضهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} . وقول بعضهم {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} ، وقول آخرين {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] وبعض اليوم يصدق بالساعة، كما حكي عنهم في هذه الآية. والظاهر أن هذا القسم يتخاطبون به فيما بينهم كما اقتضته آية سورة طه، أو هو حديث آخر أعلنوا به حين اشتد الخلاف بينهم لأن المصير إلى الحلف يؤذن بمشادة ولجاج في الخلاف. وفي قوله: {السَّاعَةَ} و {سَّاعَةَ} الجناس التام.
وجملة {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} استئناف بياني لأن غرابة حالهم من فساد تقدير المدة والقسم عليه مع كونه توهما يثير سؤال سائل عن مثار هذا الوهم في نفوسهم فكان قوله: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} بيانا لذلك. ومعناه: أنهم لا عجب في صدور ذلك منهم فإنهم كانوا يجيئون بمثل تلك الأوهام مدة كونهم في الدنيا، فتصرفهم أوهامهم عن اليقين، وكانوا يقسمون على عقائدهم كما في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] استخفافا بالأيمان، وكذلك إشارة إلى انصرافهم عن الحق يوم البعث. والمشار إليه هو المشبه به والمشبه محذوف دل عليه كاف التشبيه، والتقدير: إفكا مثل إفكهم هذا كانوا يؤفكون به في حياتهم الدنيا. والمقصود من التشبيه المماثلة والمساواة.
والإفك بفتح الهمزة: الصرف وهو من باب ضرب، ويعدى إلى الشيء المصروف عنه بحرف {عَنْ}، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} في سورة العنكبوت [60]. ولم يسند إفكهم إلى آفك معين لأن بعض صرفهم يكون من أوليائهم وأئمة دينهم، وبعضه من طبع الله على قلوبهم.
وإقحام فعل {كَانُوا} للدلالة على أن المراد في زمان قبل ذلك الزمن، أي في زمن
(21/80)

الحياة الدنيا. والمعنى: أن ذلك خلق تخلقوا به وصار لهم كالسجية في حياتهم الدنيا حتى إذا أعاد الله إليهم أرواحهم صدر عنهم ما كانوا تخلقوا به وقال تعالى {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} الآية [طه: 125- 127] وفي هذا الخبر أدب عظيم للمسلمين أن يتحاموا الرذائل والكبائر في الحياة الدنيا خشية أن تصير لهم خلقا فيحشروا عليها.
[56] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [56]}.
جعل الله منكري البعث هدفا لسهام التغليط والافتضاح في وقت النشور، فلما سمع المؤمنون الذين أوتوا علم القرآن وأشرقت عقولهم في الحياة الدنيا بالعقائد الصحيحة وآثار الحكمة لم يتمالكوا أن لا يردوا عليهم غلطهم ردا يكون عليهم حسرات أن لا يكونوا قبلوا دعوة الحق كما قبلها المؤمنون. وهذه الجملة معترضة. وعطف الإيمان على العلم والاهتمام به لأن العلم بدون إيمان لا يرشد إلى العقائد الحق التي بها الفوز في الحياة الآخرة. والمعنى: وقال لهم المؤمنون إنكار عليهم وتحسيرا لهم.
والظاهر أن المؤمنين يسمعون تحاج المشركين بعضهم مع بعض فيبادرون بالإنكار عليهم لأن تغيير المنكر سجيتهم التي كانوا عليها. وفي هذا أدب إسلامي وهو أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقره ولو لم يكن هو المخاطب به.
وقولهم {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} صرف لهم عن تلك المعذرة كأنهم يقولون: دعوا عنكم هذا فلا جدوى فيه واشتغلوا بالمقصود وما وعدتم به من العذاب يوم البعث.
وفعل {لَبِثْتُمْ} مستعمل في حقيقته، أي مكثتم، أي استقررتم في القبور، والخبر مستعمل في التحزين والترويع باعتبار ما يرد بعده من الإفصاح عن حضور وقت عذابهم.
و {فِي} من قوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} للتعليل، أي لبثتم إلى هذا اليوم ولم يعذبوا من قبل لأجل ما جاء في كتاب الله من تهديدهم بهذا اليوم مثل قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100], أي: لقد بلغكم وذلك وسمعتموه فكان الشأن أن تؤمنوا به ولا تعتذروا بقولكم ما لبثنا غير ساعة.
والفاء في {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} فاء الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر، وتفيد معنى المفاجأة كما تقدم عند قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} في سورة الفرقان [19]،
(21/81)

أي إذ كان كذلك فهذا يوم البعث كالفاء في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وهذا توبيخ لهم وتهديد وتعجيل لإساءتهم بما يترقبهم من العذاب. والاقتصار على {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} ليتوقعوا كل سوء وعذاب.
والاستدراك في {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} استدراك على ما تضمنته جملة {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} ، أي لقد بلغكم ذلك وكان الشأن أن تستعدوا له ولكنكم كنتم لا تعلمون، أي: لا تتصدون للعلم بما فيه النفع بل كان دأبكم الإعراض عن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي التعبير بنفي العلم وقصد نفي الاهتمام به والعناية بتلقيه إشارة إلى أن التصدي للتعلم وسيلة لحصوله.
[57] {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [57]}.
تفريع على جملة {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55]. والذين ظلموا هم المشركون الذين أقسموا ما لبثوا غير ساعة، فالتعبير عنهم بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار لغرض التسجيل عليهم بوصف الظلم وهو الإشراك بالله لأنه جامع لفنون الظلم، ففيه الاعتداء على حق الله، وظلم المشرك نفسه بتعريضها للعذاب، وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، وظلمهم المؤمنين بالاعتداء على أموالهم وأبشارهم.
والمعذرة: اسم مصدر اعتذر، إذا أبدى علة أو حجة ليدفع عن نفسه مؤاخذة على ذنب أو تقصير. وهو مشتق من فعل عذره، إذا لم يؤاخذه على ذنب أو تقصير لأجل ظهور سبب يدفع عنه المؤاخذة بما فعله. وإضافة "معذرة" إلى ضمير {الَّذِينَ ظَلَمُوا} تقتضي أن المعذرة واقعة منهم. ثم يجوز أن تكون الإضافة للتعريف بمعذرة معهودة فتكون هي قولهم {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] كما تقدم، ويجوز أن يكون التعريف للعموم كما هو شأن المصدر المضاف، أي لا تنفعهم معذرة يعتذرون بها مثل قولهم {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] وقولهم {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38].
واعلم أن هذا لا ينافي قوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] المقتضي نفي وقوع الاعتذار منهم لأن الاعتذار المنفي هو الاعتذار المأذون فيه، أي:
(21/82)

المقبول، لأن الله لو أذن لهم في الاعتذار لكان ذلك توطئة لقبوله اعتذارهم نظير قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]}.
والمثبت هنا معذرة من تلقاء أنفسهم لم يؤذن لهم بها فهي غير نافعة لهم كما قال تعالى {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106- 108] وقوله: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 65]}.
وقرأ الجمهور {تَنْفَعُ} بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وخلف بالتحتية وهو وجه جائز لأن "معذرة" مجازي التأنيث، ولوقوع الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول.
و {يُسْتَعْتَبُونَ} مبني للمجهول والمبني منه للفاعل استعتب، إذا سأل العتبى -بضم العين وبالقصر- وهي اسم للإعتاب، أي إزالة العتب، فهمزة الإعتاب للإزالة قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]، فصار استعتب المبني للمجهول جاريا على استعتب المبني للمعلوم فلما قيل: استعتب بمعنى طلب العتبي صار استعتب المبني للمجهول بمعنى أعتب، فمعنى {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} : ولا هم بمزال عنهم المؤاخذة نظير قوله: {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} . وهذا استعمال عجيب جار على تصاريف متعددة في الفصيح من الكلام، وبعض استقاقها غير قياسي ومن حاولوا إجراءه على القياس اضطروا إلى تلكفات في المعنى لا يرضي بها الذوق السليم، والعجب وقوعها في "الكشاف" . وقال في "القاموس" : واستعتبه: أعطاه العتبي كأعتبه، وطلب إليه العتبي ضد. والمعنى: لا ينفعهم اعتذار بعذر ولا إقرار بالذنب وطلب العفو. وتقدم قوله: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} في سورة النحل [84].
[58، 59] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ [58] كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [59]}
لما انتهى ما أقيمت عليه السورة من دلائل الوحدانية وإثبات البعث عقب ذلك بالتنويه بالقرآن وبلوغه الغاية القصوى في البيان والهدى.
والضرب حقيقته: الوضع والإلصاق. واستعير في مثل هذه الآية للذكر والتبيين لأنه كوضع الدال بلصق المدلول، وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً
(21/83)

مَا} [البقرة: 26] وتقدم أيضا آنفا عند قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الروم: 28]، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} المتقدم في سورة الإسراء [89]، و "الناس" أريد به المشركون لأنهم المقصود من تكرير هذه الأمثال، وعطف عليه قوله: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} الخ فهو وصف لتلقي المشركين أمثال القرآن فإذا جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن فيها إرشادهم تلقوها بالاعتباط والإنكار البحث فقالوا { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} .
وضمير جمع المخاطب للنبيء صلى الله عليه وسلم لقصد تعظيمه من جانب الله تعالى وإنما يقول الذين كفروا: إن أنت إلا مبطل، فحكي كلامهم بالمعنى للتنويه بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهو حكاية باللفظ. وهذا تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم من إيمانه معانديه، أي أئمة المفر منهم، ولذلك اعترض بعده بجملة {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} بين الجملتين المتعاطفتين تمهيدا للأمر بالصبر على غلوائهم، أي تلك سنة أمثالهم، أي مثل ذلك الطبع الذي علمته يطبع الله على قلوبهم، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً} في سورة البقرة [143] وفي مواضع كثيرة من القرآن.
والطبع على القلب: تصيره غير قابل لفهم الأمور الدينية وهو الختم، وقد تقدم في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة [7].
و {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} مراد بهم الذين كفروا أنفسهم، فعدل الإضمار لزيادة وصفهم بانتفاء العلم عنهم بعد أن وصفوا: بالمجرمين، والذين ظلموا، والذين كفروا.
[60] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [60]}
الأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم بالصبر تفرغ على جملة {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم: 58] لتضمنها تأييسه من إيمانهم. وحذف متعلق الأمر بالصبر لدلالة المقام عليه، أي اصبر على تعنتهم. وجملة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} تعليل للأمر بالصبر وهو تأنيس للنبيء صلى الله عليه وسلم بتحقيق وعد الله من الانتقام من المكذبين ومن نصر الرسول عليه الصلاة والسلام.
والحق: مصدر حق يحق بمعنى ثبت، فالحق: الثابت الذي لا ريب فيه ولا مبالغة. والاستخفاف: مبالغة في جعله خفيفا فالسين والتاء للتقوية مثلها في نحو: استجاب واستمسك، وهو ضد الصبر. والمعنى: لا يحملنك على ترك الصبر. والخفة مستعارة
(21/84)

لحالة الجزع وظهور آثار الغضب. وهي مثل القلق المستعار من اضطراب الشيء لأن آثار الجزع والغضب تشبه تقلقل الشيء الخفيف، فالشيء الخفيف يتقلقل بأدنى تحريك، وفي ضده يستعار الرسوخ والتثاقل. وشاعت هذه الاستعارات حتى ساوت الحقيقة في الاستعمال.
ونهي الرسول عن أن يستخفه الذين لا يوقنون نهي عن الخفة التي من شأنها أن تحدث للعاقل إذا رأى عناد من هو يرشده إلى الصلاح، وذلك مما يستفز غضب الحلم، فالاستخفاف هنا هو أن يؤثروا في نفسه ضد الصبر، ويأتي قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} في سورة الزخرف [54]، فانظره إكمالا لما هنا. وأسند الاستخفاف إليهم على طريقة المجاز العقلي لأنهم سببه بما يصدر من عنادهم.
و {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} : هم المشركون الذين أجريت عليهم الصفات المتقدمة من الإجرام، والظلم، والكفر، وعدم العلم، فهو إظهار في مقام الإضمار للتصريح بمساويهم. قيل: كان منهم النضر بن الحارث. ومعنى {لا يُوقِنُونَ} أنهم لا يوقنون بالأمور اليقينية، أي التي دلت عليها الدلائل القطعية فهم مكابرون.
(21/85)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة لقمان
سميت هذه السورة بإضافتها إلى لقمان لأن فيها ذكر لقمان وحكمته وجملا من حكمته التي أدب بها ابنه. وليس لها اسم غير هذا الاسم، وبهذا الاسم عرفت بين القراء والمفسرين. ولم أقف على تصريح به فيما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند مقبول.
وروى البيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عباس: أنزلت سورة لقمان بمكة.
وهي مكية كلها عند ابن عباس في أشهر قوليه وعليه إطلاق جمهور المفسرين وعن ابن عباس من رواية النحاس استثناء ثلاث آيات من قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 27- 29]. وعن قتادة إلا آيتين إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28] وفي "تفسير الكواشي" حكاية قول إنها مكية عدا آية نزلت بالمدينة وهي {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان: 4]قائلا لأن الصلاة والزكاة فرضت بالمدينة. ورده البيضاوي على تسليم ذلك بأن فرضها بالمدينة لا ينافي تشريعها بمكة على غير إيجاب. والمحقوق يمنعون أن تكون الصلاة والزكاة فرضتا بالمدينة، فأما الصلاة فلا ريب في أنها فرضت على الجملة بمكة، وأما الزكاة ففرضت بمكة دون تعيين أنصباء ومقادير، ثم عينت الأنصباء والمقادير بالمدينة. ويتحصل من هذا أن القائل بأن آية {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} إلى آخرها نزلت بالمدينة قاله من قبل رأيه وليس له سند يعتمد كما يؤذن به قوله لأن الصلاة والزكاة الخ. ثم هو يقتضي أن يكون صدر سورة النازل بمكة {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 3] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان: 5] الخ ثم ألحق به {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان: 4].
وأما القول باستثناء آيتين وثلاث فمستند إلى ما رواه ابن جرير عن قتادة وعن سعيد
(21/86)

بن جبير عن ابن عباس: أن قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] إلى آخر الآيتين أو الثلاث نزلت بسبب مجادلة كانت من اليهود أن أحبارهم قالوا: يا محمد أرأيت قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85] إيانا تريد أم قومك? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا أردت. قالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها في علم الله قليل، فأنزل الله عليه {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآيات. وذلك مروي بأسانيد ضعيفة وعلى تسليمها فقد أجيب بأن اليهود جادلوا في ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بأن لقنوا ذلك وفدا من قريش إليهم إلى المدينة، وهذا أقرب للتوفيق بين الأقوال. وهذه الروايات وإن كانت غير ثابتة بسند صحيح إلا أن مثل هذا يكتفي فيه بالمقبول في الجملة. قال أبو حيان: سبب نزول هذه السورة أن قريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة لقمان مع ابنه، أي سألوه سؤال تعنت واختبار. وهذا الذي ذكره أبو حيان يؤيد تصدير السورة بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].
وهذه السورة هي السابعة والخمسون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الصافات وقبل سورة سبأ. وعدت آياتها ثلاثا وثلاثين في عد أهل المدينة ومكة، وأربعا وثلاثين في عد أهل الشام والبصرة والكوفة.
أغراض هذه السورة
الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة تتصل بسبب نزولها الذي تقدم ذكره أن المشركين سألوا عن قصة لقمان وابنه، وإذا جمعنا بين هذا وبين ما سيأتي عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] من أن المراد به النضر بن الحارث إذ كان يسافر إلى بلاد الفرس فيقتني كتب اسفنديار ورستم وبهرام، وكان يقرؤها على قريش ويقول: يخبركم محمد عن عاد وثمود وأحثكم أنا عن رستم واسفنديار وبهرام، فصدرت هذه السورة بالتنويه بهدى القرآن ليعلم الناس أنه لا يشتمل إلا على ما فيه هدى وإرشاد للخير ومثل الكمال النفساني، فلا التفات فيه إلى أخبار الجبابرة وأهل الضلال إلا في مقام التحذير مما هم فيه ومن عواقبه، فكان صدر هذه السورة تمهيدا لقصة لقمان، وقد تقدم الإلماع إلى هذا في قوله تعالى في أول سورة يوسف [3] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ، ونبهت عليه في المقدمة السابعة بهذا التفسير. وانتقل من ذلك إلى تسفيه النضر بن الحارث وقصصه الباطلة.
(21/87)

وابتدئ ذكر لقمان بالتنويه بأن آتاه الله الحكمة وأمره بشكر النعمة. وأطيل الكلام في وصايا لقمان وما اشتملت عليه: من التحذير من الإشراك، ومن الأمر ببر الوالدين، ومن مراقبة الله لأنه عليم بخفيات الأمور، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر، والتحذير من الكبر والعجب، والأمر بالاتسام بسمات المتواضعين في المشي والكلام.
وسلكت السورة أفانين ذات مناسبات لما تضمنته وصية لقان لابنه، وأدمج في ذلك تذكير المشركين بدلائل وحدانية الله تعالى وبنعمه عليهم وكيف أعرضوا عن هديه وتمسكوا بما ألفوا عليه آباءهم.
وذكرت مزية دين الإسلام. وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بتمسك المسلمين بالعروة الوثقى، وأنه لا يحزنه كفر من كفروا.
وانتظم في هذه السورة الرد على المعارضين للقرآن في قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} {لقمان: 27] وما بعدها. وختمت بالتحذير من دعوة الشيطان والتنبيه إلى بطلان ادعاء علم الغيب.
[1] {الم} .
تقدم الكلام على نظائرها في أول سورة البقرة.
[5,2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
إذا كانت هذه السورة نزلت بسبب سؤال قريش عن لقمان وابنه فهذه الآيات إلى قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] بمنزلة مقدمة لبيان أن مرمى القرآن من قص القصة ما فيها من علم وحكمة وهدى وأنها مسوقة للمؤمنين لا للذين سألوا عنها فكان سؤالهم نفعا للمؤمنين.
والإشارة بـ {تِلْكَ} إلى ما سيذكر في هذه السورة، فالمشار إليه مقدر في الذهن مترقب الذكر على ما تقدم في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} في أول البقرة [2] وفي أول سورة الشعراء [2] والنمل [1] والقصص [2].
و {آيَاتُ الْكِتَابِ} خبر عن اسم الإشارة. وفي الإشارة تنبيه على تعظيم قدر تلك الآيات بما دل عليه اسم الإشارة من البعد المستعمل في رفعة القدر، وبما دلت عليه
(21/88)

إضافة الآيات إلى الكتاب الموصوف بأنه الحكيم وأنه هدى ورحمة وسبب وفلاح.
و {الْحَكِيمِ} : وصف للكتاب بمعنى ذي الحكمة، أي لاشتماله على الحكمة. فوصف {الْكِتَابِ} بـ {الْحَكِيمِ} كوصف الرجل بالحكيم، ولذلك قيل: إن الحكيم استعارة مكنية، أو بعبارة أرشق تشبيه بليغ بالرجل الحكيم. ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى المحكم بصيغة اسم المفعول وصفا على غير قياس كقولهم: عسل عقيد، لأنه أحكم وأتقن فبيس فيه فضول ولا ما لا يفيد كمالا نفسانيا.
وفي وصف {الْكِتَابِ} بهذا الوصف براعة استهلال للغرض من ذكر حكمة لقمان. وتقدم وصف الكتاب بـ {الْحَكِيمِ} في أول سورة يونس [1].
وانتصب {هُدىً وَرَحْمَةً} على الحال من {الْكِتَابِ} وهي قراءة الجمهور. وإذا كان {الْكِتَابِ} مضافا إليه فمسوغ مجيء الحال من المضاف إليه أن {الْكِتَابِ} أضيف إليه ما هو اسم جزئه، أو على أنه حال من آيات. والعامل في الحال ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. وقرأه حمزة وحده برفع {رَحْمَةً} على جعل {هُدىً} خبرا ثانيا عن اسم الإشارة.
ومعنى المحسنين: الفاعلون للحسنات، وأعلاها الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك خصت هذه الثلاث بالذكر بعد إطلاق المحسنين لأنها أفضل الحسنات، وإن كان المحسنون يأتون بها وبغيرها.
وزيادة وصف الكتاب بـ {رَحْمَةً} بعد {هُدىً} لأنه لما كان المقصد من هذه السورة قصة لقمان نبه على أن ذكر القصة رحمة لما تتضمنه من الآداب والحكمة لأن في ذلك زيادة على الهدى أنه تخلق بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا، والخبر الكثير: رحمة من الله تعالى.
و {الزَّكَاةَ} هنا الصدقة وكانت موكولة إلى همم المسلمين غير مضبوطة بوقت ولا بمقدار. وتقدم الكلام على {بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} إلى {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في أول سورة البقرة [6، 7].
[6، 7] { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
(21/89)

عطف على جملة {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان: 2]. والمعنى: أن حال الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين، وأن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله الذي يهدي إليه الكتاب. وهذا من مقابلة الثناء على آيات الكتاب الحكيم بضد ذلك في ذم ما يأتي به بعض الناس، وهذا تخلص من المقدمة إلى مدخل للمقصود وهو تفظيع ما يدعوا إليه النضر بن الحارث ومشايعوه من اللهو بأخبار الملوك التي لا تكسب صاحبها كمالا ولا حكمة.
وتقديم المسند في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ} للتشويق إلى تلقي خبرة العجيب. والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} في سورة البقرة [16]؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكناية: فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قصص رستم واسفنديار وبهرام، والكناية تقبيح للذين التفوا حوله وتلقوا أخباره، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم.
واللهو: ما يقصد منه تشغيل البال وتقصير طول وقت البطالة دون نفع، لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة. و {لَهْوَ الْحَدِيثِ} ما كان من الحديث مرادا للهو فإضافة {لَهْوَ} إلى {الْحَدِيثِ} على معنى {مِنَ} التبعيضية على رأي بعض النحاة، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى {مِنَ} التبعيضية فيردها إلى معنى اللام.
وتقدم اللهو في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} في سورة الأنعام [32].
والأصح في المراد بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أنه النضر بن الحارث فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصها على قريش في أسمارهم ويقول: إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم واسفنديار وبهرام. ومن المفرسين من قال: إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كتب أخبار ملوكهم فيحدث بها قريشا، أي بواسطة من يترجمها لهم. ويشمل لفظ {النَّاسِ} أهل سامره الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله تعالى إثره {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
وقيل المراد بـ {مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} من يقتني القينات المغنيات. روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمان عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(21/90)

قال: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وتمنهن حرام" ، في مثل ذلك أنزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب إنما يروي من حديث القاسم عن أبي أمامة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث سمعت محمدا -يعني البخاري- يقول علي بن يزيد يضعف اهـ. وقال ابن العربي في "العارضة" : في سبب نزولها قولان: أحدهما أنها نزلت في النضر بن الحارث. الثاني أنها نزلت في رجل من قريش قيل هو ابن خطل اشترى جارية مغنية فشغل الناس بها عن استماع النبيء صلى الله عليه وسلم اهـ. وألفاظ الآية أنسب انطباقا على قصة النضر بن الحارث.
ومعنى {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أنه يفعل ذلك ليلهي قريشا عن سماع القرآن فإن القرآن سبيل موصل إلى الله تعالى، أي إلى الدين الذي أراده، فلم يكن قصده مجرد اللهو بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله، وهذا زيادة في تفظيع عمله. وقرأ الجمهور {لِيُضِلَّ} بصم الياء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، أي ليزداد ضلالا على ضلالة إذ لم يكشف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس، وبذلك يكون مآل القراءتين متحد المعنى.
ويتعلق {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بفعل {يَشْتَرِي} ويتعلق به أيضا قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} لأن أصل تعلق المجرورات أن يرجع إلى المتعلق المبني عليه الكلام، فالمعنى: يشتري لهو الحديث بغير علم، أي عن غير بصيرة في صالح نفسه حيث يستبدل الباطل بالحق. والضمير المنصوب في {يَتَّخِذَهَا} عائد إلى {سَبِيلِ اللَّهِ} فإن السبيل تؤنث. وقرأ الجمهور {وَيَتَّخِذَهَا} بالرفع عطفا على {يَشْتَرِي} ، أي يشغل الناس بلهو الحديث ليصرفهم عن القرآن ويتخذ سبيل الله هزؤا. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بالنصب عطفا على {لِيُضِلَّ} ، أي يلهيهم بلهو الحديث ليضلهم وليتخذ دين الإسلام هزءا. ومآل المعنى متحد في القراءتين لأن كلا الأمرين من فعله ومن غرضه. وأما الإضلال فقد رجح فيه جانب التعليل لأنه العلة الباعثة له على ما يفعل.
والهزؤ: مصدر هزأ به إذا سخر به كقوله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: 231] ولما كان {مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} صادقا على النضر بن الحارث والذين يستمعون إلى قصصه من المشركين جيء في وعيدهم بصيغة الجمع {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
واختير اسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر إنما استحقه
(21/91)

لأجل ما سبق اسم الإشارة من الوصف.
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} معترضة بين الجملتين جملة {مَنْ يَشْتَرِي} وجملة {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} فهذا عطف على جملة {يَشْتَرِي} الخ. والتقدير: ومن الناس من يشتري الخ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً} ؛ فالموصول واحد وله صلتان: اشتراء لهو الحديث للضلال، والاستكبار عندما تتلى عليه آيات القرآن.
ودل قوله: {تُتْلَى عَلَيْهِ} أنه يواجه بتبليغ القرآن وإسماعه. وقوله: {وَلَّى} تمثيل للإعراض عن آيات الله كقوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22].
و {مُسْتَكْبِراً} حال، أي هو إعراض استكبار لا إعراض تفريط في الخير فحسب.
وشبه في ذلك بالذي لا يسمع الآيات التي تتلى عليه، ووجه الشبه هو عدم التأثر ولو تأثرا يعقبه إعراض كتأثر الوليد بن المغيرة. و {كَأَنَّ} مخففة من "كأن" وهي في موضع الحال من ضمير {مُسْتَكْبِراً} . وكرر التشبيه لتقويته مع اختلاف الكيفية في أن عدم السمع مرة مع تمكن آلة السمع ومرة مع انعدام قوة آلته فشبه ثانيا بمن في أذنيه وقر وهو أخص من معنى {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} . ومثل هذا التشبيه الثاني قول لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشموله غلشت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع أسنامها
والوقر: أصله الثقل، وشاع في الصمم مجازا مشهورا ساوى الحقيقة، وقد تقدم في قوله: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} في سورة الأنعام [25].
وقرأ نافع {فِي أُذُنَيْهِ} بسكون الذال للتخفيف لأجل ثقل المثنى، وقرأه الباقون بضم الذال على الأصل. وقد ترتب على هذه الأعمال التي وصف بها أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوعده بعذاب أليم. وإطلاق البشارة هنا استعارة تهكمية، كقول عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
وقد عذب النضر بالسيف إذ قتل صبرا يوم بدر، فذلك عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة أشد.
[8، 9] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
(21/92)

لما ذكر عذاب من يضل عن سبيل الله اتبع ببشارة المحسنين الذين وصفوا بأنهم يقيمون الصلاة إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 5].
وانتصب {وَعْدَ اللَّهِ} على المفعول المطلق النائب عن فعله، وانتصب {حَقّاً} على الحال المؤكدة لمعنى عاملها كما تقدم في صدر سورة يونس. وإجراء الاسمين الجليلين على ضمير الجلالة لتحقيق وعده لأنه لعزته لا يعجزه الوفاء بما وعد، ولحكمته لا يخطئ ولا يذهل عما وعد،فموقع جملة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} موقع التذييل بالأعم.
[10، 11] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
استئناف للاستدلال على الذين دأبهم الإعراض عن آيات الله بأن الله هو خالق المخلوقات فلا يستحق غيره أن تثبت له الإلهية فكان ادعاء الإلهية لغير الله هو العلة للإعراض عن آيات الكتاب الحكيم، فهم لما أثبتوا الإلهية لما لا يخلق شيئا كانوا كمن يزعم أن الأصنام مماثلة لله تعالى في أوصافه فلذلك يقتضي انتفاء وصف الحكمة عنه كما هو منتف عنها. ولذا فإن موقع هذه الآيات موقع دليل الدليل، وهو المقام المعبر عنه في علم الاستدلال بالتدقيق، وهو ذكر الشيء بدليله ودليل دليله، فالخطاب في قوله: {تَرَوْنَهَا} و {بُكْمٌ} للمشركين، وقد تقدم في وسورة الرعد [2] قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، وتقدم في أول سورة النحل [15] قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} ، والمعنى خوف أن تميد بكم أو لئلا تميدكم كما بين هنالك. وتقدم في سورة البقرة [164] قوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} .
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هو نظير قوله في سورة البقرة [164] {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} وقوله في سورة الرعد [17] {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} .
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {وَأَنْزَلْنَا} للاهتمام بهذه النعمة التي هي أكثر دورانا عند الناس. وضمير {فِيهَا} عائد إلى الأرض.
والزوج: الصنف، وتقدم في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} في طه [53] وقوله: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} في سورة الحج [5].
(21/93)

والكريم: النفيس في نوعه، وتقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله: {ان تميد بكم وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوانسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوها ورواحها، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمر والكلأ والكمأة. وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شمل الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة.
وجملة {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السماء والأرض والجبال والدواب وإنزال المطر. واسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} إلى قوله: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . والإتيان به مفردا بتأويل المذكور والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله: {خَلْقُ اللَّهِ} التفاتا لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} . وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله: {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} التفاتا لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله: {خَلْقُ اللَّهِ} . ويجوز أن تكون الرؤية من قوله: {فَأَرُونِي} علمية، أي فأنبئوني، والفعل معلقا عن العمل بالاستفهام بـ {مَاذَا} . فيتعين أن يكون {فَأَرُونِي} تهكما لأنهم لا يمكن لهم أن يكافحوا الله زيادة على كون الأمر مستعملا في التعجيز، لكن التهكم أسبق للقطع بأنهم لا يتمكنون من مكافحة الله قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون الله قطعا نظريا.
وصوغ أمر التعجيز من مادة الرؤية البصرية أشد في التعجيز لاقتضائها الاقتناع منهم بأن يحضروا شيئا يدعون أن آلهتهم خلقته. وهذا كقول حطائط بن يعقر النهشلي1 وقيل حاتم الطائي:
أريني جوادا مات هزلا2 لعلني ... أرى ما تزين أو بخيلا مخلدا
أي: أحضرني جوادا مات من الهزال وأرينيه لعلي أرى مثل ما رأيتيه.
والعرب يقصدون في مثل هذا الغرض الرؤية البصرية، ولذلك يكثر أن يقول: ما
ـــــــ
1 حُطائط بضم الحاء: القصير.
2 هَزلاً بفتح الهاء: الهزال.
(21/94)

رأت عيني، وانظر هل ترى. وقال امرؤ القيس:
فلله عينا من رأى من تفوق ... أشت وأنأى من فراق المحصب
وإجراء اسم موصول العقلاء على الأصنام مجازاة للمشركين إذ يعدنهم عقلاء. و {مِنْ دُونِهِ} صلة الموصول. و"دون" كناية عن الغير، و {مِنْ} جارة لاسم المكان على وجه الزيادة لتأكيد الاتصال بالظرف.
و {بَلْ} للإضراب الانتقالي من غرض المجادلة إلى غرض تسجيل ضلالهم، أي في اعتقادهم إلهية الأصنام، كما يقال في المناظرة: دع عنك هذا وانتقل إلى كذا.
و {الظَّالِمُونَ} : المشركون. والضلال المبين: الكفر الفظيع، لأنهم أعرضوا عن دعوة الإسلام للحق، وذلك ضلال، وأشركوا مع الله غيره في الإلهية، فذلك كفر فظيع. وجيء بحرف الظرفية اكتناف الضلال بهم في سائر أحوالهم، أي شدة ملابسته إياهم.
[12] {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
الواو عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث المتقدمة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزؤا، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة، فهما حالان متضادان؛ فقطع النظر عن كون قصة النضر سيقت مساق المقدمة والمدخل إلى المقصود لأن الكلام لما طال في المقدمة خرجت عن سنن المقدمات إلى المقصودات بالذات فلذلك عطفت عطف القصص ولم تفصل فصل النتائج عقب مقدماتها. وقد تتعدد الاعتبارات للأسلوب الواحد فيتخير البليغ في رعيها كقوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} في سورة البقرة [49]، {ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} في سورة إبراهيم [6]. وافتتاح القصة بحر في التوكيد: لام القسم و"قد" للإنباء بأنها خبر عن أمر مهم واقع.
و {لُقْمَانَ} اسم رجل حكيم صالح. وأكبر الروايات في شانه التي يعضد بعضها وإن كانت أسانيدها ضعيفة تقتضي أنه كان من السود، فقيل هو من بلاد النوبة، وقيل من الحبشة.
(21/95)

وليس هو لقمان بن عاد الذي قال المثل المشهور: إحدى حطيات لقمان والذي ذكره أبو المهوش الأسدي أو يزيد بن عمر يصعق في قوله:
تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ويعرف ذلك بلقمان صاحب النسور، وهو الذي له ابن اسمه لقيم1 وبعضهم ذكر أن اسم أبيه باعوراء، فسبق إلى أوهام بعض المؤلفين2 أنه المسمى في كتب اليهود بلعام بن باعوراء المذكور خبره في "الإصحاحين" [22 و23] من "سفر العدد" ، ولعل ذلك وهم لأن بلعام ذلك رجل من أهل مدين كان نبيا في زمن موسى عليه السلام، فلعل التوهم جاء من اتحاد اسم الأب، أو من ظن أن بلعام يرادغ معنى لقمان لأن بلعام من البلع ولقمان من اللقم فيكون العرب سموه بما يرادف اسمه في العبرانية. وقد اختلف السلف في أن لقمان المذكور في القرآن كان حكيما أو نبيا. فالجمهور قالوا: كان حكيما صالحا. واعتمد مالك في "الموطأ" على الثاني، فذكره في "جامع الموطأ" مرتين بوصف لقمان الحكيم، وذلك يقتضي أنه اشتهر بذلك بين علماء المدينة. وذكر ابن عطية: أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله تعالى فأحبه فمن عليه بالحكمة" ويظهر من الآيات المذكورة في قصته هذه أنه لم يكن نبيا لأنه لم يمتن عليه بوحي ولا بكلام الملائكة. والاقتصار على أنه أوتي الحكمة يومئ إلى أنه ألهم الحكمة ونطق بها، ولأنه لما ذكر تعليمه لابنه قال تعالى {وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان: 13] وذلك مؤذن بأنه تعليم لا تبليغ تشريع.
وذهب عكرمة والشعبي: أن لقمان نبي ولفظ الحكمة يسمح بهذا القول لأن الحكمة أطلقت على النبوءة في كثير من القرآن كقوله في داود { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]. وقد فسرت الحكمة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] بما يشمل النبوءة. وإن الحكمة "معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه" وأعلاها النبوءة لأنها علم بالحقائق مأمون من أن يكون مخالفا لما هي عليه في نفس الأمر إذ النبوءة متلقاة من الله الذي لا يعزب عن عمله شيء. وسيأتي أن إيراد قوله تعالى:
ـــــــ
1 وهو المعني في البيت الذي أنشده ابن بري:
لقيم بن لقمان من أخته
فكان ابن أخت له وابنُه
2 هو لاروس صاحب دوائر المعارف الفرنسية.
(21/96)

{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] في أثناء كلام لقمان يساعد هذا القول.
وذكر أهل التفسير والتاريخ أنه كان في زمن داود. وبعضهم يقول إنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته، فتعين أنه عاش في بلاد إسرائيل. وذكر بعضهم أنه كان عبدا فأعتقه سيده وذكر ابن كثير عن مجاهد: أن لقمان كان قاضيا في بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام، ولا يوجد ذكر ذلك في كتب الإسرائيليين. قيل كان راعيا لغنم وقيل كان نجارا وقيل خياطا. وفي "تفسير ابن كثير" عن ابن وهب أن لقمان كان عبدا لبني الحسحاس وبنو الحسحاس من العرب وكان من عبيدهم سحيم العبد الشاعر المخضرم الذي قتل في مدة عثمان.
وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال والمقربة للخفيات بأحسن الأمثال. وقد عني بها أهل التربية وأهل الخير، وذكر القرآن منها ما في هذه السورة، وذكر منها مالك في "الموطأ" بلاغين في كتاب "الجامع" وذكر حكمة له في كتاب "جامع العتبية" وذكر منها أحمد بن حنبل في "مسنده" ولا نعرف كتابا جمع حكمة لقمان. وفي "تفسير القرطبي" قال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. ولعل هذا إن صح عن وهب بن منبه كان مبالغة في الكثرة.
وكان لقمان معروفا عند خاصة العرب. قال ابن إسحاق في "السيرة" : قدم سويد ابن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك? قال: مجلة لقمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله. قال ابن إسحاق: فقدم المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج وكان قتله قيل يوم بعاث. وكان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قومه يدعونه الكامل اهـ. وفي "الاستيعاب" لبن عبد البر: أنا شاك في إسلامه كما شك غيري. وقد تقدم في صدر الكلام على هذه السورة أن قريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقمان وابنه وذلك يقتضي أنه كان معروفا للعرب. وقد انتهى الي حين كتابة هذا التفسير من حكم لقمان المأثورة ثمان وثلاثون حكمة غير ما ذكر في هذه الآية وسنذكرها عند الفراغ من تفسير هذه الآيات.
والإيتاء: الإعطاء، وهو مستعار هنا للإلهام أو الوحي.
و {لُقْمَانُ} : اسم علم مادته مادة عربية مشتق من اللقم. والأظهر أن العرب عربوه
(21/97)

بلفظ قريب من ألفاظ لغتهم على عادتهم كما عربوا شاول باسم طالوت وهو ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة.
وتقدم تعريف {الْحِكْمَةَ} عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} في سورة البقرة [269] وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} في سورة النحل [125].
و {أَنِ} في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تفسيرية وليست تفسيرا لفعل {آتَيْنَا} لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة، فتكون {أَنِ} مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو ألهمها فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تفسر بـ {أَنِ} التفسيرية، كما فسرت حاجة في قول الشاعر الذي لم يعرف وهو من شواهد العربية:
إن تحملا حاجة لي خف محملها ... تستوجبا منة عندي بها ويدا
أن تقرءان علي أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تخبرا أحدا
والصوفية وحكماء الإشراق يرون خواطر الأصفياء حجة ويسمونها إلهاما. ومال إليه جم من علمائنا. وقد قال قطب الدين الشبرازي في "ديباجة شرحه على المفتاح" أما بعد إني قد ألقي إلي على سبيل الإنذار، من حضرة الملك الجبار، بلسان الإلهام، إلا كوهم من الأوهام، ما أورثني التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار السرور الخ.
وكان أول ما لقنه لقمان من الحكمة هو الحكمة في نفسه بأن أمره الله يشكره على ما هو محفوف به من نعم الله التي منها نعمة الاصطفاء لإعطائه الحكمة وإعداده لذلك بقابليته لها. وهذا رأس الحكمة لتضمنه النظر في دلائل نفسه وحقيقته قبل النظر في حقائق الأشياء وقبل التصدي لإرشاد غيره، وأن أهم النظر في حقيقته هو الشعور بوجوده على حالة كاملة والشعور بموجده ومفيض الكمال عليه، وذلك كله مقتض لشكر موجده على ذلك. وأيضا فإن شكر الله من الحكمة، إذ الحكمة تدعو إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه لقصد العمل بمقتضى العلم، فالحكيم يبث في الناس تلك الحقائق على حسب قابلياتهم بطريقة التشريع تارة والموعظة أخرى، والتعليم لقابليه مع حملهم على العمل بما علموه من ذلك، وذلك العمل من الشكر إذ الشكر قد عرف بأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من مواهب ونعم فيما خلق لأجله، فكان شكر الله هو الأهم في الأعمال المستقيمة فلذلك كان رأس الحكمة لأن من الحكمة تقديم العلم بالأنفع على العلم بما هو دونه، فالشكر هو مبدأ الكمالات علما، وغايتها عملا.
(21/98)

وللتنبيه على هذا المعنى أعقب الله الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر لا للمشكور بقوله: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن آثار شكر الله كمالات حاصلة للشاكر ولا تنفع المشكور شيئا لغناه سبحانه عن شكر الشاكرين، ولذلك جيء به في صورة الشرط لتحقيق التعلق بين مضمون الشرط ومضمون الجزاء فإن الشرط أدل على ذلك من الإخبار. وجيء بصيغة حصر نفع الشكر في الثبوت للشاكر بقوله: {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي ما يشكر إلا لفائدة نفسه، ولام التعليل مؤذنة بالفائدة. وزيد ذلك تبينا بعطف ضده بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} لإفادة أن الإعراض عن الشكر بعد استشعاره كفر للنعمة وأن الله غني عن شكره بخلاف شأن المخلوقات إذ يكسبهم الشكر فوائد بين بني جنسهم تجر إليهم منافع الطاعة أو الإعانة أو الإغناء أو غير ذلك من فوائد الشكر للمشكورين على تفاوت مقاماتهم، والله غني عن جميع ذلك، وهو {حَمِيدٌ} ، أي كثير المحمودية بلسان حال الكائنات كلها حتى حال الكافر به كما قال تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} سورة الرعد [15].
ومن بلاغة القرآن وبديع إيجازه أن كان قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} جامعا لمبدأ الحكمة التي أوتيها لقمان، ولأمره بالشكر على ذلك، فقد جمع قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} الإرشاد إلى الشكر، مع الشروع في الأمر المشكور عليه تنبيها على المبادرة بالشكر عند حصول النعمة. وإنما قوبل الإعراض عن الشكر بوصف الله بأنه حميد لأن الحمد والشكر متقاربان، وفي الحديث: "الحمد رأس الشكر" ، فلما لم يكن في أسماء الله تعالى اسم من مادة الشكر إلا اسمه الشكور وهو بمعنى شاكر، أي: شاكر لعباده عبادتهم إياه عبر هنا باسمه {حَمِيدٌ} . وجيء في فعل {يَشْكُرُ} بصيغة المضارع للإيماء إلى جدارة الشكر بالتجديد.
واللام في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان: 14} داخلة على مفعول الشكر وهي لام ملتزم زيادتها مع مادة الشكر للتأكيد والتقوية، وتقدم في قوله: {وَاشْكُرُوا لِي} في سورة البقرة [152].
[13] {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
عطف على جملة {آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] لان الواو نائبة مناب الفعل فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان. والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ
(21/99)

قال لابنه فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة.
و {إِذْ} ظرف متعلق بالفعل المقدر الذي دلت عليه واو العطف، أي والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه. وهذا انتقال من وصفه بحكمة الاهتداء إلى وصفه بحكمة الهدي والإرشاد. ويجوز أن يكون {إِذْ قَالَ} ظرفا متعلقا بفعل "اذكر" محذوفا.
وفائدة ذكر الحال يقوله: {وَهُوَ يَعِظُهُ} الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك، وقد قال جمهور المفسرين: إن ابن لقمان كان مشركا فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده، فإن الوعظ زجر مقترن بتخويف قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء: 63] ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله. ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبى ابنه متابعته فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد، وليس استيطان لقمان بمدينة داود مقتضيا أن تكون عائلته تدين بدين اليهودية.
وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه أو عند مقاربة التلبس به، والأصل ان لا ينهي عن شيء منتف عن المنهي. وقد ذكر المفسرون اختلافا في اسم ابن لقمان فلا داعي إليه.
وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي: الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس.
وافتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب، فالنداء مستعمل مجازا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4] وقوله: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ} في سورة يوسف [5] وقوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} في سورة العقود [112] وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} في سورة مريم [42].
و {بُنَيَّ} تصغير "ابن" مضافا إلى ياء المتكلم فلذلك كسرت الياء. وقرأه الجمهور بكسر ياء {بُنَيَّ} مشددة. وأصله: يا بنييي بثلات ياءات إذ أصله الأصيل يا بنيوي لأن كلمة ابن واوية اللام الملتزمة حذفها فلما صغر رد إلى أصله، ثم لما التقت ياء التصغير ساكنة قبل واو الكلمة المتحركة بحركة الإعراب قلبت الواو ياء لتقاربهما وأدغمتا، ولما
(21/100)

نودي وهو مضاف إلى ياء المتكلم حذفت ياء المتكلم لجواز حذفها في النداء وكراهية تكرر الأمثال، وأشير إلى الياء المحذوفة بإلزامه الكسر في أحوال الإعراب الثلاثة لأن الكسرة دليل على ياء المتكلم. وتقدم في سورة يوسف.والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة.
ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال، فإن إصلاح الاعتقاد أصل الإصلاح العمل. وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدهرية والإشراك، فكان قوله: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته. وقرأ حفص عن عاصم في المواضع الثلاثة في هذه السورة {يَا بُنَيَّ} بفتح الياء مشددة على تقدير: يا بنيا بالألف وهي اللغة الخامسة في المنادي المضاف إلى ياء المتكلم ثم حذفت الألف واكتفي بالفتحة عنها، وهذا سماع.
وجملة {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} تعليل للنهب عنه وتهويل لأمره، فإنه ظلم لحقوق الخالق، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات، وظلم لأهل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعلقها. وهذا من جملة كلام لقمان كما هو ظاهر السياق، ودل عليه الحديث في "صحيح مسلم" عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . وجوز ابن عطية أن يكون جملة {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} من كلام الله تعالى أي معترضة بين كلم لقمان. فقد روي عن ابن مسعود أنهم لما قالوا ذلك أنزل الله تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وانظر من روى هذا ومقدار صحته.
[14، 15] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
(21/101)

إذا درجنا على أن لقمان لم يكن نبيا مبلغا عن الله وإنما كان حكيما مرشدا كان هذا الكلام اعتراضا بين كلامي لقمان لأن صيغة هذا الكلام مصوغة على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله. والضمائر ضمائر العظمة جرته مناسبة حكاية نهي لقمان لابنه عن الإشراك وتفظيعه بأنه عظيم. فذكر الله هذا لتأكيد ما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بتعميم النهي في الأشخاص والأحوال لئلا يتوهم متوهم أن النهي خاص بابن لقمان أو ببعض الأحوال فحكى الله أن الله أوصى بذلك كل إنسان وأن لا هوادة فيه ولو في أحرج الأحوال وهي حال مجاهدة الوالدين أولادهم على الإشراك. وأحسن من هذه المناسبة أن تجعل مناسبة هذا الكلام أنه لما حكي وصاية لقمان لابنه بما هو شكر الله بتنزيهه عن الشرك في الإلهية بين الله أنه تعالى أسبق منة على عباده إذ أوصى الأبناء ببر الآباء فدخل في العموم المنة على لقمان جزاء على رعيه لحق الله في ابتداء موعظة ابنه فالله أسبق بالإحسان إلى الذين أحسنوا برعي حقه. ويقوي هذا التفسير اقتران شكر الله وشكر الوالدين في الأمر.
وإذا درجنا على أن لقمان كان نبيا فهذا الكلام مما أبلغه لقمان لابنه وهو مما أوتيه من الوحي ويكون قد حكي بالأسلوب الذي أوحي به إليه على نحو أسلوب قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان: 12]. وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكرم، ويرجحه اختلاف الأسلوب بينها وبين آيتي سورة العنكبوت وسورة الأحقاف لأن ما هنا حكاية ما سبق في أمة أخرى والأخريين خطاب أنف لهذه الأمة. وقد روي أن لقمان لما أبلغ ابنه هذا قال له: إن الله رضيني لك فلم يوصيني بك ولم يرضك لي فأوصاك بي.
والمقصود من هذا الكلام هو قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} إلى آخره... وما قبله تمهيد له وتقرير لواجب بر الوالدين ليكون النهي عن طاعتهما إذا أمرا بالإشراك بالله نهيا عنه في أولى الحالات بالطاعة حتى يكون النهي عن الشرك فيما دون ذلك من الأحوال مفهوما بفحوى الخطاب مع ما في ذلك من حسن الإدماج المناسب لحكمة لقمان سواء كان هذا من كلام لقمان أو كان من جانب الله تعالى.
وعلى كلا الاعتبارين لا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه، لعدم مناسبته السياق، ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك، وأنها المناسبة لسبب النزول فإنها أخليت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه، ولا وجه لنزول آيتين في
(21/102)

غرض واحد ووقت مختلف وسيجيء بيان الموصى به.
والوهن -بسكون الهاء- مصدر وهن يهن من باب ضرب. ويقال: وهن -بفتح الهاء- على أنه مصدر وهن يوهن كوجل يوجل. وهو الضعف وقلة الطاقة على تحمل شيء. وانتصب {وَهْناً} على الحال من {أُمُّهُ} مبالغة في ضعفها حتى كأنها نفس الوهن، أي واهنة في حمله، و {عَلَى وَهْنٍ} صفة لـ {وَهْناً} أي وهنا واقعا على وهن، كما يقال: رجع عودا على بدء، إذا استأنف عملا فرغ منه فرجع إليه، أي بعد بدء، أو {عَلَى} بمعنى "مع" كما في قول الأحوص:
إني على ما قد علمت محسد ... أنمي على البغضاء والشنآن
فإن حمل المرأة يقارنه التعب من ثقل الجنين في البطن، والضعف من انعكاس دمها إلى تغذية الجنين، ولا يزال ذلك الضعف يتزايد بامتداد زمن الحمل فلا جرم أنه وهن على وهن.
وجملة {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} في موضع التعليل للوصاية بالوالدين قصدا لتأكيد تلك الوصاية لأن تعليل الحكم يفيده تأكيدا، ولأن في مضمون هذه الجملة ما يثير الباعث في نفس الولد على أن يبر بأمه ويستتبع البر بأبيه. وإنما وقع تعليل الوصاية بالوالدين بذكر أحوال خاصة بأحدهما وهي الأم اكتفاء بأن تلك الحالة تقتضي الوصاية بالأب أيضا للقياس فإن الأب يلاقي مشاق وتعبا في القيام على الأم لتتمكن من الشغل بالطفل في مدة حضانته ثم هو يتولى تربيته والذب عنه حتى يبلغ أشده ويستغني عن الإسعاف كما قال تعالى {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24]، فجمعهما في التربية في حال الصغر مما يرجع إلى حفظه وإكمال نشأته. فلما ذكرت هنا الحالة التي تقتضي البر بالأم من الحمل والإرضاع كانت منبهة إلى ما للأب من حالة تقتضي البر به على حساب ما تقتضيه تلك العلة في كليهما قوة وضعفا. ولا يقدح في القياس التفاوت بين المقيس والمقيس عليه في قوة الوصف الموجب للإلحاق. وقد نبه على هذا القياس تشريكهما في التحكم عقب ذلك بقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} . وحصل من هذا النظم قضاء حق الإيجاز.
وأما رجحان الأم في هذا الباب عند التعارض في مقتضيات البرور تعارضا لا يمكن معه الجمع فقال ابن عطية في "تفسيره" : شرك الله في هذه الآية الأم والأب في رتبة الوصية بهما ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل ودرجة الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب
(21/103)

وللأب واحدة، وأشبه ذلك " قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل: من أبر? قال: أمك. قال: ثم من? قال: أمك. قال: ثم من? قال: أمك. قال: ثم من? قال: أباك" . فجعل له الربع من المبرة. وهذا كلام منسوب مثله لابن بطال في شرح "صحيح البخاري" . ولا يخفى أن مساق الحديث لتأكيد البر بالأم إذ قد يقع التفريط في الوفاء بالواجب للأم من الابن اعتمادا على ما يلاقيه من اللين منها بخلاف جانب الأب فإنه قوي ولأبنائه توق من شدته عليهم، فهذا هو مساق الحديث. ولا معنى لأخذه على ظاهره حتى نذهب إلى تجزئة البر بين الأم والأب أثلاثا أو أرباعا. وهو ما استشكله القرافي في " فائدة من الفرق الثالث والعشرين" ، وحسبنا نظم هذه الآية البديع في هذا الشأن. وأما لفظ الحديث فهو مسوق لتأكيد البر بالأم خشية التفريط فيه. وليس معنى "ثم" فيه إلا محاكاة قول السائل ثم من بقرينة أنه عطف بها لفظ الأم في المرتين ولا معنى لتفضيل الأم على نفسها في البر. وإذ كان السياق مسوقا للاهتمام تعين أن عطف الأب على الأم في المرة الثالثة عطف في الاهتمام فلا ينتزع منه ترجيح عند التعارض. ولعل الرسول عليه الصلاة والسلام علم من السائل إرادة الترخيص له في عدم البر. وقد قال مالك سأله: أن أباه في بلد السودان كتب إليه أن يقدم عليه وأن أمه منعته فقال له مالك: أطع أباك ولا تعص أمك. وهذا يقتضي إعراضه عن ترجيح جانب أحد الأبوين وأنه متوقف في هذا التعارض ليحمل الابن على ترضية كليهما. وقال الليث: يرجح جانب الأم. وقال الشافعي: يرجح جانب الأب.
وجملة {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} عطف على جملة {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} الخ، فهي في موقع الحال أيضا. وفي الجملة تقدير ضمير رابط إياها بصاحبها، إذ التقدير: وفصالها إياه، فلما أضيف الفصال إلى مفعوله علم أن فاعله هو الأم.
والفصال: اسم للفطام، فهو فصل عن الرضاعة. وتقدم في قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} في سورة البقرة [233]. وذكر الفصال في معرض تعليل حقية الأم بالبر، لأنه يستلزم الإرضاع من قبل الفصال، وللإشارة إلى ما تتحمله الأم من كدر الشفقة على الرضيع حين فصاله، وما تشاهده من حزنه وألمه في مبدأ فطامه. وذكر لمدة فطامه أقصاها وهو عامان لأن ذلك أنسب بالترقيق على الأم، وأشير إلى أنه قد يكون الفطام قبل العامين بحرف الظرفية لأن الظرفية تصدق مع استيعاب المظروف جميع الظرف، ولذلك فموقع {فِي} .
(21/104)

أبلغ من موقع "من" التبعيضية في قول سبرة بن عمرو الفقعسي:
ونشرب في أثمانها ونقامر
لأنه يصدق بأن يستغرق الشراب والمقامرة كامل أثمان إبله. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} في سورة النساء [5]. وقد حمله علي بن أبي طالب أو ابن عباس على هذا المعنى فأخذ منه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر جمعا بين هذه الآية وآية سورة الأحقاف كما سيأتي هنالك.
وجملة {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} تفسير لفعل {وَصَّيْنَا} . و {إِنْ} تفسيرية، وإنما فسرت الوصية بالوالدين بما فيه الأمر بشكر الله مع شكرهما على وجه الإدماج تمهيدا لقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} الخ.
وجملة {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} استئناف للوعظ والتحذير من مخالفة ما أوصى الله به من الشكر له. وتعريف {الْمَصِيرُ} تعريف الجنس، أي مصير الناس كلهم. ولك أن تجعل أل عوضا عن المضاف إليه. وتقديم المجرور للحصر، أي ليس للأصنام مصير في شفاعة ولا غيرها. وتقدم الكلام على نظير قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} إلى {فَلا تُطِعْهُمَا} في سورة العنكبوت [8], سوى أنه قال هنا {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وقال في سورة العنكبوت: {لِتُشْرِكَ بِي} فأما حرف {عَلَى} فهو أدل على تمكن المجاهدة، أي مجاهدة قوية للإشراك، والمجاهدة: شدة السعي والإلحاح. والمعنى: إن ألحا وبالغا في دعوتك إلى الإشراك بي فلا تطعهما. وهذا تأكيد للنبيء عن الإصغاء إليهما إذا دعوا إلى الإشراك. وأما آية العنكبوت فجيء فيها بلام العلة لظهور أن سعدا كان غنيا عن تأكيد النهي عن طاعة أمه لقوة إيمانه.
وقال القرطبي: إن امرأة لقمان وابنه كانا مشركين فلم يزل لقمان يعظهما حتى آمنا، وبه يزيد ذكر مجاهدة الوالدين على الشرك اتضاحا.
والمصاحبة: المعاشرة. ومنه حديث معاوية بن حيدة "أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي? قال: أمك" الخ.
والمعروف: الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن، أي صاحب والديك صحبة حسنة, وانتصب {مَعْرُوفاً} على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق لـ {صَاحِبْهُمَا} ، أي صحابا معروفا لأمثالهما. وفهم منه اجتناب ما ينكر في
(21/105)

مصاحبتهما، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالمنكر، وشمل ذلك أن يدعو الوالد إلى ما ينكره الله ولا يرضى به ولذلك لا يطاعان إذا أمرا بمعصية. وفهم من ذكر {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أثر قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} الخ... أن الأمر بمعاشرتهما بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف ما الإحسان إليهما وصلتهما. وفي الحديث: أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي جاءت راغبة أفأصلها? فقال: نعم صلي أمك، وكانت مشركة وهي قتيلة بنت عبد العزى. وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما، وإن كان منكرا للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكرا في الدينين فلا يحل للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه. واتباع سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي الراجعين إليه، وقد تقدم ذكر الإنابة في سورة الروم [33] عند قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} وفي سورة هود [88]. فالمراد بمن أناب: المقلعون عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك.
وجملة {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} معطوفة على الجمل السابقة و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي المفيد للاهتمام بما بعدها، أي وعلاوة على ذلك كله إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. وضمير الجمع للإنسان والوالدين، أي مرجع الجميع. وتقديم المجرور للاهتمام بهذا الرجوع أو هو للتخصيص، أي لا ينفعكم شيء مما تأملونه من الأصنام. وفرع على هذا {فَأُنَبِّئُكُمْ} الخ... والإنباء كناية عن إظهار الجزاء على الأعمال لأن الملازمة بين إظهار الشيء وبين العلم به ظاهرة. وجملة {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} وعد ووعيد. وفي هذه الضمائر تغليب الخطاب على الغيبة لأن الخطاب أهم لأنه أعرف.
[16] {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
تكرير النداء لتجديد نشاط السامع لوعي الكلام. وقرأ نافع وأبو جعفر {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ} برفع {مِثْقَالَ} على أنه فاعل {تَكُ} من "كان" التامة. وإنما جيء بفعله بتاء المضارعة للمؤنثة، وأعيد عليه الضمير في قوله: {بِهَا} مؤنثا مع أن {مِثْقَالَ} لفظ غير مؤنث لأنه أضيف إلى {حَبَّةٍ} فاكتسب التأنيث من المضاف إليه، وهو استعمال كثير إذا
(21/106)

كان المضاف لو حذف لما اختل الكلام بحيث يستغني بالمضاف إليه عن المضاف، وعليه فضمير {إِنَّهَا} للقصة والحادثة وهو المسمى بضمير الشأن, وهو يقع بصورة ضمير المفردة المؤنثة بتأويل القصة، ويختار تأنيث هذا الضمير إذا كان في القصة لفظ مؤنث كما في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46]، ويكثر وقوع ضمير الشأن بعد "أن" كقوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74]، ومن ذلك تقدير ضمير الشأن اسما لحرف "أن" المفتوحة المخففة، وهو يفيد الاهتمام بإقبال المخاطب على ما يأتي بعده، فاجتمع في هذه الجملة ثلاثة مؤكدات: النداء، وإن، وضمير القصة، لعظم خطر ما بعده المقيد تقرير وصفه تعالى بالعلم المحيط بجميع المعلومات من الكائنات، ووصفه بالقدرة المحيطة بجميع الممكنات بقرينة قوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} .
وقد أفيد ذلك بطريق دلالة الفحوى؛ فذكر أدق الكائنات حالا من حيث تعلق العلم والقدرة به، وذلك أدق الأجسام المختفي في أصلب مكان أو أقصاه وأعزه منالا، أو أوسعه وأشده انتشارا، ليعلم أن ما هو أقوى منه في الظهور والدنو من التناول أولى بأن يحيط به علم الله وقدرته. وقرأه الباقون بنصب {مِثْقَالَ} على الخبرية لـ {تَكُ} من "كان" الناقصة، وتقدير اسم لها يدل عليه المقام مع كون الفعل مسندا لمؤنث، أي إن تك الكائنة، فضمير {إِنَّهَا} مراد منه الخصلة من حسنة أو سيئة أخذا من المقام.
والمثقال بكسر الميم: ما يقدر به النقل ولذلك صيغ على زنة اسم الآلة.
والحبة: واحدة الحب وهو بذر النبات من سنابل أو قطنية بحيث تكون تلك الواحدة زريعة لنوعها من النبات، وقد تقدم في سورة البقرة [261] قوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} في سورة الأنعام [95].
والخردل: نبت له جذر وساق قائمة متفرعة أسطوانية أوراقها كبيرة يخرج أزهارا صغيرة صفرا سنبلية تتحول إلى قرون دقيقة مربعة الزوايا تخرج بزورا دقيقة تسمى الخردل أيضا، ولب تلك البزور شديد الحرارة يلدغ اللسان والجلد، وهي سريعة التفتق ينفتق عنها قشرها بدق أو إذا بلت بمائع، فتستعمل في الأدوية ضمادات على المواضع التي فيها التهاب داخلي من نزلة أو ذات جنب وهو كثير الاستعمال في الطب قديما وحديثا. وقد أخذ الأطباء يستغنون عنه بعقاقير أخرى. وتقدم نظير هذا في سورة الأنبياء [47] {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} .
(21/107)

وقوله: {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} عطف على {فِي صَخْرَةٍ} لأن الصخرة من أجزاء الأرض فذكر بعدها {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} على معنى أو كانت في أعز منالا من الصخرة، وعطف عليه {أَوْ فِي الْأَرْضِ} وإنما الصخرة جزء من الأرض لقصد تعميم الأمكنة الأرضية فإن الظرفية تصدق بهما، أي ذلك كله سواء في جانب علم الله وقدرته، كأنه قال: فتك في صخرة أو حيث كانت من العالم العلوي والعالم السفلي وهو معنى قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
والإتيان كناية عن التمكن منها، وهو أيضا كناية رمزية عن العلم بها لأن الإتيان بأدق الأجسام من أقصى الأمكنة وأعمقها وأصلبها لا يكون إلا عن علم بكونها في ذلك المكان وعلم بوسائل استخراجها منه.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} يجوز أن تكون من كلام لقمان فهي كالمقصد من المقدمة أو كالنتيجة من الدليل، ولذلك فصلت ولم تعطف لأن النتيجة كبدل الاشتمال يشتمل عليها القياس ولذلك جيء بالنتيجة كلية بعد الاستدلال بجزئيه. وإنما لم نجعلها تعليلا لأن مقام تعليم لقمان ابنه يقتضي أن الابن جاهل بهذه الحقائق، وشرط التعليل أن يكون مسلما معلوما قبل العلم بالمعلل ليصح الاستدلال به.
ويجوز أن تكون معترضة بين كلام لقمان تعليما من الله للمسلمين.
واللطيف: من يعلم دقائق الأشياء ويسلك في إيصالها إلى من تصلح به مسلك الرفق، فهو وصف مؤذن بالعلم والقدرة الكاملين، أي يعلم ويقدر وينفذ قدرته، وتقدم في قوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} في الأنعام [103]. ففي تعقيب {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} بوصفه بـ"اللطيف" إيماء إلى أن التمكن منها وامتلاكها بكيفية حقيقة تناسب قلق الصخرة واستخراج الخردلة منها مع سلامتها وسلامة ما اتصل بهما من اختلال نظام صنعه. وهنا قد استوفى أصول الاعتقاد الصحيح.
وجلمة {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] يجوز أن تكون من كلام لقمان وأن تكون متعرضة من كلام الله تعالى.
[17] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
(21/108)

انتقل من تعليمه أصول العقيدة إلى تعليمه أصول الأعمال الصالحة فابتدأها بإقامة الصلاة، والصلاة التوجه إلى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء في أوقات معينة في الشريعة التي يدين بها لقمان، والصلاة عماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح. وإقامة الصلاة إدامتها والمحافظة على أدائها في أوقاتها. وتقدم في أول سورة البقرة. وشمل الأمر بالمعروف الإتيان بالأعمال الصالحة كلها على وجه الإجمال ليتطلب بيانه في تضاعيف وصايا أبيه كما شمل النهي عن المنكر اجتناب الأعمال السيئة كذلك. والأمر بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقتضي إتيان الأمر وانتهاءه في نفسه لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناس ونهيه إياهم. فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخير وبثه في الناس وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه. ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يجران للقائم بهما معاداة من بعض الناس أو أذى من بعض فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شك أن يتركهما. ولما كانت فائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر العظيم عد الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها ولم يلتفت إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر.
والصبر: هو تحمل ما يحل بالمرء مما يؤلم أو يحزن. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في سورة البقرة [45].
وجملة {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} موقعها كموقع جملة {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى المذكور من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصاب. والتأكيد للاهتمام.
والعزم مصدر بمعنى: الجزم والإلزام. والعزيمة: الإرادة التي لا تردد فيها. و {عَزْمِ} مصدر بمعنى المفعول، أي من معزوم الأمور، أي التي عزمها الله وأوجبها.
[18] {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
(21/109)

فَخُورٍ}.
انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعد نفسه كواحد منهم.
وقرأ الجمهور {وَلا تُصاعِرْ} . وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب {وَلا تُصَعِّرْ} . يقال: صاعر وصعر، إذا أمال عنقه إلى جانب ليعرض عن جانب آخر، وهو مشتق من الصغر بالتحريك لداء يصيب البعير فيلوي منه عنقه فكأنه صيغ له صيغة تكلف بمعنى تكلف إظهار الصعر وهو تمثيل للاحتقار لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقر المستخف في غالب الأحوال. قال عمرو بن حني التغلبي يخاطب بعض ملوكهم:
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوم
والمعنى: لا تحتقر الناس فالنهي عن الإعراض عنهم احتقارا لهم لا عن خصوص مصاعرة الخد فيشمل الاحتقار بالقول والشتم وغير ذلك فهو قريب من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إلا أن هذا تمثيل كنائي والآخر كناية لا تمثيل فيها.
وكذلك قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} تمثيل كنائي عن النهي عن التكبر والتفاخر لا عن خصوص المشي في حال المرح فيشمل الفخر عليهم بالكلام وغيره.
والمرح: فرط النشاط من فرح وازدهاء، ويظهر ذلك في المشي تبخترا واختيالا فلذلك يسمى ذلك المشي مرحا كما في الآية، فانتصابه على الصفة لمفعول مطلق، أي مشيا مرحا، وتقدم في سورة الإسراء [37]. وموقع قوله: {فِي الْأَرْضِ} بعد {لا تَمْشِ} مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويهم وضعيفهم، ففي ذلك موعظة للماشي مرحا أنه مساو لسائر الناس.
وموقع {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} موقع {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] كما تقدم. والمختال: اسم فاعل من اختال بوزن الافتعال من فعل خال إذا كان ذا خيلاء فهو خائل. والخيلاء: الكبر والازدهار، فصيغة الافتعال فيه للمبالغة في الوصف فوزن المختال مختيل فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} مقابل قوله: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} ، وقوله: {فَخُورٍ} مقابل قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} .
والفخور: شديد الفخر. وتقدم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} .
(21/110)

في سورة النساء [36].
ومعنى {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أن الله لا يرضى عن أحد من المختالين الفخورين، ولا يخطر ببال أهل الاستعمال أن يكون مفادة أن الله لا يحب مجموع المختالين الفخورين إذا اجتمعوا بناء على ما ذكره عبد القاهر من أن {كُلَّ} إذا وقع في حيز النفي مؤخرا عن أداته ينصب النفي على الشمول، فإن ذلك إنما هو في {كُلَّ} التي يراد منها تأكيد الإحاطة لا في {كُلَّ} التي يراد منها الأفراد، والتعويل في ذلك على القرائن. على أنا نرى ما ذكره الشيخ أمر أغلبي غير مطرد في استعمال أهل اللسان ولذلك نرى صحة الرفع والنصب في لفظ "كل" في قول أبي النجم العجلي:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
وقد بينت ذلك في تعليقاتي على دلائل الإعجاز.
وموقع جملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} يجوز فيه ما مضى في جملة {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، وجملة {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
[19] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
بعد أن بين له آداب حسن المعاملة مع الناس قفاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.
والقصد: الوسط العدل بين طرفين، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال: قصد في مشيه. فمعنى {اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} ارتكب القصد.
والغض: نقص قوة استعمال الشيء. يقال: غض بصره، إذا خفض نظره فلم يحدق. وتقدم قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} في سورة النور [30]. فغض الصوت: جعله دون الجهر.
وجيء بـ {مِنْ} الدالة على التبعيض لإفادة أنه بغض بعضه، أي بعض جهره، أي ينقص من جهورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار.
وجملة {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيها بليغا، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات. ورفع الصوت في
(21/111)

الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة.
و {أَنْكَرَ} : اسم تفضيل في كون الصوت منكورا، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغير شاذ، ومنه قولهم في المثل "أشغل من ذات النحيين" أي أشد مشغولية من المرأة التي أريدت في هذا المثل.
وإنما جمع {الْحَمِيرِ} في نظم القرآن مع أن {صَوْتُ} مفردا ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعه. ولذلك يقال: إن لام الجنس إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية. وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] هي: حميد، عظيم، المصير، خبير، الأمور، فخور، الحمير، وفواصل القرآن تعتمد كثيرا على الحركات والمدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد. وهذا وفاء بما وعدت به عند الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} من ذكر ما انتهي إليه تتبعي لما أثر من حكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في "تفسيره" منها ثمانيا وعشرين حكمة وهي:
قوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوي الله تعالى، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا.
وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية.
وقوله: ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع.
وقوله: يا بني إياك والدين فإنه دل النهار وهم الليل.
وقوله: يا بني ارج الله عز وجل رجاء لا يجريك على معصيته تعالى، وخف الله سبحانه خوفا لا يؤسك من رحمته تعالى شأنه.
وقوله: من كذب ذهب ماء وجهه، ومن ساء خلقه كثر غمه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم.
(21/112)

وقوله: يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمر من الفقر.
يا بني لا ترسل رسوله جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك.
يا بني إياك والكذب فإنه شهي كالحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه.
يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا.
يا بني لا تأكل شبعا على شبع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله.
يا بني لا تكن حلوا فتبلع ولا تكن مرا فتلفظ.
وقوله لابنه: لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء.
وقوله: لا خير لك في أن تتعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.
وقوله: يا بني إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره.
وقوله: لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.
وقوله: يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بد لك منه.
يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة.
وقوله: يا بني امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك.
وأنا أقفي عليها ما لم يذكره الآلوسي. فمن ذلك ما في "الموطأ" فيما جاء في طلب العلم من كتاب "الجامع" : مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة
(21/113)

بوابل السماء. وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب "الجامع" أنه بلغه أنه قيل للقمان ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل فقال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.
وفي "جامع المستخرجة" للعتبي قال مالك: بلغني أن لقمان قال لابنه: يا بني ليكن أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأة صالحة. وفي "أحكام القرآن" لابن العربي عن مالك: أن لقمان قال لابنه: يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت واستقبلت الآخرة، وإن دارا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها. وقال: ليس غني كصحة، ولا نعمة كطيب نفس. وقال: يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبك معهم، وقال: يا بني جالس العلماء وماشهم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم. وفي "الكشاف" : أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وأن مولاه أمره بذبح شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب، ثم أمره بذبح أخرى وأن ألق منها أخبث مضغتين، فألقى اللسان والقلب؛ فسأله عن ذلك، فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبت ما فيها إذا خبثا.
ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عماذا يصنع فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها داود لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله. وفي "تفسير ابن عطية": قيل لقمان: أي الناس شر? فقال: الذي لا يبالي أن يراه الناس سيئا أو مسيئا.
وفي "تفسير القرطبي" : كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى. فقيل له. فقال: ألا أكتفي إذا كفيت. وفيه: إن الحاكم بأشد المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إن يصب فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا. ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصب الآخرة. وفي "تفسير البيضاوي" : أن داود سأل لقمان: كيف أصبحت? فقال: أصبحت في يدي غيري. وفي "درة التنزيل" المنسوب لفخر الدين الرازي: قال لقمان لابنه: إن الله رضيني لك فلم يوصني بك ولم يرضك لي فأوصاك بي. وفي "الشفاء" لعياض: قال لقمان لابنه: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.
(21/114)

وفي كتاب "آداب النكاح" لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي1: أن من وصية لقمان: يا بني إنما مثل المرأة الصالحة كمثل الدهن في الرأس يلين العروق ويحسن الشعر، ومثلها كمثل التاج على رأس الملك، ومثلها كمثل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته. ومثل المرأة السوء كمثل السيل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه: إذا تكلمت أسمعت، وإذا مشت أسرعت، وإذا قعدت رفعت، وإذا غضبت أسمعت. وكل داء يبرأ إلا داء امرأة السوء.
يا بني لأن تساكن الأسد والأسود2 خير من أن تساكنها: تبكي وهي الظالمة، وتحكم وهي الجائرة، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها.
وفي "مجمع البيان" للطبرسي: يا بني سافر بسيفك وخفك وعمامتك وخبائك وسقائك وخيوطك ومخرزك، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقا إلا في معصية الله عز وجل. يا بني إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسم في وجوههم وكن كريما على زادك بينهم، فإذا دعوك فأجبهم وإذا استعانوا بك فأعنهم، واستعمل طول الصمت وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من دابة أو ماء أو زاد، وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإن من لم يمحض النصيحة من استشاره سلبه الله رأيه، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم، واسمع لمن هو أكبر منك سنا. وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئا فقل نعم ولا تقل "لا" فإن "لا" عي ولؤم، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا، وإذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيركم. واحذروا الشخصين أيضا إلا أن تروا ما لا أرى لأن العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلها واسترح منها فإنها دين، وصل في جماعة ولو على رأس زج. وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها
ـــــــ
1 بالمكتبة الأحمدية عدد 2128 وطبع في فاس سنة 1317.
2 يريد ذَكَر الحيّات.
(21/115)

لونا وألينها تربة وأكثرها عشبا. وإذا نزلت فصل ركعتين قبل أن تجلس، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب عن الأرض. وإذا ارتحلت فصل ركعتين ثم ودع الأرض التي حللت بها وسلم على أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة، وإن استطعت أن لا تأكل طعاما حتى تبتدئ فتتصدق منه فافعل. وعليك بقراءة كتاب الله -لعله يعني الزبور- ما دمت راكبا، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا، وعليك بالدعاء ما دمت خاليا. وإياك والسير في أول الليل إلى آخره. وإياك ورفع الصوت في مسيرك. فقد استتقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة.
[20، 21] {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِير وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}.
رجوع إلى تعداد دلائل الوحدانية وما صحب ذلك من منة على الخلق، فالكلام استئناف ابتدائي عن الكلام السابق ورجوع إلى ما سلف في أول السورة في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [لقمان: 10] فإنه بعد الاستدلال بخلق السماوات والأرض والحيوان والأمطار عاد هنا الاستدلال والامتنان بأن سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض. وقد مضى الكلام على هذا التسخير في تفسير قوله تعالى: {اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآيات من سورة إبراهيم [32]، وكذلك في سورة النحل [3].
ومعنى {سَخَّرَ لَكُمْ} لأجلكم لأن من جملة ذلك التسخير ما هو منافع لنا من الأمطار والرياح ونور الشمس والقمر ومواقيت البروج والمنازل والاتجاه بها. والخطاب في {أَلَمْ تَرَوْا} يجوز أن يكون لجميع الناس مؤمنهم ومشركهم لأنه امتنان، ويجوز أن يكون لخصوص المشركين باعتبار أنه استدلال.
والاستفهام في {أَلَمْ تَرَوْا} تقرير أو إنكار لعدم الرؤية بتنزيلهم منزلة من لم يروا آثار ذلك التسخير لعدم انتفاعهم بها في إثبات الوحدانية. والرؤية بصرية. ورؤية التسخير رؤية آثاره ودلائله. ويجوز أن تكون الرؤية علمية كذلك، والخطاب للمشركين كما في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} .
(21/116)

وإسباغ النعم: إكثارها. وأصل الإسباغ: جعل ما يلبس سابغا، أي وافيا في الستر. ومنه قولهم: درع سابغة. ثم استعير للإكثار لأن الشيء السابغ كثير فيه ما يتخذ منه من سرد أو شقق أثواب، ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقيى فقيل: سوابغ النعم.
والنعمة: المنفعة التي يقصد بها فاعلها الإحسان إلى غيره.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر {نِعَمَهُ} بصيغة جمع نعمة مضاف إلى ضمير الجلالة، وفي الإضافة إلى ضمير الله تنويه بهذه النعم. وقرأ الباقون {نِعَمَهُ} بصيغة المفرد، ولما كان المراد الجنس استوى فيه الواحد والجمع.
والتنكير فيها للتعظيم فاستوى القراءتان في إفادة التنويه بما أسبغ الله عليهم. وانتصب {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} على الحال على قراءة نافع ومن معه، وعلى الصفة على قراءة البقية.
والظاهرة: الواضحة. والباطنة: الخفية وما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلا.
وأصل الباطنة المستقرة في باطن الشيء أي داخله، قال تعالى {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد: 13] فكم في بدن الإنسان وأحواله من نعم يعلمها الناس أو لا يعلمها بعضهم، أو لا يعلمها إلا العلماء، أو لا يعلمها أهل عصر ثم تنكشف لمن بعدهم، وكلا النوعين أصناف دينية ودنيوية.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِير}
الواو في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ} واو الحال. والمعنى: قد رأيتم أن الله سخر لكم ما في السماوات وأنعم عليكم نعما ضافية في حال أن بعضكم يجادل في وحدانية الله ويتعامى عن دلائل وجدانيته. وجملة الحال هنا خبر مستعمل في التعجيب من حال هذا الفريق. ولك أن تجعل الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} وبين جملة {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [لقمان: 25].
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} من الإظهار في مقام الإضمار كأنه قيل: ومنكم، و {مِنَ} تبعيضية. والمراد بهذا الفريق: هم المتصدون لمحاجة النبيء صلى الله عليه وسلم والتمويه على قومهم مثل النضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وعبد الله بن الزبعري.
(21/117)

وشمل قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} مراتب اكتساب العلم وهي إما: الاجتهاد والاكتساب، أو التلقي من العالم، أو مطالعة الكتب الصائبة. وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحج [8].
وجملة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} الخ عطف على صلة {مِنْ} ، أي من حالهم هذا وذاك، وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة [170].
والضمير المنصوب في قوله: {يَدْعُوهُمْ} عائد إلى الآباء، أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو الآباء إلى العذاب فهم يتبعونهم إلى العذاب ولا يهتدون. و {لَوْ} وصلية، والواو معه للحال.
والاستفهام تعجيبي من فظاعة ضلالهم وعماهم بحيث يتبعون من يدعوهم إلى النار، وهذا ذم لهم. وهو وزان قوله في آية البقرة [170]: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} . والدعاء إلى عذاب السعير: الدعاء إلى أسبابه. والسعير تقدم في قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} في سورة الإسراء [97].
[22] {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
هذا مقابل قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 20] إلى قوله: {يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]، فأولئك الذين اتبعوا ما وجدوا آباءهم عليه من الشرك على غير بصيرة فوقعوا في العذاب، وهؤلاء الذين لم يتمسكوا بدين آباءهم وأسلموا لله لما دعاهم إلى الإسلام فلم يصدهم عن اتباع الحق إلف ولا تقديس آباء، فأولئك تعلقوا بالأوهام واستمسكوا بها لإرضاء أهوائهم، وهؤلاء استمسكوا بالحق إرضاء للدليل وأولئك أرضوا الشيطان وهؤلاء اتبعوا رضى الله.
وإسلام الوجه إلى الله تمثيل لإفراده تعالى بالعبادة كأنه لا يقبل بوجهه على غير الله، وقد تقدم في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} في سورة البقرة [112]، وقوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في سورة آل عمران [20].
وتعدية فعل {يُسْلِمْ} بحرف {إِلَى} هنا دون اللام كما في آيتي سورة البقرة [112] وسورة آل عمران [20] عند الزمخشري مجاز في الفعل بتشبيه نفس الإنسان بالمتاع الذي
(21/118)

يدفعه صاحبه إلى آخر ويكله إليه. وحقيقته أن يعدى بالملام، أي وجهه وهو ذاته سالما لله، أي خالصا له كما في قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في سورة آل عمران [20].
والإحسان: العمل الصالح والإخلاص في العبادة. وفي الحديث: "الإحسان أن تعبد الله كأنه تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . والمعنى: ومن يسلم إسلاما لا نفاق فيه ولا شك فقد أخذ بما يعتصم به من الهوي أو التزلزل.
وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} مصي الكلام على نظيره عند قوله تعالى: {يِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} في سورة البقرة [25]، وهو ثناء على المسلمين. وتذييل هذا بقوله: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} إيماء إلى وعدهم بلقاء الكرامة عند الله في آخر أمرهم وهو الحياة الآخرة.
والتعريف في {الْأُمُورِ} للاستغراق، وهو تعميم يراد به أن أمور المسلمين التي هي من مشمولات عموم الأمور صائرة إلى الله وموكولة إليه فجزاؤهم بالخير مناسب لعظمة الله.
والعاقبة: الحالة الخاتمة والنهاية. و {الْأُمُورِ} : جمع أمر وهو الشأن.
وتقديم {إِلَى اللَّهِ} للاهتمام والتنبيه إلى أن الراجع إليه يلاقي جزاءه وافيا.
[23] {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
لما خلا ذم الذين كفروا عن الوعيد وانتقل منه إلى مدح المسلمين ووعدهم عطف عنان الكلام إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بتهوين كفرهم عليه تسلية له وتعريضا بقلة العبء بهم لأن مرجعهم إلى الله فيريهم الجزاء المناسب لكفرهم، فهو تعريض لهم بالوعيد.
وأسند النهي إلى كفرهم عن أن يكون محزنا للرسول صلى الله عليه وسلم مجازا عقليا في نهي الرسول عليه الصلاة والسلام عن مداومة الفكر بالحزن لأجل كفرهم لأنه إذا قلع ذلك من نفسه انتفى إحزان كفرهم إياه.
وقرأ نافع {يُحْزُنْكَ} -بضم التحتية وكسر الزاي- مضارع أحزنه إذا جعله حزينا. وقرأ البقية {يَحْزُنْكَ} -بفتح التحتية وضم الزاي- مضارع حزنه بذلك المعنى، وهما لغتان: الأولى لغة تميم، والثانية لغة قريش، والأولى أقيس وكلتاهما فصحى ولغة تميم من اللغات التي نزل بها القرآن وهي لغة عليا تميم وهم بنو دارم كما
(21/119)

تقدم في المقدمة السادسة. وزعم أبو زيد والزمخشري: أن المستفيض أحزن في الماضي ويحزن في المستقبل، يريدان الشائع على ألسنة الناس، والقراءة رواية وسنة. وتقدم في سورة يوسف [13] {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي} وفي سورة الأنعام [33] {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} .
وجملة {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} واقعة موقع التعليل للنهي، وهي أيضا تمهيد لوعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يتولى الانتقام منهم المدلول عليه بقوله: {فَنُنَبِّئُهُمْ} مفرعا على جملة {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} كناية عن المجازاة؛ استعمل الإنباء وأريد لازمه وهو الإظهار كما تقدم آنفا.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لجملة {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} ، فموقع حرف {إِنَّ} هنا مغن عن فاء التسبب كما في قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
و {بِذَاتِ الصُّدُورِ} : هي النوايا وأعراض النفس من نحو الحقد وتدبير المكر والكفر. ومناسبته هنا أن كفر المشركين بعضه إعلان وبعضه إسرار قال تعالى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في سورة الأنفال [43].
[24] {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}
استئناف بياني لأن قوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23] يثير في نفوس السامعين سؤالا عن عدم تعجيل الجزاء إليهم، فبين بأن الله يمهلهم زمنا ثم يوقعهم في عذاب لا يجدون منه منجي. وهذا الاستئناف وقع معترضا بين الجمل المتعاطفة.
والتمتيع: العطاء الموقت فهو إعطاء المتاع، أي الشيء القليل. و {قَلِيلاً} صفة لمصدر مفعول مطلق، أي تمتيعا قليلا، وقلته بالنسبة إلى ما أعد الله للمسلمين أو لقلة مدته في الدنيا بالنسبة إلى مدة الآخرة، وتقدم عند قوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في الأعراف [24].
والاضطرار: الإلجاء، وهو جعل الغير ذا ضرورة، أي لزوم، وتقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} في سورة البقرة [126].
(21/120)

والغليظ: من صفات الأجسام وهو القوي الخشن، وأطلق على الشديد من الأحوال على وجه الاستعارة بجامع الشدة على النفس وعدم الطاقة على احتماله. وتقدم قوله: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} في سورة هود [58] كما أطلق الكثير على القوي.
[25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
عطف على جملة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21] باعتبار أن ما وجدوا عليه آباءهم هو الإشراك مع الله في الإلهية، وإن سألهم سائل: من خلق السماوات والأرض يقولوا خلقهن الله، وذلك تسخيف لعقولهم التي تجمع بين الإقرار لله بالخلق وبين اعتقاد إلهية غيره.
والمراد بالسماوات والأرض: ما يشمل ما فيها من المخلوقات ومن بين ذلك حجارة الأصنام، وتقدم نظيرها في سورة العنكبوت. وعبر هنا بـ {لا يَعْلَمُونَ} وفي سورة العنكبوت [63] بـ {لا يَعْقِلُونَ} تفننا في المخالفة بين القصتين مع اتحاد المعنى.
[26] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
موقع هذه الجملة من التي قبلها موقع النتيجة من الدليل في قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} فلذلك فصلت ولم تعطف لأنها بمنزلة بدل الاستمال من التي قبلها، كما تقدم آنفا في قوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: فإنه لما تقرر إقرارهم لله بخلق السماوات والأرض لزمهم إنتاج أن ما في السماوات والأرض ملك لله ومن جملة ذلك أصنامهم. والتصريح بهذه النتيجة لقصد التهاون بهم في كفرهم بأن الله يملكهم ويملك ما في السماوات والأرض، فهو غني عن عبادتهم محمود من غيرهم.
وضمير {هُوَ} ضمير فصل مفاده اختصاص الغني والحمد بالله تعالى، وهو قصر قلب، أي ليس لآلهتهم المزعومة غني ولا تستحق حمدا. وتقدم الكلام على الغني الحميد عند قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} في أول السورة لقمان [12].
[27] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
(21/121)

تكرر فيما سبق من هذه السورة وصف الله تعالى بإحاطة العلم بجميع الأشياء ظاهرة وخفية فقال فيما حكى من وصية لقمان {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} إلى قوله: {لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] وقال بعد ذلك {فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور} [لقمان: 23] فعقب ذلك بإثبات أن لعلم الله تعالى مظاهر يبلغ بعضها إلى من اصطفاه من رسله بالوحي مما تقتضي الحكمة إبلاغه، وأنه يستأثر بعلم ما اقتضت حكمته عدم إبلاغه، وأنه لو شاء أن يبلغ ما في علمه لما وفت به مخلوقاته الصالحة لتسجيل كلامه بالكناية فضلا على الوفاء بإبلاغ ذلك بواسطة القول. وقد سلك في هذا مسلك التقريب بصرب هذا المثل؛ وقد كان ما قص من أخبار الماضين موطئا لهذا فقد جرت قصة لقمان في هذه السورة كما جرت قصة أهل الكهف وذي القرنين في سورة الكهف [109] فعقبتا بقوله في آخر السورة {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} وهي مشابهة للآية التي في سورة لقمان. فهذا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من الآيات المتفرقة.
ولما في اتصال الآية بما قبلها من الخفاء أخذ أصحاب التأويل من السلف من أصحاب ابن عباس في بيان إيقاع هذه الآية في هذا الموقع. فقيل: سبب نزولها ما ذكره الطبري وابن عطية والواحدي عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطاء بن يسار بروايات متقاربة: أن اليهود سألوا رسول الله أو أغروا قريشا بسؤاله لما سمعوا قول الله تعالى في شأنهم {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85] فقالوا: كيف وأنت تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سألوه: هي في علم الله قليل، ثم أنزل الله {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآيتين أو الآيات الثلاث.
وعن السدي قالت قريش: ما أكثر كلام محمد فنزلت {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية.
وعن قتادة قالت قريش: سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر - أي محمد صلى الله عليه وسلم فلا يقول بعده كلاما -. وفي رواية سنفد هذا الكلام. وهذه يرجع بعضها إلى أن هذه الآية نزلت بالمدينة فيلزم أن يكون وضعها في هذا الموضع في السورة بتوقيف نبوي للمناسبة التي ذكرناها آنفا، وبعضها يرجع إلى أنها مكية فيقتضي أن تكون نزلت في أثناء نزول سورة لقمان على أن توضع عقب الآيات التي نزلت قبلها.
(21/122)

و {كَلِمَاتُ} جمع كلمة بمعنى الكلام كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] أي: الكلام المنبئ عن مراد الله من بعض مخلوقاته مما يخاطب به ملائكته وغيرهم من المخلوقات والعناصر المعدودة للتكون التي يقال لها: كن فتكون، ومن ذلك ما أنزله من الوحي إلى رسله وأنبيائه من أول أزمنة الأنبياء وما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، أي لو فرض إرادة الله أن يكتب كلامه كله صحفا ففرضت الأشجار كلها مقسمة أقلاما، وفرض أن يكون البحر مدادا فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد لنفد البحر ونفدت الأقلام وما نفدت كلمات الله في نفس الأمر.
وأما قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] فالتمام هنالك بمعنى التحقق والنفوذ، وتقدم قوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} في سورة الأنفال [7]. وقد نظمت هذه الآية بإيجاز بديع إذ ابتدئت بحرف {لَوْ} فعلم أن مضمونها أمر مفروض، وأن لـ {لَوْ} استعمالات كما حققه في "مغنى اللبيب" عن عبارة سيبويه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} في سورة الأنفال [23].
و {مِنْ شَجَرَةٍ} بيان لـ {مَا} الموصولة وهو في معنى التمييز فحقه الإفراد، ولذلك لم يقل: من أشجار, والأقلام: جمع قلم وهو العود المشقوق ليرفع به المداد ويكتب به، أي لو تصير كل شجرة أقلاما بمقدار ما فيها من أغصان صالحة لذلك. والأقلام هو الجمع الشائع لقلم فيرد للكثرة والقلة.
و {يَمُدُّهُ} بفتح الياء التحتية وضم الميم، أي: يزيده مدادا. والمداد - بكسر الميم - الحبر الذي يكتب به. يقال: مد الدواة يمدها. فكان قوله: {يَمُدُّهُ} متضمنا فرض أن يكون البحر مدادا ثم يزاد فيه إذا نشف مداده سبعة أبحر، ولو قيل: يمده، بضم الميم من أمد لفات هذا الإيجاز.
والسبعة: تستعمل في الكناية عن كثرة كثيرا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم "والكافر يأكل في سبعة أمعاء" فليس لهذا العدد مفهوم، أي والبحر يمده أبحر كثيرة.
ومعنى {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ما انتهت، أي فكيف تحسب اليهود ما في التوراة هو منتهى كلمات الله، أو كيف يحسب المشركون أن ما نزل من القرآن أوشك أن يكون انتهاء القرآن، فيكون المثل على هذا الوجه الآخر واردا مورد المبالغة في كثرة ما سينزل من القرآن إغاظة للمشركين، فتكون {كَلِمَاتُ اللَّهِ} هي القرآن لأن المشركين لا يعرفون كلمات الله التي لا يحاط بها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تذييل، فهو لعزته لا يغلبه الذين يزعمون عدم الحاجة
(21/123)

إلى القرآن ينتزرون انفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لحكمته لا تنحصر كلماته لأن الحكمة الحق لا نهاية لها.
وقرأ الجمهور برفع {وَالْبَحْرُ} على أن الجملة الاسمية في موضع الحال والواو واو الحال وهي حال من {مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ} ، أي تلك الأشجار كائنة في حال كون البحر مدادا لها، والواو يحصل بها من الربط والاكتفاء عن الضمير لدلالتها على المقارنة. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {وَالْبَحْرُ} بالنصب عطفا على اسم "إن".
[28] {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
استئناف بياني متعلق بقوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23] لأنه كلما ذكر أمر البعث هجس في نفوس المشركين استحالة إعادة الأجسام بعد اضمحلالها فيكثر في القرآن تعقيب ذكر البعث بالإشارة إلى إمكانه وتقريبه. وكانوا أيضا يقولون: إن الله خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة وكيف يحيي جميع الأمم والأجيال التي تضمنته الأرض في القرون الكثيرة، وكان أبي بن خلف وأبو الأسد - أو أبو الأسدين - ونبيه، ومنبه، ابنا الحجاج من بني سهم, يقولون ذلك وربما أسر به بعضهم. وضميرا المخاطبين مراد بهما جميع الخلق فهما بمنزلة الجنس، أي ما خلق جميع الناس أول مرة ولا بعثهم، أي خلقهم ثاني مرة إلا كخلق نفس واحدة لأن خلق نفس واحدة هذا الخلق العجيب دال على تمام قدرة الخالق تعالى فإذا كان كامل القدرة استوى في جانب قدرته القليل والكثير والبدء والإعادة.
وفي قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ} التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد مجابهتهم بالاستدلال المفحم.
وفي قوله: {كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} حذف مضاف دل عليه {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ} . والتقدير: إلا كخلق وبعث نفس واحدة. وذلك إيجاز كقول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
التقدير: على مخافة وعل. والمقصود: إن الخلق الثاني كالخلق الأول في جانب القدرة.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} : إما واقعة موقع التعليل لكمال القدرة على ذلك الخلق العجيب استدلالا بإحاطة علمه تعالى بالأشياء والأسباب وتفاصيلها وجزئياتها ومن
(21/124)

شأن العالم أن يتصرف في المعلومات كما يشاء لأن العجز عن إيجاد بعض ما تتوجه إليه الإرادة يتأتى من خفاء السبب الموصل إلى إيجاده، وإذ قد كان المشركون أو عقلاؤهم يسلمون أن الله يعلم كل شيء جعل تسليمهم ذلك وسيلة إلى إقناعهم بقدرته تعالى على كل شيء، وإما واقعة موقع الاستئناف البياني لما ينشأ عن الإخبار بأن بعثهم كنفس من تعجب فريق ممن أسروا إنكار البعث في نفوسهم الذين أومأ إليهم قوله آنفا: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان: 23]، ولأجل هذا لم يقل: إن الله عليم قدير.
[29] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [29]}
استدلال على ما تضمنته الآية قبلها من كون الخلق الثاني وهو البعث في متناول قدرة الله تعالى بأنه قادر على تغيير أحوال ما هو أعظم حالا من الإنسان، وذلك بتغيير أحوال الأرض وأفقها بين ليل ونهار في كل يوم وليلة تغييرا يشبه طرو الموت على الحياة في دخول الليل في النهار، وطرو الحياة على الموت في دخول النهار على الليل، وبأنه قادر على أعظم من ذلك بما سخره من سير الشمس والقمر.
فهذا الاستدلال على إمكان البعث بقياس التمثيل بإمكان ما هو أعظم منه من شؤون المخلوقات بعد أن استدل عليه بالقياس الكلي الذي اقتضاه قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28] من إحاطة العلم الإلهي بالمعلومات المقتضي إحاطة قدرته بالممكنات لأنها جزئيات المعلومات وفرع عنها. والخطاب لغير معين، والمقصود به المشركون بقرينة {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . والرؤية علمية. والاستفهام لإنكار عدم الرؤية بتنزيل العالمين منزلة غير عالمين لعدم انتفاعهم بعلمهم.
والإيلاج: الإدخال. وهو هنا تمثيل لتعاقب الظلمة والضياء بولوج أحدهما في الآخر كقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37].
وتقدم الكلام على نظيره في قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} أول آل عمران [27]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الآية في سورة الحج [61] مع اختلاف الغرضين.
والابتداء بالليل لأن أمره أعجب كيف تغشى ظلمته تلك الأنوار النهارية، والجمع بين إيلاج الليل وإيلاج النهار لتشخيص تمام القدرة بحيث لا تلازم عملا متماثلا. والكلام على تسخير الشمس والقمر مضى في سورة الأعراف.
(21/125)

وتنوين {كُلٌّ} هو المسمى تنوين العوض عن المضاف إليه، والتقدير: كل من الشمس والقمر يجري إلى أجل.
والجري: المشي السريع؛ استعير لانتقال الشمس في فلكها وانتقال الأرض حول الشمس وانتقال القمر حول الأرض، تشبيها بالمشي السريع لأجل شسوع المسافات التي تقطع في خلال ذلك.
وزيادة قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} للإشارة إلى أن لهذا النظام الشمسي أمدا يعلمه الله فإذا انتهى ذلك الأمد بطل ذلك التحرك والتنقل، وهو الوقت الذي يؤذن بانقراض العالم؛ فهذا تذكير بوقت البعث. فيجوز أن يكون {إِلَى أَجَلٍ} ظرفا لغوا متعلقا بفعل {يَجْرِي} ، أي: ينتهي جريه، أي سيره عند أجل معين عند الله لانتهاء سيرهما. ويجوز أن يكون {إِلَى أَجَلٍ} متعلقا بفعل {سَخَّرَ} أي: جعل نظام تسخير الشمس والقمر منتهيا عند أجل مقدر.
وحرف {إِلَى} على التقديرين للانتهاء. وليست {إِلَى} بمعنى اللام عند صاحب "الكشاف" هنا خلافا لبن مالك وابن هشام، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} في سورة فاطر[13].
و {أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطف على {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ، فهو داخل في الاستفهام الإنكاري بتنزيل العالم منزلة غيره لعدم جريه على موجب العلم، فهم يعلمون أن الله خبير بما يعملون ولا يجرون على ما يقتضيه هذا العلم في شيء من أحوالهم.
[30] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة موجه إلى غير معين، والمقصود به المشركون بقرينة قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} بتاء الخطاب في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. والمشار إليه هو المذكور آنفا وهو الإيلاج والتسخير. وموقع هذه الجملة موقع النتيجة من الدليل فلها حكم بدل الاشتمال ولذلك فصلت ولم تعطف فإنهم معترفون بأن الله هو فاعل ذلك فلزمهم الدليل ونتيجته.
(21/126)

والمعنى: أن إيلاج الليل في النهار وعكسه وتسخير الشمس والقمر مسبب عن انفراد الله تعالى بالإلهية، فلباء للسببية، وهو ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة. وضمير الفصل مفيد للاختصاص، أي: هو الحق لا أصنامكم ولا غيرها مما يدعي إلهية غيره تعالى.
و {الْحَقُّ} : هنا بمعنى الثابت، ويفهم أن المراد حقية ثبوت إلهية بقرينة السياق ولمقابلته بقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} ، والمعنى: لما كان ذلك الصنع البديع مسببا عن انفراد الله بالإلهية كان ذلك أيضا دليلا على انفراد الله بالإلهية للتلازم بين السبب والمسبب. والتعريف في {الْحَقُّ} و {الْبَاطِلُ} تعريف الجنس. وإنما لم يؤت بضمير الفصل في الشق الثاني لأن ما يدعونه من دون الله من أصنامهم يشترك معها في أنه باطل. وذكر ضمير الفصل في نظيره من سورة الحج [73] لاقتضاء المقام ذلك كما تقدم.
والظاهر أنا إذا جعلنا الباء في {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} باء السببية أن يكون قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} عطفا على الخبر وهو مجموع {بِأَنَّ اللَّهَ} . فالتقدير: ذلك أن ما تدعون من دونه الباطل. ويقدر حرف جر مناسب للمعنى حذف قبل {أَنَّ} وهو حرف "على" أي: ذلك دال. وهذا كما قدر حرف "عن" في قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] ولا يكون عطفا على مدخول باء السببية إذ ليس لبطلان آلهتهم أثر في إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر، أو تقدر لام العلة، أي ذلك، لأن ما تدعونه باطل، فلذلك لم يكن لها حظ في إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر باعتراف المشركين. وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} واقع موقع الفذلكة لما تقدم من دلالة إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر لأنه إذا استقر أن ما ذكر دال على أن الله هو الحق بالإلهية، ودال على أن ما يدعونه باطل، ثبت أنه العلي الكبير دون أصنامهم. وقد أجتلب ضمير الفصل هنا للدلالة على الاختصاص وسلب العلو والعظمة عن أصنامهم.
والأحسن أن نجعل الباء للملابسة أو المصاحبة وهي ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة، فإن شأن الباء التي للملابسة أن تكون ظرفا مستقرا بل قال الرضي: إنها لا تكون إلا كذلك، أي أنها لا تتعلق إلا بنحو الخبر أو الحال كما قال:
وما لي بحمد الله لحم ولا دم
أي: حالة كوني ملابسا حمد الله، أي غير ساخط من قضائه، ويقال: أنت بخير النظرين، أي مستقر. فالتقدير: ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير ملابس لحقية إلهية
(21/127)

الله تعالى، ويكون المعطوفان معطوفين على المجرور بالياء، أي ملابس لكون الله إلها حقا، ولكون ما تدعون من دونه باطل الإلهية ولكون الله هو العلي الكبير. والملابسة المفادة بالباء هي ملابسة الدليل للمدلول وبذلك يستقيم النظم بدون تكلف، ويزداد وقوع جملة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} إلى آخرها في موقع النتيجة وضوحا.
وضمير الفصل في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} للاختصاص كما تقدم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26].
و {الْعَلِيُّ} : صفة مشتقة من العلو المعنوي المجازي وهو القدسية والشرف.
و {الْكَبِيرُ} : وصف مشتق من الكبر المجازي وهو عظمة الشأن. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحج [63] مع زيادة ضمير الفصل في قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} .
[31، 32] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [31] وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}
استئناف جاء على سنن الاستئنافين اللذين قبله في قوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 20] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [لقمان: 29]، وجيء بها غير متعاطفة لئلا يتوهم السامع أن العطف على ما تخلل منها، وجاء هذا الاستئناف الثالث دليلا ثالثا على عظيم حكمة الله في نظام هذا العالم وتوفيق البشر للانتفاع بما هيأه الله لانتفاعهم به. فلما أتى الاستئنافان الأولان على دلائل صنع الله في السماوات والأرض جاء في هذا الثالث دليل على بديع صنع الله بخلق البحر وتيسير الانتفاع به في إقامة نظام المجتمع البشري. وتخلص منه إلى اتخاذ فريق من الناس موجبات الشكلا دواعي كفر.
فكان خلق البحر على هذه الصفة العظيمة ميسرا للانتفاع بالأسفار فيه حين لا تغني طرق البر في التنقل غناء فجعله قابلا لحمل المراكب العظيمة، وألهم الإنسان لصنع تلك المراكب على كيفية تحفظها من الغرق في عباب البحر، وعصمهم من توالي الرياح والموج في أسفارهم، وهداهم إلى الحيلة في مصانعتها إذا طرأت حتى تنجلي، ولذلك وصف هذا الجري بملابسة نعمة الله فإن الناس كلما مخرت بهم الفلك في البحر كانوا
(21/128)

ملابسين لنعمة الله عليهم بالسلامة إلا في أحوال نادرة، وقد سميت هذه النعمة أمرا في قوله: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} في سورة الحج [65]، أي: بتقديره ونظام خلقه.
وتقدم تفصيله في قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} في سورة العنكبوت [65]، وفي قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآيات من سورة يونس [22] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} في سورة الحج [65].
ويتعلق {لِيُرِيَكُمْ} بـ {تَجْرِي} أي تجري في البحر جريا، علة خلقه أن يريكم الله بعض آياته، أي: آياته لكم فلم يذكر متعلق الآيات لظهوره من قوله: {لِيُرِيَكُمْ} وجري الفلك في البحر آية من آيات القدرة في بديع الصنع أن خلق ماء البحر بنظام، وخلق الخشب بنظام، وجعل لعقول الناس نظاما فحصل من ذلك كله إمكان سير الفلك فوق عباب البحر. والمعنى: أن جري السفن فيه حكم كثيرة مقصودة من تسخيره، منها أن يكون آية للناس على وجود الصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته. وليس يلزم من لام التعليل انحصار الغرض من المعلل في مدخولها لأن العل جزئية لا كلية.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لها موقع التعليل لجملة {ليُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} . ولها موقع الاستئناف البياني إذ يخطر ببال السامع أن يسأل: كيف لم يهتد المشركون بهذه الآيات؟ فأفيد أن الذي ينتفع بدلالتها على مدلولها هو {كُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ثناء على هذا الفريق صريحا، وتعريضا بالذين لم ينتفعوا بدلالتها. واقتران الجملة بحرف {إِنَّ} لأنه يفيد في مثل هذا المقام معنى التعليل والتنسيب. وجعل ذلك عدة آيات لأن في ذلك دلائل كثيرة، أي الذين لا يفارقهم الوصفان.
والصبار: مبالغة في الموصوف بالصبر، والشكور كذلك، أي: الذين لا يفارقهم الوصفان. وهذان وصفان للمؤمنين الموحين في الصبر للضراء والشكر للسراء إذ يرجون بهم رضى الله تعالى الذي لا يتوكلون إلا عليه في كشف الضر والزيادة من الخير. وقد تخلقوا بذلك بما سمعوا من الترغيب في الوصفين والتحذير من ضديهما قال {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] وقال {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] فهم بين رجاء الثواب وخوف العقاب لأنهم آمنوا بالحياة الخالدة ذات الجزاء وعلموا أن مصيرهم إلى الله الذي أمر ونهى، فصارا لهم خلقا تطبعوا عليه فلم يفارقاهم البتة أو إلا نادرا؛ فأما المشركون فنظرهم فأصر على الحياة الحاضرة فهم أسراء العالم الحسي فإذا أصابهم ضر ضجروا وإذا أصابهم نفع بطروا، فهم أخلياء من الصبر والشكر، فلذلك كان
(21/129)

قوله: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} كناية رمزية عن المؤمنين وتعريضا رمزيا بالمشركين. ووجه إيثار خلقي الصبر والشكر هنا للكناية بهما، من شعب الإيمان، أنهما أنسب بمقام السير في البحر إذ راكب البحر بين خطر وسلامة وهما مظهر الصبر والشكر، كما تقدم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} الآية في سورة يونس [22].
وفي قوله: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} حسن التخلص إلى التفصيل الذي عقبه في قوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} الآية، فعطف على آيات سير الفلك إشارة إلى أن الناس يذكرون الله عند تلك الآيات عند الاضطرار، وغفلتهم عنها في حال السلامة، وهو ما تقدم مثله في قوله في سورة العنكبوت [65] {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وقوله في سورة يونس [22]: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} الآيات.
والغشيان: مستعار للمجيء لأنه يشبه التغطية، وتقدم في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في سورة الأعراف.
والظلل: بضم الظاء وفتح اللام: جمع ظلة بالضم وهي: ما أظل من سحاب.
والفاء في قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} تدل على مقدر كأنه قيل: فلما نجاهم انقسموا فمنهم مقتصد ومنهم غيره كما سيأتي. وجعل ابن مالك الفاء داخلة على جواب {لَمٌا} أي رابطة للجواب ومخالفوه يمنعون اقتران جواب {لَمٌا} بالفاء كما في "مغني اللبيب" .
والمقتصد: الفاعل للقصد وهو التوسط بين طرفين، والمقام دليل على أن المراد الاقتصاد في الكفر لوقوع تذييله بقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} ولقوله في نظيره في سورة العنكبوت [65] {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، وقد يطلق المقصد على الذي يتوسط حاله بين الصلاح وضده. كما قال تعالى {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66].
والجاحد الكفور: هو المفرط في الكفر والجحد. والجحود: الإنكار والنفي. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} في سورة الأنعام [33]. وعلم أن هنالك قسما ثالثا وهو الموقن بالآيات الشاكر للنعمة وأولئك هم المؤمنون قال في سورة فاطر [32] {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وهذا الاقتصار
(21/130)

كقول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
أي: والثلث الآخر من أنفسهم.
والختار: الشديد الختر، والختر: أشد الغدر.
وجملة {وَمَا يَجْحَدُ} إلى آخرها تذييل لأنها تعم كل جاحد سواء من جحد آية سير الفلك وهول البحر ويجحد نعمة الله عليه بالنجاة ومن يجحد غير ذلك من آيات الله ونعمه. والمعنى: ومنهم جاحد بآياتنا. وفي الانتقال من الغيبة إلى التكلم في قوله: {بِآيَاتِنَا} التفات.
والباء في {بِآيَاتِنَا} لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وقول النابعة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا
وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59].
[33] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
إن لم يكن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطابا خاصا بالمشركين فهو عام لجميع الناس كما تقرر في أصول الفقه، فيعم المؤمن والمشرك والمعطل في ذلك الوقت وفي سائر الأزمان إذ الجميع مأمورون بتقوى الله وأن الخطوات الموصلة إلى التقوى متفاوتة على حسب تفاوت بعد السائرين عنها، وقد كان فيما سبق من السورة حظوظ للمؤمنين وحظوظ للمشركين فلا يبعد أن تعقب بما يصلح لكلا الفريقين، وإن كان الخطاب خاصا بالمشركين جريا على ما روي عن ابن عباس أن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب لأهل مكة، فالمراد بالتقوى: الإقلاع عن الشرك.
وموقع هذه الآية بعد ما تقدمها من الآيات موقع مقصد الخطبة بعد مقدماتها إذ كانت المقدمات الماضية قد هيأت النفوس إلى قبول الهداية والتأثر بالموعظة الحسنة، وإن لاصطياد الحكماء فرصا يحرصون على عدم إضاعتها، وأحسن مثلها قول الحريري في
(21/131)

"المقامة الحادية عشرة" : "فلما ألحدوا الميت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رباوة، متخصر بهراوة، فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا أيا أيها الغافلون، وشمروا أيها المقصرون" الخ... فأما القلوب القاسية، والنفوس المتعاضية، فلن تأسوها آسية. ولاعتبار هذا الموقع جعلت الجملة استئنافا لأنها بمنزلة الفذلكة والنتيجة.
والتقوى تبتدئ من الاعتراف بوجود الخالق وحدانيته وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتنتهي إلى اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات في الظاهر والباطن في سائر الأحوال. وتقدم تفصيلها عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في سورة البقرة [2] وتقدم نظير هذا في سورة الحج [32].
وخشية اليوم: الخوف من أهوال ما يقع فيه إذ الزمان لا يخشى لذاته، فانتصب {يَوْماً} على المفعول به. والأمر بخشيته تتضمن وقوعه فهو كناية عن إثبات البعث وذلك حظ المشركين منه الذين لا يؤمنون به حتى صار سمة عليهم قال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21].
وجملة {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} الخ صفة يوم وحذف منها العائد المجرور بـ"في" توسعا بمعاملته معاملة العائد المنصوب كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} في سورة البقرة [48].
وجزى إذا عدي بـ {عَنْ} فهو بمعنى قضى عنه ودفع عنه، ولذلك يقال للمتقاضي: المتجازي.
وجملة {وَلا مَوْلُودٌ} الخ عطف على الصفة و {مَوْلُودٌ} مبتدأ. و {هُوَ} ضمير فصل. و {جَازٍ} خبر المبتدأ.
وذكر الوالد والولد هنا لأنهما أشد محبة وحمية من غيرهما فيعلم أن غيرهما أولى بهذا النفي, قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الآية [عبس: 34، 35].
وابتدئ بـ"الوالد" لأنه أشد شفقة على ابنه فلا يجد له مخلصا من سوء إلا فعله. ووجه اختيار هذه الطريقة في إفادة عموم النفي هنا دون طريقة قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} في سورة البقرة [123], أن هذه الآية نزلت بمكة وأهلها يومئذ خليط من مسلمين وكافرين، وربما كان الأب مسلما والوالد كافرا وربما كان
(21/132)

العكس، وقد يتوهم بعض الكافرين حين تداخلهم الظنون في مصيرهم بعد الموت أنه إذا ظهر صدق وعيد القرآن إياهم فإن من له أب مسلم أو ابن مسلم يدفع عنه هنالك بما يدل به على رب هذا الدين، وقد كان قارا في نفوس العرب التعويل على المولى والنصير تعويلا على أن الحمية والأنفة تدفعهم إلى الدفاع عنهم في ذلك الجمع وإن كانوا من قبل مختلفين لهم لضيق عطن أفهامهم يقيسون الأمور على معتادهم. وهذا أيضا وجه الجمع بين نفي جزاء الوالد عن ولده وبين نفي جزاء الولد عن والده ليشمل الفريقين في الحالتين فلا يتوهم أن أحد الفريقين أرجى في المقصود.
ثم أوثرت جملة {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} بطرق من التوكيد لم تشتمل على مثلها جملة {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} ؛ فإنها نظمت جملة أسمية، ووسط فيها ضمير الفصل، وجعل النفي فيها منصبا إلى الجنس. ونكتة هذا الإيثار مبالغة تحقيق عدم جزء هذا الفريق عن الآخر إذ كان معظم المؤمنين من الأبناء والشباب، وكان آباؤهم وأمهاتهم في الغالب على الشرك مثل أبي قحافة والد أبي بكر، وأبي طالب والد علي، وأم سعد بن أبي وقاص، وأم أسماء بنت أبي بكر، فأريد حسم أطماع آبائهم وما عسى أن يكون من أطماعهم أن ينفعوا آباءهم في الآخرة بشيء. وعبر فيها بـ {مَوْلُودٌ} دون "ولد" لإشعار {مَوْلُودٌ} بالمعنى الاشقاقي دون "ولد" الذي هو اسم بمنزلة الجوامد لقصد التنبيه على أن تلك الصلة الرقيقة لا تخول صاحبها التعرض لنفع أبيه المشرك في الآخرة وفاء له بما تومئ إليه المولودية من تجشم المشقة من تربيته، فلعله يتجشم الإلحاح في الجزاء عنه في الآخرة حسما لطمعه في الجزاء عنه، فهذا تعكيس للترقيق الدنيوي في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15].
وجملة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} علة لجملتي {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً} . ووعد الله: هو البعث، قال تعالى {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 29، 30].
وأكد الخبر ب {إِنَّ} مراعاة المنكري البعث، وإذ قد كانت شبهتهم في إنكاره مشاهدة الناس يموتون ويخلقهم أجيال آخرون ولم يرجع أحد ممن مات منهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] وقالوا: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29].
(21/133)

فرع على هذا التأكيد إبطال شبهتهم بقوله: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} ، أي لا تغرنكم حالة الحياة الدنيا بأن تتوهموا الباطل حقا والضر نفعا، فإسناد التغرير إلى الحياة الدنيا مجاز عقلي لأن الدنيا ظرف الغرور أو شبهته، وفاعل التغرير حقيقة هم الذين يضلونهم بالأقيسة الباطلة فيشبهون عليهم إبطاء الشيء باستحالته فذكرت هنا وسيلة التغرير وشبهته ثم ذكر بعده الفاعل الحقيقي للتغرير وهو الغرور. و {الغرور} - بفتح الغين-: من يكثر منه التغرير، والمراد به الشيطان بوسوسته وما يليه في نفوس دعاة الضلالة من شبه التمويه للباطل في صورة وما يلقيه في نفوس أتباعهم من قبول تغريرهم.
وعطف {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} لأنه أدخل في تحذيرهم ممن يلقون إليهم الشبه أو من أوهام أنفسهم التي تخيل لهم الباطل حقا ليهموا آراءهم. وإذا أريد بالغرور الشيطان أو ما يشمله فذلك أشد في التحذير لما تقرر من عداوة الشيطان للإنسان، كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [لأعراف: 27] وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6]، ففي التحذير شوب من التنفير.
والباء في قوله: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ} هي كالباء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]. وقرر في "الكشاف" في سورة الانفطار معنى الباء بما يقتضي أنها للسببية، وبالضرورة يكون السبب شأنا من شؤون الله يناسب المقام لا ذات الله تعالى. والذي يناسب عنا أن يكون النهي عن الاغترار بما يسوله الغرور للمشركين كنوهم أن الأصنام شفعاء لهم عند الله في الدنيا واقتناعهم بأنه إذا ثبت البعث عن احتمال مرجوح عندهم شفعت لهم يومئذ أصنامهم، أو يغرهم بأن الله لو أراد البعث كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لبعث آباءهم وهم ينظرون، أو أن يغرهم بأن الله لو أراد بعث الناس لعجل لهم ذلك وهو ما حكى الله عنهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] فذلك كله غرور لهم مسبب يشؤون الله تعالى ففي هذا ما يوضح معنى الباء في قوله: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . وقد جاء مثله في سورة الحديد [14]. وهذا الاستعمال في تعدية فعل الغرور بالباء قريب من تعديته بـ"من" الابتدائية في قول امرئ القيس:
أغرك مني أن حبك قاتلي
أي: لا يغرنك من معاملتي معك أن حبك قاتلي.
[34] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي
(21/134)

نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [34]} كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارة على أنه غير واقع، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 17، 18], فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله.
فجملة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} مستأنفة استئنافا بيانيا لوقوعها جوابا عن سؤال مقدر في نفوس الناس. والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليما للأمة. وقال الواحدي والبغوي: إن رجلا من محارب حصفة من أهل البادية سماه في "الكشاف" الحارث بن عمرو وقع في "تفسير القرطبي" وفي "أسباب النزول" للواحدي تسميته الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة? وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب? وتركت امرأتي حبلى فما تلد? وماذا اكسب غدا? وبأي أرض أموت؟، فنزلت هذه الآية، ولا يدري سند هذا. ونسب إلى عكرمة ومقاتل، ولو صح لم يكن منافيا لاعتبار هذه الجملة استئنافا بيانيا فإنه مقتضى السياق.
وقد أفاد التأكيد بحرف {إِنَّ} تحقيق علم الله تعالى بوقت الساعة وذلك يتضمن تأكيد وقوعها. وفي كلمة {عِنْدَهُ} إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم لأن العندية شأنها الاستئثار. وتقديم {عِنْدَ} وهو ظرف مسند على المسند إليه يفيد التخصص بالقرينة الدالة على أنه ليس مراد به مجرد التقوي.
وجملة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} عطف على جملة الخبر. والتقدير: وإن الله ينزل الغيث، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث. والمقصود أيضا عنده علم وقت نزول الغيث وليس المقصود مجرد الإخبار بأنه ينزل الغيث لأن ذلك ليس مما ينكرونه ولكن نظمت الجملة بأسلوب الفعل المضارع ليحصل مع الدلالة على الاستئثار بالعلم به الامتنان بذلك المعلوم الذي هو نعمة.
وفي اختيار الفعل المضارع إفادة أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض. ولا التفات إلى من قدروا: {يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ، بتقدير "أن" المصدرية على طريقة قول طرفة:
(21/135)

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
للبون بين المقامين وتفاوت الدرجتين في البلاغة. وإذ قد جاء هذا نسقا في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلا خبرا عن مسند إليه مقدم مفيدا للاختصاص بالقرينة؛ فالمعنى: وينفرد بعلم وقت نزول الغيث من قرب وبعد وضبط وقت.
وعطف عليه {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي: ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة ثم من كونه ذكرا أو أنثى وإبان وضعه بالتدقيق. وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال. والمعنى: ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس لأنه عطف على ما قصد منه الحصر فكان المسند الفعلي المتأخر عن المسند إليه مفيدا للاختصاص بالقرينة كما قلنا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} .
وأما قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فقد نسج على منوال آخر من النظم فجعل سداه نفي علم أية نفس بأخص أحوالها وهو حال اكتسابها القريب منها في اليوم الموالي يوم تأملها ونظرها، وكذلك مكان انقضاء حياتها للنداء عليهم بقلة علمهم؛ فإذا كانوا بهذه المثابة في قلة العلم فكيف يتطلعون إلى علم أعظم حوادث هذا العالم وهو حادث فنائه وانقراضه واعتياضه بعالم الخلود. وهذا النفي للدراية بهذين الأمرين عن كل نفس فيه كناية عن إثبات العلم بما تكسب كل نفس والعلم بأي أرض تموت فيها كل نفس إلى الله تعالى، فحصلت إفادة اختصاص الله تعالى بهذين العلمين فكانا في صميمة ما انتظم معهما مما تقدمهما.
وعبر في جانب نفي معرفة الناس بفعل الدراية لأن الدراية علم فيه معالجة للاطلاع على المعلوم ولذلك لا يعبر بالدراية عن علم الله تعالى فلا يقال: الله يدري كذا، فيفيد: انتفاء علم الناس بعد الحرص على علمه. والمعنى: لا يعلم ذلك إلا الله تعالى بقرينة مقابلتهما بقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} . وقد علق فعل الدراية عن العمل في مفعولين بوقوع الاستفهامين بعدهما، أي ما تدري هذا السؤال، أي جوابه. وقد حصل إفادة اختصاص الله تعالى بعلم هذه الأمور الخمسة بأفانين بديعة من أفانين الإيجاز البالغ حد الإعجاز.
ولقبت هذه الخمسة في كلام النبيء صلى الله عليه وسلم بمفاتح الغيب وفسر بها قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، ففي "صحيح البخاري" من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مفاتح الغيب خمس" ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} .
(21/136)

الآية، ومن حديث أبي هريرة: "... في خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة جوابا عن سؤال جبريل متى الساعة?..." .
ومعنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة: أنها هي الأمور المغيبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأن وقوعها فتح لما كان مغلقا وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل: يوم كذا مدخل الربيع؛ فلا تجد مغيبات لا قبل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة فأما في العوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح علم في هذا العالم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} مستأنفة ابتدائية واقعة موقع النتيجة لما تضمنه الكلام السابق من إبطال شبهة المشركين بقوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان: 33] كموقع قوله في قصة [لقمان: 16]: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} عقب قوله: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} الآية [لقمان: 16].
والمعنى: أن الله عليم بمدى وعده خبير بأحوالكم مما جمعه قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} الخ ولذا جمع بين الصفتين: صفة {عَلِيمٌ} وصفة {خَبِيرٌ} لأن الثانية أخص.
(21/137)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدة
أشهر أسماء هذه السورة هوسورة السجدة، وهو أخصر أسمائها، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة. وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في "جامعه" وذلك بإضافة كلمة سورة إلى كلمة السجدة. ولا بد من تقدير كلمة {ألم} محذوفة للاختصار إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة، فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور.
وتسمى أيضا {ألم تَنْزِيلُ} ؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله: "إن النبيء صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ {ألم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1, 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
وتسمى "ألم تنزيل السجدة". وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: "كان النبيء صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر "ألم تنزيل السجدة" و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الانسان: 1]. قال شارحو "صحيح البخاري" ضبط اللام من كلمة {تَنْزِيلُ} بضمة على الحكاية، وأما لفظ "السجدة" في هذا الحديث فقال ابن حجر: هو بالنصب. وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان- يعني أنه بيان للفظ {ألم تَنْزِيلُ} -، وهذا بعيد لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة "سورة" إلى "السجدة"، فالوجه أن يكون لفظ "السجدة" في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع {ألم تَنْزِيلُ} إلى لفظ "السجدة"، وسأبين كيفية هذه الإضافة.
وعنونها البخاري في "صحيحه" : "سورة تنزيل السجدة". ويجب أن يكون {تَنْزِيلُ} مضمونا على حكاية لفظ القرآن، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة بـ {ألم} ، فلذلك فمن سماها سورة السجدة عنى تقدير مضاف أي سورة "ألم السجدة".
ومن سماها تنزيل السجدة فهو على تقدير "ألم تنزيل السجدة" بجعل
(21/138)

{ألم تَنْزِيلُ} اسما مركبا ثم أضافته إلى السجدة، أي ذات السجدة، لزيادة التمييز والإيضاح، وإلا فإن ذكر كلمة {تَنْزِيلُ} كاف في تمييزها عما عداها من ذوات {ألم} ثم اختصر بحذف {ألم} وإبقاء {تَنْزِيلُ} ، واضيف {تَنْزِيلُ} إلى "السجدة" على ما سيأتي في توجيه تسميتها "ألم تنزيل السجدة".
ومن سماها "إلم السجدة" فهو على إضافة "ألم" إلى "السجدة" إضافة على معنى اللام وجعل "ألم" اسما للسورة. ومن سموها "ألم تنزيل السجدة" لم يتعرضوا لضبطها في "شروح صحيح البخاري" ولا في النسخ الصحيحة من "الجامع الصحيح" ، ويتعين أن يكون {ألم} مضافا إلى {تَنْزِيلُ} على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه؛ فتكون كلمة {تَنْزِيلُ} مضمونه على حكاية لفظها القرآني، وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل: عبد الله، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات، وهو استعمال موجود، ومنه قول تأبط شرا:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لبن عم الصدق شمس بن مالك
إذ أضاف مجموع "ابن عم" إلى "الصدق"، ولم يرد إضافة عم إلى الصدق. وكذلك قول أحد الطائيين في "ديوان الحماسة" :
داو ابن السوء بالنأي والغنى ... كفى بالغنى والنأي عنه مداويا
فإنه ما أراد وصف عمه بالسوء ولكنه أراد وصف ابن عمه بالسوء. فأضاف مجموع ابن عم إلى السوء، ومثله قول رجل من كلب في "ديوان الحماسة" :
هنيئا لابن عم السوء أني
مجاوره بني ثعل لبوني
وقال عيينة بن مرداس في "الحماسة" :
فلما عرفت اليأس منه وقد بدت ... أيادي سبا الحاجات للمتذكر
فأضاف مجموع "أيادي سبا" وهو كالمفرد لأنه جرى مجرى المثل إلى الحاجات. وقال بعض رجازهم:
أنا ابن عم الليل وابن خاله
إذا دجى دخلت في سرباله
فأضاف "ابن عم" إلى لفظ "الليل"، وأضاف "ابن خال" إلى ضمير "الليل" على معنى أنا مخالط الليل، ولا يريد إضافة عم ولا خال إلى الليل. ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيات، فالمضاف إلى "الرقيات" هو مجموع المركب إما "عبد الله"، أو "ابن قيس"
(21/139)

لا أحد مفرداته. وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول: أعطه خمسة عشره.
وتسمى هذه السورة أيضا سورة المضاجع لوقوع لفظ "المضاجع" في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16].
وفي "تفسير القرطبي" عن "مسند الدرامي" أن خالد بن معدان1 سماها: المنجية. قال: بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفعها الرب فيه وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة اهـ. وقال الطبرسي: تسمى "سورة سجدة لقمان" لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة "حم السجدة"، أي كما سموا سورة "حم السجدة" وهي سورة فصلت "سورة سجدة المؤمن" لوقوعها بعد سورة المؤمنين.
وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} إلى {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 18- 21]. قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة وسيأتي إبطاله. وزاد بعضهم آيتين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إلى {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17] لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف. والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة. نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول. وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين، وعدها البصريون سبعا وعشرين.
من أغراض هذه السورة
أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب. والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما. وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله، وتنظيره بإحياء الأرض، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها. والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم. والثناء على المصدقين
ـــــــ
1 خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبد الله من فقهاء التابعين. توفي سنة ثلاث أو أربع أو ثمان ومائة, روى عن جماعة من الصحابة مرسلا.
(21/140)

بآيات الله ووعدهم، ومقابلة إيمانهم بكفر المشركين، ثم إثبات رسالة رسول عظيم قبل محمد صلى الله عليه وسلم هدى به أمة عظيمة. والتذمير بما حل بالمكذبين السابقين ليكون ذلك عظة للحاضرين، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين. وختم ذلك بانتظار النصر. وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه تحقيرا لهم، ووعده بانتظار نصره عليهم.
ومن مزايا هذه السورة وفضائلها ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد والدرامي عن جابر بن عبد الله قال: "كان النبيء صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
[1] {الم}
تقدم ما في نظائره.
[2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
افتتحت السورة بالتنويه بشأن القرآن لأنه جامع الهدى الذي تضمنته هذه السورة وغيرها ولأن جماع ضلال الضالين هو التكذيب بهذا الكتاب، فالله جعل القرآن هدى للناس وخص العرب بأن شرفهم بجعلهم أول من يتلقى هذا الكتاب، وبأن أنزله بلغتهم، فكان منهم أشد المكذبين بما جاء به، لا جرم أن تكذيب أولئك المكذبين أعرق في الضلالة وأوغل في أفن الرأي. وافتتاح الكلام بالجملة الاسمية لدلالتها على الدوام والثبات.
وجيء بالمسند إليه معرفا بالإضافة لإطالته ليحصل بتطويله ثم تعقيبه بالجملة المعترضة التشويق إلى معرفة الخبر وهو قوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولولا ذلك لقيل: قرآن منزل من رب العالمين أو نحو ذلك. وإنما عدل عن أسلوب قوله: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} في سورة البقرة [1، 2] لأن تلك السورة نازلة بين ظهراني المسلمين ومن يرجى إسلامهم من أهل الكتاب وهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4]؛ وأما هذه السورة فقد جابه الله بها المشركين الذين لا يؤمنون بالإله الواحد ولا يوقنون بالآخرة فهم أصلب عودا، وأشد كفرا وصدودا.
فقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} مبتدأ، وقوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} جملة هي صفة للكتاب أو حال أو هي معترضة. وقوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبر عن المبتدأ و {مِنْ} ابتدائية.
(21/141)

والمعنى: من عنده ووحيه، كما تقول: جاءني كتاب من فلان. ووقعت جملة {لا رَيْبَ فِيهِ} بأسلوب المعلوم المقرر فلم تجعل خبرا ثانيا عن المبتدأ لزيادة التشويق إلى الخبر ليقرر كونه من رب العالمين.
ومعنى {لا رَيْبَ فِيهِ} أنه ليس أهلا لأن يرتاب أحد في تنزيله من رب العالمين لما حف بتنزيله من الدلائل القاطعة بأنه ليس من كلام البشر بسبب إعجاز أقصر سورة منه فضلا عن مجموعه، وما عضده من حال المرسل به من شهرة الصدق والاتسقامة، ومجئ مثله من مثله مع ما هو معلوم من وصف الأمية. فمعنى نفي أن يكون الريب مظروفا في هذا الكتاب أنه لا يشتمل على ما يثير الريب، فالذين ارتابوا بل كذبوا أن يكون من عند الله فهم لا يعدون أن يكونوا متعنتين على علم، أو جهالا يقولون قبل أن يتأملوا وينتظروا، والأولون زعماؤهم والأخيرون دهماؤهم، وقد تقدم ذلك في أول سورة البقرة.
واستحضار الجلالة بطريق الإضافة بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون الاسم العلم وغيره من طرق التعريف لما فيه من الإيماء إلى عموم الشريعة وكون كتابها منزلا للناس كلهم بخلاف ما سبق من الكتب الإلهية، كما قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وفيه إيماء إلى أن من جملة دواعي تكذيبهم به أنه كيف خص الله برسالته بشرا منهم حسدا من عند أنفسهم لأن ربوبية الله للعالمين تنبئ عن أنه لا يسأل عما يفعل وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته.
[3] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} .
جاءت {أَمْ} للإضراب عن الكلام السابق إضراب انتقال، وهي {أَمْ} المنقطعة التي بمعنى بل التي للإضطراب. وحيثما وقعت {أَمْ} فهي مؤذنة باستفهام بالهمزة بعدها الملتزم حذفها بعد {أَمْ} . والاستفهام المقدر بعدها هنا تعجيبي لأنهم قالوا هذا القول الشنيع وعلمه الناس عنهم فلا جرم كانوا أحقاء بالتعجيب من حالهم ومقالهم لأنهم أبدوا به أمرا غريبا يقضي منه العجب لدى العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والنفوس المنصفة، إذ دلائل انتفاء الريب عن كونه من رب العالمين واضحة بله الجزم بأنه مفترى على الله تعالى.
وصيغ الخبر عن قولهم العجيب بصيغة المضارع لاستحضار حالة ذلك القول تحقيقا
(21/142)

للتعجيب منه حتى لا تغفل عن حال قولهم أذهان السامعين كلفظ "تقول" في بيت هذلول العنبري من شعراء الحماسة:
تقول وصكت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
وفي المضارع مع ذلك إيذان بتجدد مقالتهم هذه وأنهم لا يقلعون عنها على الرغم مما جاءهم من البينات ورغم افتضاحهم بالعجز عن معارضته.
والضمير المرفوع في {افْتَرَاهُ} عائد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم من مقام حكاية مقالهم المشتهر بين الناس، والضمير المنصوب عائد إلى {الْكِتَابُ} [السجدة: 2]. وأضرب على قولهم {افْتَرَاهُ} إضراب إبطال بـ {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} لإثبات أن القرآن حق، ومعنى الحق: الصدق، أي فيما اشتمل عليه الذي منه أنه منزل من الله تعالى. وتعريف {الْحَقُّ} تعريف الجنس المفيد تحقيق الجنسية فيه. أي هو حق ذلك الحق المعروفة ماهيته من بين الأجناس والمفارق لجنس الباطل. وفي تعريف المسند بلام الجنس ذريعة إلى اعتبار كمال هذا الجنس في المسند إليه وهو معنى القصر الادعائي للمبالغة نحو: أنت الحبيب وعمرو الفارس.
و {مِنْ رَبِّكَ} في موضع حال من {الْحَقُّ} ، والحق الوارد من قبل الله لا جرم أنه أكمل جنس الحق. وكاف الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم. واستحضرت الذات العلية هنا بعنوان {رَبِّكَ} لأن الكلام جاء ردا على قولهم {افْتَرَاهُ} يعنون النبيء صلى الله عليه وسلم فكان مقام الرد مقتضيا تأييد من ألصقوا به ما هو بريء منه بإثبات أن الكتاب حق من رب من ألصقوا به الافتراء تنويها بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتخلصا إلى تصديقه لأنه إذا كان الكتاب الذي جاء به حقا من عند الله فهو رسول الله حقا.
وقد جاءت هذه الآية على أسلوب بديع الإحكام إذ ثبت أن الكتاب تنزيل من رب جميع الكائنات، وأنه يحق أن لا يرتاب فيه مرتاب، ثم انتقل إلى الإنكار والتعجيب من الذين جزموا بأن الجائي به مغتر على الله، ثم رد عليهم بإثبات أنه الحق الكامل من رب الذي نسبوا إليه افتراءه فلو كان افتراه لقدر الله على إظهار أمره كما قال تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47] ثم جاء بما هو أنكى للمكذبين وأبلغ في تسفيه أحلامهم وأوغل في النداء على إهمالهم النظر في دقائق المعاني، فبين ما فيه تذكرة لهم ببعض المصالح التي جاء لأجلها هذا الكتاب بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ
(21/143)

قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فقد جمعوا من الجهالة ما هو ضغث على إبالة، فإن هذا الكتاب، على أن حقيته مقتضية المنافسة في الانتفاع به ولو لم يلفتوا إلى تقلده وعلى أنهم دعوا إلى الأخذ به وذلك مما يتوجب التأمل في حقيته؛ على ذلك كله فهم كانوا أحوج إلى اتباعه من اليهود والنصارى والمجوس لأن هؤلاء لم تسبق لهم رسالة مرسل فكانوا أبعد عن طرق الهدى بما تعاقب عليهم من القرون دون دعوة رسول فكان ذلك كافيا في حرصهم على التمسك به وشعورهم بمزيد الحاجة إليه رجاء منهم أن يهتدوا، قال تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 155- 157], فمثل هؤلاء المكذبين كمثل قول المعري:
هل تزجرنكم رسالة مرسل ... أم ليس ينفع في أولاك ألوك
والقوم: الجماعة العظيمة الذين يجمعهم أمر هو كالقوام لهم من نسب أو موطن أو غرض تجمعوا بسببه. وأكثر إطلاقه على الجماعة الذين يرجعون في النسب إلى جد اختصوا بالانتساب إليه. وتميزوا بذلك عمن يشاركهم في جد هو أعلى منه، فقريش مثلا قوم اختصوا بالانتساب إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة فتميزوا عمن عداهم من عقب كنانة فيقال: فلان قرشي وفلان كناني ولا يقال لمن هو من أبناء قريش كناني.
ووصف القوم بأنهم {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} قبل النبيء صلى الله عليه وسلم والنبيء حينئذ يدعو أهل مكة ومن حولها إلى الإسلام وربما كانت الدعوة شملت أهل يثرب وكلهم من العرب فظهر أن المراد بالقوم العرب الذين لم يأتهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام فإما أن يكون المراد قريشا خاصة، أو عرب الحجاز أهل مكة والمدينة وقبائل الحجاز، وعرب الحجاز جذمان عدنانيون وقحطانيون؛ فأما العدنانيون فهم أبناء عدنان وهم من ذرية إسماعيل وإنما تقومت قوميتهم في أبناء عدنان: وهم مضر، وربيعة، وأنمار، وإياد. وهؤلاء لم يأتهم رسول منذ تقومت قوميتهم. وأما جدهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فإنه وإن كان رسولا نبيا كما وصفه الله تعالى في سورة مريم فإنما كانت رسالته خاصة بأهله وأصهاره من جرهم ولم يكن مرسلا إلى الذين وجدوا بعده لأن رسالته لم تكن دائمة ولا منتشرة، قال تعالى {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55].
وأما القحطانيون القاطنون بالحجاز مثل الأوس والخزرج وطيء فإنهم قد تغيرت
(21/144)

فرقهم ومواطنهم بعد سيل العرم وانقسموا أقواما جددا ولم يأتهم نذير منذ ذلك الزمن وإن كان المنذرون قد جاءوا أسلافهم مثل هود وصالح وتبع، فذلك كان قبل تقوم قوميتهم الجديدة.
وإما أن يكون المراد العرب كلهم بما يشمل أهل اليمن واليمامة والبحرين وغيرهم ممن شملتهم جزيرة العرب وكلهم لا يعدون أن يرجعوا إلى ذينك الجذمين، وقد كان انقسامهم أقواما ومواطن بعد سيل العرم ولم يأتهم نذير بعد ذلك الانقسام كما تقدم في حال القحطانين من أهل الحجاز. وأما ما ورد من ذكر حنظلة بن صفوان صاحب أهل الرس، وخالد بن سنان صاحب بني عبس فلم يثبت أنهما رسولان واختلف في نبوتهما. وقد روي أن ابنة خالد بن سنان وفدت إلى النبيء صلى الله عليه وسلم وهي عجوز وأنه قال لها: "مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه". وليس لذلك سند صحيح. وأيا ما كان فالعرب كلهم أو الذين شملتهم دعوة الإسلام يومئذ يحق عليهم وصف {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} من وقت تحقق قوميتهم.
والمقصود به: تذكيرهم بأنهم أحوج الأقوام إلى نذير، إذ لم يكونوا على بقية من هدى وأثارة هممهم لاغتباط أهل الكتاب ليتقبلوا الكتاب الذي أنول إليهم ويسبقوا أهل الكتاب إلى اتباعه؛ فيكون للمؤمنين منه السبق في الشرع الأخير كما كان لمن لم يسلم من أهل الكتاب السبق ببعض الاهتداء وممارسة الكتاب السابق. وقد اهتم بعض أهل الأحلام من العرب بتطلب الدين الحق فتهود كثير من عرب اليمن، وتنصرت طيء، وكلب، وتغلب وغيرهم من نصارى العرب، وتتبع الحنيفية نفر مثل قس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت، وكان ذلك تطلبا للكمال ولم يأتهم رسول بذلك.
وهذا التعليل لا يقتضي اقتصار الرسالة الإسلامية على هؤلاء القوم ولا ينافي عموم الرسالة لمن أتاهم نذير، لأن لام العلة لا تقتضي إلا كون ما بعدها باعثا على وقوع الفعل الذي تعلقت به دون انحصار باعث الفعل في تلك العلة، فإن الفعل الواحد قد يكون له بواعث كثيرة، وأفعال الله تعالى منوطة بحكم عديدة، ودلائل عموم الرسالة متواترة من صريح القرآن والسنة ومن عموم الدعوة.
وقيل: أريد بالقوم الذين لم يأتهم نذير من قبل جميع الأمم، وأن المراد بأنهم لم يأتهم نذير أنهم كلهم لم يأتهم نذير بعد أن ضلوا، سواء منهم من ضل في شرعه مثل أهل الكتاب، ومن ضل بالخلو عن شرع كالعرب. وهذا الوجه بعيد عن لفظ "قوم" وعن فعل {أَتَاهُمْ} ومفيت للمقصود من هذا الوصف كما قدمناه. وأما قضية عموم الدعوة المحمدية
(21/145)

فدلائلها كثيرة من غير هذه الآية. "ولعل" مستعارة تمثيلا لإرادة اهتدائهم والحرص على حصوله.
[4] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}
لما كان الركن الأعظم من أركان هدى الكتاب هو إثبات الوحدانية للإله وإبطال الشرك عقب الثناء على الكتاب بإثبات هذا الركن.
وجيء باسم الجلالة مبتدأ لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به قطعا الدابر عقيدة الشريك في الإلهية، وخبر المبتدأ جملة {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} ، ويكون قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} صفة لاسم الجلالة.
وجيء باسم الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر وأنه الانفراد بالربوبية لجميع الخلائق في السماوات والأرض وما بينهما، ومن أولئك المشركون المعنيون بالخبر. والخطاب موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات.
والولي: مشتق من الولاء بمعنى العهد والحلف والقرابة. ومن لوازم حقيقة الولاء النصر والدفاع عن المولى. وأريد بالولي المشارك في الربوبية.
والشفيع: الوسيط في قضاء الحوائج من دفع ضر أو جلب نفع. والمشركون زعموا أن الأصنام آلهة ركاء لله في الإلهية ثم قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ دُونِهِ} ابتدائية في محل الحال من ضمير {لَكُمْ} ، و"دون" بمعنى غير، و {مِنْ} في قوله: { مِنْ وَلِيٍّ} زائدة لتأكيد النفي، أي: لا ولي لكم ولا شفيع لكم غير الله فلا ولاية للأصنام ولا شفاعة لها إبطالا لما زعموه لأصنامهم من الوصفين إبطالا راجعا إلى إبطال الإلهية عنها. وليس المراد أنهم لا نصير لهم ولا شفيع إلا الله لأن الله لا ينصرهم على نفسه ولا يشفع لهم عند نفسه، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
وتقدم تفسير نظيره {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
(21/146)

اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وبيان تأويل {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف [54].
وفرع على هذا الدليل إنكار على عدم تدبرهم في ذلك وإهمالهم النظر بقوله: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} فهو استفهام إنكاري. والتذكر: مشتق من الذكر الذي هو يضم الذال وهو التفكر والنظر بالعقل.
[5] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
جملة {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [السجدة: 4], أي: خلق تلك الخلائق مدبرا أمرها. ويجوز أن تكون الجملة استئنافا، وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} متعلق بـ {يُدَبِّرُ} أو صفة للأمر أو حال منه، و {مِنَ} ابتدائية. والمقصود من حرفي الابتداء والانتهاء شمول تدبير الله تعالى الأمور كلها في العالمين العلوي والسفلي تدبيرا شاملا لها من السماء إلى الأرض، فأفاد حرف الانتهاء شمول التدبير لأمور كل ما في السماوات والأرض وفيما بينهما.
والتدبير: حقيقته التفكير في إصدار فعل متقن أوله وآخره وهو، مشتق من دبر الأمر، أي آخره لأن التدبير النظر في استقامة الفعل ابتداء ونهاية. وهو إذا وصف به الله تعالى كناية عن لازم حقيقته وهو تمام الإتقان، وتقدم شيء من هذا في أول سورة يونس وأول سورة الرعد.
و {الْأَمْرَ} : الشأن للأشياء ونظامها وما به تقومها. والتعريف فيه للجنس وهو مفيد لاستغراق الأمور كلها لا يخرج عن تصرفه شيء منها، فجميع ما نقل عن سلف المفسرين في تفسير {الْأَمْرَ} يرجع إلى بعض هذا العموم.
والعروج: الصعود. وضمير {يَعْرُجُ} عائد على {الْأَمْرَ} ، وتعديته بحرف الانتهاء مفيدة أن تلك الأمور المدبرة تصعد إلى الله تعالى؛ فالعروج هنا مستعار للمصير إلى تصرف الخالق دون شائبة تأثير من غيره ولو في الصورة كما في أحوال الدنيا من تأثير الأسباب. ولما كان الجلال يشبه بالرفعة في مستعمل الكلام شبه المصير إلى ذي الجلال بانتقال الذوات إلى المكان المرتفع وهو المعبر عنه في اللغة بالعروج، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، أي يرفعه إليه.
(21/147)

و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن مرجع الأشياء إلى تصرفه بعد صدورها من لدنه أعظم وأعجب.
وقد أفاد التركيب أن تدبير الأمور من السماء إلى الأرض من وقت خلقهما وخلق ما بينهما يستقر على ما دبر عليه كل بحسب ما يقتضيه حال تدبيره من استقراره، ويزول بعضه ويبقى بعضه ما دامت السماوات والأرض، ثم يجمع ذلك كله فيصير إلى الله مصيرا مناسبا لحقائقه؛ فالذوات تصير مصير الذوات والأعراض والأعمال تصير مصير أمثالها، أي يصير وصفها ووصف أصحابها إلى علم الله وتقدير الجزاء، فذلك المصير هو المعبر عنه بالعروج إلى الله فيكون الحساب على جميع المخلوقات يومئذ.
واليوم من قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} هو اليوم الذي جاء ذكره في آية سورة الحج [47] بقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
ومعنى تقديره بألف سنة أنه تحصل فيه من تصرفات الله في كائنات السماء والأرض ما لو كان من عمل الناس لكان حصول مثله في ألف سنة، فلك أن تقدر ذلك بكثرة التصرفات، أو بقطع المسافات، وقد فرضت في ذلك عدة احتمالات. والمقصود: التنبيه على عظم القدرة وسعة ملكوت الله وتدبيره. ويظهر أن هذا اليوم هو يوم الساعة، أي ساعة اضمحلال العالم الدنيوي، وليس اليوم المذكور هنا هو يوم القيامة المذكور في سورة المعارج قاله ابن عباس: ولم يعين واحدا منهما، وليس من غرض القراء تعيين أحد اليومين ولكن حصول العبرة بأهوالهما.
وقوله: {فِي يَوْمٍ} يتنازعه كل من فعلي {يُدَبِّرُ} و {يَعْرُجُ} ، أي يحصل الأمران في يوم.
و {أَلْفَ} عند العرب منتهى أسماء العدد وما زاد على ذلك من المعدودات يعبر عنه بأعداد أخرى مع عدد الألف كما يقولون خمسة آلاف، ومائة ألف، وألف ألف.
و {أَلْفَ} يجوز أن يستعمل كناية عن الكثرة الشديدة كما يقال: زرتك ألف مرة، وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96]، وهو هنا بتقدير كاف التشبيه أو كلمة نحو، أي كان مقداره كألف سنة أو نحو ألف سنة كما في قوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]. ويجوز أن يكون {أَلْفَ} مستعملا في صريح معناه. وقوله: {مِمَّا تَعُدُّونَ} ، أي: مما تحسبون في أعدادكم، و {مَّا} مصدرية أو موصولية وهو وصف لـ{أَلْفَ سَنَةٍ} . وهذا الوصف لا يقتضي كون اسم {أَلْفَ} مستعملا
(21/148)

في صريح معناه لأنه يجوز أن يكون إيضاحا للتشبيه فهو قريب من ذكر وجه الشبه مع التشبيه، وقد يترجح أن هذا الوصف لما كان في معنى الموصوف صار بمنزلة التأكيد اللفظي لمدلوله فكان رافعا لاحتمال المجاز في العدد.
[6] {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
جيء بالإشارة إلى اسم الجلالة بعدما أجري عليه من أوصاف التصرف بخلق الكائنات وتدبير أمورها للتنبيه على أن المشار إليه باسم الإشارة حقيق بما يرد بعد اسم الإشارة من أجل تلك الصفات المتقدمة كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5]، لا جرم أن المتصرف بذلك الخلق والتدبير عالم بجميع مخلوقاته ومحيط بجميع شؤونها فهو عالم الغيب، أي: ما غاب عن حواس الخلق، وعالم الشهادة، وهو ما يدخل تحت إدراك الحواس، فالمراد بالغيب والشهادة: كل غائب وكل مشهود. والمقصود هو علم الغيب لأنهم لما أنكروا البعث وإحياء الموتى كانت شبهتهم في إحالته أن أجزاء الأجسام تفرقت وتخللت الأرض، ولذلك عقب بقوله بعده {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]. وأما عطف {وَالشَّهَادَةِ} فهو تكميل واحتراس.
ومناسبة وصفه تعالى بـ {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} عقب ما تقدم أنه خلق الخلق بمحض قدرته بدون معين، فالعزة وهي الاستغناء عن الغير ظاهرة، وأنه خلقهم على أحوال فيها لطف بهم فهو رحيم بهم فيما خلقهم إذ جعل أمور حياتهم ملائمة لهم فيها نعيم لهم وجنبهم الآلام فيها. فهذا سبب الجمع بين صفتي {الْعَزِيزُ} و {الرَّحِيمُ} هنا على خلاف الغالب من ذكر الحكيم مع العزيز.
و {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} يجوز كونهما خبرين آخرين عن اسم الإشارة أو وصفين لـ {عَالِمُ الْغَيْبِ} .
[7- 9] {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}
خبر آخر عن اسم الإشارة أو وصف آخر لـ {عَالِمُ الْغَيْبِ} [السجدة: 6], وهو ارتقاء في الاستدلال مشوب بامتنان على الناس أن أحسن خلقهم في جملة إحسان خلق كل شيء
(21/149)

وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر. والمقصود: أنه الذي خلق كل شيء وخاصة الإنسان خلقا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، وأخرج أصله من تراب ثم كون فيه نظام النسل من ماء، فكيف تعجزه إعادة أجزائه.
والإحسان: جعل الشيء حسنا، أي محمودا غير معيب، وذلك بأن يكون وافيا بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي، فصلابة الأرض مثلا للسير عليها، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس، وتوجه لهيب النار إلى فوق لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يمينا وشمالا لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق.
وقوله: {خَلَقَهُ} قرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة لـ {شَيْءٍ} أي كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيرا منها. وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من {كُلَّ شَيْءٍ} بدل اشتمال. وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل.
و {الْأِنْسَانِ} أريد به الجنس، وبدء خلقه هو خلق أصله آدم كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [لأعراف: 11]، أي: خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. ويدل على هذا المعنى هنا قوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ} فإن ذلك بدئ من أول نسل لآدم وحواء، وقد تقدم خلق آدم في سورة البقرة. و {مِنْ} في قوله: {مِنْ طِينٍ} ابتدائية.
والنسل: الأبناء والذرية. سمي نسلا لأنه ينسل، أي: ينفصل من أصله وهو مأخوذ من نسل الصوف والوبر إذا سقط عن جلد الحيوان، وهو من بابي كتب وضرب.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ سُلالَةٍ} ابتدائية. وسميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سلالة كما في الآية لأنها تنفصل عن الرجل، فقوله: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} بيان لـ {سُلالَةٍ} . و {مِنْ} بيانية فالسلالة هي الماء المهين، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس؛ ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكون الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضله، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين، فتكون {مِنْ} في قوله: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} للتبعيض أو للابتداء.
(21/150)

والمهين: الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به. والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يعبأ به ولا يصان.
والتسوية: التقويم، قال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. والضمير المنصوب في {سَوَّاهُ} عائد إلى {نَسْلَهُ} لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف بـ {ثُمَّ} وإن كان آدم قد سوي ونفخ فيه من الروح، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72]. وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك، فالكلام إيجاز.
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصا بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله.
والنفخ: تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} في سورة الحجر [29].
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ} التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجعل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريقة الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثر بالامتنان وأسعد بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} . والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره.
والعدول عن أن يقال: وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} لأن ذلك أعرق في الفصاحة، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلا لفائدتهم ولأجلهم، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف، ولأن كلمة {الْأَفْئِدَةَ} أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعض منها
(21/151)

وأفرد {السَّمْعَ} لأنه مصدر لا يجمع، وجمع {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} باعتبار تعدد الناس. وتقديم السمع على البصر تقدم وجهه عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} في سورة البقرة [7]. وتقديم {السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} على {وَالْأَفْئِدَةَ} هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل.
و {قَلِيلاً} اسم فاعل منتصب على الحال من ضمير {لَكُمُ} ، و {مَا تَشْكُرُونَ} في تأويل مصدر وهو مرتفع على الفاعلية بـ {قَلِيلاً} ، أي: أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة وحالكم قلة الشكر. ثم يجوز أن يكون {قَلِيلاً} مستعملا في حقيقته وهي كون الشيء حاصلا ولكنه غير كثير. ويجوز أن يكون كناية عن العدم كقوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 46]. وعلى الوجهين يحصل التوبيخ لأن النعم المستحقة للشكر وافرة دائمة فالتقصير في شكرها وعدم الشكر سواء.
[10] {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} .
الواو للحال، والحال للتعجيب منهم كيف أحالوا إعادة الخلق وهم يعلمون النشأة الأولى، وليست الإعادة بأعجب من بدء الخلق وخاصة بدء خلق آدم عن عدم، وخلو الجملة الماضوية عن حرف "قد" لا يقدح في كونها حالا على التحقيق.
والاستفهام في {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي} للتعجب والإحالة، أي أظهروا في كلامهم استبعاد البعث بعد فناء الأجساد واختلاطها بالتراب، مغالطة للمؤمنين وترويجا لكفرهم. والضلال: الغياب، ومنه: ضلال الطريق، والضالة: الدابة التي ابتعدت عن أهلها فلم يعرف مكانها. وأرادوا بذلك إذا تفرقت أجزاء أجسادنا في خلال الأرض واختلطت بتراب الأرض. وقيل: الضلال في الأرض: الدخول فيها بناء على أنه يقال: أضل الناس الميت، أي: دفنوه. وأنشدوا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:
فآب مضلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل
وقرأه نافع والكسائي ويعقوب: {إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهمزة واحدة على الإخبار اكتفاء بدخول الاستفهام على أول الجملة ومتعلقها. وقرأ الباقون {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهمزتين أولاهما للاستفهام والثانية تأكيد لهمزة الاستفهام الداخلة على {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي
(21/152)

الْأَرْضِ} . وقرأ ابن عامر بترك الاستفهام في الموضعين على أن الكلام خبر مستعمل في التهكم.
وتأكيد جملة {إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بحرف {إِنَّ} لأنهم حكوا القول الذي تعجبوا منه وهو ما في القرآن من تأكيد تجديد الخلق فحكوه بالمعنى كما في الآية الأخرى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7]، أي: يحقق لكم ذلك.
و {إِذَا} ظرف وهو معمول لما في جملة {إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} من معنى الكون. والخلق: مصدر. و {فِي} للظرفية المجازية ومعناها المصاحبة.
والجديد: المحدث، أي غير خلقنا الذي كنا فيه.
و {بَلْ} من {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} إضراب عن كلامهم، أي ليس إنكارهم البعث للاستبعاد والاستحالة لأن دلائل إمكانه واضحة لكل متأمل ولكن الباعث على إنكارهم إياه هو كفرهم بلقاء الله، أي كفرهم الذي تلقوه عن أئمتهم عن غير دليل، فالمعنى: بل هم قد أيقنوا بانتفاء البعث فهم متعنتون في الكفر مصرون عليه لا تنفعهم الآيات والأدلة. فالكفر المثبت هنا كفر خاص وهو غير الكفر الذي دل عليه قولهم {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} فإنه كفر بلقاء الله لكنهم أظهروه في صورة الاستبعاد تشكيكا للمؤمنين وترويجا لكفرهم.
وتقديم المجرور على {كَافِرُونَ} للرعاية على الفاصلة. والإتيان بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على كفرهم والثبات عليه.
[11] {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
استئناف ابتدائي جار على طريقة حكاية المقاولات لأن جملة {قُلْ} في معنى جواب لقولهم {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]؛ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعيد إعلامهم بأنهم مبعوثون بعد الموت. فالمقصود من الجملة هو قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} إذ هو مناط إنكارهم، وأما أنهم يتوفاهم ملك الموت فذكره لتذكيرهم بالموت وهم لا ينكرون ذلك ولكنهم ألهتهم الحياة الدنيا عن النظر في إمكان البعث والاستعداد له فذكروا به ثم أدمج فيه ذكر ملك الموت لزيادة التخويف من الموت والتعريض بالوعيد من قوله: {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} فإنه موكل بكل ميت بما يناسب معاملته عند
(21/153)

قبض روحه. وفيه إبطال لجهلهم بأن الموت بيد الله تعالى وأنه كما خلقهم يميتهم وكما يميتهم يحييهم، وأن الإماتة والإحياء بإذنه وتسخير ملائكته في الحالين. وذلك إبطال لقوله: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] فأعلمهم الله أنهم لا يخرجون عن قبضة تصرفه طرفة عين لا في حال الحياة ولا في حال الممات. وإذا كان موتهم بفعل ملك الموت الموكل من الله بقبض أرواحهم ظهر أنهم مردودة إليهم أرواحهم متى شاء الله.
والتوفي: الإماتة. وتقدم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} في سورة الأنعام [60]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} في سورة الأنفال [50].
وملك الموت هو الملك الموكل بقبض الأرواح وقد ورد ذكره في القرآن مفردا كما هنا وورد مجموعا في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} في سورة الأنفال [50], وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} في سورة الأنعام [61]، وذلك أن الله جعل ملائكة كثيرين لقبض الأرواح وجعل مبلغ أمر الله بذلك عزرائيل فإسناد التوفي إليه كإسناده إلى الله في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42]، وجعل الملائكة الموكلين بقبض الأرواح أعوانا له وأولئك يسلمون الأرواح إلى عزرائيل فهو يقبضها ويودعها في مقارها التي أعدها الله لها، ولم يرد اسم عزرائيل في القرآن. وقيل: إن ملك الموت في هذه الآية مراد به الجنس فتكون كقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61].
[12] {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}
أردف ذكر إنكارهم البعث بتصوير حال المنكرين أثر البعث وذلك عند حشرهم إلى الحساب، وجيء في تصوير حالهم بطريقة حذف جواب {لَوْ} حذفا يرادفه أن تذهب نفس السامع كل مذهب من تصوير فظاعة حالهم وهول موقفهم بين يدي ربهم، وبتوجيه الخطاب إلى غير معين لإفادة تناهي حالهم في الظهور حتى لا يختص به مخاطب. والمعنى: لو ترى أيها الرائي لرأيت أمرا عظيما.
و {الْمُجْرِمُونَ} هم الذين قالوا {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]، فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد التسجيل عليهم بأنهم في قولهم ذلك مجرمون، أي آتون بجرم وهو جرم تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل الدليل.
(21/154)

والناكس: الذي يجعل أعلى شيء إلى أسفل، يقال: نكس رأسه، إذا طأطأه لأنه كمن جعل أعلى الشيء إلى أسفل. ونكس الرؤوس علامة الذل والندامة، وذلك مما يلاقون من التقريع والإهانة.
والعندية عندية السلطة، أي وهم في حكم ربهم لا يستطيعون محيدا عنه، فشبه ذلك بالكون في مكان مختص بربهم في أنهم لا يفلتون منه.
وجملة {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} إلى آخر مقول قول محذوف دل عليه السياق هو في موضع الحال، أي ناكسوا رؤوسهم يقولون أو قائلين: أبصرنا وسمعنا، وهم يقولون ذلك ندامة وإقرارا بأن ما توعدهم القرآن به حق.
وحذف مفعول {أَبْصَرْنَا} ومفعول {سَمِعْنَا} لدلالة المقام، أي أبصرنا من الدلائل المبصرة ما يصدق ما أخبرنا به -فقد رأوا البعث من القبور ورأوا ما يعامل به المكذبون-، وسمعنا من أقوال الملائكة ما فيه تصديق الوعيد الذي توعدنا به، أي: فعلمنا أن ما دعانا إليه الرسول هو الحق الذي به النجاة من العذاب فأرجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا كما قالوا في موطن آخر {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم: 44].
وقوله: {إِنَّا مُوقِنُونَ} تعليل لتحقيق الوعد بالعمل الصالح بأنهم صاروا موقنين بحقية ما يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فكانت {إِنَّ} مغنية غناء فاء التفريع المفيدة للتعليل، أي ما يمنعنا من تحقيق ما وعدنا به شك ولا تكذيب، إنا أيقنا الآن أن ما دعينا إليه حق. فاسم الفاعل في قوله: {مُوقِنُونَ} واقع زمان الحال كما هو أصله.
[13] {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
اعتراض بين القول المقدر قبل قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12] وبين الجواب عنه بقوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} [السجدة: 14] فالواو التي في صدر الجملة اعتراضية، وهي من قبيل واو الحال.
ومفعول فعل المشيئة محذوف على ما هو الغالب في فعل المشيئة الواقع شرطا استغناء عن المفعول بما يدل عليه جواب الشرط. والمعنى: لو شئنا لجبلنا كل نفس على الانسياق إلى الهدى بدون اختيار كما جبلت العجماوات على ما ألهمت إليه من نظام حياة
(21/155)

أنواعها فلكانت النفوس غير محتاجة إلى النظر في الهدى وضده، ولا إلى دعوة من الله إلى طريق الهدى، ولكن الله لما أراد أن يكل إلى نوع الإنسان تعمير هذا العالم، وأن يجعله عنوانا لعلمه وحكمته، وأن يفضله على جميع الأنواع والأجناس العامرة لهذا العالم؛ اقتضى لتحقيق هذه الحكمة أن يخلق في الإنسان عقلا يدرك به النفع والضر، والكمال والنقص، والصلاح والفساد، والتعمير والتخريب، وتنكشف له بالتدبر عواقب الأعمال المشتبهة والمموهة بحيث يكون له اختيار ما يصدر عنه من أجناس وأنواع الأفعال التي هي في مكنته بإرادة تتوجه إلى الشيء وضده، وخلق فيه من أسباب العمل وآلاته من الجوارح والأعضاء إذا كانت سليمة فكان بذلك مستطيعا لأن يعمل وأن لا يعمل على وفاق ميله واختياره وكسبه. وهذا المعنى هو الذي سماه الأشعري بالكسب وبالاستطاعة وتكفل له بإعانته على ما خلق له من الإدراك يدعوه إلى ما يريده الله منه من الهدى والصلاح في هذا العالم بواسطة رسل من نوعه يبلغون إليه مراد ربهم فطردهم على الصفات الملكية وجعلهم وسائط بينه وبين الناس في إبلاغ مراد ربهم إليهم. ووعده الناس بالجزاء على فعل الخير وفعل الشر بما فيه باعث على الخير ورادع عن الشر.
وقد أراد الله أن يفضل هذا النوع بأن يجعل منه عمارا لعالم الكمال الخالد عالم الروحانيات فجعل لأهل الكمال الديني مراتب سامية متفاوتة في عالم الخلد على تفاوت نفوسهم في ميدان السبق إلى الكمالات، وجعل أضداد هؤلاء عمارا لهوة النقائص فملأ منهم تلك الهوة المسماة جهنم.
فهذا معنى قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} البالغ من الإيجاز مبلغ الإعجاز، إذ حذف معظم ما أريد بحرف الاستدراك الوارد على قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ؛ فإن مقتضى الاستدراك أن يقدر: ولكنا لم نشأ ذلك بل شئنا أن نخلق الناس مختارين بين طريقي الهدى والضلال، ووضعنا لهم دواعي الرجاء والخوف، وأريناهم وسائل النجاة والارتباك بالشرائع قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، أي: الطريقين، وحققنا الأخبار عن الجزاءين بالوعد والوعيد بالجنة وجهنم فلأملأن جهنم بأهل الضلال من الجنة والناس أجمعين، فدخل هذا في قوله [تعالى]: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} بما يشبه دلالة الاقتضاء، وقد أومأ إلى هذا قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الجنة وخلق لها ملأها وخلق النار وخلق لها ملأها" . وإنما اختير الاقتصار في المنطوق به الدال على المحذوف على
(21/156)

شق مصير أهل الضلال لأنه الأنسب بسياق الاعتراض إثر كلام أهل الضلالة في يوم الجزاء، ولأنه أظهر في تعلق مضمون جملة الاعتراض بمضمون اقتراحهم، أي لو كان إرجاعهم إلى الدنيا ليعملوا الصالحات مقتضى لحكمتنا لكنا جبلناهم على الهدى في حياتهم الدنيا فكانوا يأتون الصالحات بالقسر والإلجاء. فالمراد {الْقَوْلُ} ما أوعد الله به أهل الشرك والضلال.
و {الْجِنَّةِ} : الجن وهم شياطين.
وجعل جمهور المفسرين قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى آخره جوابا موجها من قبل الله تعالى إلى المجرمين عن قولهم {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} [السجدة: 12] الخ.
ووجود الواو في أول هذا الكلام ينادي على أنه ليس جوابا لقول المشركين يومئذ فهم أقل من أن يجعلوا أهلا لتلقي هذه الحكمة بل حقهم الإعراض عن جوابهم كما جاء في آية سورة المؤمنين [106- 108] {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} ، ولأنه لا يلاقي سؤالهم لأنهم سألوا الرجوع ليعملوا صالحا ولم يكن كلامهم اعتذارا عن ضلالهم بأن الله لم يؤتهم الهدى في الحياة الدنيا، وإنما هذا بيان من الله ساقه للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين ليحيطوا علما بدقائق الحكمة الربانية.
وعدل عن الإضافة في {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} فلم يقل: حق قولي، لأنه أريد الإشارة إلى قول معهود وهو ما في سورة ص [85]: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي حق القول المعهود. واجتلبت {مِنَ} الابتدائية لتعظيم شأن هذا القول بأنه من الله. وعدل عن ضمير العظمة إلى ضمير النفس لإفادة الانفراد بالتصرف ولأنه الأصل، مع ما في هذا الاختلاف من التفنن.
[14] {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هذا جواب عن قولهم {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12] الذي هو إقرار بصدق ما كانوا يكذبون به، المؤذن به قولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} . فالفاء لتفريع جواب عن إقرارهم إلزاما لهم بموجب إقرارهم، أي فيتفرع على اعترافكم بحقية ما كان الرسول يدعوكم إليه أن يلحقكم عذاب النار.
(21/157)

ومجيء التفريع من المتكلم على ما هو من كلام المخاطب فيه إلزام بالحجة كالفاءات في قوله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34] وقوله: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 79- 82] وقوله: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 48، 49]؛ فهذه خمس فاءات كل فاء منها هي تفريع من المتكلم بها على كلام غيره. وقد تقدم ذلك في العطف بالواو عند قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة [124].
واستعمال الذوق بمعنى مطلق الإحساس مجاز مرسل تقدم عند قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود [95]. ومفعول "ذوقوا" محذوف دل عليه السياق، أي فذوقوا ما أنتم فيه مما دعاكم إلى أن تسألوا الرجوع إلى الدنيا.
والنسيان الأول: الإهمال والإضاعة، وتقدم في قوله تعالى: {فَنَسِيَ} في سورة طه [88].
والباء للسببية، أي بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم. والنسيان في قوله: {نَسِينَاكُمْ} مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة.
واللقاء: حقيقته العثور على ذات، فمنه لقاء الرجل غيره وتجيء منه الملاقاة، ومنه: لقاء المرء ضالة أو نحوها. وقد جاء منه: شيء لقى، أي مطروح. ولقاء اليوم في هذه الآية مجاز في حلول اليوم ووجوده على غير ترقب كأنه عثر عليه.
وإضافة "يوم" إلى ضمير المخاطبين تهكم بهم لأنهم كانوا ينكرونه فلما تحققوه جعل كأنه أشد اختصاصا بهم على طريقة الاستعارة التهكمية لأن اليوم إذا أضيف إلى القوم أو الجماعة إذا كان يوم انتصار لهم على عدوهم قال السموأل:
وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول
ويقولون: أيام بني فلان على بني فلان، أي أيام انتصارهم. وسبب ذلك أن تقدير الإضافة على معنى اللام وهي تفيد الاختصاص المنتزع من الملك، قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال
وقال تعالى {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ: 39]، أي يوم نصر المؤمنين على المشركين في الآخرة نصرا مؤبدا، أي ليس كأيامكم في الدنيا التي هي أيام نصر زائل.
(21/158)

والإشارة بـ {هَذَا} إلى اليوم تهويلا له.
وجملة {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن المجرمين إذا سمعوا ما علموا منه أنهم ملاقو العذاب من قوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} تطلعوا إلى معرفة مدى هذا العذاب المذوق وهل لهم منه مخلص وهل يجابون إلى ما سألوا من الرجعة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من التصديق، فأعلموا بأن الله ممهل شأنهم، أي لا يستجيب لهم وهو كناية عن تركهم فيما أذيقوه. وقد تقدم في سورة طه [126] قوله: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} فشبه بالنسيان إظهارا للعدل في الجزاء وأنه من جنس العمل المجازى عنه. وقد حقق هذا الخبر بمؤكدات وهي حرف التوكيد. وإخراج الكلام في صيغة الماضي على خلاف مقتضى الظاهر من زمن الحال لإفادة تحقق الفعل حتى كأنه مضى ووقع.
وقوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عطف على {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} ، وهو وإن أفاد تأكيد تسليط العذاب عليهم فإن عطفه مراعى فيه ما بين الجملتين من المغايرة بالمتعلقات والقيود مغايرة اقتضت أن تعتبر الجملة الثانية مفيدة فائدة أخرى؛ فالجملة الأولى تضمنت أن من سبب استحقاقهم تلك الإذاقة إهمالهم التدبر في حلول هذا اليوم، والجملة الثانية تضمنت أن ذلك العذاب مستمر وأن سبب استمرار العذاب وعدم تخفيفه أعمالهم الخاطئة وهي أعم من نسيانهم لقاء يومهم ذلك.
[15- 17] {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [15] تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [16] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [17]}
استئناف ناشئ عن قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} الآية [السجدة: 3]، تفرغ المقام له بعد أن أنحى بالتقريع والوعيد للكافرين على كفرهم بلقاء الله، بما أفادت اسمية جملة {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] من أنهم ثابتون على الكفر بلقاء الله دائمون عليه، وهو مما أنذرتهم به آيات القرآن، فالتكذيب بلقاء الله تكذيب بما جاء به القرآن فهم لا يؤمنون، وإنما يؤمن بآيات الله الذين ذكرت أوصافهم هنا.
والمراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} بتشديد الكاف، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامعهم.
(21/159)

ومفاد {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي يؤمن بآيات الله الذين إذا ذكروا بها تذكيرا بما سبق لهم سماعه لم يتريثوا عن إظهار الخضوع لله دون الذين قالوا {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]، وهذا تأييس للنبيء صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، وتعريض بهم بأنهم لا ينفعون المسلمين بإيمانهم ولا يغيظونهم بالتصلب في الكفر.
وأوثرت صيغة المضارع في {إِنَّمَا يُؤْمِنُ} لما تشعر به من أنهم يتجددون في الإيمان ويزدادون يقينا وقتا فوقتا، كما تقدم في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} في سورة البقرة [15]، وإلا فإن المؤمنين قد حصل إيمانهم فيما مضى ففعل المضي آثر بحكاية حالهم في الكلام التداول لولا هذه الخصوصية، ولهذا عرفوا بالموصولية والصلة الدال معناها على أنهم راسخون في الإيمان، فعبر عن إبلاغهم آيات القرآن وتلاوتها على أسماعهم بالتذكير المقتضي أن ما تتضمنه الآيات حقائق مقررة عندهم لا يفادون بها فائدة لم تكن حاصلة في نفوسهم ولكنها تكسبهم تذكيرا {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذريات: 55]. وهذه الصفة التي تضمنتها الصلة هي حالهم التي عرفوا بها لقوة إيمانهم وتميزوا بها عن الذين كفروا، وليست تقتضي أن من لم يسجدوا عند سماع الآيات ولم يسبحوا بحمد ربهم من المؤمنين ليسوا ممن يؤمنون، ولكن هذه حالة أكمل الإيمان وهي حالة المؤمنين مع النبيء صلى الله عليه وسلم يومئذ عرفوا بها، وهذا كما تقول للسائل عن علماء البلد: هم الذين يلبسون عمائم صفتها كذا. جاء في ترجمة مالك بن أنس أنه ما أفتى حتى أجازه سبعون محنكا، أي عالما يجعل شقة من عمامته تحت حنكه وهي لبسة أهل الفقه والحديث. قال مالك رحمه الله: قلت لأمي: أذهب فأكتب العلم، فقلت: تعال فالبس ثياب العلم. فألبستني ثيابا مشمرة ووضعت الويلة على رأسي وعممتني فوقها.
والخرور: الهوي من علو إلى سفل.
والسجود: وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.
وانتصب {سُجَّداً} على الحال المبينة للقصد من {خَرُّوا} ، أي: سجدا لله وشكرا له على ما حباهم به من العلم والإيمان كما دل عليه قرنه بقوله: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} . والباء فيه للملابسة وتقدم في سورة الإسراء [107]: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} .
ودلت الجملة الشرطية على اتصال تعلق حصول الجواب بحصول الشرط وتلازمهما. وجيء في نفي التكبر عنهم بالمسند الفعلي لإفادة اختصاصهم بذلك، أي دون المشركين
(21/160)

الذين كان الكبر خلقهم فهم لا يرضون لأنفسهم بالانقياد للنبيء منهم وقالوا {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21].
وقوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} موضع سجدة من سجدات تلاوة القرآن رجاء أن يكون التالي من أولئك الذين أثنى الله عليهم بأنهم إذا ذكروا بآيات الله سجدوا، فالقارئ يقتدي بهم.
وجملة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} حال من الموصول، أي: الذين إذا ذكروا بها خروا ومن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، أو استئناف. وجيء فيها بالمضارع لإفادة تكرر ذلك وتجدده منهم في أجزاء كثيرة من الأوقات المعدة لاضطجاع وهي الأوقات التي الشأن فيها النوم.
والتجافي: التباعد والمتاركة. والمعنى: أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة، أي: يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله؛ وقد فسره النبيء صلى الله عليه وسلم بصلاة الرجل في جوف الليل، كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي.
و {الْمَضَاجِعِ} : الفرش جمع مضجع، وهو مكان الضجع، أي: الاستلقاء للراحة والنوم. وأل فيه عوض عن المضاف إليه، أي عم مضاجعهم كقوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]. وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام. وقد صرح بهذا المعنى عبد الله بن رواحة بقوله يصف النبيء صلى الله عليه وسلم، وهو سيد أصحاب هذا الشأن:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وجملة {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يجوز أن تكون حالا من ضمير {جُنُوبُهُمْ} والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} .
وانتصب {خَوْفاً وَطَمَعاً} على الحال بتأويل خائفين وطامعين، أي: من غضبه وطمعا في رضاه وثوابه، أي هاتان صفتان لهم. ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله، أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته.
ولما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم. ثم عظم الله
(21/161)

جزاءهم إذ قال {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} , أي: لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم قال النبيء صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فدل على أن المراد بـ {نَفْسٌ} في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ، ومثل الأشجار من زبرجد، والأزهار من ياقوت، وتراب من مسك وعنبر، فكل ذلك قليل في جانب ما أعد لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر فلذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "ولا خطر على قلب بشر" وهذا كقولهم في تعظيم شيء: هذا لا يعلمه إلا الله. قال الشاعر:
فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا ... عشية آناء الديار وشامها
وعبر عن تلك النعم بـ {مَا أُخْفِيَ} لأنها مغيبة لا تدرك إلا في عالم الخلود.
وقرة الأعين: كناية عن المسرة كما تقدم في قوله تعالى: {وَقَرِّي عَيْناً} في سورة مريم [26].
وقرأ الجمهور {أُخْفِيَ} بفتح الياء بصيغة الماضي المبني للمجهول. وقرأ حمزة ويعقوب {أُخْفِيَ} بصيغة المضارع المفتتح بهمزة المتكلم والياء ساكنة، و {جَزَاءً} منصوب على الحال من {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} وقد فسر النبيء صلى الله عليه وسلم أنه جزاء على هذه الأعمال الصالحات في حديث أغر رواه الترمذي عن معاذ بن جبل قال: "قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت" ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} الحديث.
[18- 20] {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [18] أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
(21/162)

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}
فرع بالفاء على ما تقدم من الآيات من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين استفهام بالهمزة مستعمل في إنكار المساواة بين المؤمن والكافر، وهو إنكار بتنزيل السامع منزلة المتعجب من البون بين جزاء الفريقين في ذلك اليوم فكان الإنكار موجها إلى ذلك التعجب في معنى الاستئناف البياني. والكاف للتشبيه في الجزاء.
وجملة {لا يَسْتَوُونَ} عطف بيان للمقصود من الاستفهام.
والفاسق هنا هو: من ليس بمؤمن بقرينة قوله بعده {فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . فالمراد: الفسق عن الإيمان الذي هو الشرك وهو إطلاق كثير في القرآن. ثم أكد كلا الجزاءين بذكر مرادف لمدلوله مع زيادة فائدة، فجملة {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17] إلى آخرها.
وجملة {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} إلى {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14].
و {مَنْ} الموصولة في الموضعين عامة بقرينة التفصيل بالجمع في قوله: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الخ. و {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} . فليست الآية نازلة في معين كما قيل.
و {الْمَأْوَى} : المكان الذي يؤوى إليه، أي يرجع إليه.
والتعريف باللام فيه للعهد، أي مأوى المؤمنين قال تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15]. ولك أن تجعل اللام عوضا عن المضاف إليه، أي مأواهم بقرينة قوله في مقابلة {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} . وإضافة {جَنَّاتُ} إلى {الْمَأْوَى} من إضافة الموصوف إلى الصفة لقصد التخفيف وهي واقعة في الكلام وإن اختلف البصريون والكوفيون في تأويلها خلافا لا طائل تحته، وذلك مثل قولهم: مسجد الجامع، وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} [القصص: 44]، وقولهم: عشاء الآخرة. والمعنى: فلهم الجنات المأوى لهم، أي الموعودون بها.
(21/163)

وانتصب {نُزُلاً} على الحال من {جَنَّاتُ الْمَأْوَى} . والنزل بضمتين مشتق من النزول فيطلق على ما يعد للنزيل من العطاء والقرى قال في "الكشاف" : النزل: عطاء النازل، ثم صار عاما ، أي يطلق على العطاء ولو بدون ضيافة مجازا مرسلا. قلت: ويطلق على محل نزول الضيف ولأجل هذه الإطلاقات يختلف المفسرون في المراد منه في بعض الآيات رعيا لما يناسب سياق الكلام. وفسره الزجاج في هذه الآية ونحوها بالمنزل، وفسره في قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] فقال: يقول أذلك خير في بابا الإنزال التي تمكن معها الإقامة أم نزل أهل النار وقد تقدم في آخر سورة آل عمران [163], والباء في {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} للسببية.
وقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} تقدم نظيره في سورة الحج [22].
ويتجه في هذه الآية أن يقال: لماذا أظهر اسم النار في قوله: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} مع أن اسم النار تقدم في قوله: {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} فكان مقتضى الظاهر الإضمار بأن يقال: وقيل لهم ذوقوا عذابها. وهذا السؤال أورده ابن الحاجب في "أماليه" وأجاب بوجهين: أحدهما أن سياق الآية التهديد وفي إظهار لفظ النار من التخويف ما ليس في الإضمار الثاني: أن الجملة حكاية لما يقال لهم يومئذ فناسب أن يحكى كما قيل لهم وليس فيما يقال لهم تقدم ذكر النار.
[21] {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
إخبار بأن لهم عذابا آخر لا يبلغ مبلغ عذاب النار الموعودين به في الآخرة فتعين أن العذاب الأدنى عذاب الدنيا. والمقصود من هذا: التعريض بتهديدهم لأنهم يسمعون هذا الكلام أو يبلغ إليهم. وهذا إنذار بما لحقهم بعد نزول الآية وهو ما محنوا به من الجوع والخوف وكانوا في أمن منهما وما يصيبهم يوم بدر من القتل والأسر ويوم الفتح من الذل.
وجملة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} استئناف بياني لحكمة إذاقتهم العذاب الأدنى في الدنيا بأنه لرجاء رجوعهم، أي رجوعهم عن الكفر بالإيمان. والمراد: رجوع من يمكن رجوعه وهم الأحياء منهم. وإسناد الرجوع إلى ضمير جميعهم باعتبار القبيلة والجماعة، أي لعل جماعتهم ترجع. وكذلك كان فقد آمن كثير من الناس بعد يوم بدر وبخاصة بعد فتح مكة، فصار من تحقق فيهم الرجوع المرجو مخصوصين من عموم {الذين فسقوا} في قوله
(21/164)

تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة: 20] الآية، فبقي ذلك الوعيد للذين ماتوا على الشرك، وهي مسألة الموافاة عند الأشعري.
[22] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [22]}
عطف على جملة {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} [السجدة: 15] إلى آخرها حيث اقتضت أن الذين قالوا: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] ليسوا كأولئك فانتقل إلى الإخبار عنهم بأنهم أشد الناس ظلما لأنهم يذكرون بآيات الله حين يتلى عليهم القرآن فيعرضون عن تدبرها ويلغون فيها، فآيات الله مراد بها القرآن.
وجيء في عطف جملة {أَعْرَضَ} بحرف {ثُمَّ} لقصد الدلالة على تراخي رتبة الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها تراخي استبعاد وتعجيب من حالهم كقول جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
أي: عجيب إقدامه على مواقع الهلاك بعد مشاهدة غمرات الموت تغمر الذين أقدموا على تلك المواقع.
و {مَنْ} للاستفهام الإنكاري كقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] أي: لا أظلم منه، أي لا أحد أظلم منه لأنه ظلم نفسه بحرمانها من التأمل فيما نفعه، وظلم الآيات بتعطيل نفعها في بعض من أريد انتفاعهم بها، وظلم الرسول عليه الصلاة والسلام بتكذيبه والإعراض عنه، وظلم حق ربه إذ لم يمتثل ما أراد منه.
وجملة {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن تفظيع ظلم الذي ذكر بآيات ربه فأعرض عنها لأن السامع يترقب جزاء ذلك الظالم.
والمراد بالمجرمين هؤلاء الظالمون، عدل عن ذكر ضميرهم لزيادة تسجيل فظاعة حالهم بأنهم مجرمون مع أنهم ظالمون، وقد يقال: إن المجرمين أعم من الظالمين فيكون دخلوهم في الانتقام من المجرمين أحرويا وتصير جملة {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} تذييلا.
[23] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي
(21/165)

إِسْرائيلَ} .
لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، استطرد إلى تسلية النبيء صلى الله عليه وسلم بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه موسى من قوم فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل. فهذه الجملة وما بعدها إلى قوله: {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25] معترضات. وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد، وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} على الخبر الذي قبله.
وأريد بقوله: {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أرسلنا موسى، فذكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله، وإدماج ذكر {الْكِتَابَ} للتنويه بشأن موسى وليس داخلا في تنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال موسى عليه السلام في تكذيب قومه إياه لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ} الآيات، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذكر {الْكِتَابَ} .
وجملة {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} معترضة وهو اعتراض بالفاء، ومثله وارد كثيرا في الكلام كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} الآية في سورة النساء [135]. ويأتي عند قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} في سورة ص [57].
والمرية: الشك والتردد. وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة، أي لا يكن الشك محيطا بك ومتمكنا منك، أي لا تكن ممتريا في أنك مثله سينالك ما ناله من قومه.
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم، فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقوله: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 10] وليس لطلب أحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل.
واللقاء: اسم مصدر لقي وهو الغالب في الاستعمال دون لقى الذي هو المصدر القياسي. واللقاء: مصادفة فاعل هذا الفعل مفعوله، ويطلق مجازا على الإصابة كما يقال: لقيت عناء، ولقيت عرق القربة، وهو هنا مجاز، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه، وضمير الغائب عائد إلى موسى. واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله، أي مما لقي
(21/166)

موسى من قوم فرعون من تكذيب، أي من مثل ما لقي موسى، وهذا المضاف يدل عليه المقام أو يكون جاريا على التشبيه البليغ كقوله: هو البدر، أي: من لقاء كلقائه، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: 10] {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34] وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: 76, 77]. هذا أحسن تفسير للآية وقريب منه مأثور عن الحسن.
ويجوز أن يكون ضمير {لِقَائِهِ} عائدا إلى موسى على معنى: من مثل ما لقي موسى من إرساله وهو أن كانت عاقبة النصر له على قوم فرعون، وحصول الاهتداء بالكتاب الذي أوتيه، وتأييده باهتداء بني إسرائيل. فيكون هذا المعنى بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله سيظهر هذا الدين.
ويجوز أن يكون ضمير {لِقَائِهِ} عائدا إلى الكتاب كما في "الكشاف" لكن على أن يكون المعنى: فلا تكن في شك من لقاء الكتاب، أي من أن تلقى من إيتائك الكتاب ما هو شنشنة تلقي الكتب الإلهية كما تلقاها موسى. فالنهي مستعمل في التحذير ممن ظن أن لا يلحقه في إيتاء الكتاب من المشقة ما لقيه الرسل من قبله، أي من جانب أذى قومه وإعراضهم. ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: {فَلا تَكُنْ} لغير معين وهو موجه للذين امتروا في أن القرآن أنزل من عند الله سواء كانوا المشركين أو الذين يلقنونهم من أهل الكتاب، أي لا تمتروا في إنزال القرآن على بشر فقد أنزل الكتاب على موسى فلا تكونوا في مرية من إنزال القرآن على محمد. وهذا كقوله تعالى: { إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91]. فالنهي مستعمل في حقيقته من طلب الكف عن المرية في إنزال القرآن. وللمفسرين احتمالات أخرى كثيرة لا تسفر عن معنى بين، ومن أبعدها حمل اللقاء على حقيقته وعود ضمير الغائب لموسى وأن المراد لقاؤه ليلة الإسراء وعده الله به وحققه له في هذه الآية قبل وقوعه. قال ابن عطية: وقال المبرد حين امتحن أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة1.
وضمير النصب في {وَجَعَلْنَاهُ هُدىً} يجوز أن يعود على الكتاب أو على موسى وكلاهما سبب هدى، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به وهو معطوف على
ـــــــ
1 لعله امتحنة بذلك حين جاءه ليلازمه للأخذ عنه ولم أعثر على تفصيل ذلك.
(21/167)

{آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وما بينهما اعتراض. وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يشكروا نعمة الله على أن أرسل إليهم محمد بالقرآن ليهتدوا فأعرضوا وكانوا أحق بأن يحرصوا على الاهتداء بالقرآن وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
[24] {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}
أشير إلى ما من الله به على بني إسرائيل إذ جعل منهم أئمة يهدون بأمر الله والأمر يشمل الوحي بالشريعة لأنه أمر بها، ويشمل الانتصاب للإرشاد فإن الله أمر العلماء أن يبينوا الكتاب ويرشدوا إليه فإذا هدوا فإنما هدوا بأمره وبالعلم الذي آتاهم به أنبياؤهم وأحبارهم فأنعم الله عليهم بذلك لما صبروا وأيقنوا لما جاءهم من كتاب الله ومعجزات رسولهم فإن كان المراد من قوله: {بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} دلائل صدق موسى عليه السلام، فالمعنى: أنهم صبروا على مشاق التكليف والخروج بهم من أرض مصر وما لقوه من فرعون وقومه من العذاب والاضطهاد وتيههم في البرية أربعين سنة وتدبروا في الآيات ونظروا حتى أيقنوا.
وإن كان المراد من الآيات ما في التوراة من الشرائع والمواعظ فإطلاق اسم الآيات عليها مشاكلة تقديرية لما هو شائع بين المسلمين من تسمية جمل القرآن آيات لأنها معجزة في بلاغتها خارجة عن طوق تعبير البشر. فكانت دلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا نحو ما وقع في حديث رجم اليهوديين من قول الراوي: فوضع اليهودي يده على آية الرجم، أي الكلام الذي فيه حكم الرجم في التوراة فسماه الرواي آية مشاكلة لكلام القرآن. وفي هذا تعريض بالبشارة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يكونون أيمة لدين الإسلام وهداة للمسلمين إذ صبروا على ما لحقهم في ذات الله من أذى قومهم وصبروا على مشاق التكليف ومعاداة أهلهم وقومهم وظلمهم إياهم. وتقديم {بِآياتِنَا} على {يُوقِنُونَ} للاهتمام بالآيات.
وقرأ الجمهور {لَمَّا صَبَرُوا} بتشديد الميم وهي {لَمَّا} التي هي حرف وجود لوجود وتسمى التوقيتية، أي: جعلناهم أئمة حين صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بتخفيف الميم على أنها مركبة من لام التعليل و"ما" المصدرية، أي جعلناهم أيمة لأجل صبرهم وإيقانهم.
(21/168)

[25] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
استئناف بياني لأن قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24] يثير سؤالا في نفس السامع من المؤمنين الذين سمعوا ما في القرآن من وصف اختلاف بني إسرائيل وانحرافهم عن دينهم وشاهد كثير منهم بني إسرائيل في زمانه غير متحلين بما يناسب ما قامت به أئمتهم من الهداية فيود أن يعلم سبب ذلك فكان في هذه الآية جواب ذلك تعليما للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
والخطاب للنبيء. والمراد أمته تحذيرا من ذلك وإيماء إلى وجوب تجنب الاختلاف الذي لا يدعو إليه داع في مصلحة الأمة وفهم الدين.
والفصل: القضاء والحكم، وهو يقتضي أن اختلافهم أوقعهم في إبطال ما جاءهم من ا لهدى فهو اختلاف غير مستند إلى أدلة ولا جار في مهيع أصل الشريعة؛ ولكنه متابعة للهوى وميل لأعراض الدنيا كما وصفه القرآن في آيات كثيرة في سورة البقرة وغيرها كقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
وليس منه اختلاف أئمة الدين في تفاريع الأحكام وفي فهم الدين مما لا ينقض أصوله ولا يخالف نصوصه وإنما هو إعمال لأصوله ولأدلته في الأحوال المناسبة لها وحمل متعارضها بعضه على بعض فإن ذلك كله محمود غير مذموم؛ وقد اختلف أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم في حياته فلم يعنف أحدا، واختلفوا بعد وفاته فلم يعنف بعضهم بعضا. ويشمل ما كانوا فيه يختلفون ما كان اختلافا بين المهتدين والضالين منهم وما كان اتفاقا من جميع أمتهم على الضلالة فإن ذلك خلاف بين المجمعين وبين ما نطقت به شريعتهم وسنته أنبياؤهم، ومن أعظم ذلك الاختلاف كتمانهم الشهادة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم ما أخذ عليهم من الميثاق من أنبيائهم.
وضمير {هُوَ} في قوله: {هُوَ يَفْصِلُ} ضمير فصل لقصر الفصل عليه تعالى إيماء إلى أن ما يذكر في القرآن من بيان بعض ما اختلفوا فيه على أنبيائهم ليس مطموعا منه أن يرتدعوا عن اختلافهم وإنما هو للتسجيل عليهم وقطع معذرتهم لأنهم لا يقبلون الحجة فلا يفصل بينهم إلا يوم القيامة.
(21/169)

[26] {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ}
عطف على جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، ولما كان ذلك التذكير متصلا كقوله: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] كان الهدي، أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملا للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ} معنيين: أحدهما: إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم، وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه. وثانيهما: إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
والاستفهام إنكاري، أي هم لم يهتدوا بدلائل النظر والاستدلال التي جاءهم بها القرآن فأعرضوا عنها ولا اتعظوا بمصارع الأمم الذين كذبوا أنبياءهم وفي مهلكهم آيات تزجر أمثالهم عن السلوك فيما سلكوه. فضمير {لَهُمْ} عائد إلى المجرمين أو إلى من ذكر بآيات ربه. و {يَهْدِ} من الهداية وهي الدلالة والإرشاد، يقال: هداه إلى كذا.
وضمن فعل {يَهْدِ} معنى يبين، فعدي باللام فأفاد هداية واضحة بينة. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} في سورة [الأعراف: 100]. واختير فعل الهداية في هذه الآية لإرادة الدلالة الجامعة للمشاهدة ولسماع أخبار تلك الأمم تمهيدا لقوله في آخرها {أَفَلا يَسْمَعُونَ} ، ولأن كثرة ذلك المستفادة من {كَمْ} الخبرية إنما تحصل بترتيب الاستدلال في تواتر الأخبار ولا تحصل دفعة كما تحصل دلالة المشاهدات.
وفاعل {يَهْدِ} ما دلت عليه {كَمْ} الخبرية من معنى الكثرة: ولا يجوز عند الجمهور جعل {كَمْ} فاعل {يَهْدِ} لأن {كَمْ} الخبرية اسم له الصدارة في الاستعمال إذ أصله استفهام فتوسع فيه.
ويجوز جعل {كَمْ} فاعلا عند من لم يشترطوا أن تكون {كَمْ} الخبرية في صدر الكلام. وجوز في "الكشاف" أن يكون الفاعل جملة {كَمْ أَهْلَكْنَا} على معنى الحكاية لهذا القول، كما يقال: تعصم "لا إله إلا الله" الدماء والأموال، أي هذه الكلمة أي النطق بها لتقلد الإسلام. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الجلالة دالا عليه المقام، أي ألم يهد
(21/170)

الله لهم فإن الله بين لهم ذلك وذكرهم بمصارع المكذبين، وتكون جملة {كَمْ أَهْلَكْنَا} على هذا استئنافا، وتقدم {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في أول الأنعام [6].
ونيط الاستدلال هنا بالكثرة التي أفادتها {كَمْ} الخبرية لأن تكرر حدوث القرون وزوالها أقوى دلالة من مشاهدة آثار أمة واحدة.
و {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} حال من فاعل {أَوَلَمْ يَرَوْا} [السجدة: 27] والمعنى: أنهم يمرون على المواضع التي فيها بقايا مساكنهم مثل حجر ثمود وديار مدين فتعضد مشاهدة مساكنهم الأخبار الواردة عن استئصالهم وهي دلائل إمكان البعث كما قال تعالى {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 60، 61], ودلائل ما يحيق بالمكذبين للرسل؛ وفي كل أمة وموطن دلائل كثيرة متماثلة أو متخالفة.
ولما كان الذي يؤثر من أخبار تلك الأمم وتقلبات أحوالها وزوال قوتها ورفاهيتها أشد دلالة وموعظة للمشركين فرع عليه {أَفَلا يَسْمَعُونَ} استفهاما تقريريا مشوبا بتوبيخ لأن اجتلاب المضارع وهو {يَسْمَعُونَ} مؤذن بأن استماع أخبار تلك الأمم متكرر متجدد فيكون التوبيخ على الإقرار المستفهم عنه أوقع بخلاف ما بعده من قوله: {أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]. وقد شاع توجيه الاستفهام التقريري إلى المنفي، وتقدم عند قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} في سورة الأنعام [130] وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} في سورة الأعراف [148].
[27] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ}.
عطف على {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [السجدة: 26]. ونيط الاستدلال هنا بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها ثم إخراج النبت منها دلالة مشاهدة. واختير المضارع في قوله: {نَسُوقُ} لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على القدرة الباهرة.
والسوق: إزجاء الماشي من ورائه.
و {الْمَاءَ} : ماء المزن، وسوقه إلى الأرض هو سوق السحاب الحاملة إياه بالرياح التي تنقل السحاب من جو إلى جو؛ فشبهت هيئة الرياح والسحاب بهيئة السائق للدابة. والتعريف في {الْأَرْضِ} تعريف الجنس.
(21/171)

و {الْجُرُزِ} : اسم للأرض التي انقطع نبتها، وهو مشتق من الجرز، وهو: انقطاع النبت والحشيش، إما بسبب يبس الأرض أو بالرعي، والجرز: القطع. وسمي السيف القاطع جرازا، قال الراجز يصف أسنان ناقة:
تنحي على الشوك جرازا مقضبا ... والهرم تذريه إذدراء عجبا
فـ {الْأَرْضِ الْجُرُزِ} : التي انقطع نبتها. ولا يقال للأرض التي لا تنبت كالسباخ جرز. والزرع: ما نبت بسبب بذر حبوبه في الأرض كالشعير والبر والفصفصة وأكل الأنعام غالبه من الكلأ لا من الزرع فذكر الزرع بلفظه، ثم ذكر أكل الأنعام يدل على تقدير: وكلأ. ففي الكلام اكتفاء. والتقدير: ونخرج به زرعا وكلأ تأكل منه أنعامهم وأنفسهم. والمقصود: الاستدلال على البعث وتقريبه وإمكانه بإخراج النبت من الأرض بعد أن زال؛ فوجه الأول. وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بقوله: {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} . ثم فرع عليه استفهام تقريري بجملة {أَفَلا يُبْصِرُونَ} . وتقدم بيان مثله آنفا في قوله: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26]. ونيط الحكم بالإبصار هنا دلالة إحياء الأرض بعد موتها دلالة مشاهدة.
[28- 30] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [28] قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ [29] فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}
يجوز أن يكون عطفا على جملة {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، أي: أعرضوا عن سماع الآيات والتدبر فيها وتجاوزوا ذلك إلى التكذيب والتهكم بها. ومناسبة ذكر ذلك هنا أنه وقع عقب الإشارة إلى دليل وقوع البعث وهو يوم الفصل. ويجوز أن يعطف على جملة {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].
والمعنى: أنهم كذبوا بالبعث وما معه من الوعيد في الآخرة وكذبوا بوعيد عذاب الدنيا الذي منه قوله تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: 21].
و {الْفَتْحُ} : النصر والقضاء. والمراد به: نصر أهل الإيمان بظهور فوزهم وخيبة أعدائهم فإن خيبة العدو نصر لضده وكان المسلمون يتحدون المشركين بأن الله سيفتح بينهم وينصرهم وتظهر حجتهم، فكان الكافرون يكررون التهكم بالمسلمين بالسؤال عن وقت هذا الفتح استفهاما مستعملا في التكذيب حيث لم يحصل المستفهم عنه. وحكاية قولهم بصيغة
(21/172)

المضارع لإفادة التعجيب منه كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] مع إفادة تكرر ذلك منهم واتخاذهم إياه. والمعنى: إن كنتم صادقين في أنه واقع فبينوا لنا وقته فإنكم إذ علمتم به دون غيركم فلتعلموا وقته. وهذا من السفسطة الباطلة لأن العلم بالشيء إجمالا لا يقتضي العلم بتفصيل أحواله حتى ينسب الذي لا يعلم تفصيله إلى الكذب في إجماله.
واسم الإشارة في {هَذَا الْفَتْحُ} مع إمكان الاستغناء عنه بذكر مبينه مقصود منه التحقير وقلة الاكتراث به كما في قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
إنباء بقلة اكتراثه بالموت. ومنه قوله تعالى حكاية عنهم {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36] فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يوم الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أمل الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظارا لتدارك ما فاتهم، أي إفادتهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحل به {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158}. ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين: من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا.
وإظهار وصف {الَّذِينَ كَفَرُوا} في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم. ثم فرع على جميع هذه المجادلات والدلالات توجيه الله خطابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يعرض عن هؤلاء القائلين المكذبين وأن لا يزيد في الإلحاح عليهم تأييسا من إيمان المجادلين منهم المتصدين للتمويه على دهمائهم. وهذا إعراض متاركة عن الجدال وقتيا لا إعراض مستمر، ولا عن الدعوة إلى الله ولا علاقة له بأحكام الجهاد المشروع في غير هذه الآية.
والانتظار: الترقب. وأصله مشتق من النظر فكأنه مطاوع: أنظره، أي: أراه فانتظر، أي تكلف أن ينظر. وحذف مفعول {انْتَظِرْ} للتهويل، أي: انتظر أياما يكون لك فيها
(21/173)

النصر، ويكون لهم فيها الخسران مثل سني الجوع إن كان حصلت بعد نزول هذه السورة، ومثل يوم بدر ويوم فتح مكة وهما بعد نزول هذه السورة لا محالة، ففي الأمر بالانتظار تعريض بالبشارة للمؤمنين بالنظر، وتعريض بالوعيد للمشركين بالعذاب في الدارين.
وجملة {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} تعليل لما تضمنه الأمر بالانتظار من إضمار العذاب لهم. ومفعول {مُنْتَظِرُونَ} محذوف دل عليه السياق، أي منتظرون لكم الفرصة لحربكم أو لإخراجكم قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] وقال: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] أي لم نكن ظالمين في تقدير العذاب لهم لأنهم بدأوا بالظلم.
(21/174)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزاب
هكذا سميت {سورة الأحزاب} في المصاحف وكتب التفسير والسنة، وكذلك رويت تسميتها عن ابن عباس وأبي بن كعب بأسانيد مقبولة. ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن فيها ذكر أحزاب المشركين من قريش ومن تحزب معهم أرادوا غزو المسلمين في المدينة فرد الله كيدهم وكفى الله المؤمنين القتال. وهي مدنية بالاتفاق، وسيأتي عن ابن عباس أن آية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} [الأحزاب: 36] الخ نزلت في تزويج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة في مكة. وهي التسعون في عداد السور النازلة من القرآن، نزلت بعد سورة الأنفال، وقبل سورة المائدة.
وكان نزولها على قول ابن إسحاق أواخر سنة خمس من الهجرة وهو الذي جرى عليه ابن رشد في "البيان والتحصيل" . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أنها كانت سنة أربع وهي سنة غزوة الأحزاب وتسمى غزوة الخندق حين أحاط جماعات من قريش وأحابيشهم1 وكنانة وغطفان وكانوا عشرة آلاف وكان المسلمون ثلاثة آلاف وعقبتها غزوة قريظة والنضير. وعدد آيها ثلاث وسبعون باتفاق أصحاب العدد.
ومما يجب التنبيه عليه مما يتعلق بهذه السورة ما رواه الحاكم والنسائي وغيرهما عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تعدون سورة الأحزاب? قال: قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: أقط - بهمزة استفهام دخلت على قط، أي: حسب - فوالذي يحلف به أبي: إن كانت لتعدل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتية نكالا من الله والله عزيز حكيم" فرفع فيما رفع، أي: نسخ فيما نسخ من تلاوة
ـــــــ
1 أحابيش قريش: هم بنو المصطلق وبنو الهون اجتموا عند جبل بمكة يقال له: حبشي - بضم الحاء وسكون الباء - فحالفوا قريشا أنهم يد على غيرهم.
(21/175)

آياتها. وما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده وابن الأنباري بسنده عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبيء صلى الله عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن. وكلام الخبرين ضعيف السند. ومحمل الخبر الأول عند أهل العلم أن أبيا حدث عن سورة الأحزاب قبل أن ينسخ منها ما نسخ. فمنه ما نسخت تلاوته وحكمه ومنه ما نسخت تلاوته خاصة مثل آية الرجم. وأنا أقول: إن صح عن أبي ما نسب إليه فما هو إلا أن شيئا كثيرا من القرآن كان أبي يلحقه بسورة الأحزاب وهو من سور أخرى من القرآن مثل كثير من سورة النساء الشبيه ببعض ما في سورة الأحزاب أغراضا ولهجة مما فيه ذكر المنافقين واليهود، فإن أصحاب رسول الله لم يكونوا على طريقة واحدة في ترتيب آي القرآن ولا في عدة سوره وتقسيم سوره كما تقدم في المقدمة الثامنة ولا في ضبط المنسوخ لفظه. كيف وقد أجمع حفاظ القرآن والخلفاء الأربعة وكافة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذين شذوا على أن القرآن هو الذي في المصحف وأجمعوا في عدد آيات القرآن على عدد قريب بعضه من بعض كما تقدم في المقدمة الثامنة.
وأما الخبر عن عائشة فهو أضعف سندا وأقرب تأويلا فإن صح عنها، ولا إخاله، فقد تحدثت عن شيء نسخ من القرآن كان في سورة الأحزاب. وليس بعد إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصحف عثمان مطلب لطالب.
ولم يكن تعويلهم في مقدار القرآن وسوره إلا على حفظ الحفاظ. وقد افتقد زيد ابن ثابت آية من سورة الأحزاب لم يجدها فيما دفع إليه من صحف القرآن فلم يزل يسأل عنها حتى وجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري وقد كان يسمع رسول الله يقرؤها، فلما وجدها مع خزيمة لم يشك في لفظها الذي كان عرفه. وهي آية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إلى قوله: {تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23]. وافتقد الآيتين من آخر سورة براءة فوجدهما عند أبي خزيمة بن أوس -المشتهر بكنيته-.
وبعد فخبر أبي بن كعب خبر غريب لم يؤثر عن أحد من أصحاب رسول الله فنوقن بأنه دخله وهم من بعض رواته. وهو أيضا خبر آحاد لا ينتقض به إجماع الأمة على المقدار الموجود من هذه السورة متواترا. وفي "الكشاف" : وأما ما يحكى أن تلك الزيادة التي رويت عن عائشة كانت مكتوبة في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن، أي الشاة، فمن تأليفات الملاحدة والروافض ا هـ.
ووضع هذا الخبر ظاهر مكشوف فإنه لو صدق هذا لكانت هذه الصحيفة قد هلكت
(21/176)

في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم أو بعده والصحابة متوافرون وحفاظ القرآن كثيرون فلو تلفت هذه الصحيفة لم يتلف ما فيها من صدور الحفاظ. وكون القرآن قد تلاشى منه كثير هو أصل من أصول الروافض ليطعنوا به في الخلفاء الثلاثة، والرافضة يزعمون أن القرآن مستودع عند الإمام المنتظر فهو الذي يأتي بالقرآن وقر بعير. وقد استوعب قولهم واستوفى إبطاله أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم من القواصم" .
أغراض هذه السورة
لكثير من آيات هذه السورة أسباب لنزولها، وأكثرها نزل للرد على المنافقين أقوالا قصدوا بها أذى النبيء صلى الله عليه وسلم.
وأهم أغراضها: الرد عليهم قولهم لما تزوج النبيء صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى إبطال التبني. وأن الحق في أحكام الله لأنه الخبير بالأعمال وهو الذي يقول الحق. وأن ولاية النبيء صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أقوى ولاية، ولأزواجه حرمة الأمهات لهم، وتلك ولاية من جعل الله فهي أقوى وأشد من ولاية الأرحام. وتحريض المؤمنين على التمسك بما شرع الله لهم لأنه أخذ العهد بذلك على جميع النبيءين. والاعتبار بما أظهره الله من عنايته بنصر المؤمنين على أحزاب أعدائهم من الكفرة والمنافقين في وقعة الأحزاب ودفع كيد المنافقين. والثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن الدين. ونعمة الله عليهم بأن أعطاهم بلاد أهل الكتاب الذين ظاهروا الأحزاب.
وانتقل من ذلك إلى أحكام في معاشرة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم وذكر فضلهن وفضل آل النبيء صلى الله عليه وسلم وفضائل أهل الخير من المسلمين والمسلمات. وتشريع في عدة المطلقة قبل البناء.
وما يسوغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج. وحكم حجاب أمهات المؤمنين ولبسة المؤمنات إذا خرجن. وتهديد المنافقين على الإرجاف بالأخبار الكاذبة. وختمت السورة بالتنويه بالشرائع الإلهية فكان ختامها من رد العجز على الصدر لقوله في أولها: {و اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2]، وتخلل ذلك مستطردات من الأمر بالائتساء بالنبيء صلى الله عليه وسلم. وتحريض المؤمنين على ذكر الله وتنزيهه شكرا له على هديه. وتعظيم قدر النبيء صلى الله عليه وسلم عند الله وفي الملأ الأعلى، والأمر بالصلاة عليه والسلام. ووعيد المنافقين الذين يأتون بما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين. والتحذير من التورط في ذلك كيلا يقعوا فيما وقع فيه الذين آذوا موسى عليه السلام.
(21/177)

[1] {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}
افتتاح السورة بخطاب النبيء صلى الله عليه وسلم وندائه بوصفه مؤذن بأن الأهم من سوق هذه السورة يتعلق بأحوال النبيء صلى الله عليه وسلم. وقد نودي فيها خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع بعضها خاص به وبعضها يتعلق بغيره وله ملابسة له.
فالنداء الأول: لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه.
والنداء الثاني: لافتتاح غرض التنويه بمقام أزوجه واقترابه من مقامه.
والنداء الثالث: لافتتاح بيان تحديد تقلبات شؤون رسالته في معاملة الأمة.
والنداء الرابع: في طالعة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه.
والنداء الخامس: في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات.
فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه تعالى على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله، وهو نظير النداء الذي في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الآية، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] الآيات.
ونداء النبيء عليه الصلاة والسلام بوصف النبوءة دون اسمه العلم تشريف له بفضل هذا الوصف ليربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره ولذلك لم يناد في القرآن بغير {يَا أَيُّهَا النبيء} أو {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 67] بخلاف الإخبار عنه فقد يجيء بهذا الوصف كقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النبيء} [التحريم: 8] {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبّ} [الفرقان: 30] {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [لأنفال: 1] {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، ويجيء باسمه العلم كقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40].
وقد يتعين إجراء العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144]. وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله، أو تلقين لهم بأن يسموه بذلك ويدعوه به، فإن علم أسمائه من الإيمان لئلا يلتبس بغيره، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لي خمسة
(21/178)

أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا المحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" تعلينا للأمة. وقد أنهى أبو بكر ابن العربي أسماء النبيء صلى الله عليه وسلم إلى سبعة وستين وأنهاها السيوطي إلى ثلاثمائة. وذكر ابن العربي أن بعض الصوفية قال: أسماء النبيء ألفا اسم كما سيأتي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45].
والأمر للنبيء بتقوى الله توطئة للنهي عن اتباع الكافرين والمنافقين ليحصل من الجملتين قصر تقواه على التعلق بالله دون غيره، فإن معنى {لا تُطِعِ} مرادف معنى: لا تتق الكافرين والمنافقين، فإن الطاعة تقوى؛ فصار مجموع الجملتين مفيدا معنى: يا أيها النبيء لا تتق إلا الله، فعدل عن صيغة القصر وهي أشهر في الكلام البليغ وأوجز إلى ذكر جملتي أمر ونهي لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين لأنه لو اقتصر على أن يقال: لا تتق إلا الله لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة لأن تقوى النبيء صلى الله عليه وسلم ربه أمر معلوم، فسلك مسلك الإطناب لهذا، كقول السمؤال:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
فجاء بجملتي إثبات السيلان بقيد ونفيه في غير ذلك القيد للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف.
فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما. وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله: {اتَّقِ اللَّهَ} والنهي في قوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله، فأشعر ذلك أن تشريعا عظيما سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين.
وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبيء صلى الله عليه وسلم لا يقبل أقوالهم لييأسوا من ذلك لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد ويظهرون أنهم ينصحون النبيء صلى الله عليه وسلم ويلحون عليه بالطلبات نصحا تظاهرا بالإسلام.
والمراد بالكافرين المجاهرون بالكفر لأنه قوبل بالمنافقين، فيجوز أن يكونوا المشركين كما هو غالب إطلاق هذا الوصف في القرآن والأنسب بما سيعقبه من قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] إلى آخر أحكام التبني، والموافق لما
(21/179)

روي في سبب نزولها على ضعف فيه سنبينه؛ ويجوز أن يكونوا اليهود كما يقتضيه ما يروى في سبب النزول، ولو حمل على ما يعم نوعي الكافرين المجاهرين لم يكن بعيدا.
والطاعة: العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة. وماهيتها متفاوتة مقول عليها بالتشكيك، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما يتحقق فيه أدنى ماهيتها، مثل أن يعدل عن تزوج مطلقة متبناه لقول المنافقين: إن محمدا ينهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج زوج ابنه زيد بن حارثه، وهو المعنى الذي جاء فيه قوله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] وقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] عقب قضية امرأة زيد. ومثل نقض ما كان للمشركين من جعل الظهار موجبا مصير المظاهرة أما للمظاهر حراما عليه قربانها أبدا، ولذلك أردفت الجملة بجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} تعليلا للنهي.
والمعنى: أن الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين لأنه عليم حكيم فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح. ودخول {إِنَّ} على الجملة قائم مقام فاء التعليل ومغن غناءها على ما بين في غير موضع، وشاهده المشهور قول بشار:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
وقد ذكر الواحدي في "أسباب النزول" والثعلبي والقشيري والماوردي في "تفاسيرهم" : أن قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} نزل بسبب أنه بعد وقعة أحد جاء إلى المدينة أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان من قريش وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمان في المدينة وأن ينزلوا عند عبد الله بن أبي بن سلول ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله ابن أبي ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، وطمعة بن أبيرق فسألوا رسول الله أن يترك ذكر آلهة قريش، فغضب المسلمون وهم عمر بقتل النفر القريشيين، فمنعه رسول الله لأنه كان أعطاهم الأمان، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فنزلت هذه الآية، أي: -اتق الله في حفظ الأمان ولا تطع الكافرين - وهم النفر القرشيون - والمنافقين - وهم عبد الله بن أبي ومن معه-. وهذا الخبر لا سند له ولم يعرج عليه أهل النقد مثل الطبري وابن كثير.
[2] {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
هذا تمهيد لما يرد من الوحي في شأن أحكام التبني وما يتصل بها، ولذلك جيء
(21/180)

بالفعل المضارع الصالح للاستقبال، وجرد من علامة الاستقبال لأنه قريب من زمن الحال. والمقصود من الأمر باتباعه أنه أمر باتباع خاص تأكيد للأمر العام باتباع الوحي. وفيه إيذان بأن ما سيوحي إليه قريبا هو ما يشق عليه وعلى المسلمين من إبطال حكم التبني لأنهم ألفوه واستقر في عوائدهم وعاملوا المتبنين معاملة الأبناء الحق.
ولذلك ذيلت جملة {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} بجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تعليلا للأمر بالاتباع وتأنيسا به لأن الله خبير بما في عوائدكم ونفوسكم فإذا أبطل شيئا من ذلك فإن إبطاله من تعلق العلم بلزوم تغييره فلا تتريثوا في امتثال أمره في ذلك، فجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} في موقع العلة فلذلك فصلت لأن حرف التوكيد مغن غناء فاء التفريع كما مر آنفا.
وفي إفراد الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاتَّبِعْ} وجمعه بما يشمله وأمته في قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} إيماء إلى أن فيما سينزل من الوحي ما يشتمل على تكليف يشمل تغيير حالة كان النبيء عليه الصلاة والسلام مشاركا لبعض الأمة في التلبس بها وهو حكم التبني إذ كان النبيء متبنيا زيد بن حارثة من قبل بعثته.
وقرأ الجمهور {بِمَا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب على خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم والأمة لأن هذا الأمر أعلق بالأمة. وقرأ أبو عمرو وحده {بِمَا يَعْمَلُونَ} بالمثناة التحتية على الغيبة على أنه راجع للناس كلهم شامل للمسلمين والكافرين والمنافقين ليفيد مع تعليل الأمر بالاتباع تعريضا بالمشركين والمنافقين بمحاسبة الله إياهم على ما يبيتونه من الكيد، وكناية عن إطلاع الله رسوله على ما يعلم منهم في هذا الشأن كما سيجيء {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60]، أي: لنطلعنك على ما يكيدون به ونأذنك بافتضاح شأنهم. وهذا المعنى الحاصل من هذه القراءة لا يفوت في قراءة الجمهور بالخطاب لأن كل فريق من المخاطبين يأخذ حظه منه.
[3] {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
زيادة تمهيد وتوطئة لتلقي تكليف يترقب منه أذى من المنافقين مثل قولهم: إن محمدا نهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج امرأة ابنه زيد بن حارثة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 48]؛ فأمره بتقوى ربه دون غيره، وأتبعه بالأمر باتباع وحيه، وعززه بالأمر بما فيه تأييده وهو أن يفوض أموره إلى الله.
(21/181)

والتوكل: إسناد المرء مهمه وشأنه إلى من يتولى عمله وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [159].
والوكيل: الذي يسند إليه غيره أمره، وتقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران [173].
وقوله: {وَكِيلاً} تمييز نسبة، أي كفى الله وكيلا، أي وكالته، وتقدم نظيره في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} في سورة النساء [81].
[4] {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}
استئناف ابتدائي ابتداء المقدمة للغرض بعد التمهيد له بما قبله، والمقدمة أخص من التمهيد لأنها تشتمل على ما يوضح المقصد بخلاف التمهيد؛ فهذا مقدمة لما أمر النبيء صلى الله عليه وسلم باتباعه مما يوحى إليه وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها، وأن مواهي الأمور لا تتغير بما يلصق بها من الأقوال المنافية للحقائق، وأن تلك الملصقات بالحقائق هي التي تحجب العقول عن التفهم في الحقائق الحق، وهي التي ترين على القلوب بتلبيس الأشياء.
وذكر ها هنا نوعان من الحقائق:
أحدهما : من حقائق المعتقدات لأجل إقامة الشريعة على العقائد الصحيحة، ونبذ الحقائق المصنوعة المخالفة للواقع لأن إصلاح التفكير هو مفتاح إصلاح العمل، وهذا ما جعل تأصيله إبطال أن يكون الله جعل في خلق بعض الناس نظاما لم يجعله في خلق غيرهم.
وثاني النوعين: من حقائق الأعمال لتقوم الشريعة على اعتبار مواهي الأعمال بما هي ثابتة عليه في نفس الأمر إلا بالتوهم والادعاء. وهذا يرجع إلى قاعدة أن حقائق الأشياء ثابتة وهو ما أشير إليه بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} ، أي: لا يقول
(21/182)

الباطل مثل بعض أقوالكم من ذلك القبيل. والمقصود التنبيه إلى بطلان أمور كان أهل الجاهلية قد زعموها وادعوها. وابتدئ من ذلك بما دليل بطلانه الحس والاختبار ليعلم من ذلك أن الذين اختلقوا مزاعم يشهد الحس بكذبها يهون عليهم اختلاق مزاعم فيها شبه وتلبيس للباطل في صورة الحق فيتلقى ذلك بالإذعان والامتثال.
والإشارة بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} إلى أكذوبة من تكاذيب الجاهلية كانوا يزعمون أن جميل بن معمر -ويقال: ابن أسد- بن حبيب الجمحي الفهري -وكان رجلا داهية قوي الحفظ- أن له قلبين يعملان ويتعاونان وكانوا يدعونه ذا القلبين يريدون العقلين لأنهم كانوا يحسبون أن الإدراك بالقلب وأن القلب محل لعقل. وقد غره ذلك أو تغاور به فكان لشدة كفره يقول: "إن في جوفي قلبين أعمل بكل واحد منهما عملا أفضل من عمل محمد". وسموا بذي القلبين أيضا عبد الله بن خطل التيمي، وكان يسمى في الجاهلية عبد العزى وأسلم فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ثم كفر وقتل صبرا يوم فتح مكة وهو الذي تعلق بأستار الكعبة فلم يعف عنه، فنفت الآية زعمهم نفيا عاما، أي ما جعل الله لأي رجل من الناس قلبين لا لجميل بن معمر ولا لابن خطل، فوقوع {رَجُلٍ} وهو نكرة في سياق النفي يقتضي العموم، ووقوع فعل {جَعَلَ} في سياق النفي يقتضي العموم لأن الفعل في سياق النفي مثل النكرة في سياق النفي. ودخول {مِنْ} على {قَلْبَيْنِ} للتنصيص على عموم قلبين في جوف رجل فدلت هذه العمومات الثلاثة على انتفاء كل فرد من أفراد الجعل لكل فرد مما يطلق عليه أنه قلبان، عن كل رجل من الناس، فدخل في العموم جميل بن معمر وغيره بحيث لا يدعى ذلك لأحد أيا كان.
ولفظ {رَجُلٍ} لا مفهوم له لأنه أريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جريا على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء يعلم أيضا أنه لا يدعى لامرأة أن لها قلبين بحكم فحوى الخطاب أو لحن الخطاب.
والجعل المنفي هنا هو الجعل الجبلي، أي ما خلق الله رجلا بقلبين في جوفه وقد جعل إبطال هذا الزعم تمهيدا لإبطال ما تواضعوا عليه من جعل أحد ابنا لمن ليس هو بابنه، ومن جعل امرأة أما لمن هي ليست أمه بطريقة قياس التمثيل، أي أن هؤلاء الذين يختلقون ما ليس في الخلقة لا يتورعون عن اختلاق ما هو من ذلك القبيل من الأبوة والأمومة، وتفريعهم كل اختلاقهم جميع آثار الاختلاق، فإن البنوة والأمومة صفتان من
(21/183)

أحوال الخلقة وليستا مما يتواضع الناس عليه بالتعاقد مثل الولاء والحلف.
فأما قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فهو على معنى التشبيه في أحكام البرور وحرمة التزويج؛ ألا ترى ما جاء في الحديث: "أن رسول الله لما خطب عائشة من أبي بكر قال له أبو بكر: يا رسول الله إنما أنا أخوك فقال رسول الله: أنت أخي وهي لي حلال" ، أي أن الأخوة لا تتجاوز حالة المشابهة في النصيحة وحسن المعاشرة ولا تترتب عليها آثار الأخوة الجبلية لأن تلك آثار مرجعها إلى الخلقة فذلك معنى قوله "أنت أخي وهي لي حلال".
والجوف: باطن الإنسان صدره وبطنه وهو مقر الأعضاء الرئيسية عدا الدماغ.
وفائدة ذكر هذا الظرف زيادة تصوير المدلول عليه بالقلب وتجليه للسامع فإذا سمع ذلك كان أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين، وذلك مثل قوله: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ونحوه من القيود المعلومة؛ وإنما يكون التصريح بها تذكيرا بما هو معلوم وتجديدا لتصوره، ومنه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وقد تقدم في سورة الأنعام [38].
{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}
عطف إبطال ثان لبعض مزاعمهم وهو ما كان في الجاهلية أن الرجل إذا أراد فراق زوجه فراقا لا رجعة فيه بحال يقول لها: "أنت علي كظهر أمي" هذه صيغته المعروفة عندهم، فهي موجبة طلاق المرأة وحرمة تزوجها من بعد لأنها صارت أما له، وليس المقصود هنا تشريع إبطال آثار التحريم به لأن ذلك أبطل في سورة المجادلة وهي مما نزل قبل نزول سورة الأحزاب كما سيأتي؛ ولكن المقصود أن يكون تمهيدا لتشريع إبطال التبني تنظيرا بين هذه الأوهام إلا أن هذا التمهيد الثاني أقرب إلى المقصود لأنه من الأحكام التشريعية.
و {اللَّاءِ} : اسم موصول لجماعة النساء فهو اسم جمع "التي" ، لأنه على غير قياس صيغ الجمع، وفيه لغات: اللاء - مكسور الهمزة أبدا - بوزن الباب، واللائي بوزن الداعي، والاء بوزن باب داخلة عليه لام التعريف بدون ياء.
وقرأ قالون عن نافع وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر {اللَّاءِ} - بهمزة مكسورة - غير مشبعة وهو لغة. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف {اللَّائِي} - بياء بعد
(21/184)

الهمزة - بوزن الداعي، وقرأه أبو عمرو والبزي عن ابن كثير ويعقوب و {اللَّايْ} بياء ساكنة بعد الألف بدلا عن الهمزة وهو بدل سماعي، قيل وهي لغة قريش. وقرأ ورش بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع المد والقصر. وروي ذلك عن أبي عمرو والبزي أيضا.
وذكر الظهر في قولهم: أنت علي كظهر أمي، تخييل للتشبيه المضمر في النفس على طريقة الاستعارة المكنية إذ شبه زوجه حين يغشاها بالدابة حين يركبها راكبها، وذكر تخييلا كما ذكر أظفار المنية في بيت أبي ذؤيب الهذلي المعروف، وسيأتي بيانه في أول تفسير سورة المجادلة.
وقولهم: أنت علي، فيه مضاف محذوف دل عليه ما في المخاطبة من معنى الزوجية والتقدير: غشيانك، وكلمة "علي" تؤذن بمعنى التحريم، أي: أنت حرام علي، فصارت الجملة بما لحقها من الحذف علامة على معنى التحريم الأبدي. ويعدى إلى اسم المرأة المراد تحريمها بحرف "من" الابتدائية لتضمينه معنى الانفصال منها.
فلما قال الله تعالى {اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ} علم الناس أنه يعني قولهم: أنت علي كظهر أمي.
والمراد بالجعل المنفي في قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} الجعل الخلقي أيضا كالذي في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أي: ما خلقهن أمهاتكم إذ لسن كذلك في الواقع، وذلك كناية عن انتفاء الأثر الشرعي الذي هو من آثار الجعل الخلقي لأن الإسلام هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُم} [المجادلة: 2]. وقد بسط الله ذلك في سورة المجادلة وبه نعلم أن سورة المجادلة هي التي ورد فيها إبطال الظهار وأحكام كفارته فنعلم أن آية سورة الأحزاب وردت بعد تقرير إبطال الظهار فيكون ذكره فيها تمهيدا لإبطال التبني بشبه أن كليهما ترتيب آثار ترتيبا مصنوعا باليد غير مبني على جعل إلهي. وهذا يوقننا بأن سورة الأحزاب نزلت بعد سورة المجادلة خلافا لما درج عليه ابن الضريس وابن الحصار وما أسنده محمد بن الحارث بن أبيض عن جابر بن زيد مما هو مذكور في نوع المكي والمدني في نوع أول ما أنزل من كتاب "الإتقان" . وقال السيوطي: في هذا الترتيب نظر. وسنذكر ذلك في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {تُظَهِرُونَ} بفتح التاء وتشديد الظاء مفتوحة دون
(21/185)

ألف وتشديد الهاء مفتوحة. وقرأ حفص عن عاصم {تُظَاهِرُونَ} بضم التاء وفتح الظاء مخففة وألف وهاء مكسورة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {تُظَاهِرُونَ} بفتح التاء وفتح الظاء مخففة بعدها ألف وفتح الهاء.
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}.
هذا هو المقصود الذي وطئ بالآيتين قبله، ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه. وعطفت هاته الجملة على اللتين قبلها لاشتراك ثلاثتها في أنها نفت مزاعم لا حقائق لها.
والقول في المراد من قوله: {مَا جَعَلَ} كالقول في نظيره من قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} . والمعنى: أنكم تنسبون الأدعياء أبناء فتقولون للدعي: هو ابن فلان، للذي تبناه، وتجعلون له جميع ما للأبناء.
والأدعياء: جمع دعي بوزن فعيل بمعنى مفعول مشتقا من مادة الادعاء، والادعاء: زعم الزاعم الشيء حقا له من مال أو نسب أو نحو ذلك بصدق أو كذب، وغلب وصف الدعي على المدعي أنه ابن لمن يتحقق أنه ليس أبا له؛ فمن ادعي أنه ابن لمن يحتمل أنه أب له فذلك هو اللحيق أو المستلحق، فالدعي لم يجعله الله ابنا لمن ادعاه للعلم بأنه ليس أبا له، وأما المستلحق فقد جعله الله ابنا لمن استلحقه بحكم استلحاقه مع إمكان أبوته له. وجمع على أفعلاء لأنه معتل اللام فلا يجمع على فعلى، والأصح أن أفعلاء يطرد في جمع فعيل المعتل اللام سواء كان بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول.
نزلت هذه الآية في إبطال التبني، أي: إبطال ترتيب آثار البنوة الحقيقة من الإرث، وتحريم القرابة، وتحريم الصهر، وكانوا في الجاهلية يجعلون للمتبنى أحكام البنوة كلها، وكان من أشهر المتبنين في عهد الجاهلية زيد بن حارثة تبناه النبيء صلى الله عليه وسلم، وعامر بن ربيعة تبناه الخطاب أبو عمر بن الخطاب، وسالم تبناه أبو حذيفة، والمقداد بن عمرو تبناه الأسود بن عبد يغوث، فكان كل واحد من هؤلاء الأربعة يدعى ابنا للذي تبناه.
وزيد بن حارثة الذي نزلت الآية في شأنه كان غريبا من بني كلب من وبرة، من أهل الشام، وكان أبوه حارثة توفي وترك ابنيه جبلة وزيدا فبقيا في حجر جدهما، ثم جاء عماهما فطلبا من الجد كفالتهما فأعطاهما جبلة وبقي زيد عنده فأغارت على الحي خيل من تهامة فأصابت زيدا فأخذ جده يبحث عن مصيره، وقال أبياتا منها:
(21/186)

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
وأنه علم أن زيدا بمكة وأن الذين سبوه باعوه بمكة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد زوج النبيء صلى الله عليه وسلم فوهبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم فأقام عنده زمنا ثم جاء جده وعمه يرغبان في فدائه فأبى الفداء واختار البقاء على الرق عند النبيء فحينئذ أشهد النبيء قريشا أن زيدا ابنه يرث أحدهما الآخر فرضي أبوه وعمه وانصرفا فأصبح يدعى: زيد بن محمد، وذلك قبل البعثة. وقتل زيد في غزوة مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة.
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}
استئناف اعتراضي بين التمهيد والمقصود من التشريع وهو فذلكة كما تقدم من الجمل الثلاث التي نفت جعلهم ما ليس بواقع واقعا، ولذلك فصلت الجملة لأنها تتنزل منزلة البيان بالتحصيل لما قبلها.
والإشارة إلى مذكور ضمنا من الكلام المتقدم، وهو ما نفي أن يكون الله جعله من وجود قلبين لرجل، ومن كون الزوجة المظاهر منها أما لمن ظاهر منها، ومن كون الأدعياء أبناء للذين تبنوهم. وإذ قد كانت تلك المنفيات الثلاثة ناشئة عن أقوال قالوها صح الإخبار عن الأمور المشار إليها بأنها أقوال باعتبار أن المراد أنها أقوال فحسب ليس لمدلولاتها حقائق خارجية تطابقها كما تطابق النسب الكلامية الصادقة النسب الخارجية، وإلا فلا جدوى في الإخبار عن تلك المقالات بأنها قول بالأفواه.
ولإفادة هذا المعنى قيد بقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} فإنه من المعلوم أن القول إنما هو بالأفواه فكان ذكر {بِأَفْوَاهِكُمْ} مع العلم به مشيرا إلى أنه قول لا تتجاوز دلالته الأفواه إلى الواقع ونفس الأمر فليس له من أنواع الوجود إلا الوجود في اللسان والوجود في الأذهان دون الوجود في العيان، ونظير هذا قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] أي: لا تتجاوز ذلك الحد، أي: لا يتحقق مضمونها في الخارج وهو الإرجاع إلى الدنيا في قول الكافر: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100]، فعلم من تقييده {بِأَفْوَاهِكُمْ} أنه قول كاذب لا يطابق الواقع وزاده تصريحا بقوله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} فأومأ إلى أن قولهم ذلك قول كاذب. ولهذا عطفت عليه جملة {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} لأنه داخل في الفذلكة لما تقدم من قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ} الخ. فمعنى كونها أقوالا: أن ناسا يقولون: جميل له قلبان، وناسا يقولون لأزواجهم:
(21/187)

أنت كظهر أمي، وناسا يقولون للدعي: فلان ابن فلان، يريدون من تبناه.
وانتصب {الْحَقَّ} على أنه صفة لمصدر محذوف مفعول به لـ {يقول} . تقديره: الكلام الحق، لأن فعل القول لا ينصب إلا الجمل أو ما هو في معنى الجملة نحو {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، فالهاء المضاف إليها "قائل" عائدة إلى {كَلِمَةٌ} وهي مفعول أضيف إليها. وفي الإخبار عن اسم الجلالة وضميره بالمسندين الفعليين إفادة قصر القلب، أي: هو يقول الحق لا الذين وضعوا لكم تلك المزاعم، وهو يهدي السبيل لا الذين أضلوا الناس بالأوهام. ولما كان الفعلان متعديين استفيد من قصرهما قصر معموليهما بالقرينة، ثم لما كان قول الله في المواضع الثلاثة هو الحق والسبيل كان كناية عن كون ضده باطلا ومجهلة. فالمعنى: وهم لا يقولون الحق ولا يهدون السبيل.
و {السَّبِيلَ} : الطريق السابلة الواضحة، أي: الواضح أنها مطروقة فهي مأمونة الإبلاغ إلى غاية السائر فيها. وإذا تقرر أن تلك المزاعم الثلاثة لا تعدو أن تكون ألفاظا ساذجة لا تحقق لمدلولاتها في الخارج اقتضى ذلك انتفاء الأمرين اللذين جعلا توطئة وتمهيدا للمقصود وانتفاء الأمر الثالث المقصود وهو التبني، فاشترك التمهيد والمقصود في انتفاء الحقية، وهو أتم في التسوية بين المقصود والتمهيد.
وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه.
[5] {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} .
استئناف بالشروع في المقصود من التشريع لإبطال التبني وتفصيل لما يحق أن يجريه المسلمون في شأنه. وهذا الأمر إيجاب أبطل به ادعاء المتبني متبناه ابنا له. والمراد بالدعاء النسب. والمراد من دعوتهم بآبائهم ترتب آثار ذلك، وهي أنهم أبناء آبائهم لا أبناء من تبناهم.
واللام في {لِآبَائِهِمْ} لام الانتساب، وأصلها لام الاستحقاق. يقال: فلان لفلان، أي: هو ابنه، أي ينتسب له، ومنه قولهم: فلان لرشدة وفلان لغية، أي: نسبه لها،
(21/188)

أي: من نكاح أو من زنا، وقال النابغة:
لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عند حارب
أي: من أبناء صاحبي القبرين. وقال علقمة بن عبد يمدح الملك الحارث:
فلست لأنسي ولكن لملاك ... تنزل من جو السماء يصوب
وفي حديث أبي قتادة: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا أمامة ابنة بنته زينب ولأبي العاص ابن ربيعة" فكانت اللام مغنية عن أن يقول وابنة أبي العاص.
وضمير {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} عائد إلى المصدر المفهوم من فعل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} أي: الدعاء للآباء. وجملة {هُوَ أَقْسَطُ} استئناف بياني كأن سائلا قال: لماذا لا ندعوهم للذين تبنوهم? فأجيب ببيان أن ذلك القسط فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة، أي: هو قسط كامل وغيره جور على الآباء الحق والأدعياء، لأن فيه إضاعة أنسابهم الحق. والغرض من هذا الاستئناف تقرير ما دل عليه قوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] لتعلم عناية الله تعالى بإبطال أحكام الجاهلية في التبني، ولتطمئن نفوس المسلمين من التبنين والأدعياء ومن يتعلق بهم بقبول هذا التشريع الذي يشق عليهم إذ ينزع منهم إلفا ألفوه.
ولهذا المعنى الدقيق فرع عليه قوله: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} ، فجمع فيه تأكيدا للتشريع بعدم التساهل في بقاء ما كانوا عليه بعذر أنهم لا يعلمون آباء بعض الأدعياء، وتأنيسا للناس أن يعتاضوا عن ذلك الانتساب المكذوب اتصالا حقا لا يفوت به ما في الانتساب القديم من الصلة، ويتجافى به عما فيه من المفسدة فصاروا يدعون سالما متبنى أبي حذيفة: سالما مولى أبي حذيفة، وغيره، ولم يشذ عن ذلك إلا قول الناس للمقداد بن عمرو: المقداد بن الأسود، نسبة للأسود بن عبد يغوث الذي كان قد تبناه في الجاهلية كما تقدم.
قال القرطبي: لما نزلت هذه الآية قال المقداد: أن المقداد بن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه ولم يسمع فيمن مضى من عصى مطلق ذلك عليه ولو كان متعمدا ا هـ. وفي قول القرطبي: ولو كان متعمدا، نظر، إذ لا تمكن معرفة تعمد من يطلق ذلك عليه. ولعله جرى على ألسنة الناس المقداد بن الأسود فكان داخلا في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} لأن ما جرى على الألسنة مظنة النسيان، والمؤاخذة بالنسيان مرفوعة.
(21/189)

وارتفاع {إِخْوَانُكُمْ} على الإخبار عن مبتدأ محذوف هو ضمير الأدعياء، أي: فهم لا يعدون أن يوصفوا بالإخوان في الإسلام إن لم يكونوا موالي أو يوصفوا بالموالي إن كانوا موالي بالحلف أو بولاية العتاقة وهذا استقراء تام. والإخبار بأنهم إخوان وموال كناية عن الإرشاد إلى دعوتهم بأحد هذين الوجهين.
والواو للتقسيم وهي بمعنى "أو" فتصلح لمعنى التخيير، أي" فإن لم تعلموا آباءهم فادعوهم إن شئتم بإخوان وإن شئتم ادعوهم موالي إن كانوا كذلك. وهذا توسعة على الناس.
و {فِي} للظرفية المجازية، أي إخوانكم أخوة حاصلة بسبب الدين كما يجمع الظرف محتوياته، أو تجعل {فِي} للتعليل والتسبب، أي: إخوانكم بسبب الإسلام مثل قوله تعالى: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، أي: لأجل الله لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وليس في دعوتهم بوصف الأخوة ريبة أو التباس مثل الدعوة بالبنوة لأن الدعوة بالأخوة في أمثالهم ظاهرة لأن لوصف الأخوة فيهم تأويلا بإرادة الاتصال الديني بخلاف وصف البنوة فإنما هو ولاء وتحالف فالحق أن يدعوا بذلك الوصف، وفي ذلك جبر لخواطر الأدعياء ومن تبنوهم.
والمراد بالولاء في قوله: {وَمَوَالِيكُمْ} ولاء المحالفة لا ولاء العتق، فالمحالفة مثل الأخوة. وهذه الآية ناسخة لما كان جاريا بين المسلمين ومن النبيء صلى الله عليه وسلم من دعوة المتبنين إلى الذين تبنوهم فهو من نسخ السنة الفعلية والتقريرية بالقرآن. وذلك مراد من قال: إن هذه الآية نسخت حكم التبني.
قال في "الكشاف" : "وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يعبئ عن عالم بطرق النظم". وبينه الطيبي فقال: يعني في إخلاء العاطف وإثباته من الجمل من مفتتح السورة إلى هنا. وبيانه: أن الأوامر والنهي في {اتَّقِ} [الأحزاب: 1] {وَلا تُطِعْ} [الأحزاب: 1] {وَاتَّبَعَ} [الأحزاب: 2] {وَتَوَكَّلْ} [الأحزاب: 3]، فإن الاستهلال بقوله: {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] دال على أن الخطاب مشتمل على أمر معني شأنه لائح منه الإلهاب، ومن ثم عطف عليه {وَلا تُطِعْ} كما يعطف الخاص على العام، وأردف به النهي، ثم أمر بالتوكل تشجيعا على مخالفة أعداء الدين، ثم عقب كلا من تلك الأوامر بما يطابقه على سبيل التتميم، وعلل {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً
(21/190)

حَكِيماً} [الأحزاب: 1] تتميما للارتداع، وعلل قوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الأحزاب: 2] تتميما، وذيل قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 3] تقريرا وتوكيدا على منوال: فلان ينطق بالحق والحق أبلج، وفصل قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [الأحزاب: 4] على سبيل الاستئناف تنبيها على بعض من أباطيلهم. وقوله: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] فذلكة لتلك الأحوال آذنت بأنها من البطلان وحقيق بأن يذم قائله. ووصل قوله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في المحمل في {وَلا تُطِعِ} و {اتَّبَعَ} ، وفصل قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ، وقوله: {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6]، وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم ا هـ.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
عطف على جملة {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} لأن الأمر فيها للوجوب فهو نهي عن ضده لتحريمه كأنه قيل: ولا تدعوهم للذين تبنوهم إلا خطأ.
والجناح: الإثم، وهو صريح في أن الأمر في قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} أمر وجوب.
ومعنى {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} ما يجري على الألسنة خارجا مخرج الغالب فيما اعتادوه أن يقولوا: فلان ابن فلان للدعي ومتبنيه، ولذلك قابله بقوله: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: ما تعمدته عقائدكم بالقصد والإرادة إليه. وبهذا تقرر إبطال حكم التبني وأن لا يقول أحد لدعيه: هو ابني، ولا يقول: تبنيت فلانا، ولو قاله أحد لم يكن لقوله أثر ولا يعتبر وصية وإنما يعتبر قول الرجل: أنزلت فلانا منزلة ابن لي يرث ما يرثه ابني. وهذا هو المسمى بالتنزيل وهو خارج مخرج الوصية بمناب وارث إذا حمله ثلث الميت. وأما إذا قال لمن ليس بابنه: هو ابني، على معنى الاستلحاق فيجري على حكمه إن كان المنسوب مجهول النسب ولم يكن الناسب مريدا التطلف والتقريب. وعند أبي حنيفة وأصحابه من قال: هو ابني، وكان أصغر من القائل وكان مجهول النسب سنا ثبت نسبه منه، وإن كان عبده عتق أيضا، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ولكنه يعتق عليه عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه فقالا: لا يعتق عليه. وأم معروف النسب فلا يثبت نسبه بالقائل فإن كان عبدا يعتق عليه لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب فلو قال لعبده: هو أخي، لم
(21/191)

يعتق عليه إذا قال: لم أرد به أخوة النسب لأن ذلك يطلق في أخوة الإسلام بنص الآية وإذا قال أحد لدعيه: يا بني، على وجه التلطف فهو ملحق بالخطأ ولا ينبغي التساهل فيه إذا كانت فيه ريبة.
وقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} يعود ضمير أمره إلى الأدعياء فلا يشمل الأمر دعاء الحفدة أبناء لأنهم أبناء. وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم في الحسن رضي الله عنه: "إن ابني هذا سيد" وقال: "لا تزرموا ابني" - أي: لا تقطعوا عليه بوله -. وكذلك لا يشمل ما يقوله أحد لآخر غير دعي له: يا ابني، تلطفا وتقربا، فليس به بأس لأن المدعو بذلك لم يكن دعيا للقائل ولم يزل الناس يدعون لداتهم بالأخ أو الأخت، قال الشاعر:
أنت أختي وأنت حرمة جاري ... وحرام علي خون الجوار
ويدعون من هو أكبر باسم العم كثيرا، قال النمر بن تولب:
دعاني الغواني عمهن وخلتني ... لي اسم فلا أدعى به وهو أول
يريد أنهن كن يدعونه: يا أخي.
ووقوع {جُنَاحَ} في سياق النفي بـ {لَيْسَ} يقتضي العموم فيفيد تعميم انتفاء الإثم عن العمل الخطأ بناء على قاعدة عدم تخصيص العام بخصوص سببه الذي ورد لأجله وهو أيضا معضود بتصرفات كثيرة في الشريعة، منها قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه" .
ويفهم من قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} النهي عن أن ينسب أحد إلى غير أبيه بطريق لحن الخطاب. وفي الحديث: "من انتسب إلى غير أبيه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" .
ويخرج من النهي قول الرجل لآخر: أنت أبي وأنا ابنك على قصد التعظيم والتقريب وذلك عند انتفاء اللبس، كقول أبي الطيب يرقق سيف الدولة:
إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد
وجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 24] تعليل نفي الجناح عن الخطأ بأن نفي الجناح من آثار اتصاف الله تعالى بالمغفرة والرحمة بخلقه.
(21/192)

[6] {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً}.
{النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
استئناف بياني أن قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] وقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] كان قد شمل في أول ما شمله إبطال بنوة زيد بن حارثة للنبيء صلى الله عليه وسلم فكان بحيث يثير سؤالا في نفوس الناس عن مدى صلة المؤمنين بنبيئهم صلى الله عليه وسلم وهل هي وعلقة الأجانب من المؤمنين بعضهم ببعض سواء فلأجل تعليم المؤمنين حقوق النبيء وحرمته جاءت هذه الآية مبينة أن النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم. والمعنى: أنه أولى بكل مؤمن من أنفس المؤمنين. و {مِنْ} تفضيلية.
ثم الظاهر أن الأنفس مراد بها جمع النفس وهي اللطيفة الإنسانية كقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116]، وأن الجمع للتوزيع على كل مؤمن آيل إلى كل فرد من الأنفس، أي أن النبيء أولى بكل مؤمن من نفس ذلك المؤمن، أي: هو أشد ولاية، أي قربا لكل مؤمن من قرب نفسه إليه، وهو قرب معنوي يراد به آثار القرب من محبة ونصرة. فـ {أَوْلَى} اسم تفضيل من الولي وهو القرب، أي: أشد قربا. وهذا الاسم يتضمن معنى الأحقية بالشيء فيتعلق به متعلقه بباء المصاحبة والملابسة. والكلام على تقدير مضاف، أي أولى بمنافع المؤمنين أو بمصالح المؤمنين، فهذا المضاف حذف لقصد تعميم كل شأن من شؤون المؤمنين الصالحة.
والأنفس: الذوات، أي هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم. ومن هذا المعنى ما في الحديث الصحيح من قول عمر بن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم: "لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي" فقال له النبيء صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه. فقال: عمر والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي" .
ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس. والمعنى: أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض، أي من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى:
(21/193)

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85]، أي: يقتل بعضكم بعضا وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29].
والوجه الأول أقوى وأعم في اعتبار حرمة النبيء صلى الله عليه وسلم وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب. وأما الاحتمال الثاني فإنه لا يفيد أنه أولى بكل مؤمن بنفس ذلك المؤمن إلا بدلالة قياس الأدون، ولذلك استثنى عمر ابن الخطاب بادئ الأمر نفسه فقال: لأنت أحب إلي إلا من نفسي التي بين جنبي. وعلى كلا الوجهين فالنبيء عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من آبائهم وأبنائهم، وعلى الاحتمال الأول أولى بكل مؤمن من نفسه. وسننبه عليه عند قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فكانت ولاية النبيء صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بعد إبطال التبني سواء على جميع المؤمنين.
وفي الحديث: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} " ، ولما علمت من أن هذه الولاية راجعة إلى حرمته وكرامته تعلم أنها لا تتعدى ذلك فيما هو من تصرفات الناس وحقوق بعضهم من بعض، مثل ميراث الميت من المسلمين فإن ميراثه لورثته، وقد بينه قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه ورثته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه" . وهذا ملاك معنى هذه الآية.
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}
عطف على حقوق النبيء صلى الله عليه وسلم حقوق أزواجه على المسلمين لمناسبة جريان ذكر حق النبيء عليه الصلاة والسلام فجعل الله لهن ما للأمهات من تحريم التزوج بهن بقرينة ما تقدم من قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4].
وأما ما عدا حكم التزوج من وجوه البر بهن ومواساتهن فذلك راجع إلى تعظيم أسباب النبيء صلى الله عليه وسلم وحرماته ولم يزل أصحاب النبيء والخلفاء الراشدون يتوخون حسن معاملة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم ويؤثرونهن بالخير والكرامة والتعظيم. وقال ابن عباس عند حمل جنازة ميمومة: "هذه زوج نبيكم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وارفقوا" رواه مسلم. وكذلك ما عدا حكم الزواج من وجوه المعاملة غير ما يرجع إلى التعظيم ولهذه النكتة جيء بالتشبيه البليغ للمبالغة في شبههن بالأمهات للمؤمنين مثل الإرث وتزوج بناتهن، فلا يحسب أن تركاتهن يرثها جميع المسلمين، ولا أن بناتهن أخوات للمسلمين في حرمة التزوج بهن.
(21/194)

وأما إطلاق وصف خال المؤمنين على الخليفة معاوية لأنه أخو أم حبيبة أم المؤمنين فذلك من قبيل التعظيم كما يقال: بنو فلان أخوال فلان، إذا كانوا قبيلة أمه.
والمراد بأزواجه اللآئي تزوجهن بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبيء صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي: أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين? فقالوا: ننظر، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين.
ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبيء صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجونية وهي أسماء بنت النعمان الكندية، وذكر ابن العربي أن امرأة كان عقد عليها النبيء صلى الله عليه وسلم تزوجت في خلافة عمر فهم عمر برجمها. فقالت: لم وما ضرب علي النبيء حجابا ولا دعيت أم المؤمنين. فكف عنها. وهذه المرأة هي ابنة الجون الكندية تزوجها الأشعث بن قيس. وهذا هو الأصح وهو مقتضى مذهب مالك وصححه إمام الحرمين والرافعي من الشافعية. وعن مقاتل: يحرم تزوج كل امرأة عقد عليها النبيء صلى الله عليه وسلم ولو لم يبن بها. وهو قول الشافعي وصححه في "الروضة" ، واللآء طلقهن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد البناء بهن فاختلف فيهن على قولين، قيل: تثبت حرمة التزوج بهن حفظا لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا يثبت لهن ذلك، والأول أرجح. وقد أكد حكم أمومة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، وبتحريم تزوج إحداهن على المؤمنين بقوله [تعالى]: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53]. وسيجيء بيان ذلك عند ذكر هاتين الآيتين في أواخر هذه السورة.
وروي أن ابن مسعود قرأ بعدها: وهو أب لهم. وروي مثله عن أبي بن كعب وعن ابن عباس. وروي عن عكرمة: كان في الحرف الأول "وهو أبوهم".
ومحملها أنها تفسير وإيضاح وإلا فقد أفاد قوله تعالى: {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أكثر من مفاد هذه القراءة.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} .
(21/195)

أعقب نسخ أحكام التبني التي منها ميراث المتبني من تبناه والعكس بإبطال نظيره وهو المواخاة التي كانت بين رجال من المهاجرين مع رجال من الأنصار وذلك أن النبيء صلى الله عليه وسلم لما نزل بالمدينة مع من هاجر معه، جعل لكل رجل من المهاجرين رجلا أخا له من الأنصار فآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد، وبين الزبير وكعب بن مالك، وبين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع، وبين سلمان وأبي الدرداء، وبين عثمان بن مظعون وأبي قتادة الأنصاري؛ فتوارث المتآخون منهم بتلك المؤاخاة زمانا كما يرث الإخوة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، كما نسخ التوارث بالتبني بآية {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فبينت هذه الآية أن القرابة هي سبب الإرث إلا الانتساب الجعلي.
فالمراد بأولي الأرحام: الإخوة الحقيقيون. وعبر عنهم بأولي الأرحام لأن الشقيق مقدم على الأخ للأب في الميراث وهم الغالب، فبينت الآية أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث من ولاية المتآخين المهاجرين والأنصار فعم هذا جميع أولي الأرحام وخصص بقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} على أحد وجهين في الآيتين في معنى {مِنَ} . وهو بمنزلة العام الوارد على سبب خاص وهو مطلق في الأولوية والمطلق من قبيل المجمل، وإذ لم يكن معه بيان فمحمل إطلاقه محمل العموم، لأن الأولوية حال من أحوال أولي الأرحام وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، فالمعنى: أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في جميع الولايات إلا ما خصصه أو قيده الدليل.
والآية مبينة في أن القرابة الحقيقية أرجح من الأخوة الجعلية، وهي مجملة في تفصيل ذلك فيما بين أولي الأرحام، وذلك مفصل في الكتاب والسنة في أحكام المواريث. وتقدم الكلام على لفظ {أُولُو} عند قوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} في سورة البقرة [197].
ومعنى {فِي كِتَابِ اللَّهِ} فيما كتبه، أي فرضه وحكم به. ويجوز أن يراد به القرآن إشارة إلى ما تضمنته آية المواريث، وقد تقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الأنفال. وتقدم الكلام في توريث ذوي الأرحام إن لم يكن للميت وارث معلوم سهمه.
و {أُولُو الْأَرْحَامِ} مبتدأ، و {بَعْضُهُمْ} مبتدأ ثان و {أَوْلَى} خبر الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول، و {فِي كِتَابِ اللَّهِ} متعلق بـ {أولى} .
وقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} يجوز أن يتعلق باسم التفضيل وهو {أَوْلَى} فتكون {مِنْ} تفضيلية. والمعنى: أولوا الأرحام أولى بإرث ذوي أرحامهم من إرث
(21/196)

أصحاب ولاية الإيمان والهجرة بتلك الولاية، أي الولاية التي بين الأنصار والمهاجرين. وأريد بالمؤمنين خصوص الأنصار بقرينة مقابلته بعطف {وَالْمُهَاجِرِينَ} على معنى أصحاب الإيمان الكامل تنويها بإيمان الأنصار لأنهم سبقوا بإيمانهم قبل كثير من المهاجرين الذين آمنوا بعدهم فإن الأنصار آمنوا دفعة واحدة لما أبلغهم نقباؤهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إياهم بعد بيعة العقبة الثانية. قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] أي: من قبل كثير من فقراء المهاجرين عدا الذين سبق إيمانهم. فالمعنى: كل ذي رحم أولى بإرث قريبه من أن يرثه أنصاري إن كان الميت مهاجرا، أو أن يرثه مهاجر إن كان الميت من الأنصار، فيكون هذا ناسخا للتوارث بالهجرة الذي شرع بآية الأنفال [72] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ، فتوارث المسلمون بالهجرة فكان الأعرابي المسلم لا يرث قريبه المهاجر، ثم نسخ بآية هذه السورة.
ويجوز أن يكون قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ظرفا مستقرا في موضع الصفة، أي: وأولوا الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين، بعضهم أولى ببعض، أي: لا يرث ذو الرحم ذا رحمة إلا إذا كانا مؤمنين ومهاجرين، فتكون الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة الذي شرع عند قدوم المهاجرين إلى المدينة، فلما نزلت هذه الآية رجعوا إلى مواريثهم فبينت هذه الآية أن القرابة أولى من الحلف والمواخاة، وأيا ما كان فإن آيات المواريث نسخت هذا كله. ويجوز أن تكون {مِنَ} بيانية، أي: وأولوا الأرحام المؤمنون والمهاجرون، أي: فلا يرث أولوا الأرحام الكافرون ولا يرث من لم يهاجر من المؤمنين لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [لأنفال: 73] ثم قال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72].
والاستثناء بقوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} منقطع، و {إِلَّا} بمعنى "لكن" لأن ما بعد {إِلَّا} ليس من جنس ما قبلها فإن الأولوية التي أثبتت لأولي الأرحام أولوية خاصة وهي أولوية الميراث بدلالة السياق دون أولوية حسن المعاشرة وبذل المعروف. وهذا استدراك على ما قد يتوهم من قطع الانتفاع بأموال الأولياء عن أصحاب الولاية بالإخاء والحلف فبين أن الذي أبطل ونسخ هو انتفاع الإرث وبقي حكم المواساة وإسداء المعروف بمثل الإنفاق والإهداء والإيصاء.
وجملة {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} تذييل لهذه الأحكام وخاتمة لها مؤذنة بانتهاء الغرض من الأحكام التي شرعت من قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] إلى هنا،
(21/197)

فالإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى المذكور من الأحكام المشروعة فكان هذا التذييل أعم مما اقتضاه قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . وبهذا الاعتبار لم يكن تكريرا له ولكنه يتضمنه ويتضمن غيره فيفيد تقريره وتوكيده تبعا وهذا شأن التذييلات.
والتعريف في {الكِتَابِ} للعهد، أي كتاب الله، أي: ما كتبه على الناس وفرضه كقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عليكم} [النساء: 24]، فاستعير الكتاب للتشريع بجامع ثبوته وضبطه التغيير والتناسي، كما قال الحارث بين حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينـ ـقض ما في المهارق الأهواء
ومعنى ها مثل قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} في سورة الأنفال [75]. فالكتاب: استعارة مكنية وحرف الظرفية ترسيخ للاستعارة.
والمسطور: المكتوب في سطور، وهو ترشيح أيضا للاستعارة وفيه تخييل للمكنية.
وفعل {كَانَ} في قوله: {كَانَ ذَلِكَ} لتقوية ثبوته في الكتاب مسطورا، لأن {كَانَ} إذا لم يقصد بها أن اسمها اتصف بخبرها في الزمن الماضي كانت للتأكيد غالبا مثل {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 4] أي: لم يزل كذلك.
[7، 8] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيءينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً [7] لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً}
عطف على قوله: {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} إلى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 1- 3] فلذلك تضمن الأمر بإقامة الدين على ما أراده اله تعالى وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى نبذ سنن الكافرين الصرحاء والمنافقين من أحكام الهوى والأوهام.
فلما ذكر ذلك وعقب بمثل ثلاثة من أحكام جاهليتهم الضالة بما طال من الكلام إلى هنا ثني عنان الكلام إلى الإعلام بأن الذي أمره الله به هو من عهود أخذها الله على النبيءين والمرسلين من أول عهود الشرائع. وتربط هذا الكلام بالكلام الذي عطف هو عليه مناسبة قوله: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [الأحزاب: 6]. وبهذا الارتباط بين الكلامين لم يحتج إلى بيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيءئين، فعلم أن المعنى: وإذ أخذنا
(21/198)

من النبيءين ميثاقهم بتقوى الله وبنبذ طاعة الكافرين والمنافقين وباتباع ما أوحى الله به. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1] {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} . فلما أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على تقوى الله وبالإعراض عن دعوى الكافرين والمنافقين. أعلم بأن ذلك شأن النبيءين من قبله، ولذلك عطف قوله: {وَمِنْكَ} عقب ذكر النبيءين تنبيها على أن شأن الرسل واحد وأن سنة الله فيهم متحدة، فهذه الآية لها معنى التذييل لآية {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1] الآيات الثلاث ولكنها جاءت معطوفة بالواو لبعد ما بينها وما بين الآيات الثلاث المتقدمة.
وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيءينَ مِيثَاقَهُمْ} الآيتين لهما موقع المقدمة لقصة الأحزاب لأن مما أخذ الله عليه ميثاق النبيءين أن ينصروا الدين الذي يرسله الله به، وأن ينصروا دين الإسلام، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيءينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] فمحمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالنصرة لدينه بمن معه من المسلمين لقوله في هذه الآية: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} . وقال في الآية الآتية في الثناء على المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 24] الآية.
وقد جاء قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيءينَ مِيثَاقَهُمْ} جاريا على أسلوب ابتداء كثير من قصص القرآن في افتتاحها بـ {إِذْ} على إضمار "اذكر". و {إِذْ} اسم للزمان مجرد عن معنى الظرفية. فالتقدير: واذكر وقتا، وبإضافة {إِذْ} إلى الجملة بعده يكون المعنى: اذكر وقت أخذنا ميثاقا على النبيءين. وهذا الميثاق مجمل هنا بينته آيات كثيرة. وجماعها أن يقولوا الحق ويبلغوا ما أمروا به دون ملاينة للكافرين والمنافقين، ولا خشية منهم، ولا مجاراة للأهواء، ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلالهم. وأن الله واثقهم ووعدهم على ذلك بالنصر. ولما احتوت عليه هذه السورة من الأغراض مزيد التأثر بهذا الميثاق بالنسبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وشديد المشابهة بما أخذ من المواثيق على الرسل من قبله. ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى هنا: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] وقوله في ميثاق أهل الكتاب {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} في سورة الأعراف [169].
وفي تعقيب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقوى ومخالفة الكافرين والمنافقين والتثبيت على اتباع ما يوحي إليه، وأمره بالتوكل على الله، وجعلها قبل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ
(21/199)

اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] الخ... إشارة إلى أن ذلك التأييد الذي أيد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه إذ رد عنهم أحزاب الكفار والمنافقين بغيظهم لم ينالوا خيرا ما هو إلا أثر من آثار الميثاق الذي أخذه الله على رسوله حين بعثه.
والميثاق: اسم العهد وتحقيق الوعد، وهو مشتق من وثق، إذا أيقن وتحقق، فهو منقول من اسم آلة مجازا غلب على المصدر، وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} في سورة البقرة [27]. وإضافة ميثاق إلى ضمير النبيءين من إضافة المصدر إلى فاعله على معنى اختصاص الميثاق بهم فيما ألزموا به وما وعدهم الله على الوفاء به. ويضاف أيضا إلى ضمير الجلالة في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة: 7].
وقوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الخ هو من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام بهم فإن هؤلاء المذكورين أفضل الرسل، وقد ذكر ضمير محمد صلى الله عليه وسلم قبلهم إيماء إلى تفضيله على جميعهم، ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود. ولهذه النكتة خص ضمير النبيء بإدخال حرف "من" عليه بخصوصه، ثم أدخل حرف "من" على مجموع الباقين فكان قد خص باهتمامين: اهتمام التقديم، واهتمام إظهار اقتران الابتداء بضمير بخصوصه غير مندمج في بقيتهم عليهم السلام.
وسيجيء أن ما في سورة الشورى [13] من تقديم {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} على {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13]طريق آخر هو آثر بالغرض الذي في تلك السورة من قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} الآية [الشورى: 13].
وجملة {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} أعادت مضمون جملة {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيءينَ مِيثَاقَهُمْ} لزيادة تأكيدها، وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ، أي: عظيما جليل الشأن في جنسه فإن كل ميثاق له عظم فلما وصف هذا بـ {غَلِيظاً} أفاد أن له عظما خاصا، وليعلق به لام التعليل من قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} .
وحقيقة الغليظ: القوي المتين الخلق، قال تعالى: {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]. واستعير الغليظ للعظيم الرفيع في جنسه لأن الغليظ من كل صنف هو أمكنه في صفات جنسه.
(21/200)

واللام في قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} لام كي، أي: أخذنا منهم ميثاقا غليظا لنعظم جزاء للذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ولنشدد العذاب جزاء للذين يكفرون بما جاءتهم به رسل الله، فيكون من دواعي ذكر هذا الميثاق هنا أنه توطئة لذكر جزاء الصادقين وعذاب الكافرين زيادة على ما ذكرنا من دواعي ذلك آنفا. وهذه علة من علل أخذ الميثاق من النبيءين وهي آخر العلل حصولا فأشعر ذكرها بأن لهذا الميثاق عللا تحصل قبل أن يسأل الصادقون عن صدقهم، وهي ما في الأعمال المأخوذ ميثاقهم عليها من جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك هو ما يسأل العاملون عن عمله من خير وشر.
وضمير {يَسْأَلَ} عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة.
والمراد بالصادقين أمم الأنبياء الذين بلغهم ما أخذ على أنبيائهم من الميثاق، ويقابلهم الكافرون الذين كذبوا أنبياءهم أو الذين صدقوهم ثم نقضوا الميثاق من بعد، فيشملهم اسم الكافرين.
والسؤال: كناية عن المؤاخذة لأنها من ثواب جواب السؤال أعني إسداد الثواب للصادقين وعذاب الكافرين، وهذا نظير قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، أي: لا يتعقب أحد فعله ولا يؤاخذه على ما لا يلائمه، وقول كعب بن زهير:
وقيل: إنك منسوب ومسؤول
وجملة {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} عطف على جملة {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} وغير فيها الأسلوب للدلالة على تحقيق عذاب الكافرين حتى لا يتوهم أنهم يسألون سؤال من يسمع جوابهم أو معذرتهم، ولإفادة أن إعداد عذابهم أمر مضى وتقرر في علم الله.
[9] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.
ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حف بآيات وعبر من ابتدائه ومن عواقبه تعليما للمؤمنين وتذكيرا ليزيدهم يقينا وتبصيرا. فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقاء به، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفه لهم وتحقيرا لعدوهم ومن يكيد لهم، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديدا للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
واختيرت للتذكير بهذا اليوم مناسبة الأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لأن من
(21/201)

النعم التي حفت بالمؤمنين في يوم الأحزاب أن الله رد كيد الكافرين والمنافقين فذكر المؤمنون بسابق كيد المنافقين في تلك الأزمة ليحذروا مكائدهم وأراجيفهم في قضية التبني وتزوج النبيء صلى الله عليه وسلم مطلقة متبناه، ولذلك خص المنافقون بقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 12] الآيات؛ على أن قضية إبطال التبني وإباحة تزوج مطلق الأدعياء كان بقرب وقعة الأحزاب.
و {إِذْ} ظرف للزمن الماضي متعلق بـ {نِعْمَةَ} لما فيها من معنى الإنعام، أي: اذكروا ما أنعم الله به عليكم زمان جاءتكم جنود فهزمهم الله بجنود لو تروها.
وهذه الآية وما بعدها تشير إلى ما جرى من عظيم صنع الله بالمؤمنين في غزوة الأحزاب فلنأت على خلاصة ما ذكره أهل السير والتفسير ليكون منه بيان لمطاوي هذه الآيات.
وكان سبب هذه الغزوة أن قريشا بعد وقعة أحد تهادنوا مع المسلمين لمدة عام على أن يلتقوا ببدر من العام القابل فلم يقع قتال ببدر لتخلف أبي سفيان عن الميعاد، فلم يناوش أحد الفريقين الفريق الآخر إلا ما كان من حادثة غدر المشركين بالمسلمين وهي حادثة بئر معونة حين غدرت قبائل عصية، ورعل، وذكوان من بني سليم بأربعين من المسلمين إذ سأل عامر بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجههم إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام. وكان ذلك كيدا كاده عامر بن مالك وذلك بعد أربعة أشهر من انقضاء غزوة أحد.
فلما أجلى النبيء صلى الله عليه وسلم بني النضير لما ظهر من غدرهم به وخيسهم بالعهد الذي لهم مع المسلمين، هنالك اغتاظ كبراء يهود قريظة بعد الجلاء وبعد أن نزلوا بديار بني قريظة وبخيبر فخرج سلام بن أبي الحقيق - بتشديد لام سلام وضم حاء الحقيق وفتح قافه - وكنانة بن بيأبيأبأبي الحقيق، وحيي بن أخطب - بضم حاء حيي وفتح همزة وطاء أخطب - وغيرهم في نفر من بني النضير فقدموا على قريش لذلك وتآمروا مع غطفان على أن يغزوا المدينة فخرجت قريش وأحابيشها وبنو كنانة في عشرة آلاف وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان في ألف قائدهم عيينة بن حصن، وخرجت معهم هوازن وقائدهم عامر بن الطفيل.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمهم على منازلة المدينة أبلغته إياه خزاعة وخاف المسلمون كثرة عدوهم، وأشار سلمان الفارسي أن يحفر خندق يحيط بالمدينة تحصينا لها من دخول العدو فاحتفره المسلمون والنبيء صلى الله عليه وسلم معهم يحفر وينقل التراب، وكانت غزوة الخندق سنة أربع في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك. وقال ابن إسحاق: سنة خمس. وهو الذي اشتهر عند الناس وجرى عليه ابن رشد في "جامع البيان والتحصيل" اتباعا لما اشتهر، وقول مالك أصح.
(21/202)

وعندما تم حفر الخندق أقبلت جنود المشركين وتسموا بالأحزاب لأنهم عدة قبائل تحزبوا، أي: صاروا حزبا واحدا، وانضم إليهم بنو قريظة فكان ورود قريش من أسفل الوادي من جهة المغرب، وورود غطفان وهوازن من أعلى الوادي من جهة المشرق، فنزل جيش قريش بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة - بزاي معجمة مضمومة وغين معجمة وبعضهم يرويه بالعين المهملة - وبعضهم يقول: والغابة، والتحقيق هو الأول كما في "الروض الأنف" ونزل جيش غطفان وهوازن بذنب نقمى إلى جانب أحد، وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف، وخرج المسلمون إلى خارج المدينة فعسكروا تحت جبل سلع وجعلوا ظهورهم إلى الجبل والخندق بينهم وبين العدو، وجعل المسلمون نساءهم وذراريهم في آطام المدينة. وأمر النبيء صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ودام الحال كذلك بضعا وعشرين ليلة لم تكن بينهم فيها حرب إلا مصارعة بين ثلاثة فرسان اقتحموا الخندق من جهة ضيقة على أفراسهم فتقاتلوا في السبخة بين الخندق وسلع وقتل أحدهم قتله علي بن أبي طالب وفر صاحباه، وأصاب سهم غرب سعد بن معاذ في أكحله فكان منه موته في المدينة. ولحقت المسلمين شدة من الحصار وخوف من كثرة جيش عدوهم حتى هم النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يصالح الأحزاب على أن يعطيهم نصف ثمر المدينة في عامهم ذلك يأخذونه عند طيبه وكاد أن يكتب معهم كتابا في ذلك، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معاذ: قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عزم عليه.
وأرسل الله على جيش المشركين ريحا شديدة فأزالت خيامهم وأكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم، واختل أمرهم، وهلك كراعهم وخفهم، وحدث تخاذل بينهم وبين قريظة وظنت قريش أن قريظة صالحت المسلمين وأنهم ينضمون إلى المسلمين على قتال الأحزاب، فرأى أهل الأحزاب الرأي في أن يرتحلوا فارتحلوا عن المدينة وانصرف جيش المسلمين راجعا إلى المدينة.
فقوله تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} ذكر توطيئة لقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} الخ لأن ذلك هو محل المنة. والريح المذكورة هنا هي ريح الصبا وكانت باردة وقلعت الأوتاد والإطناب وسفت التراب في عيونهم وماجت الخيل بعضها في بعض وهلك كثير من خيلهم وإبلهم وشائهم. وفيها قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" .
والجنود التي لم يروها هي جنود الملائكة الذين أرسلوا الريح وألقوا التخاذل بين
(21/203)

الأحزاب وكانوا وسيلة إلقاء الرعب في نفوسهم.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} في موقع الحال من اسم الجلالة في قوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ} ، وهي إيماء إلى أن الله نصرهم على أعدائهم لأنه عليم بما لقيه المسلمون من المشقة والمصابرة في حفر الخندق والخروج من ديارهم إلى معسكرهم خارج المدينة وبذلهم النفوس في نصر دين الله فجازاهم الله بالنصر المبين كما قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40].
وقرأ الجمهور {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة ومحملها على الالتفات.
والجنود الأول جمع جند، وهو الجمع المتحد المتناصر ولذلك غلب على الجمع المجتمع لأجل القتال فشاع الجند بمعنى الجيش. وذكر جنود هنا بلفظ الجمع مع أن مفرده مؤذن بالجماعة مثل قوله تعالى: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11] فجمعه هنا لأنهم كانوا متجمعين من عدة قبائل لكل قبيلة جيش خرجوا متساندين لغزو المسلمين في المدينة، ونظيره قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} في سورة البقرة [249].
والجنود الثاني جمع جند بمعنى الجماعة من صنف واحد. والمراد بهم ملائكة أرسلوا لنصر المؤمنين وإلقاء الرعب والخوف في قلوب المشركين.
[10، 11] {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}
{إِذْ جَاءُوكُمْ} بدل من {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] بدل مفصل من مجمل. والمراد بـ"فوق" و {أَسْفَلَ} فوق جهة المدينة وأسفلها.
و {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} عطف على البدل وهو من جملة التفصيل، والتعريف في {الْأَبْصَارُ} و {الْقُلُوبُ} و {الْحَنَاجِرَ} للعهد، أي: أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم، أو تجعل اللام فيها عوضا عن المضافات إليها، أي زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم.
والزيغ: الميل عن الاستواء إلى الانحراف. فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار.
و {الْحَنَاجِرَ} : جمع حنجرة - بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم -: منتهى الحلقوم وهي رأس الغلصمة. وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من
(21/204)

الفزغ والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجازوها من الضيق؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعود بهيئة قلب تجاوز موضعه وذهب متصاعدا طالبا الخروج، فالمشبه القلب نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين. وليس الكلام على الحقيقة فإن القلوب لا تتجاوز مكانها، وقريب منه قولهم: تنفس الصعداء، وبلغت الروح التراقي.
وجملة {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} يجوز أن تكون عطفا على جملة {زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} ، ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء.
وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لما رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها.
والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره، ويخشى أن يكون النصر مرجأ إلى زمن آخر، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به.
وحذف مفعولا {تَظُنُّونَ} بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم، ويسمى هذا الحرف عند النحاة الحذف اقتصارا، أي: للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن، وهو حذف مستعمل كثيرا في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم: 35} وقوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12]، وقول المثل: من يسمع يخل، ومنعه سيبويه والأخفش.
وضمن {تَظُنُّونَ} معنى تلحقون فعدي بالباء فالباء للملابسة. قال سيبويه: قولهم: ظننت به، معناه: جعلته موضع ظني. وليست الباء هنا بمنزلتها في {كَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء: 6]، أي: ليست زائدة، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت: ظننت في الدار، ومثله: شككت فيه، أي: فالباء عنده بمعنى "في". والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصمة:
فقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في سورة الصافات [87].
(21/205)

وانتصب {الظُّنُونَا} على المفعول المطلق المبين للعدد، وهو جمع ظن. وتعريفه باللام تعريف الجنس، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة:
أبيتك عاريا خلقا ثيابي ... على خوف تظن بي الظنون
وكتب {الظُّنُونَا} في الإمام بعد النون، زيدت هذه الألف في النطق للرعاية على الفواصل في الوقوف، لأن الفواصل مثل الأسجاع تعتبر موقوفا عليها لأن المتكلم أرادها كذلك. فهذه السورة بنيت على فاصلة الألف مثل القصائد المقصورة، كما زيدت الألف في قوله تعالى: {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66] وقوله: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67].
وعن أبي علي في "الحجة" : من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورؤوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع، فأما من طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رؤوس الآي بقواف.
فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف. وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل. وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن. وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي.
والإشارة بـ {هُنَالِكَ} إلى المكان الذي تضمنته قوله: {جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] وقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} . والأظهر أن تكون الإشارة إلى الزمان الذي دلت عليه {إِذْ} في قوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} . وكثيرا ما ينزل أحد الظرفين منزلة الآخر ولهذا قال ابن عطية: {هُنَالِكَ} : ظرف زمان والعامل فيه {ابْتُلِيَ} اهـ. قلت: ومنه دخول "لات" على "هنا" في قول حجل بن نضلة:
خنت نوار ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أجنت
فإن "لات" خاصة بنفي أسماء الزمان فكان "هنا" إشارة إلى زمان منكر وهو لغة في "هنا". ويقولون: يوم هنا، أي يوم أول، فيشيرون إلى زمن قريب، وأصل ذلك مجاز توسع فيه وشاع.
والابتلاء: أصله الاختبار، ويطلق كناية عن إصابة الشدة لأن اختبار حال الثبات والصبر لازم لها، وسمى الله ما أصاب المؤمنين ابتلاء إشارة إلى أنه لم يزعزع إيمانهم.
والزلزال: اضطراب الأرض، وهو مضاعف زل تضعيفا يفيد المبالغة، وهو هنا
(21/206)

استعارة لاختلال الحال اختلالا شديدا بحيث تخيل مضطربة اضطرابا شديدا كاضطراب الأرض وهو أشد اضطرابا للحاقه أعظم جسم في هذا العالم. ويقال: زلزل فلان، مبنيا للمجهول تبعا لقولهم: زلزلت الأرض، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عرفا. وهذا هو غالب استعماله قال تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} الآية [البقرة: 214].
والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقهم عددا وعدة.
[12، 13] {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [12] وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النبيء يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً [13]}.
عطف على {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} [الأحزاب: 10] فإن ذلك كله مما ألحق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين، ليحذروا المنافقين فيما بحدث من بعد، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشده يوم الأحزاب.
وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه علنا بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الخ... أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغر عباده، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبة الوعد إلى الله ورسوله تهكما كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].
والغرور: ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب، وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في سورة آل عمران [196]، وقوله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في سورة الأنعام [112]. والمعنى: أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلا فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يرو أنهم وعدوا فيها بنصر. و {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمموا عليه.
والمراد بالطائفة الذين قالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} عبد الله ابن أبي بن سلول وأصحابه. كذا قال السدي. وقال الأكثر: هو أوس بن قيظي أحد بني حارثة،
(21/207)

وهو والد عرابة بن أوس الممدوح بقول الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
في جماعة من منافقي قومه. والظاهر هو ما قاله السدي لأن عبد الله ابن أبي رأس المنافقين، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلهم.
وقوله: {لا مُقَامَ لَكُمْ} قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام، أي: الوجود. وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم، أي: محل الإقامة، والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم، أي لا فائدة لكم في ذلك، وهو يروم تخزيل الناس كما فعل يوم أحد.
و {يَثْرِبَ} : اسم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أبو عبيدة يثرب: اسم أرض والمدينة في ناحية منها، أي: اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل واللمدينة في تلك الأرض سميت باسم يثرب من العمالقة، وهو يثرب من قانية الحفيد الخامس لإرم بن سام ابن نوح. وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبيء صلى الله عليه وسلم نهى عن تسميتها يثرب وسماها طابة.
وفي قوله: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ} محسن بديعي، وهو الاتزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عروضه الثانية المخبولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فعلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فعلن.
والمراد بقوله: {فَرِيقٌ مِنْهُمُ} جماعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وليسوا فريقا من الطائفة المذكورة آنفا، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي وجمع من عشيرته بني حارثة وكان بنو حارثة أكثرهم مسلمين وفيهم منافقون، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة، أي: غير حصينة.
وجملة {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ} عطف على جملة {قَالَتْ طَائِفَةٌ} ، وجيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلحون في الاستئذان ويكررونه ويجددونه.
والعورة: الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي، قال لبيد:
وأجن عورات الثغور ظلامها
والاستئذان: طلب الإذن وهؤلاء راموا الانخزال واستحيوا. ولم يذكر المفسرون أن النبيء صلى الله عليه وسلم أذن لهم. وذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه. وهذا يقتضي أنه لم يأذن لهم وإلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم، وأيضا فإن في الفعل المضارع من قوله
(21/208)

{يَسْتَأْذِنُ} إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستعلم ذلك، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سلمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أحد. وفي الحديث: أن بني سلمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبيء صلى الله عليه وسلم: "يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم" أي خطاكم. فهذا الفريق منهم يعتلون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها.
والتأكيد بحرف {إِنَّ} في قولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} تمويه لإظهار قولهم {بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} في صورة الصدق. ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبيء صلى الله عليه وسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر.
وجملة {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} إلى قوله: {مَسْئُولاً} [الأحزاب: 15] معترضة بين جملة {يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ} الخ وجملة {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ} [الأحزاب: 16]. فقوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها. ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد.
[14] {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً}
موقع هذه الآية زيادة تقرير لمضمون جملة {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب: 13] فإنها لتكذيبهم في إظهارهم التخوف على بيوتهم، ومرادهم خذل المسلمين. ولم أجد فيما رأيت من كلام المفسرين ولا من أهل اللغة من أفصح عن معنى "الدخول" في مثل هذه الآية وما ذكروا إلا معنى الولوج إلى المكان مثل ولوج البيوت أو المدن، وهو الحقيقة. والذي أراه أن الدخول كثر إطلاقه على دخول خاص وهو إقتحام الجيش أو المغيرين أرضا أو بلدا لغزو أهله قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} إلى قوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]، وأنه يعدى غالبا إلى المغزوين بحرف على. ومنه قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} إلى قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] فإنه ما يصلح إلا معنى دخول القتال والحرب لقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} لظهور أنه لا يراد: إذا دخلتم دخول ضيافة أو تجول أو تجسس،فيفهم من الدخول في مثل هذا المقام معنى الغزو والفتح كما
(21/209)

نقول: عام دخول التتار بغداد، ولذلك فالدخول في قوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} هو دخول الغزو فيتعين أن يكون ضمير {دُخِلَتْ} عائدا إلى مدينة يثرب لا إلى البيوت من قولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13]. والمعنى: لو غزيت المدينة من جوانبها الخ...
وقوله: {عَلَيْهِمْ} يتعلق بـ {دُخِلَتْ} لأن بناء {دُخِلَتْ} للنائب مقتض فاعلا محذوفا. فالمراد: دخول الداخلين على أهل المدينة كما جاء على الأصل في قوله: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} في سورة العقود [23].
والأقطار: جمع قطر - بضم القاف وسكون الطاء - وهو الناحية من المكان. وإضافة "أقطار" وهو جمع تفيد العموم، أي: من جميع جوانب المدينة وذلك أشد هجوم العدو على المدينة كقوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10]. وأسند فعل {دُخِلَتْ} إلى المجهول لظهور أن فاعل الدخول قوم غزاة. وقد أبدى المفسرون في كيفية نظم هذه الآية احتمالات متفاوتة في معاني الكلمات وفي حاصل المعنى المراد، وأقربها ما قاله ابن عطية على غموض فيه، ويليه ما في "الكشاف" . والذي ينبغي التفسير به أن تكون جملة {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} في موضع الحال من ضمير {يُرِيدُونَ} [الأحزاب: 13] أو من ضمير {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} زيادة في تكذيب قولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13].
والضمير المستتر في {دُخِلَتْ} عائد إلى المدينة لأن إضافة الأقطار يناسب المدن والمواطن ولا يناسب البيوت. فيصير المعنى: لو دخل الغزاة عليهم المدينة وهم قاطنون فيها.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، وكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالواو لا بـ {ثُمَّ} لأن المذكور بعد {ثُمَّ} هنا داخل في فعل شرط {لَوْ} ووارد عليه جوابها، فعدل عن الواو إلى {ثُمَّ} للتنبيه على أن ما بعد {ثُمَّ} أهم من الذي قبلها كشأن {ثُمَّ} في عطف الجمل، أي: أنهم مع ذلك يأتون الفتنة، و {الْفِتْنَةَ} هي أن يفتنوا المسلمين، أي: الكيد لهم وإلقاء التخاذل في جيش المسلمين. ومن المفسرين من فسر الفتنة بالشرك ولا وجه له ومنهم من فسرها بالقتال وهو بعيد.
والإتيان: القدوم إلى مكان. وقد أشعر هذا الفعل بأنهم يخرجون من المدينة التي كانوا فيها ليفتنوا المسلمين. وضمير النصب في {أتَوْهَا} عائد إلى {الْفِتْنَةَ} والمراد مكانها وهو مكان المسلمين، أي لأتوا مكانها ومظنتها. وضمير {بِهَا} للفتنة، والباء للتعدية.
وجملة {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا} عطف على جملة {لَأتَوْهَا} . والتلبث: اللبث، أي:
(21/210)

الاستقرار في المكان وهو هنا مستعار للإبطاء، أي ما أبطاوا بالسعي في الفتنة ولا خافوا أن تؤخذ بيوتهم. والمعنى: لو دخلت جيوش الأحزاب المدينة وبقي جيش المسلمين خارجها - أي مثلا لأن الكلام على الفرض والتقدير - وسأل الجيش الداخل الفريق المستأذنين أن يلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق والتخزيل لخرجوا لذلك القصد مسرعين ولم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش: إما لأنهم آمنون من أن يلقوا سوءا من الجيش الداخل لأنهم أولياء له ومعاونون، فهم منهم وإليهم، وإما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا يَسِيراً} يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء. ويحتمل أنه على ظاهره، أي إلا ريثما يتأملون فلا يطيلون التأمل فيكون المقصود من ذكره تأكيد قلة الثلبت، فهذا هو التفسير المنسجم مع نظم القرآن أحسن انسجام.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر {لَأتَوْهَا} بهمزة تليها مثناة فوقية، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {لَآتَوْهَا} بألف بعد الهمزة على معنى: لأعطوها، أي لأعطوا الفتنة سائليها، فإطلاق فعل {أتَوْهَا} مشاكلة لفعل {سُئِلُوا} .
[15] {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}
هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سلمة وهم الذين قال فريق منهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] واستأذن النبيء صلى الله عليه وسلم، أي كانوا يوم أحد جبنوا ثم تابوا وعاهدوا النبيء صلى الله عليه وسلم أنهم لا يولون الأدبار في غزوة بعدها، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]؛ فطرأ على نفر من بني حارثة نفاق وضعف في الإيمان فذكرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقا قلبا لا يرعى عهدا ولا يستقر لهم اعتقاد وأن ذلك لضعف يقينهم وغلبة الجبن عليهم حتى يدعوهم إلى نبذ عهد الله. وهذا تنبيه للقبيلين ليزجروا من نكث منهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم وحرف التحقيق وفعل كان، مع أن الكلام موجه إلى المؤمنين تنزيلا للسامعين منزلة من يتردد في أنهم عاهدوا الله على الثبات.
(21/211)

وزيادة {مِنْ قَبْلُ} للإشارة إلى أن ذلك العهد قديم مستقر وهو عهد يوم أحد. وجملة {لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} بيان لجملة {عَاهَدُوا} .
والتولية: التوجه بالشيء وهي مشتقة من الولي وهو القرب، قال تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
و {الْأَدْبَارَ} : الظهور. وتولية الأدبار: كناية عن الفرار فإن الذي استأذنوا لأجله في غزوة الخندق أرادوا منه الفرار ألا ترى قوله: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب: 13]، والفرار مما عاهدوا الله على تركه.
وجملة {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} تذييل لجملة {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا} الخ... والمراد بعهد الله: كل عهد يوثقه الإنسان مع ربه.
والمسؤول: كناية عن المحاسب عليه كقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "وكلكم مسؤول عن رعيته" ، وكما تقدم آنفا عند قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]. وهذا تهديد.
[16] {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} .
جواب عن قولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ولذلك فصلت لأنها جرت على أسلوب التقاول والتجاوب، وما بين الجملتين من قوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {مَسْؤُولاً} [الأحزاب: 14- 15] اعتراض كما تقدم. وهذا يرجح أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم بالرجوع إلى المدينة وأنه رد عليهم بما أمره الله أن يقوله لهم، أي: قد علم الله أنكم ما أردتم إلا الفرار جبنا والفرار لا يدفع عنكم الموت أو القتل، فمعنى نفي نفعه: نفي ما يقصد منه لأن نفع الشيء هو أن يحصل منه ما يقصد له.
فقوله: {مِنَ الْمَوْتِ} يتعلق بـ {الْفِرَارُ} و {فَرَرْتُمْ} وليس متعلقا بـ {يَنْفَعَكُمُ} لأن متعلق {يَنْفَعَكُمُ} غير مذكور لظهوره من السياق، فالفائدة مستغنية عن المتعلق، أي: لن ينفعكم بالنجاة.
ومعنى نفي نفع الفرار وإن كان فيه تعاطي سبب النجاة، هذا السبب غير مأذون فيه لوجوب الثبات في وجه العدو مع النبيء صلى الله عليه وسلم فيتمحض في هذا الفرار مراعاة جانب الحقيقة وهو ما قدر للإنسان من الله إذ لا معارض له، فلو كان الفرار مأذونا فيه لجاز
(21/212)

مراعاة ما فيه من أسباب النجاة؛ فقد كان المسلمون مأمورين بثبات الواحد للعشرة من العدو فكان حينئذ الفرار من وجه عشرة أضعاف المسلمين غير مأذون فيه وأذن فيما زاد على ذلك، ولما نسخ الله ذلك بأن يثبت المسلمون لضعف عددهم من العدو فالفرار فيما زاد على ذلك مأذون فيه، وكذلك إذ كان المسلمون زحفا فإن الفرار حرام ساعتئذ.
وأحسب أن الأمر في غزوة الخندق كان قبل النسخ فلذلك وبخ الله الذين أضمروا الفرار فإن عدد جيش الأحزاب يومئذ كان بمقدار أربعة أمثال جيش المسلمين ولم يكن المسلمون يومئذ زحفا فإن الحالة حالة حصار. ويجوز أن يكون المعنى أيضا: أنكم إن فررتم فنجوتم من القتل لا ينفعكم الفرار من الموت بالأجل وعسى أن تكون آجالكم قريبة.
و {الْمَوْتِ} أريد به: الموت الزؤام وهو الموت حتف أنفه لأنه قوبل بالقتل. والمعنى: أن الفرار لا يدفع الموت الذي علم الله أنه يقع بالفار في الوقت الذي علم أن الفار يموت فيه ويقتل فإذا خيل إلى الفار أن الفرار قد دفع عنه خطرا فإنما ذلك في الأحوال التي علم الله أنها لا يصيب الفار فيها أذى ولا بد له من موت حتف أنفه أو قتل في الإبان الذي علم الله أنه يموت فيه أو يقتل. ولهذا عقب بجملة {وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} جوابا عن كلام مقدر دل عليه المذكور، أي إن خيل إليكم أن الفرار نفع الذي فر في وقت ما فما هو إلا نفع زهيد لأنه تأخير في أجل الحياة وهو متاع قليل، أي: إعطاء الحياة مدة منتهية، فإن {إِذن} قد يكون جوابا لمحذوف دل عليه الكلام المذكور، كقول العنبري:
لو كنت من مأزن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان
إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
فإن قوله: إذن لقام بنصري، جواب وجزاء عن مقدر دل عليه: لم تستبح إبلي. والتقدير: فإن استباحوا إبلي إذن لقام بنصري معشر، وهو الذي أشعر كلام المرزوقي باختياره خلافا لما في "مغنى اللبيب" .
والأكثر أن {إِذن} إن وقعت بعد الواو والفاء العاطفتين أن لا ينصب المضارع بعدها، وورد نصبه نادرا.
والمقصود من الآية تخليق المسلمين بخلق استضعاف الحياة الدنيا وصرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيرا وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملكية.
(21/213)

[17] {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}.
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}.
يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ} الآية [الأحزاب: 16]، فكأنه قيل: فمن ذا الذي يعصمكم من الله، أي: فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم. وإعادة فعل {قُلْ} تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة.
والمعنى: لأن قدرة الله وإرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرا حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، ومتى شاء خيرا خاصا بأحد لطف له بتمهيد الأسباب وتيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقبا، ومتى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرسل الأحوال في مهيعها وخلى بين الناس وبين ما سببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيبا على حسب فطنته ومقدرته واهتدائه، فإن الله أودع في النفوس مراتب التفكير والتقدير؛ فأنتم إذا عصيتم الله ورسوله وخذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعهم وأن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال.
وجملة {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} الخ جواب الشرط في قوله: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً} الخ، دليل الجواب عند نحاة البصرة.
والعصمة: الوقاية والمنع مما يكرهه المعصوم. وقوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوء خاص وهو السوء المجعول عذابا لهم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدر من الله لأجل تعذيبهم إن أراده، فيجري على خلاف القوانين المعتادة.
وعطف {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} على {أَرَادَ بِكُمْ} المجعول شرطا يقتضي كلاما مقدرا في الجواب المتقدم، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل {يَعْصِمُكُمْ} لأن ا لرحمة مرغوبة. فالتقدير: أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازا للكلام، كقول الراعي:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا
(21/214)

تقديره: وكحلن العيون، لأن العيون لا تزجج ولكنها تكحل حين تزجج الحواجب وذلك من التزين.
{وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
عطف على جملة {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} ، أو هي معترضة بين أجزاء القول، والتقديران متقاربان لأن الواو الاعتراضية ترجع إلى العاطفة. والكلام موجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم وليس هو من قبيل الالتفات. والمقصود لازم الخبر وهو إعلام النبيء عليه الصلاة والسلام ببطلان تحيلاتهم وأنهم لا يجدون نصيرا غير الله وقد حرمهم الله النصر لأنهم لم يعقدوا ضمائرهم على نصر دينه ورسوله. والمراد بالولي: الذي يتولى نفعهم، وبالنصير: النصير في الحرب فهو أخص.
[18، 19] {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}.
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب: 17] لأن ذلك يثير سؤالا يهجس في نفوسهم أنهم يخفون مقاصدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يشعر بمرادهم من الاستئذان، فأمر أن يقول لهم {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أي: فالله ينبئ رسوله بكم بأن فعل أولئك تعويق للمؤمنين. وقد جعل هذا الاستئناف تخلصا لذكر فريق آخر من المعوقين.
و {قَدْ} مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومرض قلوبهم يشكون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم، أو لأنهم لجهلهم الناشئ عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب. وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر. ففي "صحيح البخاري" عن ابن مسعود: "اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول? قال الآخر: يسمع
(21/215)

إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} " [فصلت: 22]. فللتوكيد بحرف التحقيق موقع.
ودخول {قد} على المضارع لا يخرجها عن معنى التحقيق عند المحققين من أهل العربية، وأن ما توهموه من التقليل إنما دل عليه المقام في بعض المواضع لا من دلالة {قَدْ} ، ومثله إفادة التكثير، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} في سورة البقرة [144]، وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} في آخر سورة النور[64].
والمعوق: اسم فاعل من عوق الدال على شدة حصول العوق. يقال: عاقه عن كذا، إذا منعه وثبطه عن شيء، فالتضعيف فيه للشدة والتكثير مثل: قطع الحبل، إذا قطعه قطعا كبيرة، {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف: 23]، أي أحكمت غلقها. ويكون للتكثير في الفعل القاصر مثل: موت المال، إذا كثر الموت في الإبل، وطوف فلان، إذا أكثر الطواف، والمعنى: يعلم الله الذين يحرصون على تثبيط الناس عن القتال. والخطاب بقوله: {مِنْكُمْ} للمنافقين الذين خوطبوا بقوله: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ} [الأحزاب: 16].
ويجوز أن يكون القائلون لإخوانهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا} هم المعوقين أنفسهم فيكون من عطف صفات الموصوف الواحد، كقوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام
ويجوز أن يكونوا طائفة أخرى وإخوانهم هم الموافقون لهم في النفاق، فالمراد: الأخوة في الرأي والدين. وذلك أن عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، ومن معهما من الذين انخزلوا عن جيش المسلمين يوم أحد فرجعوا إلى المدينة كانوا يرسلون إلى من بقي من المنافقين في جيش المسلمين يقولون لهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي: ارجعوا إلينا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين يقولون لهم: ما محمد وأصحابه ألا أكلة رأس - أي نفر قليل يأكلون رأس بعير - ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان ومن معه - تمثيلا بأنهم سهل تغلب أبي سفيان عليهم -.
و {هَلُمَّ} اسم فاعل أمر بمعنى أقبل في لغة أهل الحجاز وهي الفصحى، فلذلك تلزم هذه الكلمة حالة واحدة عندهم لا تتغير عنها، يقولون: هلم، للواحد والمتعدد المذكر والمؤنث، وهي فعل عند بني تميم فلذلك يلحقونها العلامات يقولون: هلم وهلمي
(21/216)

وهلما وهلموا وهلممن. وتقدم في قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} في سورة الأنعام [150]. والمعنى: انخزلوا عن جيش المسلمين وأقبلوا إلينا.
وجملة {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} كلام مستقل فيجوز أن تكون الجملة حالا من القائلين لإخوانهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا} . ويجوز أن تكون عطفا على المعوقين والقائلين لأن الفعل يعطف على المشتق كقوله تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ} [العاديات: 3, 4] وقوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد: 18]، فالتقدير هنا: قد يعلم الله المعوقين والقائلين وغير الآتين البأس، أو والذين لا يأتون البأس. وليس في تعدية فعل العلم إلى {لا يَأْتُونَ} إشكال لأنه على تأويل كما أن عمل الناسخ في قوله: {وَأَقْرَضُوا} [الحديد: 18] على تأويل، أي: يعلم الله أنهم لا يأتون البأس إلا قليلا، أي يعلم أنهم لا يقصدون بجمع إخوانهم معهم الاعتضاد بهم في الحرب ولكن عزلهم عن القتال.
ومعنى {إِلَّا قَلِيلاً} إلا زمانا قليلا، وهو زمان حضورهم مع المسلمين المرابطين، وهذا كقوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 46]، أي: إيمانا ظاهرا، ومثل قوله تعالى: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33]. و {قَلِيلاً} صفة لمصدر محذوف، أي: إتيانا قليلا، وقلته تظهر في قلة زمانه وفي قلة غنائه.
و {الْبَأْسَ} : الحرب وتقدم في قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} في سورة الأنبياء [80]. وإتيان الحرب مراد به إتيان أهل الحرب أو موضعها. والمراد: اليأس مع المسلمين، أي: مكرا بالمسلمين لا جبنا.
و {أَشِحَّةً} جمع شحيح بوزن أفعلة على غير قياس وهو فصيح وقباسه أشحاء. وضمير الخطاب في قوله: {عَلَيْكُمْ} للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين، وهو انتقال من القول الذي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم إلى كشف أحوالهم للرسول والمسلمين بمناسبة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} . وتقدم الشح عند قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} في سورة النساء [128].
و {أَشِحَّةً} حال من ضمير {يَأْتُونَ} . والشح: البخل بما في الوسع مما ينفع الغير. وأصله: عدم بذل المال، ويستعمل مجازا في منع المقدور من النصر أو الإعانة، وهو يتعدى إلى الشيء المبخول به بالباء و بـ {عَلَى} قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} ويتعدى إلى الشخص الممنوع بـ {عَلَى} أيضا لما في الشح من معنى الاعتداء فتعديته في قوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} من التعدية إلى الممنوع.
(21/217)

والمعنى: يمنعونكم ما في وسعهم من المال أو المعونة، أي: إذا حضروا البأس منعوا فائدتهم عن المسلمين ما استطاعوا ومن ذلك شحهم بأنفسهم وكل ما يشح به.
ويجوز جعل {عَلَى} هنا متعدية إلى المضنون به، أي كما في البيت الذي أنشده الجاحظ:
لقد كنت في قوم عليك أشحة ... بنفسك إلا أن ما طاح طائح
وجعل المعنى: أشحة في الظاهر، أي يظهرون أنهم يخافون عليكم الهلاك فيصدونكم عن القتال ويحسنون إليكم الرجوع عن القتال، وهذا الذي ذهب إليه في "الكشاف" . وفرع على وصفهم بالشح على المسلمين قوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} إلى آخره.
والمجيء: مجاز مشهور من حدوث الشيء وحصوله. كما قال تعالى {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} [الإسراء: 7].
و {الْخَوْفُ} : توقع القتال بين الجيشين، ومنه سميت صلاة الخوف. والمقصود: وصفهم بالجبن، أي: إذا رأوا جيوش العدو مقبلة رأيتهم ينظرون إليك. والظاهر أن الآية تشير إلى ما حصل في بعض أيام الأحزاب من القتال بين الفرسان الثلاثة الذين اقتحموا الخندق من أضيق جهاته وبين علي بن أبي طالب. ومن معه من المسلمين كما تقدم.
والخطاب في {رَأَيْتَهُمْ} للنبيء صلى الله عليه وسلم، وهو يقتضي أن هذا حكاية حالة وقعت لا فرض وقوعها ولهذا أتي بفعل {رَأَيْتَهُمْ} ولم يقل: فإذا جاء الخوف ينظرون إليك. ونظرهم إليه نظر المتفرس فيماذا يصنع ولسان حالهم يقول: ألسنا قد قلنا لكم إنكم لا قبل لكم بقتال الأحزاب فارجعوا، وهم يرونه أنهم كانوا على حق حين يحذرونه قتال الأحزاب، ولذلك خص نظرهم بأنه للنبيء صلى الله عليه وسلم ولم يقل: ينظرون إليكم. وجيء بصيغة المضارع ليدل على تكرر هذا النظر وتجدده.
وجملة {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} حال من ضمير {يَنْظُرُونَ} لتصوير هيئة نظرهم نظر الخائف المذعور الذي يحدق بعينيه إلى جهات يحذر أن تأتيه المصائب من إحداها.
والدور والدوران: حركة جسم رحوية - أي كحركة الرحى - منتقل من موضع إلى موضع فينتهي إلى حيث ابتدأ. وأحسب أن هذا الفعل وما تصرف منه مشتقات من اسم الدار، وهي المكان المحدود المحيط بسكانه بحيث يكون حولهم. ومنه سميت الدارة لكل أرض تحيط بها جبال. وقالوا: دارت الرحى حول قطبها. وسموا الصنم: دوارا - بضم
(21/218)

الدال وفتحها - لأنه يدور به زائروه كالطواف. وسميت الكعبة دوارا أيضا، وسموا ما يحيط بالقمر دارة. وسميت مصيبة الحرب دائرة لأنهم تخيلوها محيطة بالذي نزلت به لا يجد منها مفرا، قال عنترة:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... في الحرب دائرة على ابني ضمضم
فمعنى {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} أنها تضطرب في أجفانها كحركة الجسم الدائرة من سرعة تنقلها محملقة إلى الجهات المحيطة. وشبه نظرهم بنظر الذي يغشى عليه بسبب النزع عند الموت فإن عينيه تضطربان.
وذهاب الخوف مجاز مشهور في الانقضاء، أي: زوال أسبابه بأن يترك القتال أو يتبين أن لا يقع قتال. وذلك عند انصراف الأحزاب عن محاصرة المدينة كما سيدل عليه قوله: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} [الأحزاب: 20].
والسلق: قوة الصوت والصياح. والمعنى: رفعوا أصواتهم بالملامة على التعرض لخطر العدو الشديد وعدم الانصياع إلى إشارتهم على المسلمين بمسالمة المشركين، وفسر السلق بأذى اللسان. قيل: سأل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن {سَلَقُوكُمْ} فقال: الطعن باللسان. فقال نافع: هل تعرف العرب ذلك? فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنجـ ... ـدة فيهم والخاطب المسلاق
و {حِدَادٍ} : جمع حديد، وحديد: كل شيء نافذ فعل أمثاله قال تعالى {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق~: 22].
وانتصب {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} على الحال من ضمير الرفع في {سَلَقُوكُمْ} ، أي: خاصموكم ولاموكم وهم في حال كونهم أشحة على ما فيه الخير للمسلمين، أي أن خصامهم إياهم ليس كما يبدو خوفا على المسلمين واستبقاء عليهم ولكنه عن بغض وحقد؛ فإن بعض اللوم والخصام يكون الدافع إليه حب الملوم وإبداء النصيحة له، وأقوال الحكماء والشعراء في هذا المعنى كثيرة.
ويجوز أن يكون الخير هنا هو المال كقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، أي: هم في حالة السلم يسرعون إلى ملامكم ولا يواسونكم بأموالهم للتجهيز للعدو إن عاد إليكم. ودخلت {عَلَى} هنا على المبخول به.
(21/219)

{أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.
جيء باسم الإشارة لقصد تمييزهم بتلك الصفات الذميمة التي أجريت عليهم من قبل، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد من الحكم بعد اسم الإشارة، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة [5].
وقد أجري عليهم حكم انتفاء الإيمان عنهم بقوله: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} كشفا لدخائلهم لأنهم كانوا يوهمون المسلمين أنهم منهم كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} في سورة البقرة [14]. ورتب على انتفاء إيمانهم أن الله أحبط أعمالهم.
والإحباط: جعل شيء حابطا، فالهمزة فيه للجعل مثل الإذهاب. والحبط حقيقته: أنه فساد ما يراد به الصلاح والنفع. ويطلق مجازا على إفساد ما كان نافعا أو على كون الشيء فاسدا ويظن أنه ينفع يقال: حبط حق فلان، إذا بطل. والإطلاق المجازي ورد كثيرا في القرآن. وفعله من بابي سمع وضرب. ومصدره: الحبط، واسم المصدر: الحبوط. ويقال: أحبط فلان الشيء، إذا أبطله، ومنه إحباط دم القتيل، أي إبطال حق القود به. فإحباط الأعمال: إبطال الاعتداد بالأعمال المقصود بها القربة والمظنون بها أنها أعمال صالحة لمانع منع من الاعتداد بها في الدين.
وقد صار لفظ الحبط والحبوط من الألفاظ الشرعية الاصطلاحية بين علماء الفقه والكلام، فأطلق على عدم الاعتداد بالأعمال الصالحة بسبب الردة، أي: الرجوع إلى الكفر، أو بسبب زيادة السيئات على الحسنات بحيث يستحق صاحب الأعمال العذاب بسبب زيادة سيئاته على حسناته بحسب ما قدر الله لذلك وهو أعلم به، ومن هذه الجهة عدت مسألة الحبوط مع المسائل الكلامية؛ أو بحيث ينظر في انتفاعه بما فعل من الواجبات عليه إذا ارتد عن الإسلام ثم عاد إلى الإسلام كمن حج ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، ومن هذه الجهة تعد مسألة الحبوط في مسائل الفقه، فقال مالك وأبو حنيفة: الردة تحبط الأعمال بمجرد حصولها فإذا عاد إلى الإسلام وكان قد حج مثلا قبل ردته وجبت عليه إعادة الحج تمسكا بإطلاق هذه الآية إذ ناطت الحبوط بانتفاء الإيمان، ولم يريا أن هذا مما يحمل فيه المطلق على المقيد احتياطا لأن هذا الحكم راجع إلى الاعتقادات ولا يكفي فيها الظن. وقال الشافعي: إذا رجع إلى الإسلام رجعت إليه أعماله الصالحة التي عملها قبل الردة تمسكا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ
(21/220)

كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة البقرة [217] حملا للمطلق في آية سورة الأحزاب ونحوها على المقيد في آية سورة البقرة تغليبا للجانب الفروعي في هذه المسألة على الجانب الاعتقادي.
وتعرف هذه المسألة بمسألة الموافاة، أي: استمرار المرتد على الردة إلى انقضاء حياته فيوافي يوم القيامة مرتدا. فمالك وأبو حنيفة لم يريا شرط الموافاة والشافعي اعتبر الموافاة. والمعتزلة قائلون بمثل ما قال به مالك وأبو حنيفة. وحكى الفخر عن المعتزلة اعتبار الموافاة على الكفر، وانظر ما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة البقرة [217]. والمعنى: أنهم لا تنفعهم قرباتهم ولا جهادهم.
وجملة {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} خبر مستعمل في لازمه وهو تحقيرهم وأن الله لما أخرجهم من حظيرة الإسلام فأحبط أعمالهم لم يعبأ بهم ولا عد ذلك ثلمة في جماعة المسلمين.
وكان المنافقون يدلون بإظهار الإيمان ويحسبون أن المسلمين يعتزون بهم، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
[20] {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً}.
لما ذكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ثني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدون في ملام المسلمين ويسلقونهم بألسنة حداد على أن تعرضوا للعدو الكثير، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم، وليس للمنافقين وساطة في ذلك. ولعلهم كانوا لا يودون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة، فتكون جملة {يَحْسَبُونَ} استئنافا ابتدائيا مرتبطا بقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} [الأحزاب: 9] الخ... جاء عودا على بدء بمناسبة ذكر أحوال المنافقين، فإن قوله:
(21/221)

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم، أي: وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازا بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلاء لليهود فكان سلقهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفضوا من شدتهم على المسلمين، فتكون جملة {يَحْسَبُونَ} حالا من ضمير الرفع في {سَلَقُوكُمْ} [الأحزاب: 19] أي: فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا.
وأما قوله: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} فهو وصف لجبن المنافقين، أي: لو جاء الأحزاب كرة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلم وغيرهم، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} [التوبة: 120] الآية.
والود هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للود.
والبادي: ساكن البادية. وتقدم عند قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} في سورة الحج [25].
و{الْأَعْرَابِ}: هم سكان البوادي بالأصالة، أي: يودوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} ، أي: فلو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا.
و {لَوْ} حرف يفيد التمني بعد فعل ود ونحوه. أنشد الجاحظ وعبد القاهر:
يودون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا تمنع الموت النفوس الشحائح
وتقدم عند قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة البقرة [96].
والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة.
ومعنى {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالا قليلا، أي: ضعيفا لا يؤبه به وإنما هو تعلة ورياء، وتقدم نظيره آنفا.
(21/222)

والأنباء: جمع نبأ وهو: الخبر المهم، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام [34].
وقرأ الجمهور {يَسْأَلونَ} - بسكون السين فهمزة - مضارع سأل. وقرأ رويس عن يعقوب {يَسْاَءلونَ} - بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة - مضارع تساءل، وأصله: يتساءلون أدغمت التاء في السين.
[21] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .
بعد توبيخ المنافقين والذين في قلوبهم مرض أقبل الكلام على خطاب المؤمنين في عموم جماعتهم ثناء على ثباتهم وتأسيهم بالرسول صلى الله عليه وسلم على تفاوت درجاتهم في ذلك الائتساء، فالكلام خبر ولكن اقترانه بحرفي التوكيد في {لَقَدْ} يومئ إلى تعريض بالتوبيخ للذين لم ينتفعوا بالإسوة الحسنة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض فلذلك أتي بالضمير مجملا ابتداء من قوله: {لَكُمْ} ، ثم فصل بالبدل منه بقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ، أي: بخلاف لمن لم يكن كأولئك، فاللام في قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} توكيد للام التي في المبدل منه مثل قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114]، فمعنى هذه الآية قريب من معنى قوله تعالى في سورة براءة في قصة تبوك {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 87, 88] الآية.
والإسوة بكسر الهمزة وضمها اسم لما يؤتسى به، أي: يقتدى به ويعمل مثل عمله. وحق الأسوة أن يكون المؤتسى به هو القدوة ولذلك فحرف {فِي} جاء على أسلوب ما يسمى بالتجريد المفيد للمبالغة إذ يجرد من الموصوف بصفة موصوف مثله ليكون كذاتين، كقول أبي خالد الخارجي:
وفي الرحمان للضعفاء كاف
أي الرحمان كاف. فالأصل: رسول الله إسوة، فقيل: في رسول الله إسوة. وجعل متعلق الائتساء ذات الرسول صلى الله عليه وسلم دون وصف خاص ليشمل الائتساء به في أقواله بامتثال أوامره واجتناب ما ينهى عنه، والائتساء بأفعاله من الصبر والشجاعة والثبات. وقرأ الجمهور {أُسْوَةٌ} بكسر الهمزة. وقرأ عاصم بضم الهمزة وهما لغتان.
(21/223)

و {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} بدل من الضمير في {لَكُمْ} بدل بعض من كل أو شبه الاشتمال لأن المخاطبين بضمير {لَكُمْ} يشتملون على من يرجون الله واليوم الآخر، أو هو بدل مطابق إن كان المراد بضمير {لَكُمْ} خصوص المؤمنين، وفي إعادة اللام في البدل تكثير للمعاني المذكورة بكثرة الاحتمالات وكل يأخذ حظه منها.
فالذين ائتسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم يومئذ ثبت لهم أنهم ممن يرجون الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. وفيه تعريض بفريق من الذين صدهم عن الائتساء به ممن كانوا منافقين أو في قلوبهم مرض من الشك في الدين.
وفي الآية دلالة على فضل الاقتداء بالنبيء صلى الله عليه وسلم وأنه الإسوة الحسنة لا محالة ولكن ليس فيها تفصيل وتحديد لمراتب الائتساء والواجب منه والمستحب وتفصيله في أصول الفقه. واصطلاح أهل الأصول على جعل التأسي لقبا لاتباع الرسول في أعماله التي لم يطالب بها الأمة على وجه التشريع. وذكر القرطبي عن الخطيب البغدادي أنه روي عن عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قال: في جوع النبيء صلى الله عليه وسلم.
[22] {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .
لما ذكرت أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض المؤذنة بما يداخل قلوبهم من الخوف وقلة الإيمان والشك فيما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النصر ابتداء من قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [لأحزاب: 12] قوبلت أقوال أولئك بأقوال المؤمنين حينما نزلت بهم الأحزاب ورأوا كثرتهم وعددهم وكانوا على بصيرة من تفوقهم عليهم في القوة والعدد أضعافا وعلموا أنهم قد ابتلوا وزلزلوا، كل ذلك لم يخر عزائمهم ولا أدخل عليهم شكا فيما وعدهم الله من النصر.
وكان الله وعدهم النصر غير مرة منها قوله في سورة البقرة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. فلما رأى المسلمون الأحزاب وابتلوا وزلزلوا ورأوا مثل الحالة التي وصفت في تلك الآية علموا أنهم منصورون عليهم، وعلموا أن ذلك هو الوعد الذي وعدهم الله بآية سورة البقرة.
(21/224)

وكانت آية البقرة نزلت قبل وقعة الأحزاب بعام، كذا روي عن ابن عباس، وأيضا فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أخبر المسلمين: أن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع أو عشر، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وزلزلوا راجعهم الثبات الناشئ عن قوة الإيمان وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، أي: من النظر ومن الإخبار بمسير الأحزاب وصدقوا وعد الله إياهم بالنصر وإخبار النبيء صلى الله عليه وسلم بمسير الأحزاب، فالإشارة {بهَذَا} إلى ما شاهدوه من جيوش الأحزاب وإلى ما يتبع ذلك من الشدة والصبر عليها وكل ذلك وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثم أخبروا عن صدق الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فيما أخبرا به وصدقوا الله فيما وعدهم من النصر خلافا لقول المنافقين {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب: 12] فالوعد راجع إلى الأمرين والصدق كذلك.
والوعد: إخبار مخبر بأنه سيعمل عملا للمخبر - بالفتح -
ففعل {صَدَقَ} فيما حكي من قول المؤمنين {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} مستعمل في الخبر عن صدق مضى وعن صدق سيقع في المستقبل محقق وقوعه بحيث يجعل استقباله كالمضي مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] فهو مستعمل في معنى التحقق. أو هو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ولا شك أن محمل الفعل على الصدق في المستقبل أنسب بمقام الثناء على المؤمنين وأعلق بإناطة قولهم بفعل {رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} دون أن يقال: ولما جاءت الأحزاب. فإن أبيت استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فاقصره على المجاز واطرح احتمال الإخبار عن الصدق الماضي.
وضمير {زَادَهُمْ} المستتر عائد إلى ما عاد إليه اسم الإشارة، أي: وما زادهم ما رأوا إلا إيمانا وتسليما، أي: بعكس حال المنافقين إذ زادهم شكا في تحقق الوعد، والمعنى: وما زاد ذلك المؤمنين إلا إيمانا، أي ما زاد في خواطر نفوسهم إلا إيمانا، أي لم يزدهم خوفا على الخوف الذي من شأنه أن يحصل لكل مترقب أن ينازله العدو الشديد، بل شغلهم عن الخوف والهلع شاغل الاستدلال بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به وفيما وعدهم الله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام من النصر فأعرضت نفوسهم عن خواطر الخوف إلى الاستبشار بالنصر المترقب.
والتسليم: الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليم النفس للمنقاد إليه، وتقدم في قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} في سورة النساء [65]. ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدو شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدو وأن يصالحوه بأموالهم. فقد ذكر ابن
(21/225)

إسحاق وغيره أنه لما اشتد البلاء على المسلمين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في أن يعطي ثلث ثمار المدينة تلك السنة عيينة بن حصن، والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان على أن يرجعا عن المدينة، فقالا: يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا? قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا? ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت وذاك. فهذا موقف المسلمين في تلك الشدة وهذا تسليم أنفسهم للقتال.
ومن التسليم الرضى بما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الثبات معه كما قال تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65].
وإذ قد علم أنهم مؤمنون لقوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} إلى آخره... فقد تعين أن الإيمان الذي زادهم ذلك هو زيادة على إيمانهم، أي: إيمان مع إيمانهم.
والإيمان الذي زادهموه أريد به مظهر من مظاهر إيمانهم القوي، فجعل تكرر مظاهر الإيمان وآثاره كالزيادة في الإيمان لأن تكرر الأعمال بقوي الباعث عليها في النفس يباعد بين صاحبه وبين الشك والارتداد فكأنه يزيد في ذلك الباعث، وهذا من قبيل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} كما تقدم في سورة براءة [124]، فكذلك القول في ضد الزيادة وهو النقص، وإلا فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق بالشيء إذا حصلت بمقوماتها فهي واقعة، فزيادتها تحصيل حاصل ونقصها نقص لها وانتفاء لأصلها. وهذا هو محمل ما ورد في الكتاب والسنة من إضافة الزيادة إلى الإيمان وكذلك ما يضاف إلى الكفر والنفاق من الزيادة، كقوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} [التوبة: 97] وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125]. وإلى هذا المحمل يرجع خلاف الأئمة في قبول الإيمان الزيادة والنقص فيؤول إلى خلاف لفظي.
(21/226)

[23] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.
أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدو الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] بالثناء على فريق منهم كانوا وفوا بما عاهدوا الله عليه وفاء بالعمل والنية، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدو يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يد واحدة.
والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء لأن الرجل مشتق من الرجل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأبد من اليد، فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل، وإن كانت نزلت يوم أحد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبيء صلى الله عليه وسلم فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير: أنها نزلت مع سورة الأحزاب. وأيا ما كان وقت نزول الآية فإن المراد منها: رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أحد وهم: عثمان بن عفان، وأنس بن النضر، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة، وسعيد ابن زيد، ومصعب بن عمير. فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استشهدوا يوم أحد، وأما طلحة فقد قطعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا. وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق. وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة: "أن رسول الله حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف ودعا له ثم تلا {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} الآية.
ومعنى {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئا في المستقبل فإذا فعله فقد صدق. وفعل الصدق يستعمل قاصرا وهو الأكثر، ويستعمل متعديا إلى المخبر - بفتح الباء - يقال: صدقه الخبر، أي قال له في الصدق، ولذلك فإن تعديته هنا إلى {مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إنما هو على نزع الخافض، أي: صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، كقولهم في المثل: صدقني سن بكره، أي في سن بكره.
والنحب: النذر وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه، أي: من المؤمنين من وفى بما
(21/227)

عاهد عليه من الجهاد كقول أنس بن النضر حين لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر ذلك عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع فشهد أحدا وقاتل حتى قتل. ومثل الذين شهدوا أيام الخندق فإنهم قضوا نحبهم يوم قريظة.
وقد حمل بعض المفسرين {قَضَى نَحْبَهُ} في هذه الآية على معنى الموت في الجهاد على طريقة الاستعارة بتشبيه الموت بالنذر في لزوم الوقوع، وربما ارتقى ببعض المفسرين ذلك إلى جعل النحب من أسماء الموت، ويمنع منه ما ورد في حديث الترمذي أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن عبيد الله: "إنه ممن قضى نحبه" ، وهو لم يمت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} فهو في معنى {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} وإنما ذكر هنا للتعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولون الأدبار ثم ولوا يوم الخندق فرجعوا إلى بيوتهم في المدينة. وانتصب {تَبْدِيلاً} على أنه مفعول مطلق مؤكد لـ {بَدَّلُوا} المنفي. ولعل هذا التوكيد مسوق مساق التعريض بالمنافقين الذين بدلوا عهد الإيمان لما ظنوا أن الغلبة تكون للمشركين.
[24] {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}
لام التعليل يتنازعه من التعلق كل من {صَدَقُوا} و {مَا بَدَّلُوا} [الأحزاب: 23] أي: صدق المؤمنون عهدهم وبدله المنافقون ليجزي الله الصادقين ويعذب المنافقين. ولام التعليل بالنسبة إلى فعل {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ} مستعمل في حقيقة معناه، وبالنسبة إلى فعل {وَيُعَذِّبَ} مستعار لمعنى فاء العاقبة تشبيها لعاقبة فعلهم بالعلة الباعثة على ما اجترحوه من التبديل والخيس بالعهد تشبيها يفيد عنايتهم بما فعلوه من التبديل حتى كأنهم ساعون إلى طلب ما حق عليهم من العذاب على فعلهم، أو تشبيها إياهم في عنادهم وكيدهم بالعالم بالجزاء الساعي إليه وإن كان فيه هلاكه.
والجزاء: الثواب لأن أكثر ما يستعمل فعل جزى أن يكون في الخير، ولأن ذكر سبب الجزاء وهو {بِصِدْقِهِمْ} يدل على أنه جزاء إحسان، وقد جاء الجزاء في ضد ذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} في سورة الأنعام [93]. وإظهار اسم الجلالة
(21/228)

في مقام إضماره للدلالة على عظمة الجزاء.
وتعليق التعذيب على المشيئة تنبيه لهم بسعة رحمة الله وانه لا يقطع رجاءهم في السعي إلى مغفرة ما أتوه بأن يتوبوا فيتوب الله عليهم فلما قابل تعذيبه إياهم بتوبته عليهم تعين أن التعذيب باق عند عدم توبتهم لقوله في الآية الأخرى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. والتوبة هنا هي التوبة من النفاق، أي هي إخلاص الإيمان، وقد تاب كثير من المنافقين بعد ذلك، منهم معتب بن قشير.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} تعليل للجزاء والتعذيب كليهما على التوزيع، أي غفور للمذنب إذا أناب إليه، رحيم بالمحسن أن يجازيه على قدر نصبه.
وفي ذكر فعل {كَانَ} إفادة أن المغفرة والرحمة صفتان ذاتيتان له كما قدمناه غير مرة، من ذلك عند قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا} في أول سورة يونس [2].
[25] {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}
عطف على جملة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} [الأحزاب: 9] وهو الأنسب بسياق الآيات بعدها، أي أرسل عليهم ريحا وردهم، أو حال من ضمير {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} [الأحزاب: 20]، أي: يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وقد رد الله الأحزاب فذهبوا.
والرد: الإرجاع إلى المكان الذي صدر منه فإن ردهم إلى ديارهم من تمام النعمة على المسلمين بعد نعمة إرسال الريح عليهم لأن رجوعهم أعمل في اطمئنان المسلمين. وعبر عن الأحزاب بالذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو سبب خيبتهم العجيبة الشأن.
والباء في {بِغَيْظِهِمْ } للملابسة، وهو ظرف مستقر في موضع الحال، أي: ردهم مغيظين.
وإظهار اسم الجلالة دون ضمير المتكلم للتنبيه على عظم شأن هذا الرد العجيب كما تقدم في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24].
والغيظ: الحنق والغضب، وكان غضبهم عظيما يناسب حال خيبتهم لأنهم تجشموا كلفة التجمع والإنفاق وطول المكث حول المدينة بلا طائل وخابت آمالهم في فتح المدينة وأكل ثمارها وإفناء المسلمين، وهم يحسبون أنها منازلة أيام قليلة، ثم غاظهم ما لحقهم من النكبة بالريح والانهزام الذي لم يعرفوا سببه.
(21/229)

وجملة {لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} حال ثانية. ولك أن تجعل جملة {لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} استئنافا بيانيا لبيان موجب غيظهم.
و {كَفَى} بمعنى أغنى، أي أراحهم من كلفة القتال بأن صرف الأحزاب. و {كَفَى} بهذا المعنى تتعدى إلى مفعولين يقال: كفيتك مهمك وليست هي التي تزاد الباء في مفعولها فتلك بمعنى: حسب.
وفي قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} حذف مضاف، أي كلفة القتال، أو أرزاء القتال، فإن المؤمنين كانوا يومئذ بحاجة إلى توفير عددهم وعددهم بعد مصيبة يوم أحد ولو التقوا مع جيش المشركين لكانت أرزاؤهم كثيرة ولو انتصروا على المشركين.
والقول في إظهار اسم الجلالة في قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} كالقول في {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} .
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} تذييل لجملة {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخرها.
والقوة: القدرة، وقد تقدمت في قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} في سورة هود [80].
والعزة: العظمة والمنعة، وتقدمت في قوله تعالى: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} في سورة [البقرة: 206].
وذكر فعل {كَانَ} للدلالة على أن العزة والقوة وصفان ثابتان لله تعالى، ومن تعلقات قوته وعزته أن صرف ذلك الجيش العظيم خائبين مفتضحين وألقى بينه وبين أحلافه من قريظة الشك، وأرسل عليهم الريح والقر، وهدى نعيما بن مسعود الغطفاني إلى الإسلام دون أن يشعر قومه فاستطاع النصح للمسلمين بالكيد للمشركين. ذلك كله معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم.
[26، 27] {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}
كان يهود قريظة قد أعانوا الأحزاب وحاصروا المدينة معهم وكان حيي بن أخطب من بني النضير منضما إليهم وهو الذي حرض أبا سفيان على غزو المدينة. فلما صرف الله الأحزاب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريظة وهم فريق من اليهود يعرفون ببني قريظة وكانت منازلهم وحصونهم بالجنوب الشرقي من المدينة تعرف قريتهم باسمهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(21/230)

قد عاد إلى المدينة من الخندق ظهرا وكان بصدد أن يغتسل ويستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أن لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة. وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحوا من عشرين ليلة، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكم حكم في صفة ذلك التسليم. ويقال لهذا النوع من ا لمصالحة: النزول على حكم حكم، فأرسلوا شاس بن قيس إلى النبيء صلى الله عليه وسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجلاء على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم سعد أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة.
ومعنى {ظَاهَرُوهُمْ} ناصروهم وأعانوهم، وتقدم في قوله تعالى: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} في سورة براءة [4].
والإنزال: الإهباط، أي: من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.
والصياصي: الحصون، وأصلها أنها جمع صيصية وهي القرن للثور ونحوه. قال عبد بني الحسحاس:
فأصبحت الثيران غرقى وأصبحت ... نساء تميم يلتقطن الصياصيا
أي: القرون لبيعها كانوا يستعملون القرون في مناسج الصوف ويتخذون أيضا منها أوعية للكحل ونحوه فلما كان القرن يدافع به الثور عن نفسه سمي المعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصون صياصي.
والقذف: الإلقاء السريع، أي: جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين. والفريق الذين قتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أسروا هم النساء والصبيان.
والخطاب من قوله: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} إلى آخره... للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} [الأحزاب: 9] الآية، أي: فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم
(21/231)

وأنصارهم. وتقديم المفعول في {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} للاهتمام بذكره لأن ذلك الفريق هم رجال القبيلة الذين بقتلهم يتم الاستيلاء على الأرض والأموال والأسرى، ولذلك لم يقدم مفعول {تَأْسِرُونَ} إذ لا داعي إلى تقديمه فهو على أصله.
وقوله: {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} أي: تنزلوا بها غزاة وهي أرض أخرى غير أرض قريظة وصفت بجملة {لَمْ تَطَأُوهَا} أي: لم تمشوا فيها. فقيل: إن الله بشرهم بأرض أخرى يرثونها من بعد. قال قتادة: كنا نحدث أنها مكة. وقال مقاتل وابن رومان: هي خيبر، وقيل: أرض فارس والروم. وعلى هذه التفاسير يتعين أن يكون فعل {أَوْرَثَكُمْ} مستعملا في حقيقته ومجازه؛ فأما في حقيقته فبالنسبة إلى مفعوله وهو {أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ، وأما استعماله في مجازه فبالنسبة إلى تعديته إلى {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} ، أي: أن يورثكم أرضا أخرى لم تطؤوها، من باب {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أو يؤول فعل {أَوْرَثَكُمْ} بمعنى: قدر أن يورثكم. وأظهر هذه الأقوال أنها أرض خيبر فإن المسلمين فتحوها بعد غزوة قريظة بعام وشهر. ولعل المخاطبين بضمير {أَوْرَثَكُمْ} هم الذين فتحوا خيبر لم ينقص منهم أحد أو فقد منه القليل ولأن خيبر من أرض أهل الكتاب وهم ممن ظاهروا المشركين فيكون قصدها من قوله: {وَأَرْضاً} مناسبا تمام المناسبة.
وفي التذييل بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} إيماء إلى البشارة بفتح عظيم يأتي من بعده.
وعندي: أن المراد بالأرض التي لم يطؤوها أرض بني النضير وأن معنى {لَمْ تَطَأُوهَا} لم تفتحوها عنوة فإن الوطء يطلق على معنى الأخذ الشديد، قال الحارث بن وعلة الذهلي:
وطأتنا وطئا على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ} [الفتح: 25]، فإن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف.
[28، 29] {يَا أَيُّهَا النبيء قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}
يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في "البحر
(21/232)

المحيط" وغير ذلك: أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قبيل ذلك فيئا للنبيء صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثله أحد من الرجال إذا وسع عليهم الرزق توسعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبيء عليه الصلاة والسلام يسألنه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم، فلما رأين النبيء صلى الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاء الله عليه من المال حسبن أنه يوسع في الإنفاق فصار بعضهن يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أم المؤمنين: "لا تستكثري النبيء ولا تراجعيه في شيء وسليني ما بدا لك". ولكن الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقاما عظيما فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول: "ما لي وللدنيا" وقال: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب" . وقد بينت وجه استثناء هذين في رسالة كتبتها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام.
وقال عمر: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه من خيل و لا ركاب فكانت لرسول الله خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة للمسلمين". وقد علمت أن أرض قريظة قسمت على المهاجرين بحكم سعد بن معاذ فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم أمل أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم أن يكن كالمهاجرين فأراد الله أن يعلمهن سيرة الصالحات في العيش وغيره. وقد روي أن بعضهن سألنه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات. وهذا مما يؤذن به وقع هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يطؤوها وهي أرض بني النضير. وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس وخاصة النساء أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبئ أزواجه بها ويخيرهن عن ا لسير عليها تبعا لحاله وبين أن يفارقهن. لذا فافتتاح هذه الأحكام بنداء النبيء صلى الله عليه وسلم بـ: {يَا أَيُّهَا النبيء} تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب مرتبة النبوءة، وتحديد تزوجه وهو الغرض الثاني من الأغراض التي تقدم ذكرها في قوله: {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1].
والأزواج المعنيات في هذه الآية هن أزواجه التسع اللاتي توفي عليهن. وهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أمية المخزومية، وجويرية بنت الحارث الخزاعية، وميمونة بنت الحارث
(21/233)

الهلالية من بني عامر بن صعصعة، وسودة بنت زمعة العامرية القرشية، وزينب بنت جحش الأسدية، وصفية بن حيي النضيرية. وأما زينب بنت خزيمة الهلالية الملقبة أم المساكين فكانت متوفاة وقت نزول هذه الآية.
ومعنى {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} : إن كنتن تؤثرن ما في الحياة من الترف على الاشتغال بالطاعات والزهد، فالكلام على حذف مضاف يقدر صالحا للعموم إذ لا دليل على إرادة شأن خاص من شؤون الدنيا. وهذه نكتة تعدية فعل {تُرِدْنَ} إلى اسم ذات {الْحَيَاةَ} دون حال من شؤونها.
وعطف {زِينَتَهَا} عطف خاص على عام، وفي عطفه زيادة تنبيه على أن المضاف المحذوف عام، وأيضا ففعل {تُرِدْنَ} يؤذن باختيار شيء على غيره فالمعنى: إن كنتن تردن الانغماس في شؤون الدنيا، وقد دلت على هذا مقابلته بقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} كما سيأتي.
و {تَعَالَيْنَ} : اسم فعل أمر بمعنى: أقبلن، وهو هنا مستعمل تمثيلا لحال تهيؤ الأزواج لأخذ التمتيع وسماع التسريح بحال من يحضر إلى مكان المتكلم. وقد مضى القول على "تعال" عند قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} في سورة آل عمران [61].
والتمتيع: أن يعطي الزوج امرأته حين يطلقها عطية جبرا لخاطرها لما يعرض لها من الانكسار. وتقدم الكلام عليها مفصلا عند قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} في سورة البقرة [236]. وجزم {أُمَتِّعْكُنَّ} في جواب {تَعَالَيْنَ} وهو اسم فعل أمر وليس أمرا صريحا فجزم جوابه غير واجب فجيء به مجزوما ليكون فيه معنى الجزاء فيفيد حصول التمتيع بمجرد إرادة إحداهن الحياة الدنيا.
والسراح: الطلاق، وهو من أسمائه وصيغه، قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231].
والجميل: الحسن حسنا بمعنى القبول عند النفس، وهو الطلاق دون غضب ولا كراهية لأنه طلاق مراعى فيه اجتناب تكليف الزوجة ما يشق عليها. وليس المذكور في الآية من قبيل التخيير والتمليك اللذين هما من تفويض الطلاق إلى الزوجة، وإنما هذا تخيير المرأة بين شيئين يكون اختيارها أحدهما داعيا زوجها لأن يطلقها إن أراد ذلك.
(21/234)

ومعنى {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إن كنتن تؤثرن الله على الحياة الدنيا، أي: تؤثرن رضى الله لما يريده لرسوله، فالكلام على حذف مضاف. وإرضاء الله: فعل ما يحبه الله ويقرب إليه، فتعدية فعل {تُرِدْنَ} إلى اسم ذات الله تعالى على تقدير تقتضيه صحة تعلق الإرادة باسم ذات لأن الذات لا تراد حقيقة فوجب تقدير مضاف ولزم أن يقدر عاما كما تقدم.
وإرادة رضى الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك على تقدير، أي: كل ما يرضي الرسول عليه الصلاة والسلام، وأول ذلك أن يبقين في عشرته طيبات الأنفس.
وإرادة الدار الآخرة: إرادة فوزها، فالكلام على حذف مضاف يقتضيه المقام أيضا، فأسلوب الكلام جرى على إناطة الحكم بالأعيان وهو أسلوب يقتضي تقديرا في الكلام من قبيل دلالة الاقتضاء. وفي حذف المضافات وتعليق الإرادة بأسماء الأعيان الثلاثة مقصد أن تكون الإرادة متعلقة بشؤون المضاف إليه التي تتنزل منزلة ذاته مع قضاء حق الإيجاز بعد قضاء حق الإعجاز. فالمعنى: إن كنتن تؤثرن ما يرضي الله ويحبه رسوله وخير الدار الآخرة فتخترن ذلك على ما يشغل عن ذلك كما دلت عليه مقابلة إرادة الله ورسوله والدار الآخرة بإرادة الحياة الدنيا وزينتها، فإن المقابلة تقتضي إرادتين يجمع بين إحداهما وبين الأخرى، فإن التعلق بالدنيا يستدعي الاشتغال بأشياء كثيرة من شؤون الدنيا لا محيص من أن تلهي صاحبها عن الاشتغال بأشياء عظيمة من شؤون ما يرضي الله وما يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام وعن التملي من أعمال كثيرة مما يكسب الفوز في الآخرة فإن الله يحب أن ترتقي النفس الإنسانية إلى مراتب الملكية والرسول صلى الله عليه وسلم يبتغي أن يكون أقرب الناس إليه وأعقلهم به سائرا على طريقته لأن طريقته هي التي اختارها الله له. وبمقدار الاستكثار من ذلك يكثر الفوز بنعيم الآخرة، فالناس متسابقون في هذا المضمار وأولاهم بقصب السبق فيه أشدهم تعلقا بالرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك كانت همم أفاضل السلف، وأولى الناس بذلك أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وقد ذكرهن الله تذكيرا بديعا بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] كما سيأتي.
ولما كانت إرادتهن الله ورسوله والدار الآخرة مقتضية عملهن الصالحات وكان ذلك العمل متفاوتا، وجعل الجزاء على ذلك بالإحسان فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} ليعلمن أن هذا الأجر حاصل لهن على قدر إحسانهن، فهذا وجه ذكر وصف المحسنات وليس هو للاحتراز. وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة
(21/235)

على وصفه بالعظيم.
وتوكيد جملة الجزاء بحرف {إِنْ} الذي ليس هو لإزالة التردد إظهار للاهتمام بهذا الأجر. وقد جاء في كتب السنة: أنه لما نزلت هذه الآية ابتدأ النبيء صلى الله عليه وسلم بعائشة فقال لها: "إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم تلا هذه الآية، فقالت عائشة: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وقال لسائر أزواجه مثل ذلك فقلن مثل ما قالت عائشة" .
ولا طائل تحت الاشتغال بأن هذا التخيير هل كان واجبا على النبيء صلى الله عليه وسلم، أو مندوبا فإنه أمر قد انقضى ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يخالف أمر الله تعالى بالوجوب أو الندب.
[30] {يَا نِسَاءَ النبيء مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}
تولى الله خطابهن بعد أن أمر رسوله بتخييرهن فخيرهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فخاطبهن ربهن خطابا لأنهن أصبحن على عهد مع الله تعالى أن يؤتيهن أجرا عظيما. وقد سماه عمر عهدا فإنه كان كثيرا ما يقرأ في صلاة الصبح سورة الأحزاب فإذا بلغ هذه الآية رفع بها صوته فقيل له في ذلك فقال: أذكرهن العهد، ولما كان الأجر الموعود منوطا بالإحسان أريد تحذيرهن من المعاصي بلوغا بهن إلى مرتبة الملكية مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذابا مضاعفا. ونداؤهن للاهتمام بما سيلقى إليهن. وناداهن بوصف {نِسَاءَ النبيء} ليعلمن أن ما سيلقى إليهن خبر يناسب علو أقدارهن. والنساء هنا مراد به الحلائل، وتقدم في قوله تعالى: {وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} في سورة آل عمران [61]. وقرأ الجمهور {يَأْتِ} بتحتية في أوله مراعاة لمدلول {مَنْ} الشرطية لأن مدلولها شيء فأصله عدم التأنيث. وقرأه يعقوب {مَنْ يَأْتِ} بفوقية في أوله مراعاة لما صدق {من} أي: إحدى النساء. وقرأ الجمهور {يُضَاعَفْ} بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنيا للنائب ورفع {الْعَذَابُ} على أنه نائب فاعل. وقرأه ابن كثير وابن عامر {نضَعًفْ} بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب {الْعَذَابُ} على المفعولية، فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} إظهارا في مقام الإضمار. وقرأه أبو عمر ويعقوب {يُضَعًفْ} بتحتية للغائب
(21/236)

وتشديد العين مفتوحة. ومفاد هذه القراءات متحد المعنى على التحقيق.
وروى الطبري عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى: أن بين ضاعف وضعف فرقا، فأما ضاعف فيفيد جعل الشيء مثليه فتصير ثلاثة أعذبه وأما ضعف المشدد فيفيد جعل الشيء مثله. قال الطبري: وهذا التفريق لا نعلم أحدا من أهل العلم ادعاه غيرهما. وصيغة التثنية في قوله: {ضِعْفَيْنِ} مستعملة في إرادة الكثرة كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] لظهور أن البصر لا يرجع خاسئا وحسيرا من تكرر النظر مرتين، والتثنية ترد في كلام العرب كناية عن التكرير، كقولهم: لبيك وسعديك، وقولهم: دواليك، ولذلك لا نشتغل بتحديد المضاعفة المرادة في الآية بأنها تضعيف مرة واحدة بحيث يكون هذا العذاب بمقدار ما هو لأمثال الفاحشة مرتين أو بمقدار ذلك ثلاث مرات وذلك ما لم يشتغل به أحد من المفسرين، وما إعراضهم عنه إلا لأن أفهامهم سبقت إلى الاستعمال المشهور في الكلام، فما روي عن أبي عمرو وأبي عبيدة لا يلتفت إليه.
والفاحشة: المعصية قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه.
والمبينة: بصيغة اسم الفاعل مبالغة في بيان كونها فاحشة ووضوحه حتى كأنها تبين نفسها وكذلك قرأها الجمهور. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء، أي: يبينها فاعلها.
والمضاعفة: تكرير شيء ذي مقدار بمثل مقداره.
والضعف: مماثل عدد ما. وتقدم في قوله تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} في سورة الأعراف [38]. ومعنى مضاعفة العذاب: أنه يكون ضعف العذاب عذاب أمثال تلك المعصية إذا صدرت من غيرهن، وهو ضعف في القوة وفي المدة، وأريد عذاب الآخرة.
وجملة {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} معترضة، وتقدم القول في نظيرها آنفا. والمعنى: أن الله يحقق وعيده ولا يمنعه من ذلك أنها زوجة نبيء، قال تعالى {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} إلى قوله: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [التحريم: 10].
والتعريف في {الْعَذَابُ} تعريف العهد، أي: العذاب الذي جعله الله للفاحشة.
(21/237)

[31] {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} .
أعقب الوعيد بالوعد جريا على سنة القرآن كما تقدم في المقدمة العاشرة.
والقنوت: الطاعة، والقنوت للرسول على طاعته واجتلاب رضاه لأن في رضاه رضى الله تعالى، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وقرأ الجمهور {يَقْنُتْ} بتحتية في أوله مراعاة لمدلول {مَنْ} الشرطية كما تقدم في {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 30]. وقرأه يعقوب بفوقية في أوله مراعاة لما صدق {مَنْ} ، أي إحدى النساء، كما تقدم في قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} .
وأسند فعل إيتاء أجرهن إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفا لإيتائهن الأجر لأنه المأمول بهن، وكذلك فعل {وَأَعْتَدْنَا} .
ومعنى {مَرَّتَيْنِ} توفير الأجر وتضعيفه كما تقدم في قوله تعالى: {ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
وضمير {أَجْرَهَا} عائد إلى {مَنْ} باعتبار أنها صادقة على واحدة من نساء النبيء صلى الله عليه وسلم. وفي إضافة الأجر إلى ضميرها إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر. ومضاعفة الأجر لهن على الطاعات كرامة لقدرهن، وهذه المضاعفة في الحالين من خصائص أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم لعظم قدرهن لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة فضل الآتي بها. ودرجة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم عظيمة.
وقرأ الجمهور: {وَتَعْمَلْ} بالتاء الفوقية على اعتبار معنى {مَنْ} الموصولة المراد بها أحد النساء وحسنه معطوف على فعل {يَقْنُتْ} بعد أن تعلق به الضمير المجرور وهو ضمير نسوة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف {وَيعْمَلْ} بالتحتية مراعاة لمدلول {مَنْ} في أصل الوضع. وقرأ الجمهور {نُؤْتِهَا} بنون العظمة. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية على اعتبار ضمير الغائب عائدا إلى اسم الجلالة في قوله قبله {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [الأحزاب: 30].
والقول في {أَعْتَدْنَا لَهَا} كالقول في {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ} [الأحزاب: 29]. والتاء في {أَعْتَدْنَا} بدل عن أحد الدالين من "أعد" لقرب مخرجيها وقصد التخفيف.
(21/238)

والعدول عن المضارع إلى فعل ماضي في قوله: {أَعْتَدْنَا} إفادة تحقيق وقوعه.
والرزق الكريم: هو زرق الجنة قال تعالى {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً} [البقرة: 25] الآية. ووصفه بالكريم لأنه أفضل جنسه. وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
[32] {يَا نِسَاءَ النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} .
{يَا نِسَاءَ النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}
أعيد خطابهن من جانب ربهن وأعيد نداءهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماما يخصه.
وأحد: اسم بمعنى واحد مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص: 1] وهمزته بدل من الواو. وأصله: وحد بوزن فعل، أي متوحد، كما قالوا: فرد بمعنى منفرد. قال النابغة يذكر ركوبه راحلته:
كان رحلي وقد زاد النهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد
يريد على ثور وحشي منفرد. فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا: أحد، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي، قال تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس.
ونفي المشابهة هنا يراد به نفي المساواة مكنى به عن الأفضلية على غيرهن مثل نفي المساواة في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95]، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وجد ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء [95]. فالمعنى: أنتن أفضل النساء، وظاهرة تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة، وسبب ذلك أنهن اتصلن بالنبيء عليه الصلاة والسلام اتصالا قريبا من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن، ولأن إقباله عليهن إقبال خاص، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "حبب إليكم من دنياكم النساء والطيب" ، وقال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26]. ثم إن نساء النبيء عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن.
(21/239)

والتقييد بقوله: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو الهاب وتحريض على الازدياد من التقوى، وقريب من هذا المعنى قول النبيء صلى الله عليه وسلم لحفصة: "إن عبد الله - يعني أخاها - رجل صالح لو كان يقوم الليل" ، فلما أبلغت حفصة ذلك عبد الله بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام.
وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام، أي إن دمتن على التقوى فإن نساء النبيء صلى الله عليه وسلم متقيات من قبل، وجواب الشرط عليه ما قبله. واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة. وقد أختلف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبيء صلى الله عليه وسلم. وعن الأشعري الوقف في ذلك، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط. أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في "شرح الترمذي" في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم: أنه رأى ميزانا نزل من السماء فوزن النبيء صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرجح النبيء صلى الله عليه وسلم، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. والجهات التي بني عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال. وليس يلزم أن تكون بنات النبيء صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب "المقاصد" . وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها.
والأحسن أن يكون الوقف على {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} ، وقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ} ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط.
{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}
فرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادهن إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة، وفيها منافقوها.
وابتدئ من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فأن الناس متفاوتون في لينه، والنساء في كلامهن رقة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولين النفس ما إذا انضم إلى لينها الجبلي قربت هيئته الهيئة التدلل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة. فإذا بدا ذلك على
(21/240)

بعض النساء ظن بعض من يشافهها من الرجال أنها تحبب إليه، فربما اجترأت نفسه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة، بله أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم اللاتي هن أمهات المؤمنين.
والخضوع: حقيقة التذلل، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل.
والباء في قوله: {بِالْقَوْلِ} يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية، أي لا تخضعن القول، أي تجعلنه خاضعا ذليلا، أي مفككا. وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بينه المحققون من النحاة أن أصل قولك: ذهبت بزيد، أنك ذهبت مصاحبا له فأنت أذهبته معك، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة، وأفيدت التعدية بالباء. ويجوز أن تكون الباء بمعنى "في"، أي لا يكن منكن لين في القول.
والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت أي ليكن كلامكن جزلا.
والمرض: حقيقة اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان أول الإيمان من الأعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام، وكذلك من تخلقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك. وتقدم في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} في سورة البقرة [10].
وانتصب {يَطْمَعُ} في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع.
وحذف متعلق {فَيَطْمَعَ} تنزها وتعظيما لشأن نساء النبيء صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة.
وعطف {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} على {لا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار.
والقول: الكلام.
والمعروف: هو الذي يألفه الناس بحسب العرف العام، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهزن من يكلمهن أو
(21/241)

يسمعنه قولا بذيئا من باب: فليقل خيرا أو ليصمت. وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل.
[33] {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}
هذا أمر خصصن به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيرا لهن. وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبيء صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة. وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلون الجمعة في بيوت أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم كما في حديث "الموطأ" . وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف. ووجها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قر بمعنى: أقام واستقر، يقولون: قررت في المكان بكسر الراء من باب علم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قرن اقررن قولهم: أحسن بمعنى أحسسن في قول أبي زبيد:
سوى أن الجياد من المطايا ... أحسن به إليه شوس
وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة، وزعم أن قررت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قرة العين، والقراءة حجة عليهما. والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرة العين وأن المعنى: واقررن عيونا في بيوتكن، أي لكن في بيوتكن قرة فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن.
وقرأ بقية العشرة {وَقَرْنَ} بكسر القاف. قال المبرد: هو من القرار، أصله: اقررن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفا، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا: ظلت ومست. وقال ابن عطية: يصح أن يكون قرن، أي بكسر القاف أمرا من الوقار، يقال: وقر فلان فلا يقر والأمر منه قر للواحد، وللنساء قرن مثل عدن، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن
(21/242)

مع الإيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن.
وقرأ الجمهور {بِيُوتِكُنَّ} بكسر الباء. وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء.
وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم يميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى ساكنة البيت، يقولون: حجرة عائشة، وبيت حفصة، فهذه الإضافة كالإضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهن لأن البيوت بناها الرسول صلى الله عليه وسلم تباعا تبعا لبناء المسجد، ولذلك لما توفيت أزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على لمدينة ولم يعط عوضا لورثتهن.
وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجهن إلا لضرورة، وجاء في الحديث أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن" يريد حاجات الإنسان. ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين. وقد خرجت عائشة إلى بيت أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها: "وإنما هو اليوم مال وارث" رواه في "الموطأ" . وكن يخرجن من للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبيء صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحضر، وأبت سودة أن تخرج إلى الحج والعمرة بعد ذلك. وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} .
ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يمر عليها بجنازته في المسجد لتدعو له، أي لتصلي عليه. رواه في "الموطأ" .
وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى: وقعة الجمل، فلم يغير عليها ذلك كثير من جلة الصحابة منهم طلحة والزبير. وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل: عمار بن ياسر، وعلي بن أبي طالب، ولكل نظر في الاجتهاد. والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها
(21/243)

إلى البصرة مصلحة للمسلمين تسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلقوا بها وشكوا إليها ما صار إليه من عظم لفتنة ورجوا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين وظنوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القرار المأمور به في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يكافئ الخروج للحج. وأخذت بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بينهما} [الحجرات: 9] ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة فكان ذلك منها عن اجتهاد. وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما. وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب كقولنا في تقاتلهم في صفين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل. ولا ينبغي تقلد كلام المؤرخين على علاته فإن فيهم من أهل الأهواء ومن تلقفوا الغث والسمين. وما يذكر عنها رضي الله عنها: أنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى يبتل خمارها فلا ثقة بصحة سنده ولو صح لكان محمله أنها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية.
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
التبرج: إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال. وتقدم في قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} في سورة النور [60].
وانتصب {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} على المفعول المطلق وهو في معنى الوصف الكاشف أريد به التنفير من التبرج. والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهيات عنه. وفي تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج فإن المدينة أيامئذ قد بقي فيها نساء المنافقين وربما كن على بقية من سيرتهن في الجاهلية فأريد النداء على إبطال ذلك في سيرة المسلمات، ويظهر أن أمهات المؤمنين منهيات عن التبرج مطلقا حتى في الأحوال التي رخص للنساء التبرج فيها في سورة النور في بيوتهن لأن ترك التبرج كمال وتنزه عن الاشتغال بالسفاسف.
فنسب إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا ما أقره الإسلام.
و {الْجَاهِلِيَّةِ} : المدة التي كانت عليها العرب فبل الإسلام، وتأنيثها لتأويلها بالمدة.
(21/244)

والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} في سورة آل عمران [154].
ووصفها بـ{الأولى} وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام وجاء الإسلام بعدها فهو كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [النجم: 50]، وكقولهم: العشاء الآخرة، وليس ثمة جاهليتان أولى وثانية. ومن المفسرين من جعلوا وصفوا مقيدا وجعلوا الجاهلية جاهلتين فمنهم من قال: الأولى هي ما قبل الإسلام وستكون جاهلية أخرى بعد الإسلام يعني حين ترتفع أحكام الإسلام والعياذ بالله. ومنهم من قال: الجاهلية الأولى هي القديمة من عهد ما قبل إبراهيم ولم يكن للنساء وازع ولا لرجال، ووضعوا حكايات في ذلك مخلفة أو مبالغا فيها أو في عمومها، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد.
{وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم. وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية سقطت عنهم تكاليف الشرعية.
وخص الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء المر عاما بالطاعة لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتنى بهما حق العناية جرتاه إلى ما وراءهما، قال تعالى {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وقد بيناه في سورة العنكبوت [45].
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
متصل بما قبله إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء من قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النبيء مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 30] الآية. فإن موقع {إِنَّمَا} يفيد ربط ما بعدها بما قبلها لأن حرف "إن" جزءا من {إِنَّمَا} وحرف "إن" من شأنه أن يغني غناء فاء التسبب كما ينه الشيخ عبد القاهر، فالمعنى أمركن الله بما أمر ونهاكن عما نهى لأنه أراد لكن تخلية عن النقائص والتحلية بالكمالات. وهذا التعليل وقع معترضا بين الأوامر والنواهي المتعاطفة.
(21/245)

والتعريف في {الْبَيْتِ} تعريف العهد وهو بيت النبيء صلى الله عليه وسلم وبيوت النبيء صلى الله عليه وسلم كثيرة فالمراد هنا بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم وكل بيت من تلك البيوت أهله النبيء صلى الله عليه وسلم وزوجه صاحبة ذلك ولذلك جاء بعده قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34], وضميرا الخطاب موجهان إلى نساء النبيء صلى الله عليه وسلم على سنن الضمائر التي تقدمت. وإنما جيء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبيء صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب لأن رب كل بيت من بيوتهن وهو حاضر الخطاب إذ هو مبلغه. وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهن لأجل مقام النبيء صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاء والكمال، كما قال تعالى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] يعني أزواج النبيء للنبيء صلى الله عليه وسلم، وهو نظير قوله في قصة إبراهيم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها.
و {الرِّجْسَ} في الأصل: القذر الذي يلوث الأبدان، واستعير هنا للذنوب والنقائص الدينية لأنها تجعل عرض الإنسان في الدنيا والآخرة مرذولا مكروها كالجسم الملوث بالقذر. وقد تقدم في قوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} في سورة العقود [90]. واستعير التطهير لضد ذلك وهو تجنيب الذنوب والنقائص كما يكون الجسم أو الثوب طاهرا.
واستعير الإذهاب للإنجاء والإبعاد.
وفي التعبير بالفعل المضارع دلالة على تجدد الإرادة واستمرارها، وإذا أراد الله أمرا قدره إذ لا راد لإرادته.
والمعنى: ما يريد الله لكن مما أمركن ونهاكن إلا عصمتكن من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوام ذلك، أي لا يريد من ذلك مقتا لكن ولا نكاية. فالقصر قصر قلب كما قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]. وهذا وجه مجيء صيغة القصر بـ {إِنَّمَا} . والآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الكبائر وزكى نفوسهن.
و {أَهْلَ الْبَيْتِ} : أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحدا شك في ذلك ولم يفه منها أصحاب النبيء عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك وأن النزول في شأنهن.
(21/246)

وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سلمة قال: لما نزلت على النبيء: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة دعا فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره جللهم بكساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" . وقال: هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يسمه الترمذي بصحة ولا حسن ووسمه بالغرابة. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة: خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرحل فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} . وهذا أصرح من حديث الترمذي.
فمحمله أن النبيء صلى الله عليه وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهل بيته كما ألحق المدينة بمكة في حكم الحرمية بقوله: "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابيتها" . وتأول البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كما يقولون: فيهم البيت والعدد، ويكون هذا من محمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة كما أشرنا إليه في المقدمة التاسعة. وكأن حكمة تجليلهم معه بالكساء تقوية استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريبا لصورة البيت بقدر الإمكان في ذلك الوقت ليكون الكساء بمنزلة البيت ووجود النبيء صلى الله عليه وسلم معهم في الكساء كما هو في حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوبا إليه وبهذا يتضح أن أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم هن آل بيته بصريح منسوب إليه بذلك الآية وأن فاطمة وابنيها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها. ولذلك هم أهل بيته بدليل السنة وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بعضه بالجعل الإلهي وبعضه بالجعل النبوي ومثله قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" . وقد أستوعب ابن كثير روايات كثيرة من هذا الخبر مقتضية أن أهل البيت يشمل فاطمة وعليا وحسنا وحسينا. وليس فيها أن هذه الآية نزلت فيهم إلا حديثا واحدا نسبه ابن كثير إلى الطبري ولم يوجد في تفسيره عن أم سلمة أنها ذكر عندها علي ابن أبي طالب فقالت: فيه نزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وذكرت خبر تجليله مع فاطمة وابنيه بكساء "وذكر في مصحح طبعة "تفسير ابن كثير" أن في متن ذلك اختلافا في جميع النسخ ولم يفصله المصحح".
وقد تلقف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة
(21/247)

وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان، وزعموا أن أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم لسن من أهل البيت. وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشوا بين ما خوطب به أزواج النبيء. وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله: "هؤلاء أهل بيتي" صيغة قصر وهو كقوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي} [الحجر: 68] ليس معناه ليس لي ضيفا غيرهم، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها. ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين وأن منشأ قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها. ويدل لذلك ما رواه المفسرين عن عكرمة أنه قال: من شاء بأهلية أنها نزلت في أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم وأنه قال أيضا: ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبيء صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصرخ بذلك في السوق. وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبيء الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة.
وأما ما وقع من قول عمر بن أبي سلمة أن أم سلمة قالت: وأنا معهم يا رسول الله?. فقال: "أنت على مكانك وأنت على خير" . فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة لأن النبيء صلى الله عليه وسلم إنما أراد ما سألته من الحاصل لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه، فكان جواب النبيء صلى الله عليه وسلم تعليما لها. وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة: "إنك من أزواج النبيء" . وهذا أوضح في المراد بقوله: "إنك على خير".
ولما استجاب الله دعاءه كان النبيء صلى الله عليه وسلم يطلق أهل البيت على فاطمة وعلي وابينهما، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: "الصلاة يا أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ", قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
واللام في قوله: {لِيُذْهِبَ} لام جر تزاد للتأكيد غالبا بعد مادتي الإرادة والأمر، وينتصب الفعل المضارع بعدها بـ"أن" مضمرة إضمارا واجبا، ومنه قوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71], وقول كثير:
أريد لأنسى حبها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان
(21/248)

وعن النحاس أن بعض القراء سماها "لام أن" وتقد قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [26].
وقوله: {أَهْلَ الْبَيْتِ} نداء للمخاطبين من نساء النبيء صلى الله عليه وسلم مع حضرة النبيء عليه الصلاة والسلام، وقد شمل كل من ألحق النبيء صلى الله عليه وسلم بهن بأنه من أهل وهم: فاطمة وابناها وزوجها وسلمان لا يعدو هؤلاء.
[34] {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}
لما ضمن الله لهن العظمة أمرهن بالتحلي بأسبابها والتملي من آثارها والتزود من علم الشريعة بدراسة القرآن ليجمع ذلك اهتداءهن في أنفسهن ازدياد في الكمال والعلم، وإرشادهن الأمة إلى ما فيه صلاح لها من علم النبيء صلى الله عليه وسلم.
وفعل {اذْكُرْنَ} يجوز أن يكون من الذكر بضم الذال وهو التذكر، وهذه كلمة جامعة تشمل المعنى الصريح منه، وهو أن لا ينسين ما جاء في القرآن ولا يغفلن عن العمل به، ويشمل المعنى الكنائي وهو أن يراد مراعاة العمل بما يتلى في بيوتهن مما ينزل فيها وما يقرأه النبيء صلى الله عليه وسلم فيها، وما يبين فيها من الدين، ويشمل معنى كنائيا ثانيا وهو تذكر تلك النعمة العظيمة أن كانت بيوتهن موقع تلاوة القرآن.
ويجوز أن يكون من الذكر بكسر الذال، وهو إجراء الكلام على اللسان، أي بلغنه للناس بان يقرأن القرآن ويبلغن أقوال النبيء صلى الله عليه وسلم وسيرته. وفيه كناية عن العمل به. والتلاوة: القراءة، أي إعادة كلام مكتوب أو محفوظ، أي ما يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم. و {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} بيان لما يتلى فكل ذلك متلو، وذلك القرآن، وقد بين المتلو بشيئين: هما آيات الله، والحكمة، فآيات الله يعم القرآن كله، لأنه معجز عن معارضته فكان آية على أنه من عند الله.
وعطف {وَالْحِكْمَةِ} عطف خاص على عام وهو ما كان من القرآن مواعظ وأحكاما شرعية قال تعالى بعد ذكر الأحكام التي في سورة الإسراء [39] {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ، أي ما يتلى في بيوتهن عند نزوله، أو بقراءة النبيء صلى الله عليه وسلم ودراستهن القرآن، ليتجدد ما علمنه ويلمع لهن من أنواره ما هو مكنون لا ينضب معينه، وليكن مشاركات في تبليغ القرآن وتواتره ولم يزل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم
(21/249)

يرجعون إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام النساء ومن أحكام الرجل مع أهله، كما في قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، أي بلغ خبر سجني وبقائي فيه.
وموقع مادة الذكر هنا موقع شريف لتحملها هذه المحامل ما لا يتحمله غيرها إلا بإطناب. قال ابن العربي: إن الله أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل إليه فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من تبعه أن يبلغه إلى غيره ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة.
وقد تكرر ذكر الحكمة في القرآن في مواضع كثيرة, وبيناه في سورة البقرة.
وتقدم قريبا اختلاف القراء في كسر باء "بيوت" أو ضمنها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} تعليل للأمر وتذييل للجمل السابقة. والتعليل صالح لمحامل الأمر كلها لأن اللطف يقتضي إسداء النفع بكيفية لا تشق على المسدى إليه.
وفيما وجه إلى نساء النبيء صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي ما هو صلاح لهن وإجراء للخير بواسطتهن، وكذلك في تيسيره إياهن لمعاشرة الرسول عليه الصلاة والسلام وجعلهن أهل بيوته، وفي إعدادهن لسماع القرآن وفهمه، ومشاهدة الهدى النبوي، كل ذلك لطف لهن هو الباعث إلى ما وجهه إليهن من الخطاب ليتلقين الخبر ويبلغنه، ولأن الخبير ، أي العليم إذا أراد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن حصل مراده تاما لا خلل ولا غفلة.
فمعنى الجملة أنه تعالى موصوف باللطف والعلم كما دل عليه فعل {كَانَ} فيشمل عموم لطفه بهن وعلمه بما فيه نفعهن.
[35] {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
ويجوز أن تكون هذه الجملة استئنافا بيانيا لأن قوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] بعد قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}
(21/250)

[الأحزاب: 32] يثير في نفوس المسلمات أن يسألن: أهن مأجورات على ما يعملن من الحسنات وأهن مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم أم تلك خصائص لنساء النبيء عليه لصلاة والسلام، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن إذا ما ذكر مأمورات يعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها. ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن جرير والواحدي عن قتادة أن نساء دخلن على أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله في القرآن ولم يذكرنا بشيء ولو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله هذه الآية.
وروى النسائي وأحمد: أن أم سلمة قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم فقالت: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى الترمذي والطبراني: "أن أم عمارة الأنصارية أتت النبيء صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى النساء يذكرن بشيء" فنزلت هذه الآية.
وقال الواحدي: "قال مقاتل: بلغني أن أسماء بنت عميص لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء النبيء فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن? قيل: لا، فأتت النبيء صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار. قال: ومم ذلك? قالت: لأنهن لا يذكرن بالخير كما تذكر الرجال فأنزل الله هذه الآية".
فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساء، وأما ذكر الرجال فللإشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصا بالرجال إلا الأحكام التي لا تتصور في غير النساء، فشريعة الإسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نص على تخصيصه بأحد الصنفين، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة، ولعل هذا هو وجه تعدد الصفات المذكورة لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة.
وسلك مسلك الإطناب في تعداد الأوصاف لأن المقام لزيادة البيان لاختلاف أفهام الناس في ذلك، على أن في هذا التعداد إيماء إلى أصول التشريع كما سنبينه في آخر تفسير هذه الآية.
وبهذه الآثار يظهر اتصال هذه الآيات بالتي قبلها. وبه يظهر وجه تأكيد هذا الخبر
(21/251)

بحرف {إِنَّ} لدفع شك من شك في هذا الحكم من النساء.
والمراد بـ {الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} من اتصف بهذا المعنى المعروف شرعا. والإسلام بالمعنى الشرعي هو شهادة أن لا أله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، ولا يعتبر إسلاما إلا مع الإيمان. وذكر {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بعده للتنبيه على أن الإيمان هو الأصل، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في البقرة [132].
والمراد بـ {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} والذين آمنو. والإيمان: أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقدر خيره وشره. وتقدم الكلام على الإيمان في أوائل سورة البقرة.
و {والقانتين والقانتات} : أصحاب القنوت وهو الطاعة لله وعبادته، وتقدم آنفا {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31]. و {الصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} من حصل منهم صدق القول وهو ضد الكذب والصدق كله حسن والكذب لا خير فيه إلا لضرورة. وشمل ذلك الوفاء بما يلتزم به من أمور الديانة كالوفاء بالعهد والوفاء بالنذر، وتقدم من قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في سورة البقرة [177].
و بـ {الصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} : أهل الصبر. والصبر محمود في ذاته لدلالته على قوة العزيمة، ولكن المقصود هنا هو تحمل المشاق في أمور الدين وتحمل المكاره في الذب عن الحوزة الإسلامية، وتقدم مستوفي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} آخر سورة آل عمران [200].
وبـ {الْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} : أهل الخشوع، وهو الخضوع لله والخوف منه وهو يرجع إلى معنى الإخلاص بالقلب فيما يعمله المكلف. ومطابقة ذلك لما يظهر من آثاره على صاحبه. والمراد: الخشوع لله بالقلب والجوارح، وتقدم في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} في سورة البقرة [45].
وبـ {الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} : من يبذل الصدقة من ماله للفقراء، وتقدم في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} في سورة النساء [114]. وفائدة ذلك للأمة عظيمة.
وأما "الصائمون والصائمات" فظاهر ما في الصيام من تخلق برياضة النفس لطاعة الله إذ يترك المرء ما هو جبلي من الشهوة تقربا إلى الله، أي برهانا على أن رضى الله عنه
(21/252)

ألذ من أشد اللذات ملازمة له.
وأما حفظ الفروج فلأن شهوة الفرج شهوة جبلية وهي في الرجل أشد وقد أثنى الله على الأنبياء بذلك فقال في يحيى {وَحَصُوراً} [آل عمران: 39] وقال في مريم {والَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91]، وهذا الحفظ له حدود سنتها الشريعة، فالمراد: حفظ الفروج على أن تستعمل في نهي عنه شرعا، وليس المراد: حفظها عن الاستعمال أصلا وهو الرهبنة فإن الرهبنة مدحوضة في الإسلام بأدلة متواترة المعنى.
وأما "الذاكرون والذاكرات" فهو وصف صالح لأن يكون من الذكر بكسر الذال وهو ذكر اللسان كالذي في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقوله في الحديث: "ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" ، ومن الذكر بضمنها كما تقدم آنفا في قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34]، والذي في قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].
ومفعول و {الْحَافِظَاتِ} محذوف دل عليه ما قبله من قوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ} ، وكذلك مفعول و {الذَّاكِرَاتِ} .
وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها.
فالإسلام يجمع قواعد الدين الخمس المفروضة التي هي أعمال، والإيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة وهو شرط أعمال الإسلام كلها قال تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17].
والقنوت يجمع الطاعات كلها مفروضها ومسنونها، وترك المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها، وهو معنى التوبة، فالقنوت هو تمام الطاعة، فهو خير مساو للتقوى. فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم.
والصدق يجمع كل عمل هو في موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلها. ومن الصدق صدق الأفعال.
والصبر جامع لما يختص بتحمل المشاق من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإنصاف من النفس.
(21/253)

والخشوع: الإخلاص بالقلب الظاهر، وهو الانقياد وتجنب المعاصي. ويدخل في الإحسان وهو المفسر في حديث جبريل "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ويدخل تحت ذلك جميع القرب والنوافل فإنها من آثار الخشوع، ويدخل فيه التوبة مما أقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها.
والتصدق يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإرفاق.
والصوم: عبادة عظيمة فلذلك خصصت بالذكر من أن الفروض منه مشمول للإسلام في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ويفي صوم النافلة، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به وفي الحديث "قال تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به".
وحفظ الفروج أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح وما يتفرع عنها وما هو وسيلة لها.
وذكر الله كما علمت له محملان:
أحدهما : ذكره اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته.
قال النبيء صلى الله عليه وسلم "ما أجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكر الله فيمن عنده" ، ففي قوله: "وذكرهم الله" إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل على أنهم كانوا في شيء من ذكر الله وقد قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقال فيما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم "وان ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" . وشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار.
والمحمل الثاني: الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] فدخل فيه التوبة ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحرابة والإضرار بالناس في المعاملات. ومما يوضح شموله بالشرائع كلها تقييده بـ {كَثِيراً} لأن المرء إذا ذكر الله كثيرا فقد استغرق ذكره المحملين جميع ما يذكر الله عنده.
ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في
(21/254)

تفاصيلها.
والمغفرة: عدم المؤاخذة بما فرط من الذنوب، وقد تقدمت في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} في سورة الأعراف [23]. واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب: الفاء وثم، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتا لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات، فإذا قلت: وجدت فيهم الكريم الشجاع والشاعر كان المعنى: أنك وجدت فيهم ثلاثة أناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات. وفي الحديث: "فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة" أي أصحاب المرض والضعف والحاجة، وبخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [الصافات: 1- 3] فإن أوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد. ولهذا فحق جملة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} أن تكون خبرا في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات فكأنه قيل: إن المسلمين أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيم، إن المسلمات أعد الله لهن مغفرة وأجرا عظيما، وهكذا. والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل {أَعَدَّ} قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول فصحة الإخبار به عن كل واحد من الموصوفات والمتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة لأن الأجر العظيم يصلح لأن يعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر.
وأما صحة الإخبار بفعل {أَعَدَّ} عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول به {مَغْفِرَةً} فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المذنب وعدا من الله بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]. وألحقت السنة بموجبات المغفرة الحج المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى.
والوجه في تفسير ذلك عندي أن تحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملا أراعي فيه الجري على سنن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإسلام كقوله:
(21/255)

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال: 4] فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب.
والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإجمال بالجمع بين أدلة الشريعة. وقد سكت جمهور المفسرين عن التصدي لبيان مفاد هذا الوعد ولم يعرج عليه فيما رأيت سوى صاحب "الكشاف" فجعل معنى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} : إن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما، وجعل واو العطف بمعنى المعية، وجعل العطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات، وهذا تكلف وصنع باليد وتبعه البيضوي وكثير. ويعكر عليه أن يجمع تلك الصفات لا يوجب المغفرة لأن الكبائر لا تسقطها عن صاحبها إلا التوبة إلا أن يضم إلى كلامه ضميمة وهي حمل {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ... وَالذَّاكِرَاتِ} على معنى المتصفين بالذكر اللساني والقلبي، فيكون الذكر القلبي شاملا للتوبة كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] فيكون الذين جمعوا هذه الخصال العشر قد حصلت لهم التوبة، غير أن هذا الاعتذار عن الزمخشري لا يتجاوز هذه الآية فإن في القرآن آيات كثيرة مثلها يضيق عنها نطاق هذا الاعتذار، منها قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} إلى قوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} الآية في سورة الفرقان [63- 75].
[36] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}
معظم الروايات على أن هذه الآية نزلت في شأن خطبه زينب بنت جحش على زيد بن حارثة. قال ابن عباس: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على فتاه زيد ابن حارثة زينب بنت جحش فاستنكفت وأبت وأبي وأخوها عبد الله بن جحش فأنزل الله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الآية، فتابعته ورضيت لأن تزويج زينب يزيد بن حارثة كان قبل الهجرة فتكون هذه الآية نزلت بمكة ويمون موقعها في هذه السورة التي هي مدنية إلحقاقا لها بها لمناسبة أن تكون مقدمة لذكر تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب الذي يظهر أن وقع بعد وقعة الأحزاب وقد علم الله ذلك من قبل فقدر له الأحوال التي حصلت من بعد.
ووجود واو العطف في أول الجملة يقتضي أنها معطوفة على كلام نزل قبلها
(21/256)

من سورة أخرى لم نقف على تعيينه ولا تعيين السورة التي كانت الآية فيها، وهو عطف جملة على جملة لمناسبة بينهما.
وروي عن جابر بن زيد أن سبب نزول هذه الآية: أن وأم كلثوم بتت عقبة بن أبي معيط وكانت أول من هجران من النساء وأنها وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد بن حارثة، بعد أن طلق زيد زينب بنت جحش كما سيأتي قريبا، فكرهت هي وأخوها ذلك وقالت: إنما أردت رسول الله فزوجني عبده ثم رضيت هي وأخوها بعد نزول الآية.
والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله، بإيجاب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلما أعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر، وسوى في ذلك بين النساء والرجال، أعقبه بيان أ، طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمر هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية.
وإقحام {كَانَ} في النفي أقوى دلالة على انتفاء الحكم لأن فعل {كَانَ} لدلالته على الكون، أي الوجود يقتضي نفيه انتفاء الكون الخاص برمته كما تقدم غير مرة.
والمصدر المستفاد من {أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} في محل رفع اسم {كَانَ} المنفية وهي {كَانَ} التامة.
وقضاء الأمر تبيينه والإعلام به قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66].
ومعنى {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إذا عزم أمره ولم يجعل للمأمور خيارا في الامتثال، فهذا الأمر هو الذي يجب على المؤمنين امتثاله احترازا من نحو قوله للذين وجدهم يأبرون نخلهم: "لو تركتموها لصلحت، ثم قالوا تركناها فلم تصلح، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم". ومن نحو ما تقدم في أول السورة من همه بمصالحة الأحزاب على نصف ثمر المدينة ثم رجوعه عن ذلك لما استشار السعدين، ومن نحو أمره يوم بدر بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن النذر: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة? قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال: فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربوا. فقال
(21/257)

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي " ، فنهض بالناس. وفي الحديث أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان صائما فلما غربت الشمس قال لبلال: "انزل فاجدح لنا"، فقال: يا رسول الله لو أمسيت. ثم قال: "انزل فاجدح لنا"، فقال: يا رسول الله لو أمسيت إن عليك نهارا ثم قال: "انزل فأجدح"، فنزل فجدح له في الثالثة فشرب . فمراجعة بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه علم أن الأمر غير عزم.
وذكر اسم الجلالة هنا للإيماء إلى أن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة لله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. فالمقصود إذا قضى رسول الله أمرا كما تقدم في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} في سورة الأنفال [41] إذ المقصود: فإن للرسول خمسه.
و {الْخِيَرَةُ} : اسم مصدر تخير كالطيرة اسم مصدر تطير. قيل ولم يسمع في هذا الوزن غيرهما، وتقدم في قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} في سورة القصص [68].
و {مِنْ} تبعيضية. و {أَمْرِهِمْ} بمعنى شأنهم وهو جنس، أي أمورهم. والمعنى: ما كان اختيار بعض شؤونهم ملكا يملكونه بل يتعين عليهم اتباع ما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا خيرة لهم.
و"مؤمن ومؤمنة" لما وقعا في حيز النفي يعمان جميع المؤمنين والمؤمنات فلذلك جاء ضميرها ضمير جمع لأن المعنى: ما كان لجمعهم ولا لكل واحد منهم الخيرة كما هو شأن العموم.
وقرأ الجمهور {أَنْ تَكُونَ} بمثناة فوقية لأن فاعله مؤنث لفظا. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف وهشام وابن عمر بتحتية لأن الفاعل المؤنث غير الحقيقي يجوز في فعله التذكير ولا سيما إذا وقع الفصل بين الفعل وفاعله.
وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} تذييل تعميم للتحذير من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عمد للهوى في المخالفة.
[37] {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً
(21/258)

زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}.
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} .
و {إِذْ} اسم زمان مفعول لفعل محذوف تقديره: اذكر، وله نظائر كثيرة. وهو من الذكر بضم الذال الذي هو بمعنى التذكر فلم يأمره الله بأن يذكر ذلك للناس إذ لا جدوى في ذلك لكنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرتب عليه قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} . والمقصود بهذا الاعتبار بتقدير الله الأسباب لمسبباتها لتحقيق مراده سبحانه، ولذلك قال عقبه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38].
وهذا مبدأ المقصود من الانتقال إلى حكم إبطال التبني ودحض ما بناه المنافقون على أساسه الباطل بناء على كفر المنافقين الذين غمزوا مغامز في قضية تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا: تزوج حليلة ابنه وقد نهى عن تزوج حلائل الأبناء. ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] الآية. وبالإعراض عن المشركين والمنافقين وعن أذاهم.
وزيد هو المعني بقوله تعالى: {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ، فالله أنعم عليه بالإيمان والخلاص من أيدي المشركين بأن يسر دخوله في ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول عليه الصلاة والسلام أنعم عليه بالعتق والتبني والمحبة، ويأتي التصريح باسمه العلم إثر هذه الآية في قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً} وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من كلب بن وبرة وبنو كلب من تغلب. كانت خيل من بني القين بن جسر أغاروا على أبيات من بني معن خرجت به إلى قومها تزورهم فسبقته الخيل المغيرة وباعوه في سوق حباشة "بضم الحاء المهملة" بناحية مكة فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته خديجة لرسول اله صلى الله عليه وسلم "وزيد يومئذ ابن ثمان سنين" وذلك قبل البعثة، فحج ناس من كلب فرأوا زيدا بمكة فعرفوه وعرفهم فأعلموا أباه ووصفوا موضعه وعند من هو، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة وكلما النبيء صلى الله عليه وسلم في فدائه فأتى به النبيء صلى الله عليه وسلم إليهما فعرفهما، فقال له النبيء
(21/259)

عليه لصلاة والسلام: "اخترني أو اخترهما" . قال زيد: ما أنا بالذي اختار عليك أحدا فانصرف أبوه وعمه وطابت أنفسهما ببقائه، فلما رأى النبيء صلى الله عليه وسلم منه ذلك أخرجه إلى الحجر وقال: "يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وارثه", فصار ابنا للنبيء صلى الله عليه وسلم على حكم التبني بالجاهلية وكان يدعى: زيد بن محمد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجه أم أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد وطلقها. ثم أن رسول اله صلى الله عليه وسلم زوجه زينب بنت جحش الأسدي حليف آل عبد شمس وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب وهو يومئذ بمكة. ثم بعد أن الهجرة آخى الني صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ولما بطل حكم التبني بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] صار يدعى: حب رسول الله. وفي سنة خمس قبل الهجرة بعد غزوة الخندق طلق زيد بن حارثة زينب بنت جحش فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلقها، وتزوج درة بنت أبي لهب، ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير.
وشهد زيد بدرا والمغازي كلها. وقتل في غزوة مؤتة سنة ثمان وهو أمير على الجيش وهو ابن خمس وخمسون سنة.
وزوج زيد المذكورة في الآية هي زينب بنت جحش الأسدية وكان اسمها برة فلما تزوجها النبيء صلى الله عليه وسلم سماها زينب، وأبوها جحش من بني أسد بن خزيمة وكان أبوها حليفا لآل عبد شمس بمكة وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها زيد بن حارثة في الجاهلية ثم طلقها بالمدينة، وتزوجها النبيء صلى الله عليه وسلم سنة خمس، وتوفيت سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة، فتكون مولودة سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة، أي سنة عشرين قبل البعثة.
والإتيان بفعل القول بصيغة المضارع لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] وقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38] وفي ذلك تصوير لحث النبيء صلى الله عليه وسلم زيدا إلى إمساك زوجه وأن لا يطلقها، ومعاودته عليه.
والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول دون اسمه العلم الذي يأتي في قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} ولما تشعر به من الصلة المعطوفة وهي {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} من تنزه النبيء صلى الله عليه وسلم عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه، فالمقصود هو الصلة الثانية وهي {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} لأن المقصود منها أن زيدا أخص الناس به, وأن الرسول عليه الصلاة والسلام
(21/260)

احرص على صلاحه وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به، وأما صلة {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} فهي توطئة للثانية.
واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة: أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلت عليه بسؤددها وغضت منه بولايته فلما تكرر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يعلم رسول الله بعزمه على ذلك لأنه تزوجها من عنده.
وروي عن علي زين العابدين: أن الله أوحى إلى النبيء صلى الله عليه وسلم أنه سينكح زينب بنت جحش. وعن الزهري: نزل جبريل على النبيء صلى الله عليه وسلم يعلمه أن الله زوجه زينب بنت جحش وذلك هو ما في نفسه. وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري1 وأبي بكر بن العربي.
والظاهر عندي: أن ذلك كان في الرؤيا كما أرى أنه قال لعائشة: "أتاني بك الملك في المنام في سرقة من حرير يقول لي: هذه امرأتك فأكشف فإذا هي أنت فأقول: أن يكن هذا من عند لله يمضه".
فقول النبيء صلى الله عليه وسلم لزيد: "أمسك عليك زوجك" توفية بحق النصيحة وهو أمر نصح وإشارة بخير لا أمر تشريع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المقام متصرف بحق الولاء والصحبة لا بصفة التشريع والرسالة، وأداء هذه الأمانة لا يتأكد أنه كان يعلم أن زينب صائرة زوجا له لأن علم النبيء بما سيكون لا يقتضي إجراءه وإرشاده أو تشريعه بخلاف علمه أو ظنه فإن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن أبا جهل مثلا لا يؤمن ولم يمنعه ذلك أن يبلغه الرسالة ويعاوده الدعوة، ولأن رغبته في حصول شيء لا تقتضي إجراء أمره على حسب رغبته إن كانت رغبته تخالف ما يحمل الناس عليه، كما كان يرغب أن يقوم أحد يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح قبل أن يسمع إعلانه بالتوبة من ارتداده حين جاء به عثمان بن عفان يوم الفتح تائبا.
ولذلك كله لا يعد تصميم زيد على طلاق زينب عصيانا للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن أمره في ذلك كان على وجه التوفيق بينه وبين زوجه. ولا يلزم أحدا المصير إلى إشارة المشير كما اقتضاه حديث بريرة مع زوجها مغيث إذ قال لها: "لو راجعته? فقالت: يا رسول الله
ـــــــ
1 هو من المالكية، توفي سنة 344. ترجمه في "المدارك".
(21/261)

تأمرني? قال: لا إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه".
وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} يؤذن بأنه جواب عن كلام صدر من زيد بأن جاء زيدا مستشيرا في فراق زوجه، أو معلما بعزمه على فراقها.
و {أَمْسِكْ عَلَيْكَ} معناه: لازم عشرتها، فالإمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيها للصاحب بالشيء الممسك باليد.
وزيادة {عَلَيْكَ} للدلالة "على" على الملازمة والتمكن مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] أو لتضمن {أَمْسِكْ} معنى احبس، أي ابق في بيتك زوجك، وأمره بتقوى الله تابع للإشارة بإمساكها، أي اتق الله في عشرتها كما أمر الله ولا تحد عن واجب حسن المعاشرة، أي اتق لله بملاحظة قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229].
وجملة {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} عطف على جملة {تَقُولُ} . والإتيان بالفعل المضارع في قوله: {وَتُخْفِي} للدلالة على تكرر إخفاء ذلك وعدم ذكره. والذي في نفسه علمه بأنه سيتزوج زينب وأن زيدا يطلقها وذلك سر بينه وبين ربه ليس مما يجب عليه تبليغه ولا مما للناس فائدة من علمه حتى يبلغوه، ألا ترى أنه لم يعلم عائشة ولا أباها برؤيا إتيان الملك بها في سرقة حرير إلا بعد أن تزوجها.
فما صدق "ما في نفسك" هو التزوج بزينب وهو الشيء الذي سيبديه الله لأن الله أبدى ذلك في تزويج النبيء صلى الله عليه وسلم بها ولم يكن أحد يعلم أنه سيتزوجها ولم يبد الله شيئا غير ذلك فلزم أن يكون ما أخفاه في نفسه أمر يصلح للإظهار في الخارج، أي يكون من الصور المحسوسة.
وليست جملة {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} حالا من الضمير في {تَقُولُ} كما جعله في "الكشاف" لأن ذلك مبني على توهم أن الكلام مسوق مساق العتاب على أن يقول كلاما يخالف ما هو مخفي في نفسه ولا يستقم له معنى. إذ يفضي إلى أن يكون اللائق به أن يقول له غير ذلك وهو ينافي مقتضى الاستشارة، ويفضي إلى الطعن في صلاحية زينب للبقاء في عصمة زيد، وقد استشعر هذا صاحب "الكشاف" فقال: "فإن قلت فماذا أراد الله منه أن يقول حين قال له زيد: اريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له: أفعل فإني أريد نكاحها. قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك أو يقول أنت أعلم بشأنك حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته" اهـ وهو بناء على أساس كونه عتابا
(21/262)

وفيه وهن.
وجملة {وَتَخْشَى النَّاسَ} عطف على جملة {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} ، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه.
والخشية هنا كراهية ما يرجف به المنافقون، والكراهة من ضروب الخشية إذ الخشية جنس مقول على أفراده بالتشكيك فليست هي خشية خوف إذ خشية النبيء صلى الله عليه وسلم لم يكن يخاف أحد من ظهور تزوجه بزينب ولم تكن قد ظهرت أراجيف المنافقين بعد ولكن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يتوسم من خبثهم وسوء طويتهم ما كان منهم في قضية الإفك، ولم تكن خشية تبلغ به مبلغ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد، ولكنها استشعار في النفس وتقدير لما سيرجفه المنافقون.
والتعريف في {النَّاسَ} للعهد، أي تخشى المنافقين، أي يؤذوك بأقوالهم.
وجملة {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} معترضة لمناسبة جريان ذكر خشية الناس، والواو اعتراضية وليست واو الحال فمعنى الآية معنى قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]. وحملها على معنى الحال هو الذي حمل كثيرا من المفسرين على جعل الكلام عتابا للنبيء صلى الله عليه وسلم.
و {أَحَقُّ} اسم تفضيل مسلوب المفاضلة فهو بمعنى حقيق، إذ ليس في الكلام السابق ما يفيد وقوع إيثار خشية الناس على خشية الله ولا ما يفيد تعارضا بين الخشيتين حتى يحتاج إلى ترجيح خشية الله على خشية الناس، والمعنى: والله حقيق بأن تخشاه.
وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله لأن الله لم يكلفه شيئا فعمل بخلافه.
وبهذا تعلم أن النبيء صلى الله عليه وسلم ما فعل إلا ما يرضي الله، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيدا بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترضه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خفية أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإيمان كقوله للرجلين اللذين رأياه في الليل مع زينب فأسرعا خطاهما فقال: "على رسلكما إنما هي زينب. فكبر ذلك عليهما وقالا: سبحان الله يا رسول الله. فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم خشيت أن يقذف في قلوبكما".
(21/263)

فمقام النبيء صلى الله عليه وسلم في الأمة مقام الطبيب الناصح في بيمارستان يحوي أصنافا من المرضى إذا رأى طعاما يجلب لما لا يصلح ببعض مرضاه أن ينهي عن إدخاله خشية أن يتناوله من المرضى من لا يصلح ذلك بمرضه ويزيد في علته أو يفضي إلى انتكاسه.
وليس في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} عتاب ولا لوم ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين. وحمله كثير من المفسرين على معنى العتاب وليس في سياق الكلام ما يقتضيه فأحسبهم مخطئين فيه ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء عن طاعة ربهم كما قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النبيء مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 37, 39]، وأن عليه ان يعرض عن قول المنافقين وعلى نحو قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، فهذا جوهر ما أشارت إليه الآية وليس فيها ما يشير إلى غير ذلك.
وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة، فلا تصغ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبيء صلى الله عليه وسلم حين أمر زيدا بإمساك زوجه فإن ذلك من مختلقات القصاصين، فأما أن يكون ذلك اختلافا من لقصاصين لتزيين القصة، وأما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم فتلفقة القصاص وهو الذي نجزم به. ومما يدل لذلك انك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثرا مسندا إلى النبيء صلى الله عليه وسلم أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم ولكنها قصص وأخبار وقيل وقال.
ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزت كثيرا من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب. وقد تصدى أبو بكر بن العربي في "الأحكام" لوهن أسانيدها وكذلك عياض في "الشفاء" .
والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد. ومجموع القصة من ذلك: أن النبيء صلى الله عليه وسلم جاء بيت زيد يسأل عنه فرأى زينب وقيل رفعت الريح ستار البيت فرأى النبيء عليه الصلاة والسلام زينب فجأة على غير قصد فأعجبه حسنها وسبح لله وأن زينب
(21/264)

علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان وأن زيدا علم ذلك وانه أحب أن يطلقها ليؤثر بها مولاه النبيء صلى الله عليه وسلم، وأنه لما اخبر النبيء صلى الله عليه وسلم بذلك قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} "وهو يود طلاقها في قلبه ويعلم أنها صائرة زوجا له".
وعلى تفاوت أسانيده في الوهن ألقي إلى الناس في القصة فانتقل غثه وسمينه، وتحمل خفه ورزينه، فأخذ منه كل ما وسعه فهمه ودينه. ولو كان كله واقعا لما كان فيه مغمز في مقام النبوة.
فأما رؤية زينب في بيت زيد إن كانت عن عمد فذلك أنه استأذن في بيت زيد فإن الاستئذان واجب فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكن يسترن وجوههن قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] "أي الوجه والكفين" وزيد كان من أشد الناس اتصالا بالنبيء، وزينب كانت ابنة عمته وزوج مولاه ومتبناه، فكانت مختلطة بأهله، وهو الذي زوجها زيدا، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيت زيد، وأن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبل، فكذلك لا عجب فيه لأن رؤية الفجأة لا مؤاخذة عليها، وحصول الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمر قهري لا يملك الإنسان صرفه عن نفسه، وهل استحسان ذات المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة إذا لم يتبعه النظار نظرة.
وأما ما خطر في نفس النبيء صلى الله عليه وسلم من مودة تزوجها فإن وقع فما هو بخطب جليل لأنه خاطر لا يملك المرء صرفه عن نفسه وقد علمت أن قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} ليس بلوم، وأن قوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس.
وإنما تظهر مجالات النفوس في ميادين الفتوة بمقدار مصابرتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المرائي من ضعف في النفوس وخور العزائم وكفاك دليلا على تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المقام هو أفضل من ترسيخ قدمه في أمثاله أنه لم يزل يراجع زيدا في إمساك زوجه مشيرا عليه بما فيه خير له وزيد يرى ذلك إشارة ونصحا لا أمرا وشرعا.
ولو صح أن زيدا علم مودة النبيء صلى الله عليه وسلم تزوج زينب فطلقها زيدا لذلك دون أمر من النبيء عليه الصلاة والسلام ولا التماس لما كان عجبا فإنهم كانوا يؤثرون النبيء صلى الله عليه وسلم على
(21/265)

أنفسهم، وقد تنازل له دحية الكلبي عن صفية بنت حيي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خيبر، وقد عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمان بن عوف أن يتنازل عن إحدى زوجتيه يختارها للمؤاخاة التي آخى النبيء صلى الله عليه وسلم بينهما.
وأما إشارة النبيء عليه الصلاة والسلام على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحة وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل. والتخليط بين الحالتين تخليط بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم الله في الباطن وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث. وليس هذا من خائنة الأعين، كما توهمه من لا يحسن، لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد.
وليس هو أيضا من الكذب لأن قول النبيء عليه الصلاة والسلام لزيد {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} لا يناقض رغبته في تزوجها وإنما ينقاضه لو قال: إني أحب أن تمسك زوجك، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار. ومن حق المستشار أعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير، وإن كان صلاح المشير في خلافه فضلا على كون ما في هذه القصة إنما تخالف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثر.
فإن قلت: فما معنى ما روي في الصحيح عن عائشة أنها قالت: لو كان رسول الله كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} الآية.
قلت: أرادت أن رغبة النبيء صلى الله عليه وسلم في تزوج زينب أو إعلام الله إياه بذلك كان سرا في نفسه لم يطلع عليه أحدا إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد، وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد في قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} . فما طلقها زيد ورام تزوجها علم ان المنافقين سيرجفون بالسوء، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة وتبليغ خبره بلغه ولم يكتمه مع انه ليس في كتمه تعطيل شرع ولا نقص مصلحة فلو كان كاتما لكتم هذه الآية التي هي حكاية سر في نفسه وبينه وبين ربه تعالى، ولكنه لما كان وحيا بلغه لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه.
واعلم أن للحقائق نصابها، وللتصرفات موانعها وأسبابها، وأن الناس قد تمتلكهم العوائد، فتحول بينهم وبين إدراك الفوائد، فإذا تفشت أحوال في عاداتهم استحسنوها ولو
(21/266)

ساءت، وإذا ندرت المحامد دافعوها إذا رامت مداخلة عقولهم وشاءت، وكل ذلك من تحريف الفطرة عن وضعها، والمباعدة بين الحقائق وشرعها.
ولما جاء الإسلام أخذ يغزو تلك الجيوش ليقلعها من أقاصيها، وينزلها من صياصيها، فالحسن المشروع ما تشهد الفطرة لحسنه، والقبيح الممنوع الذي أماتته الشريعة وأمرت بدفنه.
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} .
تفريع على جملة {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} الآية، وقد طوي كلام يدل عليه السياق، وتقديره: فلم يقبل منك ما أشرت عليه ولم يمسكها.
ومعنى {قَضَى} استوفى وأتم. واسم {زَيْدٌ} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: فلما قضى منها وطرا، أي قضى الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه، فعدل عن مقتضى الظاهر للتنويه بشأن زيد. قال القرطبي: قال السهيلي: كان يقال له زيد بن محمد فلما نزع عنه هذا الشرف حين نزل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن سماه في القرآن، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم نوه غاية التنويه اهـ.
والوطر: الحاجة المهمة والنهمة قال النابغة:
فمن يكن قد قضى من خلة وطرا ... فإنني منك قضيت أوطاري
والمعنى: فلما استتم زيدا مدة معاشرة زينب فطلقها، أي فلما لم يبق له وطر منها.
ومعنى {زَوَّجْنَاكَهَا} إذنا لك بأن تتزوجها، وكانت زينب أيما فتزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام برضاها. وذكر أهل السير: أنها زوجها إياه أخوها أبو أحمد بن الضرير واسمه عبد بن جحش فلما أمره الله بتزوجها قال لزيد بن حارثة: ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب علي، قال زيد: فجئتها فوليتها ظهري توقيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: يا زينب أرسل رسول الله يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي وقامت إلى مسجدها وصلت صلاة الاستخارة فرضيت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فبنى بها. وكانت زينب تفخر على نساء النبيء صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني ربي. وهذا يقتضي إن لم يتول أخوها أبو أحمد تزويجها فتكون هذه خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم عند الذين يشترطون
(21/267)

الولي في لنكاح كالمالكية دون قول الحنفية. ولم يذكر في الروايات أن النبيء عليه الصلاة والسلام أصدقها فعده بعض أهل السير من خصوصياته صلى الله عليه وسلم فيكون في تزوجها خصوصيتان نبويتان.
وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دعيه، فلما أبطله الله بالقول إذ قال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] أكد إبطاله بالفعل حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل: إن ذاك وإن صار حلالا فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعي من أفضل الناس وهو النبيء صلى الله عليه وسلم.
والجمع بين اللام وكي توكيد للتعليل كأنه يقول: ليست العلة غير ذلك ودلت الآية على أن الأصل في الحكام التشريعية أن تكون سواء بين النبيء صلى الله عليه وسلم والأمة حتى يدل دليل على الخصوصية.
وجملة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} تذييل لجملة {زَوَّجْنَاكَهَا} . وأمر الله يجوز أن يراد به من إباحة تزوج من كن حلائل الأدعياء، فهو معنى الأمر التشريعي فيه. ومعنى {مَفْعُولاً} أنه متبع ممتثل فلا ينزه أحد عنه، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
ويجوز أن يراد الأمر التكويني وهو ما علم أنه يكون وقدر أسباب كونه، فيكون معنى {مَفْعُولاً} واقعا. والمر من إطلاق السبب على المسبب، والمفعول هو المسبب.
وتزوج النبيء صلى الله عليه وسلم زينب من أمر الله بالمعنيين.
[38, 39] {مَا كَانَ عَلَى النبيء مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}.
استئناف لزيادة بيان مساواة النبيء صلى الله عليه وسلم للأمة في إباحة تزوج مطلقة دعيه وبيان أن ذلك لا يخل بصفة النبوة لأن تناول المباحات من سنة الأنبياء قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51]، وان النبيء إذا رام الانتفاع بمباح لميل نفسه إليه ينبغي له أن يتناوله لئلا يجاهد نفسه فيما لم يؤمر بمجاهدة النفس فيه، لأن
(21/268)

الأليق به أن يستبقي عزيمته ومجاهدته لدفع ما أمر بتجنبه.
وفي هذا الاستئناف ابتداء لنقض أقوال المنافقين: أن النبيء صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ابنه.
ومعنى {فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} قدره، إذ أذنه بفعله. وتعدية فعل {فَرَضَ} باللام تدل على هذا المعنى بخلاف تعديه بحرف "على" كقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50].
والسنة: السيرة من عمل أو خلق يلازمه صاحبه. ومضى القول في هل السنة اسم جامد أو مصدر عند قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} في سورة آل عمران [137]، وعلى الأول فانتصاب {سُنَّةَ اللَّهِ} هنا على أنه اسم وضع في موضع المصدر لدلالته على معنى فعل ومصدر. وقال في "الكشاف" كقولهم: تربا وجندلا، أي في الدعاء، أي ترب تربا. وأصله: ترب له وجندل له. وجاء على مراعاة الأصل قول المعري:
تمنت قويقا والسراة حيالها ... تراب لها من أينق وجمال
ساق مساق التعجب المشوب بغضب.
وعلى الثاني فانتصاب {سُنَّةَ} على المفعول المطلق وعلى كلا الوجهين فالفعل مقدر دل عليه المصدر أو نائبه. فالتقدير: سن الله سنته في الذين خلوا من قبل.
والمعنى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم متبع سنة الأنبياء الذين سبقوه اتباعا لما فرض الله له كما فرض لهم، أي أباح.
والمراد بـ {الَّذِينَ خَلَوْا} : الأنبياء بقرينة سياق لفظ النبيء، أي الذين خلوا من قبل النبوة. وقد زاده بيانا قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} ، فالأنبياء كانوا متزوجين وكان لكثير منهم عدة أزواج، وكان بعض أزواجهم أحب إليهم من بعضهن.
فإن وقفنا عند ما جاء في هذه الآية وما بينته الآثار الصحيحة فالعبرة بأحوال جميع الأنبياء.
وإن تلقينا بشيء من الإغضاء بعض الآثار الضعيفة التي ألصقت بقصة تزوج زينب كان داود عليه السلام عبرة بالخصوص فقد كانت له زوجات كثيرات وكان قد أحب أن يتزوج زوجة "أوريا" وهي التي ضرب الله لها مثلا بالخصم الذين تسوروا المحراب وتشاركوا بين يديه. وستأتي في سورة ص، وقد ذكرت القصة في "سفر الملوك" . ومحل
(21/269)

التمثيل بداود في أصل انصراف رغبته إلى امرأة لم تكن حلالا له فصارت حلالا له، وليس محل التمثيل فيما حف بقصة داود من لوم الله إياه على ذلك كما قال {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} [ص: 24] الآية لأن ذلك منتف في قصة تزوج زينب.
وجملة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} معترضة بين الموصوف والصفة إن كانت جملة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} صفة لـ {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} , أو تذييل مثل جملة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] إن كانت جملة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} مستأنفة كما سيأتي، والقول فيه مثل نظيره المتقدم آنفا.
والقدر بفتح الدال: إيجاد الأشياء على صفة مقصودة وهو مشتق من القدر بسكون الدال وهو الكمية المحددة المضبوطة، وتقدم في قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} في سورة الرعد [17] وقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} في سورة الحجر [21]. ولما كان من لوازم هذا المعنى أن يكون مضبوطا محكما كثرت الكناية بالقدر عن الإتقان والصدور عن العلم. ومنه حديث: "كل شيء بقضاء وقدر"، أي من الله.
واصطلح علماء الكلام: أن القدر اسم للإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، ويطلقونه على الشيء الذي تعلق به القدر وهو المقدور كما في هذه الآية، فالمعنى: وكان أمر الله مقدرا على حكمة أرادها الله تعالى من ذلك الأمر، فالله لما أمر رسوله عليه الصلاة السلام بتزوج زينب التي فارقها زيد كان عالما بأن ذلك لائق برسوله عليه الصلاة والسلام كما قدر لأسلافه من الأنبياء.
وفي قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} جيء بالموصول دون اسم الإشارة أو الضمير لما في هذه الصلة من إيماء إلى انتفاء الحرج عن الأنبياء في تناول المباح بأن الله أراد منهم تبليغ الرسالة وخشية الله بتجنب ما نهى عنه ولم يكفلهم إشقاق نفوسهم بترك الطيبات التي يريدونها، ولا حجب وجدانهم عن إدراك الأشياء على ما هي عليه من حسن الحسن وقبح القبيح، ولا عن انصراف الرغبة إلى تناول ما حسن لديهم إذ كان ذلك في حدود الإباحة، ولا كلفهم مراعاة أميال الناس ومصطلحاتهم وعوائدهم الراجعة إلى الحيدة بالأمور عن مناهجها فإن في تناولهم رغباتهم المباحة عونا لهم على النشاط في تبليغ رسالات الله، ولذلك عقب بقوله: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} ، أي لا يخشون أحدا خشية تقتضي فعل شيء أو تركه.
ثم أن جملة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} إلى آخرها يجوز أن تكون في موضع الصفة للذين
(21/270)

خلوا من قبل، أي الأنبياء. وإذ قد علم أن النبيء صلى الله عليه وسلم متبع ما أذن الله له اتباعه من سنة الأنبياء قبله علم أنه متصف بمضمون جملة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} بحكم قياس المساواة، فعلم أن الخشية التي في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب: 37] ليست خشية خوف توجب ترك ما يكرهه الناس أو فعل ما يرغبونه بحيث يكون الناس محتسبين على النبيء عليه الصلاة والسلام ولكنها توقع أن يصدر من الناس وهم المنافقون ما يكرهه النبيء عليه الصلاة والسلام ويدل لذلك قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} ، أي الله حسيب الأنبياء لا غيره.
هذا هو الوجه في سياق تفسير هذه الآيات، فلا تسلك في معنى الآية مسلكا يفضي بك إلى توهم أن النبيء صلى الله عليه وسلم حصلت منه خشية الناس وان الله عرض به في قوله: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} تصريحا بعد أن عرض به تلميحا في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب: 37] بل النبيء عليه الصلاة والسلام لم يكترث بهم وأقدم على تزوج زينب، فكل ذلك قبل نزول هذه الآيات التي ما نزلت إلا بعد تزوج زينب كما هو صريح قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ولم يتأخر إلى نزول هذه الآية.
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} حيث تقدم ذكره لقصد أن تكون هذه الجملة جارية مجرى المثل والحكمة.
وإذ قد كان هذا وصف الأنبياء فليس في الآية مجال الاستدراك عليها بمسألة التقية في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
[40] {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النبيءينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}
ستئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك.
وهو ناظر إلى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]. والغرض من هذا العموم قطع توهم أن يكون النبيء صلى الله عليه وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام النبوة حتى لا يتطرق الإرجاف والاختلاق إلى أن يتزوجهن من أيامي المسلمين أصحابه مثل أم سلمة وحفصة.
(21/271)

و {مِنْ رِجَالِكُمْ} وصف لـ {أَحَدٍ} ، وهو احتراس لأن النبيء صلى الله عليه وسلم أبو بنات. والمقصود: نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان ولد له أولاد أو ولدان بمكة من خديجة وهم الطيب والطاهر "أو هما اسمان لواحد" والقاسم، وولد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية، وكلهم ماتوا صبيانا ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية.
والمنفي هو وصف الأبوة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وهم فيه من وهم فلا التفات إلى كونه جدا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود. ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا، أو المراد أبوة الصلب دون أبوة الرحم.
وإضافة "رجال" إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجا للكلام في صيغة التغليط والتغليظ.
وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وانه قال: {مِنْ رِجَالِكُمْ} وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمدا صلى الله عليه وسلم بريء من المخاطبين اعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى: {وأَزْوَاجَهُ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 6] كما تقدم.
واستدراك قوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} لرفع ما قد يتوهم من نفي أبوته، من انفصال صلة التراحم والبر بينه وبين الأمة فذكروا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كالأب لجميع أمته في شفقته ورحمته بهم، وفي برهم وتوقيرهم إياه، شأن كل نبي مع أمته.
والواو الداخلة على {لَكِنْ} زائدة و {لَكِنْ} عاطفة ولم ترد {لَكِنْ} في كلام العرب عاطفة إلا مقترنة بالواو كما صرح به المرادي في "شرح التسهيل" . وحرف {لَكِنْ} مفيد الاستدراك.
وعطف صفة {وَخَاتَمَ النبيءينَ} على صفة {رَسُولَ اللَّهِ} تكميل وزيادة في التنويه بمقامه صلى الله عليه وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمة قدرها الله تعالى وهي إرادة أن لا يكون إلا مثل الرسل أو أفضل في جميع خصائصه.
وإذا قد كان الرسل لم يخل عمود أبنائهم من نبي كان كونه خاتم النبيءين مقتضيا أن لا يكون له أبناء بعد وفاته لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته ولم تخلع عليهم خلعة النبوءة
(21/272)

لأجل ختم النبوة به كان ذلك غضا فيه دون سائر الرسل وذلك ما لا يريده الله به. ألا ترى أن الله لما أراد قطع النبوة من بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام صرف عيسى عن التزوج.
فلا تجعل قوله: {وَخَاتَمَ النبيءينَ} داخلا في حيز الاستدراك لما علمت من أنه تكميل واستطراد بمناسبة إجراء وصف الرسالة عليه. وببيان الحكمة يظهر حسن موقع التذييل بجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} إذ يظهر حكمته فيما قدره من الأقدار كما في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].
والآية نص في أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيءين وأنه لا نبي بعده في البشر لأن النبيءين عام فخاتم النبيءين هو خاتمهم في صفة النبوة. ولا يعكر على نصية الآية أن العموم دلالته على الأفراد ظنية لأن ذلك لاحتمال وجود مخصص. وقد تحققنا عدم المخصص بالاستقراء.
وقد اجمع الصحابة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العنسي فصار معلوما من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإسلام ولو كان معترفا بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلهم. وهذا النوع في اختلاف بعضهم في ججية الإجماع إذ المختلف في حجيته هو الإجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة في كلام الغزالي في خاتمة كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير. وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة وألزمه إلزاما فاحشا ينزه عنه علمه ودينه فرحمة الله عليها.
ولذلك لا يتردد مسلم في تكفير من يثبت نبوة لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم وفي إخراجه من حظيرة الإسلام ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابية والبهائية وهما نحلتان مشتقة ثانيتهما من الأولى. وكان ظهور الفرقة الأولى في بلاد فارس في حدود ستة مائتين وألف وتسربت إلى العراق وكان القائم بها رجلا من أهل شيراز يدعوه اتباعه السيد علي محمد كذا اشتهر اسمه، كان في أول أمره من غلاة الشيعة الأمامية. أخذ عن رجل
(21/273)

من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي الذي كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهي الطريقة الملقاة عن الحلاج. وكانت طريقته تعرف بالشيخية، ولما اظهر نحلته علي محمد هذا لقب نفسه باب العلم فغلب عليه اسم الباب. وعرفت نحلته بالبابية واعى لنفسه النبوة وزعم أنه أوحي إليه بكتاب اسمه "البيان" وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4].
وكتاب "البيان" مؤلف بالعربية الضعيفة ومخلوط بالفارسية. وقد حكم عليه بالقتل سنة 1266 في تبريز.
وأما البهائية فهي شعبة من البابية تنسب إلى مؤسسها الملقب ببهاء الله واسمه ميرزا حسين علي من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد بعد قتل الباب. ثم نقلته الدولة العثمانية من بغداد إلى أدرنة ثم إلى عكا، وفيما ظهرت نحلته وهم يعتقدون نبوة الباب وقد التف حوله أصحاب نحلة البابية وجعلوه ليفة الباب فقام اسم لبهائية مقام اسم البابية فالبهائية هم البابية. وقد كان البهاء بني بناء في جبل الكرمل ليجعله مدفنا لرفات "الباب" وآل أمره إلى سجنته السلطنة العثمانية في سجن عكا فلبث في السجن سبع سنوات ولم يطلق من السجن إلا عند ما أعلن الدستور التركي فكان في عداد المساجين السياسيين الذين أطلقوا يومئذ فرحل منتقلا في أوربا وأمريكا مدة عامين ثم عامين ثم عاد إلى حيفا فاستقر بها إلى أن توفي سنة 1340 وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإخوته فتفرقوا في الزعامة وتضاءلت نحلتهم.
فمن كان من المسلمين متبعا للبهائية أو البابية فهو خارج عن الإسلام مرتد عن دينه تجري عليه أحكام المرتد. ولا يرث مسلما ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم: إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده. ونحن كفرنا الغرابية من الشيعة لقولهم: بأن جبريل أرسل إلى علي ولكنه شبه له محمد بعلي إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب "وكذبوا" فبلغ الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أثبتوا الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم زعموه غير المعين من عند الله.
وتشبه طقوس البهائية طقوس الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقي من الوحي الإلهي ، فبذلك فارقت الماسونية وعدت في الأديان والملل ولم تعد في الأحزاب.
وانتصب {رَسُولَ اللَّهِ} معطوفا على {أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} عطفا بالواو المقترنة بـ {لَكِنْ} لتفيد رفع النفي الذي دخل على عامل المعطوف عليه.
(21/274)

وقرأ الجمهور {وَخَاتَمَ النبيءينَ} بكسر تاء {خَاتَمَ} على أنه اسم فاعل من ختم. وقرأ عاصم بفتح التاء على تشبيهه بالخاتم الذي يختتم به المكتوب في أن ظهوره كان غلقا للنبوة.
[41, 42] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [41] وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}
إقبال على مخاطبة المؤمنين بأن يشغلوا ألسنتهم بذكر الله وتسبيحه، أي أن يمسكوا عن مماراة المنافقين أو عن سبهم فيما يرجفون به في قضية تزوج زينب فأمر المؤمنين أن يعتاضوا عن ذلك بذكر الله وتسبيحه خيرا لهم، وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200], أي خيرا من التفاخر بذكر آبائكم وأحسابكم، فذلك أنفع لهم وأبعد عن أن تثور بين المسلمين والمنافقين ثائرة فتنة في المدينة، فهذا من نحو قوله لنبيه {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] ومن نحو قوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فأمروا بتشغيل ألسنتهم وأوقاتهم بما يعود بنفعهم وتجنب ما عسى أن يوقع في مضرة.
وفيه تسجيل على لمنافقين بأن خوضهم في ذلك بعد هذه الآية علامة على النفاق لأن المؤمنين لا يخالفون أمر ربهم.
والجملة استئناف ابتدائي متصل بما قبله للمناسبة التي أشرنا إليها.
والذكر: ذكر اللسان وهو المناسب لموقع الآية بما قبلها وبعدها.
والتسبيح: يجوز أن يراد به الصلوات النوافل فليس عطف {وَسَبِّحُوهُ} على {اذْكُرُوا اللَّهَ} من عطف الخاص على العام.
ويجوز أن يكون المأمور به من التسبيح قول: سبحان الله، فيكون عطف {وَسَبِّحُوهُ} على {اذْكُرُوا اللَّهَ} من عطف الخاص على العام اهتماما بالخاص لأن معنى التسبيح التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتجميد، ولأن في التسبيح إيماء إلى التبرؤ مما يقوله المنافقون في حق النبيء صلى الله عليه وسلم فيكون في معنى قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] فإن كلمة: سبحان الله، يكثر أن تقال في مقام
(21/275)

التبرؤ من نسبة ما لا يليق إلى أحد كقول النبيء صلى الله عليه وسلم "سبحان الله المؤمن لا ينجس" . وقول هند بنت عتبة حين أخذ على النساء البيعة "أن لا يزنين": سبحان الله أتزني الحرة.
والبكرة: أول النهار. والأصيل: العشي الوقت الذي بعد العصر. وانتصبا على الظرفية التي يتنازعها الفعلان {اذْكُرُوا اللَّهَ... وَسَبِّحُوهُ} .
والمقصود من البكرة والأصل إعمار أجزاء النهار بالذكر والتسبيح بقدر المكنة لأن ذكر طرفي الشيء يكون كناية على استيعابه كقول طرفة:
لكالطول المرخى وثنياه باليد
ومنه قولهم: المشرق والمغرب، كناية عن الأرض كلها، والرأس والعقب كناية الجسد كله، والظهر والبطن كذلك.
وقدم البكرة على الأصيل لأن البكرة أسبق من الأصيل لا محالة. وليس الأصيل جديرا بالتقديم في الذكر كما قدم لفظ {تُمْسُونَ} في قوله في سورة الروم {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] لأن كلمة المساء تشمل أول الليل فقدم لفظ {تُمْسُونَ} هنالك رعيا لاعتبار الليل أسبق في حساب أيام الشهر عند العرب وفي الإسلام وليست كذلك كلمة الأصيل.
[43] {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}
تعليل للأمر بذكر الله وتسبيحه بأن ذلك مجلبة لانتفاع المؤمنين بجزاغءالله على ذلك بأفضل منه من جنسه وهو صلاته وصلاة ملائكته. والمعنى: أنه يصلي عليكم وملائكته إذا ذكرتموه ذكرا بكرة وأصيلا.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} لإفادة التقوي وتحقيق الحكم. والمقصود تحقيق ما تعلق بفعل {يُصَلِّي} من قول {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .
والصلاة: الدعاء والذكر بخير، وهي من الله الثناء. وأمره بتوجيه رحمته في الدنيا والآخرة ،أي اذكروه ليذكركم لقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقوله في الحديث القدسي: "فإن ذكروني في نفسه ذكرتهم في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم" .
(21/276)

وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين فيكون دعاؤهم مستجابا عند الله فيزيد الذاكرين على ما أعطاهم بصلاته تعالى عليهم. ففعل {يُصَلِّي} مسند إلى الله والى ملائكته لأن حرف العطف يفيد تشريك المعطوف والمعطوف عليه في العامل، فهو عامل واحد له معمولان فهو يستعمل في القدر المشترك الصالح لصلاة الله تعالى وصلاة الملائكة الصادق في كل بما يليق به بحسب لوازم معنى الصلاة التي تتكيف بالكيفية المناسبة لمن أسندت إليه.
ولا حاجة إلى دعوى استعمال المشترك في معنييه على أنه لا مانع منه على الأصح، ولا إلى دعوى عموم المجاز. واجتلاب {يُصَلِّي} بصيغة المضارع لإفادة تكرر الصلاة وتجددها كلما تجدد الذكر والتسبيح، أو إفادة تجددها بحسب أسباب أخرى من أعمال المؤمنين وملاحظة إيمانهم.
وفي إيراد الموصول إشارة إلى أنه تعالى معروف عندهم بمضمون الصلة بحسب غالب الاستعمال: فأما لأن المسلمين يعلون على وجه الأجمال أنهم لا يأتهم خير لا من جانب الله تعالى فكل تفصيل لذلك الإجمال دخل في علمهم، ومنه أنه يصلي عليهم ويأمر ملائكته بذلك، وإما أن يكون قد سبق لهم علم بذلك تفصيلا من قبل: فبعض آيات القرآن كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] فقد علم المسلمون أن استغفار الملائكة للمؤمنين بأمر من الله تعالى لقوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]، والدعاء لأحد الشفاعة له، على أن جملة صلة الموصول أن ملائكته يصلون على المؤمنين. وذلك معلوم من آيات كثيرة، وقد يكون ذلك بإخبار النبيء صلى الله عليه وسلم المؤمنين فيما قبل نزول هذه الآية، ويؤيد هذا المعنى قوله بعده {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} كما يأتي قريبا.
واللام في قوله: {لِيُخْرِجَكُمْ} متعلقة بـ {يُصَلِّي} . فعلم أن هذه الصلاة جزاء عاجل حاصل وقت ذكرهم وتسبيحهم.
والمراد بـ {الظُّلُمَاتِ} : الضلالة، وبـ {النور} : الهدى، وبإخراجهم من الظلمات: دوام ذلك والاستزادة منه لأنهم لما كانوا مؤمنين كانوا قد خرجوا من الظلمات إلى النور {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} [مريم: 76].
وجملة {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} تذييل.
(21/277)

ودل بالإخبار عن رحمته بالمؤمنين بإقحام فعل {كَانَ} وخبرها لما تقتضيه {كَانَ} من ثبوت ذلك الخبر له تعالى تحقيقه وأنه شأن من شؤونه المعروف بها في آيات كثيرة.
ورحمته بالمؤمنين أعم من صلاته عليهم لأنها تشمل إسداء النفع إليهم وإيصال الخير لهم بالأقوال والأفعال والألطاف.
[44] {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً}
أعقب الجزاء العاجل الذي أنبأ عنه قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] بذكر جزاء آجل وهو ظهور أثر الأعمال التي عملوها في الدنيا وأثر الجزاء الذي عجل لهم عليها من الله في كرامتهم يوم يلقون ربهم.
فالجملة تكملة للتي قبلها لإفادة صلاة الله وملائكته واقعة في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة.
والتحية: الكلام الذي يخاطب به عند ابتداء الملاقاة إعرابا عن السرور باللقاء من دعاء ونحوه. وهذا الاسم في الأصل مصدر حياه، إذا قال له: أحياك الله، أي أطال حياتك. فسمى به كلام المعرب عن ابتغاء الخير للملاقى أو الثناء عليه لأن غلب أن يقولوا: أحياك الله عند ابتداء الملاقاة فأطلق اسمها على كل دعاء وثناء يقال عند الملاقاة. وتحية الإسلام: سلام عليك أو السلام عليكم، دعاء بالسلامة والأمن، أي من المكروه لأن السلامة أحسن ما يبتغى في الحياة. فإذا أحياه الله ولم يسلمه كانت الحياة ألما وشرا، ولذلك كانت تحية المؤمنين يوم القيامة السلام بشارة بالسلامة مما يشاهده الناس من الأهوال المنتظرة. وكذلك تحية أهل الجنة فيما بينهم تلذذا باسم ما هم فيه من السلامة من أهوال أهل النار، وتقدم في قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} في سورة يونس [10].
وإضافة التحية إلى ضمير المؤمنين من إضافة اسم المصدر إلى مفعوله، أي تحية يحيون بها.
ولقاء الله: الحضور إلى حضرة قدسه للحساب في المحشر. وتقدم تفصيل الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة [223]. وهذا اللقاء عام لجميع الناس كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] فميز
(21/278)

الله المؤمنين يومئذ بالتحية كرامة لهم.
وجملة {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} حال من ضمير الجلالة، أي يحييهم يوم يلقونه وقد أعد لهم أجرا كريما. والمعنى: ومن رحمته بهم أن بدأهم بما فيه بشارة بالسلامة وقد أعد لهم أجرا كريما إتماما لرحمته بهم.
والأجر: الثواب. والكريم: النفيس في نوعه، وقد تقدم عند قوله تعالى {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29]. والأجر الكريم: نعيم الجنة.
[45، 46] {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .
هذا النداء الثالث للنبيء صلى الله عليه وسلم فإن الله لما أبلغه بالنداء الأول ما هو متعلق بأزواجه وما تخلل ذلك من التكليف والتذكير، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه للتنويه بشأنه وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته، فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة.
وذكر له هنا خمسة أوصاف هي: شاهد. ومبشر. ونذير. وداع إلى الله. وسراج منير. فهذه الأوصاف ينطوي إليها وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة.
والشاهد: المخبر عن حجة المدعي ودفع دعوى المبطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاء ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة، قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وفي حديث الحشر: "يسأل كل رسول هو بلغ? فيقول: نعم. فيقول الله: من يشهد لك? فيقول: محمد وأمته"... الحديث.
ومحمد صلى الله عليه وسلم شاهد أيضا على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عرصات القيامة، قال تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 41] فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها، وعلى من استجاب للدعوة ثم بدل. وفي حديث الحوض: "ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم
(21/279)

اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي. فيقال لي: أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول تبا وسحقا لمن أحدث بعدي" يعني: أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث: "إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" . فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى الله عليه وسلم بوصف كونه رسولا لهذه الأمة، وبوصف كونه خاتما للشرائع ومتمما لمراد الله من بعثة الرسل.
والمبشر: المخبر بالبشرى والبشارة. وهي الحادث المسر لمن يخبر به والوعد بالعطية، والنبيء صلى الله عليه وسلم مبشر لأهل الإيمان والمطيعين بمراتب فوزهم. وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل.
وقدمت البشارة على النذارة لأن النبيء صلى الله عليه وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته.
والنذير: مشتق من لإنذار وهو الإخبار بحلول حادث مسيء أو قرب حلوله، والنبيء عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عنه دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم.
وانتصب {شَاهِداً} على الحال من كاف الخطاب وهي حال مقدرة، أي أرسلناك مقدرا أن تكون شاهدا على الرسل والأمم في الدنيا والآخرة. ومثل سيبويه للحال المقدرة بقوله: مررت برجل معه صقر صائدا به.
وجيء في جانب النذارة بصيغة فعيل دون اسم الفاعل لإدارة الاسم فإن النذير في كلامهم اسم للمخبر بحلول العدو بديار القوم. ومن الأمثال: أنا النذير العريان، أي الآتي بخبر حلول العدو بديار القوم. والمراد بالعريان أنه ينزع عنه قميصه ليشير به من مكان مرتفع فيراه من لا يسمع نداءه، فالوصف بنذير تمثيل بحال نذير القوم كما قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] للإيماء إلى تحقيق ما أنذرهم به حتى كأنه قد حل بهم وكأن المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع؛ وهذا لا يؤديه الا اسم النذير، ولذلك كثر في القرآن الوصف بالنذير وقل الوصف بمنذر. وفي الصحيح: أن رسول الله لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] خرج حتى صعد الصفا, فنادى: يا
(21/280)

صباحاه "كلمة ينادي بها من يطلب النجدة" فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي? قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فهذا يشير إلى تمثيل الحالة التي استخلصها بقوله: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". وما في {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ} من معنى التقريب.
وشمل اسم النذير جوامع ما في الشريعة من النواهي والعقوبات وهو قسم الاجتناب من قسم التقوى فإن المنهيات متضمنة مفاسد فهي مقتضية تخويف المقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل.
والداعي إلى الله هو الذي يدعو لناس إلى ترك عبادة غير الله ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله. وأصل دعاه إلى فلان: أنه دعاه إلى الحضور عنده. يقال: أدع فلانا إلي. ولما علم أن الله تعالى منزه من جهة يحضرها الناس عنده تعين أن معنى الدعاء إليه الدعاء إلى ترك الاعتراف بغيره "كما يقولون: أبو مسلم الخرساني يدعو إلى الرضى من آل البيت" فشمل هذا الوصف أصول الاعتقاد في شريعة الإسلام مما يتعلق بصفات الله لأن دعوة الله دعوة إلى معرفته وما يتعلق بصفات الدعاة إليه من الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم.
وزيادة {بِإِذْنِهِ} ليفيد أن الله أرسله داعيا إليه ويسر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره وهو ما كان استشعره النبيء صلى الله عليه وسلم في مبدأ الوحي من الخشية إلى أن أنزل عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1،2], ومثله قوله تعالى لموسى: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68]، فهذا إذن خاص وهو الإذن بعد الإحجام المقتضي للتيسير، فأطلق اسم الإذن على التيسير على وجه المجاز المرسل. ونظيره قوله تعالى خطابا لعيسى عليه السلام: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110] وقوله حكاية عن عيسى {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49].
وقوله: {وَسِرَاجاً مُنِيراً} تشبيه بليغ بطريقة الحالية وهو طريق جميل، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقاد ظلمة المكان. وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبيء صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله من الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم، فإن العلم يشبه بالنور فناسبه السراج المنير. وهذا وصف شامل لجميع
(21/281)

الأوصاف التي وصف بها آنفا فهو كالفذلكة وكالتذييل.
ووصف السراج بـ {مُنِيراً} مع أن الإنارة من لوازم السراج هو كوصف الشيء بالوصف المشتق من لفظه في قوله: شعر شاعر، وليل أليل لإفادة قوة معنى الاسم في الموصوف به الخاص فإن هدى النبيء صلى الله عليه وسلم هو أوضح الهدى. وإرشاد أبلغ إرشاد.
روى البخاري في كتاب "التفسير" من صحيحه في الكلام على سورة الفتح عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال في التوراة: يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح "أو ويغفر" ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح "أو فيفتح" به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا" اهـ.
وقول عبد الله بن عمرو في التوراة يعني بالتوراة: أسفار التوراة وما معها من أسفار الأنبياء إذ لا يوجد مثل ذلك فيما رأيت من الأسفار الخمسة الأصلية من التوراة. وهذا الذي حدث به عبد الله بن عمرو ورأيت مقاربه في سفر النبيء أشعياء من الكتب المعبر عنها تغليبا وهي الكتب المسماة بالعهد القديم؛ وذلك في الإصحاح الثاني والأربعين منه بتغيير بقليل "أحسب أنه من اختلاف الترجمة أو من تفسيرات بعض الأحبار وتأويلاتهم"، ففي الإصحاح الثاني والأربعين منه "هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، وفتيلة خامدة لا تطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر1 شريعته أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم لنفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر".
ـــــــ
1 الجزائر: جزيرة العرب، لقوله في هذا السفر في هذا "الإصحاح" : "والجزائر وسكانها لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها "قيدار"." فإن قيدار اسم ابن إسماعيل كما في سفر التكوين. فأراد: نسل قيدار وهم الإسماعيليون وهم الأميون.
(21/282)

وإليك نظائر صفته التي في التوراة من صفاته في القرآن {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} نظيرها هذه الآية وحرزا للأميين " {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً} سورة الجمعة [2]" أنت عبدي ورسولي " {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} سورة الكهف [1]" سميتك المتوكل "{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} سورة الأحزاب [3]" ليس بفظ غليظ "{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} "سورة آل عمران [159]" ولا صخاب في الأسواق "{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} سورة لقمان [19]" ولا يدفع السيئة بالسيئة " {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} سورة فصلت [34]" ولكن يعفو ويصفح " {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} سورة العقود [13]" ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله "{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} سورة المائدة [3]" ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا " {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} في سورة البقرة [7] في ذكر الذين كفروا مقابلا لذكر المؤمنين في قوله قبله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} الآية [2]".
ولنذكر هنا ما في سفر أشعياء ونقحم فيه بيان مقابلة كلماته بالكلمات التي جاءت في حديث عبد الله بن عمرو.
جاء في "الإصحاح" الثاني والأربعين من سفر أشعياء: هو ذا عبدي "أنت عبدي" الذي أعضده مختاري "ورسولي" الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح "ليس بفظ" ولا يرفع "ولا غليظ" ولا يسمع في الشارع صوته "ولا صخاب في الأسواق" قصبة مرفوضة لا يقصف "ولا يدفع السيئة بالسيئة" وفتيلة خامدة لا يطفأ "يعفو ويصفح" إلى الأمان يخرج الحق "وحرزا" لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض "ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء" وتنتظر الجزائر شريعته "للأميين" أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك "سميتك المتوكل" وأحفظك "ولن يقبضه الله" واجعلك عهدا للشعب أرسلناك شاهدا "ونورا للأمم" "مبشرا" لنفتح عيون العمي "ونفتح به أعينا عميا" لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن "وآذانا صما" الجالسين في الظلمة "وقلوبا غلفا". أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر" "بأن يقولوا لا إله إلا الله".
[47] {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} .
عطف على جملة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: 45] عطف الإنشاء على الخبر لا محالة
(21/283)

وهي أوضح دليل على صحة عطف الإنشاء على الخبر إذ لا يتأتى فيها تأويل مما تأوله المانعون لعطف الإنشاء على الخبر وهم الجمهور والزمخشري والتفتزاني مما سنذكره إن شاء الله عند قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة الصف [11- 13]، فالجملة المعطوف عليها إخبار عن النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه أرسله متلبسا بتلك الصفات الخمسة. وهذا أمر له بالعمل بصفة المبشر، فلاختلاف مضمون الجملتين عطفت هذه على الأولى.
والفضل: العطاء الذي يزيده المعطي زيادة على العطية. فالفضل كناية عن العطية أيضا لأنه لا يكون فضلا إلا إذا كان زائدا على العطية. والمراد أن لهم ثواب أعمالهم الموعود بها وزيادة من عند ربهم قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
ووصف {كَبِيراً} مستعار للفائق في نوعه. قال ابن عطية: قال لي أبي رضي الله عنه1: هذه أرجى آية عندي في كتاب الله لان الله قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا. وقد بين الله تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22] فالآية التي في هذه السورة خبر والآية التي في حم عسق تفسير لها ا هـ.
[48] {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
جاء في مقابلة قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 47] بقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} تحذيرا له من موافقتهم فيما يسألون منه وتأيدا لفعله معهم حين استأذنه المنافقون في الرجوع عن الأحزاب فلم يأذن لهم فنهي عن الإصغاء إلى ما يرغبونه فيترك ما احل له من التزوج، أو فيعطي الكافرين من الأحزاب ثمر النخل صلحا أو نحو ذلك والنهي مستعمل في معنى الدوام على الانتهاء.
وعلم من مقابلة أمر التبشير للمؤمنين بالنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين أن الكافرين والمنافقين هم متعلق الإنذار من قوله: {وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] لأن وصف
ـــــــ
1 هو أبو بكر بن غالب بن عطية القيسي الغرناطي المالكي مفتي غرناطة، توفي بها سنة 518.
(21/284)

"بشيرا" قد أخذ متعلقه فقد صار هذا ناظرا إلى قوله: {وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45]
وقوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} يجوز أن يكون فعل {وَدَعْ} مرادا به أن لا يعاقبهم فيكون {وَدَعْ} مستعملا في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي دع أذاك إياهم. ويجوز أن يكون {وَدَعْ} مستعمله مجازا في عدم الاكتراث وعدم الاهتمام فيما يقولونه مما يؤدي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذى إليك فإنك أجل من الاهتمام بذلك، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. واكثر المفسرين اقتصرو ا على هذا الاحتمال الأخير. والوجه: الحمل على كلا المعنيين، فيكون الأمر بترك أذاهم صادقا بالإعراض عما يؤذون به النبيء صلى الله عليه وسلم من أقوالهم وصادقا بالكف عن الإضرار بهم، أي أن يترفع النبيء صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذتهم على ما يصدر منه في شأنه، وهذا إعراض عن أذى خاص لا عموم له، فهو بمنزلة المعرف بلام العهد، فليست آيات القتال بناسخه له.
وهذا يقتضي انه يترك أذاهم ويكلهم إلى عقاب اجل وذلك من معنى قوله: {شَاهِداً} [الأحزاب: 45] لأنه يشهد عليهم بذلك كقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ} [الصافات: 174، 175].
والتوكل: الاعتماد وتفويض التدبير إلى الله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [159] وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في سورة العقود [23]، أي أعتمد على الله في تبليغ الرسالة وفي كفايته إياك شر عدوك، فهذا ناظر إلى قوله: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 46].
وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} تذييل لجملة {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
والمعنى: فإن الله هو الوكيل الكافي في الوكالة، أي المجزي من توكل عليه ما وكله عليه فالباء تأكيد، وتقدم قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} في سورة النساء [81]. والتقدير: كفى الله. و {وَكِيلاً} تمييز.
فقد جاءت هذه الجمل الطلبية مقابلة وناظرة للجمل الإخبارية من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} إلى {وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 45, 46] فقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 47] ناظرا إلى قوله: {وَمُبَشِّراً} [الأحزاب: 45].
وقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} ناظر إلى قوله: {وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] لأنه جاء في
(21/285)

مقابلة بشارة المؤمنين كما تقدم.
وقوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} ناظر إلى قوله: {شَاهِداً} [الأحزاب: 45] كما علمت. وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ناظر إلى قوله: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 46]. وأما قوله: {وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 46] فلم يذكر له مقابل في هذه المطالب إلا انه لما كان كالتذييل للصفات كما تقدم ناسب أن يقابله ما هو تذييل للمطالب، وهو قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} . وهذا اقرب من بعض ما في "الكشاف" من وجوه المقابلة ومن بعض ما للآلوسي فانظرهما واحكم.
[49] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}
جاءت هذه الآية تشريعا لحكم المطلقات قبل البناء بهن أن لا تلزمهن عدة بمناسبة حدوث طلاق زيد بن حارثة زوجه زينب بنت جحش لتكون الآية مخصصة لآيات العدة من سورة البقرة فإن الأحزاب نزلت بعد البقرة وليخصص بها أيضا آية العدة في سورة الطلاق النازلة بعدها لئلا يظن ظان أن العدة من آثار العقد على المرأة سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل. قال ابن العربي: وأجمع علماء الأمة على أن لا عدة على المرأة إذا يدخل بها زوجها لهذه الآية.
والنكاح: هو العقد بين الرجل والمرأة لتمون زوجها بواسطة وليها. وهو حقيقة في العقد لأن أصل النكاح حقيقة هو الضم والإلصاق فشبه عقد الزواج بالالتصاق والضم بما فيه من اعتبار انضمام الرجل والمرأة فصارا كشيئين متصلين. وهذا كما سمي كلاهما زوجا ولا يعرف في كلام العرب إطلاق النكاح على غير معنى العقد دون معنى الوطء ولذلك يقولون: نكحت المرأة فلانا، أي تزوجته كما يقولون : نكح فلان امرأة. وزعم كثير من مدوني في اللغة ان النكاح حقيقة في إدخال شئ في أخر فأخذوا منه انه حقيقة في الوطء ودرج على ذلك الأزهري والجوهري والزمخشري، وهو بعيد،وعلى ما بنوه أخطأ المتنبي في استعماله إذ قال:
أنكحت صم حصاها خف يعمله ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
ولا حجة في كلامه, ولذلك تأوله أبو العلاء المعري في معجز أحمد بأنه أراد جمعت بين صم الحصى وخف ليعملة
(21/286)

وتعليق الحكم في العدة بالمؤمنات جرى على الغالب لأن نساء المؤمنين يومئذ لم يكن مؤمنات وليس فيهن كتابيات فينسحب هذا الحكم على الكتابية كما شملها حكم الاعتداد إذا وقع مسيسها بطرق القياس.
والمس والمسيس : كناية عن الوطء، كما سمي ملامسة في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]. والعدة بكسر العين : هي في الأصل أسم هيئة من العد بفتح العين وهو الحساب فأطلقت العدة على الشيء المعدود، يقال: جاء عدة رجال، وقال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة [184]. وغلب إطلاق هذا اللفظ في لسان الشرع على المدة المحددة لانتظار المرأة زواجا ثانيا لأن انتظارها مدة معدودة الأزمان إما بالتعيين وإما بما يحدث فيها من طهر أو وضع حمل فصار أسم جنس ولذلك دخلت عليه {مِنْ} التي تدخل على النكرة المنفية لإفادة العموم،أي فما لكم عليهن من جنس العدة.
والخطاب فيه {لَكُمْ} للأزواج اللذين نكحوا المؤمنات وجعلت العدة لهم،أي لأجلهم لأن المقصد منها راجع إلى نفع الأزواج بحفظ أنسابهم ولأنهم يملكون مراجعة الأزواج مادمن في مدة العدة كما أشار إليه قوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]. وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة: 228].ومع ذلك هي حق أوجبه الشرع فلو رام الزوج إسقاط العدة عن المطلقة لم يكن له ذلك لان ما تتضمنه العدة من حفظ النسب مقصد من أصول مقاصد التشريع فلا يسقط بالإسقاط.
ومعنى: {تَعْتَدُّونَهَا} تعدونها عليهن،أي تعدون أيامها عليهن،كما يقال: اعتدت المرأة، إذا قضت أيام عدتها.
فصيغت الافتعال ليست للمطاوعة ولكنها بمعنى الفعل مثل : اضطر.ومحاولة حمل صيغة المطاوعة على معروف معناها تكلف.
ويشبه هذا من راجع المعتدة في مدة عدتها ثم طلقها قبل ان يمسها فأن المراجعة تشبه النكاح وليست عينه إذ لا تفتقر إلى إيجاب وقبول. وقد اختلف الفقهاء في اعتدادها من ذلك الطلاق فقال مالك والشافعي في أحد قوليه وجمهور الفقهاء: إنها تنشئ عدة مستقبلة من طلقها ولا تبنى على عدتها التي كانت فيها لأن الزوج نقض
(21/287)

تلك العدة بالمراجعة ولعل مالك نظر إلى أن المسيس بعد المراجعة قد يخفى أمره بخلاف البناء بالزوجة في النكاح فلعله أنما أوجب استئناف العدة لهذه التهمة احتياطا للأنساب. وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي في أحد قوليه وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والحسن وأبو قلابة وقتادة والزهري: تبني على عدتها الأولى التي راجعها فيها لأن طلاقه بعد المراجعة دون أن يمسها بمنزلة إرداف طلاق ثان على المرأة وهي في عدتها فأن الطلاق المردف لا اعتداد له بخصوصه. ونسب القرطبي إلى داود الظاهري انه قال: المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل ان يمسها أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة لأنها مطلقة قبل الدخول بها ا هـ. وهو غريب وكلام ابن حزم في "المحلى" صريح في إنها تبتدئ العدة فلعله من قول ابن حزم وليس مذهب داود،وكيف لو راجعها بعد يوم أو يومين من تطليقها فبماذا تعرف براءة رحمها.
وفاء التفريع في قوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ} لأن حكم التمتيع مقرر من سورة البقرة [236] في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} الخ. والمتعة: عطية يعطيها الزوج للمرأة إذا طلقها. وقد تقدم قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] فلذلك جيء بالأمر بالتمتيع مفرعا على الطلاق قبل المسيس.
وقد جعل الله التمتيع جبرا لخاطر المرأة المنكسر بالطلاق وتقدم فى سورة البقرة أن المتعة حق للمطلقة سواء سمى لها صداق أم لم يسم بحكم آية سورة الأحزاب لأن الله أمر بالتمتيع للمطلقة قبل البناء مطلقا فكان عمومها في الأحوال كعمومها في الذوات،وليست آية البقرة بمعارضة لهذه الآية إذ ليس فيها تقييد بشرط يقتضي تخصيص المتعة بالتي لم يسم لها صداق لأنها نازلة في رفع الحرج عن الطلاق قبل البناء وقبل تسمية الصداق, ثم أمرت بالمتعة لتينك المطلقتين فالجمع بين الآيتين ممكن.
والسراح الجميل: هو الخلي عن الأذى والإضرار ومنع الحقوق.
[50] {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
(21/288)

الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
{يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
نداء رابع خوطب به النبيء صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به هو بيان ما أحل له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل،ومما بعضه يتساوى فيه النبيء عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعه عليه،أو مما روعي في تخصيصه به علو درجته.
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوج النبيء صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وقالوا: تزوج من كانت حليلة متبناه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية من يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون. ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} الآية، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعا لتكون جامعه للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال.
فأما تقرير ما هو مشروع فذلك من قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قوله: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} ، وأما تشريع ما لم يكن مشروعا فذلك من قوله {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} إلى قوله {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52].
فقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} خبر مراد به التشريع. ودخول حرف "إن" عليه لا ينافي إرادة التشريع إذ موقع "إن" هنا مجرد الاهتمام،ولاهتمام يناسب كلا من قصد الإخبار وقصد الإنشاء،ولذلك عطفت على مفعول {أَحْلَلْنَا} معطو فات قيدت بأوصاف لم يكن شرعها معلوما من قبل وذلك في قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} وما عطف عليه باعتبار تقييدهن بوصف {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، وفي قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} باعتبار تقيدها بوصف الإيمان وتقييدها بـ"إن وهبت نفسها للنبيء وأراد النبيء أن يستنكحها". هذا تفسير الآية على ما درج عليه المفسرون على اختلاف قليل بين أقوالهم.
(21/289)

وعندي: أن الآية امتنان وتذكير بنعمة على النبيء صلى الله عليه وسلم. وتأخذ من الامتنان الإباحة ويؤخذ من ظاهر قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الاقتصار على اللاتي في عصمته منهن وقت نزول الآية ولتكون هذه الآية تمهيدا لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الخ.
وسيجيء ما لنا في معنى قوله: {مِنْ بَعْدُ} وما لنا في موقع قوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} .
ومعنى {أَحْلَلْنَا لَكَ} الإباحة له، ولذلك جاءت مقابلته بقوله عقب تعداد المحللات له {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} .
وإضافة أزواج إلى ضمير النبيء صلى الله عليه وسلم تفيد أنهن الأزواج اللاتي في عصمته فيكون الكلام إخبارا لتقرير تشريع سابق ومسوقا مساق الامتنان،ثم هو تمهيد لما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبيء صلى الله عليه وسلم من قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} إلى قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52]. وهذا هو الوجه عندي في تفسير هذه الآية.
وحكى أبن الفرس عن الضحاك وابن زيد أن المعنى بقوله: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أن الله احل أن يتزوج كل امرأة يصدقها مهرها فأباح له كل النساء،وهذا بعيد ن مقتضى إضافة أزواج إلى ضميره. وعن التعبير بـ {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} بصيغة المضي. وأختلف أهل التأويل في محمل هذا الوجه مع قوله تعالى في آخر الآية: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} فقال قوم: هذه ناسخة لقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} ولو تقدمت عليها في النلاوة. وقال آخرون: هي منسوخة بقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} .
و {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} صفه لـ {أَزْوَاجَكَ} ، أي وهن النسوة اللاتي تزوجتهن على حكم النكاح الذي يعم الأمة فالماضي في قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مستعمل في حقيقته. وهؤلاء فيهن من هن من قراباته وهن القرشيات منهن: عائشة، وحفصة، وسودة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وفيهن من لسن كذلك وهن جويرية من بني المصطفى، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وزينب أم المساكين من بني هلال، وكانت يومئذ متوفاة، وصفية بنت حيي الإسرائيلية.
وعطف على هؤلاء نسوة أخر وهن ثلاث أصناف:
(21/290)

"الصنف الأول" : ما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه، أي مما أعطاه الله من الفيء وهو ما ناله المسلمون من العدو بغير قتال ولكن تركه العدو، أو مما أعطي للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل مارية القبطية أم أبنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوته فكانت بمنزلة الفيء لأنها ما لوحظ فيها إلا قصد المسألة من جهة الجوار إذ لم تكون له مع الرسول صلى الله عليه وسلم سابق صحبة ولا معرفة والمعروف أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يتيسر غير مارية القطبية. وقيل أيضا: إنه تسرى جارية أخرى وهبت له زوجه زينب ابنة جحش ولم يثبت. وقيل أيضا: إنه تسرى ريحانة من سبي قريضة اصطفاها لنفسه ولا تشملها هذه الآية لأنها ليست من الفيء ولكن من المغنم إلا أن يراد بـ {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} المعنى الأعم للفيء وهو ما يشمل الغنيمة. وهذا الحكم يشركه فيه كثيرا من الأمة من كل من أعطاه أميره شيئا من القيء، كما قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] فمن أعطاه الأمير من هؤلاء الأصناف أمة من الفيء حلت له.
وقوله: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} وصف لما ملكت يمينك وهو هنا وصف كاشف لأن المراد به مارية القطبية، أو هي وريحانة إن ثبت أنه تسراها.
"الصنف الثاني" : نساء من قريب قراباته صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه أو جهة أمه مؤمنات مهاجرات. وأغنى قوله: {هَاجَرْنَ مَعَكَ} عن وصف الإيمان لأن الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان، فأباح الله للنبيء عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف فليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخؤولة وشرط الهجرة. وعندي : أن الوصفين ببنات عمه وعماته وبنات خاله وخالاته، وبأنهن هاجرن معه غير مقصود بهما الاحتراز عمن لسن كذلك ولكنه وصف كاشف مسوق للتنويه بشأنهن.
وخص هؤلاء النسوة من عموم المنع تكريما لشأن القرابة والهجرة التي هي بمنزلة القرابة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [لأنفال: 72]. وحكم الهجرة انقضى بفتح مكة. وهذا الحكم يتجاذبه الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم والتعميم، لأمته الذين تكون لهم قرابة بالمرأة كهذه القرابة تزوج أمثالها، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها، وهو الذي درج عليه
(21/291)

الجمهور، ويؤيده خبر روي عن أم هانئ بنت أبي طالب. وقال أبو يوسف: يجوز لرجال أمته نكاح أمثالها. وباعتبار عدم تقيد نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بعدد يكون هذا الطلاق خاصا به دون أمته إذ لا يجوز لغيره تزوج أكثر من أربع.
وبنات عم النبيء صلى الله عليه وسلم هن بنات أخوة أبيه مثل: بنات العباس وبنات أبي طالب وبنات أبي لهب. وأما بنات حمزة فإنهن بنات أخ من الرضاعة لا يحللن له وبنات عماته هن بنات عبد المطلب مثل زينب بنت جحش التي هي بنت أميمة بنت عبد المطلب.
وبنات خاله هن بنات عبد مناف بن زهره وهن أخوال النبيء صلى الله عليه وسلم عبد يغوث ابن وهب أخو آمنة ولم يذكروا أن له بنات، كما أني لم أقف على ذكر خالة لرسول الله فيما رأيت من كتب الأنساب والسير. وقد ذكر في "الإصابة" فريعة بنت وهب وذكروا هالة بنت وهب الزهرية إلا أنها لكونها زوجة عبد المطلب وابنتها صفية عمة رسول الله فقد دخلت من قبل في بنات عمه.
وإنما أفرد لفظ "عم" وجمع لفظ "عمات" لأن العم في استعمال كلام العرب يطلق على أخي الأب ويطلق على أخي الجد وأخي جد الأب وهكذا فهم يقولون: هؤلاء بنو عم أو بنات عم، إذا كانوا لعم واحد أو لعدة أعمام، ويفهم المراد من القرائن. قال الراجز انشده الأخفش:
ما برئت من ريبة وذم ... في حربنا إلا بنات العم
وقال رؤبة بن العجاج:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
فأما لفظ "العمة" فإنه لا يراد به الجنس في كلامهم، فإذا قالوا: هؤلاء بنو عمة، أرادوا أنهم بنو عمة معنية، فجيء في الآية: {عَمَّاتِكَ} جمعا لئلا يفهم منه بنات عمة معينة. وكذلك القول في إفراد لفظ "الخال" من قوله: {بَنَاتِ خَالِكَ} وجمع الخالة في قوله: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} .
وقال قوم: المراد ببنات العم وبنات العمات: نساء قريش، والمراد ببنات الخال: النساء الزهريات، وهو اختلاف نظري محض لا ينبني عليه عمل لأن النبيء قد عرفت أزواجه.
وقوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} صفه عائده إلى {بَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ
(21/292)

خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} كشأن الصفة الواردة بعد مفردات وهو شرط تشريع لم يكن مشروطا من قبل.
والمعية في قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} معية المقارنة في الوصف المأخوذ في فعل {هَاجَرْنَ} فليس يلزم أن يكن قد خرجن مصاحبات له في طريقه إلى الهجرة.
"الصنف الثالث" : امرأة تهب نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم أي تجعل نفسها هبة له دون مهر، وكذلك كان النساء قبل الإسلام يفعلن مع عظماء العرب، فأباح الله للنبيء أن يتخذها زوجه له بدون مهر إذا شاء النبيء صلى الله عليه وسلم ذلك، فهذه حقيقة لفظ {وَهَبَتْ} ، فالمراد من الهبة: تزويج نفسها بدون عوض، أي بدون مهر، وليست هذه من الهبة التي تستعمل في صيغ النكاح إذا قارنها ذكر صداق لأن ذلك اللفظ مجاز في النكاح بقرينة ذكر الصداق ويصح اخذ النكاح به عندنا وعند الحنفية خلافا للشافعي.
فقوله: {وَامْرَأَةً} عطف على {أَزْوَاجَكَ} . والتقدير: وأحللنا لك امرأة مؤمنة.
والتنكير في {امْرَأَةً} للنوعية: والمعنى: ونعلمك أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة بقيد أن تهب نفسها لك وأن تريد أن تتزوجها فقوله: {للنبيء} في الموضعين إظهار في مقام الإضمار. والمعنى: إن وهبت نفسها لك وأردت أن تنكحها. وهذا تخصيص من عموم قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فإذا وهبت امرأة نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأراد نكاحها جاز له ذلك بدون ذينك الشرطين ولأجل هذا وصفت {امْرَأَةً} بـ {مُؤْمِنَةً} ليعلم عدك اشتراط عدا الإيمان. وقد عدة زينب خزيمة الهلالية وكانت تدعى بالجاهلية أم المساكين اللاتي وهبنا أنفسهن ولم تلبث عنده زينب هذه إلا قليلا فتوفيت وكان تزوجها سنة ثلاث من الهجرة فليست مما شملته الآية. ولم يثبت أن النبيء صلى الله عليه وسلم تزوج غيرها ممن وهبت نفسها إليه وهن: أم شريك بنت جابر الدوسية واسمها عزية، وخولة بنت حكيم عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسها فقالت عائشة: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل، وامرأة أخرى عرضت نفسها على النبيء صلى الله عليه وسلم. روى ثابت البناني عن أنس قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله فعرضت عليه نفسها فقالت : يا رسول الله ألك حاجة بي? فقالت ابنة أنس - وهي تسمع إلى رواية أبيها -: ما أقل حياءها واسأوتاه واسواتاه. فقال أنس: هي خير منك رغبت في النبيء فعرضت عليه نفسها". وعن سهل بن سعد أن امرأة عرضت نفسها على النبيء صلى الله عليه وسلم فلم يجبها. فقال رجل: "يا رسول الله زوجنيها، إلى أن قال له، ملكناكها بما معك من القرآن" فهذا
(21/293)

الصنف حكمه خاص بالنبيء صلى الله عليه وسلم ذلك أنه نكاح مخالف لسنة النكاح لأنة بدون مهر وبدون ولي.
وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبيء صلى الله عليه وسلم أربع هن: مميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أم المساكين، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية، و خولة بنت حكيم بنت الأوقص السلمية. فأما الأوليان فتزوجهما النبيء صلى الله عليه وسلم وهما من أمهات المؤمنين.
ومعنى {وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} أنها ملكته نفسها تمليكا شبيها بملك اليمين ولهذا عطفت على {مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} وأردف بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي خاصة لك أن تتخذها زوجه بتلك الهبة، أي دون مهر وليس لبقية المؤمنين ذلك. ولهذا لما وقع في حديث سهل بن سعد المتقدم أن امرأة وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وعلم الرجل الحاضر أن النبيء عليه الصلاة والسلام لا حاجة له بها سئل النبيء عليه الصلاة والسلام أن يزوجه إياها علما منه بأن تلك الهبة لا مهر معها ولم يكن للرجل ما يصدقها إياه، وقد علم النبيء صلى الله عليه وسلم منه ذلك فقال له: ما عندك ? قال: ما عندي شيء. قال: اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال: لا والله ولا خاتم من حديد، ولمن هذا إزاري فلها نصفه. قال سهل: ولم يكن له رداء فقال النبيء: "وما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وأن لبسته لم يكن عليك منه شيء - ثم قال له - ماذا معك من القرآن? فقال: معي سورة كذا وسورة كذا لسور يعددها. فقال النبيء صلى الله عليه وسلم: ملكناكها بما معك من القرآن" .
وفي قوله: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إن وهبت نفسها لك. والغرض من هذا الظهار ما في لفظ {النبيء} من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوة.
وقوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} جملة معترضة بين جملة {إِنْ وَهَبَتْ} وبين {خَالِصَةً} وليس مسوقا للتقييد إذ لا حاجة إلى ذكر إرادة نكاحها فإن هذا معلوم من معنى الإباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجبا عليه كما كان عرف أهل الجاهلية. و جوابه محذوف دل عليه ما قبله، والتقدير: إن أراد أن يستنكحها فهي حلال له، فهذا شرط مستقل و ليس شرطا في الشرط الذي قبله.
والعدول عن الإضمار في قوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء} بأن يقال: إن أراد أن يستنكحها
(21/294)

لما في إظهار لفظ {النبيء} من التفخيم و التكريم.
وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعين عليه نكاحها و لم يجز له ردها فابطل الله هذا الالتزام بتخيير النبيء عليه الصلاة والسلام في قبول هبة المرأة نفسها له وعدمه, وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الرد مأذون به.
والسين والتاء في {يَسْتَنْكِحَهَا} ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة:
وهم قتلوا الطائى بالحجر عنوة ... أبا جابر فاستنكحوا أم جابر
أي بنو حن قتلوا أبا جابر الطائى فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حن، أي زوجة رجل منهم. وهي مثل السين والتاء في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195].
فتبين من جعل جملة {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} معترضة أن هذه الآية لا يصح التمثيل بها لمسألة اعتراض الشرط على الشرط كما وقع في رسالة الشيخ تقي الدين السبكي المجعولة لاعتراض الشرط على الشرط وتبعه السيوطي من الفن السابع من كتاب "الأشباه والنظائر النحوية" ، ويلوح من كلام صاحب "الكشاف" استشعار عدم صلاحية الآية لاعتبار الشرط في الشرط فأخذ يتكلف لتصوير ذلك.
وانتصب {خَالِصَةً} على الحال من {امْرَأَةً} ، أي خالصة لك تلك المرأة، أي هذا الصنف من النساء. والخلوص معنى به عدم المشاركة، أي مشاركة بقية الأمة في هذا الحكم إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرد من المخالطة. فقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لبيان حال من ضمير الخطاب في قولة: {لَكَ} ما في الخلوص من الأجمال في نسبته. وقد دل وصف {امْرَأَةً} بأنها {مُؤْمِنَةً} أن المرأة غير المؤمنة لا تحل للنبيء علية الصلاة والسلام بهبة نفسها. ودل ذلك بدلالة لحن الخطاب أنة لا يحل للنبيء صلى الله عليه وسلم تزوج الكتابيات بلة المشركات، وحكى إمام الحرمين في ذلك خلافا. قال أبن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا، فأن ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحضه فيه أكثر وإذا كان لا تحل له من لم تهاجر لنقصانها فضل الهجرة فأخرى أن لا تحل له الكتابية الحرة.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} .
(21/295)

جملة معترضة بين جملة {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وبين قولة {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أو هي حال سببي من المؤمنين، أي حال كونهم قد علمنا ما نفرض عليهم.
والمعنى: أن المؤمنين مستمر ما شرع لهم من قبل في أحكام الزواج وما ملكت أيمانهم، فلا يشملهم ما عين لك من الأحكام الخاصة المشروعة فيما تقدم آنفا، أي قد علمنا أن ما فرضناه عليهم في ذلك هو اللائق بحال عموم الأمة دون ما فرضناه لك خاصة.
و {مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} موصل وصلته، وتعدية {فَرَضْنَا} بحرف "على" المقتضي للتكليف والإيجاب للإشارة إلى أن من شرائع أزواجهم وما ملكت أيمانهم ما يودون أن يخفف عنك كن عدد الزوجات وإيجاب المهور والنفقات، فإذا سمعوا ما خص به النبيء صلى الله عليه وسلم من التوسعة في تلك الأحكام ودوا أن يلحقوا به في ذلك فسجل الله عليهم أنهم باقون على ما سبق شرعة لهم في ذلك. والإخبار بأن الله قد علم ذلك كناية عن بقاء تلك الإحكام لأن معناه أنا لم نفعل عن ذلك، أي لك نبطله بل عن علم خصصنا نبينا بما خصصناه به في ذلك الشأن، فلا يشمل ما أحللناه له بقية المؤمنين.
وظرفية {فِي} مجازية لأن المظروف هو الأحكام الشرعية لا ذوات الأزواج وذوات ما ملكته الأيمان.
{لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
تعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة من التوسعة بالازدياد من عدد الأزواج وتزو ج الواهبات أنفسهن دون مهر، وجعل قبول هبتها موكولا لأرادته، وبما أبقى له من مساواته أمته فيما عدى ذلك منت الإباحة فلم يضيق عليه، وهذا تعليم وامتنان.
والحرج: الضيق, والمراد هنا أدنى الحرج ما في التكليف من بعض الحرج الذي لا تخلوا عنه التكاليف، وأما الحرج القوي فمنفي عنه وعن أمته. ومراتب الحرج متفاوتة، ومناط ما ينفى عن الأمة منها وما لا ينفى، وتقديرات أحوال انتفاء بعضها للضرورة هو ميزان التكليف الشرعي فالله أعلم بمراتبها واعلم بمقدار تحرج عباده وذلك مبين في مسائل العزيمة والرخصة من علم الأصول، وقد حرر ملاكه شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه "أنواء البروق". وقد أشبعنا القول في تحقيق ذلك في كتابنا
(21/296)

المسمى "مقاصد الشريعة الإسلامية".
واعلم أن النبيء صلى الله عليه وسلم سلك في الأخذ بهذه التوسعات التي رفع الله بها قدره مسلك الكمال من عباده وهو أكملهم فلم ينتفع لنفسه بشيء منها فكان عبدا شكورا كما قال في حديث استغفاره ربه في اليوم استغفارا كثيرا.
والتذييل بجملة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} تذييل لما شرعه من الأحكام للنبيء صلى الله عليه وسلم لا للجملة المتعرضة، أي أن ما أردناه من نفي الحرج عنك هو من متعلقات صفتي الغفران والرحمة اللتين هما من تعلقات الإرادة والعلم فهما ناشئان عن صفات الذات، فلذلك جعل اتصاف الله بهما أمرا متمكنا بما دل عليه فعل {كَانَ} المشي إلى السابقية والرسوخ كما علمته في مواضع كثيرة.
[51] {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً}.
{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} .
استئناف بياني ناشئ عن قولة {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] فإنه يثير في النفس تطلبا لبيان مدى هذا التحليل. والجملة خبر مستعمل في إنشاء تحليل الإرجاء والإيواء لمن يشاء النبيء صلى الله عليه وسلم.
والإرجاء حقيقته: التأخير إلى وقت مستقبل. يقال: أرجأت الأمر وأرجيته مهموزا ومخففا، إذا أخرته.
وفعله ينصرف إلى الأحوال لا الذوات فإذا عدي فعله إلى أسم ذات تعيين انصرافه إلى وصف من الأوصاف المناسبة والتي تراد منها، فإذا قلت: أرجأت غريمي، كان المراد: أنك أخرت قضاء دينه إلى وقت يأتي.
والإيواء: حقيقة جعل الشيء آويا، أي راجعا إلى مكانه. يقال: آوى ،إذا رجع حيث فارق، وهو هنا مجاز في مطلق الاستقرار سواء كان بعد إبعاد أم بدونه، وسواء كان بعد سيق استقرار بالمكان أم لم يكن.
ومقابلة الإرجاء بالإيواء تقتضي أن الإرجاء مراد منه ضد الإيواء أو أن الإيواء ضد
(21/297)

الإرجاء وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإرجاء والإيواء صريحهما وكنايتهما.
فضمير {مِنْهُنَّ} عائد إلى النساء المذكورات ممن هن في عصمته ومن أحل الله له نكاحهن غيرهن من بنات عمه وعماته وخله وخالاته، والواهبات أنفسهن فتلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: وهن اللآء في عصمة النبيء عليه الصلاة والسلام فهن متصلن به فإرجاء هذا الصنف يتصرف إلى تأخير الاستماع إلى وقت مستقبل يريده والإيواء ضده. فيتعين أن يكون الإرجاء منصرفا إلى القسم فوسع الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أباح له أن يسقط حق بعض نسائه في المبيت معهن فصار حق المبيت حقا له لا لهن بخلاف بقية المسلمين،و على هذا جرى قول مجاهد وقتادة وأبي رزين قاله الطبري.
وقد كانت إحدى نساء النبيء صلى الله عليه وسلم أسقطت عنه حقها في المبيت وهي سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبيء صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة وكان ذلك قبل نزول هذه الآية ولما نزلت هذه الآية صار النبيء عليه الصلاة و السلام مخيرا في القسم لأزواجه.وهذا قول الجمهور، قال أبو بكر بن العربي: وهو الذي ينبغي أن يعول عليه.وهذا تخيير للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يأخذ لنفسه به تكرما منه على أزواجه. قال الزهري. ما علمنا أن رسول الله أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلهن. قال أبو بكر بن العربي: وهو المعنى المراد. وقال أبو رزين العقيلي1: أرجأ ميمونة وسودة وجويرية وأم حبيبة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء، أي دون مساواة لبقية أزواجه. وضعفه ابن العربي.
وفسر الإرجاء بمعنى التطليق، والإيواء بمعنى الإبقاء في العصمة، فيكون إذنا له بتطليق من يشاء تطليقها وإطلاق الإرجاء على التطليق غريب.
وقد ذكروا أقوالا أخر و أخبارا في سبب النزول لم تصح أسانيدها فهي آراء لا يوثق بها. ويشمل الإرجاء الصنف الثاني وهن ما ملكت يمينه وهو حكم أصلي إذ لا يجب للإماء عدل في المعاشرة ولا في المبيت.
ويشمل الإرجاء الصنف الثالث وهن: بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته،فالإرجاء تأخير تزوج من يحل منهن، والإيواء العقد على إحداهن،والنبيء صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 أبو رزين بفتح الراء اسمه: لقيط. ويقال له العقيلي أو العامري وهو من بني المنتفق. وله صحبة.
(21/298)

لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية،وذلك إرجاء العمل بالإذن فيهن إلى غير أجل معين.
وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللآء وهبن أنفسهن، سواء كان ذلك واقعا بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة، عبر عنه الإرجاء إبقاء على أملها أن يقبلها في المستقبل، وإيوائهن قبول هبتهن.
قرأ نافع وحمزة و الكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف {تُرْجِي} بالياء التحتية في آخره مخفف "ترجئ" المهموز. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {تُرْجِي} بالهمز في آخره. وقال الزجاج: الهمز أجود وأكثر. والمعنى واحد.
واتفق الرواة على أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يستعمل مع أزواجه ما أبيح له أخذا منه بأفضل الأخلاق، فكان يعدل في القسم بين نسائه إلا أن سودة وهبت يومها لعائشة طلبا لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} فهذا لبيان أن هذا التخيير لا يوجب استمرار ما أخذ به من الطرفين المخير بينهما، أي لا يكون عمله بالعزل لازم الدوام بمنزلة الظهار والإيلاء، بل أذن الله أن يرجع إلى من يعزلها منهن،فصرح هنا الإرجاء شامل للعزل.
ففي الكلام جملة مقدرة دل عليها قوله: {ابْتَغَيْتَ} إذ هو يقتضي أنه ابتغى إبطال عزلها فمفعول {ابْتَغَيْتَ} محذوف دل عليه قوله: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} كما هو مقتضى المقابلة بقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} ، فإن العزل والإرجاء مؤداهما واحد.
والمعنى: فإن عزلت بالإرجاء إحداهن فليس العزل بواجب استمراره بل لك أن تعيدها إن ابتغيت العود إليها،أي فليس هذا كتخيير الرجل زوجه فتختار نفسها المقتضي أنها تبين منه. و متعلق الجناح محذوف دل عليه قوله: {ابْتَغَيْتَ} أي ابتغيت إيوائها فلا جناح عليك من إيوائها.
و{مَنْ} يجوز أن تكون شرطية وجملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} جواب الشرط.و يجوز أن تكون موصولة مبتدأ فإن الموصول يعامل معاملة الشرط في كلامهم بكثرة إذا قصد منه العموم فلذلك يقترن خبر الموصول العام بالفاء كثيرا كقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
(21/299)

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، وعليه فجملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} خبر المبتدأ اقتران بالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ومفعول {عَزَلْتَ} محذوف عائد إلى {مَنْ} أي التي ابتغيتها ممن عزلتهن وهو من حذف العائد المنصوب.
{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً}
الإشارة إلى شيء مما تقدم و هو أقربه،فيجوز أن تكون الإشارة إلى معنى التفويض المستفاد من قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الابتغاء المتضمن له فعل {ابْتَغَيْتَ} أي فلا جناح عليك في ابتغائهن بعد عزلهن ذلك أدنى لأن تقرأ أعينهن.والابتغاء: الرغبة والطلب، والمراد هنا ابتغاء معاشرة من عزلهن.
فعلى الأول يكون المعنى أن في هذا التفويض جعل الحق في اختيار أحد الأمرين بيد النبيء صلى الله عليه وسلم ولم يبقى حقا لهن فإذا عين لإحداهن حالة من الحالين رضيته به لأنه يجعل الله تعالى على حكم قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فقرت أعين جميعهن بما عينت لكل واحدة لأن الذي يعلم أنه لاحق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه، وإن علم أن له حقا حسب إنما يؤتاه أقل من حقه وبالغ في استيفائه. وهذا التفسير مروي عن قتاده وتبعه الزمخشري وأبن العربي والقرطبي وابن عطية، وهذا يلائم قوله: {وَيَرْضَيْنَ} ولا يلائم قوله: {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنّ} لأن قرة العين إنما تكون بالأمر المحبوب، وقوله: {وَلا يَحْزَنَّ} لأن الحزن من الأمر المكدر ليس باختياري كما قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "فلا تلمني فيما لا أملك" .
وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: ذلك الابتغاء بعد العزل أقرب لأن تقر أعين اللاتي كنت عزلتهن. ففي هذا الوجه ترغيب للنبيء صلى الله عليه وسلم في اختيار عدم عزلهن عن القسم وهو المناسب لقوله: {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ} كما علمت آنفا، ولقوله: "ويرضين كلهن"، ولما فيما ذكر من الحسنات الوافرة التي يرغب النبيء صلى الله عليه وسلم في تحصيلها لا محالة وهي إدخال المسرة على المسلم وحصول الرضا بين المسلمين مما يعزز الاخوة الإسلامية المرغوب فيها. ونقل قريب من هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد واختاره أبو علي الجبائي وهو الأرجح لأن قرة العين لا تحصل على مضض ولأن الحط في الحق يوجب الكدر. ويؤده أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يأخذ إلا به ولم يحفظ عنه أنه آثر إحدى أزواجه
(21/300)

بليلى سوى ليلة سودة التي وهبتها لعائشه أستمر ذلك إلى وفاته صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في الصحيح أنه كان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به كل يوم على بيوت أزواجه وكان مبدأ شكواه في بيت ميمونة إلى أن جاءت نوبه ليلة عائشة فأذن له أزواجه أن يمرض في بيتها رفقا به.
وروى عنه صلى الله عليه وسلم انه قال حين قسم لهن "اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما لا املك" , ولعل ذلك كان قبل نزول التفويض إليه بهذه الآية.
وفي قوله: {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} إشارة إلى أن المراد الرضا الذي يتساوين فيه وإلا لم يكن للتأكيد بـ {كُلُّهُنَّ} نكتة زائدة فالجمع بين ضميرهن في قوله: {كُلُّهُنَّ} يومئ إلى رضا متساو بينهن.
وضميرا {أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ} عائده إلى "من" في قوله: {مِمَّنْ عَزَلْتَ} . وذكر {وَلا يَحْزَنَّ} بعد ذكر {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} مع ما في قرة العين من تضمن معنى انتفاء الحزن بالإيماء إلى ترغيب النبيء صلى الله عليه وسلم في ابتغاء بقاء جميع نسائه في مواصلته لأن في عزل بعضهن حزنا للمعزولات وهو بالمؤمنين رؤوف لا يحب أن يحزن أحدا.
و {كُلُّهُنَّ} توكيد لضمير {يَرْضَيْنَ} أو يتنازعه الضمائر كلها.
والإيتاء: الإعطاء، وغلب على إعطاء الخير إذا لم يذكر مفعوله الثاني أو ذكر غير معين كقوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]، فإذا ذكر مفعوله الثاني فالغالب أنه ليس بسوء. ولا أره يستعمل في إعطاء السوء فلا تقول: آتاه سجنا وآتاه ضربا، إلا في مقام التهكم أو المشاكلة، فما هنا من القبيل الأول، ولهذا يبعد تفسيره بأنهن ترضين بما أذن الله فيما لرسوله من عزلهن وإرجائهن. وتوجيهه في "الكشاف" تكلف.
والتذييل بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير ففيه ترغيب للنبيء صلى الله عليه وسلم في الإحسان أزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضا بما يلقينه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي إجراء صفتي {عَلِيماً حَلِيماً} على اسم الجلالة إيماء إلى ذلك فمناسبة صفة العلم لقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} ظاهرة, و مناسبة صفة الحليم باعتبار أن المقصود ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أليق الأحوال بصفة الحليم لأن همه صلى الله عليه وسلم التخليق بخلق الله
(21/301)

تعالى وقد أجرى الله عليه صفات من صفاته مثل رؤوف رحيم ومثل شاهد. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثما. ولهذا لم يأخذ رسول الله بهذا التخير في النساء اللاتي كن في معاشرته وأخذ به في الواهبات أنفسهن مع الإحسان إليهن بالقول والبذل فأن الله كتب الإحسان على كل شيء. وأخذ به في ترك التزوج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته لأن ذلك لا حرج فيه عليهن.
[52] {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} .
موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع، على أن حذف ما أضيفت إليه {بَعْدُ} ينادي على أنه حذف معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يتردد فيه، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو: إما أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبلة، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] الخ. وإما أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان، أي من بعد هذا الوقت، والأول الراجح.
و {بَعْدُ} يجوز أن يكون بمعنى "غير" كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] وهو استعمال كثير في اللغة، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي غيرهن وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال: "نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات" فقال: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} فأحل الله المملوكات المؤمنات {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} [الأحزاب: 50]. ومثل هذا مروي عن أبي بن كعب وعكرمة والضحاك. ويجوز أن يكون {بَعْدُ} مراد به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيتعين تقدير لفظ يدل على شيء سابق.
وبناء {بَعْدُ} على الضم يقتضي تقدير كضاف إليه محذوف يدل عليه الكلام السابق
(21/302)

على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في "شرحه على قطر الندى" ، فيجوز أن يكون التقدير: من بعد من ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر: من غير من ذكرن، أو يقدر من بعد من ذكرن،فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذكرن "وكن تسعا"، أو من اخترتهن.
ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتا، أي بعد اليوم أو الساعة، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخا لقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50].
وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت: "ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء". وقال حديث حسن. "وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة" فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها: ما مات، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخه للإباحة التي عنتها عائشة فالإباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أم سلمة.
و {النِّسَاءُ} : إذ أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة:
حذارا على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
أي لا تحل لك الأزواج من بعد من ذكرن.
وقوله: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} أصلة: تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، يقال: بدل وتبدل، ومادة البل تقتضي شيئين: يعطي أحدهما عوضا عن أخذ الآخر فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطى بالباء أو بحرف {مِنْ} ، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} في سورة البقرة [108].
والمعنى: أن من حصلت في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحل لك أن تطلقها، فكني بالتبديل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرء لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخر الآية أولها وسابقتها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أحلت له الزيادة على النساء اللاتي
(21/303)

عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن، فإذا كانت المستبدلة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرم علية استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاما في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها في غيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنى به عن الطلاق وملاحظا فيه نية الاستبدال. فالمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة.
والمعنى: ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجا أخرى.
وضمير {بِهِنَّ} عائد إلى ما أضيف إليه {بَعْدُ} المقدر وهن الأنصاف الثلاثة.
والمعنى: ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها.
فالباء داخلة على المفارقة.
و {مِنْ} مزيدة على المفعول الثاني لـ {تَبَدَّلَ} لقصد إفادة العموم. والتقدير: ولا أن تبدل بهن أزواجا آخر، فأختص هذا الكلام بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} . وأما التي تهب نفسها فهي إن أراد النبيء صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الزواج، فشملها حكمهن، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف.
وقرأ الجمهور {لا يَحِلُّ} بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غير صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم.
وجملة {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} في موضع الحال والواو واوه، وهي حال من ضمير {تَبَدَّلَ} . و {لَوْ} للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير. وتسمى وصلية، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأولى، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في آل عمران [91].
والمعنى: لا يحل لك النساء من بعد بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حلة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك.
(21/304)

وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدد له أصنافا معينة وفيهن غناء.
وقد عبرة عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة إذ قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.وأكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} أي علما بجري كل شيء على نحو ما حدده أو على خلافه، فهو يجازي على حسب ذلك. وهذا وعد النبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} منقطع. والمعنى: لكن ما ملكت يمينك حلال في كل حال. والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ {النِّسَاءُ} في قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} ما يرادف لفظ الإناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم.
[53] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}.
لما بين الله في الآيات السابقة آداب النبيء صلى الله عليه وسلم مع أزواجه فقاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، و صدر بالإشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية.وهي ما في "صحيح البخاري" و غيره عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاما بخبز ولحم ودعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبيء ليدخل فإذا القوم جلوس، فجعل النبيء صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع فانطلق إلى حجرة عائشة... فتقرى حجر
(21/305)

نسائه كلهن يسلم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبيء صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء} إلى قوله: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} .
وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: "يا رسول الله يدخل عليك البر و الفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب"، فأنزل الله آية الحجاب. وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها.
وابتدئ شرع الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم إلا لطعام دعاهم إليه لأن النبيء عليه الصلاة و السلام له مجلس يجلس في المسجد فمن كان له مهم عنده يأتيه هنالك.
وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييدا لإباحة دخول بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام و لكنه مثال للدعوة و تخصيص بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول فيلحق به كل دعوة تكون من النبيء صلى الله عليه وسلم وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيرا. ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يدعوه عمر إلى الغداء ففتح عليه الآية فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به فانطلق به إلى بيته و أمر له بعس من لبن ثم ثان ثم ثالث، وإنما ذكر الطعام إدماجا لتبيين آدابه، ولذلك ابتدئ بقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} مع إنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول.
وقرأ الجمهور {بُيُوتَ} بكسر الباء. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء، وقد تقدم في سورة النساء وغيرها.
و {إِنَاهُ} بكسر الهمزة و بالقصر: إما مصدر أنى الشيء إذا حان، يقال: أنى يأني قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].و مقلوبه: آن. وهو بمعناه. والمعنى: غير منتظرين حضور الطعام، أي غير سابقين إلى البيوت و قبل تهيئته.
والاستثناء في {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه،أي إلا حال أن يؤذن لكم.
(21/306)

وضمن {يُؤْذَنَ} معنى تدعون فعدي بـ {إِلَى} فكأنه قيل: إلا أن تدعوا إلى طعام فيؤذن لكم لأن الطفيلي قد يؤذن له إذا استأذن وهو غير مدعو فهي حالة غير مقصودة من الكلام.
فالكلام متضمن شرطين هما: الدعوة، والإذن،فإن الدعوة قد تتقدم على الإذن وقد يقترنان كما في حديث أنس بن مالك.
و {غَيْرَ نَاظِرِينَ} حال من ضمير {لَكُمْ} فهو قيد في متعلق المستثنى فيكون قيدا في قيد فصارت القيود المشروطة ثلاثة.
و {نَاظِرِينَ} اسم فاعل من نظر بمعنى انتظر،كقوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 102] الآية.
ومعنى ذلك: لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول فتقعدوا تنتظرون نضجه. وعن ابن عباس نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبيء فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ا هـ. وقد يقتضي أن ذلك تكرر قبل قضية النفر الذين وليمة البناء بزينب فتكون تلك القضية خاتمة القضايا، فكني بالانتظار عن مبادرة الحضور قبل إبان الأكل. ونكتة هذه الكناية تشويه السبق بالحضور بجعله نهما وجشعا وإن كانوا قد يحضرون لغير ذلك، وبهذا تعلم أن ليس النهي متوجها إلى صريح الانتظار.
وموقع الاستدراك لرفع توهم أن التأخر عن إبان الطعام أفضل فأرشد الناس إلى أن تأخر الحضور عن إبان الطعام لا ينبغي بل التأخر ليس من الأدب لأنه يجعل صاحب الطعام في انتظار،وكذلك البقاء بعد انقضاء الطعام فإنه تجاوز لحد الدعوة لأن الدعوة لحضور شيء تقتضي مفارقة المكان عند انتهائه لأن تقييد الدعوة بالغرض المخصوص يتضمن تحديدها بانتهاء ما دعي لأجله، وكذلك الشأن في كل دخول لغرض من مشاورة أو محادثة أو سمر أو نحو ذلك وكل ذلك يتحدد بالعرف وما لا يثقل على صاحب المحل، فإن كان محل لا يختص به أحد كدار الشورى والنادي فلا تحديد فيه.
و {طَعِمْتُمْ} معناه أكلتم، يقال: طعم فلان فهو طاعم، إذا أكل.
والانتشار: افتعال من النشر، وهو إبداء ما كان مطويا، أطلق على الخروج مجازا وتقدم في قوله: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} في سورة الفرقان [47].
(21/307)

والواو في {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ} عطف على {نَاظِرِينَ} وما بينهما من الاستدراك وما تفرع عليه اعتراض بين المتعاطفين. وزيادة حرف النفي قبل {مُسْتَأْنِسِينَ} لتأكيد النفي كما هو الغالب في العطف على المنفي وفي تصدير المنفي نحو قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] الآية وقوله: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] ثم قوله: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11].
والاستئناس: طلب الأنس مع الغير. واللام في {لِحَدِيثٍ} للعلة، أي ولا مستأنسين لأجل حديث يجري بينكم.
والحديث: الخبر عن أمر حدث، فهو في الأصل صفة حذف موصوفها ثم غلبت على معنى الموصوف فصار بمعنى الإخبار عن أمر حدث، وتوسع فيه فصار الإخبار عن شيء ولو كان أمرا قد مضى. ومنه سمي ما يروى عن النبيء صلى الله عليه وسلم حديثا كما يسمى خبرا، ثم توسع فيه فصار يطلق على كلام يجري بين الجلساء في جد أو فكاهة، و منه قولهم: حديث خرافة، وقول كثير:
أخذنا باكتراث الأحاديث تبيينا ... .... البيت
واستئناس الحديث: تسمعه والعناية بالإصغاء، قال النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد
أي كأني راكب ثورا وحشيا منفردا تسمع صوت الصائد فأسرع الهروب.
وإضافة {بُيُوتَ النبيء} على معنى لام الملك لأن تلك البيوت ملك له ملكها بالعطية من الذين كانت ساحة المسجد ملكا لهم من الأنصار، و بالفيء لقبور المشركين التي كانت ثمة، فإن المدينة فتحت بكلمة الإسلام فأصبحت دارا للمسلمين. ومصير تلك البيوت بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم مصير تركته كلها فإنه لا يورث وما تركته ينتفع منه أزواجه وآله بكفايتهم حياتهم ثم يرجع ذلك للمسلمين كما قضى به عمر بين علي والعباس فيما كان للنبيء صلى الله عليه وسلم من فدك ونخل بني النضير، فكان لأزواج النبيء صلى الله عليه وسلم حق السكنى في بيوتهن بعده حتى توفاهن الله من عند آخرتهن، فلذلك أدخلها الخلفاء في المسجد حين توسعته في زمن الوليد ابن عبد الملك وأمير المدينة يومئذ عمر بن عبد العزيز. ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولم يعط ورثتهن شيئا ولا سألوه. وإضافتها إلى ضميرهن في قوله: {مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنّ} [الأحزاب: 34] على معنى لام الاختصاص لا لام الملك.
(21/308)

قال حماد بن زيد و إسماعيل بن أبي حكيم: هذه الآية أدب أدب الله به الثقلاء. وقال ابن أبي عائشة: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
ومعنى الثقل فيه هو إدخال أحد القلق والغم على غيره من جراء عمل لفائدة العامل أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل. وهو من مساوي الخلق لأنه إن كان من عمد كان ضرا بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاذ صبر المضرور فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى،ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعليه إذا أحس بان قولة أو فعله يدخل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه إذ لا يضر بأحد لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر فإن له طلبه مع أن مأمور بحسن التقاضي، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإن مذموم في ذاته وهو يصل إلى حد يكون الشعور به بديهيا.
وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق.
ومعاملة الناس النبيء صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق أشد بعدا عن الأدب لأن للنبيء صلى الله عليه وسلم أوقاتا لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة ويجب أن لا يشغل أحد أوقاته إلا بأذنه،ولذلك قال تعالى {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} .
والأمر في قوله: {فَادْخُلُوا} للندب لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سنة، وتقييد النهي بقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} للتنزيه لأن الحضور قبل تهيؤ الطعام غير مقتضى للدعوة ولا يتضمنه الإذن فهو تطفل.
والأمر في قوله: {فَانْتَشِرُوا} للوجوب لأن دخول المنزل بغير إذن حرام، وأنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مقيد المعنى بالغرض المأذون لأجله فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله، إلا أنه نظري قد يغفل عنه لأن أصله مأذون فيه والمأذون فيه شرعا لا يتقيد بالسلامة إلا إذا تجاوز الحد المعروف تجاوزا بينا. وعطف {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} راجع إلى هذا الأمر بقوله: {فَانْتَشِرُوا} فلذلك ذكر عقبه فإن استدامة المكث في معنى الدخول، فذكر بإثارة وحصل تفنن في الكلام.
وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف وليس ملكا للمدعوين ولا للأضياف لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة ولم يملكوه فلذلك لا
(21/309)

يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه.
وجملة {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} استئناف ابتدائي للتحذير ودفع الاغترار بسكوت النبيء صلى الله عليه وسلم أن يحسبوه رضي بما فعلوا. فمناط التحذير قوله: {ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء} فإن أذى النبيء صلى الله عليه وسلم مقرر في نفوسهم أنه عمل مذموم لأن النبيء عليه الصلاة و السلام أعز خلق في نفوس المؤمنين وذلك يقتضي التحرز مما يؤذيه أدنى أذى. ومناط دفع الاغترار قوله: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} فإن السكوت قد يظنه الناس رضى وإذنا وربما تطرق إلى أذهان بعضهم أن جلوسهم لو كان محظورا لما سكت عليه النبيء صلى الله عليه وسلم فأرشد الله إلى أن السكوت الناشئ عن سبب هو سكوت لا دلالة له على الرضى وأنه إنما سكت حياء من مباشرتهم بالإخراج فهو استحياء خاص من عمل خاص. وإنما كان ذلك مؤذيا النبيء صلى الله عليه وسلم لأن فيه ما يحول بينه وبين التفرغ لشؤون النبوة من تلقي الوحي أو العبادة أو تدبير أمر الأمة أو التأخر عن الجلوس في مجلسه لنفع المسلمين ولشؤون ذاته وبينه و أهله.واقتران الخبر بحرف {إِنَّ} للاهتمام به. ولك أن تجعله من تنزيل غير المتردد لأن حال النفر الذين أطالوا الجلوس والحديث في بيت النبيء عليه الصلاة والسلام وعدم شعورهم بكراهيته ذلك منهم حين دخل البيت فلما وجدهم خرج، فغفلوا عما في خروج النبيء صلى الله عليه وسلم من البيت من إشارة إلى كراهيته بقاءهم. تلك حالة من يظن ذلك مأذونا فيه فخوطبوا بهذا الخطاب تشديدا في التحذير واستفاقة من التغرير.
وإقحام فعل {كَانَ} لإفادة تحقيق الخبر.
وصيغ {يُؤْذِي} بصيغة المضارع دون اسم الفاعل لقصد إفادة أذى متكرر،والتكرير كناية عن الشدة.
والأذى: ما يكدر مفعوله ويسيء من قول أو فعل. وتقدم في قوله تعالى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} في آل عمران [111]، وهو مراتب متفاوتة في أنواعه.
والتفريع في قوله: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} تفريع على مقدر دلت عليه القصة. والتقدير: فيهم بإخراجكم فيستحيي منكم إذ ليس الاستحياء مفرعا على الإيذاء ولا هو من لوازمه.
ودخول {مِنَ} المتعلقة بـ {يَسْتَحْيِي} على ضمير المخاطبين على تقدير مضاف،أي يستحيي من إعلامكم بأنه يؤذيه.
وتعدية المشتقات من مادة الحياء إلى الذوات شائع يساوي الحقيقة لأن الاستحياء
(21/310)

يختلف باختلاف الذوات، فقولك: أردت أن أفعل كذا فاستحيت من فلان، يجوز أن تكون الحقيقة هي التعليق بذات فلان وأن تكون هي التعليق بالأحوال الملابسة له التي هي سبب الاستحياء لأجل ملابستها له. ولك أن تقول: استحييت أن أفعل كذا بمرأى فلان. وعلى التقدير الأول تكون {مِنْ} للتعليل، وعلى التقدير الثاني تكون {مِنْ} للابتداء. وظاهر كلام "الكشاف" يقتضي أن: استحييت من فلان مجاز أو توسع، وأن: استحييت من فعل كذا لأجل فلان هو الحقيقة. وظاهر كلام صاحب "الكشاف" عكس ذلك والأمر هين.
وصيغ فعل {يَسْتَحْيِي} بصيغة المضارع لأنه مفرع على {يُؤْذِي النبيء} ليدل على ما دل عليه المفرع هو عليه.
وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبيء صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعديا على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه، ولكن يؤخذ الحظر أو الإباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء} ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبيء صلى الله عليه وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصد إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه. ولم يجعلوا في إعراض النبيء عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلا على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} [المائدة: 13] وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. فهذا ملاك الجمع بين الإيذاء والاستحياء والحق في هذه الآية،تولى الله تعالى الذب عن حق رسوله وكفاه مؤونة المضض الداعي إليه حياؤه. وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه "الشفاء" .
فإن قلت: ورد في الحديث عن أنس أن النبيء صلى الله عليه وسلم خرج من البيت ليقوم الثلاثة الذين قعدوا يتحدثون،فلماذا لم يأمرهم بالخروج بدلا من خروجه هو. قلت: لأن خروجه غير صريح في كراهيته جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى الله عليه وسلم.
وجملة {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} معطوفة على جملة {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ}
(21/311)

والمعنى: أن ذلك سوء أدب مع النبيء صلى الله عليه وسلم فإذا كان يستحيي منكم فلا يباشركم بالإنكار ترجيحا منه للعفو عن حقه على المؤاخذة به فإن الله لا يستحيي من الحق لأن أسباب الحياء بين الخلق منتفية عن الخالق سبحانه: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
وصيغة الجملة المعطوفة على بناء الجملة الاسمية مخالفة للمعطوفة هي عليها فلم يقل: ولا يستحيي الله من الحق،للدلالة على أن هذا الوصف ثابت دائم لله تعالى لأن الحق من صفاته،فانتفاء ما يمنع تبليغه هو أيضا من صفاته لأن كل صفة يجب اتصاف الله بها فإن ضدها يستحيل عليه تعالى.
والتعريف في {الْحَقِّ} تعريف الجنس المراد منه الاستغراق مثل التعريف في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2]. والمعنى: والله لا يستحيي من جميع أفراد جنس الحق.
و {الْحَقِّ} : ضد الباطل.فمنه حق الله وحق الإسلام،وحق الأمة جمعاء في مصالحها وإقامة آدابها،وحق كل فرد من أفراد الأمة فيما هو من منافعه ودفع الضر عنه.
ويشتمل حق النبيء صلى الله عليه وسلم في بيته وأوقاته، وبهذا العموم في الحق صارت الجملة بمنزلة التذييل.
و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الْحَقِّ} ليست مثل {مِنَ} التي في قوله: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} لأن {مِنَ} هذه متعنية لكونها للتعليل إذ الحق لا يستحيي من ذاته فمعنى "إن الله لا يستحيي من الحق" أنه لا يستحيي لبيانه وإعلانه.
وقد أفاد قوله: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أن من واجبات دين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإسلامي في إقامته، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته،وفي إبلاغه وهو تعليمه،وفي الأخذ به،إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقا راجعا إلى غيره لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثاهم بقدر الإمكان.
وهذا المعنى فهمته أم سليم وأقرها النبيء صلى الله عليه وسلم على فهمها، فقد جاء في الحديث الصحيح: "عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبيء فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت? فقال رسول الله: نعم إذا رأت الماء" . فهي لم تستح في السؤال عن الحق المتعلق بها والنبيء صلى الله عليه وسلم لم يستح في
(21/312)

إخبارها بذلك. ولعلها لم تجد من يسأل لها أو لم تر لزاما أن تستنيب عنها من يسأل لها عن حكم يخص ذاتها. وقد رأى علي ابن أبي طالب الجمع بين طلب الحق وبين الاستحياء، ففي "الموطأ" عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه? قال علي: فإن ابنة رسول الله وأنا أستحيي أن أسأله الحديث.
على أن بين قضية أم سليم وقضية علي تفاوتا من جهات في مقتضى الاستحياء لا تخفى على المتبصر.
واعلم أن في ورود {يُؤْذِي} هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب "المثل السائر" شاهدا على أن الكلمة قد تروق السامع في كلام ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع. وجاء بكلمة {يُؤْذِي} في هذه الآية، ونظيرها "تؤذي" في قول المتنبي:
تلذ له المروءة وهي تؤذي
وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضبا من ابن الأثير لا تسوغه صناعة ولا يشهد به ذوق، ولقد صرف أئمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده فلم يعد عليه أحد منهم هذا منتقدا، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف فلم يبقى له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة، وليس في البيت شيء من الإخلال بالفصاحة وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبد القاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانيا من كتاب "دلائل الإعجاز" فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياه إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام، وشتان ما بين الصنعتين.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} .
عطف على جملة {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء} فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها.
وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين، وقد قيل: إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمسة.
وضمير {سَأَلْتُمُوهُنَّ} عائد إلى الأزواج المفهوم من ذكر البيوت في قوله: {بُيُوتَ
(21/313)

النبيء} فإن للبيوت رباتهن وزوج الرج هي ربة البيت، قال مرة بن محكان التميمي:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رجال الحي واغربا
وقد كانوا لا يبنى الرجل بيتا إلا إذا أراد التزوج. وفي حديث ابن عمر: كنت عزبا أبيت في المسجد. ومن أجل ذلك سمو الزفاف بناء. فلا جرم كانت المرأة والبيت متلازمين فدلت البيوت على الأزواج بالالتزام. ونظير هذا قولة تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 34- 38] فإن ذكر الفرش يستلزم أن للفراش امرأة، فلما ذكر البيوت هنا تبادر أن للبيوت ربات.
والمتاع: ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها، ومثل سؤال العفاة ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤال عن الدين أو عن القرآن، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين.
والحجاب: الستر المرخى على باب البيت.
وكانت الستور مرخاة على أبواب بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم الشارعة إلى المسجد. وقد ورد ما يبين ذلك في حديث الوفاة حين خرج النبيء صلى الله عليه وسلم على الناس وهم في الصلاة فكشف الستر ثم أرخى الستر.
و {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} متعلق بـ {فَاسْأَلوهُنَّ} فهو قيد في السائل والمسؤول المتعلق ضميراهما بالفعل الذي تعلق به المجرور. و {مِنْ} ابتدائية. والوراء: مكان الخلف وهو مكان نسبي باعتبار المتجه إلى جهة،فوراء الحجاب بالنسبة للمتجهين إليه فالمسؤولية مستقبلة حجابها والسائل من وراء حجابها والعكس.
والإشارة بـ {ذَلِكُمْ} إلى المذكور، أي السؤال المقيد بكونه من وراء حجاب.
واسم التفضيل في قوله: {أَطْهَرُ} مستعمل للزيادة دون التفضيل.
والمعنى: ذلك أقوى طهارة لقلوبكم وقلوبهن فإن قلوب الفريقين طاهرة بالتقوى وتعظيم حرمات الله وحرمة النبيء صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت التقوى لا تصل بهم إلى درجة العصمة أراد الله أن يزيدهم منها بما يكسب المؤمنين مراتب من الحفظ الإلهي من الخواطر الشيطانية بقطع أضعف أسبابها وما يقرب أمهات المؤمنين من مرتبة العصمة الثابتة لزوجهن صلى الله عليه وسلم فإن الطيبات للطيبين بقطع الخواطر الشيطانية بقطع دابرها ولو بالفرض.
(21/314)

وأيضا فأن الناس أوهاما وظنونا سوأى تتفاوت مراتب نفوس الناس فيها صرامة فيها صرامة، ووهنا، ووفاقا وضعفا، كما وقع في قضية الإفك المتقدمة في سورة النور فكان شرع حجاب أمهات المؤمنين قاطعا لكل تقول وإرجاف أو بغير عمد.
ووراء هذه الحكم كلها حكمه أخرى سامية وهي زيادة تقرير أمومتهن للمؤمنين في قلوب المؤمنين التي هي أمومة جعلية شرعية. بحيث أن ذلك المعنى الجعلي الروحي وهو كونهن فلانة أو فلانة فيصبحن غير متصورات إلا بعنوان الأمومة فلا يزال ذلك المعنى الروحي ينمي في النفوس،ولا تزال الصورة الحسية تتضاءل من القوة المدركة حتى يصبح معنى أمهات المؤمنين معنى قريبا في النفوس من حقائق المجردات كالملائكة، وهذه حكمة من حكم الحجاب الذي سنة الناس لملوكهم في القدم ليكون ذلك أدخل لطاعتهم في نفوس الرعية.
وبهذه الآية مع الآية التي تتقدمها من قوله: {يَا نِسَاءَ النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] تحقق معنا الحجاب لأمهات المؤمنين المركب من ملازمتهن بيوتهن وعدم ظهور شيء من ذواتهن حتى الوجه والكفين، وهو حجاب خاص بهن لا يجب على غيرهن، وكان المسلمون يقتدون بأمهات المؤمنين ورعا وهم متفاوتون في ذلك على حسب العادات، ولمت أنشد النميري عند الحجاج قوله:
يخمرن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنح الليل معتجرات
قال الحجاج: وهكذا المرأة الحرة المسلمة.
ودل قوله: {لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أن الأمر متوجه لرجال الأمة ولنساء النبيء صلى الله عليه وسلم على السواء. وقد ألحق بأزواج النبيء عليه السلام ببنته فاطمة فلذلك لما خرجوا بجنازتها جعلوا عليها قبة حتى دفنت، وكذلك قبة على زينب بنت جحش في خلافة عمر بن الخطاب.
{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} .
لما جيء في بيان النهي عن المكث في بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه يؤذيه أتبع بالنهي عن أذك النبيء صلى الله عليه وسلم نهيا عاما، فالخطاب في {لَكُمْ} للمؤمنين المفتتح بخطابهم آية: {يَا أَيُّهَا
(21/315)

الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية.
والواو عاطف جملة على جملة أو هي واو الاعتراض بين جملة {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً} وجملة {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنّ} [الأحزاب: 55].
ودلت جملة {مَا كَانَ لَكُمْ} على الحظر المؤكد لأن {مَا كَانَ لَكُمْ} نفي للاستحقاق الذي دلت عليه اللام، وإقحام فعل {كَانَ} لتأكيد انتفاء الإذن. وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم
وتضمنت هذه الآية حكمين:
أحدهما: تحريم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأذى: قول بقال له، أو فعل يعامل به، من شأنه أن يغضبه أو يسوء لذاته.
والأذى تقدم في أول هذه الآيات آنفا. والمعنى: أن أذى النبيء صلى الله عليه وسلم محظور على المؤمنين. وانظر الباب الثالث من القسم الثاني من كتاب "الشفاء" لعياض.
والحكم الثاني: تحريم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بقوله: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} وهو تقرير لحكم أمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
وقد حكيت أقوال في سبب نزول هذه الآية: منها أن رجلا قال: لو مات محمد تزوجت عائشة، أي قال بمسمع ممن نقله عنه فقيل هذا الرجل من المنافقين وهذا هو المضنون بقائل ذلك. وقيل هو من المؤمنين، أي خطر ذلك في نفسه قاله القرطبي. وذكروا رواية عن ابن عباس وعن مقاتل أنه طلحة بن عبيد الله. وقال ابن عباس: كانت هفوة منه وتاب وكفر بالحج ماشيا وبإعتاق رقاب كثيرة وحمل في سبيل الله على عشرة أفراس أو أبعرة. وقال ابن عطية: هذا عندي لا يصح على طلحة والله عاصمه من ذلك، أي أن حمل على ظاهر صدور القول منه فأما أن كان خطر له ذلك في نفسه فذلك خاطر شيطاني أراد تطهير قلبه فيه بالكفارات التي أعطاها إن صح ذلك. وأقول لا شك أنه من موضوعات الذين يطعنون في طلحة ابن عبيد الله. وهذه الأخبار واهية الأسانيد ودلائل الوضع واضحة فأن طلحة إن كان قال ذلك بلسانه لم يكن ليخفي على الناس فكيف يتفرد بروايته من أنفرد. وان كان خطر ذلك في نفسه ولم يتكلم به فمن ذا الذي أطلع على ما
(21/316)

في قلبه، وليس بمتعين أن يكون لنزول هذه الآية سبب. فإن كانة لها سبب فلا شك أنه قول بعض المنافقين لما يؤذن به قوله تعالى عقب هذه الآيات {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60] الآية. وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حكم دائم في حياة النبيء عليه الصلاة والسلام أو من بعده ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد، لأن ثبوت ذلك في حياته قد علم من قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
وإضافة البعدية إلى ضمير ذات النبيء عليه الصلاة والسلام تعين أن المراد بعد حياته كما هو الشائع في استعمال مثل هذه الإضافة فليس المراد بعد عصمته من نحو الطلاق لأن النبيء صلى الله عليه وسلم أزواجه غير محتمل شرعا لقوله: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52].
وأكد ظرف "بعد" بإدخال {مِنْ} الزائدة عليه، ثم أكد عمومه بظرف {أَبَداً} ليعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيدا وتحذيرا بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} ،فهو استئناف مؤكد لمضمون جملة {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} . والإشارة إلى ما ذكر من إيذاء النبيء صلى الله عليه وسلم وتزوج أزواجه، أي ذلكم المذكور.
والعظيم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام.
وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف لأنه عظيم في الشناعة. وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبيء صلى الله عليه وسلم إثما عظيما عند الله، أن الله جعل نساء النبيء عليه الصلاة والسلام أمهات للمؤمنين فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمه، وذلك إثم عظيم.
وأعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعادة منه فقال لها: الحقي بأهلك ، فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملها معه إلى حضرموت فتوفي رسول الله قبل قفولهما فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وأن أبا بكر هم بعقابه فقال له عمر: إن رسول الله لم يدخل بها.
والمرويات في هذا الباب ضعيفة. والذي عندي أن البناء والعقد كانا يكونان مقترنين
(21/317)

وأن ما يسبق البناء مما يسمونه تزويجا فإنما هو مراكنة ووعد ويدل لذلك ما في الصحيح أن رسول الله لما أحضرت إليه الكندية ودخل عليها رسول الله فقال لها: هبي لي نفسك "أي ليعلم أنها رضيت بما عقد لها وليها" فقالت: ما كان لملكة أن تهب نفسها لسوقة أعوذ بالله منك. فقال لها: لقد استعذت بمعاذ. فذلك ليس بطلاق ولكنه رجوع عن التزوج بها دال على أن العقد لم يقع وأن قول عمر لأبي بكر أو قول من قال لعمر: إن رسول الله لم يدخل بها هو كناية عن العقد.
وعن الشافعي تحريم تزوج من عقد عليها النبيء صلى الله عليه وسلم. إمام الحرمين والرافعي أن التحريم قاصر على التي دخل بها. على أنه يظهر أن الإضافة في قوله: {أَزْوَاجَهُ} بمعنى لام العهد، أي الأزواج اللائي في شأنهن هذه الآيات من قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] فهن اللاء ثبت لهن حكم الأمهات.
وبعد فإن البحث في هذه المسألة تفقه لا يبنى عليه عمل.
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}
كلام جامع تحريضا وتحذيرا ومنبئ عن وعيد، فإن ما قبله قد حوى أمرا ونهيا، وإذ كان الامتثال متفاوتا في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسبا لتنبيههم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء، فالمراد من {شَيْئاً} الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى لأن النكرة في سياق الشرط تعم.والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ} . وإظهار لفظ {شَيْءٍ} هنا دون إضمار لأن الإضمار لا يستقيم لأن الشيء المذكور ثانيا هو غير المذكور أولا، إذ المراد بالثاني جميع الموجودات والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة،فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم.
[55] {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} .
تخصيص من عموم الأمر بالحجاب الذي اقتضاه قوله: {فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ
(21/318)

حِجَابٍ} [الأحزاب: 53].
وإنما رفع الجناح عن نساء النبيء صلى الله عليه وسلم تنبيها على أنهن مأمورات بالحجاب كما أمر رجال المسلمين بذلك معهن فكان المعنى: لا جناح عليهن ولا عليكم، كما أن معنى {فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أنهن أيضا يجبن من وراء حجاب كما تقدمت الإشارة إلية بقوله: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
والظرفية المفادة من حرف {فِي} مجازية شائعة في مثله، يقال: لا جناح عليك في كذا، فهو كالحقيقة فلا تلاحظ فيه الاستعارة، والمجرور مقدر فيه مضاف تقديره: في رؤية آبائهن إياهن، وإنما رجح جانبهن هنا لأنه في معنى الإذن، لأن الرجال مأمورون بالاستئذان كما أقتضته آية سورة النور والإذن يصدر منهن فلذلك رجح هنا جانبهن فأضيف الحكم إليهن.
والنساء أسم جمع: امرأة لا مفرد له من لفظه في كلامهم، وهن الإناث البالغات أو المراهقات.
والمراد بـ {نِسَائِهِنَّ} جميع النساء، فإضافته إلى ضمير الأزواج اعتبار بالغالب لأن الغالب أن تكون النساء اللاتي يدخلن إلى أمهات المؤمنين نساء اعتدن أن يدخلن عليهن، والمراد جميع النساء.
ولم يذكر من أصناف الأقرباء والأعمام ولا الأخوال لأن ذكر أبناء الإخوان وأبناء الأخوات يقتضي اتحاد الحكم،من أنه لما رفع الحرج عنهن في الأعمام والأخوال كذلك،وأما قرابة الرضاعة فمعلومة من السنة فأريد الاختصار هنا إذ المقصود التنبيه على تحقيق الحجاب ليفضي إلى قوله: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} .
والتفت من الغيبة إلى خطابهن {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} لتشريف نساء النبيء صلى الله عليه وسلم بتوجيه الخطاب الإلهي إليهن.
والشهيد: الشاهد مبالغة في الفعل.
[56] {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
(21/319)

أعقبت أحكام معاملة أزواج النبيء عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه وتشريف مقامه إيماء إلى أن تلك الأحكام جارية على مناسبة عظمة مقام النبيء عليه الصلاة والسلام عند الله تعالى، وإلى أن لأزواجه من ذلك التشريف حظا عظيما. ولذلك كانت صيغة الصلاة عليه التي علمها للمسلمين مشتملة على ذكر أزواجه كما سيأتي قريبا، وليجعل ذلك تمهيدا لأمر المؤمنين بتكرير ذكر النبيء صلى الله عليه وسلم بالثناء والدعاء والتعظيم، وذكر صلاة الملائكة مع صلاة الله ليكون مثالا لصلاة أشرف المخلوقات على الرسول لتقريب درجة صلاة المؤمنين التي يؤمرون بها عقب ذلك،والتأكيد للاهتمام. ومجيء الجملة الاسمية لتقوية الخبر،وافتتاحها باسم الجلالة لإدخال المهابة والتعظيم في هذا الحكم،والصلاة من الله والملائكة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} في هذه السورة [43]. وهذه صلاة خاصة هي مما شمله قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} لأن عظمة مقام النبيء يقتضي عظمة الصلاة عليه.
وجملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} هي المقصودة وما قبلها توطئة لها وتمهيدا لأن الله لما حذر المؤمنين من كل ما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه بل حظهم أكبر من ذلك وهو أن يصلوا، عليه ويسلموا، وذلك هو إكرامهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام فيما بينهم وبين ربهم فهو يدل على وجوب إكرامه في أقوالهم وأفعالهم بحضرته بدلالة الفحوى، فجملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمنزلة النتيجة الواقعة بعد التمهيد. وجئ في صلاة الله وملائكته بالمضارع الدال على التجديد والتكرير ليكون أمر المؤمنين بالصلاة عليه والتسليم عقب ذلك مشيرا إلى تكرير ذلك منهم إسوة بصلاة الله وملائكته.
والأمر بالصلاة عليه معناه: إيجاد الصلاة،وهي الدعاء،فالأمر يؤول إلى إيجاد أقوال فيها دعاء وهو مجمل في الكيفية.
والصلاة: ذكر بخير، وأقوال تجلب الخير، فلا جرم كان الدعاء هو أشهر مسميات الصلاة،فصلاة الله: كلامه الذي يقدر به خيرا لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن حقيقة الدعاء في جانب الله معطل لأن الله هو الذي يدعوه الناس،وصلاة الملائكة والناس: استغفار ودعاء بالرحمات.
وظاهر الأمر أن الواجب كل كلام فيه دعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم ولكن الصحابة لما نزلت هذه الآية سألوا النبيء صلى الله عليه وسلم عن كيفية هذه الصلاة قالوا: "يا رسول الله هذا السلام عليك
(21/320)

قد علمناه فكيف نصلي عليك ?" يعنون أنهم علموا السلام عليه من صيغة بث السلام بين المسلمين وفي التشهد فالسلام بين المسلمين صيغته: السلام عليكم. والسلام في التشهد هو "السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته" أو "السلام على النبيء ورحمته الله وبركاته". فقال رسول الله: قولوا: "اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" . هذه رواية مالك في "الموطأ" عن أبي حميد الساعدي.
وروي أيضا عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ "وعلى آل محمد" "عن أزواجه وذريته في الموضعين" وبزيادة "في العالمين"، قبل: "إنك حميد مجيد. والسلام كما قد علمتم". وهما أصح ما روي كما قال أبو بكر بن العربي. وهناك روايات خمس أخرى متقاربة المعنى وفي بعضها زيادة وقد استقصاها ابن العربي في "أحكام القرآن" . ومرجع صيغها إلى توجه إلى الله بأن يفيض خيرات على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن معنى الصلاة الدعاء، ودعاء المؤمنين ليتوجب إلا إلى الله.
وظاهر صيغة الأمر مع قرينة السياق يقتضي وجوب أن يصلي المؤمن على النبيء صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان مجملا في العدد فمحمله محمل الأمر المجمل أن يفيد المرة لأنها ضرورية لإيقاع الفعل ولمقتضى الأمر. ولذلك اتفق فقهاء الأمة على أن واجبا على كل مؤمن أن يصلي على النبيء صلى الله عليه وسلم مرة في العمر فجعلوا وقتها العمر كالحج. وقد اختلفوا فيما زاد على ذلك في حكمه ومقداره، ولا خلاف في استحباب الإكثار من الصلاة عليه وخاصة عند وجود أسبابها. قال الشافعي وإسحاق ومحمد بن المواز من المالكية واختاره أبو بكر بن العربي من المالكية: إن الصلاة عليه فرض في الصلاة فمن تركها بطلت صلاته. قال إسحاق: ولو كان ناسيا.
وظاهر حكاياتهم عن الشافعي أن تركها إنما يبطل الصلاة إذا كان عمدا وكأنهم جعلوا ذلك بيانا للإجمال الذي في الأمر من جهة الوقت والعدد، فجعلوا الوقت هو إيقاع الصلاة للمقارنة بين الصلاة والتسليم وراد في التشهد، فتكون الصلاة معه على نحو ما استدل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإذا كان هذا مأخذهم فهو ضعيف لأن الآية لم ترد في مقام أحكام الصلاة، وإلا فليس له أن يبين مجملا بلا دليل.
وقال جمهور العلماء: هي في الصلاة مستحبة وهي في التشهد الأخير وهو الذي
(21/321)

جرى عليه الشافعية أيضا. قال الخطابي: ولا أعلم للشافعي فيها قدوة وهو مخالف لعمل السلف قبله،وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا.وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه النبيء صلى الله عليه وسلم والذي اختاره الشافعي ليس فيه الصلاة على النبيء كذلك كل من روى التشهد عن رسول الله. قال ابن عمر: كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب، وعلمه أيضا على المنبر عمر، وليس في شيء من ذلك ذكر الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم. قلت: فمن قال إنها سنة في الصلاة فإنما أراد المستحب.
وأما حديث "لا صلاة لمن لم يصل علي فقد ضعفه أهل الحديث كلهم.
ومن أسباب الصلاة عليه أن يصلي عليه من جرى ذكره عنده، وكذلك في افتتاح الكتب والرسائل، وعند الدعاء، وعند سماع الأذان، وعند انتهاء المؤذن، وعند دخول المسجد،وفي التشهد الأخير.
وفي التوطئة للأمر بالصلاة على النبيء بذكر الفعل المضارع في {يَصِلُونَ} إشارة إلى الترغيب في الإكثار من الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم تأسيا بصلاة الله وملائكته.
واعلم أنا لم نقف على أن أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون على النبيء كلما ذكر اسمه ولا أن يكتبوا الصلاة عليه إذا كتبوا اسمه ولم نقف على تعيين مبدأ كتابة ذلك بين المسلمين.
والذي يبدوا أنهم كانوا يصلون على النبيء إذا تذكروا بعض شؤونه كما كانوا يترحمون على الميت إذا ذكروا بعض محاسنه. وفي "السيرة الحلبية" : "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترى عمر من الدهش ما هو معلوم وتكلم أبو بكر بما هو معلوم قال عمر إنا لله وإنا إليه راجعون صلوات الله على رسوله وعند الله نحتسب رسوله" وروى البخاري في باب: متى يحل المعتمر: عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تقول كلما مرت بالحجون "صلى الله على رسوله محمد وسلم لقد نزلنا معه ههنا ونحن يومئذ خفاف" إلى آخره.
وفي باب ما يقول عند دخول المسجد من "جامع الترمذي" حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك قال الترمذي: حديث
(21/322)

حسن وليس إسناده بمتصل.
ومن هذا القبيل ما ذكره ابن الأثير في "التاريخ الكامل" في حوادث سنة خمس وأربعين ومائة: أن عبد الله بن مصعب بن ثابت رثى محمدا النفس الزكية بأبيات منها:
والله لو شهد النبيء محمد ... صلى الإله على النبيء وسلما
ثم أحدثت الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم في أوائل الكتب في زمن هارون الرشيد ذكر ذلك ابن الأثير في "الكامل" في سنة إحدى وثمانين ومائة، وذكره عياض في "الشفاء" ، ولم يذكرا صيغة التصلية. وفي "المخصص" لابن سيده في ذكر الخف والنعل: إن أبا محلم بعث إلى حذاء بنعل ليحذوها وقال له: "ثم سن شفرتك وسن رأس الإزميل ثم سم باسم الله وصل على محمد ثم أنحها" إلى أخره.
ولا شك أن إتباع اسم النبيء صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه في كتب الحديث والتفسير وغيرها كان موجودا في القرن الرابع وقد وقفت على قطعة عتيقة من تفسير يحيى بن سلام البصري مؤرخ نسخها سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة فإذا فيها الصلاة على النبيء عقب ذكره اسمه.
وأحسب أن الذين سنوا ذلك هم أهل الحديث قال النووي في مقدمة شرحه على "صحيح مسلم" "يستحب لكاتب الحديث إذا مر ذكر الله أن يكتب عز وجل، أو تعالى، أو سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جل ذكره، أو تبارك اسمه، أو جلت عظمته، أو ما أشبه ذلك، وكذلك يكتب عند ذكر النبيء" صلى الله عليه وسلم "بكاملها لا رامزا إليها ولا مقتصرا على بعضها، ويكتب ذلك وإن لم يكن مكتوبا في الأصل الذي ينقل منه فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء. وينبغي للقارئ أن يقرأ كل ما ذكرناه وإن لم يكن مذكورا في الأصل الذي يقرأ منه ولا يسأم من تكرر ذلك، ومن أغفل ذلك حرم خيرا عظيما" ا هـ.
وقوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} القول فيه كالقول في {صَلُّوا عَلَيْهِ} حكما ومكانا وصفه فإن صفته حددت بقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "والسلام كما قد علمتم" فإن المعلوم هو صيغته التي في التشهد "السلام عليك أيها النبيء ورحمه الله وبركاته". وكان ابن عمر يقول فيه بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم "السلام على النبيء ورحمه الله وبركاته" والجمهور أبقوا لفظه على اللفظ الذي كان في حياة النبيء عليه الصلاة والسلام رعيا لما ورد عن النبيء عليه الصلاة والسلام أنه حي يبلغه تسليم أمته عليه.
(21/323)

ومن أجل هذا المعنى أبقيت له صيغة التسليم على الأحياء وهي الصيغة التي يتقدم فيها لفظ التسليم على المتعلق به لأن التسليم على الأموات يكون بتقديم المجرور على لفظ السلام. وقد قال رسول الله للذي سلم فقال: عليك السلام يا رسول الله فقال له: "إن عليك السلام تحية الموتى، فقل: السلام عليك".
والتسليم مشهور في التحية بالسلام، والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة وجعل تحية في الأولين عند اللقاء مبادأة بالتأمين من الاعتداء والثار ونحو ذلك إذ كانوا إذ اتقوا أجدا توجسوا خيفة أن يكون مضمرا شرا لملاقيه،فكلاهما يدفع ذلك الخوف بالإخبار بأنه ملق على ملاقيه سلامة وأمنا.ثم شاع ذلك حتى صار هذا اللفظ دالا على الكرامة والتلطف، قال النابغة:
أتاركة تدللها قطام ... وضنا بالتحية والسلام
ولذلك كان قوله تعالى: {وَسَلِّمُوا} غير مجمل ولا محتاج إلى بيان فلم يسأل عنه الصحابة النبيء صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا السلام قد عرفناه، وقال لهم: والسلام كما قد علمتم، أي كما قد علمتم من صيغة السلام بين المسلمين ومن ألفاظ التشهيد في الصلاة.
وإذا قد كانت صيغة السلام معروفة كان المأمور به هو ما يماثل تلك الصيغة أعني أن نقول: السلام على النبيء أو عليه السلام، وأن ليس ذلك بتوجه إلى الله تعالى بأن يسلم على النبيء بخلاف التصلية لما علمت مما اقتضى ذلك فيها.
والآية تضمنت الأمر بشيئين: الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم والتسليم عليه، ولم تقتض جمعهما في كلام واحد وهما مفرقان في كلمات التشهد فالمسلم مخير بين أن يقرن بين الصلاة والتسليم بأن يقول: صلى الله على محمد والسلام عليه، أو أن يقول: اللهم صل على محمد والسلام على محمد، فيأتي في جانب التصلية بصيغة طلب ذلك من الله،وفي جانب التسليم بصيغة إنشاء السلام بمنزلة التحية له، وبين أن يفرد الصلاة ويفرد التسليم وهو ظاهر الحديث الذي رواه عياض في "الشفاء" أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول: من سلم عليك سلمت عليه ومن صلى عليك صليت عليه" . وعن النووي أنه قال بكراهة إفراد الصلاة والتسليم، وقال ابن حجر: لعله أراد خلاف الأولى. وفي الاعتذار والمعتذر عنه نظر إذ لا دليل على ذلك.
وأما أن يقال: اللهم سلم على محمد، فليس بوارد فيه مسند صحيح ولا حسن عن
(21/324)

النبيء صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه إلا بصيغة إنشاء السلام مثل ما في التحية، ولكنهم تسامحوا في حالة الاقتران بين التصلية والتسليم فقالوا: صلى الله عليه وسلم، لقصد الاختصار فيما نرى. وقد استمر عليه عمل الناس من أهل العلم والفضل وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم أنها قالت "صلى الله على محمد وسلم".
ومعنى تسليم الله عليه إكرامه وتعظيمه فإن السلام كناية عن ذلك.
وقد استحسن أئمة السلف أن يجعل الدعاء بالصلاة مخصوصا بالنبيء صلى الله عليه وسلم. وعن مالك: لا يصلى على غير نبينا من الأنبياء. يريد أن تلك هي السنة، وروي مثله عن ابن عباس، وروي عن عمر بن عبد العزيز: أن الصلاة خاصة بالنبيءين كلهم.
وأما التسليم في الغيبة فمقصور عليه وعلى الأنبياء والملائكة لا يشركهم فيه غيرهم من عباد الله الصالحين لقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]، وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]، {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 120]، {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109].
وانه يجوز إتباع آلهم وأصحابهم وصالحي المؤمنين إياهم في ذلك دون استقلال.هذا الذي استقر عليه اصطلاح أهل السنة ولم يقصدوا بذلك تحريما ولكنه اصطلاح وتمييز لمراتب رجال الدين، كما قصروا الرضى على الأصحاب وأئمة الدين، وقصروا كلمات الإجلال نحو : تبارك وتعالى،وجل جلاله،على الخالق دون الأنبياء والرسل.
وأما الشيعة فإنهم يذكرون التسليم على علي وفاطمة وآلهما، وهو مخالف لعمل السلف فلا ينبغي اتباعهم فيه لأنهم قصدوا به الغض من الخلفاء والصحابة.
وانتصب {تَسْلِيماً} على أنه مصدر مؤكد لـ {سَلِّمُوا} وإنما لم يؤكد الأمر بالصلاة عليه بمصدر فيقال: صلوا عليه صلاة، لأن الصلاة غلب إطلاقها على معنى الاسم دون المصدر، وقياس المصدر التصلية ولم يستعمل في الكلام لأنه اشتهر في الإحراق، قال تعالى: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94]، على أن الأمر بالصلاة عليه قد حصل تأكيده بالمعنى لا بالتأكيد الاصطلاحي فإن التمهيد له بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيء} مشير إلى التحريض على الاقتداء بشأن الله وملائكته.
[57] {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً}.
(21/325)

لما أرشد الله المؤمنين إلى تناهي مراتب حرمة النبيء صلى الله عليه وسلم وتكريمه وحذرهم مما قد يخفي على بعضهم من خفي الأذى في جانبه بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء} [الأحزاب: 53] وقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] الآية، وعلمهم كيف يعاملونه معاملة التوقير والتكريم بقوله: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] وقوله: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيء} [الأحزاب: 56] الآية، وعلم أنهم قد امتثلوا أو تعلموا أردف ذلك بوعيد قوم أتسمو بسمات المؤمنين وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام فأعلم الله المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة ليعلم المؤمنين أن أولئك ليس من الإيمان في شئ في شيء وأنهم منافقون لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين.
فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه يخطر الأذى كثير ممن يسمع الآيات السابقة أن يتساءلوا عن حال قوم قد علم منهم قلة التحرز من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بتوقيره.
وجئ باسم الموصول للدلالة على أنهم عرفوا بأن إيذاء النبيء صلى الله عليه وسلم من أحوالهم المختصة بهم، ولدلالة الصلة على أن أذى النبيء صلى الله عليه وسلم هو علة لعنهم وعذابهم.
واللعن: الإبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون. في الدنيا محقرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته وهم في الآخرة محقرون بالإهانة في الحشر وفي الدخول في النار.
والعذاب المهين: هو عذاب جهنم في الآخرة وهو مهين لأنه عذاب مشيب بتحقير وخزي.
والقرن بين أذى الله ورسوله للإشارة إلى أن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم يغضب الله تعالى فكأنه أذى لله.
وفعل {يُؤْذُونَ} معدى إلى أسم الله على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله وتعديته إلى الرسول حقيقة. فاستعمل {يُؤْذُونَ} في معنييه المجازي والحقيقي.
ومعنى هذا قول النبيء صلى الله عليه وسلم "من آذاني فقد آذى الله" وأذى الرسول عليه الصلاة والسلام يحصل بالإنكار عليه فيما يفعله، وبالكيد له، وبأذى أهله مثل المتكلمين في
(21/326)

الإفك، والطاعنين أعماه، كالطعن في إمارة زيد وأسامة،والطعن في أخذه صفية لنفسه. وعن ابن عباس "أنها نزلت في الذين طعنوا في اتخاذ النبيء صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي لنفسه".
[58] {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} .
ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويها بشأنهم، وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا من الاستطراد معترض بين أحكام حرمة النبيء صلى الله عليه وسلم وآداب أزواجه وبناته المؤمنات.
وعطف {الْمُؤْمِنَاتِ} على {الْمُؤْمِنِينَ} للتصريح بمساواة الحكم وأن كان ذلك معلوما من الشريعة، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
والمراد بالأذى: أذى القول بقرينه قوله: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً} لأن البهتان من أنواع الأقوال وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه أثم مبين. والمراد بالمبين العظيم القوي، أي جرما من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه.
وضمير {اكْتَسَبُوا} عائد إلى المؤمنين والمؤمنات على سبيل التغليب،والمجرور في موضع الحال. وهذا الحال لزيادة تشنيع ذلك الأذى بأنه ظلم وكذب.
وليس المراد بالحال تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا، بعمل أي أن يسبوا بعمل ذميم اكتسبوه لأن الجزاء على ذلك ليس موكولا لعموم الناس ولكنه موكول إلي ولاة لأمور كما قال تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16]. وقد نهى النبيء صلى الله عليه وسلم عن الغيبة وقال: "هي أن تذكر أخاك بما يكره. فقيل: وإن كان حقا. قال: إن كان غير حق فذلك البهتان" فأما تغيير المنكر فلا يصحبه أذى.
وما صدق الموصول في قوله: {مَا اكْتَسَبُوا} سيئا، أي بغير ما اكتسبوا من سيئ. ومعنى {احْتَمَلُوا} كلفوا أنفسهم حملا، وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} في سورة النساء [112].
[59] {يَا أَيُّهَا النبيء قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ
(21/327)

ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
أتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرن باتقاء أسباب الأذى لأن من شأن المطالب السعي في تذليل وسائلها كما قال تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] وقال أبو الأسود:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
وهذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح وإماتة المفاسد. وفي الحديث: "رحم الله والدا أعان ولده على بره". وهذا الحديث ضعيف السند لكنه صحيح المعنى لأن بر الوالدين مطلوب،فالإعانة عليه إعانة على وجود المعروف والخير.
وابتدئ بأزواج النبيء صلى الله عليه وسلم وبناته لأنهن أكمل النساء، فذكرهن من ذكر بع أفراد العام للاهتمام به.
والنساء: اسم جمع للمرأة لا مفرد له من فضله، وقد تقد آنفا عند قوله تعالى: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55]. فليس المراد بالنساء هنا أزواج المؤمنين بل المراد الإناث المؤمنات، وإضافته إلى المؤمنين على معنى "من" أي النساء من المؤمنين.
والجلابيب: جمع جلباب وهو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقناع، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه على عذاريها وينسدل سائره على كتفيها وظهرها، تلبسه عند الخروج والسفر.
وهيئات ليس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النساء تبينها العادات. والمقصود هو ما دل عليه قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} .
والإدناء: التقريب، وهو كناية عن اللبس والوضع، أي يضعن عليهن جلابيبهن، وقال بشار:
ليلة تلبس البياض من الشهر ... وأخرى تدني جلابيب سودا
فقابل بـ"تدنى" تلبس فالإدناء هنا اللبس.
وكان لبس الجلباب من شعار الحرائر فكانت الإماء لا يلبسن الجلابيب. وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها فكن لا يلبسنها في الليل وعند الخروج إلى المناصع، وما كن يخرجن إليها إلا ليلا فأمرن بلبس الجلابيب في كل الخروج
(21/328)

ليعرف أنهن حرائر فلا يتعرض إليهن شباب الدعار يحسبهن إماء أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافا بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذين من ذلك وربما يسببن الذين يؤذونهن فيحصل أذى من الجانبين. فهذا من سد الذريعة.
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى الإدناء المفهوم من {يُدْنِينَ} ، أي ذلك اللباس أقرب إلى يعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن. وكان عمر بن الخطاب مدة خلافته يمنع الإماء من التقنع كي لا يلتبسن بالجرائر ويضرب من تتقنع منهن بالدرة ثم زال ذلك بعده،فذلك قول كثير:
هن الحرائر لا ربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
والتذليل بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} صفح عما سبق من أذى الحرائر قبل تنبيه الناس إلى هذا الأدب الإسلامي، والتذييل يقتضي إنهاء الغرض.
[60, 61] {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}.
انتقال من زجر قوم عرفوا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك للعلم بأن لا ينفع في أولئك وعيد الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث،وأولئك هم المنافقون الذين أبتدئ التعريض بهم من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {عَظِيماً} [الأحزاب: 53]، ثم من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 57- 59].
وصرح هنا بما كني عنه في الآيات السالفة إذ عبر عنه بالمنافقين فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لف لفهم.
و {َالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قد ذكرناهم في أول السورة وهم المنطوون على النفاق أو التردد في الإيمان.
و {الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} : هم المنافقون، فالأوصاف الثلاثة لشيء واحد قاله أبو رزين.
(21/329)

وجملة {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} استئناف ابتدائي. وحذف مفعول {يَنْتَهِ} لظهوره، أي لم ينتهوا عن أذى الرسول والمؤمنين.
والإرجاف: إشاعة الأخبار. وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس ليطمئن السامعون لها مرة بعد مره بأنها صادقه لأن الإشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفان وهو الاضطراب والتزلزل.
فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدثون بها في مجالس ونواد ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل. ومعنى الإرجاف هنا: أنهم يرجفون بما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمسلمات، ويتحدثون عن سرايا المسلمين فيقولون: هزموا أو أسرع فيهم القتل أو نحو ذلك لإيقاع الشك في نفوس الناس والخوف وسوء ضن بعضهم ببعض. وهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض واتباعهم وهم الذين قال الله فيهم {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} في سورة النساء [83].
فهذه الأوصاف لأصناف من الناس. كان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لا يساعد أن فيهم مؤمنين.
واللام في {لَئِنْ} موطئة للقسم، فالكلام بعدها قسم محذوف. والتقدير: والله لئن لم ينته.
وللام في {لَنُغْرِيَنَّكَ} لام جواب القسم، وجواب القسم دليل على جواب الشرط.
والإغراء: الحث والتحريض على فعل. ويتعدى فعله بحرف "على" والباء، والأكثر أن تعديته بـ"على" تفيد حثا على الفعل مطلقا في حد ذاته وأن تعديته بالباء تفيد حثا على الإيقاع بشخص لأن الباء للملابسة. فالمغرى علية ملابس لذات المجرور بالباء،أي واقعا عليها. فلا يقال: أغريته به، إذا حرضه على إحسان إليه.
فالمعنى: لنغرينك بعقوبتهم، أي بأن تغري المسلمين بهم كما دل عليه قوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} فإذا حل ذلك بهم انجلوا عن المدينة فائزين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم.
واختير عطف جملة {لا يُجَاوِرُونَكَ} بـ {ثُمَّ} دون الفاء للدلالة على تراخي انتفاء المجاورة عن الإغراء بهم تراخي رتبة لأن الخروج من الأوطان أشد على النفوس مما
(21/330)

يلحقها من ضر في الأبدان كما قال تعالى: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أي وفتنة الإخراج من بلدهم أشد عليهم من القتل.
واستثناء {إِلَّا قَلِيلاً} لتأكيد نفي المجاورة وأنه ليس على طريقة المبالغة أي لا يبقون معك في المدينة إلا مدة قليلة، وهي ما بين نزول الآية والإيقاع بهم. و {قَلِيلاً} صفة لمحذوف دل عليه {يُجَاوِرُونَكَ} أي جوارا قليلا، وقلته باعتبار مدة زمنه. وجعله صاحب "الكشاف" صفه لزمن محذوف فإن وقوع ضميرهم في حيز النفي يقتضي إفرادهم، وعموم الأشخاص يقتضي عموم أزمانها فيكون منصوبا على الوصف لاسم الزمان وليس هو ظرفا.
و {مَلْعُونِينَ} حال مما تضمنه {قَلِيلاً} من معنى الجوار. فالجوار مصدر يتحمل ضمير صاحبه لأن أصل المصدر أن يضاف إلى فاعله، والتقدير: إلا جوارهم ملعونين. وجعل صاحب "الكشاف" {مَلْعُونِينَ} مستثنى من أحوال بأن يكون حرف الاستثناء دخل على الظرف والحال كما في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53]. وبون ما بين هذا وبين ما نظره به لأن ذلك مشتمل على ما يصلح مجيء الحال منه.والوجه هنا هو ما سلكناه في تقدير نظمه.
واللعن: الإبعاد والطرد.وتقدم قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} في سورة الحجر [35]، وهو مستعمل هنا كناية عن الإهانة والتجنب في المدينة، أي يعاملهم المسلمون بتجنبهم عن مخالطتهم ويبتعدون هم من المؤمنين اتقاء ووجلا فتضمن أن يكونوا متوارين مختفين خوفا من بطش المؤمنين بهم حيث أغراهم النبيءصلى الله عليه وسلم، ففي قوله: {مَلْعُونِينَ} إيجاز بديع.
وقوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} ظرف مضاف إلى جملة وهو متعلق بـ {مَلْعُونِينَ} لأن {مَلْعُونِينَ} حال منهم بعد صفتهم بأنهم في المدينة، فأفاد عموم أمكنة المدينة. و {أَيْنَمَا} : اسم زمان متضمن معنى الشرط. والثقف: الظفر والعثور على العدو بدون قصد. وقد مهد لهذا الفعل قوله: {مَلْعُونِينَ} كما تقدم.
ومعنى {أُخِذُوا} أمسكوا. والأخذ: الإمساك والقبض، أي أسروا، والمراد: أخذت أموالهم إذ أغرى الله النبيء صلى الله عليه وسلم بهم.
والتقتيل: قوة القتل. والقوة هنا بمعنى الكثرة لأن الشيء الكثير قوي في أصناف
(21/331)

نوعه وأيضا هو شديد في كونه سريعا لا إمهال لهم فيه.
و {تَقْتِيلاً} مصدر مؤكد لعامله،أي قتلوا قتلا شديدا شاملا. فالتأكيد هنا تأكيد لتسلط القتل على جميع الأفراد المدلولة لضمير {قُتِّلُوا} ، لرفع احتمال المجاز في عموم القتل، فالمعنى: قتلوا قتلا شديدا لا يفلت منه أحد.
وبهذا الوعيد انكف المنافقون عن أذاة المسلمين وعن الإرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يحفظ أن النبيء صلى الله عليه وسلم قتل منهم أحدا ولا أنهم خرج منهم أحد.
وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فردا صالحا أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبيء صلى الله عليه وسلم. "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" . ولهذا شرعت استتابة المرتد قبل قتله ثلاثة أيام تعرض عليه فيها التوبة، وشرعت دعوة الكفار الذين يغزوهم المسلمون إلى دين الإسلام قبل شروع في غزوهم فإن أسلموا وإلا عرض عليهم الدخول في ذمة المسلمين لأن في دخولهم الذمة انتفاعا للمسلمين بجزيتهم والاعتضاد بهم.
وأما قتل القاتل عمدا فشرع فيه مجاراة لقطع الأحقاد من قلوب أولياء القتيل لئلا يقتل بغض الأمة بعضا، إذا لا دواء لتلك العلة إلا القصاص. ولذلك رغب الشرع في العفو وفي قبوله. ومن أجل ذلك قال مالك في آية جزاء الدين يحاربون الله ورسوله: إن "أو" فيها للتنويع لا للتخير فقال: يكون الجزاء بقدر جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده. وكان النفي من الأرض آخر أصناف الجزاء لأن فيه استبقاءه رجاء توبته وصلاح حاله.
[62] {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} .
انتصب {سُنَّةَ اللَّهِ} على أنه مفعول مطلق نائب عن فعله. والتقدير: سن الله إغراءك بهم سنته في أعداء الأنبياء السالفين وفي الكفار المشركين الذين قتلوا وأخذوا في غزوة بدر وغيرها.
وحر {فِي} للضرفية المجازية, شبهت السنة التي عوملوا بها بشيء في وسطهم كناية عن تغلغله فيهم وتناولة جميعهم ولو جاء الكلام على غير المجاز لقيل: سنة الله مع الذين خلوا.
(21/332)

و {الَّذِينَ خَلَوْا} الذين مضوا وتقدموا. والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبيء صلى الله عليه وسلم الذين أذنه الله بقتلهم مثل الذين قتلوا من يهود قريضة. وهذا أظهر لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض.
ويحتمل أيضا أن يشمل {الَّذِينَ خَلَوْا} الأمم السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم فاستأصلهم الله تعالى مثل قوم فرعون وأضرابهم.
وذيل بجملة {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} لزيادة تحقيق أن العذاب حائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا عما هم فيه وأن الله لا يخالف سنته لأنها مقتضى حكمته وعلمه فلا تجري متعلقاتها إلا على سنن واحد.
والمعنى: لن تجد لسنن الله مع الذين خلوا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلا. وبهذا العموم الذي أفاده وقوع النكرة في سياق النفي تأهلت الجملة لأن تكون تذييلا.
[63] {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} .
لما كان تهديد المنافقين بعذاب الدنيا يذكر بالخوض في عذاب الآخرة: خوض المكذبين الساخرين، وخوض المؤمنين الخائفين، وأهل الكتاب، اتبع ذلك بهذا.
فالجملة معترضة بين جملة {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] وبين جملة {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} [الأحزاب: 64] لتكون تمهيدا لجملة {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} .
وتكرر في القرآن ذكر سؤال الناس عن الساعة, والسائلون أصناف:
منهم المكذبون بها وهم أكثر السائلين وسؤالهم تهكم واستدلال بإبطائها على عدم وجودها في أنظارهم السقيمة قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] وهؤلاء هم الذين كثر في القرآن إسناد السؤال إليهم معبرا عنهم بضمير الغيبة كقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187]
وصنف مؤمنون مصدقون بأنها واقعة لكنهم يسألون عن أحوالها وأهوالها، وهؤلاء
(21/333)

هم الذين في قوله تعالى: {والذين آمنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقّ} [الشورى: 18].
وصنف مؤمنون يسألون عنها محبة لمعرفة المغيبات، وهؤلاء نهوا عن الاشتغال بذلك كما في الحديث: "أن رجلا سأل رسول الله: متى الساعة ? فقال النبيء صلى الله عليه وسلم: "ماذا أعددت لها ? فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم سوى أنى أحب الله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت" .
وصنف يسأل اختيار للنبيء صلى الله عليه وسلم لعله يجيب بما يخالف ما في علمهم فيجعلونه حجه بينهم على انتفاء نبوءته ويلعنونه في دهمائهم ليقتلعوا من نفوسهم ما عسى أن يخالطها من النظر في صدق الدعوة المحمدية. وهؤلاء اليهود نظير سؤالهم عن أهل الكهف وعن الروح.
فـ {النَّاسُ} هنا يعم جميع الناس وهو عموم عرفي، أي جميع الناس الذين من شأنهم الاشتغال بالسؤال عنها إذ كثير من الناس يسأل عن ذلك.وأهل هذه الأصناف الأربعة موجودين بالمدينة حين نزول هذه الآية.
وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} في سورة الأعراف [187].
والخطاب في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} للرسول صلى الله عليه وسلم. و {مَا} استفهام ما صدقها شيء.
و {يُدْرِيكَ} من أداره، إذا أعلمه. والمعنى: أي شيء يجعل لك دارية. و {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} مستأنفة لإنشاء رجاء.
و {لَعَلَّ} معلفة فعل الإدراء عن العمل، أي في المفعول الثاني والثالث وأما المفعول الأول فهو كاف الخطاب.
والمعنى: أي شيء يدريك الساعة بعيدة أو قريبة لعلها تكون بعيدا، ففي الكلام إحتباك.
والأظهر أن {قَرِيباً} خبر {تَكُونُ} وأن فعل الكون ناقص وجيء بالخبر غير مقترن بعلامة التأنيث مع أنه متحمل لضمير المؤنث لفظا "فأن أسم الفاعل كالفعل في اقترانه بعلامة التأنيث إن كان متحملا لضمير مؤنث لفظي" فقيل: إنما لم يقترن بعلاقة التأنيث لأن ضمير الساعة جرى عليها بعد تأويلها بالشيء أو اليوم. والذي أختاره جمع من
(21/334)

المحققين مثل أبي عبيدة والزجاح وابن عطية أن {قَرِيباً} في مثل هذه الآية ليس خبر عن فعل الكون ولكنه ظرف له وهم يعنون أن فعل الكون تام وأن {قَرِيباً} ظرف زمان لوقوعه. والتقدير: تقع في زمان قريب، فيلزم لفظ "قريب" الإفراد والتذكير على نية زمان أو وقت،وقد يكون ظرف زمان كما ورد في ضده وهو لفظ "بعيد" في قوله:
وإن تمس ابنة السهمي منا ... بعيدا لا تكلمنا كلاما
وقد أشار إلى جواز الوجهين في " الكشاف" . وهذان الوجهان وإن تأتيا هنا لا يتأتيان في نحو قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
ويقترن "قريب" و"بعيد" بعلامة التأنيث ونحوها من العلامات الفرعية عند إرادة التوصيف. وكل هذه اعتبارات من توسعهم في الكلام. وتقدم قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وفي الأعراف فضمه إلى ما هنا.
[64, 65] {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
هذا حظ الكافرين من وعيد الساعة، وهذه لعنة الآخرة قفيت بها لعنة الدنيا في قوله: {مَلْعُونِينَ} [الأحزاب: 61]، ولذلك عطف عليها {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} فكانت لعنة الدنيا مقترنة بالأخذ والتقتيل ولعنة الآخرة مقترنة بالسعير.
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} إلى قوله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 60- 62] تثير في نفوس السامعين السؤل عن الاقتصار على لعنهم وتقتيلهم في الدنيا، وهل ذلك منتهى ما عوقبوا به أو لهم نم ورائه عذاب? فكان قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} الخ جوابا عن ذلك.
وحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو منظور به إلى السامعين من الكافرين.
والتعريف في {الْكَافِرِينَ} يحتمل أن يكون للعهد، أي الكافرين الذين كانوا شاقوا النبيء صلى الله عليه وسلم وآذوه وأرجفوا في المدينة وهم المنافقون ومن ناصرهم من المشركين في وقعة الأحزاب ومن اليهود.ويحتمل أن يكون التعريف للاستغراق,أي كل كافر.
وعلى الوجهين فصيغة المضي في فعل {لَعَنَ} مستعملة في تحقيق الوقوع،شبه المحقق حصوله بالفعل الذي حصل فأستعير له صيغة الماضي مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} .
(21/335)

[النحل: 1] لأن اللعن إنما يقع في الآخرة وهو مستقبل.وأما حالهم في الدنيا فمثل أحوال المخلوقات يتمتعون برحمة الله في الدنيا من حياة ورزق وملاذ كما هو صريح الآيات والأخبار النبوية, قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196, 197]. وقد يكون في ظاهر الآية متمسك للشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله بانتفاء نعمة الله عن الكافرين خلافا للماتريدي والقاضي أبي بكر الباقلاني والمعتزله ولكنه متمسك ضعيف لأن التحقيق أن الخلاف بينه وبينهم خلاف لفظي يرجع إلى أن حقيقة النعمة ترجع إلى ما لا يعقب ألما.
والسعير: النار الشديدة الإيقاد. وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعورة.
وأعيد الضمير على السعير في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} مؤنثا لأن {سَعِيراً} من صفات النار والنار مؤنثة في الاستعمال.
وجملة {لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} حال من ضمير {خَالِدِينَ} أي خالدين في حالة انتفاء الولي والنصير عنهم فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
[66] {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ} .
{يَوْمَ} ظرف يجوز أن يتعلق بـ {لا يَجِدُونَ} [الأحزاب: 65] أي إن وجدوا أولياء ونصراء في الدنيا من يهود قريضة وخيبر في يوم الأحزاب فيوم تقلب وجوههم في النار لا يجدون وليا يرثى لهم ولا نصيرا يخلصهم. وتكون جملة {يَقُولُونَ} حلا من ضمير {يَقُولُونَ} .
ويجوز أن يتعلق الظرف بفعل {يَقُولُونَ} حلا من ضمير {لا يَجِدُونَ} .
ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف تقديره: أذكر على طريقة نظائره من ظروف كثيرة واردة في القرآن، وتكون جملة {يَقُولُونَ} حالا من الضمير في {وُجُوهُهُمْ} .
والتقليب: شدة القلب. والقلب: تغيير وضع الشيء على غير الجهة التي كان عليها.
والمعنى: يوم تقلب ملائكة العذاب وجوههم في النار بغير اختيار منهم، أو يجعل الله ذلك التقلب في وجوههم لتنال النار جميع الوجه كما يقلب الشواء على المشوى
(21/336)

لينضج على سواء، ولو كان لفح النار مقتصرا على أحد جانبي الوجه لكان للجانب الآخر بعض الراحة.
وتخصيص الوجوه بالذكر من بين سائر الأعضاء لأن حر النار يؤذي الوجوه أشد مما يؤذي بقية الجلد لأن مقر الحواس الرقيقة: العيون والأفواه والآذان والمنافس كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24].
وحرف {يَا} في قوله: {يَا لَيْتَنَا} للتنبيه لقصد إسماع من يرثى لحالهم مثل {يَا حَسْرَتَنَا} [الأنعام: 31]. والتمني هنا كناية عن التندم على ما فات،وكذلك نحو {يَا حَسْرَتَنَا} أي أن الحسرة غير مجدية.
وقد علموا يومئذ أن ما كان يأمرهم به النبيء صلى الله عليه وسلم هو تبليغ عن مراد الله منهم وأنهم إذ عصوه فقد عصوا الله تعالى فتمنوا يومئذ أن لا يكونوا عصوا الرسول المبلغ عن الله تعالى.
والألف في آخر قوله: {الرَّسُولا} لرعاية الفواصل التي بنيت عليها السورة فإنها بنيت على فاصلة الألف وهي ألف الإطلاق إجراء للفواصل مجرى القوافي التي تلحقها ألف الإطلاق.وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {وَيظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [10] في هذه السورة، وتقدمت وجوه القراءات في إثباتها في الوصل أو حذفها.
[67، 68] {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} .
عطف على جملة {يَقُولُونَ} [الاحزاب: 66] فهي حال. وجيء بها في صيغة الماضي لأن هذا القول كان متقدما على قولهم {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا} [الاحزاب: 66]، فذلك التمني نشأ لهم وقت أن مسهم العذاب، وهذا التنصل والدعاء اعتذروا به حين مشاهدة العذاب وحشرهم مع رؤساهم إلى جهنم، قال تعالى {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]. فدل على أن ذلك قبل أن يمسهم العذاب بل حين رصفوا ونسقوا قبل أن يصب عليهم العذاب ويطلق إليهم حر النار.
والابتداء بالنداء ووصف الربوبية إظهار للتضرع والابتهال.
(21/337)

والسادة: جمع سيد. قال أبو علي: وزنة فعلة، أي كملة لكن على غير قياس لأن صيغة فعلة تطرد في جمع فاعل لا في جمع فيعل، فقلبت الواو ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها. وأما السادات فهو جمع الجمع بزيادة ألف وتاء بزنة جمع المؤنث السالم. والسادة: عظماء القوم والقبائل مثل الملوك.
وقرأ الجمهور {سَادَتَنَا} . وقرأ ابن عامر ويعقوب {سَاادَتَنَا} بألف بعد الدال وبكسر التاء لأنه جمع بألف وتاء مزيدتين على بناء مفرده. وهو جمع الجمع الذي هو سادة.
والكبراء: جمع كبير وهو عظيم العشيرة،وهم دون السادة فإن كبيرا يطلق على رأس العائلة فيقول المرء لأبيه: كبيري، ولذلك قوبل قولهم {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66] بقولهم {أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} .
وجملة {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} خبر مستعمل في الشكاية والتذمر، وهو تمهيد لطلب الانتصاف من سادتهم وكبراءهم. فالمقصود الإفضاء إلى جملة {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} . ومقصود من هذا الخبر أيضا الاعتذار والتنصل من تبعة ضلالهم بأنهم مغرورون مخدوعون، وهذا الاعتذار مردود عليهم بما أنطقهم الله به من الحقيقة إذ قالوا: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} . فيتجه عليهم أن يقال لهم: لماذا أطعتموهم حتى يغروكم، وهذا شأن الدهماء أن يسودوا عليهم من يعجبون بأضغاث أحلامه،ويغرون بمسعول كلامه،ويسيرون على وقع أقدامه، حتى إذا اجتنبوا ثمار أكمامه، وذاقوا مرارة طعمه وحرارة أوامه، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه.
وحرف التوكيد لمجرد الاهتمام لا لرد إنكار،وتقديم قولهم: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} اهتمام بما فيه من تعليل لمضمون قولهم {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} لأن كبراءهم ما تأتي لهم إضلالهم إلا بتسبب طاعتهم العمياء إياهم واشتغالهم بطاعتهم عن النظر والاستدلال فيما يدعونهم إليه من فساد ووخامة مغبة، وبتسبب وضعهم أقوال سادتهم وكبراءهم موضع الترجيح على ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وانتصب {السَّبِيلا} على نزع الخافض لأن أضل لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد قال تعالى: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان: 29]. وظاهر "الكشاف" أنه يتعدى إلى مفعولين، فيكون "ضل" المجرد يتعدى إلى مفعول واحد. تقول: ضللت الطريق، و"أضل" بالهمزة إلى مفعولين. وقاله ابن عطية.
(21/338)

والقول في ألف {السَّبِيلا} كالقول في ألف {الرَّسُولا} [الأحزاب: 66].
وإعادة النداء في قولهم {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} تأكيد للضراعة والابتهال وتمهيدا لقبول سؤلهم حتى إذا قبل سؤلهم طمعوا في التخلص من العذاب الذي ألقوه على كاهل كبرائهم.
والضعف بكسر الضاد: العدد المماثل للمعدود،فالأربعة ضعف الاثنين.ولما كان العذاب معنى من المعاني لا ذاتا كان معنى تكرير العدد فيه مجازا في القوة والشدة.
وتثنية {ضِعْفَيْنِ} مستعملة في مطلق التكرير كناية عن شدة العذاب كقوله تعالى: { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] فإن البصر لا يخسأ في نظرتين، ولذلك كان قوله هنا: {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} مساويا لقوله: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} في سورة الأعراف [38]. وهذا تعريض بإلقاء تبعة الضلال عليهم،وأن العذاب الذي أعد لهم يسلط على أولئك الذين أضلوهم.
ووصف اللعن بالكثرة كما وصف العذاب بالضعفين إشارة إلى أن الكبراء استحقوا عذابا لكفرهم وعذابا لتسببهم في كفر أتباعهم.
فالمراد بالكثير الشديد القوي، فعبر عنه بالكثير لمشاكلة معنى التثنية في قوله: {ضِعْفَيْنِ} المراد به الكثرة.
وقد ذكر في الأعراف جوابهم من قبل الجلالة بقوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف: 38] يعني أن الكبراء استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم وإضلالهم وأن أتباعهم أيضا استحقوا العذاب لضلالهم ولتسويد سادتهم وطاعتهم العمياء إياهم.
[69] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} .
لما تقضى وعيد الذين يؤذون الرسول عليه الصلاة والسلام بالتكذيب ونحوه من الأذى المنبعث عن كفرهم من المشركين والمنافقين من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] حذر المؤمنين مما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بتنزيههم عن أن يكونوا مثل قوم نسبوا إلى رسولهم ما هو أذى له وهم لا يعبأون بما في ذلك من إغضابه الذي فيه غضب الله تعالى. ولما كان كثير من الأذى قد يحصل عن غفلة
(21/339)

أصحابه عما يوجه فيصدر عنهم من الأقوال ما تجيش به خواطرهم قبل التدبر فيما يحف بذلك من الاحتمالات التي تقلعه وتنفيه ودون التأمل فيما يترتب عليه من الواجبات.وكذلك يصدر عنهم من الأعمال ما فيه ورطة لهم قبل التأمل في مغبة عملهم،نبه الله المؤمنين كي لا يقعوا في مثل تلك العنجهية لأن مدارك العقلاء في التنبيه إلى معاني الأشياء وملازماتها متفاوتة المقادير، فكانت حرية بالإيقاظ والتحذير. وفائدة التشبيه تشويه الحالة المشبهة لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبح ما أوذي به موسى عليه السلام بما سبق من القرآن كقوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] الآية.
والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم. وقد حكى الله عنهم ذلك إجمالا وتفصيلا بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} الآية "فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} والاستفهام في قوله: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} إنكاري". فكان توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول الإذابة.
فالذين آذوا موسى قالوا مرة {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم. وقالوا مرة {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] فنسبوه إلى الطيش والسخرية ولذلك قال لهم {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]. وفي التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج "وقالوا لموسى فإذا بنا حتى أخرجتنا من مصر فإنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية". وفي الإصحاح السادس عشر "وقالوا لموسى وهارون إنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع". وفي الحديث "إن موسى كان رجلا حيا ستيرا فقال فريق من قومه: ما نراه يستتر إلا من عاهة فيه. فقال قوم: به برص وقال قوم: هو آدر" ونحو هذا، وكان قريبا من هذا قول المنافقين: إن محمدا تزوج مطلقة ابنة زيد بن حارثة.
وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبيء صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة الصحابة والمسلمين وقد عرضت فلتات من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حكم بينه وبين الزبير في ماء شراح الحرة: أن كان ابن عمتك يا رسول الله. ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمة مغانم حنين: "هذه
(21/340)

قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" .
واعلم أن محل التشبيه هو قوله: {كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} دون ما فرع عليه من قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} وإنما ذلك إدماج وانتهاز للمقام بذكر براءة موسى مما قالوا، ولا اتصال له بوجه التشبيه لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يؤذ إيذاء يقتضي ظهور براءته مما أوذي به.
ومعنى "برأه" أظهر براءته عيانا لأن موسى كان بريئا مما قالوه من قبل أن يؤذوه بأقوالهم فليس وجود البراءة منه متفرعة على أقوالهم ولكن الله أظهرها عقب أقوالهم فإن الله أظهر براءته من التغرير بهم إذ أمرهم بدخول أريحا فثبت قلوبهم وافتتحوها وأظهر براءته من الاستهزاء بهم إذ أظهر معجزته حين ذبحوا البقرة التي أمرهم بذبحها فتبين من قتل النفس التي ادارأوا فيها.
وأظهر سلامته من البرص والأدرة حين بدا لهم عريانا لما انتقل الحجر الذي عليه ثيابه. ومعنى: "برأه مما قالوا" برأه من مضمون قولهم لا من نفس قولهم لأن قولهم قد حصل وأوذي به وهذا كما سموا السبة القالة. ونظيره قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80]، أي ما دل عليه مقاله وهو قوله: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77] أي نرثه ماله وولده.
وجملة {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} في آخر الكلام ومفيدة سبب عناية الله بتبرئته.
والوجيه صفة، أي ذو الوجاهة. وهي الجاه وحسن القبول عند الناس. يقال: وجه الرجل، بضم الجيم، وجاهة فهو وجيه. وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجه الذي للإنسان، فمعنى كونه وجيها عند الله أنه مرضي عنه مقبول له مستجاب الدعوة.
وقد تقدم قوله تعالى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة آل عمران [45]، فضمه إلى هنا. وذكر فعل {كَانَ} دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى.
وهذا تسفيه للذين آذوه بأنهم آذوه بما هو مبرأ منه،وتوجيه لتنزيه الله إياه بأنه مستأهل لتلك التبرئة لأنه وجيه عند الله وليس بخامل.
(21/341)